تفسير سورة المؤمنون

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

الى أعلى طبقات الجنان
[الآيات]
قَدْ أَفْلَحَ وفاز بمرتبة حق اليقين التي هي أعلى مراتب التوحيد ومنتهى الصعود والعروج ومنقطع الطلب والسلوك الْمُؤْمِنُونَ الراسخون في اليقين العلمي والعيني الجازمون الثابتون فيهما بلا تزلزل وتلوين
الَّذِينَ هُمْ من كمال رسوخهم وتمكنهم فِي صَلاتِهِمْ وميلهم التي هي عبارة عن معراج الوصول الى مرتبة الرضاء والقبول خاشِعُونَ مخبتون متضرعون متحننون نحو الحق عن ظهر القلب وعموم الجوارح والأعضاء بلا تلعثم وعثور
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ الشاغل لهم عن التوجه نحو الحق مُعْرِضُونَ منصرفون مثل اعراضهم وانصرافهم عن مكروهات نفوسهم وقلوبهم
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ المطهرة لنفوسهم عن الميل نحو امتعة الدنيا وحطامها الفانية فاعِلُونَ تمرينا لنفوسهم على ترك الميل والالتفات إليها
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ التي هي أجل مواريث بهيميتهم وأقوى قوائم بشريتهم حافِظُونَ ناكسون رؤسهم عن مقتضاها راكنون عما تأملها وتهويها
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء والسراري حفظا لحكمة إبقاء النوع ومصلحة التناسل فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ على ذلك ان ارتكبوا بلا مبالغة مفرطة زائدة على قدر الحاجة
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ وطلب التجاوز عن قدر الحاجة من الحلائل المذكورة فَأُولئِكَ البعداء الخارجون عن مقتضى الحد والحكمة المتقنة الإلهية هم العادُونَ المقصورون على التجاوز والعدوان لا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح
وَالَّذِينَ هُمْ من كمال عدالتهم وقسطهم الفطري واعتدال اوصافهم الجبلية وأخلاقهم الصورية والمعنوية لِأَماناتِهِمْ التي قد ائتمنوا عليها ثقة واعتمادا وَعَهْدِهِمْ الذي عهدوا به سواء كانت الامانة والعهد لله او لعباده مطلقا سواء كانوا مؤمنين او كافرين راعُونَ قائمون مواظبون على حفظها ورعاية حقها بلا فوت شيء من حقوقها ورعايتها
وَبالجملة المؤمنون المفلحون الفائزون بالعاقبة الحميدة التي هي مرتبة الكشف والشهود المعبر عنها عند ارباب المحبة والولاء بالحق اليقين الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المقربة لهم الى ربهم يُحافِظُونَ يداومون ويواظبون على أدائها في أوقاتها المكتوبة بشرائطها المفروضة وآدابها المسنونة مقارنين موصوفين مع ما ذكر من الأوصاف الجميلة المذكورة آنفا ومع الأخلاق الحميدة المرضية والسجايا الفاضلة الكاملة مخلصين فيها مجتنبين عن رذائل الرياء والرعونة والعجب والسمعة
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الأولياء الْوارِثُونَ عن الأنبياء والرسل وعن صفوة عباده وخيرتهم
يعنى الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ التي هي عبارة عن التحقق بمقام الكشف والشهود باستحقاقهم الذاتي سيما مع استرشادهم واستفادتهم من الأنبياء والرسل الهادين المهديين الراشدين المرشدين لهم الى ما جبلوا لأجله لذلك هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون متمكنون متقررون بحيث لا يتبدلون ولا يتحولون
وَكيف لا يرثون الفردوس ولا يخلدون فيها أولئك المفلحون مع انهم قد جبلوا لأجلها سيما إذا كملوا وتمموا نسكهم على الوجه الذي هداهم الأنبياء والرسل الهادون والأولياء الأمناء الراشدون المرشدون الذينهم خلفاء عن الرسل الكرام والأنبياء العظام عليهم التحية والسّلام والإكرام وهؤلاء العظماء الواصلون الى أعلى المقامات وارفع الدرجات منتشؤن من نوع الإنسان مع انا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا جسم آدم وبنيته أولا مِنْ سُلالَةٍ اى زبدة وخلاصة منتخبة متخذة مِنْ طِينٍ الذي هو أقوى مواد الأجسام السفلية وأقوم عناصرها وهيولاها ولا شك انه أدون الأشياء وارذلها
ثُمَّ جَعَلْناهُ وصيرنا ما انتخبنا وأخذنا من الطين نُطْفَةً بيضاء وقررناها زمانا فِي قَرارٍ ومستقر مَكِينٍ
حصين متين الذي هو ظلمة الرحم
ثُمَّ بعد ما مكناها في المقر المذكور المكين زمانا قد خَلَقْنَا وصيرنا النُّطْفَةَ المقررة المتمكنة في الرحم عَلَقَةً دما حمراء منعقدة ممتزجة بدم الطمث منصبغة به فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ الحمراء مُضْغَةً لحما متصلا ملتصقا اجزاؤه بحيث صار قابلا للمضع فَخَلَقْنَا وصيرنا بعد ذلك الْمُضْغَةَ الملتصقة المتصلة بعد انفصالها وتفريقها التقديري بمقتضى الحكمة عِظاماً صلبة خارجة عن قابلية المضغ والتليين مقومة محكمة غير مائلة وغير قابلة للتبديل والتحريف ليكون قوائم واعمدة للجسم فَكَسَوْنَا الْعِظامَ الصلبة القابلة للكسر والانكسار لَحْماً صونا لها عما يضرها ويكسرها فتم حينئذ تركيب صورته الجسمية وقالبه الطبيعي بجميع لوازمها ومتمماتها من العروق والعظام والغضاريف والشريانات وغيرها من الرباطات والارتباطات ورقائق الامتزاجات ودقائق الاختلاطات الواقعة بين أجزاء البدن ثُمَّ بعد ما تم تركيبه وكمل مزاجه وتصويره على أبدع وجه وأحسنه وصار حيوانا حساسا متحركا بالإرادة كسائر الحيوانات أَنْشَأْناهُ اى قد أبدعنا واودعنا واخترعنا في هيكله خاصة خَلْقاً مخلوقا آخَرَ مختصا به من بين سائر انواع الحيوانات بان قد نفخنا فيه من روحنا حتى يسرى الى عموم أعضائه واجزائه وآلاته مطلقا ليتصف باوصافنا الكاملة ويتخلق باخلاقنا الفاضلة وما ذلك الا ليستحق بخلافتنا ونيابتنا ويليق لان يصير مرأة لنا قابلة لانعكاس اظلال أسمائنا الحسنى واوصافنا العليا فَتَبارَكَ تعالى وتعاظم اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على إيجاد أمثال هذه التبدلات والتطورات التي قد تحيرت العقول عندها وانحسرت الافهام دونها وبالجملة سبحانه هو في ذاته أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وأكرم القادرين المقدرين تقديرا وخلقا وأتمهم ابداعا واختراعا لو فرض مقدر غيره وخالق سواه مع انه محال عقلا وعادة بل لا اله الا هو ولا موجود سواه
ثُمَّ إِنَّكُمْ يا بنى آدم بَعْدَ ذلِكَ اى بعد تتميم صوركم ومعناكم على الوجه الذي ذكر لَمَيِّتُونَ بالآجال المقدرة من لدنا لانقضاء حياتكم في النشأة الأولى
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للعرض والجزاء تُبْعَثُونَ وتحشرون في النشأة الاخرى لانتقاد ما اكتسبتم في النشأة الاولى ثم تجازون حسب ما تحاسبون فريق في الجنة معززون وفريق في النار معذبون الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على عباده تفضلا عليهم وامتنانا فقال وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ سموات طَرائِقَ متطارقة متطابقة بعضها فوق بعض مشتملة على كواكب مدبرات لما في عالم السفلى من الأشياء المتعلقة لمعاشكم وَبالجملة ما كُنَّا في حال من الأحوال السابقة واللاحقة عَنِ الْخَلْقِ اى عن جميع المخلوقات المستندة إلينا الظاهرة من امتداد اظلالنا المنعكسة من اوصافنا وأسمائنا غافِلِينَ ذاهلين عن حفظها وتفقدها ولولا امدادنا إياها طرفة لفنى الكل دفعة
