تفسير سورة النحل

حومد
تفسير سورة سورة النحل من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿سُبْحَانَهُ﴾ ﴿وتعالى﴾
(١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ اقْتِرَابِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَدُنُوِّ وَقْتِها، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِصِيغَةِ المَاضِي لِلدَّلاَلَةِ عَلَى التَّحَقُقِّ وَالوُقُوعِ لاَ مَحَالَةَ. وَمَتَى قَامَتْ السَّاعَةُ، كَانَ مَصِيرَ الكُفَّارِ المُجْرِمِينَ العَذَابَ فِي نِارِ جَهَنَّمَ. فَاسْتِعْجَالُهُمْ قِيَامَ السَّاعَةِ كَاسْتِعْجَالِهِمْ حُلُولَ العَذَابِ بِهِمْ، لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: فَلاَ تَسْتَعْجِلُوا أَيُّهَا المُشْرِكُونَ بِالعَذَابِ.
(وَكَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ يَسْتَعْجِلُونَ الرَّسُولَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنيا أَوْ عَذَابِ الآخِرَةِ إِنْ كَانَ صَادِقاً، وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِبْعَاداً مِنْهُمْ لِوُقُوعِ العَذَابِ، وَتَكْذِيباً لِلرَّسُولِ صلى الله عليهم وسلم).
ثُمَّ نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ عَنْ شِرْكِهِمْ بِهِ غَيْرَهُ، وَعِبَادَتِهِم الأَوْثَانَ وَالأَنْدَادَ مَعَهُ، تَقَدَّسَ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُواً كَبِيراً.
سُبْحَانَهُ - تَنَزَّهَ اسْمُ اللهِ تَعَالَى.
تَعَالَى - تَعَاظَمَ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الجَلَيلَةِ.
﴿الملائكة﴾
(٢) - يُنَزِّلُ اللهُ المَلاَئِكَةَ بِالوَحْيِ عَلَى مَنْ يَصْطَفِيهِمْ مِنْ خَلْقِهِ (الأَنْبِيَاءِ)، وَيَأْمُرُهُمْ بِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، لاَ إلهَ إِلاَّ هُوَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَيُنْذِرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَعِقَابِهِ، لِمَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَأَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ.
بِالرُّوحِ - بِالوَحْيِ - وَمِنْهُ القُرآنُ العَظِيمُ.
﴿السماوات﴾ ﴿تعالى﴾
(٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عَلَى نَهْجِ تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ الإِلهِيَّةُ، (بِالحَقِّ)، لاَ عَبَثاً، وَإِنَّمَا لِيَجْزِيَ الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى. ثُمَّ نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةِ عَنْ شِرْكِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَهُوَ تَعَالَى المُسْتَقِلُّ بِالخَلْقِ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلاَ مُعِينَ، فَلِهذا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَعْبُدَهُ الخَلْقُ وَحْدَهُ.
﴿الإنسان﴾
(٤) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ إِلَى أَنَّهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة ٍمِنْ مَاءٍ ضَعِيفٍ مَهِينٍ، وَمَرَّ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَجَ طَفْلاً، فَغَذَّاهُ وَنَمَّاهُ، وَرَزَقَهُ القُوتَ. فَلَمَّا اسْتَقَلَ وَدَرَجَ إِذَا هُوَ يُخَاصِمُ رَبَّهُ تَعَالَى، وَيُكَذِّبُهُ وَيُحَارِبُهُ، وَيُحَارِبُ رُسُلَهُ، مَعَ أَنَّ اللهَ إِنَّمَا خَلَقَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَبْداً لاَ ضِداً.
وَفِي الحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَصَقَ فِي كَفِّهِ ثُمَّ قَالَ: " يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ أَنَّي تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سُوَّيْتُكَ فَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْكَ، وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟ " (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه).
الخَصِيمُ - الشَّدِيدُ الخُصُومَةِ بِالبَاطِلِ.
النُّطْفَةُ - المَاءُ الصَّافِي وَهُوَ هُنَا مَادَّةُ التَّلْقِيحِ.
﴿الأنعام﴾ ﴿مَنَافِعُ﴾
(٥) - يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنَ الأَنْعَامِ (وَهِيَ الإِبْلُ وَالبَقَرُ وَالغَنَمُ وَالمَاعِزُ) وَبِمَا جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ المَنَافِعِ، مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا يَلْبَسُونَ وَيَفْتَرِشُونَ (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ)، وَمِنْ لُحُومِهَا وَأَلْبَانِهَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ.
دِفْءٌ - مَا تَتَدَفَّؤُونَ بِهِ مِنَ البَرْدِ.
(٦) - وَلَهُمْ فِيهَا زِينَةٌ وَبَهْجَةَ لِلنَّفْسِ، حِينَ تَرْجِعُ مِنَ المَرْعَى عَشِيَّةً شَبْعَي رَيَّا (حِينَ تُرِيحُونَ)، وَحِينَ تَغْدُو إِلَى مَرَاعِيهَا صَبَاحاً (حِينَ تَسْرَحُونَ).
فِيهَا جَمَالٌ - فِيهَا تَجَمَّلٌ وَتَزَيُّنٌ.
حِينَ تُرِيحُونَ - حِينَ تَرُدُّونَهَا بِالعَشِيِّ إِلَى المَرَاحِ.
حِينَ تَسْرَحُونَ - حِينَ تَخْرُجُونَ بِهَا فِي الغَدَاةِ إِلَى المَسْرَحِ.
﴿بَالِغِيهِ﴾
(٧) - وَهِيَ تَحْمِلُ أَيْضاً مَتَاعَكُمْ وَأَحْمَالَكُمُ الثَّقِيلَةَ (أَثْقَالَكُمْ) التِي تَعْجَزُونَ عَنْ حَمْلِها وَنَقْلِهَا فِي أَسْفَارِكُمْ إِلَى بَلادٍ بَعِيدَةٍ، لَمْ تَكُونُوا لِتَبْلَغُوهَا بِأَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتْرَكَبُوهَا، وَلِتَحْمِلُوا عَلَيْها أَثْقَالَكُمْ، لأَنَّهُ تَعَالَى رَؤُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ.
أَثْقَالَكُمْ - أَمْتِعَتَكُمُ الثَّقِيلَةَ الحَمْلِ.
بِشِقِّ الأَنْفُسِ - بِمَشَقَّتِهَا وََتَعَبِهَا.
(٨) - وَخَلَقَ اللهُ الخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مَخْلُوقَاتٍ وَوَسَائِلَ أُخْرَى لاَ يَعْلَمُهَا النَّاسُ، تُفِيدُ فِي الزِّينَةِ والرُّكُوبِ (كَالقُطُرِ وَالسُّفُنِ وَالطَّائِرَاتِ...).
﴿جَآئِرٌ﴾ ﴿لَهَدَاكُمْ﴾
(٩) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الحَيَوانَاتِ التِي يَرْكَبُونَهَا لِيَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَاتِهِمْ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ الطَّرِيقِ التِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ إِلَى رَبِّهِمْ. فَقَالَ إِنَّ هُنَاكَ طُرُقاً كَثِيرَةً يَسْلُكُهَا النَّاسُ، وَلَكِنْ لاَ يَصِلُ مِنْهَا إِلَيْهِ إِلاَّ طَرِيقُ الحَقِّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ الذِي شَرَعَهُ وَرَضِيَهُ، وَأَمَرَ بِهِ، وَهُوَ طَرِيقُ الإِسْلاَمِ لَهُ، وَالإِخْبَاتِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَهُوَ تَعَالَى الذِي هَدَى النَّاسَ إِلَيْهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ. أَمَّا مَا عَدَاهَا مِنَ الطُّرِقِ فَإِنَّهَا مَسْدُودَةٌ، وَالأَعْمَالُ فِيهَا مَرْدُودَةٌ. وَمِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ مَا هُوَ مُعْوَجٌّ وَمُنْحَرِفٌ عَنِ الحَقِّ (جَائِرٌ)، وَكُلُّ ذَلِكَ كَائِنٌ بِقَدَرِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَوُ شَاءَ اللهُ لَهَدَى القَاصِدِ المُسْتَقِيمِ.
وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ - بَيَانُ الطَّرِيقِ القَاصِدِ المُسْتَقِيمِ.
مِنْهَا جَائِرٌ - مِنَ السَّبِيلِ مَائِلٌ عَنِ الحَقِّ.
(١٠) - ثُمَّ يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ المَطَرِ عَلَيْهِمْ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ، هُمْ وَأَنْعَامَهُمْ وَزُرُوعُهُمْ، وَلِيَخْرُجَ بِالمَاءِ الزَّرْعُ وَالنَّبَاتُ وَالأَشْجَارُ، فَيَأْكُلَ النَّاسُ مِنْهُ، وَيَرْعَوْا أَنْعَامَهُمْ.
تُسِيمُونَ - تَرْعَوْنَ أَنْعَامَكُمْ، وَالسَّوْمُ هُوَ الرَّعْيُ.
﴿الأعناب﴾ ﴿الثمرات﴾ ﴿لآيَةً﴾
(١١) - فَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ الأَرْضِ، بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ المَطَرِ، الزُّرُوعَ وَالحُبُوبَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَالثِّمَارَ الأُخْرَى، المُخْتَلِفَةَ فِي طُعُومِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا، مَعَ أَنَّهَا كُلَّهَا تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَتَخْرُجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي ذلِكَ آيَاتٌ بَاهِرَاتٌ لِلَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ بِصُنْعِ اللهِ وَيَعْقِلُونَ.
﴿الليل﴾ ﴿مُسَخَّرَاتٌ﴾ ﴿لآيَاتٍ﴾
(١٢) - ثُمَّ يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى آيَاتِهِ العِظَامِ فِي تَسْخِيرِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، يَتَعَاقَبَانِ، وَفِي اللّيْلِ سَكَنٌ وَرَاحَةٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنَ عَنَاءِ النَّهَارِ، وَفِي النَّهَارِ سَعْيٌ، وَعَمَلٌ، وَمَعَاشٌ، وَفِي تَسْخِيرِهِ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ فِي السَّمَاوَاتِ لِتَكُونَ نُوراً وَضِيَاءً وَحَرَارَةً، وَلِيُهْتَدَي بِهَا فِي ظُلُمَاتِ اللَّيْلِ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ، وَكُلٌّ مِنْهَا يَسِيرُ فِي فَلَكِهِ الذِي جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ بِحَرَكَةٍ مُقَدَّرَةٍ مُعَيَّنَةٍ: مِنْ تَسْخِيرٍ وَمَنَافِعَ وَنِظَامٍ... إِلخ وَالجَمِيعُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ وَتَقْدِيرِهِ. وَفِي ذَلِكَ لآيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَدَلاَلاتٍ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ البَاهِرَةِ، وَسُلْطَانِهِ العَظِيمِ.
﴿أَلْوَانُهُ﴾ ﴿لآيَةً﴾
(١٣) - ثُمَّ يُنَبِّهُ تَعَالَى البَشَرَ إِلَى مَا خَلَقَ فِي الأَرْضِ مِنَ الأَشْيَاءِ وَالمَخْلُوقَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالمَعَادِنِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِها، وَمَا فِيهَا مِنَ المَنَافِعِ وَالخَوَاصِّ، وَيَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ إِنَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ لآيَاتٍ وَدَلاَلاتٍ لِمَنْ يَتَذَكَّرُونَ نِعَمَ اللهِ وَآلاءَهُ فَيَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ.
ذَرَأَ - خَلَقَ وَأَبْدَعَ لِمَنَافِعِكُمْ.
(١٤) - ثُمَّ يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ عِبَادِهِ إِلَى البَحْرِ المُتَلاَطِمِ الأَمْوَاجِ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ يَأْكُلُ مِنْهَا الإِنْسَانُ لَحْماً طَرِيّاً، وَمَا جَعَلَ فِيهِ مِنْ مَنَافِعَ لِلْبَشَرِ، إِذْ يَسْتَخْرِجُونَ مِنْهُ اللآلِىءَ وَالمَرْجَانَ وَغَيْرَهَا، وَيَجْعَلُونَ مِنْهَا الحُلِيَّ، وَإِذْ يُسَيِّرُونَ فِيهِ السُّفُنَ وَالمَرَاكِبَ، تَشُقُّ أَمْوَاجَهُ (تَمْخُرُ فِيهِ)، لِيَنْتَقِلُوا بِوَاسِطَتِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِلتِّجَارَةِ وَنَقْلِ البَضَائِعِ وَتَأْمِينِ الرِّزْقِ، وَقَدْ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى إِلَى صُنْعِ السُّفُنِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ سَفِينَةً هُوَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ. وَيُذَكِّرُ اللهُ النَّاسَ بِجِمِيعِ هذِهِ النَّعَمِ التِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَذْكُرُونَهَا، وَيُقَدِّرُونَهَا، فَيَشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَيَعْرِفُوا عَظِيمَ قُدْرَتِهِ عَلَى الخَلْقِ وَالبَعْثِ وَالحَشْرِ وَالحِسَابِ.
مَوَاخِرَ - جَوَارِيَ فِيهِ تَشُقُّ المَاءَ شَقّاً.
﴿رَوَاسِيَ﴾ ﴿وَأَنْهَاراً﴾
(١٥) - وَأَلْقَى اللهُ فِي الأَرْضِ جِبَالاً شَامِخَاتٍ وَأَرْسَاهَا فِي الأَرْضِ لِتَسْتَقِرَّ الأَرْضَ بِهَا، فَلاَ تَمِيدُ وَلاَ تَضْطَرِبُ بِمَنْ عَلَيْهَا مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَجَعَلَ فِي الأَرْضِ أَنْهَاراً تَجْرِي مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِمَا يَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْهَا مِنْ رِزْقٍ، وَبِمَا يُفِيدُونَهُ مِنْهَا مِنْ تَسِييِرِ المَرَاكِبِ لِلْحُمُولَةِ وَالانْتِقَالِ، وَبِمَا يَشْرَبُونَ مِنْهَا مِنْ مَاءٍ، وَبِمَا يَرْوُوْنَ أَرْضَهُمْ وَأَنْعَامَهُمْ مِنْهُ، وَجَعَلَ فِي الأَرْضِ طُرُقاً (سُبُلاً) يَسْلُكَهَا النَّاسُ فِي انْتِقَالِهِمْ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَلِيَهْتَدُوا بِهَا فَلاَ يَضِلُّوا.
