تفسير سورة المؤمنون

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المؤمنين وهي مكية

قَوْله تَعَالَى: ﴿قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ﴾ روى عبد الرَّزَّاق، عَن يُونُس بن سليم، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي، عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كُنَّا إِذا نزل الْوَحْي على رَسُول الله سمع عِنْد وَجهه دوِي كَدَوِيِّ النَّحْل، فَأنْزل عَلَيْهِ مرّة فَمَكثْنَا سَاعَة، فَلَمَّا سري عَنهُ، اسْتقْبل الْقبْلَة وَقَالَ: اللَّهُمَّ أكرمنا وَلَا تهنا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمنَا، وارضنا وَارْضَ عَنَّا، وَآثرنَا وَلَا تُؤثر علينا، ثمَّ قَالَ: لقد أنزل عَليّ عشر آيَات من أَقَامَهُنَّ دخل الْجنَّة، وَقَرَأَ: ﴿قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ﴾ إِلَى آخر الْعشْر ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سراج قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَحْبُوب قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عِيسَى بن سُورَة أخبرنَا عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق. الحَدِيث.
وَقَوله: ﴿قد أَفْلح﴾ أَي: فقد سعد وفاز وظفر، وَقَالَ بَعضهم: نَالَ الْبَقَاء الدَّائِم وَالْبركَة. قَالَ الشَّاعِر:
461
﴿الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون (٢) ﴾ وَقُرِئَ " " قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ " أَي: اصيروا إِلَى مَا فِيهِ الصّلاح.
وَقَالَ لبيد شعرًا:
(فاعقلي إِن كنت (مِمَّا تعقلي)
وَلَقَد أَفْلح من كَانَ عقل)
وَقَالَ غَيره:
(نحل بلادا كلهَا حل قبلنَا ونرجوا الصّلاح بعد عَاد وحميرا)
(لَو كَانَ حَيّ مدرك الْفَلاح أدْركهُ ملاعب الرماح)
قَالَ ابْن عَبَّاس: نالوا مَا إِيَّاه طلبُوا، ونجوا مِمَّا عَنهُ هربوا.
وَقَوله: ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ المصدقون.
462
وَقَوله: ﴿الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون﴾ أَي: خاضعون خائفون، يُقَال: الْخُشُوع خوف الْقلب، وَحَقِيقَته هُوَ الإقبال فِي الصَّلَاة على معبوده، والتذلل بَين يَدَيْهِ، وَيُقَال: هُوَ جمع الهمة، وَدفع الْعَوَارِض عَن الصَّلَاة، وتدبر مَا يجْرِي على لِسَانه من الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح والتهليل وَالتَّكْبِير، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الْخُشُوع أَن لَا يلْتَفت عَن يَمِينه وَلَا عَن شِمَاله فِي الصَّلَاة.
وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله يرفعون أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء فِي الصَّلَاة، فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى: ﴿قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون﴾ رموا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى مَوَاضِع السُّجُود، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: هُوَ السكن فِي الصَّلَاة.
462
﴿وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون (٣) وَالَّذين هم لِلزَّكَاةِ فاعلون (٤) وَالَّذين هم لفروجهم حافظون (٥) إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين﴾
463
وَقَوله: ﴿وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي الشَّك، وَقَالَ الْحسن: الْمعاصِي كلهَا. ذكر الزّجاج أَن اللَّغْو هُوَ كل كَلَام بَاطِل مطرح، وَيُقَال: إِن اللَّغْو هَا هُنَا هُوَ مُعَارضَة الْكفَّار بالسب والشتم، وَهَذَا قَول حسن؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما﴾ أَي: إِذا سمعُوا الْكَلَام الْقَبِيح أكْرمُوا أنفسهم عَن الدُّخُول فِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين هم لِلزَّكَاةِ فاعلون﴾ أَي: مؤدون.
قَالَ الشّعبِيّ: هِيَ زَكَاة الْفطر، وَقَالَ بَعضهم: الزَّكَاة هَا هُنَا هِيَ الْعَمَل الصَّالح فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذين هم للْعَمَل الصَّالح فاعلون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين هم لفروجهم حافظون﴾ حفظ الْفرج هُوَ التعفف عَن الْحَرَام.
وَقَوله: ﴿إِلَّا على أَزوَاجهم﴾ يُقَال: إِن الْآيَة فِي الرِّجَال بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿أَو مَا ملكت أَيْمَانهم﴾ وَالْمَرْأَة لَا يجوز لَهَا أَن تستمتع بِملك يَمِينهَا، وَقيل: إِن أول الْآيَة فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا، وَقَوله: ﴿أَو مَا ملكت أَيْمَانهم﴾ إِلَى الرِّجَال دون النِّسَاء ﴿فَإِنَّهُم غير ملومين﴾ أَي: غير معاتبين، فَإِن قيل: إِذا أصَاب امْرَأَته فِي حَال الْحيض أَو النّفاس وَمَا أشبهه، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَة فقد أَتَى حَرَامًا، وَإِن كَانَ قد حفظ فرجه عَن غير زَوجته وَملك يَمِينه وَيكون ملوما؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن تَقْدِير الْآيَة فِي هَذَا: وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم على وَجه يجوز فِي الشَّرْع فَإِنَّهُم غير ملومين، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن قَول من اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة فِي جَوَاز إتْيَان الْمَرْأَة فِي غير مأتاها أَو الْجَارِيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون﴾ (أَي: سوى ذَلِك،
463
( ﴿٦) فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون (٧) وَالَّذين هم لآماناتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذين هم على صلواتهم يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هم﴾ وابتغى أَي: طلب، وَقَوله: ﴿فَأُولَئِك هم العادون﴾ أَي: الظَّالِمُونَ المتجاوزون عَن الْحَلَال إِلَى الْحَرَام، وَاسْتدلَّ الْعلمَاء بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الاستمناء بِالْيَدِ حرَام، وَعَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: هُوَ نائك نَفسه، وَعَن ابْن جريج أَنه قَالَ: سَأَلت عَطاء عَنهُ فَقَالَ: هُوَ مَكْرُوه، فَقلت أفيه حد؟ فَقَالَ: مَا سَمِعت. وَعَن سَالم بن عبد الله بن عمر أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الْفِعْل فَقَالَ: " أُفٍّ أُفٍّ! سَمِعت أَن قوما يحشرون وأيديهم حبالى، فأظن أَنهم هَؤُلَاءِ. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: عذب الله أمة من الْأُمَم كَانُوا يعبثون بمذاكيرهم. وَكَرِهَهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَحكى أَبُو عَاصِم النَّبِيل عَن أبي حنيفَة أَنه كرهه، فَإِن جعل بَين يَدَيْهِ وَبَين ذكره حريرة قَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره عَن عمر بن الْخطاب أَنه قَالَ: أُولَئِكَ أَقوام لَا خلاق لَهُم.
464
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين هم لآمانتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ﴾ يُقَال: رعى كَذَا إِذا قَامَ بِالْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَمِنْه قَوْله: " وكلكم رَاع، وكلكم مسئول عَن رَعيته "، وَيُقَال للوالي: هُوَ رَاع؛ لِأَنَّهُ يقوم بمصلحة الرّعية، وَمعنى قَوْله: ﴿رَاعُونَ﴾ هَا هُنَا أَدَاء الْأَمَانَة وَالْوَفَاء بالعهد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ﴾ قد بَينا معنى الْمُحَافظَة، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه سُئِلَ عَن الْمُحَافظَة فَقَالَ: حفظ الْوَقْت، فَقيل لَهُ: فَمن تَركهَا أصلا؟ قَالَ: ذَلِك الْكفْر. وَأعَاد ذكر الصَّلَاة هَا هُنَا؛ ليبين أَن الْمُحَافظَة وَاجِبَة كَمَا أَن الْخُشُوع وَاجِب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ هم الوارثون الَّذين يَرِثُونَ الفردوس﴾ رُوِيَ الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من أحد إِلَّا وَله منزل فِي الْجنَّة ومنزل فِي النَّار، فَإِذا دخل النَّار ورث أهل الْجنَّة منزله ".
464
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: إِذا دخل الْجنَّة هدم منزله فِي النَّار، وَعنهُ أَنه قَالَ: إِن الله غرس جنَّة عدن بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: ﴿قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ﴾ وأغلق عَلَيْهَا، فَلَا يدخلهَا إِلَّا من شَاءَ الله، وَيفتح بَابهَا فِي كل سحر، وَكَانُوا يرَوْنَ أَن نسيم السحر مِنْهُ.
وَفِي بعض المسانيد: عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي: " إِن الله خلق جنَّة عدن، وَخلق فِيهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر، ثمَّ قَالَ لَهَا: تكلمي فَقَالَت: ﴿قلد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ﴾ أَنا مُحرمَة على كل بخيل ومرائي ".
وَفِي رِوَايَة: " أَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ﴾ ثمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي لَا يجاورني فِيك بخيل ".
وَفِي بعض المسانيد أَيْضا عَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق آدم بِيَدِهِ، وغرس جنَّة عدن بِيَدِهِ، وَكتب التَّوْرَاة بِيَدِهِ، ثمَّ قَالَ لجنة عدن وَعِزَّتِي لَا يسكنك بخيل وَلَا ديوث ".
وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي قَالَ: " أَن الله تَعَالَى خلق الفردوس وَجعل لَهَا
465
﴿الوارثون (١٠) الَّذين يَرِثُونَ الفردوس هم فِيهَا خَالدُونَ (١١) وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين (١٢) ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين (١٣) ثمَّ خلقنَا﴾ لبنة من ذهب ولبنة من فضَّة (وحبالها) الْمسك الأفر "، وَالْأَخْبَار كلهَا غرائب. ﴿هم فِيهَا خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون لَا يظعنون أبدا.