وَمن كمال جودنا ووفور رحمتنا الى عموم عبادنا قد أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بعد ما اصعدنا الابخرة والادخنة من الأرض نحوها وركبناهما تركيبا بليغا بديعا الى ان صارت سحبا متراكمة متكاثفة فتقاطر منها الماء بمجاورة الهواء الباردة إياها ونفوذها فأرسلنا الى الأرض الجرز بِقَدَرٍ معلوم معتدل فَأَسْكَنَّاهُ وأدخلناه فِي خلال الْأَرْضِ وتجاويفها ومساماتها حتى ندخر فيها ثم فجرنا ينابيع يخرج الماء منها متدرجا ويجرى على قدر الحاجة تتميما لحوائج عبادنا وتيسيرا لهم في معاشهم وَإِنَّا بعد ما اسكنا وأجرينا الماء في الأرض عَلى ذَهابٍ بِهِ اى اذهاب الماء واعدامه بالاغوار والتفريق
والتجفيف وغير ذلك من طرق الاذهاب والازالة لَقادِرُونَ كما انا قادرون على انزاله وإخراجه واجرائه وبعد ما اخترنا وادخرنا الماء
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ اى بالماء المدخر جَنَّاتٍ حدائق وبساتين مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هما معظم الفواكه وأصلها وبالجملة لَكُمْ فِيها اى في تلك الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ متفرعة عليهما ملتفة بهما من انواع الفواكه على ما هو عادة الدهاقين في غرس الحدائق والبساطين وَمِنْها اى من تلك الجنات ايضا تَأْكُلُونَ تغذيا وتقوتا إذ تزرعون فيها ايضا من انواع الحبوبات
وَلا سيما قد انشأنا لكم بالماء شَجَرَةً مباركة تَخْرُجُ وتنشأ مِنْ طُورِ سَيْناءَ هو جبل رفيع بين مصر وايلة تَنْبُتُ وتثمر ملتبسة ممتزجة بِالدُّهْنِ المضيء للسروج والقناديل وَصِبْغٍ ادام حاصل متخذ منها لِلْآكِلِينَ إذ الناس يغمسون اخبازهم فيه تأدما
وَإِنَّ لَكُمْ ايها المتأملون في نعمنا المعتبرون من انعامنا فِي الْأَنْعامِ والدواب التي تنعمون بها من لدنا لَعِبْرَةً عظيمة واعتبارا ظاهرا دالا على كمال قدرتنا وجلالة نعمتنا لو تعتبرون منها إذ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ونخرج لكم من بين الأخلاط والفضلات لبنا خالصا سائغا للشاربين مع انه لا مناسبة بينه وبين مجاوره وملاصقه من الفرث والدم وسائر الأخلاط والفضلات وَايضا لَكُمْ فِيها اى في الانعام مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من ظهورها وأصوافها واشعارها واوبارها وغير ذلك وَايضا مِنْها تَأْكُلُونَ اى من لحومها تقوية لأمزجتكم وتقويما لها
بالجملةلَيْها
اى بعض الانعام في البر عَلَى الْفُلْكِ
في البحرحْمَلُونَ
وبعد ما عد سبحانه نبذا من نعمه الجليلة التي قد أنعم بها على عباده شرع في توبيخ من يكفر بها ولم يؤد حق شكرها
فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا حسب حكمتنا واصلاحنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ حين انحرفوا عن جادة العدالة الفطرية وانصرفوا عن طرق الاستقامة وسبل السلامة مطلقا فَقالَ بمقتضى وحينا إياه مناديا لهم ليقبلوا اليه على مقتضى شفقة النبوة والرسالة وعطف الإرشاد والهداية يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه امحاضا للنصح وإظهارا لكمال الإشفاق اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويستحق بالعبادة غَيْرُهُ أَتتخذون الها سواه فَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون عن بطشه وانتقامه بأنواع العذاب والنكال ايها المسرفون المفرطون وبعد ما قد ظهر عليهم بدعوى الرسالة واظهر لهم الدعوة على الوجه المذكور
فَقالَ الْمَلَأُ والأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة قد عبدوها مثل عبادة الله على سبيل الخطاب لضعفاء العوام ترويجا لكفرهم وتحقير اله ولدعوته ما هذا الرجل الحقير الدنى المدعى للرسالة والنبوة من الله الموهوم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بل أضعفكم حالا وأدناكم عقلا ومالا يُرِيدُ مع غاية حقارته ودنائته أَنْ يَتَفَضَّلَ ويتفوق عَلَيْكُمْ بهذه الدعوة الكاذبة والافتراء الباطل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ إرسال رسول ونبي لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً إذ هم اولى وأليق بالإرسال من عنده ولهم مناسبة معه بخلاف البشر إذ لا مناسبة له معه سبحانه وتعالى مع انا ما سَمِعْنا بِهذا اى برسالة البشر من الله لا في زماننا هذا ولا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وبالجملة لم يعهد هذا لا في الازمنة السابقة ولا في اللاحقة
بل إِنْ هُوَ وما هذا المدعى إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ يعنى قد عرض له جنون فاختل دماغه وذهب عقله فيتخبط الشيطان لذلك يتفوه بأمثال هذه الهذيانات المستبعدة المستحيلة وبالجملة فَتَرَبَّصُوا بِهِ وأمهلوه وانتظروا في امره
وشأنه ولا تميلوا نحوه ولا تلتفتوا اليه حَتَّى حِينٍ ومضى مدة وزمان ليظهر لكم خبطه واختلاله او يفيق عما هو عليه من الخبط والجنون وعاد على ما كان قبل ثم لما سمع منهم نوح عليه السّلام ما سمع من التجهيل والتسفيه وايس منهم وقنط عن ايمانهم وصلاحهم
قالَ مشتكيا الى الله مستعينا منه رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرم وأرسلني الى هؤلاء الضالين عن سواء سبيلك لأهديهم الى توحيدك فبلغت ما أرسلت به إياهم فلم تقبلوا منى بل قد كذبوني وسفهونى انْصُرْنِي يا رب باهلاكهم وتعذيبهم بِما كَذَّبُونِ اى بدل تكذيبهم إياي وبسببه
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ انجازا لما قد وعدنا إياهم من العذاب والهلاك بعد تكذيبهم الرسول وعموم ما جاء به من عندنا من الايمان والتوحيد وجميع المعتقدات الاخروية أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ واعمل السفينة الموعودة لك ولا تخف عن فسادها بعدم تعلمك من احد بل اصنعها أنت بِأَعْيُنِنا وبين أيدينا وفي حضورنا نحفظك عن عروض الخطأ والفساد في صنعها وَأعملها على مقتضى وَحْيِنا وأمرنا وتعليمنا لك كيفية صنعها ولا تبال بتسفيههم لك واستهزائهم معك ونسبتك الى الخبط والجنون وانواع الأذيات فَإِذا جاءَ أَمْرُنا الوجوبي المتعلق باغراقهم واستئصالهم وَفارَ التَّنُّورُ المعين المعهود في حضرة علمنا فورة ونبع منه الماء نبعة فَاسْلُكْ أنت حينئذ وادخل على الفور فِيها اى في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ اى من كل نوع من الحيوانات اثنين ذكرا وأنثى إبقاء لعموم الأنواع في العالم وَاسلك ايضا فيها أَهْلَكَ ومن ينتمى إليك قرابة ودينا إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والحكم منا وجرى في لوح قضائنا وحضرة علمنا بانه من الهالكين مِنْهُمْ اى من أهلك يعنى ادخل عموم أهلك سوى من مضى قضاؤنا ونفذ حكمنا بغرقه وهلاكه وهو ابنه كنعان وَبعد ما سبق القضاء منا باهلاك من كفر من أهلك عليك ان لا تُخاطِبْنِي يا نوح ولا تدع الىّ في حق من سبق الحكم منى بغرقه ولا تسع فِي خلاص القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالعرض على عذابنا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ معدودون عن عداد الغرقى الهلكى ولا اثر لدعائك لهم بعد ما قد صار الأمر منا حتما مقضيا وصدر الحكم عنا مبرما جزما