رَوَاسِيَ - جِبَالاً ثَوَابِتَ.
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ - لِكَيْلاَ تَتَحَرَّكَ وِتَضْطَرِبَ بِكُمْ.
﴿وَعَلامَاتٍ﴾
(١٦) - وَجَعَلَ اللهُ فِي الأَرْضِ دَلاَلاَتٍ (عَلامَاتٍ)، مِنْ جِبَالٍ وَآكَامٍ وَأَنْهَارٍ وَأَشْجَارٍ.. يَسْتَدِلُّ بِهَا المُسَافِرُونَ بَرّاً وَبَحْراً، إِذَا ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَإِنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ النَّاسَ الاسْتِدْلاَلَ بِالنُّجُومِ لِيَهْتَدُوا بِهَا أَثْنَاءَ سَيْرِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ اللَّيْلِ، فِي البَرِّ وَالبَحْرِ.
عَلامَاتٍ - مَعَالِمَ لِلطُّرُقِ تَهْتَدُونَ بِهَا.
(١٧) - أَفَمَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الخَلاَئِقَ العَجِيبَةَ، وَيُنْعِمُ هَذِهِ النِّعَمَ العَظِيمَةَ، كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً، وَلاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلاَ لِعَابِدِيهِ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً؟ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ، وَهَذِهِ القُدْرَةِ العَظِيمَةِ لِتُدْرِكُوا أَنَّ العِبَادَةَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ. أَمَّا الأَصْنَامُ وَالأَوْثَانُ فَإِنَّهَا حِجَارَةٌ لاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً.
(١٨) - وَيُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ شُكْرِهِ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ عَلَيْهِم، التِي لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، وَلاَ يُمْكِنُ لِعُقُولِ هَؤُلاَءِ حَصْرَهَا، وَلَوْ طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَى جَمِيعِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ لَعَجِزُوا، وَإِذَا عَذَبَّهُمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي شِرْكِهِ لَكَانَ ذَلِكَ بِذَنْبِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَغْفِرُ الكَثِيرَ، وَيُثِيبُ عَلَى اليَسِيرِ.
تُحْصُوهَآ - لَا تُطِيقُوا حَصْرَهَا لِعَدَمِ تَنَاهِيهَا.
(١٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَيُخْفُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَمَا يَجُولُ فِي خَوَاطِرِهِمْ، كَمَا يَعْلَمُ مَا يُبْدُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُوَ مُحْصٍ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
(٢٠) - أَمَّا الأَصْنَامَ التِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنَّهَا حِجَارَةً لاَ تَخْلُقُ شَيْئاً، وَهِيَ مِنْ صُنْعِ البَشَرِ، أَيْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَالمَخْلُوقُ لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَعْبُدَهُ البَشَرُ.
﴿أَمْواتٌ﴾
(٢١) - وَالأَصْنَامُ التِي يَعْبُدُهَا هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ، وَيَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، هِيَ حِجَارَةٌ لاَ رُوحَ فِيهَا، وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ تَسْمَعُ، وَلاَ تُبْصِرُ، وَلاَ تَعْقِلُ، وَلاَ تَدْرِي مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ والبَعْثُ وَالحِسَابُ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهَا نَفْعٌ أَوْ ثَوَابٌ أَوْ جَزَاءٌ؟ وَهَلْ يَلِيقُ بِالعَاقِلِ أَنْ يُشْرِكَ مِثْلَ هذِهِ الحِجَارَةِ فِي العِبَادَةِ مَعَ اللهِ؟
﴿وَاحِدٌ﴾ ﴿بالآخرة﴾
(٢٢) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ أَنَّ إِلهَهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ، أَمَّا الكَافِرُونَ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالآخِرَةِ، فَتَنْكُرُ قُلُوبُهُمْ وَحْدَانِيَّةَ اللهِ، وَتَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَتَجْحَدُ قُلُوبُهُمْ مَا آشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَإِبْدَاعِهِ، وَفَضْلِهِ عَلَى العِبَادِ.
(٢٣) - وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسْرِّهُ هَؤُلاَءِ المُسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، مِنْ كِبْرٍ، وَاسْتِكْبَارٍ، وَإِنْكَارٍ لِنِعَمِ اللهِ، وَيَعْلَمُ مَا يُعْلِنُونَ مِنْ كُفْرٍ وَافْتِرَاءٍ عَلَى اللهِ، لأَنَّهُ مَعَهُمْ حِينَمَا كَانُوا، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ فِى الجَزَاءِ فِي الآخِرَةِ، وَهُوَ لاَ يُحِبُّ مَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَتَعَالَى عَمَّا خَلْقِهِ، وَتَجَبَّرَ فِي الأَرْضِ.
لاَ جَرَمَ - لاَ شَكَّ أَوْ حَقَّ وَثَبَتَ أَوْ حَقّاً.
﴿أَسَاطِيرُ﴾
(٢٤) - وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ المُسْتَكْبِرِينَ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ؟ قَالُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الجَوَابِ: لَمْ يُنْزِلْ شَيْئاً، إِنَّمَا هَذا الذِي نَسْمَعُهُ هُوَ مِنْ أَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ، مَأْخُوذٌ مِنْ كُتُبِهِمْ وَقَصَصِهِمْ.
(وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ قُرَيْشاً تَذَاكَرَتْ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ فَقَالُوا: إِنَّهُ حُلْوُ اللِّسَانِ إِذَا كَلَّمَهُ أَحَدٌ ذَهَبَ بِعَقْلِهِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا فِي الدُّرُوبِ المُؤَدِّيَةِ إِلَى مَكَّةَ أُنَاساً مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَصْرِفُونَ النَّاسَ عَنِ الوُصُولِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانُوا إِذَا التَقَوا بِوَافِدٍ عَلَى الرَّسُولِ عَرَّفُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ مُحَمّداً لَم يَتْبَعْهُ إِلاَّ العَبِيدُ وَالسُّفَهَاءُ، وَمَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِمْ، أَمَّا شُيُوخُ قَوْمِهِ فَهُمْ لَهُ مُفَارِقُونَ، فَيَرْجِعُ الوَافِدُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين﴾.
وَإِذَا كَانَ الوَافِدُ رَشِيداً فَأَصَرَّ عَلَى مُقَابَلَةِ مُحَمَّدٍ لِيَسْمَعَ مِنْهُ، فَيَدْخُلُ مَكَّةُ، وَيَلْقَى المُؤْمِنِينَ فَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الرَّسُولِ، وَمَا يَقُولُ؟ فَيَقُولُونَ: خَيْراً.
أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ- أَبَاطِيلُهُمْ المُسَطَّرَةُ فِي كُتُبِهِمْ.
﴿القيامة﴾
(٢٥) - وَلَقَدْ قَالُوا مَا قَالُوهُ عَنِ الرَّسُولِ وَعَنِ القُرْآنِ، وَعَنْ رِسَالَةِ اللهِ، لِتَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوا آثَامَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَأَوْزَارَ كُفْرِهِمْ، وَلِيَتَحَمَّلُوا مَعَهَا مِنْ خَطَايَا وَأَوْزَارِ الذِي يُضِلُّونَهُمْ، وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ، ﴿وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً﴾.
أَوْزَارَهُمْ - آثَامُهُمْ وَذُنُوبُهُمْ.
﴿بُنْيَانَهُمْ﴾ ﴿وَأَتَاهُمُ﴾
(٢٦) - لَقَدِ احْتَالَ مَنْ ُهْم قَبْلَ قَوْمِكَ، يَا مُحَمَّدُ، فِي إِيذَاءِ الرُّسُلِ، وَفِي إِضْلاَلِ النَّاسِ بِكُلِّ حِيلَةٍ، وَحَاوَلُوا اسْتِمَالَتَهُمْ إِلَى شِرْكِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ ﴿مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، فَفَضَحَهُمُ اللهُ، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ، وَأَبْطَلَ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ، وَهَدَمَ بُنْيَانَ مَكْرِهِمْ مِنْ أَسَاسِهِ، وَعَادَ عَلَيْهِمْ وَبَالَ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَأَتَاهُمْ عَذَابُ اللهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَلَمْ يَنْتَظِرُوا فَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ.
الْقَوَاعِدِ - الدَّعَائِمَ وَالعَمَدِ أَوِ الأُسُسِ.
﴿القيامة﴾ ﴿شُرَكَآئِيَ﴾ ﴿تُشَاقُّونَ﴾ ﴿الكافرين﴾
(٢٧) - وَيُخْزِيهِمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ وَالخَلاَئِقِ، إِذْ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ مَا كَانُوا يَسْتُرُونَ مِنَ المَكْرِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الذِينَ كُنْتُمْ تُحَارِبُونَ، وَتُعادُونَ النَّبِيَّ وَالمُؤْمِنِينَ فِي سَبِيلِهِمْ (تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) ؟ لِمَاذَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْ نَصْرِكُمْ، وَإِنْقَاذِكُمُ اليَوْمَ؟ فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الدَّلاَلاَتُ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الكَلِمَةُ، وَسَكَتُوا عَنِ الاعْتِذَارِ، قَالَ الذِينَ أُوتُوا العِلْمَ (وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالمُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ، وَهُمُ السَّادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) : إِنَّ الفَضِيحَةَ وَالعَذَابَ مُحِيطَانِ اليَوْمَ بِمَنْ كَفَرَ بِاللهِ، وَأَشْرَكَ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَلاَ يَنْفَعُهُ.
يُخْزِيهِمْ - يُذِلُّهُمْ وَيُهِينُهُمْ بِالعَذَابِ.
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ - تُخَاصِمُونَ وَتُعَادُونَ الأَنْبِيَاءَ فِيهِمْ.
لْخِزْيَ - الذُّلَّ وَالهَوَانَ.
﴿تَتَوَفَّاهُمُ﴾ ﴿الملائكة﴾
(٢٨) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الكَافِرِينَ، الذِينَ يَسْتَحِقُونَ العَذَابَ، هُمُ الذِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ إِلَى أَنْ جَاءَتْهُمْ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْعَذَابِ المُخَلَّدِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، يَسْتَسْلِمُونَ حِينَئِذٍ، وَيَنْقَادُونَ حِينَ يُعَايِنُونَ العَذَابَ قَائِلِينَ: مَا كُنَّا نُشْرِكُ بِرَبِّنَا أَحَداً، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا. وَيُكَذِّبُهُمْ تَعَالَى فِيمَا يَقُولُونَ وَيَقُولُ لَهُمْ: بَلْ كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَتُشْرِكُونَ وَتَرْتَكِبُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ، فَلاَ فَائِدَةَ اليَوْمَ مِنَ الإِنْكَارِ، وَاللهُ مُجَازِيكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ.
أَلْقَوُاْ السَّلَمَ - أَظْهَرُوا الاسْتِسْلاَمَ وَالخُضُوعَ.
﴿أَبْوَابَ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾
(٢٩) - وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ بِدُخُولِ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ لِيَبْقَوْا فِيهَا، وَلْيَذُوقُوا أَلْوَاناً مِنَ العَذَابِ، جَزَاءً لَهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَارْتَكَبُوا مِنَ المَعَاصِي، وَلَبِئْسَ جَهَنَّمَ مَقِيلاً وَمَقَاماً لِلذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَالاهْتِدَاءِ بِالآيَاتِ التِي أُنْزِلَتْ إِلَيْهِمْ.
مَثْوَى - مَأْوَى وَمَقَامٌ.
﴿
١٦٤٩; لآخِرَةِ﴾

(٣٠) - وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ عَلَى رَسُولِهِ؟ قَالُوا: أَنْزَلَ القُرْآنَ، فِيهِ خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ، وَبَرَكَةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَآمَنَ بِهِ.
ثُمَّ يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا وَعَدَ بِهِ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا، فَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمَرَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ.. أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ. وَإِنَّ دَارَ الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا الفَانِيَةِ، وَالجَزَاءُ فِيهَا أَتَمُّ مِنَ الجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَنَعِمَتْ دَارُ الآخِرَةِ دَاراً لِلمُتَّقِينَ.
﴿جَنَّاتُ﴾ ﴿الأنهار﴾
(٣١) - وَالدَّارُ التِي وَعَدَ اللهُ بِهَا المُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي الآخِرَةِ هِيَ جَنَّاتُ مُقَامٍ (عَدْنٍ)، يَدْخُلُونَهَا، تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ (مِنْ تَحْتِهَا) بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا، وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَطْلُبُونَ وَيَشْتَهُونَ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ، وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ.
﴿تَتَوَفَّاهُمُ﴾ ﴿الملائكة﴾ ﴿ْسَلامٌ﴾
(٣٢) - وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المُؤْمِنِينَ القَائِمِينَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَالمُنْتَهِينَ عَنْ جَمِيعِ مَا نَهَى عَنْهُ (الطَّيِّبِينَ) حِينَ تَحْضُرُهُمُ المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ طَيِّبُونَ، مُخْلِصُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنْسِ، وَالسُّوْءِ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِم، وَتُبَشِّرُهُمْ بِالجَنَّةِ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَعَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ.
طَيِّبُونَ - طَاهِرُونَ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالمَعَاصِي أَوْ يَطِيبُ لِلْمَلاَئِكَةِ قَبْضُ أَرْوَاحِهِمْ.
﴿الملائكة﴾
(٣٣) - يُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى المُشْرِكِينَ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ، وَاغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ سَيَظَلُّ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ مُقِيمِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَهُمْ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللهِ فَيُهْلِكَهُمْ جَمِيعاً؟ فَإِنَّهُمْ وَبِعِنَادِهِمْ، وَبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لاَ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ المَلاَئِكَةَ تَأْتِي لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَهُمْ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ، بِالشِّرْكِ، وَعَمَلِ السَّيِّئَاتِ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ (أَمْرُ رَبِّكَ)، وَمَا يُعَانُونَ فِيهِ مِنَ الأَهْوَالِ؟
(وَقِيلَ بَلِ المَقْصُودُ هُنَا أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ بِالعَذَابِ فِي الدُّنْيا، كَمَا فَعَلَ بِأَسْلاَفِهِم مِنَ الكُفَّارِ فَيُرْسِلُ عَلَيْهِم الصَّوَاعِقَ، أَوْ يَخْسِفُ بِهِمْ الأَرْضَ).