466
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠:قوله تعالى :( أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ) روي الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا دخل النار ورث أهل الجنة منزله »( ١ ).
وعن مجاهد قال : إذا دخل الجنة هدم منزله في النار، وعنه أنه قال : إن الله غرس جنة عدن بيده ثم قال :( قد أفلح المؤمنون ) وأغلق عليها، فلا يدخلها إلا من شاء الله، ويفتح بابها في كل سحر، وكانوا يرون أن نسيم السحر منه.
وفي بعض المسانيد : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله خلق جنة عدن، وخلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها : تكلمي فقالت :( قلد أفلح المؤمنون ) أنا محرمة على كل بخيل ومرائي »( ٢ ).
وفي رواية :«أن الله تعالى قال :( قد أفلح المؤمنون ) ثم قال : وعزتي لا يجاورني فيك بخيل »( ٣ ).
وفي بعض المسانيد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله تعالى خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، ثم قال لجنة عدن وعزتي لا يسكنك بخيل ولا ديوث »( ٤ ).
وفي بعض التفاسير : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أن الله تعالى خلق الفردوس وجعل لها لبنة من ذهب ولبنة من فضة ( وحبالها ) ( ٥ ) المسك الأفر »( ٦ )، والأخبار كلها غرائب. ( هم فيها خالدون ) أي : مقيمون لا يظعنون أبدا.
١ - تقدم في تفسير سورة الأعراف..
٢ - رواه الطبراني في الكبير (١١/١٨٤ رقم ١٤٣٩) وفي الأوسط (٨/١٤٧ رقم ٤٨٦٢ مجمع البحرين)، وقال: لم يروه عن ابن جريج إلا بقية تفرد به هشام، وأبو نعيم في صفة الجنة (ص ١٩ رقم ١٦)، وتمام الرازي في فوائده (١/١٠٩ رقم ٢٥٨) جميعهم من حديث ابن عباس به إلى نهاية الآية. ورواه تمام في فوائده بتمامه (١/١٠٩ رقم ٢٥٩). وعزاه في الكنز لابن عساكر (١/٥٥)، وقال ابن كثير في التفسير بعد إيراده رواية الطبراني (٣/٢٣٧): بقية عن الحجازيين ضعيف، وله شاهد من حديث أنس رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (١٨ رقم ٢٠) بطوله، وابن عدي (٥/١٨٣)، والحاكم (٢/٣٩٢) وصححه، وأبو نعيم في صفة الجنة (٩رقم ١٧)، والخطيب في تاريخه (١٠/١١٨)، جميعهم من حديث أنس مختصراً، وتعقب الذهبي الحاكم فقال: بل ضعيف، وقال في الميزان (٣/١٣٧: باطل..
٣ - رواه الطبراني في الكبير (١٢/١٤٧ رقم ١٢٧٢٣)، وفي الأوسط (٨/١٤٦-١٤٧ رقم ٤٨٦١) وقال: لم يروه عن السدي إلا حماد بن عيسى تفرد به منجاب. وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٤٠٠): رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وأحد إسنادي الطبراني جيد..
٤ - رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (٢٧ رقم ٤١)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (١٦٢ رقم ٤٢٦، ٤٢٧)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص ٤٠٣) جميعهم من حديث عبد الله بن الحارث مرفوعاً بتمامه. وقال البيهقي: مرسل. ورواه أبو الشيخ في العظمة (٣٥٢ رقم ١٠٢٩)، وأبو نعيم في صفة الجنة (١١ رقم ٢٣) مختصراً. وتقدم في تفسير سورة الأعراف: ١٤٥..
٥ - كذا وعند الترمذي وغيره: وملاطها المسك الأذفر كما سيأتي في مواضع تخريجه، والله أعلم..
٦ - رواه الترمذي في سننه (٤/٥٨٠ رقم ٢٥٢٦) وقال: ليس إسناده بذاك القوى، وليس بمتصل، وأحمد في مسنده (٢/٣٠٤-٣٠٥)، والطيالسي (٣٣٧ رقم ٢٥٨٣)، جميعهم من حديث أبي هريرة مرفوعا بطوله، ورواه الإمام أحمد في مسنده (٢/٤٤٥)، والدارمي (٢/٤٢٩ رقم ٢٨٢١)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (رقم ٤، ٥)، وأبو نعيم في صفة الجنة (٥٢ رقم ١٣٦، ١٣٧، ١٣٨) عن أبي هريرة بنحوه مرفوعاً. وفي الباب عن ابن عمر كما في صفة الجنة لابن أبي الدنيا (رقم ١٢)، وأبو نعيم (رقم ١٣٩)، وعن أبي سعيد الخدري، رواه البزار (٢/٤٨٠ رقم ٢٢٥٤) مختصراً، والطبراني في الأوسط (٨/١٤٦ رقم ٤٨٦٠ مجمع البحرين)، وأبو نعيم في صفة الجنة (رقم ١٤٠). وقال الهيثمي (١٠/٤٠٠ المجمع): رواه البزار مرفوعاً وموقوفاً، والطبراني في الأوسط، ورجال الموقوف رجال الصحيح، وأبو سعيد لا يقول هذا إلا بتوقف..

قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين﴾ قَالَ أهل اللُّغَة: السلالة صفوة المَاء المسلول من الصلب، وَقَوله: ﴿من طين﴾ الطين هَا هُنَا هُوَ آدم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالْمرَاد من الْإِنْسَان وَلَده، وَمِنْهُم من قَالَ: المُرَاد من الْإِنْسَان هُوَ آدم. وَقَوله: ﴿من سلالة﴾ أَي: سل من كل تربة، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: السلالة هَا هُنَا هُوَ الطين الَّذِي إِذا قبض عَلَيْهِ الْإِنْسَان خرج المَاء من جَانِبي يَده، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: هُوَ منى بني آدم. قَالَ الشَّاعِر:
وَقَوله: ﴿ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين﴾ أَي: فِي مَكَان اسْتَقر فِيهِ، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: مَا من نُطْفَة إِلَّا ويذر عَلَيْهَا من التربة الَّتِي خلق مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة﴾ الْعلقَة هِيَ الْقطعَة من الدَّم.
466
﴿النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ (١٤) ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون﴾
وَقَوله: ﴿فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة﴾ المضغة هِيَ الْقطعَة من اللَّحْم.
وَقَوله: ﴿فخلقنا المضغة عظما﴾ وقري: " عظاما "، وَالْمعْنَى وَاحِد. قَالَ الشَّاعِر:
(فِي حلقهم عظم وَقد شجينا... )
أَي: فِي حُلُوقهمْ عِظَام.
وَيُقَال: إِن بَين كل خلقين أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَقَوله: ﴿فكسونا الْعِظَام لَحْمًا﴾ أَي: ألبسنا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر﴾ الْأَكْثَرُونَ أَن المُرَاد مِنْهُ نفخ الرّوح فِيهِ، وَقَالَ الضَّحَّاك: اسْتِوَاء الشَّبَاب، وَعَن قَتَادَة قَالَ: نبت الْأَسْنَان، وَعَن الْحسن: ذكرا أَو أُنْثَى. وَفِي بعض التفاسير أَن الله ينْفخ فِيهِ الرّوح بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا من يَوْم وَقعت النُّطْفَة فِي الرَّحِم، وَلِهَذَا تقدرت عدَّة الْوَفَاة بِهَذَا الْقدر من الزَّمَان.
وَقَوله: ﴿فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ﴾ رُوِيَ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - لما سمع هَذِه الْآيَة (قَالَ: فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ فَقَالَ النَّبِي: " هَكَذَا أنزل ". فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة) تدل على أَنا نخلق أفعالنا؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ﴾، فَذكر الْخَالِقِينَ على وَجه الْجمع؟ الْجَواب أَن مَعْنَاهُ: أحسن المقدرين، وَقد ورد الْخلق بِمَعْنى التَّقْدِير، قَالَ الشَّاعِر:
(ولأنت تفري مَا خلقت وَبَعض... الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري)
467
( ﴿١٥) ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون (١٦) وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق وَمَا كُنَّا عَن الْخلق غافلين (١٧) وأنزلنا من السَّمَاء مَاء بِقدر فأسكناه فِي الأَرْض وَإِنَّا على ذهَاب بِهِ لقادرون (١٨) فأنشأنا لكم بِهِ جنَّات من نخيل وأعناب لكم فِيهَا فواكه﴾
[أَي] : يقدر.
وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ: يصنعون وأصنع، وَأَنا أحسن الصانعين.
468
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون﴾ قَالَ بَعضهم: الْمَيِّت وَالْمَيِّت (وَاحِد، وَقَالَ بَعضهم: الْمَيِّت هُوَ الَّذِي قد مَاتَ، وَالْمَيِّت هُوَ الَّذِي يَمُوت فِي الْمُسْتَقْبل، وَمثله المائت، وَهَذَا كَمَا قَالُوا: سيد وسائد هُوَ الَّذِي يسود فِي الْمُسْتَقْبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون﴾ الْبَعْث هُوَ الْإِطْلَاق فكأنهم حبسوا مُدَّة ثمَّ أطْلقُوا.