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ يا نوح وتمكنت وَتمكن ايضا مَنْ مَعَكَ مع المؤمنين عَلَى الْفُلْكِ وصرتم متمكنين مستقرين عليها فَقُلِ شكرا لما أنعمنا عليك من انجاز النصرة المعهودة الموعودة لك وإهلاك عدوك وغير ذلك من النعم العظام الواصلة إليك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا من سعة رحمته وكمال جوده ومرحمته مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والشرع عتوا وعنادا
وَقُلْ ايضا بعد ما تمكنت على السفينة رَبِّ أَنْزِلْنِي بفضلك ولطفك مُنْزَلًا مُبارَكاً كثير الخير والبركة وَأَنْتَ من كمال جودك خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ لو فرض منزل سواك ومع انه لا منزل غيرك ولا وجود لسواك لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصة نوح مع قومه ونجاته من الغرق وهلاك قومه وتعليم صنع السفينة عليه وخروج الماء من التنور المعهود واحاطته على وجه الأرض وشموله عليها ونجاة من كان في السفينة وغير ذلك من الأمور البديعة لَآياتٍ دلائل واضحات على كمال قدرتنا وارادتنا واختيارنا في عموم أفعالنا وتصرفاتنا على المعتبرين المتأملين في بدائع الأمور وغرائبها الناظرين بعين العبرة والاستبصار في حدوث أمثال هذه الوقائع الهائلة وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ اى ان الشأن والأمر انا باحداث هذه الحوادث مع قوم نوح لمختبرين مجربين عموم عبادنا لننظر من يعتبر ويتعظ بها منهم وما هي الا تذكرة وتذكير منا
إياهم
ثُمَّ بعد إهلاك قوم نوح وإغراقهم أَنْشَأْنا وأظهرنا من ذرية من في سفينة نوح عليه السّلام مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ هم عاد وثمود فانحرفوا ايضا عن جادة التوحيد
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا ناشئا مِنْهُمْ ابتلاء لهم واختبارا لمن اعتبر منهم فقال لهم رسولهم على مقتضى وحينا والهامنا إياه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والوجود واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد له ويرجع اليه غَيْرُهُ أَتتخذون وتأخذون غيره الها وتعبدون له إفكا وتتضرعون نحوه في الوقائع والخطوب فَلا تَتَّقُونَ من غضبه ولا تخافون عن قهره وانتقامه ايها المفسدون المفرطون
وَبعد ما بلغهم الرسول الوحى به قالَ الْمَلَأُ مِنْ اعيان قَوْمِهِ عتوا واستكبارا وهم الَّذِينَ كَفَرُوا بالله باتخاذ الأصنام آلهة وأنكروا وحدة الا له وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ويوم العرض والجزاء وعموم المواعيد والوعيدات الموعودة فيها وَمع كفرهم وشركهم وانكارهم بالنشأة الاخرى قد أَتْرَفْناهُمْ بوفور نعمنا إياهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا امهالا لهم مخاطبين لضعفة قومهم وسفلتهم ما هذا المدعى الكاذب إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بلا مزية له عليكم يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ ايضا
مِمَّا تَشْرَبُونَ وَالله لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً فيما يأمركم به من تلبيساته وتغريراته مع كونه مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ في إطاعتكم وانقيادكم لبنى نوعكم إِذاً لَخاسِرُونَ خسرانا عظيما لا خسران أعظم منه إذ هو خسران العقل والإدراك وتذليل النفس العزيزة بمثلها تغريرا
أَتسمعون وتقبلون منه ايها المجبولون على الدرية والدراية ما يَعِدُكُمْ به من الخرافات المستبعدة عن مقتضى العقل والإدراك وذلك أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً رميما ورفاتا بحيث قد تفرقت اجزاؤكم وتفتتت الى ان صارت منبثة بل عدما صرفا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ منها احياء معادون الى ما كنتم عليه من التشخصات والتعينات
هَيْهاتَ هَيْهاتَ قد بعد بعدا تاما واستحال استحالة شديدة وامتنع امتناعا ظاهرا لِما تُوعَدُونَ من البعث بعد الموت والوجود بعد العدم والإعادة بعد الاماتة
بل إِنْ هِيَ وما الحيوة لنا ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى ما هي حاصلة لنا الا فيها إذ وجودنا وعدمنا وايجادنا واعدامنا ما هو الا فيها وبالجملة نَمُوتُ ونعدم بعد ما قد كنا موجودين فيها وَنَحْيا ايضا ونوجد بعد ما كنا معدومين فيها وَبالجملة ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ منشرين من قبورنا احياء بعد ما متنا فيها كما نشاهد من سائر الأشياء يعنى لا منزل لنا سوى الدنيا حياتنا فيها ومماتنا فيها لا دار لنا غيرها
وبالجملة إِنْ هُوَ وما هذا المدعى الكذاب إِلَّا رَجُلٌ مفتر كاذب قد افْتَرى قصدا ونسبه عَلَى اللَّهِ كَذِباً عمدا تغريرا وترويجا مراء وافتراء من انه قال قد أرسلني الله واوحانى كذا كذا وما هي الا مفتريات قد اخترعها من تلقاء نفسه وَبالجملة ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمجرد هذا الدعوى وان أثبتها ايضا إذ هو بشر مثلنا ولا رسالة للبشر الى البشر وبعد ما يئس عن ايمانهم أخذ في الدعاء عليهم مشتكيا الى الله
حيث قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ وعذبهم بتكذيبهم إياي وتكذيبي مستلزم لتكذيبك يا ربي
قالَ سبحانه اصبر ولا تستعجل في انتقامهم انهم عَمَّا قَلِيلٍ اى عن زمان قليل وأوان قصير لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ على ما فعلوا من التكذيب والإنكار
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الهائلة من جانب السماء بغتة قيل صاح عليهم جبرائيل عليه السّلام صيحة هائلة مهولة بعد ما تعلق ارادة الله باهلاكهم ملتبسة بِالْحَقِّ اى بالعذاب الثابت المحقق الواجب وقوعه حتما فَجَعَلْناهُمْ وصيرنا اجسادهم
غُثاءً اى كالغثاء التي يسيل بها الماء وهي الزبد والخشائش التي يذهب بها الماء وقت سيلانه فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وبعد ما صاروا كذلك قيل في حقهم قد بعد بعدا وطردا للقوم الخارجين عن مقتضى أوامر الله ونواهيه النازلة منه سبحانه على ألسنة أنبيائه ورسله
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد انقراضهم وانقضائهم قُرُوناً آخَرِينَ يعنى قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم من الأمم الهالكة المستهلكة على الكفر والعناد بسبب تكذيب الرسل والكتب وبالجملة قد أهلكنا كلا منهم فرادى
بحيث ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها اى ما تستعجل وتستقدم امة منهم أجلها الذي قد عيناه لإهلاكهم وقدرنا هلاكهم فيه وَما يَسْتَأْخِرُونَ ايضا اى لا يسع لهم لا الاستقدام ولا الاستئخار في المدة المقدرة المعينة لهلاكهم