وَكَمَا فَعَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَتَمَادُوا فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، كَذَلِكَ فَعَلَ أَسْلاَفُهُمْ وَنُظَراؤُهُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى غَيِّهِمْ وَضَلاَلِهِمْ، حَتَّى حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ وَبَأْسُهُ وَنَكَالُهُ.
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ بِإِنْزَالِ العَذَابِ بِهِمْ، لأَنَّهُ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ، وَأَقَامَ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ الكُتُبِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالكُفْرِ، وَبِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ، وَبِالتَّكْذِيبِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ.
﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾
(٣٤) - وَلِهَذَا حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ الأَلِيمِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا، وَأَحَاطَ بِهِمْ (حَاقَ بِهِمْ)، وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَذَا العَذَابِ، حِينَ كَانَ الرُّسُلُ يُحَذِّرُونَهُمْ مِنْهُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ: ﴿هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.
حَاقَ بِهِم - أَحَاطَ بِهِمْ.
﴿آبَاؤُنَا﴾ {البلاغ
(٣٥) - وَيَعْتَذِرُ المُشْرِكُونَ عَنْ شِرْكِهِمْ، وَعِبَادَتِهِمْ الأَصْنَامَ، وَتَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ السَّوَائِبِ وَالبَحَائِرِ وَالوَصَائِلِ.. إِلخ وَيَحْتَمُونَ بِالقَدَرِ، وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ كَانَ كَارِهاً ذَلِكَ لِمَا فَعَلُوهُ هُمْ، وَلاَ فَعَلَهُ آبَاؤُهُمْ، وَلأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوبَةِ، وَلَمَا مَكَّنَهُمْ مِنْهُ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْكُمْ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَبَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ رَسُولاً يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ عَوَاقِبَ الشِّرْكِ، وَنَتَائِجَ البَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالكُفْرِ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، كَمَا كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَتَابَعُوا أَسْلاَفَهُم عَلَى ضَلاَلِهِمْ فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَمَهَمَّةُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ هِيَ إِبْلاغُ النَّاسِ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَلَيْسَتْ مَهَمَّتُهُمْ إِجْبَارَ النَّاسِ، وَإِكْرَاهَهُمْ عَلَى الإِيَمَانِ.
﴿الطاغوت﴾ ﴿الضلالة﴾ ﴿عَاقِبَةُ﴾
(٣٦) - فَقَدْ بَعَثَ اللهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ (الطَّاغُوتِ)، وَعَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَعَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ، وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ فَاهْتَدَى، وَمِنْهُمْ مَنَ ضَلَّ وَاسْتَكْبَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ : سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ نِهَايَةُ المُكَذِبِينَ، وَكَيْفَ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ، وَجَعَلَ عَاقِبَتَهُمْ أَسْوَأَ عَاقِبَةٍ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ اللهَ رَضِيَ لَهُمُ الكُفْرَ.
اجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ - كُلَّ مَعْبُودٍ بَاطِلٍ، وَكُلَّ دَاعٍ إِلَى ضَلاَلَةٍ.
حَقَّتْ - ثَبَتَتْ وَوَجَبَتْ.
﴿هُدَاهُمْ﴾ ﴿نَّاصِرِينَ﴾
(٣٧) - يُخْبِرُ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ بِأَنَّ حِرْصَهُ عَلَى هِدَايَةِ المُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ لاَ يَنْفَعُهُمْ إِذَا كَانَ اللهُ قَد قَدَّرَ لَهُمُ الضَّلاَلَ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى.
﴿أَيْمَانِهِمْ﴾
(٣٨) - حَلَفَ المُشْرِكُونَ وَأَجْهَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الحَلْفِ (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، وَغَلَّظُوا الأَيْمَانَ عَلَى أَنَّ اللهَ لاَ يَبْعَثُ المَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، فَاسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ، وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي إِخْبَارِهِمْ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَحَلَفُوا عَلَى نَقِيضِهِ. وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: بَلَى. سَيَكُونُ ذَلِكَ البَعْثُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنَ اللهِ حَقٌّ لاَ بُدَّ مِنْهُ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَجْهَلُونَ حِكْمَةَ اللهِ فِي خَلْقِ هَذَا العَالَمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثاً، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الرُّسُلَ، وَيَقَعُونَ فِي الكُفْرِ وَيُكَذِّبُونَ بِوُقُوعِ البَعْثِ، وَحُدُوثِ المَعَادِ.
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ - يُجْهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الحِلفِ بِأَغْلَظِ الأَيْمَانِ وَأَوْكَدِهَا.
﴿كَاذِبِينَ﴾
(٣٩) - وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي المَعَادِ وَالحَشْرِ، فَيَقُولُ: إِنَّ حِكْمَتَهُ اقَتْضَتْ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كُاذِبِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ، وَفِي حَلْفِهِمْ عَلَى أَنَّ اللهَ لاَ يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ.
﴿أَرَدْنَاهُ﴾
(٤٠) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ بَعْثَ الخَلاَئِقِ، يَوْمَ القِيَامَةِ، سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ دَاعِيَ لأَنْ يستبعده الكفار، فإذا أراد الله أمرا فإنه يقول له: كن، فيكون الشيء لوفته دون أن يكرر الله أمره مرة أخرى ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر.﴾
(٤١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الجَزَاءِ الذِي أَعَدَّهُ لِلمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَهُمُ الذِينَ فَارَقُوا الدَّارَ وَالإِخْوَانَ وَالخِلاَّنَ، رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ: فَقَالَ إِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِالمُجَازَاةِ الحَسَنَةِ فِي الدَّارِ الدُّنْيا وَفِي الدَّارِ الآخِرَةِ، فَأَكْرَمَهُمُ اللهُ بِالسَّكَنِ فِي المَدِينَةِ، وَآتَاهُمُ الرِّزْقَ وَالحَلاَلَ الطَّيِّبَ، وَجَعَلَهُمْ سَادَةً وَأُمَرَاءَ، وَسَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِمَّا آتَاهُمْ فِي الدُّنْيا. وَلَوْ كَانَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الهِجْرَةِ يَعْلَمُونَ مَا ادَّخَرَ اللهُ، لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ، لَمَا تَأَخَّرُوا عَنِ اللَّحَاقِ بِهِمْ.
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ - لَنُنْزِلَنَّهُمْ.
حَسَنَةً - مُبَاءَةً حَسَنَةً أَوْ دَاراً أَوْ أُعْطِيَةً حَسَنَةً.
(٤٢) - وَهَؤُلاَءِ المُهَاجِرُونَ هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَا نَالَهُمْ مِنْ أَذَى قَوْمِهِمْ، وَاحْتَمَلُوهُ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللهِ، الذِي أَحْسَنَ لَهُمْ العَاقِبَةَ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
﴿فاسألوا﴾
(٤٣) - لَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحْمَّداً رَسُولاً أَنْكَرَتِ العَرَبُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: اللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ مِنَ البَشَرِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس﴾ وَهُنَا يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ المُرْسَلِينَ، مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ، إِلاَّ مِنَ البَشَرِ، فَاسْأَلُوا، يَا أَيُّهَا المُنْكِرُونَ ذلِكَ، أَهْلَ الكُتُبِ السَّابِقَةِ (أَهْلَ الذِّكْرِ) أَمِنَ البَشَرِ كَانَ الرُّسُلُ أَمْ مِنَ المَلاَئِكَةِ؟ فَإِنْ كَانُوا مِنَ المَلاَئِكَةِ أَنْكَرْتُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ البَشَرِ، فَلِمَ تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ رَسُولاً؟
﴿بالبينات﴾
(٤٤) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ السَّابِقِينَ مِنَ البَشَرِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالحُجَجِ وَالدَّلاَئِلِ (البَيِّنَاتِ)، وَبِالكُتْبِ (الزُّبُرِ وَهِيَ جَمْيعُ زَبُورٍ أَيْ كِتَابٍ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ القُرْآنَ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ، لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيُفَصِّلَ لَهُمْ مَا أُجْمِلَ، وَيُفَسِّرَ لَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، لَعَلَّ النَّاسَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَيَهْتَدُوا، وَيَفُوزُوا بِالنَّجَاةِ فِي الدَّارَينِ.
بِالبِيِّنَاتِ - أَرْسَلْنَاهُمْ بِالمُعْجِزَاتِ.
الزُّبُر - كُتُبِ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ.
الذِّكْرَ - الْقُرْآنَ.
(٤٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَلْمِهِ عَلَى العُصَاةِ، الذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا، وَيَمْكُرُونَ بِالرَّسُولِ ﷺ وَالمُؤْمِنِينَ، وَيُحَاوِلُونَ صَرْفَ المُؤْمِنِينَ عَنِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِعَادَتِهِمْ إِلَى الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ فَيَقُولُ تَعَالَى: أَأَمِنَ هَؤُلاَءِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ، أَوْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ العَذَابَ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَلاَ يَشْعُرُونَ إِلاَّ وَقَدْ أَخَذَهُمْ بَغْتَةً، وَاللهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُنْظِرُهُمْ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، وَيُقْلِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الجَهَالَةِ.
يَخْسِفَ - يُغَيِّبَ.
(٤٦) - أَوْ أَمِنَ هَؤُلاَءِ الذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَثْنَاءَ تَقَلُّبِهِمْ، فِي مَعَايِشِهِمْ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، وَنَحْوِهَا مِنَ الأَشْغَالِ المُلْهِيَةِ، فَهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ اللهَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا؟
تَقَلُّبِهِمْ - أَسْفَارِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ.
بِمُعْجِزِينَ - بِفَائِتِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ بِالهَرَبِ.
﴿رَؤُوفٌ﴾
(٤٧) - أَوْ أَمِنُوا أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ - بَعْدَ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِهِم الخَوْفَ وَالرُّعْبَ، بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيَأْخُذُهُمْ بِالعَذَابِ - فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الأَخْذِ يَكُونُ أَبْلَغَ وَأَشَدَّ، لأنَّ أَثَرَ مَا يَحْصُلُ لِلإنْسَانِ، وَهُوَ خَائِفٌ مِنْهُ مُتَوَقِّعٌ لَهُ، أَشَدُّ وَأَبْلَغُ، وَلَكِنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ بِهِمْ، إِذْ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالعُقُوبَةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ - " لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَداً وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ "). (رَوَاهُ البُخَارِي وَمُسْلِمٌ).
تَخَوُّفٍ - مَخَافَةٍ مِنَ العَذَابِ أَوْ تَنَقُّصٍ.
﴿يَتَفَيَّؤُاْ﴾ ﴿ظِلاَلُهُ﴾ ﴿الشمآئل﴾ ﴿دَاخِرُونَ﴾
(٤٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ، وَجَلاَلِهِ الذِي خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ، وَدَانَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ظِلٌّ يَتَفَيّأُ وَيَنْتَقِلُ وَيَمِيلُ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ - أَيْ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً - فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بِظِلِّهِ للهِ تَعَالَى، صَاغِراً ذَلِيلاً، فَكَيْفَ لَمْ يَرَ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ هذِهِ الأَشْيَاءَ القَائِمَةَ حَوْلَهُمْ، فَيَتَفَكَّرُوا فِي عَظَمَةِ الخَالِقِ المُدَبِّرِ لِهَذِهِ المَوْجُودَاتِ، وَيَهْتَدُوا إِلَى وُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَى الخُضُوعِ لَهُ؟
(وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْقِلُ لأَنَّهُ نَسَبَ إِلَيْهَا السُّجُودَ).
يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ - تَمِيلُ وَتَنْتَقِلُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ، أَوْ يَرْجِعُ بَعْدَ امْتِدَادٍ.
مِنْ شَيءٍ - مِنْ جِسْمٍ قَائِمٍ لَهُ ظِلٌّ.
سُجَّداً - مُنْقَادُونَ لِحُكْمِهِ وَتَسْخِيرِهِ تَعَالَى.
وَهُمْ دَاخِرُونَ - وَالظِّلاَلُ صَاغِرُونَ مُنْقَادُونَ كَأَصْحَابِهَا.
﴿السماوات﴾ ﴿الملائكة﴾
(٤٩) - وَيَسْجُدُ للهِ جَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ مَلاَئِكَةٍ وَإِنْسَانٍ وَحَيَوانٍ وَشَجَرٍ وَجَمَادٍ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ السُّجُودِ للهِ تَعَالَى، وَعَنِ الخُضُوعِ لِذَاتِهِ العَلِيَّةِ.
(٥٠) - وَيَسْجُدُ للهِ جَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ مَلاَئِكَةٍ وَبَشَرٍ وَحَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، وَهُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنَ الرَّبِّ العَظِيمِ، جَلَّ جَلاَلُهُ، وَهُمْ مُثَابِرُونَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ.
﴿وَاحِدٌ﴾ ﴿فَإيَّايَ﴾
(٥١) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ: لاَ تُشْرِكُوا فِي العِبَادَةِ مَعَ اللهِ أَحَداً، وَلاَ تَعْبُدُوا آلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، وَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَتِمَّ العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ وَخَالِقُهُ وَرَبُّهُ، وَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ الذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَخْشَاهُ النَّاسُ وَيَرْهَبُوهُ.
﴿السماوات﴾
(٥٢) - وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ شَيءٍ، لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الذِي خَلَقَهُمْ. وَهُوَ الذِي يَرْزُقُهُمْ وَبِيَدِهِ حَيَاتُهُمْ وَمَوْتُهُمْ، وَلَهُ العِبَادَةُ وَاجِبَةٌ دَائِماً، أَفَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَيَتَّقُونَ سِوَاهُ، وَقَدْ عَلِمُوا كُلَّ ذِلكَ؟
لَهُ الدِّينُ - لَهُ الطَّاعَةُ وَالانْقِيَادُ وَحْدَهُ.