قَوْله: ﴿وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق﴾ الطرائق هَا هُنَا هِيَ السَّمَوَات، وَفِي تَسْمِيَتهَا طرائق وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنَّهَا سميت طرائق؛ لِأَن بَعْضهَا فَوق بعض، يُقَال: طارقت النَّعْل إِذا جعلت بَعْضهَا فَوق بعض.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهَا سميت طرائق؛ لِأَنَّهَا طرائق الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: ﴿وَمَا كُنَّا عَن الْخلق غافلين﴾ أَي: نَحن حافظون لَهُم، يُقَال: حفظنا السَّمَاء أَن تقع عَلَيْهِم، وَيُقَال: مَا تركناهم سدى بِغَيْر أَمر وَلَا نهي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأنزلنا من السَّمَاء مَاء بِقدر﴾ فِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أنزل أَرْبَعَة أَنهَار من الْجنَّة: سيحان، وجيحان، ودجلة، والفرات ".
وَرُوِيَ أَنه أنزل خَمْسَة أَنهَار من عين فِي الْجنَّة، وَذكر مَعَ الْأَرْبَعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا نيل مصر، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن الله أودعها الْجبَال ثمَّ أجراها لمَنْفَعَة الْعباد، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَيْضا: " أَنه إِذا كَانَ خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج رفع الله الْقُرْآن والكعبة والركن وَالْمقَام وتابوت مُوسَى والأنهار الْخَمْسَة فَلَا يبْقى شَيْء من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
468
﴿كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩) وشجرة تخرج من طور سيناء تنْبت بالدهن وصبغ للآكلين (٢٠) ﴾ ﴿وَإِنَّا على ذهَاب بِهِ لقادرون﴾ ".
469
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأنشأنا لكم بِهِ جنَّات من نخيل وأعناب لكم فِيهَا فواكه كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَخص النخيل وَالْأَعْنَاب بِالذكر؛ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا أَكثر فواكه الْعَرَب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وشجرة تخرج من طور سيناء﴾، مَعْنَاهُ: وأنشأنا شَجَرَة تخرج من طور سيناء، وَهِي شَجَرَة الزَّيْتُون، وَإِنَّمَا خصها بِالذكر؛ لِأَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَى معاهد، فالمنة فِيهَا أَكثر؛ وَلِأَنَّهَا مَأْكُول (ومستصبح) بهَا، وَقَوله: ﴿سيناء﴾ بالحبشية هُوَ الْحسن، وَأما الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من سيناء هُوَ الْبركَة وَمَعْنَاهُ: جبل الْبركَة، وَالْآخر: أَن مَعْنَاهُ الشّجر، يَعْنِي الْجَبَل المشجر، أوردهُ الْكَلْبِيّ.
وَقَوله: ﴿تنْبت بالدهن﴾. وَقُرِئَ " تنْبت " وَاخْتلفُوا فِي هَذَا: مِنْهُم من قَالَ: أنبت وَنبت بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
(وَهل هِنْد إِلَّا مهرَة عَرَبِيَّة [سليلة] أَفْرَاس تجللها بغل)
(فَإِن نتجت مهْرا [فَللَّه درها وَإِن ولدت بغلا فجَاء بِهِ الْبَغْل] )
(رَأَيْت ذَوي الْحَاجَات حول بُيُوتهم قطينا لَهُم حَتَّى إِذا أنبت البقل)
يَعْنِي: حَتَّى إِذا نبت البقل، فَالْمَعْنى على هَذَا تنْبت بالدهن أَي: وَمَعَهَا الدّهن، أَو فِيهَا الدّهن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْبَاء زَائِدَة، فَالْمَعْنى على هَذَا: تنْبت ثَمَر الدّهن.
وَأما من فرق بَين تَنبت وتُنبت، فَقَالَ مَعْنَاهُ: تُنبت ثَمَرهَا بالدهن، وتَنبت ثَمَر الدّهن.
وأنشدوا فِي زِيَادَة الْبَاء شعرًا:
469
﴿وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم مِمَّا فِي بطونها وَلكم فِيهَا مَنَافِع كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون (٢٢) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه﴾
(سود المحاجر لَا يقْرَأن بالسور... )
أَي: لَا يقْرَأن السُّور.
وَقَوله: ﴿وصبغ للآكلين﴾. وَقُرِئَ: " وصباغ للآكلين "، وَهُوَ فِي الشاذ، مثل لبس ولباس، وَمَعْنَاهُ: (وإدام) للآكلين، فَإِن الْخبز إِذا غمس فِيهِ أَي: فِي الزَّيْت انصبغ بِهِ بِمَعْنى تلون، والإدام كل مَا يُؤْكَل مَعَ الْخَبَر عَادَة، سَوَاء انصبغ بِهِ الْخَبَر أَو لم ينصبغ، رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه أَخذ لقْمَة وَتَمْرَة، وَقَالَ: " هَذِه إدام هَذِه ".
وَعنهُ أَنه قَالَ: " سيد إدام أهل الْجنَّة اللَّحْم ".
470
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة﴾ يَعْنِي الْآيَة: تعتبرون بهَا.
وَقَوله: ﴿نسقيكم مِمَّا فِي بطونها﴾ أَي: اللَّبن.
وَقَوله: ﴿وَلكم فِيهَا مَنَافِع كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ يَعْنِي: من لحومها
﴿وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
470
﴿فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون (٢٣) فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ يُرِيد أَن يتفضل عَلَيْكُم وَلَو شَاءَ الله لأنزل مَلَائِكَة مَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين (٢٤) إِن هُوَ إِلَّا رجل بِهِ جنَّة فتربصوا بِهِ حَتَّى حِين (٢٥) قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون (٢٦) فأوحينا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك﴾
471
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله﴾ أَي: وحدوا الله.
﴿مَا لكم من إِلَه غَيره﴾ أَي: معبود سواهُ. وَقَوله: ﴿أَفلا تَتَّقُون﴾ مَعْنَاهُ: أَفلا تخافون عُقُوبَته إِذا عَبدْتُمْ غَيره.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ﴾ قد ذكرنَا معنى الْمَلأ، وَذكرنَا إنكارهم إرْسَال الْبشر.
وَقَوله: ﴿يُرِيد أَن يتفضل عَلَيْكُم﴾ يتفضل أَي: يظْهر الْفضل، وَلَا فضل لَهُ، كَمَا يُقَال: فلَان يتحلم أَي: يظْهر الْحلم، وَلَا حلم لَهُ، ويتظرف أَي: يظْهر الظرافة، وَلَا ظرافة لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَلَو شَاءَ الله لأنزل مَلَائِكَة﴾ يَعْنِي: بإبلاغ الْوَحْي، وَقَوله: ﴿مَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين﴾. أَي: بإرسال بشر رَسُولا، وَقيل: بدعوة مثل دَعوته.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هُوَ إِلَّا رجل بِهِ جنَّة﴾ أَي: جُنُون.
وَقَوله: ﴿فتربصوا بِهِ حَتَّى حِين﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: إِلَى وَقت مَا، وَيُقَال: إِلَى أَن يَمُوت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون﴾ يَعْنِي: أهلكهم نصْرَة لي جَزَاء تكذيبهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأوحينا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك بأعيينا ووحينا﴾. قد بَينا من قبل، وَيُقَال: غرس الشّجر أَرْبَعِينَ سنة، وجففه أَرْبَعِينَ سنة.
وَقَوله: ﴿فَإِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور﴾ المُرَاد من الْأَمر هَاهُنَا: وَقت إغراقهم، والتنور تنور الخابزة، وَقد بَينا غير هَذَا.
وَقَوله: ﴿فاسلك فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: من كل صنف
471
﴿بأعيننا ووحينا فَإِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور فاسلك فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل مِنْهُم وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون (٢٧) فَإِذا استويت أَنْت وَمن مَعَك على الْفلك فَقل الْحَمد لله الَّذِي نجانا من الْقَوْم الظَّالِمين (٢٨) وَقل رب أنزلني منزلا مُبَارَكًا وَأَنت خير المنزلين (٢٩) إِن فِي﴾ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ.
وَقَوله: ﴿وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل مِنْهُم﴾ أَي: سبق عَلَيْهِ الحكم بإهلاكه، وَهُوَ ابْن نوح. قَالَ الْحسن: كَانُوا سَبْعَة وثامنهم نوح، وَقيل: سِتَّة وسابعهم نوح.
وَقَوله: ﴿وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون﴾ قد بَينا.
472
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا استويت أَنْت وَمن مَعَك على الْفلك﴾ أَي: استقررت وَجَلَست، وَقد يكون الاسْتوَاء بِمَعْنى الِارْتفَاع، قَالَ الْخَلِيل: دَخَلنَا على أبي ربيعَة الْأَعرَابِي، (فَقَالَ لنا: اسْتَووا) أَي: ارتفعوا. وَقَوله: ﴿فَقل الْحَمد لله الَّذِي نجانا من الْقَوْم الظَّالِمين﴾ أَي: الْكَافرين، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مثل أهل بَيْتِي كَمثل سفينة نوح من ركبهَا سلم، وَمن لم يركبهَا (هلك) ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقل رب أنزلني منزلا مُبَارَكًا﴾ وقرىء: " منزلا "، فالمنزل مَوضِع النُّزُول، والمنزل بِمَعْنى الْإِنْزَال، وَفِي مَوضِع النُّزُول قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه السَّفِينَة بعد الرّكُوب، وَالْآخر: أَنه الأَرْض بعد النُّزُول من السَّفِينَة، وَالْبركَة بعد النُّزُول هُوَ كَثْرَة النَّسْل من أَوْلَاده الثَّلَاثَة، وَالْبركَة قبل النُّزُول هُوَ النجَاة. وَفِي بعض أَخْبَار النَّبِي: " من نزل منزلا فَقَالَ: رب أنزلني منزلا مُبَارَكًا وَأَنت خير المنزلين، كَانَ ضمانا على الله أَن يحفظه من كل شَيْء يهوله، وَإِن توفّي فِي ذَلِك الْمنزل دخل الْجنَّة ". ذكره ابْن فَارس
472
﴿ذَلِك لآيَات وَإِن كُنَّا لمبتلين (٣٠) ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين (٣١) فَأَرْسَلنَا فيهم رَسُولا مِنْهُم أَن اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون (٣٢) وَقَالَ الْمَلأ﴾ فِي تَفْسِيره بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَالْخَبَر غَرِيب.