ثُمَّ بعد ما انقرضوا قد أَرْسَلْنا ايضا رُسُلَنا على المنحرفين عن جادة توحيدنا المصرفين عن مقتضى سنتنا وحكمتنا تَتْرا متواترة متتالية بلا تخلل فترة بينهم بحيث كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها لإصلاح حالهم واعتدال أخلاقهم وأعمالهم كَذَّبُوهُ وأنكروا له وظهروا عليه بالمقاتلة والمشاجرة فأهلكناهم واستأصلناهم بسبب تكذيبهم وانكارهم وبالجملة فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً بالهلاك اى أهلكناهم متتابعين بعضهم بعد بعض الى حيث طهرنا الأرض عن خباثتهم وقساوتهم وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ اى قد صيرناهم حكايات وقصصا يسمر بها السامرون ويعتبر المعتبرون عما جرى عليهم ويقال في حقهم بعد استماع قصصهم على سبيل العدة فَبُعْداً اى طردا وحرمانا ومقتا وخذلانا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون رسله وجميع ما جاءوا به من عنده سبحانه من المعتقدات المتعلقة بالنشأتين
ثُمَّ بعد انقراض أولئك الحمقى الهلكى قد أَرْسَلْنا مُوسى وَقرنا له أَخاهُ هارُونَ ليكون ردأ له ووزيرا عنده مؤيدين بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا ومتانة صنعتنا وحكمتنا لتكون معجزة لهما خارقة للعادات صادرة عنهما ملزمة لمن يقابلهما وَمع ذلك قد قويناهما بورود سُلْطانٍ مُبِينٍ برهان عقلي مبين ومعجزة ساطعة منا
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ واشراف قومه فبلغ الموحى به إليهم واظهر الدعوة عندهم فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها عنادا وعتوا وَهم قد كانُوا في أنفسهم وحسب زمانهم قَوْماً عالِينَ متجبرين متكبرين بحيث قد ترقى امر فرعون في العتو والاستكبار الى ان ادعى الربوبية والألوهية لنفسه
فَقالُوا بعد ما سمعوا منهما ما سمعوا من الايمان بالله والدعوة الى توحيده والإتيان بالأعمال الصالحة والامتثال بالأوامر والاجتناب عن النواهي المنزلة في التورية متشاورين بينهم مستبعدين عن أمرهما متهكمين معهما قائلين أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ اى لهذين البشرين ونقبل منهما قولهما مع كونهما مِثْلِنا في البشرية بلا مزية لهما علينا لا بالمال ولا بالكمال وَلا بالنسب ايضا إذ قَوْمُهُما الذين قد انتشئا منهم لَنا عابِدُونَ الى الآن ونحن أربابهم مسلطون عليهم وبالجملة كيف ننقاد ونؤمن بهما بلا شرف فيهما لا حسبا ولا نسبا
فَكَذَّبُوهُما أشد تكذيب وأنكروا عليهما آكد انكار ونسبوا عموم ما أتيا به من الحجج والمعجزات الى السحر والشعبذة وبالجملة قد خاصموا معهما أشد الخصومات فَكانُوا بالآخرة بسبب انكارهم وتكذيبهم وإصرارهم مِنَ الْمُهْلَكِينَ المستأصلين بالإغراق في بحر قلزم او النيل
وَاذكر يا أكمل الرسل لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى من كمال كرامتنا ولطفنا معه الْكِتابَ اى التورية الجامع لإصلاح الظاهر والباطن لَعَلَّهُمْ اى قوم موسى يَهْتَدُونَ به الى مقر التوحيد وهم ما آمنوا به وبكتابه وما كانوا مهتدين
وَبعد انقضاء زمن موسى الكليم وانقراض أعدائه قد جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ عيسى عليه السّلام وَأُمَّهُ رضى الله عنها اى كل واحد منهما آيَةً دالة على كمال قدرتنا وبدائع حكمتنا وغرائب صنعتنا بان جعلنا لعيسى عليه السّلام من الخوارق والمعجزات ما لا يخفى ولمريم ايضا من الكرامات والارهاصات الخارقة للعادات منها الحمل بلا مساس زوج وسقوط التمرة من النخلة اليابسة لأجلها سيما في أوان الشتاء وحضور انواع الأطعمة والفواكه عندها حال كونها في المحراب والأبواب مغلقة عليها مع انها ما تشبه باطعمة الدنيا وفواكهها وغير ذلك من الارهاصات الغريبة وَبعد ما أخرجهما الجاهلون عن مقرهما ومنزلهما آوَيْناهُما اى ارجعناهما واوصلناهما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ اى الى مكان مرتفع من الأرض كثير المآكل والمشارب يتنعم ويترفه الساكنون فيها بلا تردد واضطراب في امر المعاش. قيل هي بيت المقدس او دمشق. ثم قال سبحانه مخاطبا لقاطبة رسله وأنبيائه اصالة ولأممهم تبعا مناديا لهم مسقطا منهم الرهبانية والزهد المفرط المؤدى الى تخريب البنية وضعف القوى المدركة والمحركة عن مقتضاها وكذا جميع آلات الجوارح المعمول بها
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ يعنى نادى سبحانه كل واحد منهم في زمانه كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ التي قد أبحنا لكم حسب ما يسد جوعتكم ويعتدل امزجتكم وأطيب مطاعمكم كسب أيديكم وَبعد ما اعتدل امزجتكم وقوى قواكم اعْمَلُوا عملا صالِحاً مقربا لكم إلينا مصلحا لما في نفوسكم من المقاصد الحاصلة من الاهوية الفاسدة ومن تسويلات الشياطين وتغريراته إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ على وجه الإخلاص عَلِيمٌ اجازيكم عليه سواء تتزهدون وتترهبون أولا
وَمتى علمتم ان مناط أمركم في عملكم المقرب الى ربكم على الإخلاص والخضوع فعليكم بأجمعكم ان تداوموا وتلازموا عليه واعلموا إِنَّ هذِهِ الطريقة المعهودة المذكورة لكم من ربكم أُمَّتُكُمْ اى قدوتكم وقبلتكم موصلة الى توحيد ربكم لذلك قد صارت أُمَّةً واحِدَةً وقبلة منفردة بلا تعدد واختلاف فيها أصلا وان كانت جهاتها وطرقها متعددة مختلفة حسب اختلاف الشرائع والأديان بمقتضى الأعصار والأزمان وَاعلموا ايضا أَنَا رَبُّكُمْ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لا أكون عرضة للتعدد والكثرة قطعا فَاتَّقُونِ من أخذي وبطشى ومقتضيات جلالي وقهري إذ لا ملجأ لكم غيرى ولا منجا لكم سواي
ومع ذلك فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعنى جعلوا دينهم الواحد وملتهم المنفردة وأمتهم الواحدة زُبُراً قطعا مختلفة وصاروا أحزابا متفاوتة ومللا متعددة وامما متكثرة متخالفة بحيث يدعى كل منهم حقية دينه وملته نصا كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ وعندهم من الدين والملة المرضية لهم فَرِحُونَ مسرورون معجبون
فَذَرْهُمْ بعد ما تحزبوا وانحرفوا عن التوحيد وانصرفوا عن جادته واتركهم على حالهم يعمهون فِي غَمْرَتِهِمْ وجهلهم وغوايتهم حَتَّى حِينٍ اى حين انكشف الغطاء عن بصائرهم وأبصارهم فعاينوا العذاب ولم يمكنهم رده والنجاة منه فهلكوا به صاغرين مضطرين
أَيَحْسَبُونَ ويعتقدون أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال ويزعمون بل يصدقون أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ وما نعطيهم امدادا لهم واعانة عليهم مِنْ مالٍ مله لنفوسهم شاغل لقلوبهم وَبَنِينَ الذين هم يستعبدون نفوسهم ويسترقون أعناقهم
نحن نُسارِعُ ونبادر لَهُمْ فِي نيل الْخَيْراتِ ونول المثوبات والكرامات تفضلا منا إياهم وتعظيما وتكريما لهم ولا يفهمون ولا يتفطنون ابتلاءنا واختبارنا إياهم بإعطاء أمثال هذه الزخرفة
الدنية الدنياوية لذلك يباهون ويفتخرون بها ويتفوقون على من دونهم لأجلها بَلْ ما هذا الا استدراج منا إياهم وامهال لهم كي يحصلوا اسباب أشد العذاب وأسوأ العقاب ويستحقوا بواسطتها أسفل دركات النيران وهم لا يَشْعُرُونَ الاستدراج من الكرامة فحملوا عليها وباهوا فسيعلمون مصيرهم ومنقلبهم الى اين.