وَاصِباً - دَائِماً وَاجِباً لاَزِباً أَوْ خَالِصاً.
﴿تَجْأَرُونَ﴾
(٥٣) - وَإِلَيْهِ يَعُودُ الفَضْلُ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَالرِّزْقِ وَالعَافِيَةِ وَالنَّصْرِ وَالإِحْسَانِ، وَحِينَمَا يَمَسُّكُم الضُّرُّ وَالسَّقَمُ، وَيَحِلُّ بِكُمُ البَلاَءُ، تَلْجَؤُونَ إِلَيْهِ، وَتَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ مُسْتَغِيثِينَ بِهِ، مُلِحِّينَ فِي الرَّجَاءِ، لاَ تَدْعُونَ غَيْرَهُ، وَلاَ تَلْجَؤُونَ إِلَى سِوَاهُ.
تَجْأَرُونَ - تَضِجُّونَ بِالاسْتِغَاثَةِ وَالتَّضَرُّعِ.
﴿آتَيْنَاهُمْ﴾
(٥٥) - وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ الكُفْرَ وَالجُحُودَ بِأَنْعُمِ اللهِ عَلَيْهِمْ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ المُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، وَبِكَشْفِ البَلاَءِ وَالضُّرِّ عَنْهُمْ، وَالذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذا الكُفْرِ وَالجُحُودِ هُوَ خَبْثُ طَوِيَّتِهِمْ، وَمَا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالجُحُودِ وَالعِصْيَانِ. ثُمَّ يَتَوَعَّدُهُمْ تَعَالَى وَيَقُولُ لَهُمْ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، وَتَمَتَّعُوا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ قَلِيلاً، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ.
﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾ ﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾
(٥٦) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ المُشْرِكِينَ الذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ، جَعَلُوا لِلأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ التِي لاَ يَعْلَمُونَ لَهَا ضُرّاً وَلاَ نَفْعاً، نَصِيباً مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ. فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ لَيَسْأَلَنَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ الافْتِرَاءِ وَالإِفْكِ، وَلِيُقَابِلَنَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلِيُجَازِيَنَّهُمْ أَوْفَى الجَزَاءِ، يَوْمَ القِيَامَةِ.
(قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ - أَيْ الآلِهَةُ التِي عَبَدُوهَا وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لَهَا شَيْئاً مِنَ الصِّفَاتِ التِي يَجِبُ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيمَنْ يُعْبَدْ).
تَفْتَرُونَ - تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ.
﴿البنات﴾ ﴿سُبْحَانَهُ﴾
(٥٧) - ثُمَّ جَعَلُوا إِنَاثاً، وَجَعَلُوهَا، بَنَاتِ اللهِ، يَعْبُدُونَهَا مَعَهُ، فَنَسَبُوا إِلَيهِ تَعَالَى الوَلَدَ، وَهُوَ تَنَزَّهَ اسْمُهُ لاَ وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ جَعَلُوا البَنَاتِ لَهُ، وَاخْتَارُوا لأَنْفِسِهِمْ الذُّكُورَ، لأَنَّهُمْ يَشْتَهُونَ أَنْ يَكُونَ أَبْنَاؤُهُمْ مِنَ الذُّكُورِ، وَقَدْ أَنِفُوا لأَنْفُسِهِمْ البَنَاتِ، وَنَسَبُوهَا إِلَى اللهِ.
(٥٨) - وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدٌ هؤُلاَءِ المَشْرِكِينَ، الذِينَ يَجْعَلُونَ المَلاَئِكَةَ بَنَاتِ اللهِ، بِوِلاَدَةِ أُنْثَى لَهُ اعْتَرَاهُ الحُزْنُ، وَعَلَتْهُ الكَآبَةُ، وَظَلَّ سَاكِناً يَكْظِمُ غَيْظَهُ، وَيُحَاوِلُ أَنْ يُخْفِيَهِ مِنْ شِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الحُزْنِ.
وَهُوَ كَظِيمٌ - وَهُوَ مُمْتَلِىءٌ غَيْظاً فِي قَرَارَاةِ نَفْسِهِ.
﴿يتوارى﴾
(٥٩) - يَتَوَارَى عَنْ أَعْيُنِ النَّأسِ خَجَلاً وَحَيَاءً، لِكَيْلاَ يَرَوْهُ مِنْ شِدَّةِ مَسَاءَتِهِ مِمَّا بُشِّرَ بِهِ، وَيَظَلُّ حَائِراً مُتَرَدِّداً فِي أَمْرِهَا، فَإِنْ أَبْقَاهَا أَبْقَاهَا مُهَانَةً (عَلَى هُونٍ)، لاَ يُورثُها، وَلاَ يَعْتَنِي بِهَا، وَيُفَضِّلُ أَوْلاَدَهُ الذُّكُورَ عَلَيهَا، وَإِلاَّ وَأَدَهَا وَدَفَنَهَا فِي التُّرَابِ وَهِيَ حَيَّةٌ (يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ)، كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ. وَهَذا المَخْلُوقُ (الأُنْثَى) الذِي يَكْرَهُونَهُ كُلَّ هذِهِ الكَرَاهِيَّةِ، وَيَأْبَوْنَهُ لأَنْفِسِهِمْ، يَجْعَلُونَهُ للهِ؛ بِئْسَ مَا قَالُوا، وَبِئْسَ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَبِئْسَ مَا قَسَمُوا.
يَتَوَارَى - يَسْتَخْفِي وَيَتَغَيَّبُ.
عَلَى هُونٍ - عَلَى هَوَانٍ وَذُلٍّ.
يَدُسُّهُ - يُخْفِيهِ بِالوَأْدِ، وَيَدْفِنُهُ حَيّاً.
﴿الآخرة﴾
(٦٠) - لِلْكَافِرِينَ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُصَدِّقُونَ بِوُجُودِ حَشْرٍ وَلاَ نَشْرٍ وَلاَ حِسَابٍ، صِفَةَ السُّوءِ وَالنَّقْصِ، التِي تحَمِلُهُمْ عَلَى تَفْضِيلِ الذُّكُورِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ عَلَى الإِنَاثِ، لِبَقَاءِ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَللاسْتِظْهَارِ وَالاسْتِنْصَارِ بِهِمْ، وَصِفَةِ النَّقْصِ هَذِهِ هِيَ التِي تَدْفَعُهُمْ إِلَى وَأْدِ البَنَاتِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْهُنَّ خَشْيَةَ العَارِ أَوِ الفَقْرِ.
وَللهِ تَعَالَى الصِّفَةُ العُلْيَا، التِي يَعْتَرِيهَا نَقْصٌ، لأنَّهُ تَعَالَى الوَاحِدُ الأَحَدُ، المُنَزَّةُ عَنْ حَاجَتِهِ لِلوَلَدِ، وَلَهُ صِفَاتُ الكَمَالِ وَالجَلاَلِ، وَالقُدْرَةِ وَالعِلْمِ وَالإِرَادَةِ، لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ، وَهُوَ العَزِيزُ المَنِيعُ، تَكَبُّراً وَجَلالاً، لاَ يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَهُوَ الحَكِيمُ الذِي لاَ يَفْعَلُ إِلاَّ مَا تقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ البَالِغَةُ.
مَثَلُ السَّوْءِ - صِفَتُهُ القَبِيْحَةُ مِنَ الجَهْلِ وَالكُفْرِ.
﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾
(٦١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ بِأَنَّهُ يَحْلُمُ عَلَى العُصَاةِ مِنَ البَشَرِ، مَعْ ظُلْمِهِمْ، وَأَنَّهُ لاَ يُعْجِّلُ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ، وَبِمَا كَسَبُوا، وَلُوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لأَهْلَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ عَلَى ظَهْرِهَا مَخْلُوقاً يَدِبُّ عَلَيْهَا. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْلُمُ عَلَى العُصَاةِ، وَيَسْتُرُ عَلَيْهِمْ عُيُوبَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَلاَ يُعَاجِلُهُمْ بِالعُقُوبَةِ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى اليَوْمِ المُحَدَّدِ لَهُمْ، فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ لاَ يُمْهَلُونَ لَحْظَةً وَاحِدَةً.
(٦٢) - وَيَجْعَلُونَ للهِ بَنَاتٍ وَشُرَكَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمْ يَأْنَفُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لأَحَدِهِمْ بِنْتٌ أَوْ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، وَيَقُولُون، كَذِباً عَلَى أَنْفُسِهِمْ: إِنَّ لَهُمُ العَاقِبَةُ الحُسْنَى عِنْدَ اللهِ، إِذا بُعِثُوا يَوْمَ القِيَامَةِ، فَجَمَعُوا عَمَلَ السُّوءِ (الكُفْرَ وَنِسْبَةَ البَنَاتِ وَالشُّرَكَاءِ للهِ)، مَعَ تَمَنِّيهِم البَاطِلَ المُحَالَ، بِأَنْ يُجَازِيهِمْ اللهُ عَلَى ذَلِكَ جَزَاءً حَسَناً، وَهَذا مُسْتَحِيلٌ
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: لاَ شَكَّ (لاَ جَرَمَ) أَنَّ لَهُمْ، عِنْدَ اللهِ، يَوْمَ القِيَامَةِ، النَّارَ، وَأَنَّهُ سَيَجْعَلُ بِهِمْ إِلَيْهَا، وَيُنْسَونَ فِيهَا فَيَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً.
لاَ جَرَمَ - لاَ شَكَّ - أَوْ حَقّاً.
مُفْرَطُونَ - مُقْدَّمُونَ وَمُعَجَّلٌ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: أَفْرَطَهُ إِلَى كَذَا أَيْ قَدِّمْهُ.
﴿الشيطان﴾ ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾
(٦٣) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الأُمَمِ الخَالِيَّةِ رُسُلاً يَدْعُونَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ مُعَزِيّاً وَمُسَلِيّاً: لَقَدْ كَذَبَّتْ الأُمَمُ رُسُلَهَا فَلَكَ يَا مُحَمَّدُ بِالمُرْسَلِينَ قَبْلِكَ أُسْوَةٌ، فَلاَ يُهِمَّنَّكَ تَكْذِيبُ قَوْمِكَ لَكَ. وَالذِينَ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْطَانُ الذِي زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ وَضَلاَلٍ، وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ وَفَسَادٍ فِي الأَرْضِ. وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُجَازِي اللهُ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ جَزَاءً عَادِلاً عَلَى مَا كَذَّبُوا وَكَفَرُوا، وَيُلْقَوْنَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلاَ يَمْلِكُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ خَلاَصاً، وَلاَ نَصْراً فَيَذُوقُونَ العَذَابَ الأَلِيمَ.
تَاللهِ - قَسَمٌ يَعْنِي وَاللهِ.
﴿الكتاب﴾
(٦٤) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ القُرْآنَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ دِينِ اللهِ، وَلِيَعْرِفُوا الحَقَّ مِنَ البَاطِلِ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ التِي بَعَثَهُ اللهُ بِهَا. وَالقُرْآنُ هُدًى لِلْقُلُوبِ الضَّالَّةِ، وَرَحْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَهُوَ فَاصِلٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ.
(٦٥) - بَعْدَ أَنْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ وَأَوْعَدَ الكُفَّارَ بِالنَّارِ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ، عَادَ تَعَالَى إِلَى التَّذْكِيرِ بِالدَّلاَئِلِ عَلَى وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، فَقَالَ: وَكَمَا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ حَيَاةً لِلقُلُوبِ المَيِّتَةِ، كَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ المَاءَ حَيَاةً لِلأَرْضِ، فَهُوَ يُنْزِلُ المَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضُ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَيُنْبِتُ فِيهَا الزُّرُوعَ وَالأَشْجَارَ وَالنَّبَاتَ، وَيُخْرِجَ الثِّمَارُ وَالحُبُوبَ، وَفِي ذَلِكَ آيَةٌ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الكَلاَمَ، وَيَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ.
﴿الأنعام﴾ ﴿سَآئِغاً﴾ ﴿لِلشَّارِبِينَ﴾
(٦٦) - وَإِنَّ لَكُمْ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فِي الأَنْعَامِ لآيَةٌ وَعِبْرَةٌ، وَدَلاَلَةٌ عَلَى حِكْمَةِ الخَالِقِ، وَرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ. فَهُوَ تَعَالَى يَسْقِي النَّاسَ مِمَّا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامُ لَبَناً خَالِصاً صَافِياً، طَيِّبِ المَذَاقِ وَالطَّعْمِ، لاَ يَغُصُّ بِهِ شَارِبٌ، وَلاَ تَشْمَئِزُ مِنْهُ نَفْسُهُ (سَائِغاً)، بَعْدَ أَنْ يَتَحَوَّلَ طَعَامُ الحَيَوَانِ فِي بَطْنِهِ إِلَى دَمٍ وَلَبَنٍ وَفَضَلاَتٍ (فَرْثٍ)، فَيَجْرِي كُلٌّ إِلَى مَوْضِعِهِ خَالِصاً لاَ يَشُوبُهُ الآخَرُ وَلاَ يُخَالِطَهُ، وَلاَ يُؤَثِرُ عَلَيْهِ.
فَرْثٌ - مَا فِي الكَرْشِ مِنَ الثُّفْلِ.
لَعِبْرَةً - لَعِظَةً وَدَلاَلَةً عَلَى قُدْرَةِ اللهِ.
﴿ثَمَرَاتِ﴾ ﴿والأعناب﴾
(٦٧) - وَيَتَّخِذُ النَّاسَ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ أَشْرِبَةً، مِنْهَا النَّبِيذُ المُسْكِرُ (وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ)، وَمِنْهَا الرِّزْقُ الحَسَنُ: كَالدِّبْسِ وَالعَصِيرِ وَالخَلِّ... إلخ وَفِي ذَلِكَ آيَةٌ لِذَوِي العُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَعِبْرَةٌ لَهُمْ بَالِغَةُ الدَّلاَلَةِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللهِ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّكَرُ هَوُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتَي النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ، وَالرِّزْقُ الحَسَنُ هُوَ مَا أُحِلَّ مِنْهُمَا).