473
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات وَإِن كُنَّا لمبتلين﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مبتلين من أطَاع وَمن عصى، وَعَن غَيره قَالَ مَعْنَاهُ: مَا من أمة إِلَّا وَنحن قد ابتليناها.
قَوْله: ﴿ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين﴾ (أَي: قوما آخَرين).
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَرْسَلنَا فيهم رَسُولا مِنْهُم﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الْقرن هم قوم هود، وهم عَاد، وَالرَّسُول هُوَ هود، وَيُقَال: قوم صَالح وَصَالح، وَالْأول أصح وَأظْهر.
وَقَوله: ﴿أَن اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون﴾ قد ذكرنَا.
473
﴿من قومه الَّذين كفرُوا وكذبوا بلقاء الْآخِرَة وأترفناهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ يَأْكُل مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيشْرب مِمَّا تشربون (٣٣) وَلَئِن أطعتم بشرا مثلكُمْ إِنَّكُم إِذا لخاسرون (٣٤) أيعدكم أَنكُمْ إِذا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ﴾
474
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الْمَلأ من قومه الَّذين كفرُوا وكذبوا بلقاء الْآخِرَة﴾. أَي: بالمصير إِلَى الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وأترفناهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: وأغنياهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَيُقَال: وسعنا عَلَيْهِم الْمَعيشَة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا حَتَّى أترفوا، والإتراف هُوَ التنعم بملاذ الْعَيْش. قَالَ القتيبي: والترفة كالتحفة.
وَقَوله: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ يَأْكُل مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيشْرب مِمَّا تشربون﴾ يَعْنِي: مِنْهُ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَئِن أطعتم بشرا مثلكُمْ﴾ أَي: من لحم وَدم مثلكُمْ.
وَقَوله: ﴿إِنَّكُم إِذا لخاسرون﴾ أَي: المغبونون، وَيُقَال: تاركون طَريقَة الْعُقَلَاء، فتكونون بِمَنْزِلَة من خسر عقله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أيعدكم أَنكُمْ إِذا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ مخروجون﴾
تَحْصِيل الْمَعْنى: أيعدكم أَنكُمْ إِذا متم وقبرتم ثمَّ خَرجْتُمْ من قبوركم، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أيعدكم إِذا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ مخروجون " وَأما على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فنصب الأول بِتَقْدِير الْبَاء أَي: بأنكم، وَأما إِنَّكُم الثَّانِيَة للتَّأْكِيد، قَالَ الزّجاج: وَنَظِير هَذَا فِي الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَيْهَات هَيْهَات لما توعدون﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: بعيد بعيد مَا توعدون أَي: لَا يكون ذَلِك أبدا، هَيْهَات وأيهات بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
474
﴿مخرجون (٣٥) هَيْهَات هَيْهَات لما توعدون (٣٦) إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا نَحن بمبعوثين (٣٧) إِن هُوَ إِلَّا رجل افترى على الله كذبا وَمَا نَحن لَهُ بمؤمنين (٣٨) قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون (٣٩) قَالَ عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين (٤٠) فَأَخَذتهم الصَّيْحَة بِالْحَقِّ فجعلناهم غثاء فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين (٤١) ثمَّ﴾
475
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: ﴿ونحيا﴾ وَلم يَكُونُوا مقرين بِالْبَعْثِ؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير يَعْنِي: نحيا وَنَمُوت، وَالْآخر: يَمُوت الْآبَاء، ويحيا الْأَبْنَاء، وَالثَّالِث: يَمُوت قوم، ويحيا قوم.
قَوْله: ﴿وَمَا نَحن بمبعوثين﴾ أَي: بمنشرين.
وَقَوله: ﴿إِن هُوَ إِلَّا رجل افترى على الله كذبا وَمَا نَحن لَهُ بمؤمنين﴾ أَي: بمصدقين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون﴾ قد بَينا.
قَوْله: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين﴾ أَي: ليصبحون نادمين، وَمعنى يُصْبِحُونَ: يصيرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَخَذتهم الصَّيْحَة بِالْحَقِّ﴾ فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - صَاح بهم صَيْحَة فتصدعت قُلُوبهم.
وَيُقَال: إِن المُرَاد من الصَّيْحَة الْهَلَاك. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(أيهات أيهات العقيق وَأَهله أيهات خل بالعقيق نواصله)
(فدع عَنْك نهيا صِيحَ فِي حجراته وَلَكِن حَدِيث مَا حَدِيث الرَّوَاحِل)
وتمثل بِهَذَا الْبَيْت عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي بعض حروبه.
وَقَوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ، وَيُقَال: بِمَا استحقوا.
وَقَوله: ﴿فجعلناهم غثاء﴾. الغثاء: مَا يبس من الشّجر والحشيش، وَعلا فَوق السَّيْل، وَيُقَال: الغثاء هُوَ الزّبد، فالزبد لَا ينْتَفع بِهِ، وَيذْهب بَاطِلا، فشبههم بعد الْهَلَاك بِهِ.
وَقَوله: ﴿فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين﴾ أَي: هَلَاكًا للْقَوْم الظَّالِمين.
475
﴿أنشأنا من بعدهمْ قرونا آخَرين (٤٢) مَا تسبق من أمة أجلهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا كل مَا جَاءَ أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بَعضهم بَعْضًا وجعلناهم أَحَادِيث فبعدا لقوم لَا يُؤمنُونَ (٤٤) ثمَّ أرسلنَا مُوسَى وأخاه هَارُون بِآيَاتِنَا وسلطان﴾
476
قَوْله: ﴿ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ قرونا آخَرين﴾ أَي: قوما آخَرين.
قَوْله: ﴿مَا تسبق من أمة أجلهَا﴾ أَي: وَقت هلاكهم.
وَقَوله: ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ أَي: يتأخرون عَن وَقت هلاكها.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترى﴾ وَقُرِئَ: " تترى " بِالتَّنْوِينِ، وَالْمعْنَى: متواترين بَعضهم على إِثْر بعض، وَيُقَال: بَين كل نبيين قِطْعَة من الزَّمَان، وَالْأَصْل فِي ﴿تترى﴾ وَترى إِلَّا أَن الْوَاو قلبت تَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بعثنَا الرُّسُل وترا وترا.
وَقَوله: ﴿كلما جَاءَ أمة رسولها كذبوه﴾ أَي: جحدوه وأنكروه.
وَقَوله: ﴿فأتبعنا بَعضهم بَعْضًا﴾ أَي: فِي الْهَلَاك.
وَقَوله: ﴿وجعلناهم أَحَادِيث﴾ أَي: سمرا وقصصا، قَالَ بَعضهم شعرًا.
(فَكُن حَدِيثا حسنا ذكره فَإِنَّمَا النَّاس أَحَادِيث)
وَقَوله: ﴿فبعدا لقوم لَا يُؤمنُونَ﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أرسلنَا مُوسَى وأخاه هَارُون بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين﴾ أَي: بِحجَّة بَيِّنَة، وَهِي الْآيَات التسع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاستكبروا وَكَانُوا قوما عالين﴾ أَي: طَالِبين للعلو بِغَيْر الْحق، والاستكبار طلب التكبر، وَيُقَال: ﴿عالين﴾ قاهرين (لمن) تَحْتهم بالظلم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَقَالُوا أنؤمن لبشرين مثلنَا﴾ أَي: لمُوسَى وَهَارُون. وَقَوله: ﴿وقومهما لنا عَابِدُونَ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تَقول الْعَرَب لكل من أطَاع إنْسَانا قد عَبده.
476
﴿مُبين (٤٥) إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاستكبروا وَكَانُوا قوما عالين (٤٦) فَقَالُوا أنؤمن لبشرين مثلنَا وقومهما لنا عَابِدُونَ (٤٧) فكذبوهما فَكَانُوا من المهلكين (٤٨) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة وآويناهما إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين (٥٠) ﴾ وَفِي بعض التفاسير: أَن القبط كَانُوا يعْبدُونَ فِرْعَوْن، وَفرْعَوْن كَانَ يعبد الصَّنَم.
477
قَوْله تَعَالَى: ﴿فكذبوهما فَكَانُوا من المهلكين﴾ أَي: بِالْغَرَقِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ﴾ أَي: التَّوْرَاة.
قَوْله: ﴿وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وآويناهما إِلَى ربوة﴾ وقرىء: " ربوة "، وَقَرَأَ أَبُو الْأَشْهب الْعقيلِيّ: " رباوة ". وَأما الربوة فِيهَا أَقْوَال: عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: هِيَ رَملَة فلسطين، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: هِيَ غوطة دمشق، (وَيُقَال: أنزه الْمَوَاضِع فِي الدُّنْيَا [أَرْبَعَة] مَوَاضِع: غوطة دمشق) فِي الشَّام، والإيلة بالعراق، وَشعب بران بِفَارِس، وَسعد سَمَرْقَنْد، وَعَن كَعْب قَالَ: ﴿ربوة﴾ هِيَ بَيت الْمُقَدّس، وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: هِيَ مصر، وَفِي اللُّغَة: الربوة هُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع.
وَقَوله: ﴿ذَات قَرَار﴾ أَي: أَرض مستوية يستقرون فِيهَا، وَقيل: مستوية مُرْتَفعَة منبسطة.