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون حذرون محترزون
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ النازلة على رسله يُؤْمِنُونَ يصدقون ويذعنون
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ بحال بل يستقلون سبحانه بالوجود ولا يثبتون لغيره وجودا ولا يسندون الحوادث الكائنة الى الأسباب العادية مطلقا بل يسندون كلها الى الله أولا وبالذات
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا من الأعمال الصالحات وانواع الخيرات والصدقات ومطلق الحسنات وَقُلُوبُهُمْ في حال إتيانها وَجِلَةٌ خائفة مستوحشة بسبب أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ بهذه الأعمال والحسنات هل يقبل منهم او يرد عليهم وهم دائما بين الخوف والرجاء خائفون عن قهره راجون من لطفه
أُولئِكَ السعداء المحسنون الأدب مع الله المخلصون في أعمالهم يُسارِعُونَ يبادرون ويرغبون فِي الْخَيْراتِ وانواع الطاعات والعبادات وعموم الحسنات راجين بها انواع الكرامات والمثوبات من الله وَبالجملة هُمْ في عموم أوقاتهم وحالاتهم لَها سابِقُونَ ساعون سارعون ولمثل هذا فليعمل العاملون
وَاعلموا ايها المكلفون بأنواع التكاليف المصفية لظواهركم وبواطنكم لا نُكَلِّفُ ولا نحمل نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ومقدار طاقتها حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وكيف نكلفهم بما لا طاقة لهم وَلَدَيْنا كِتابٌ جامع لجميع ما حدث وكان ويحدث ويكون الا وهو لوح قضائنا الشامل وحضرة علمنا المحيط ولا شك انه يَنْطِقُ بِالْحَقِّ السوى الصحيح الثابت المعتدل المطابق للواقع بلا افراط وتفريط وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ بحال لا بزيادة العذاب ولا بنقصان الثواب بل كل منهم مجزيون بمقتضى ما ثبت فيه والكفار من غاية انهماكهم في الغفلة والضلال منكرون لكتابنا الجامع لجميع الكوائن والفواسد الناطق بالحق الواقع
بَلْ قُلُوبُهُمْ التي قد جبلت وعاء وظرفا للايمان والتصديق فِي غَمْرَةٍ غطاء وغشاء مِنْ هذا الطريق الذي يترتب عليه الفلاح والفوز بالنجاح الا وهو طريق التوحيد والتصديق وَمع ذلك لَهُمْ أَعْمالٌ طالحة صادرة عنهم على مقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة مِنْ دُونِ ذلِكَ الأمر الذي نأمر به عبادنا على السنة رسلنا هُمْ لَها عامِلُونَ وإليها متوجهون مائلون وعن طريق الحق وسبيل التوحيد ناكبون منصرفون
وهم قد صاروا عليها مصرين حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ وانتقمنا من متنعميهم بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ يستغيثون منا وبالجملة هم في الراحة والرخاء عنا غافلون وإذا أخذناهم بالبلاء والعناء فاجؤا الى الاستغاثة والاستعانة منا مصرخين إلينا متضرعين نحونا لذلك يقال لهم من قبلنا تهكما واستهزاء ردا وطردا
لا تَجْأَرُوا ايها المسرفون المفرطون ولا تستنصروا الْيَوْمَ منا حين حلول العذاب عليكم إِنَّكُمْ بسبب غفلتكم عنا وانكاركم علينا في وقت الراحة والرخاء مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أصلا فاليوم لا ينفعكم دعاؤكم وصراخكم وكيف تستنصرون عنى ايها المسرفون اما تستحيون منى
إذ قَدْ كانَتْ آياتِي الدالة على عظمة ذاتى وعلو شأنى وشدة سطوتي وسلطاني تُتْلى عَلَيْكُمْ تليينا لقلوبكم وإصلاحا لعيوبكم فَكُنْتُمْ من شدة عتوكم واستكباركم عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ترجعون رجوع القهقرى منصرفين من سماعها
حال كونكم مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ اى بالكتاب وبالأوامر والاحكام المندرجة فيه بحيث لا تذكرونه سامِراً ايضا وحاكيا به ليلا على ما هو عادتكم وسنتكم المستمرة بينكم إذ كنتم تسمرون حول البيت في خلال الليالى سيما في الأحاديث الحديثة والحكايات الجديدة بل تَهْجُرُونَ وتتركون السمر مطلقا حتى لا تسمعوا ذكر الآيات والكتاب أصلا فكيف الامتثال والتلذذ بما فيه من الأوامر والنواهي ومع استكباركم بنا وبآياتنا ورسلنا على ابلغ الوجوه وأشدها تستنصرون منا وتستغيثون إلينا.