السَّكَرُ - المُسْكِرُ أَوِ الخَمْرُ.
(٦٨) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ أَلْهَمَ النَّحْلَ، وَأَرْشَدَهَا (أَوْحَى إِلَيْهَا) أَنْ تَجْعَلَ لَهَا بُيُوتاً فِي الجِبَالِ تَأْوِي إِلَيْهَا، وَفِي الأَشْجَارِ، أَوْ فِيمَا يَعْرِشُهُ النَّاسُ مِنَ الأَشْجَارِالمَرْفُوعَةِ عَلَى العَرَائِشِ. (وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى وَمِمَّا يَعْرِشُونَ هُوَ مِمَّا يَبْنِي النَّاسُ مِنَ الخَلاَيَا لِلنَّحْلِ).
أَوْحَى - أَلْهَمَ وَأَرْشَدَ وَسَخَّرَ.
بُيُوتاً - أَوْكَاراً تَبْنِيهَا لِتَضَعَ العَسَلَ فِيهَا.
﴿الثمرات﴾ ﴿أَلْوَانُهُ﴾
(٦٩) - ثُمَّ هَدَاهَا اللهُ إِلَى أَنْ تَأْكُلَ مِنَ كُلِّ الثَمَرَاتِ، وَأَنْ تَسْلُكَ الطُّرُقَ التِي جَعَلَهَا اللهُ مُذَلَّلَةً لَهَا مُسَهَّلَةً عَلَيْهَا، حَيْثُ شَاءَتْ فِي الفَضَاءِ الوَاسِعِ، وَأَرْشَدَهَا اللهُ إِلَى الاهْتِدَاءِ إِلَى أَوْكَارِهَا وَمَسَاكِنِهَا. وَيُخْرِجُ مِنْ بُطُونِ هَذِهِ النَّحْلِ شَرَابٌ (عَسَلٌ)، مُخْتَلِفُ الأَلْوَانِ، بِحَسَبِ المَرَاعِي التِي يَأْكُلُ مِنَهَا النَّحْلُ، وَهَذَا العَسَلُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَمْرَاضٍ تَعْرِضُ لَهُمْ.
وَفِي إِلْهَامِ اللهِ لِهَذِهِ الحَيَوَانَاتِ الضَّعِيفَةِ الخِلْقَةِ، إِلَى بِنَاءِ البُيُوتِ وَجَمْعِ العَسَلِ وَالشَّمْعِ... آيَةٌ لِقَوْمٍ يِتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ الصُّنْعِ العَجِيبِ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ القَادِرِ الحَكِيمِ.
ذُلُلاً - مُذَلَّلَةً مُسَهَّلَةً لَكِ.
﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾
(٧٠) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الذِي أَنْشَأَهَمُ مِنَ العَدَمِ، وَوَقَّتَ أَعْمَارَهُمْ بِآجَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ يَتَوَفَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، حِينَمَا تَحِينُ آجَالُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَعْجَلُ وَفَاتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَأَخَّرُ، حَتَّى يُدْرِكَهُ الهَرَمُ فَيَصِيرَ إِلَى أَرْذَلِ العُمْرِ، فَتَضْعُفَ قُوَاهُ، وَتَضْعُفَ ذَاكِرَتُهُ، وَيُصِيبَهُ الخَرَفُ، فَيَنْسَى مَا كَانَ يَحْفَظُ، وَتَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الأُمُورُ لِضَعْفِ قُوَاهُ العَقْلِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ عَالِماً. وَاللهُ عَلِيمٌ بِكُلَِّ شَيءٍ، قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ.
أَرْذَلِ الْعُمُرِ - أَرْدَؤُهُ وَأَخَسُّهُ (الخَرَفُ أَوِ الهَرَمُ).
﴿أَيْمَانُهُمْ﴾
(٧١) - وَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّاسَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الرِّزْقِ، فَفَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنِ الذِينَ فَضَّلَهُمُ اللهُ بِالرِّزْقِ الوَفِيرِ لِيَقْبَلُوا فِي إِشْرَاكِ مَمَالِيكِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَهُمْ بَشَرٌُ مِثْلُهُمْ، وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا فَضلَ عَنْهُمْ مِنَ الرِّزْقِ عَلَى عَبِيدِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَيَتَسَاوَوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ فِي المَلْبَسِ وَالمَطْعَمِ وَالمَسْكَنِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَرْضُوا بِهَذِهِ المُسَاوَاةِ، مَعْ أَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. فَكَيْفَ يَرْضَوْنَ للهِ مَا لاَ يَرْضَوْنَ لأَنْفُسِهِمْ؟ وَكَيْفَ يُشْرِكُونَ عَبِيدَ اللهِ مَعَهُ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ؟ وَكَيْفَ يَجْحَدُ هؤلاءِ بِنِعْمَةِ اللهِ، وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ؟
فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ - أَفَهُمْ فِي الرِّزْقِ مُسْتَوُونَ؟ لاَ.
﴿أَزْوَاجاً﴾ ﴿أَزْوَاجِكُم﴾ ﴿الطيبات﴾ ﴿أفبالباطل﴾
(٧٢) - وَاللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلنَّاسِ أَزْوَاجاً مِنْ جِنْسِهِمْ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، يَأْنَسُونَ بِهِنَّ، وَتَقُومُ بِهِنَّ جَمِيعُ مَصَالِحِهِمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْهُنَّ بَنِينَ وَأَحْفَاداً (حَفَدَةً - أَوْلاَدَ الأَوْلاَدِ) وَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ (مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَشْرَبٍ...) وَكُلُّ هَذا مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ يَكْفُرُ الكَافِرُونَ بِاللهِ، وَيَجْحَدُونَ نِعَمَهُ، وَيُضِيفُونَهَا إِلَى غَيْرِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِالأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ (بِالبَاطِلِ) ؟
َحَفَدَةً - أَبْنَاءَ البَنِينَ - أَوْ خَدَماً وَأَعْوَاناً.
﴿السماوات﴾
(٧٣) - إِنَّ هَؤلاءِ المُشْرِكِينَ يَنْسَوْنَ نِعَمَ اللهِ كُلَّهَا عَلَيْهِمْ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ الأَصْنَامَ وَالأَنْدَادَ وَالأَوْثَانَ، وَمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِرِزْقٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَلاَ مِنَ الأَرْضِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْزِلَ المَطَرَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ زُرُوعاً أَوْ شَجَراً أَوْ ثَمَراً؛ وَلاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَوْ أَرَادَهُ (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ).
(٧٤) - وَإِذْ ثَبَتَ لَكُمْ عَدَمُ نَفْعِ غَيْرِ اللهِ لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَمْثَالاً، وَلاَ تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ (فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ) فَهُوَ سُبَحَانَهُ يَعْمَلُ وَيَشْهَدُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، وَأَنْتُمْ بِجَهْلِكُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ، وَلاَ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لاِ إِلهَ إِلاَّ هُوَ.
﴿رَّزَقْنَاهُ﴾ ﴿يَسْتَوُونَ﴾
(٧٥) - مَثَلُكُمْ فِي إِشْرَاكِكِمْ بِاللهِ الأَوْثَانَ وَالأَصْنَامَ، مَثَلُ مَنْ سَوَّى بَيْنَ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ عَاجِزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ حُرٍّ يَمْلِكُ مَالاً يُنْفِقُ مِنْهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يُرِيدُ، فَكَمَا أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ هَذِينِ الرَّجُلَيْنِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَفَاوُتٍ فِي القُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، كَذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الإِلهِ القَادِرِ عَلَى الرِّزْقِ وَالإِفْضَالِ، وَبَيْنَ الأَصْنَامِ التِي لاَ تَمْلِكُ شَيْئاً، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ.
﴿مَوْلاهُ﴾ ﴿صِرَاطٍ﴾
(٧٦) - وَضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ وَلِلألِهَةِ التِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكُونَ مِنْ أَصْنَامٍ وَغَيْرِهَا، مَثَلَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَخْرَسُ أَصَمُّ لاَ يَفْهَمُ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ، فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ عَالَةٌ عَلَى مَنْ يَعُولُهُ وَيَلِي أَمْرَهُ، وَإِذَا أَرْسَلَهُ مَوْلاَهُ فِي أَمْرٍ لاَ يَرْجِعُ بِنَجَاحٍ وَلاَ تَوْفِيقٍ.
وَالآخَرُ رَجُلٌ سَوِيٌّ، سَلِيمُ الحَوَاسِّ، عَاقِلٌ يَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَنْفَعُ غَيْرَهُ، يَأْمُرُ النَّاسَ بِالعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى سِيرَةٍ صَالِحَةٍ، وَدِينٍ قَوِيمٍ، فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ؟ وَكذَلِكَ الصَّنَمُ لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَنْطِقُ وَلاَ يَضُرُّ وَلاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ، وَهُوَ عَالَةٌ عَلَى َمْن يَصْعَنُهُ، وَهُوَ لاَ يَعْقِلُ وَلاَ يَنْطِقُ، فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا الصَّنَمُّ مَعَ اللهِ القَادِرِ القَاهِرِ، مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِ الوُجُودِ كُلِّهِ؟.
وَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِالعَدْلِ - وَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِهِ لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ.
أَبْكَمُ - أَخْرَسُ خِلْقَةً.
هُوَ كَلٌّ - عِبْءٌ وَعِيَالٌ.
﴿السماوات﴾
(٧٧) - وَللهِ عِلْمُ مَا غَابَ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، مِمَّا لاَ سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِهِ حِسّاً، وَلاَ فَهْمِهِ عَقْلاً، وَهُوَ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِعِلْمِ مَوْعِدِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقِيَامِ القِيَامَةِ. وَحُدُوثِ السَّاعَةِ التِي يَقِفُ الخَلاَئِقُ فِيهَا بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْحِسَابِ، كَرَجْعِ البَصَرِ، وَطَرْفَةِ العَيْنِ، فِي السُّرْعَةِ، فَاللهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئاً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ يُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾. وَاللهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ.
كَلَمْحِ البَصَرِ - كَخَطْفَةِ البَصَرِ، أَوِ اخْتِلاَسِ النَّظَرِ.
﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ ﴿الأبصار﴾
(٧٨) - ثُمَّ يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى مِنَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي إِخْرَاجِهِمْ مِنْ بُطُونِ أُمْهَاتِهِمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً، ثُمَّ بَعْدَ هَذا يَرْزُقُهُمُ السَّمْعَ، الذِي يُدْرِكُونَ بِهِ الأَصْوَاتَ، وَيُمَيِّزُونَهَا، وَالأَبْصَارَ التِي يَرَوْنَ بِهَا، وَالأَفْئِدَةَ (العُقُولَ)، التِي يَتَدَبَّرُونَ بِهَا الأُمُورَ، وَهُوَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى الإِنْسَانَ هَذِهِ الجَوَارِحَ لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَشُكْرِهِ عَلَى نِعَمِهِ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ النِّعَمِ، فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ.
وَإِذَا أَخْلَصَ العَبْدُ المُؤْمِنُ الطَّاعَةَ للهِ، كَانَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾ ﴿لآيَاتٍٍ﴾
(٧٩) - أَلَمْ يَنْظُرْ، هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ، إِلَى الطَّيْرِ مُذَلَّلاَتٍ لِلطَّيَرَانِ فِي الفَضَاءِ، بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، مَا يُمْسِكُهُنَّ فِي جَوِّ السَّمَاءِ عَنِ الوُقُوعِ إِلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقُدْرَتِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي ثِقَلِ أَجْسَامِهَا مَا يَقْتَضِي وُقُوعَها. وَلَوْ سَلَبَها اللهُ مَا أَعْطَاهَا مِنَ القُدْرَةِ عَلَى الطَّيَرَانِ لَمْ تَسْتَطِعِ النُّهُوضَ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّه دَلاَلاتٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ لاَ شَرِيكَ لَهُ.
﴿الأنعام﴾ ﴿أَثَاثاً﴾ ﴿وَمَتَاعاً﴾
(٨٠) - جَعَلَ اللهُ لِلنَّاسِ بُيُوتَهُمْ سَكَناً لَهُمْ يَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَيَسْتَتِرُونَ بِهَا، وَيَنْتَفِعُونَ مِنْهَا. وَجَعَلَ لَهُمْ مِمَّا عَلَى جُلُودِ الأَنْعَامِ مِنْ أَشْعَارٍ وَأَصْوَافٍ وَأَوْبَارٍ (أَوْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ جُلُودِهَا) بُيُوتاً يَسْتَخْفُونَ حَمْلَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ وَفِي إِقَامَتِهِمْ، كَمَا جَعَلَ النَّاسَ يَتَخِّذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الأَغْنَامِ وَأَوْبَارِ الجِمَالِ، وَأَشْعَارِ المَاعِزِ أَثَاثاً لِبُيُوتِهِمْ (مِنْ فُرُشٍ وَبُسُطٍ)، وَثِيَاباً يَلْبَسُونَهَا، وَمَالاً لِلتِّجَارَةِ، وَمَتَاعاً يَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى أَنْ تَحِينَ آجَالُهُمْ، (إِلَى حِينٍ).
تَسْتَخِفُّونَهَا - تَسْتَخِفُّونَ حَمْلَهَا، تَجِدُونَهَا خَفِيفَةً عَنِ الحَمْلِ.
يَوْمَ ظَعْنِكُمْ - وَقْتَ تِرْحَالِكُمْ.
أَثَاثاً - مَتَاعاً لِبُيُوتِكُمْ كَالفُرُشِ.
مَتَاعاً - تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعَايِشِكُمْ وَمَتَاجِرِكُمْ.