وَقَوله: ﴿ومعين﴾ أَي: ذَات مَاء جَار، وَيُقَال: ذَات عُيُون تجْرِي فِيهَا، يُقَال: (عانت) الْبركَة إِذا جرى فِيهَا المَاء، وأنشدوا فِي الْمعِين شعرًا:
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا﴾ قَالَ مُجَاهِد
477
﴿يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (٥١) ﴾ وَقَتَادَة والسدى وَجَمَاعَة: إِن المُرَاد من قَوْله: ﴿يَا أَيهَا الرُّسُل﴾ هُوَ مُحَمَّد، وَالْعرب تذكر الْجمع، وتريد بِهِ الْوَاحِد، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ للرجل: أَيهَا الْقَوْم، كف عَنَّا أذاك وَمِنْهُم من قَالَ: إِن المُرَاد مِنْهُ جَمِيع الرُّسُل. وَقَالَ بَعضهم المُرَاد: عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - كَأَنَّهُ قَالَ: وَقُلْنَا لعيسى: يَا أَيهَا الرُّسُل، وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله لَا يقبل إِلَّا الطّيب، وَإِن الله تَعَالَى أَمر الْمُسلمين بِمَا أَمر بِهِ الْمُرْسلين فَقَالَ: ﴿يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا﴾ وَقَالَ للْمُؤْمِنين: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات من رزقناكم واشكروا لله﴾ ثمَّ ذكر الرجل أَشْعَث أغبر يمد يَده إِلَى السَّمَاء، فَيَقُول: يَا رب، مطعمه حرَام، وملبسه حرَام، وغذى بالحرام، فَأنى يُسْتَجَاب لَهُ "؟ !
وَفِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى كَانَ يَأْكُل من غزل أمه، وَالْأكل هُوَ أَخذ الشَّيْء بالفم؛ ليوصله إِلَى الْبَطن بالمضغ، وَأما قَوْله: ﴿من الطَّيِّبَات﴾ أَي: من الْحَلَال. وَقَوله: ﴿وَاعْمَلُوا صَالحا﴾ الصّلاح هُوَ الاسْتقَامَة على مَا توجبه الشَّرِيعَة.
وَقَوله: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم﴾ هَذَا حث على فعل الطَّاعَة، يَعْنِي: اعْمَلُوا الصَّالِحَات، فَإِنِّي مجازيكم على عَمَلكُمْ.
478
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة﴾ أَي: دينكُمْ دين وَاحِد، وَقيل: شريعتكم شَرِيعَة وَاحِدَة، وَيُقَال: أَمرتكُم بِمَا أمرت بِهِ من قبلكُمْ من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ، فأمركم وَاحِد.
وَقَوله: ﴿وَأَنا ربكُم فاتقون﴾ فاحذروني.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فتقطعوا أَمرهم بَينهم﴾ أَي: تفَرقُوا هودا ونصارى وصابئين ومجوسا. ﴿زبرا﴾ أَي: قطعا. قَالَ مُجَاهِد: ﴿زبرا﴾ كتبا أَي: جعلُوا كتبهمْ قطعا وَمَعْنَاهُ: آمنُوا بِالْبَعْضِ، وَكَفرُوا بِالْبَعْضِ، وحرفوا الْبَعْض، وَلم يحرفوا الْبَعْض.
وَقَوله: ﴿كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ﴾ أَي: مسرورون.
478
﴿وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون (٥٢) فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ (٥٣) فذرهم فِي غمرتهم حَتَّى حِين (٥٤) أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال وبنين (٥٥) نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) ﴾
وَيَعْنِي أَن كل فريق مسرورون بِمَا عِنْدهم: فَأهل الْإِيمَان مسرورون بِالْإِيمَان وبمتابعة النَّبِي، وَالْكفَّار مسرورون بكفرهم وبمخالفة النَّبِي.
479
قَوْله تَعَالَى: ﴿فذرهم فِي غمرتهم﴾ أَي: فِي ضلالتهم، وَقيل: فِي عمايتهم.
وَقَوله: ﴿حَتَّى حِين﴾ مَعْنَاهُ: إِلَى أَن يموتوا، وَالْآيَة للتهديد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال﴾ الْآيَة. مَعْنَاهُ: أيحسبون أَن الَّذِي نجعله مدَدا لَهُم من المَال والبنين
﴿نسارع لَهُم فِي الْخيرَات﴾ أَي: نعجل لَهُم فِي الْخيرَات، ونقدمها ثَوابًا لَهُم رضَا بأعمالهم، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَن: لَيْسَ الْأَمر على مَا يظنون أَن المَال والبنين خير لَهُم، بل هُوَ اسْتِدْرَاج لَهُم، ومكر بهم، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿بل لَا يَشْعُرُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون﴾. الخشية: انزعاج النَّفس لما يتَوَقَّع من الْمضرَّة، والإشفاق هَاهُنَا هُوَ الْخَوْف من الْعَذَاب، فَمَعْنَى الْآيَة: أَن الْمُؤمنِينَ من خشيَة رَبهم لَا يأمنون عَذَابه. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْمُؤمن جمع إحسانا وخشية، وَالْمُنَافِق إساءة وَأمنا.
قَوْله: ﴿وَالَّذين هم بآيَات رَبهم يُؤمنُونَ﴾ أَي: يصدقون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين هم برَبهمْ لَا يشركُونَ﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا﴾ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَرَأَ: " وَالَّذين يأْتونَ مَا أَتَوا بِهِ "، وَهُوَ قِرَاءَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا.
(وَقَوله: ﴿يُؤْتونَ مَا آتوا﴾ أَي: يُعْطون مَا أعْطوا. وَقَوله: " يأْتونَ مَا آتوا " أَي:
479
﴿إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون (٥٧) وَالَّذين هم بآيَات رَبهم يُؤمنُونَ (٥٨) وَالَّذين هم برَبهمْ لَا يشركُونَ (٥٩) وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة﴾ يَفْعَلُونَ مَا فعلوا).
وَقَوله: ﴿وَقُلُوبهمْ وَجلة﴾ أَي: خائفة.
وَقَوله: ﴿أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون﴾. أَي: لأَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون، وَمَعْنَاهُ: خَافُوا لأَنهم علمُوا أَن رجوعهم إِلَى رَبهم، وروى عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن وهب عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت للنَّبِي: يَا رَسُول الله، قَول الله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة﴾ أهم الَّذين يسرقون، وَيَشْرَبُونَ الْخمر، وَقُلُوبهمْ وَجلة؟ قَالَ: لَا يَا ابْنة الصّديق، بل هم الَّذين (يصلونَ، وَيَصُومُونَ)، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنَّهَا لَا تقبل مِنْهُم " وَفِي رِوَايَة: " ويخشون أَن لَا تقبل مِنْهُم ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي قَالَ: أَبُو الْحسن ابْن [فراس] : أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله المقرىء، أخبرنَا جدي مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، أخبرنَا مَالك بن مغول، عَن عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن وهب... الْخَبَر. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عمِلُوا وَالله بالطاعات، واجتهدوا فِيهَا، وخافوا أَن ترد عَلَيْهِم. هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة،
480
﴿أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ (٦١) وَلَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ (٦٢) بل قُلُوبهم فِي غمرة من هَذَا وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون﴾ وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة أَنهم عمِلُوا بِالْمَعَاصِي، وخافوا من الله.
481
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ﴾ أَي: إِلَيْهَا سَابِقُونَ.
قَالَ الشَّاعِر:
(إِن الَّذين غدوا بلبك غادروا وسلا بِعَيْنِك لَا يزَال معينا)
(تجانف عَن جو الْيَمَامَة نَاقَتي وَمَا قصدت من أَهلهَا لسوائكا)
أَي: إِلَى سوائكا. وَيُقَال: " لَهَا سَابِقُونَ " أَي: من أجلهَا سَابِقُونَ، يَقُول الْإِنْسَان لغيره: قصدت هَذِه الْبَلدة لَك أَي: لِأَجلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: ﴿وهم لَهَا سَابِقُونَ﴾ أَي: سبقت لَهُم السَّعَادَة من الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا﴾ قد بَينا الْمَعْنى، وَيُقَال: لم نكلف الْمَرِيض الصَّلَاة قَائِما، وَلَا الْفَقِير الزَّكَاة وَالْحج، وَلَا الْمُسَافِر الصَّوْم، وَأَشْبَاه هَذَا.
وَقَوله: ﴿ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ﴾ أَي: عندنَا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذِهِ الْآيَة أَن من كتب إِلَى إِنْسَان كتابا فقد كَلمه.
وَقَوله: ﴿ينْطق بِالْحَقِّ﴾ أَي: يخبر بِالصّدقِ.
وَقَوله: ﴿وهم لَا يظْلمُونَ﴾ أَي: لَا ينقص حَقهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل قُلُوبهم فِي غمرة من هَذَا﴾ أَي: فِي غطاء، يُقَال: فلَان غمره المَاء، أَي: غطاه.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون﴾ (فِيهِ قَولَانِ: أَن للْكفَّار أعمالا خبيثة محكومة عَلَيْهِم سوى مَا عمِلُوا ﴿هم لَهَا عاملون﴾ ) هَذَا قَول مُجَاهِد وَجَمَاعَة، وَقَالَ قَتَادَة: الْآيَة تَنْصَرِف إِلَى أَصْحَاب الطَّاعَات، وَمَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمنِينَ لَهُم أَعمال سوى مَا عمِلُوا من الْخَيْر ﴿هم لَهَا عاملون﴾، وَالْقَوْل الأول أظهر.