ثم قال سبحانه على وجه التعيير والتقريع أَينكرون المشركون القرآن ويستكبرون به عنادا ومكابرة فَلَمْ يَدَّبَّرُوا ولم يتأملوا حق التأمل الْقَوْلَ المقبول المطبوع والمقول المعقول المسموع منه ولم يتفكروا في أسلوبه وترتيبه واتساق نظمه وتطابق كلماته ليظهر لهم اعجازه ويتضح لديهم فصاحته وبلاغته الخارجة عن طور العقل وطوق البشر كيلا يبادروا الى إنكاره وتكذيبه بل يصدقوه ويؤمنوا به وبمن جاء به أَمْ جاءَهُمْ يعنى بل يعلمون لو تأملوا في شأن القرآن انه قد جاءهم من الله كتاب كامل شامل هاد منقذ يخلصهم من العذاب الأخروي لو امتثلوا بما فيه من الأوامر والنواهي مع انه ما لَمْ يَأْتِ يعنى كتابهم هذا نور ظاهر باهر لم يأت مثله آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ
حتى تأملوا وتدبروا فيه وتخلصوا من العذاب النازل عليهم فهؤلاء الحمقى الهلكى المنهمكون في الغي والضلال يفوتون على أنفسهم الايمان به والهداية بامتثال ما فيه حتى يتيسر لهم الخلاص والنجاة
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ يعنى بل لم يعرفوا من شدة شكيمتهم وبغضهم علو شأن رسولهم وسمو برهانه وكمال عقله ورشده واعتدال أخلاقه وأطواره وايفائه العهود والأمانات حتى يصدقوه ويؤمنوا به بل فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ من غاية الجهل والعناد
أَمْ يَقُولُونَ وينسبون بِهِ جِنَّةٌ اختلال وخبط ومن اختلاله وخبطه قد ظهر منه أمثال هذه البدائع التي استحدثها من تخيلاته بَلْ قد جاءَهُمْ رسولهم بعموم ما جاء به ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح والصدق السوى المطابق للواقع والوحى الإلهي وَلكن أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنهم على الباطل مائلون والى مشتهيات نفوسهم آئلون
وَبالجملة لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ اى الوحى النازل من لدنه أَهْواءَهُمْ الباطلة وآراءهم الفاسدة لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ من ذوى الشعور والإدراك المتوجهين نحو الحق طوعا من شؤم أعمالهم وسوء أفعالهم وقبح أخلاقهم وأطوارهم لذلك ما آتيناهم وما أوحينا على رسولهم ما هو مشتهى نفوسهم ومقتضى اهوائهم بَلْ قد أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ وتذكيرهم وما يذكرهم به بل ليس الا ما هو الا صلح بحالهم والأليق بشأنهم من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والعبر والأمثال والقصص والآثار فَهُمْ من غاية عمههم وسكرتهم عَنْ ذِكْرِهِمْ المصلح بحالهم المنجى لنفوسهم من الوبال والنكال مُعْرِضُونَ منصرفون عنه عتوا واستكبارا
أَمْ تَسْأَلُهُمْ اى أيظنون ويعتقدون انك يا أكمل الرسل تطلب لأداء الرسالة وتبليغها عليهم خَرْجاً جعلا واجرا لذلك انصرفوا عنك وعن دينك وكتابك فَخَراجُ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع النعم الصورية والمعنوية واجره لك بأعظم المثوبات وأعلى الدرجات خَيْرٌ لك من جعلهم وخرجهم وَان نسبوك الى الفقر والفاقة قل هُوَ سبحانه خَيْرُ الرَّازِقِينَ لو فرض رازق سواه مع انه لا رازق الا هو
وَبالجملة هم منحرفون في أنفسهم عن جادة العدالة وصراط التوحيد بحيث لا يفيدهم هدايتك وارشادك مطلقا إِنَّكَ بوحي الله إياك لَتَدْعُوهُمْ وتهديهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
سوى لا عوج له أصلا الا وهو طريق التوحيد الذاتي المنزل على الحضرة الختمى النبي الأمي صلوات الله عليه وسلامه
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون بِالْآخِرَةِ التي فيها انتقاد الأعمال والأحوال والعرض على ذي العظمة والجلال عَنِ الصِّراطِ الذي هو سبب اعتدالهم وإخلاصهم فيها لَناكِبُونَ عادلون مائلون لذلك لم يقبلوا منك ما جئت به من عند ربك
يا أكمل الرسل إذ خوف الآخرة من أقوى قوائم الايمان وأشد اعمدته وأركانه وَلَوْ رَحِمْناهُمْ بمقتضى سعة رحمتنا وجودنا وَكَشَفْنا وأزلنا عنهم ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ مفرط مزعج مثل القحط والوباء والزلزلة والعناء وغير ذلك من المحن والشدائد العاجلة لَلَجُّوا وأصروا فِي طُغْيانِهِمْ التي هم عليها من الكفر والشرك والعداوة مع اهل الايمان يَعْمَهُونَ يترددون ولا يتركون
وَكيف لا يعمهون وقد جربناهم مرارا فانا لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ اى بالجدب والقحط وبالقتل يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا وما تذللوا وما تواضعوا لِرَبِّهِمْ من كمال عتوهم وعنادهم وَما يَتَضَرَّعُونَ اليه استكبارا بل هم مصرون على إصرارهم دائما وبالجملة كلما أخذناهم وكشفنا عنهم زادوا على استكبارهم وإصرارهم ولم يرجعوا إلينا خاشعين مخلصين قط
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً من البلاء والعناء ذا عَذابٍ شَدِيدٍ وهو القحط المفرط إذ هو من أصعب العقوبات وأسوئها إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير ومع ذلك لم يتوجهوا إلينا ولم يتضرعوا نحونا مع انه لا منجى لهم سوانا
وَكيف لا تتوجهون الى الله ولا تتضرعون نحوه ايها الحمقى الهالكون في تيه العتو والعناد مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ اظهر لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ من المشاعر التي تحفظون بها انفسكم من الأعادي الخارجة عنكم وَالْأَفْئِدَةَ اى القلوب التي تحفظون بها صدوركم وسرائركم من الأعداء الداخلة من التخييلات الباطلة والتوهمات الزائغة الزائلة المزخرفة المموهة من الرياء والرعونات وانواع التلبيسات النافية لصفاء مشرب التوحيد مع انكم قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ اى ما تشكرون لهذه النعم الجليلة الا قليلا
وَكيف لا تشكرون نعمه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ اى أوجدكم وأظهركم من كتم العدم في النشأة الاولى وبث نسلكم ونسبكم فِي الْأَرْضِ التي تترفهون فيها وتتنعمون عليها ورزقكم من انواع الطيبات وَفي النشأة الاخرى إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا وجود للغير مطلقا تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الأمواج الى البحر
وَكيف لا تحشرون اليه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي يُحْيِي ويظهر أشباحكم من العدم بامتداد اظلال أسمائه وصفاته وبسطها على مرايا الاعدام وَيُمِيتُ بانقهارها وقبض الاظلال عنها وَمن مقتضيات قبضه وبسطه ان لَهُ سبحانه حسب ارادته ومشيئته اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ طولا وقصرا ضوأ وظلمة أَفَلا تتفكرون وتتأملون ايها المجبولون على التفكر والتدبر حتى تَعْقِلُونَ وتدركون كيفية ظهور الحق وإظهاره مظاهر أسمائه الحسنى وآثار صفاته العليا وبالجملة أولئك البعداء الضالون لا يتفكرون ولا يعقلون مع وضوح الدلائل وسطوع الشواهد
بَلْ قالُوا اى هؤلاء الضالون المفرطون من الهذيانات الباطلة مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ المبطلون المسرفون من آبائهم وأسلافهم تقليدا لهم
حيث قالُوا مستنكرين مستبعدين على مواعيد الحق ووعيداته في النشأة الاخرى أَإِذا مِتْنا وانقرضنا من الدنيا وَقد كُنَّا بعد انقراضنا منها تُراباً وَعِظاماً بالية أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مخرجون من القبور احياء مثل ما كنا عليه قبل موتنا كلا وحاشا لا حيوة لنا الا هذه الحيوة التي
كنا عليها في دار الدنيا