﴿ظِلاَلاً﴾ ﴿أَكْنَاناً﴾ ﴿سَرَابِيلَ﴾
(٨١) - وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مِمَّا خَلَقَ، مِنَ الشَّجَرِ وَالجِبَالِ، ظِلاَلاً يَفِيئُونَ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الجِبَالِ كُهُوفاً يَسْتَكِنُّونَ فِيهَا، وَمَعَاقِلَ (أَكْنَاناً)، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَاباً وَأَرْدِيَةً وَأَغْطِيَةً (سَرَابِيلَ) تَقِيهِمُ الحَرَّ (مِنَ القُطْنِ وَالصُّوفِ وَالكِتَّانِ... وَغَيْرِهَا)، وَسَرَابِيلَ تَقِيهِمْ بَأْسَ الحَدِيدِ وَالسِّلاَحِ فِي الحَرْبِ وَالقِتَالِ، (هِيَ الدُّرُوعَ مِنَ الحَدِيدِ المُصَفَّحِ وَالزَّرَدِ وَالجُلُودِ وَغَيْرِهَا...) وَهَكَذا يَجْعَلُ اللهُ لَكُمْ مَا تَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أُمُورِكُمْ، وَمَا تَحتَاجُونَ إِلَيْهِ لِيَكُونَ عَوْناً عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، لَعَلَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَتُسْلِمُونَ إِلَيْهِ.
الإِسْلاَمُ - اسْتِسْلاَمٌ وَسَكَنٌ وَرُكُونٌ.
ظِلالاً - أَشْيَاءَ تَسْتَظِلُّونَ بِهَا. ؟
أَكْنَاناً - مَوَاضِعَ تَسْتَكِنُّونَ فِيهَا (كَالغِيرَانِ).
سَرَابِيلَ - مَلاَبِسَ أَوْ دُرُوعاً.
تَقَيكُمْ بَأْسَكُمْ - تَقِيكُمُ الضَّرْبَ وَالطَّعْنَ أَثْنَاءَ القِتَالِ.
﴿البلاغ﴾
(٨٢) - فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى غَيِّهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَتَوَلَّوْا عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنْتَ لَهُمْ وَوَضَّحْتَ، وَأَبْلَغْتَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ... فَلاَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَلاَ تُهْلِكَ نَفْسَكَ حُزْناً عَلَيْهِمْ، فَأَنْتَ مُكَلَّفٌ بِإِبْلاغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الحَقِّ وَالهُدَى وَالإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَقَدْ أَدَّيْتَ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ.
﴿نِعْمَتَ﴾ ﴿الكافرون﴾
(٨٣) - وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بِجَمِيعِ هَذِهِ النِّعَمِ، وَمَعْ هَذا فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَأَصْبَحَ أَكْثَرُهُمْ كَافِرِينَ.
(٨٤) - وَحَذِّرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ اليَوْمُ الذِي يَبْعَثُ اللهُ فِيهِ الخَلْقَ مِنْ قُبُورِهِمْ لِلْحِسَابِ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ عَلَيْهَا هُوَ نَبِيُّها، يَشْهَدُ عَلَيْهَا، بِمَا أَجَابَتْهُ بِهِ حِينَمَا بَلَغَهَا رِسَالَةَ رَبِّهِ، ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا - بَعْدَ شَهَادَةِ الأَنْبِيَاءِ - بِالكَلاَمِ وَالاعْتِذَارِ، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بُطْلاَنِ مَا سَيَعَتَذِرُونَ بِهِ وَكَذِبَهُ، وَلاَ يُطلَبُ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَرْضُوا رَبَّهُمْ، وَيُزِيلُوا عَتَبَهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، لأنَّهُ قَدْ فَاتَ أَوَانُ العِتَابِ وَالاسْتِرْضَاءِ.
وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ - لاَ يُطْلَبُ مِنْهُمُ اسْتِرْضَاءُ رَبِّهِمْ.
﴿رَأى﴾
(٨٥) - وَحِينَ يَرَى الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأَشْرَكُوا بِهِ، وَكَذَّبُوا رُسَلَهُ، العَذَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلاَ يُنْجِيهِمْ مِنْهُ شَيءٌ، إِذْ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ بِالاعْتِذَارِ فَيَعْتَذِرُونَ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ، بِهَذَا العُذْرِ، وَلاَ يُمْهَلُونَ لِلتَّوْبَةِ، لأَنَّ وَقْتَ التَّوْبَةِ قَدْ فَاتَ، فَيَأْخُذُهُمُ العَذَابُ سَرِيعاً دُونَ إِبْطَاءٍ، وَيَكُونُ عَذَابُهُمْ مُسْتَمِرّاً مُتَوَاصِلاً فِي شِدَّتِهِ، لاَ يَتَوَقَّفُ لَحْظَةً، وَلاَ يُخَفَّفُ وَلاَ يَفْتُرُ.
لاَ يُنْظَرُونَ - لاَ يُمْهَلُونَ وَلاَ يُؤَخَّرُونَ.
﴿رَأى﴾ ﴿نَدْعُوْا﴾ ﴿لَكَاذِبُونَ﴾
(٨٦) - وَحِينَ يَرَى المُشْرِكُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ آلِهَتَهُمُ الذِينَ أَشْرَكُوهُمْ بِالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ، يَقُولُونَ للهِ العَظِيمِ الجَبَّارِ: رَبَّنَا هؤلاءِ هُمُ الذِينَ كُنَّا نَعْبُدُهُمْ مِنْ دُونِكَ. وَيَسْأَلُونَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، لأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبَ كُفْرِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ، وَصَرْفِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ الحَقِّ، فَيَرُدُّ هؤلاءِ المَعْبُودُونَ عَلَى المُشْرِكِينَ قَائِلِينَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْكُمْ بِعِبَادَتِنَا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَعْبُدُونَا وَلَكِنْ عَبَدْتُمْ أَهْوَاءَكُمْ.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(٨٧) - وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَجِدُ المُشْرِكُونَ أَنْفُسَهُمْ فُرَادَى ضِعَافاً أَمَامَ اللهِ القَوِيِّ الجَبَّارِ، وَيُعَايِنُونَ العَذَابَ وَيَتَلَفَّتُونَ فَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَاصِراً مِنْ دُونِهِ، وَيَتَذَكَّرُونَ كُفْرَهُمْ وَإِجْرَامَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، فَيَذِلُّونَ وَيَسْتَكِينُونَ للهِ.
(وَقِيلَ إِنَّ الأَرْبَابَ هُمُ الذِينَ يُلْقُونَ السَّلَمَ للهِ، وَالوَاقِعُ أَنَّهُمْ جَمِيعاً العَابِدُونَ وَالمَعْبُودُونَ يَلْقَونَ السَّلَمَ للهِ العَظيمِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ).
وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُمْ وَتَلاَشَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ افْتِرَاءً وَكَذِباً عَلَى اللهِ.
السَّلَمَ - الاسْتِسْلاَمَ وَالانْقِيَادَ لِحِكْمَةِ اللهِ.
﴿زِدْنَاهُمْ﴾
(٨٨) - أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَقَامُوا بِصَدِّ النَّاسِ عَنِ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ فَيَزِيدُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَذَاباً، يُعَذِّبُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنِ الإِيمَانِ، وَعَلَى الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ.
(وَهَذا دَلِيلٌ عَلَى تَفَاوُتِ الكُفَّارِ فِي العَذَابِ).
﴿الكتاب﴾ ﴿تِبْيَاناً﴾
(٨٩) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِكُفَّارِ قَوْمِكَ مَا سَيَحْصُلُ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِذْ يُحْضِرُ اللهُ نَبِيَّ كُلِّ أُمَّةٍ لِيَكُونَ شَاهِداً عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّهُ دَعَاهَا إِلَى اللهِ، وَأَنْذَرَها عِقَابَهُ، وَحَذَّرَهَا عَذَابَهُ، ثُمَّ نَأْتِي بِكَ لِتَشْهَدَ عَلَى قَوْمِكَ (هَؤُلاءِ)، وَمَا أَجَابُوكَ بِهِ حِينَ دَعَوْتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ. وَقَدْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِنُبَيِّنَ لِلنَّاسِ عِلْمَ كُلِّ شَيءٍ يَحْتَاجُهُ النَّاسُ، فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَفِي أُمُورِ مَعَاشِهِمْ، وَهُوَ هُدًى لِلْقُلُوبِ، وَرَحْمَةٌ مْنَ اللهِ بِعِبَادِهِ، إِذْ يَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقِ الخَيْرِ وَالرَّشَادِ، وَفِيهِ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ الجَنَّةَ.
﴿الإحسان﴾ ﴿وَإِيتَآءِ﴾
(٩٠) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ، وَيَنْدُبُ إِلَى الإِحْسَانِ وَالفَضْلِ، وَيَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحْمِ وَإِعْطَاءِ ذَوِي القُرْبَى مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَيَنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ وَالفَوَاحِشِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، مِمَّا يَأْتِيهِ العَبْدُ سِرّاً وَخِفْيَةً وَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالخَيْرِ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَالشَّرِّ، لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطْرَةِ مِنْ وَحْيٍ قَوِيمٍ أَصِيلٍ، فَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ.
العَدْلِ - الاعْتِدَالِ وَالتَّوَسُّطِ فِي الأَمْرِ.
الإِحْسَانِ - إِتْقَانِ العَمَلِ، أَوْ نَفْعِ الخَلْقِ.
الفَحْشَاءِ - الذُّنُوبِ المُفْرَطَةِ فِي القُبْحِ.
المُنْكَرِ - مَا تُنْكِرُهُ العُقُولُ مِنَ المَسَاوِئِ.
البَغْيِ - الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي وَالتَّطَاوُلِ عَلَى النَّاسِ.
﴿عَاهَدتُّمْ﴾ ﴿الأيمان﴾
(٩١) - وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ إِذَا وَاثَقْتُمُوهُ، وَعَقْدِهُ إِذَا عَاقَدْتُمُوهُ، فَأَوْجَبْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ حَقّاً لِمَنْ عَاقَدْتُمُوهُمْ وَوَاثَقْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ (وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ يَلْتَزِمُ بِهِ الإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ) وَأَشْهَدْتُمُ اللهَ عَلَى الوَفَاءِ بِهِ. وَلا تُخَالِفُوا مَا عَقَدْتُمْ فِيهِ الأَيمَانَ، وَشَدَّدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ شَاهِداً وَرَاعِياً عَلَيْكُمْ فِي الوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ مِنْ وَفَاءٍ وَحَلْفٍ، وَبِرٍّ وَحَنْثٍ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تَفْعَلُونَ.
كَفْيلاً - شَاهِداً أَوْ رَقِيباً أَوْ ضَامِناً.
﴿أَنكَاثاً﴾ ﴿أَيْمَانَكُمْ﴾ ﴿القيامة﴾
(٩٢) - قِيلَ إِنَّهُ كَانَتْ فِي مَكَّةَ امْرَأَةٌ مُلْتَاثَةُ العَقْلِ تَغْزِلُ غَزْلَهَا فِي النَّهَارِ، ثُمَّ تَعُودُ فَتَنْقُضُهُ فِي اللَّيْلِ (أَنْكَاثاً)، وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى فِعْلَ هَذِهِ المَرْأَةِ المُلْتَاثَةِ العَقْلِ مَثَلاً لِلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ تَحْقِيراً لَهُمْ، وَتَقْبِيحاً لِفِعْلِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلاَ تَكُونُوا يَا أَيُّهَا القَوْمِ فِي نَقْضِكُمْ أَيْمَانَكُمْ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، وَإِعْطَائِكُمْ رَبَّكُمُ العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ، كَمَنْ تَنْقُضُ غَزْلَهَا بَعْدَ إِبْرَامِهِ حَمَاقَةً وَجَهْلاً. إِذْ تَجْعَلُونَ أَيْمَانَكُمُ التِي تَحْلِفُونَهَا عَلَى أَنَّكُمْ مُوفُونَ بِالعَهْدِ الذِي عَاهَدْتُمْ عَلَيْهِ، وَسِيلَةً لِلْخِدَاعِ، وَلِغِشِّ مَنْ عَاقَدْتُمُوهُمْ لِيَطْمَئِنُّوا إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ تَضْمِرُونَ الغَدْرَ وَعَدَمَ الوَفَاءِ، إِذَا وَجَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنَ الجَمَاعَةِ التَي تَعَاقَدْتُمْ مَعَهَا، وَأَكْثَرُ عَدَداً، فَإِذَا وَجَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنَ الجَمَاعَةِ التِي تَعَاقَدْتُمْ مَعَها، تَحَالَفْتُمْ مَعَهُ، وَحَنِثْتُمْ بِأَيْمَانِكُمْ التِي أَقْسَمْتُمُوهَا لِلجَمَاعَةِ الأُوْلَى (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ).
وَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالوَفَاءِ بِالعُهُودِ لِيَخْتَبِرَكُمْ وَيَمْتَحِنَكُمْ، وَيَبْلُوَ إِيمَانَكُمْ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ - مِنء بَعْدِ إِبْرَامٍ وَإِحْكَامٍ.
أَنْكَاثاً - أَنْقَاضاً مَحْلُولَةَ الفَتْلِ.
دَخَلاً بَيْنَكُمْ - مَفْسَدَةً وَخِيَانًَ وَخَدِيعَةً بَيْنَكُمْ.
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ - أَنْ تَكُونَ جَمَاعَةٌ.
هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ - أَكْثَرُ عَدَداً وَأَعَزُّ نَفَراً أَوْ أَوْفَرُ مَالاً.
يَبْلُوَكُمْ - يَخْتَبِركُمْ.
﴿وَاحِدَةً﴾ ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ﴾
(٩٣) - وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ، يَاأَيُّهَا النَّاسُ، أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَوَفَّقَ بَيْنَكُمْ، وَأَزَالَ مَا بَيْنَكُمْ مِنِ اخْتِلاَفٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، ثُمَّ يَسْأَلُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا الجَزَاءَ الأَوْفَى.
﴿أَيْمَانَكُمْ﴾
(٩٤) - وَلاَ تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ، التِي تَحْلِفُونَها فِيمَا تَتَعَاهَدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، خَدِيعَةً تَغُرُّونَ بِهَا النَّاسَ (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) فَإِنَّكُمْ بِعَمَلِكُمْ هَذَا تَكُونُونَ قَدْ وَقَعْتُمْ فِي ثَلاَثٍ مِنَ المَحْضُورَاتِ:
أ - أَنَّكُمْ تَضِلُّونَ وَتَبْتَعِدُونَ عَنْ طَرِيقِ الهُدَى، بَعْدَ أَنْ رَسَخَتْ أَقْدَامُكُمْ فِيهَا (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا).