481
( ﴿٦٣) حَتَّى إِذا أَخذنَا مترفيهم بِالْعَذَابِ إِذا هم يجأرون (٦٤) لَا تجأروا الْيَوْم إِنَّكُم منا لَا تنْصرُونَ (٦٥) قد كَانَت آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم على أعقابكم تنكصون (٦٦) مستكبرين بِهِ سامرا تهجرون (٦٧) ﴾
482
قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا أَخذنَا مترفيهم بِالْعَذَابِ﴾ قد بَينا معنى المترف.
وَقَوله: ﴿بِالْعَذَابِ﴾ وَهُوَ السَّيْف يَوْم بدر، وَيُقَال: هُوَ الْقَحْط الَّذِي أَصَابَهُم بِدُعَاء الني.
وَقَوله: ﴿إِذا هم يجأرون﴾ أَي: يصيحون ويستغيثون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا تجأروا الْيَوْم﴾ لَا تصيحوا الْيَوْم، والجؤار هُوَ رفع الصَّوْت.
وَقَوله: ﴿إِنَّكُم منا لَا تنْصرُونَ﴾ أَي: لَيْسَ أحد يمنعنا من عذابكم، وَقيل: ﴿لَا تنْصرُونَ﴾ لَا ترزقون، يُقَال: أَرض منصورة أَي: ممطورة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قد كَانَت آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم على أعقابكم تنكصون﴾ أَي: ترجعون قهقري على أعقابكم، وَيُقَال: أقبح الْمَشْي هُوَ الرُّجُوع على عَقِبَيْهِ قهقري.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مستكبرين بِهِ﴾ اخْتلف القَوْل فِي قَوْله، فأظهر الْأَقَاوِيل: أَن المُرَاد مِنْهُ الْحرم، وَيُقَال: الْبَيْت أَي: متعظمين بِالْبَيْتِ الْحَرَام، وتعظيمهم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أهل الله وجيران بَيته، وَكَانَ سَائِر الْعَرَب فِي خوف، وهم فِي أَمن، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَجَمَاعَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: ﴿مستكبرين بِهِ﴾ أَي: بِالْقُرْآنِ، على معنى أَنهم استكبروا فَلم يُؤمنُوا بِهِ، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه الرَّسُول على الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِي الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿سامرا﴾ وقرىء فِي الشاذ: " سمارا "، والسامر والسمار فِي اللُّغَة بِمَعْنى وَاحِد. وَالْآيَة فِي أَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ بِاللَّيْلِ حول الْبَيْت يسمرون. قَالَ الثَّوْريّ: السمر ظلّ الْقَمَر تَقول الْعَرَب: لَا أُكَلِّمك السمر وَالْقَمَر، أَي: اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله: ﴿تهجرون﴾ أَي: تعرضون عَن النَّبِي وَالْإِيمَان بِهِ وَالْقُرْآن وَالْإِيمَان،
482
﴿أفلم يدبروا القَوْل أم جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ آبَاءَهُم الْأَوَّلين (٦٨) أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون (٦٩) أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون (٧٠) وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ بل أتيناهم﴾ وَقيل: ﴿تهجرون﴾ أَي: تهذون. وقرىء: " تهجرون " من الهجر فِي الْكَلَام وَهُوَ الْقَبِيح، وَفِي الرِّوَايَات: أَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ عِنْد الْبَيْت فِي ظلّ الْقَمَر ويسبون النَّبِي.
483
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفلم يدبروا القَوْل﴾ يَعْنِي: مَا جَاءَهُم من القَوْل، وَهُوَ الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿أم جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ آبَاءَهُم الْأَوَّلين﴾ (يَعْنِي: أيظنون أَنه جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ من قبلهم، وَمَعْنَاهُ: أَنا بعثنَا إِلَيْهِم رَسُولا كَمَا بعثنَا إِلَى الْأَوَّلين).
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون﴾. يَعْنِي: أَنهم عرفوه صَغِيرا وكبيرا، وَعرفُوا نسبه، وَعرفُوا وفاءه بالعهد، وأداءه للأمانات، وَصدقه فِي الْأَقْوَال، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب، على مَا ذكرنَا من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة﴾ أَي: جُنُون.
وَقَوله: ﴿بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالصّدقِ. وَقَوله: ﴿وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون﴾ أَي: ساخطون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو اتبع الْحق أهواءهم﴾ أَي: لَو اتبع مَا نزل من الْقُرْآن أهواءهم.
﴿لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ﴾ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا يودون أَن ينزل الله تَعَالَى ذكر أصنامهم على مَا يعتقدونها، وَلِأَنَّهُ هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا﴾ وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَمن خلق ".
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن المُرَاد من ﴿الْحق﴾ هُوَ الله تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: لَو اتبع (الله) أهواءهم لسمى لنَفسِهِ شَرِيكا وَولدا، ولفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن
483
﴿بذكرهم فهم عَن ذكرهم معرضون (٧١) أم تَسْأَلهُمْ خرجا فخراج رَبك خير وَهُوَ خير الرازقين (٧٢) وَإنَّك لتدعوهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (٧٣) وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون (٧٤) ﴾ فِيهِنَّ.
وَقَوله: ﴿بل أتيناهم بذكرهم﴾ أَي: بِمَا يذكرهم، وَيُقَال: بشرفهم، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك﴾ أَي: شرف لَك ولقومك.
وَقَوله: ﴿فهم عَن ذكرهم معرضون﴾ أَي: عَن شرفهم وَعَما يذكرهم معرضون.
484
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم تَسْأَلهُمْ خرجا﴾ وقرىء: (" خراجا ")، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى الْجعل وَالْأَجْر، وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: الْخراج فِي الأَرْض، والخرج فِي الرّقاب.
وَقَوله: ﴿فخراج رَبك﴾ أَي: ثَوَابه ( ﴿خير﴾ أَي: أجر رَبك) خير.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ خير الرازقين﴾ أَي: المعطين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإنَّك لتدعوهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: إِلَى دين الْحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون﴾. أَي: عَن طَرِيق الْحق لعادلون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ﴾ رُوِيَ أَن النَّبِي دَعَا على قُرَيْش فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَل عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف؛ فَأَصَابَهُمْ الجدب والقحط حَتَّى أكلُوا العلهز، وَهُوَ الدَّم بالوبر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَلَو
484
﴿وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ للجوا فِي طغيانهم يعمهون (٧٥) وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) ﴾ رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ) " أَي: الْجُوع والقحط.
وَقَوله: ﴿للجوا فِي طغيانهم يعمهون﴾ أَي: مضوا فِي طغيانهم يعمهون، وَلم ينزعوا عَنهُ.
485
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه السَّيْف يَوْم بدر، وَالْآخر: أَنه الْجُوع والقحط، وَرُوِيَ " أَن النَّبِي لما دَعَا على قومه قدم أَبُو سُفْيَان عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَلَسْت تزْعم أَنَّك بعثت رَحْمَة للْعَالمين؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ لَهُ: قتلت الْآبَاء بِالسَّيْفِ، وأهلكت الْأَبْنَاء بِالْجُوعِ، فَادع لنا يكْشف عَنَّا هَذَا الْقَحْط، فَدَعَا فكشف عَنْهُم ".
وَقَوله: ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَي: مَا خضعوا وَمَا ذلوا لرَبهم، والاستكانة طلب السّكُون.
وَقَوله: ﴿وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَي: لم يتضرعوا إِلَى رَبهم، بل مضوا إِلَى عتوهم وتمردهم.
485
﴿حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد إِذا هم فِيهِ مبلسون (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أنشأ لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت وَله اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار أَفلا تعقلون (٨٠) بل قَالُوا مثل مَا قَالَ الْأَولونَ (٨١) قَالُوا أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا﴾
486
قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد﴾ يُقَال: بِالْمَوْتِ، وَيُقَال: بِقِيَام السَّاعَة.
وَقَوله: ﴿إِذا هم فِيهِ مبلسون﴾. أَي: متحيرون آيسون، وَعَن السّديّ قَالَ: ﴿حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد﴾ هُوَ فتح مَكَّة. وَيُقَال: الْعَذَاب الشَّديد هُوَ الْأَمْرَاض والشدائد، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: هُوَ الْقَتْل يَوْم بدر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أنشأ لكم السّمع﴾ أَي: الأسماع لتسمعوا، وَهَذَا وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: ﴿والأبصار﴾ أَي: لتبصروا. وَقَوله: ﴿والأفئدة﴾ لتعقلوا. وَقَوله: ﴿قَلِيلا مَا تشكرون﴾ أَي: لم تشكروا هَذِه النعم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون﴾ أَي: خَلقكُم وأنشركم وكثركم فِي الأَرْض. وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ تحشرون﴾ أَي: تبعثون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت وَله اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ أَي: تَدْبِير اللَّيْل وَالنَّهَار فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، وَيُقَال: وَمِنْه اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله ﴿أَفلا تعقلون﴾. مَعْنَاهُ: أَفلا تعقلون الْآيَات الَّتِي وَضَعتهَا فِيهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل قَالُوا مثل مَا قَالَ الْأَولونَ﴾ مَعْنَاهُ: كذبُوا كَمَا كذب الْأَولونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون﴾ أَي: مَحْشُورُونَ، وَقَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار والتعجب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لقد وعدنا نَحن وآباؤنا هَذَا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين﴾ أَي: أكاذيب الْأَوَّلين، وَيُقَال: أسمار الْأَوَّلين وأقاصيصهم، وَقيل: مَا سطره الْأَولونَ فِي
486
﴿وعظاما أئنا لمبعوثون (٨٢) لقد وعدنا نَحن وآباؤنا هَذَا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين (٨٣) قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ (٨٤) سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ (٨٥) قل من رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم (٨٦) سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون (٨٧) قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير﴾ كتبهمْ وَلَا حَقِيقَة لَهُ.