مع انا لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ على لسان من جاءنا بادعاء الرسالة والنبوة وَقد وعد ايضا آباؤُنا وأسلافنا ايضا هذا الموعود المخصوص على لسان من جاء به مِنْ قَبْلُ وهلم جرا مع انا ولا آباؤنا وأسلافنا لم نر من علامات صدقه وامارات وقوعه شيأ أصلا وبالجملة إِنْ هذا وما هذا الوعد الموعود والقول المعهود وهو انكم إذا مرقتم كل ممزق انكم لفي خلق جديد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أباطيلهم وأكاذيبهم التي قد سطروها في دواوينهم وكتبهم على وجه السمرة والخدعة لضعفاء الأنام وبعد ما بالغوا في الإنكار على البعث والإعادة وعدم قدرتنا عليها مع انا قادرون على الإبداء والإنشاء عن لا شيء
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا لِمَنِ الْأَرْضُ المفروشة وَمَنْ فِيها وعليها من انواع النباتات والحيوانات والمعادن ومن المظهر لها من كتم العدم ومن المزين المنبت عليها من الأجناس المختلفة أخبرونا عن موجدها ومخترعها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى الشعور والإدراك
سَيَقُولُونَ في الجواب البتة لِلَّهِ إذ لا يمكنهم انكار الصريح المحقق قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بان الأرض ومن عليها لله سبحانه موبخا عليهم ومقرعا أَتنكرون ايها الجاهلون قدرة الله على اعادة المعدوم وحشر الأجساد فَلا تَذَكَّرُونَ ولا تستحضرون قدرة الحق على إبداع هذه البدائع وإيداع هذه العجائب المستحدثة على الأرض بلا سبق مادة ومدة ومع ذلك تنكرون اعادة من عليها سيما بعد سبق المادة مع ان هذا أهون علينا من ذلك
قُلْ لهم ايضا إلزاما وتبكيتا مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ الشداد المطبقات المزينات بالكواكب وَمن رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المحيط بالكل المحرك لها على وجه السرعة التامة والحركة السريعة الشديدة بلا تخلل سكون أصلا
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إذ لا يسع لهم الخروج عن مقتضى صريح العقل قُلْ لهم يا أكمل الرسل أَفَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن قهر الله وغضبه تنكرون منه أهون مقدوراته وأسهل مراداته مع انكم قد اعترفتم باشدها وأصعبها
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما تأكد إلزامهم وافحامهم كلاما جمليا شاملا لعموم مقدورات الله ومراداته مَنْ بِيَدِهِ وقبضة قدرته وتحت حوله وقوته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وملكه يتصرف فيه حسب ارادته واختياره على سبيل الاستقلال وَمن هُوَ يُجِيرُ يغيث ويعين الملهوف والمضطر إذا دعاه وَلا يُجارُ ولا ينصر عَلَيْهِ إذ هو سبحانه يعلو ولا يعلى عليه أخبروني إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى الخبرة والشعور
سَيَقُولُونَ ايضا بلا تردد لِلَّهِ اختصاصا وملكا تصرفا واستقلالا ارادة واختيارا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اثبتوا اليد الغالبة والقدرة التامة الكاملة والفاعلية المطلقة بالإرادة والاختيار فاعل المختار اختصاصا واستقلالا فَأَنَّى تُسْحَرُونَ اى من اين تخدعون وتلبسون للخروج عن مقتضى العقل والرشد في المقدور المخصوص والمراد المعين حتى تنكروا له ولم تقبلوا وقوعه مع ورود الآيات الكثيرة الكبيرة في الكتب الإلهية والصحف السماوية مطلقا الدالة على وقوعه
بَلْ ما أَتَيْناهُمْ كل ما أتيناهم اى للأنبياء والرسل الهادين المهديين من التوحيد ولوازمه من الايمان بالغيب وعموم المأمورات والمنهيات الصادرة منا المنزلة على رسلنا وجميع ما أوحينا وألهمنا على رسلنا الا بِالْحَقِّ الصدق المطابق لما في حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا الشامل الجامع بلا توهم البطلان في شيء منها وَبالجملة إِنَّهُمْ اى أولئك المكذبين المسرفين لَكاذِبُونَ البتة في نسبة الكذب إلينا وإليها وإليهم الا لعنة الله على الكاذبين
ومن جملة ما نسبوا الى الله سبحانه افتراء ومراء اثبات الولد له سبحانه مع انه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الفرد الذي شأنه ووصفه المخصوص له انه الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد مِنْ وَلَدٍ إذ هو من أقوى خواص الأجسام وأوضح لوازم الإمكان وهو سبحانه منزه عنهما مطلقا وَمن جملة أكاذيبهم الباطلة ايضا اثبات الشريك له سبحانه مع انه ما كانَ وما صح وما جاز ان يكون مَعَهُ مِنْ إِلهٍ كان شريكا له يعبد بالحق مثله ويستحق بالعبادة له استحقاقا ذاتيا ووصفيا كما هو شأنه سبحانه إِذاً اى حين كان الا له الواجب الوجود المستحق للعبادة متعددا كما زعم أولئك المبطلون لَذَهَبَ وتميز كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أوجد واظهر فيكون مملكة كل منهم ممتازة عن الاخرى ومتى كان الإله متعددا والمملكة ممتازة لأمكن التغالب والتحارب وَلَعَلا اى لغلب وارتفع بَعْضُهُمْ اى بعض الآلهة عَلى بَعْضٍ بالقدرة والاستيلاء فاختل النظام المشاهد المحسوس ولم يبق له انتظام وقيام والتيام ودوام أصلا سُبْحانَ اللَّهِ وتعالى ذاته عَمَّا يَصِفُونَ به ذاته أولئك الجاهلون بقدره الغافلون عن علو شأنه من اثبات الولد والشريك معه مع كمال تنزهه وتقدسه في ذاته عنهما وعن أمثالهما
وكيف يكون له ولد ومعه شريك وهو بذاته عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء منهما فَتَعالى وتنزه سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ أولئك المعاندون المفرطون من ان يكون له ولد يشبهه او شريك يماثله ويشترك معه في أخص أوصافه التي هي وجوب الوجود والعلم بالغيب والشهود
قُلْ يا أكمل الرسل مستعيذا بالله من شر ما سيلحق لأولئك المعاندين المبطلين رَبِّ يا من رباني بمزيد اللطف والإحسان إِمَّا تُرِيَنِّي اى ان تحقق وتقرر عندك في حضرة علمك يا مولاي اراءتك إياي ما يُوعَدُونَ به أولئك المسرفون المشركون من أشد العذاب والنكال في العاجل والأجل أرني وابصرنى بحولك وقوتك يا رب لتكون رؤيتي سبب عبرتي وتذكيري من أحوالهم
وبالجملة رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ مقارنا لهم معدودا من عدادهم ملحقا بي ما سيلحقهم من انواع العذاب الصوري والمعنوي الدنيوي والأخروي
وَقال سبحانه إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ يعنى انا لقادرون على ان نريك ما نعدهم العذاب الموعود إياهم في هذه النشأة لكنا نؤخر عذابهم الى النشأة الاخرى ونمهلهم رجاء ان يؤمن بعضهم او يحصل منهم المؤمنون من نسلهم وذرياتهم وبعد ما قد كنا نمهلهم ونؤخر عذابهم لحكم ومصالح
ادْفَعْ أنت يا أكمل الرسل بِالَّتِي اى بالدلائل والشواهد التي هِيَ أَحْسَنُ من المقاتلة والمشاجرة السَّيِّئَةَ التي هم عليها من الكفر والشرك وانواع الطغيان والعصيان لعل دلائلك تلين قلوبهم وتصفيهم عن المكابرة والعناد معك إذ نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِما يَصِفُونَ اى ما يصفونك به وينسبونك اليه مما لا يليق بشأنك وثق بنا وتوكل في عموم احوالك علينا واتخذنا وكيلا وفوض امر انتقامهم إلينا فانا نكفى ونكف عنك مؤنة شرورهم
وَقُلْ رَبِّ يا من رباني بكنفك وجوارك أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ووساوسه وانواع تسويلاته وتلبيساته
وَلا سيما أَعُوذُ والوذ بِكَ يا رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ عند توجهي نحوك وتحننى إليك ومناجاتي معك سيما خلال صلاتي في خلواتي وعند تلاوتى وعرض حاجاتي والكافرون في غاية انهماكهم في الغفلة مصرون على ما هم عليه من الشرك والكفر