ب - أَنَّكُمْ تَكُونُونَ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِسِوَاكُمْ، وَتَسُنُّونَ سُنَّةً لِغَيْرِكُمْ فِيهَا صَدٌّ لِلنَّاسِ عَنْ سَبِيلِ الحَقِّ.
ج - أَنَّكُمْ سَتُعَاقَبُونَ عَلَى فِعْلِكُمْ هَذا فِي الآخِرَةِ جَزَاءَ مَا اجْتَرَحْتُمْ مِنْ مُجَانَبَةِ الحَقِّ، وَالإِعْرَاضِ عَنْ أَهْلِهِ.
(٩٥) - وَلاَ تَطْمَعُوا فِي أَنْ تَأْخُذُوا مُقَابِلَ نَقْضِ العَهْدِ المَذْكُورِ عِوَضاً يَسِيراً مِنْ عُرُوضِ الدُّنيا الفَانِيَةِ، فَهُوَ قَلِيلٌ مَهْمَا كَانَ كَثِيراً، فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُحَافِظِينَ عَلَى العُهُودِ، بِجَزِيلِ الثَّوَابِ فِي الآخِرَةِ.
(وَهَذِهِ الآيَاتُ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَبَايَعُوا الرَّسُولَ ﷺ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنْقُضُوا مَا بَايَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ، جَزَعاً مِمَّا رَأَوُا مِنْ غَلَبَةِ قُرَيْشٍ، وَاسْتِضْعَافِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِمَا كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ وَعْدٍ بِجَزِيلِ العَطَاءِ إِنِ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ).
(٩٦) - مَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ حُطَامِ الدُّنيا يَنْفَدُ وَيَفْنَى، وَمَا تَحْصُلُونَ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ الغَدْرِ وَنَقْضِ العَهْدِ، وَالحَنْثِ بِالأَيْمَانِ، كُلُّهُ يَنْفَدُ، لأَنَّهُ عَرَضٌ زَائِلٌ، أَمَّا ثَوابُ اللهِ لَكُمْ فِي الجَنَّةِ فَهُوَ بَاقٍ، وَلاَ انْقِطَاعَ لَهُ وَلاَ نَفَادَ، لأَنَّهُ دَائِمٌ لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ. وَيُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيَجْزِي الصَّابِرِينَ عَلَى صَبْرِهِمْ، وَهُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ، لأَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ تَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ، وَهُوَ أُسُّ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَحِينَ يَجْزِي اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعِدُهُمْ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ.
يَنْفَدُ - يَنْقَضِي وَيَفْنَى وَيَزُولُ.
﴿صَالِحاً﴾ ﴿حَيَاةً﴾
(٩٧) - مَنْ عَمِلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ، مُصَدِّقٌ كُتُبَهُ وَرُسُلَهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعِدُهُ بِأَنْ يُحْيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، تَصْحَبُهَا القَنَاعَةُ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ، وَالرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ وَقَضَاهُ، إِذْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقٍ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ بِتَدْبِيرِ اللهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ، وَاللهُ مُحْسِنٌ كَرِيمٌ، لاَ يَفْعَلُ إِلاَّ مَا فِيهِ المَصْلَحَةُ، وَفِي الآخِرَةِ يَجْزِيهِ اللهُ الجَزَءَ الأَوْفَى، وَيُثِيبَهُ أَحْسَنَ الثَّوَابِ، جَزَاءَ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَمَا تَحَلَّى بِهِ مِنْ إِيمَاٍن.
﴿القرآن﴾ ﴿الشيطان﴾
(٩٨) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ.
اسْتَعِذْ بِاللهِ - اعْتَصِمْ بِاللهِ وَالْجَأْ إِلَيْهِ.
﴿سُلْطَانٌ﴾ ﴿آمَنُواْ﴾
(٩٩) - وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ سُلْطَةَ لَهُ وَلاَ سُلْطَانَ عَلَى المُؤْمِنِينَ المُتَوَّكِلِينَ عَلَى اللهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ ذَنْبٍ لاَ يَتُوبُونَ مِنْهُ.
سُلْطَانٍ - تَسَلُّطٌ أَوْ وِلاَيَةٌ.
﴿سُلْطَانُهُ﴾
(١٠٠) - إِنَّمَا تَسَلُّطُهُ بِالغَوَايَةِ وَالضَّلاَلَةِ يَكُونُ عَلَى الذِينَ يَجْعَلُونَهُ نَصِيراً فَيُحِبُّونَهُ وَيُطِيعُونَهُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَتِهِ، وَالذِينَ هُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِهِ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ.
يَتَوَلَّوْنَهُ - يَتَّخِذُونَهُ وَلِيّاً مُطَاعاً.
﴿آيَةً﴾
(١٠١) - وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمَ آيَةٍ أُخْرَى، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِخَلْقِهِ، فِيمَا يُبْدِّلُ مِنْ أَحْكَامٍ، قَالَ المُشْرِكُونَ المُكَذِّبُونَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ مُتَقَوِّلٌ عَلَى اللهِ، تَأْمُرُ بِشَيءٍ، ثُمَّ تَعُودُ فَتَنْهَى عَنْهُ، وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّبْدِيلِ مِنْ حِكَمٍ بَالِغَةٍ. وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُنْكِرُونَ الفَائِدَةَ عِنَاداً وَاسْتِكْبَاراً.
﴿آمَنُواْ﴾
(١٠٢) - قُلْ لَهُمْ: إِنَّ القُرْآنَ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ مِنْ رَبِّي مَعَ جِبْرِيلَ الرُّوحِ الطَّاهِرِ، مُقْتَرِناً بِالحَقِّ وَمُشْتَمِلاً عَلَيْهِ لِيُثَبِّتَ بِهِ المُؤْمِنِينَ، وَلِيَهْدِي بِهِ النَّاسَ إِلَى الخَيْرِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَعَالِيمٍ وَأَحْكَامٍ، فَهُوَ هَادٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَبَشِيرٌ لَهُمْ بِحُسْنِ الثَّوَابِ عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ.
رُوحُ القُدُسِ - الرُّوحُ المُطَهَّرُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
(١٠٣) - كَانَ المُشْرِكُونَ يَفْتَرُونَ كَذِباً عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَقُولُونَ إِنَّ الذِي يُعَلْمُ مُحَمَّداً القُرْآنَ هُوَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَكَانَ غُلاَماً لِبَعْضِ بُطُونِ قُرْيَشٍ، وَبِيَّاعاً عِنْدَ الصَّفَا. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى رَدّاً عَلَى هَؤُلاءِ المُفْتَرِينَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الكُفَّارَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّداً يَتَلَقَى القُرْآنُ مِنْ رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ يُسَمْونَهُ، وَلَكِنَّ هَذا الرَّجُلِ الأَعْجَمِيِّ لاَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ هَذَا الأَعْجَمِيُّ أَنْ يَأْتِي بِمِثْلِ هَذا القُرآنِ فِي بَلاَغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَإِحْكَامِهِ، وَقَدْ تَحَدَّى اللهُ تَعَالَى قُرَيْشاً - وَالعَرَبَ جَمِيعاً - وَهُمْ أَهْلُ الفَصَاحَةِ وَاللّسَنِ، أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ أَنْ يَأْتُوا بِآيَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا.
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ - يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيَنْسُبُونَ.
﴿بِآيَاتِ﴾
(١٠٤) - إِنَّ الذِينَ لاَ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بَلْ يَقُولُونَ إِنَّهَا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ... لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ تَعَالَى إلى مَعْرِفَةِ الحَقِّ الذِي يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ اسْتِعْدَادِهِمْ بِمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ، جَزَاءَ مَا نَصَبُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ مِنَ العِدَاءِ لِلرَّسُولِ ﷺ وَرِسَالَتِهِ.
﴿بِآيَاتِ﴾ ﴿الكاذبون﴾ ﴿أولئك﴾
(١٠٥) - يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ رَسُولَهُ مٌحَمَّداً ﷺ لَيْسَ بِمُفْتَرٍ، وَلاَ كَذَّابٍ، لأَنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هُمْ شِرَارُ الخَلْقِ، الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَآيَاتِهِ مِنَ الكُفْرِ المُلْحِدِينَ المَعْرُوفِينَ بِالكَذِبِ عِنْدَ النَّاسِ، وَمُحَمَّدُ كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ، وَأَبَرَّهُمْ وَأَكْمَلَهُمْ عِلْماً وَأَخْلاَقاً، وَكَانَ يُعْرَفُ بِالأَمِينِ عِنْدَ قَوْمِهِ، فَهُوَ لاَ يَفْتَرِي الكَذِبَ عَلَى اللهِ.
﴿إيمَانِهِ﴾ ﴿بالإيمان﴾
(١٠٦) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ الذِي كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالكُفْرِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباًَ أَلِيماً فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، لأَنَّهُ ارْتَدَّ عَنِ الإيمَانِ لأَجْلِ الدُّنْيا، وَلأَنَّهُ عَلِمَ بِالإِيمَانِ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ، وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ.
وَيَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ المَصِيرِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الكُفْرِ، فَارْتَدَّ عَنِ الإِسْلاَمِ بِلِسَانِهِ، وَوَافَقَ المُشْرِكِينَ بِلَفْظِهِ مُكْرَهاً، لِمَا نَالَهُ مِنْ أَذًى، وَبَقِيَ مُؤْمِناً بِقَلْبِهِ مُطْمَئِناً بِالإِيمَانِ. فَمِثْلُ هَذا المُكْرَهِ يُمْكِنُ أَنْ يَغْفِرُ اللهُ لَهُ، إِذَا عَلِمَ صِدْقَ نِيَّتِهِ.
﴿الحياة﴾ ﴿الآخرة﴾ ﴿الكافرين﴾
(١٠٧) - وَذَلِكَ الغَضَبُ مِنَ اللهِ، وَذَلِكَ العَذَابُ العَظِيمُ، إِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ هؤُلاَءِ لأَنَّهُمْ آثَرُوا الحَيَاةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا عَلَى نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَإِنَّ اللهَ لاَ يُوَفِّقُ مَنْ يَجْحَدُ آيَاتِهِ، وَيُصِرُّ عَلَى إِنْكَارِهَا، لأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ فَقَدَ الاسْتِعْدَادَ لِسُبُلِ الخَيْرِ بِمَا زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنَ الكُفْرِ.
اسْتَحَبُّوا - اخْتَارُوا أَوْ آثَرُوا.
﴿أولئك﴾ ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾ ﴿الغافلون﴾
(١٠٨) - وَهَؤُلاَءِ الذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ قَدْ خَتَمَ اللهُ (طَبَعَ) عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ فَلَمْ يَعُودُوا يَنْتَفِعُونَ بِجَوَارِحِهِمْ، فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ.
﴿الآخرة﴾ ﴿الخاسرون﴾
(١٠٩) - حَقّاً وَبِلاَ شَكٍّ فِي أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ فِي الآخِرَةِ الخَاسِرُينَ الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، لأَنَّهُمْ بَخَسُوهَا حُظُوظَهَا، وَصَرَفُوا أَعْمَارَهُمْ فِيمَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى العَذَابِ.
لاَ جَرَمَ - لاَ شَكَّ أَوْ حَقَّ وَثَبَتَ.
﴿جَاهَدُواْ﴾
(١١٠) - وَهؤُلاَءِ صِنْفٌ آخَرُ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُهَانِينَ فِي قَوْمِهِمْ، فَوَافَقُوهُمْ عَلَى الفِتْنَةِ، ثُمَّ أَمْكَنَهُمُ الخَلاَصُ بَعْدَ الهِجْرَةِ، فَتَرَكُوا بِلادَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَغُفْرَانِهِ، وَالتَحَقُوا بِالمُؤْمِنِينَ، وَجَاهَدُوا مَعَهُمْ، فَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ مِنْ بَعْدِ أَفْعَالِهِمْ (مِنْ بَعْدِهَا)، وَمِنْ بَعْدِ هَذِهِ الاسْتِجَابَةِ إِلَى الفِتْنَةِ، لَغَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
فُتِنُوا - عُذِّبُوا وَابْتُلُوا بِسَبَبِ إِسْلاَمِهِمْ.
﴿تُجَادِلُ﴾
(١١١) - وَإِنَّ رَبَّكَ سَيَغْفِرُ لِهَؤُلاَءِ المُكْرَهِينَ الذِينَ هَاجَرُوا، حِينَمَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ، إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَسَيَرْحَمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ اليَوْمُ الذِي تَأْتِي فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ تُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهَا، وَتُحَاجُّ عَنْهَا، وَتَسْعَى فِي خَلاَصِهَا بِمَا أَسْلَفَتْ فِي الدُّنْيا مِنْ عَمَلٍ، وَتَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ فِي الدُّنْيا فَتُعْطَاهُ (تُوَفَّى)، وَتُجَازَى بِهِ.
وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ، فَلاَ يُنْقِصُ مِنْ حَسَنَاتِ المُسِيءِ، وَلاَ يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِهِ.