487
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿سيقولون لله﴾ يَعْنِي: هُوَ ملك لله وَملكه.
وَقَوله: ﴿أَفلا تذكرُونَ﴾ أَي: تتعظون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم﴾ أَي: السرير الضخم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿سيقولون لله﴾ وَقُرِئَ: " سيقولون الله ".
أما قَوْله تَعَالَى: " سيقولون الله " هَذَا رَاجع إِلَى اللَّفْظ، فَالْمَعْنى كَالرّجلِ يَقُول لغيره: من مَالك هَذَا الدَّار؟ فَيَقُول: زيد.
وَأما قَوْله: ﴿سيقولون لله﴾ يرجع إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: من مَالك هَذِه الدَّار؟ فَيَقُول: هِيَ لزيد.
وَقَوله: ﴿قل أَفلا تعقلون﴾ أَي: أَفلا تحذرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء﴾. أَي: مَالك كل شَيْء، وَالتَّاء للْمُبَالَغَة، وَكَذَلِكَ فعلوت تذكر للْمُبَالَغَة مثل قَوْلهم: جبروت ورهبوت، من كَلَامهم: رهبوت خير من رحموت، وَمَعْنَاهُ: أَن ترهب خير من أَن ترحم.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ﴾ أَن يُؤمن على كل النَّاس، وَلَا يُؤمن عَلَيْهِ أحد، وَمَعْنَاهُ: أَن من أَمنه الله لَا يقدر عَلَيْهِ أحد، وَمن لم يُؤمنهُ الله لم يُؤمنهُ أحد، وَقيل: من أَرَادَ الله عَذَابه لَا يقدر أحد على منع الْعَذَاب عَنهُ، وَمن أَرَادَ أَن يعذب غَيره من الْخلق قدر الله على مَنعه مِنْهُ. وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
487
﴿وَلَا يجار عَلَيْهِ إِن كُنْتُم تعلمُونَ (٨٨) سيقولون لله قل فَأنى تسحرون (٨٩) بل أتيناهم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ (٩١) عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فتعالى عَمَّا يشركُونَ (٩٢) قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون﴾
488
قَوْله تَعَالَى: ﴿سيقولون لله قل فَأنى تسحرون﴾ أَي: تخدعون، وَقيل: تصرفون عَن الْحق، قَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ: أَيْن ذهبت (عقولكم) ؟، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ﴿فَأنى تسحرون﴾ أَي: تعمهون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل أتيناهم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ﴾ أَي: بِالصّدقِ، إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ فِيمَا يدعونَ لله من الشَّرِيك وَالْولد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه﴾ أَي: من شريك. وَقَوله: ﴿إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق﴾ أَي: تفرد بِمَا خلقه، فَلم يرض أَن يُضَاف خلقه وَنعمته إِلَى غَيره. وَقَوله: ﴿ولعلا بَعضهم على بعض﴾. أَي: طلب بَعضهم الْغَلَبَة على الْبَعْض، كَمَا يفعل مُلُوك الدُّنْيَا فِيمَا بَينهم، ثمَّ نزه نَفسه فَقَالَ: ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة﴾ أَي: السِّرّ وَالْعَلَانِيَة.
وَقَوله: ﴿فتعالى عَمَّا يشركُونَ﴾ أَي: تعظم عَمَّا يشركُونَ، وَمَعْنَاهُ: أَنه أعظم أَن يُوصف بِهَذَا الْوَصْف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون﴾ يَعْنِي: إِن أريتني مَا وعدتهم من الْعَذَاب
﴿رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين﴾ أَي: اجْعَلنِي خَارِجا مِنْهُم، وَلَا تعذبني مَعَهم، هَكَذَا ذكره الزّجاج. قَالَ أهل التَّفْسِير: وَهَذَا دَلِيل على أَنه يجوز للْعَبد أَن يسْأَل الله تَعَالَى مَا هُوَ كَائِن لَا محَالة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّا على أَن نريك مَا نعدهم لقادرون﴾ أَي: مَا نعدهم من الْعَذَاب.
488
( ﴿٩٣) رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين (٩٤) وَإِنَّا على أَن نريك مَا نعدهم لقادرون (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن السَّيئَة نَحن أعلم بِمَا يصفونَ (٩٦) وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين (٩٧) وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون (٩٨) حَتَّى إِذا جَاءَ أحدهم الْمَوْت قَالَ رب ارْجِعُونِ (٩٩) ﴾
489
قَوْله تَعَالَى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن السَّيئَة﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الدّفع بِالصبرِ، وَاحْتِمَال الْأَذَى، والكف عَن الْمُقَاتلَة، وَهَذَا قبل آيَة السَّيْف، وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: هُوَ أَن يسلم على من يُؤْذِيه، فالدفع هُوَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَعَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ دفع الشّرك بِلَا إِلَه إِلَّا الله، وَعَن بَعضهم: هُوَ دفع الْمُنكر بِالْمَوْعِظَةِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿نَحن أعلم بِمَا يصفونَ﴾ أَي: بوصفهم وكذبهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين﴾ وساوسهم، والهمز فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من الدّفع، وَدفع الشَّيَاطِين غَيره إِلَى الْمعْصِيَة يكون بوسوسته، فَعرف أَن الهمزات هِيَ الوساوس، وَقيل: همز الشَّيْطَان إغراؤه على الْمعْصِيَة.
وَقَوله: ﴿وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون﴾ أَي: يحضروا أَمْرِي، وَإِنَّمَا ذكر الْحُضُور؛ لِأَنَّهُ يغريه على الْمعْصِيَة، ويوسوسه إِذا حضر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا جَاءَ أحدهم الْمَوْت﴾ أَي: حضر أحدهم الْمَوْت. وَقَوله: ﴿قَالَ رب ارْجِعُونِ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه خطاب للْمَلَائكَة، وهم الْمَلَائِكَة الَّذين يحْضرُون بِقَبض الرّوح، وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ: ﴿رب﴾.
وَأما القَوْل الثَّانِي - وَهَذَا الْمَعْرُوف - أَن الْخطاب مَعَ الله، وَكَأن الْكَافِر يسْأَل ربه عِنْد الْمَوْت أَن يردهُ إِلَى الدُّنْيَا، فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَقد قَالَ: ﴿ارْجِعُونِ﴾، وَالْوَاحد لَا يخطاب بخطاب الْجمع، وَلَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول الْقَائِل: اللَّهُمَّ اغفروا لي؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الْجمع على طَرِيق التفخيم والتعظيم، فَإِن الله تَعَالَى أخبر عَن نَفسه بِلَفْظ الْجمع فَقَالَ: ﴿إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ وَمثل هَذَا كثير فِي الْقُرْآن، فَذكر قَوْله: ﴿ارْجِعُونِ﴾ على مُوَافقَة هَذَا كَمَا يُخَاطب الْجمع،
489
﴿لعَلي أعمل صَالحا فِيمَا تركت كلا إِنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا وَمن ورائهم برزخ إِلَى يَوْم يبعثون (١٠٠) فَإِذا نفخ فِي الصُّور﴾ وَعَن الْخَلِيل أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة - وَكَانَ شَدِيد التوقي فِي كَلَام الْقُرْآن - وَقَالَ: ﴿رب ارْجِعُونِ﴾ مَعْنَاهُ: اجْعَلنِي مرجوعا.
490
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لعَلي أعمل صَالحا فِيمَا تركت﴾ أَي: أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقيل: هُوَ الْعَمَل بِالطَّاعَةِ، قَالَ قَتَادَة: طلب الرُّجُوع ليعْمَل صَالحا، لَا ليجمع الدُّنْيَا، وَيَقْضِي الشَّهَوَات، فرحم الله امْرَءًا عمل فِيمَا يتمناه الْكَافِر إِذا رأى الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كلا إِنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا﴾ يَعْنِي: سُؤال الرّجْعَة، وَقد قَالَ أهل الْعلم من السّلف: لَا يسْأَل الرّجْعَة عبد لَهُ عِنْد الله ذرة من خير؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ لَهُ خير عِنْد الله فَهُوَ يحب الْقدوم عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا أَن سُؤال الرّجْعَة يكون للْكَافِرِ لَا لِلْمُؤمنِ.
وَقَوله: ﴿وَمن وَرَاءَهُمْ برزخ﴾ أَي: حاجز، وَهُوَ الْقَبْر.
وَقَوله: ﴿إِلَى يَوْم يبعثون﴾ فالبرزخ هُوَ مَا بَين الْمَوْت إِلَى الْبَعْث، وَيُقَال: مَا بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا نفخ فِي الصُّور﴾ حُكيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: أَي: فِي الصُّور. وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَالصَّحِيح أَن الصُّور قرن ينْفخ فِيهِ إسْرَافيل، وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " كَيفَ أنعم، وَقد الْتَقم صَاحب الْقرن الْقرن، وحنى جَبهته، وأصغى بأذنه مَتى يُؤمر فينفخ ".
فَمن الْعلمَاء من يَقُول: ينْفخ ثَلَاث نفخات: نفخة للصعق، ونفخة للْمَوْت،
490
﴿فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون (١٠١) ﴾ ونفخة للبعث. وَالْأَكْثَرُونَ أَنه ينْفخ نفختين: نفخة للْمَوْت، ونفخة للبعث، والصعق هُوَ الْمَوْت، وَيكون بَين النفختين أَرْبَعُونَ سنة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ﴾ أَي: لَا أَنْسَاب يتفاخرون ويتواصلون بهَا، وَأما أصل الْأَنْسَاب فباقية.
وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " كل سَبَب وَنسب يَنْقَطِع إِلَّا سببي ونسبي " أَي: لَا ينفع سَبَب وَلَا نسب يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا سببي ونسبي، وَيُقَال: سَببه الْقُرْآن، وَنسبه الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿وَلَا يتساءلون﴾ أَي: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا سُؤال تواصل، فَإِن قيل: أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿فَأقبل بَعضهم على بعض يتساءلون﴾ ؟
الْجَواب: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: يَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن وتارات، فَفِي موطن يشْتَد عَلَيْهِم الْخَوْف (فتذهل) عُقُولهمْ، فَلَا يتساءلون، وَفِي مَوضِع يفيقون إفاقة فيتساءلون.
491
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون﴾ أَي: الفائزون والناجون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم﴾ أَي: غبنوا
491
﴿فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون (١٠٢) وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم فِي جَهَنَّم خَالدُونَ (١٠٣) تلفح وُجُوههم النَّار وهم فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤) ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم بهَا تكذبون (١٠٥) ﴾ أنفسهم بِهَلَاك (الْآيَة). وَقَوله: ﴿فِي جَهَنَّم خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون.
492
قَوْله تَعَالَى: ﴿تلفح وُجُوههم النَّار﴾. اللفح أكبر من النفح، وَمَعْنَاهُ: يُصِيب وُجُوههم حر النَّار، وَقيل: تحرق وُجُوههم النَّار وتنضجها.
وَقَوله: ﴿وهم فِيهَا كَالِحُونَ﴾ الكالح فِي اللُّغَة: هُوَ العابس، وَأما الْمَرْوِيّ فِي التَّفْسِير: هُوَ الَّذِي تقلصت شفتاه، وَظَهَرت أَسْنَانه.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: كالرأس النضيج قد بَدَت أَسْنَانه، وتقلصت شفتاه. وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " هُوَ أَن تتقلص شفته الْعليا حَتَّى تبلغ وسط رَأسه وَتَسْتَرْخِي شفته السُّفْلى حَتَّى تضرب سرته ". وَفِي بعض التفاسير: وَتخرج أَسْنَانه عَن شَفَتَيْه [أَرْبَعِينَ] ذِرَاعا.
وَعَن بعض التَّابِعين من الْخَائِفِينَ: أَنه مر على شواء، فَرَأى رُءُوس الْغنم وَقد أبرزت، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا غشي عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يذكر هَذِه الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم بهَا تكذبون﴾ أَي: تجحدون وتنكرون.
وَقَوله: ﴿قَالُوا رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا﴾ وقرىء: " شقاوتنا " وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَالْمرَاد مِنْهُ: إِنَّمَا أدخلنا النَّار بِمَا غلب علينا من حكمك وقضائك بشقاوتنا. وَقَوله:
492
﴿قَالُوا رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ (١٠٦) رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَإِن عدنا فَإنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون (١٠٨) إِنَّه كَانَ فريق من عبَادي يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فاتخذتموهم سخريا﴾ ﴿وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ﴾ أَي: عَن الْحق.
493
قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَإِن عدنا فَإنَّا ظَالِمُونَ﴾ فيتركهم مِقْدَار عمر الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَة: مثلي عمر الدُّنْيَا.
ثمَّ يَقُول: ﴿ [قَالَ] اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون﴾ قَالَ: فَيَنْقَطِع رجاؤهم حِينَئِذٍ، وَلَا يسمع بعد ذَلِك مِنْهُم إِلَّا الزَّفِير والشهيق، وَأما قَوْله: ﴿اخْسَئُوا﴾ أَي: ابعدوا، وَهُوَ مثل قَوْلهم: خسأت الْكَلْب أَي: أبعدته.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّه كَانَ فريق من عبَادي يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ﴾. قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا فِي بِلَال وسلمان وعمار وصهيب والفقراء من أَصْحَاب الرَّسُول.
وَقَوله: ﴿فاتخذتموهم سخريا﴾ وقرىء: " سخريا " فَقَوله: ﴿سخريا﴾ من الِاسْتِهْزَاء، وَقَوله: " سخريا " من التسخير.
وَقَوله: ﴿حَتَّى أنسوكم ذكري﴾ أَي: اشتغلتم بالاستهزاء والسخرية عَلَيْهِم، وتركتم ذكري، وَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْكُم أَن تذكروني بدل استهزائكم بهم.
وَقَوله: ﴿وكنتم مِنْهُم تضحكون﴾ وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الِاسْتِهْزَاء بِالنَّاسِ كَبِيرَة، وَهُوَ مَوْعُود عَلَيْهِ، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: من ضحك ضحكة مج مجة من الْعلم لَا يعود إِلَيْهِ أبدا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنِّي جزيتهم الْيَوْم بِمَا صَبَرُوا أَنهم هم الفائزون﴾ أَي: بصبرهم ﴿أَنهم هم الفائزون﴾ أَي: الناجون.
493
﴿حَتَّى أنسوكم ذكري وكنتم مِنْهُم تضحكون (١١٠) إِنِّي جزيتهم الْيَوْم بِمَا صَبَرُوا أَنهم هم الفائزون (١١١) قَالَ كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين (١١٢) قَالُوا لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم فاسأل العادين (١١٣) قَالَ إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا لَو أَنكُمْ كُنْتُم تعلمُونَ (١١٤) أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون (١١٥) ﴾
494
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين﴾. يَعْنِي: قَالَ الله تَعَالَى للْكفَّار: ﴿كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين﴾ (أَي: فِي الدُّنْيَا، وَيُقَال: فِي الْقُبُور، وقرىء: " قل كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين ") وَمَعْنَاهُ: قل يَا أَيهَا الْكَافِر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم﴾ إِنَّمَا ذكرُوا يَوْمًا أَو بعض يَوْم؛ لأَنهم نسوا عدد مَا لَبِثُوا من هول مَا يلقاهم يَوْم الْقِيَامَة، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذِه الْآيَة تدل على أَن عَذَاب الْقَبْر لَيْسَ بِثَابِت للْكفَّار؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ثَابتا لم يَقُولُوا: لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه ذهب عَن قُلُوبهم عَذَاب الْقَبْر من هول مَا يلقاهم يَوْم الْقِيَامَة، وَالثَّانِي: أَن الله تَعَالَى يرفع الْعَذَاب عَن أهل الْقُبُور بَين النفختين، فينسون عَذَاب الْقَبْر، ويستريحون، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم لهَذَا.
وَقَوله: ﴿فاسأل العادين﴾ أَي: الْمَلَائِكَة الَّذين يعْرفُونَ عدد مَا لَبِثُوا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا﴾ يَعْنِي: مَا لبثتم إِلَّا قَلِيلا ﴿لَو أَنكُمْ كُنْتُم تعلمُونَ﴾ أَي: لَو تعلمُونَ عدد مَا لبثتم، وَإِنَّمَا ذكر قَلِيلا؛ لِأَن الْوَاحِد من أهل الدُّنْيَا وَإِن لبث فِي الدُّنْيَا سِنِين كَثِيرَة، فَإِنَّهُ يكون قَلِيلا فِي جنب مَا يلبث فِي الْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا﴾ أَي: لتلعبوا أَو تعبثوا، وَقد سمى الله تَعَالَى جَمِيع الدُّنْيَا لعبا ولهوا فَقَالَ: ﴿اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو﴾ فالآية تدل على أَن الْآدَمِيّ لم يخلق لطلب الدُّنْيَا والاشتغال بهَا، وَإِنَّمَا خلق ليعبد الله وَيقوم بأوامره، وَعَن بَعضهم قَالَ: ﴿أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا﴾ هُوَ فِي معنى قَوْله
494
﴿فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم (١١٦) وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقل رب﴾ تَعَالَى: ﴿أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يهمل أمره وَقَالَ بَعضهم: خلق (لهلاك) الْأَبَد أَو لملك الْأَبَد.
وَقَوله: ﴿وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
495
قَوْله تَعَالَى: ﴿فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم﴾ أَي: الْمُرْتَفع، وَقيل: الْحسن، وَقد بَينا معنى ﴿تَعَالَى﴾ من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ﴾ أَي: لَا بَيِّنَة وَلَا حجَّة لَهُ بِهِ، قَالَ أهل الْعلم: لَا حجَّة لأحد فِي دَعْوَى الشّرك، وَإِنَّمَا الْحجَّة عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه﴾ هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ إِن علينا حسابهم﴾، وَرُوِيَ " أَن أَعْرَابِيًا أَتَى النَّبِي وَقَالَ: وَمن يحاسبنا يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: الله. قَالَ: نجونا وَرب الْكَعْبَة، إِن الْكَرِيم إِذا قدر غفر " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: ﴿إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ﴾ أَي: لَا يسْعد وَلَا يفوز.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقل رب اغْفِر وَارْحَمْ وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ﴾
﴿اغْفِر﴾ اسْتُرْ ﴿وَارْحَمْ﴾ اعطف، والغفور: الستور، والرحيم هُوَ العطوف.
495
﴿اغْفِر وَارْحَمْ وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ (١١٨) ﴾
قَوْله: ﴿وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ﴾. أَي: خير من رحم.
496

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿سُورَة أنزلناها وفرضناها﴾
تَفْسِير سُورَة النُّور
وَهِي مَدَنِيَّة، وروى الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِيمَا خرجه من الزِّيَادَة على الصَّحِيحَيْنِ بِرِوَايَة شُعَيْب بن إِسْحَق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ فِي النِّسَاء: " لَا تسكنوهن الغرف، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة، وعلموهن الْغَزل وَسورَة النُّور ".
497
Icon