﴿آمِنَةً﴾ ﴿فَأَذَاقَهَا﴾ ﴿مُّطْمَئِنَّةً﴾
(١١٢) - جَعَلَ اللهُ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلَ حَالِ هَذِهِ القَرْيَةِ، التِي كَانَتْ آمِنَةً لاَ تَخَافُ عَدُوّاً، وَقَدْ تَدَفَّقَ الرِّزْقُ الوَفِيرُ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَكَفَرَ أَهْلُهَا بِأَنْعُمِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الخَوْفَ، وَأَذَاقَهُمْ مَرَارَةَ الجُوعِ. كَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ مَكَّة، فَقَدْ كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِها، وَمَنْ دَخَلَهَا كَانَ آمِناً، لاَ يَخَافُ شَيْئاً، وَكَانَ الرِّزْقُ الوَفِيرُ يَتَدَفَّقُ عَلَيْهَا هَنِيئاً سَهْلاً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَمَكَانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ، وَجَحَدَتْ بِهَا، وَأَعَظْمُ هَذِهِ النِّعَمُ هِيَ بِعْثَةُ رَسُولٍ مِنْهُمْ. وَلِهَذا بَدَّلَ اللهُ أَهْلَهَا بِحَالَيْهِمْ (الأَمْنِ وَالعَيْشِ الرَّغِيدِ)، بِحَالَيْنِ جَدِيدَيْنِ، هُمَا: (الجُوعُ وَالخَوْفُ - لِبَاسَ الجُوْعِ وَالخَوْفِ) فَقَدْ جَاءَتْهُمْ سِنُونَ شِدَادٌ فَجَاعُوا، وَهَاجَرَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى المَدِينَةِ فَكَانَتْ سَرَايَا المُسْلِمِينَ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى قَوَافِلِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَخَافُوا. وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ عِقَاباً لَهُمْ مِنَ اللهِ بِسَبَبِ سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَبَغْيِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ رَبِّهِمْ.
﴿ظَالِمُونَ﴾
(١١٣) - لَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ، وَيُذَكِّرَهُمْ بِمِنَنِ اللهِ عَلَيْهِمْ، إِذْ جَعَلَ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يَتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ بَدَلاً مِنَ الشُّكْرِ كَذَّبُوا الرَّسُولَ، وَاسْتَكْبَرُوا، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ، وَأَذَلَّهُمُ اللهُ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَبَغْيِّهِمْ، فَهُزِمُوا فِي بَدْرٍ، وَتَتَالَتْ هَزَائِمُهُمْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ.
﴿حَلالاً﴾ ﴿نِعْمَتَ﴾
(١١٤) - فَكُلُوا يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ التِي أَحَلَّهَا لَكُمْ، وَذَرُوا مَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَبَائِثِ، وَاشْكُرُوا رَبَّكُمْ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلاَ تُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ أَحَداً، فَهُوَ المَعْبُودُ المُنْعِمُ.
(١١٥) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى مَا حَرَّمَ عَلَى المُؤْمِنِينَ مِنَ الطَّعَامِ مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، مِنَ المَيْتَةِ وَلَحْمِ الخِنْزِيرِ وَالدَّمِ المَسْفُوحِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ. فَمَنْ اضَطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ المُحَرَّمَةِ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فِي حُدُودِ إِزَالَةِ الضَّرُورَةِ، لِيَقِيَ نَفْسَهُ الهَلاَكَ، وَدُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّداً العُدْوَانَ وَالبَغْيَ، وَتَجَاوُزَ مَا حَرَّمَ اللهُ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ ذَلِكَ، لأنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الدَّمُ المَسْفٌوحَ - السَّائِلَ أَوِ المُهْرَاقَ.
لَحْمُ الخِنْزِيرِ - بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ - ذُكِرَ عِنْدَ ذَبْحِهِ اسْمٌ غَيْرُ اسْمِ اللهِ.
اضْطُرَّ - أَلْجَأَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى التَّنَاوُلِ مِنْهُ.
غَيْرَ بَاغٍ - غَيْرَ طَالِبٍ لِلْحَرَامِ لِلَذَّةٍ.
عَادٍ - مُتَجَاوِزٍ مَا يَسَدُّ الرَّمَقَ، وَيُزِيلُ الضَّرُورَةَ.
﴿حَلاَلٌ﴾
(١١٦) - وَلاَ تَقُولُوا عَنْ شَيءٍ هَذَا حَرَامٌ، وَهَذا حَلاَلٌ، إِذَا لَمْ يَأْتِكُمْ حِلُّهُ وَتَحْرِيمُهُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَالَّذِي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ.
(وَيَدْخُلُ فِي هَذا ابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ تَحْلِيلُ شَيءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ، أَوْ تَحْرِيمُ شَيءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِّ وَالهَوَى).
ثُمَّ يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَفْتَرُونَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ، وَيَقُولُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا، وَلاَ فِي الآخِرَةِ.
﴿مَتَاعٌ﴾
(١١٧) - فَالمَنَافِعُ التِي يَحْصُلُ عَلَيْهَا هؤُلاَءِ المُحَلِّلُونَ وَالمُحَرِّمُونَ مِنْ هَذا التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الذِي لاَ مُسْتَنَدَ شَرْعِيّاً لَهُمْ فِيهِ مِنْ شَرْعِ اللهِ، هِيَ تَافِهَةٌ حَقِيرَةٌ، لاَ يَعْتَدُّ بِهَا عَاقِلٌ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا سَتَكُونُ عَظِيمَةُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ، وَسَتَجْعَلُهُ يَدْخُلُ نَارَ جَهَنَّمَ لِيَلْقَى فِيهَا العَذَابَ الأَلِيمَ الذِي وَعَدَهُ اللهُ بِهِ.
﴿ظَلَمْنَاهُمْ﴾
(١١٨) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَى اليَهُودِ فِي شَرْعِهِمْ مَا قَصَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ الكَرِيمِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الآيَةِ (فِي سُوَرةِ الأَنْعَامِ إِذْ جَاءَ فِيهَا ﴿شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ وَهُنَا يَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى اليَهُودِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَبَغْيِّهِمْ، وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَاسْتَحَقُّوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَظْلِمْهُمُ اللهُ، وَإِنَّمَا هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
﴿بِجَهَالَةٍ﴾
(١١٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ تَكْرُّمِهِ وَتَفَضُّلِهِ عَلَى المُؤْمِنِينَ العُصَاةِ، الذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، بِأَنَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، إِذَا تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا رَبَّهُمْ، وَعَمِلُوا عَمَلاً صَالِحاً يَرْضَاهُ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ.
(وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ يَعْنِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الفِعْلَةِ).
وَالَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ هُمُ الَّذِينَ يُقَارِفُونَ الفِعْلَ المُحَرَّمِ فِي لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ الطَّيْشِ وَالانْفِعَالِ وَالضَّعْفِ الإِنْسَانِيِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُقَارِفُونَ مُحَرَّماً مُنْكَراً، وَيَشْعُرُونَ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِهِمْ بِالنَّدَمِ وَوَخْزِ الضَّمِيرِ لِمَا يَرْتَكِبُونَهُ حِينَمَا يَرْتَكِبُونَهُ. ثُمَّ لاَ يَلْبَثُونَ - حِينَمَا تَهْدَأُ نُفُوسُهُمْ وَيَثُوبُونَ إِلَى رُشْدِهِمْ - أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ، وَيَسْتَغْفِرُوهُ، وَيَشْعُرُوا بِالنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ.
بِجَهَالَةٍ - بِتَعَدِّي الطَّوْرِ وَرُكُوبِ الرَّأْسِ.
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾
(١٢٠) - يَمُدُّ اللهُ عَبْدَهُ إِبْرَاهِيمَ، إِمَامَ الحُنَفَاءِ، وَيُبَرِّئُهُ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَمِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ أَمَّةً (أَيْ إِمَاماً يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ) خَاشِعاً مُطِيعاً للهِ، مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ، وَمَائِلاً إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكِينَ.
أُمَّةً - مُعَلِّماً لِلْخَيْرِ، وَمُؤْمِناً وَحْدَهُ.
قِانِتاً - مُطِيعاً خَاشِعاً للهِ.
حَنِيفاً - مَائِلاً عَنِ البَاطِلِ إلى الدِّينِ القَوِيمِ.
﴿اجتباه﴾ ﴿وَهَدَاهُ﴾ ﴿صِرَاطٍ﴾
(١٢١) - وَكَانَ قَائِماً بِشُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَارَهُ اللهُ لِلنُّبُوَّةِ وَاصْطَفَاهُ (اجْتَبَاهُ)، مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ، وَهَدَاهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَهِيَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ.
اجْتَبَاهُ - اصْطَفَاهُ وَاخْتَارَهُ لِلنُّبُوَّةِ.
﴿وَآتَيْنَاهُ﴾ ﴿الآخرة﴾ ﴿الصالحين﴾
(١٢٢) - وَقَدْ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بِأَنْ جَعَلَهُ نَبِيّاً، وَإِمَاماً لِلْقَانِتِينَ، وَأَباً لِلأَنْبِيَاءِ، وَسَيَكُونُ حَالُهُ فِي الآخِرَةِ افْضَلُ لأنَّهُ سَيَكُونُ مَنَ الصَّالِحِينَ الذِينَ يَرْضَى اللهُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ.
﴿اتبع﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾
(١٢٣) - ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْتَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي مَيْلِهِ إِلَى الإِيمَانِ، وَبُعْدِهِ وَانْحِرَافِهِ عَنِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِناً قَانِتاً خَاشِعاً للهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكِينَ.
مِلَّةَ إَِبْرَاهِيمَ - شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ التَّوْحِيدِ.
﴿القِيَامَةِ﴾
(١٢٤) - شَرَعَ اللهُ لِكُلِّ مِلَّةٍ يَوْماً مِنَ الأُسْبُوعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، فَشَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الجُمْعَةِ لأَنَّهُ اليَوْمُ السَّادِسُ الذِي أَكْمَلَ اللهُ فِيهِ خَلْقَ العَالَمِ.
وَقِيلَ إِنَّ اللهَ شَرَعَ يَوْمَ الجُمْعَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى فَعَدَلُوا عَنْهُ، وَاخْتَارُوا السَّبْتَ لأَنَّهُ اليَوْمُ الذِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهِ الرَّبُ شَيْئاً، فَأَلْزَمَهُمُ اللهُ بِهِ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَوَصَّاهُمْ بِأَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَبِأَنْ يُحَافِظُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ السَّبْتِ فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ جَعَلَ وَبَالَ الاعْتِدَاءِ فِي السَّبْتِ (وَهُوَ المَسْخُ) عَلَى الَّذِينَ اعْتَدُوا فِيهِ، فَاسْتَحَلُّوا الصَّيْدَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ وَاجِبِ اليَهُودِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِتَعْظِيمِ السَّبْتِ، وَالكَفِّ عَنِ الصَّيْدِ فِيهِ، كَمَا جَعَلَ الوَبَالَ الذِي يَلْحَقُ بِالَّذِينَ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مِنَ المُشْرِكِينَ، عَلَيْهِمْ هُمْ، وَسَيَحْكُمُ اللهُ بَيْنَ هَؤلاَءِ وُهؤُلاَءِ، فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا، حِينَمَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
﴿وَجَادِلْهُمْ﴾
(١٢٥) - ادْعُ يَا مُحَمَّدُ قَوْمَكَ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقِ اللهِ، طَرِيقِ الحَقِّ الذِي شَرَعَهُ اللهُ لِلنَّاسِ، وَاسْتَعْمِلْ فِي دَعْوَتِكَ مَعْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الوَسِيلَةَ النَاجِعَةَ مَعَهُ، وَالطَّرِيقَةَ المُنَاسِبَةَ، وَجَادِلْ أَهْلَ الكِتَابِ بِالحُجَّةِ وَالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالعِبَارَةِ الحَسَنَةِ التِي لاَ تَشُوبُهَا قَسْوَةٌ وَلاَ عُنْفٌ، لِيَسْتَمِرَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمُ الحِوَارُ وَالجَدَلُ وَالنِّقَاشُ، فَتَسْتَطِيعَ إِقْنَاعَهُمْ بِصِحَّةِ دَعْوَتِكَ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِكَ، وَاتَرْكُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَهُمْ للهِ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَنْ ضَلَّ فَلاَ يُفِيدُ مَعَهُ جَدَلٌ وَلاَ دَعْوَةٌ، وَهُوَ الذِي يَعْلَمُ مَنْ صَفَتْ نَفُسُهُ، وَسَلِمَ تَفْكِيرُهُ، فَاهْتَدَى وَآمَنَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ.
﴿لِّلصَّابِرينَ﴾ ﴿لَئِن﴾
(١٢٦) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالعَدْلِ فِي القَصَاصِ، وَالمُمَاثَلَةِ فِي الاسْتِيفَاءِ لِلحَقِّ، فَإِنْ أَخَذَ رَجُلٌ مِنْكُمْ شَيْئاً، فَخُذُوا مِثْلَهُ. وَفِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ قُتِلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ (عَمُّ الرَّسُولِ ﷺ) وَمَثَّلَ المُشْرِكُونَ بِجُثَّتِهِ، فَاغْتَاظَ الرَّسُولُ لِذَلِكَ كَثِيراً وَقَالَ: " لَئِنْ أَظْهَرَنِي اللهُ عَلَيْهِمْ لأُمَثِلَّنَ بِثَلاَثِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ " فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ، فَكَفَّرَ الرَّسُولُ عَنْ يَمِينِهِ وَأَمْلَكَ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ المُؤْمِنِينَ إِذَا صَبَرُوا، وَلَمْ يَقْتَصُّوا لأَنْفُسِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
وَلِهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ أَمْثَالٌ فِي القُرْآنِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ العَدْلِ وَالنَّدْبِ إِلَى الفَضْلِ ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَاْ﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾.
(١٢٧) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ الكَرِيمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ أَذًى فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ إِعْرَاضٍ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَعَوْنِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَقُولُ لَهُ لاَ تَحْزَنْ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، وَلاَ تَكُنْ فِي ضِيقٍ وَغَمٍّ مِمَّا يُجْهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهِ فِي عَدَاوَتِكَ، وَإِيصَالِ الأَذَى إِلَيْكَ، فَإِنَّ اللهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُظْهِرُكَ عَلَيْهِمْ.
ضَيْقٍ - ضِيقِ صَدْرٍ وَحَرَجٍ.
(١٢٨) - إِنَّ اللهَ مُؤَيِّدٌ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ وَهُدَاهُ الذِينَ آمَنُوا، وَاتَّقَوْا مَحَارِمَ رَبِّهِمْ، فَاجْتَنَبُوهَا خَوْفاً مِنْ عِقَابِهِ، وَالذِينَ يُحْسِنُونَ رِعَايَةَ فَرَائِضِهِ، وَالقِيَامَ بِحُقُوقِهِ، وَلُزُومَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَفِي تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ.
Icon