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وعاين من
امارات النشأة الاخرى تنبه حينئذ بقبح صنائعه التي قد اتى بها في النشأة الاولى قالَ حينئذ متضرعا الى الله نادما متمنيا متحسرا رَبِّ ارْجِعُونِ بفضلك وجودك الى النشأة الاولى
لَعَلِّي أَعْمَلُ بعد رجوعي عملا صالِحاً مصلحا فِيما تَرَكْتُ وأفسدت من امور الايمان والإطاعة والانقياد كَلَّا ردع له عن هذا السؤال والدعاء ومنع له عن إنجاح مسئوله إِنَّها اى طلب المراجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها من غاية الحسرة والندامة متمنيا على ما فات عنه في دار الابتلاء وَالا كيف يرجع إليها إذ مِنْ وَرائِهِمْ اى امامهم وقدامهم بَرْزَخٌ وحجاب مانع يمنعهم عن الرجوع إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعنى لا يمكنهم الرجوع الى دار الدنيا والحيوة فيها الا الحيوة في يوم البعث والجزاء ولم يمكن لهم التدارك والتلافي فيها
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لحشر الأموات ونشرها من قبورهم فيخرجون منها حيارى سكارى تائهين هائمين فَلا أَنْسابَ ولا تعارف بَيْنَهُمْ يومئذ بل يفر كل امرء من أخيه وصاحبته وبنيه إذ لكل منهم يَوْمَئِذٍ شأن يغنيه ويشغله وَلا يَتَساءَلُونَ اى لا يسئل بعضهم احوال بعض بل كل نفس منهم رهينة بما كسبت قرينة بما اقترفت بلا التفات منها الى غيرها
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ورجحت خيراته وحسناته على شروره ومعاصيه فَأُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون المقصورون على الفلاح لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ورجحت سيئاته على حسناته فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ خسرانا مبينا الى حيث هم لانهماكهم في الشرور والسيئات فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان خالِدُونَ مخلدون دائمون ثابتون لا نجاة لهم منها أصلا ومن شدة اشتعال النار وتلهبها
تَلْفَحُ وتحرق وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها اى في النار كالِحُونَ عابسون حيث تقلص شفاههم عن أسنانهم بحيث تصل شفتهم العليا الى وسط رأسهم والسفلى الى سرتهم ومتى تضرعوا وتفزعوا وبثوا الشكوى الى الله قيل لهم من قبل الحق
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي الدالة على عظمة ذاتى وكمال قدرتي على الانعام والانتقام تُتْلى عَلَيْكُمْ حين ابتليناكم في النشأة الاولى فَكُنْتُمْ من غاية غفلتكم وضلالكم بِها تُكَذِّبُونَ وتنكرون استكبارا فالآن قد لحق بكم وعرض عليكم ما انكرتم له وأعرضتم عنه وبعد ما سمعوا من التوبيخ والتقريع ما سمعوا
قالُوا متضرعين معترفين بما صدر عنهم من البغي والعناد رَبَّنا يا من ربانا على فطرة السعادة والهداية فافسدناها بالإنكار والتكذيب إذ قد غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا واستولت بنا امارتنا وتسلطت اهويتنا وشهواتنا علينا وَبالجملة قد كُنَّا بمتابعة تلك البغاة الغواة قَوْماً ضالِّينَ منحرفين منصرفين عن طريق الحق ناكبين عن الصراط المستقيم
رَبَّنا أَخْرِجْنا بفضلك وجودك مِنْها اى من النار فَإِنْ عُدْنا بعد ما خرجنا منها الى ما قد كنا عليها قبل من الغفلة والغرور فَإِنَّا حينئذ ظالِمُونَ لأنفسنا بالعرض على انواع العذاب والنكال
قالَ سبحانه في جوابهم زجرا لهم وتبكيتا اخْسَؤُا واسكتوا وتمكنوا فِيها اى في النار صاغرين وَلا تُكَلِّمُونِ معى ولا تناجوا الى لدفع عذابكم وتخفيفه وإخراجكم من النار إذ أنتم فيها خالدون اما تستحيون ايها المسرفون المفسدون منى اما تذكرون ما أنتم عليه
إِنَّهُ اى ان شأنكم وأمركم في دنياكم هذا وقد كانَ فَرِيقٌ مِنْ خلص عِبادِي يَقُولُونَ متضرعين متحننين نحونا راجين العفو والرحمة منا بقولهم رَبَّنا كما ربيتنا بأنواع الكرم قد آمَنَّا بك وصدقنا رسلك وكتبك فَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا واستر علينا
عيوبنا وَارْحَمْنا تفضلا وامتنانا علينا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ إذ رحمتك بنا لا تعلل بغرض منك وعوض منا ومتى سمعتم مناجاتهم هذه ودعاءهم هكذا
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا مستهزئين بأقوالهم وأعمالهم مبالغين في الهزء والسخرية متوغلين في الغفلة والغرور حَتَّى أَنْسَوْكُمْ جهلكم وغفلتكم ذِكْرِي والتوجه نحوي والرجوع الى بل قد صرتم يومئذ غافلين ذاهلين عن كمال الإنسان مطلقا منحطين عن مرتبة الخلافة مستوجبين لانواع الهزل والضحك بفعلكم ونسيانكم هذا وَمع ذلك قد كُنْتُمْ أنتم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ مع انهم ساعون نحونا سالكون في طريق توحيدنا طالبون الوصول الى ما هم جبلوا لأجله وأنتم عابثون مبطلون باطلون جاهلون لذلك
إِنِّي من كمال عطفي ولطفي معهم قد جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ احسن الجزاء بِما صَبَرُوا على اذياتكم ايها الجاهلون في النشأة الاولى وهم بسبب صبرهم وتمكنهم في دينهم ورسوخهم في ايمانهم في النشأة الاولى أَنَّهُمْ اليوم هُمُ الْفائِزُونَ المقصورون على الفوز والفلاح الى ما هو النجاة والنجاح بلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبعد ما صار المفسدون المسرفون مخلدين في النار صاغرين مهانين فيها
قالَ لهم قائل من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع إظهارا لقبح استبدالهم واختيارهم الأدنى بدل الأعلى كَمْ لَبِثْتُمْ ايها الضالون المسرفون فِي الْأَرْضِ التي تستكبرون عليها خيلاء مغرورين عَدَدَ سِنِينَ اى كم مدة وسنة تستقرون عليها مترفهين
قالُوا مستقصرين مستقلين قد لَبِثْنا عليها يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يعنى بل بعض يوم بالنسبة الى هذه الأيام الطوال التي قد كنا وصرنا فيها معذبين بل قد نسينا نحن مدة ما كنا عليها لغاية قصرها وقلتها ولا نقدر على تعيينها فَسْئَلِ الْعادِّينَ المعاصرين بنا عن اهل القبول والسرور والموكلين علينا من الملائكة المستحضرين لأعمارنا وأعمالنا وعموم ما قد كنا عليها من الأحوال والأفعال
قالَ القائل المذكور في جوابهم تصديقا لهم في مقالهم واستقلالهم واستقصارهم إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم فيها إِلَّا قَلِيلًا قصيرا في غاية القلة والقصر وبالجملة لَوْ أَنَّكُمْ ايها الضالون المسرفون قد كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ في انفسكم طول مدة العذاب وعدم تناهيها لما اخترتم لأنفسكم ما يستجلب عليكم العذاب المؤبد وما يوقعكم فيه ومع جهلكم بهذا لم تقبلوه من الأنبياء العارفين الهادين ايضا بل قد انكرتم عليهم واستهزأتم بهم مستكبرين
أَزعمتم ايها الجاهلون المعاندون ان أفعالنا خالية عن الحكمة والمصلحة ومقدوراتنا قد صدرت عنا حشوا لغوا بلا طائل فَحَسِبْتُمْ وظننتم بل قد جزمتم وأيقنتم حسب تركب جهلكم المركوز في جبلتكم أَنَّما خَلَقْناكُمْ واظهرناكم من كتم العدم عَبَثاً اى قد كنا عابثين فيها وفي خلقها ساعين في إحداثها بلا طائل مرتكبين لها بلا حكم ومصالح وَايضا قد ظننتم ايها الغافلون الجاهلون أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ للجزاء وتنقيد الأعمال وعرض الأحوال أصلا وكيف لا ترجعون الى ربكم ايها المجرمون المسرفون وكيف عن أعمالكم وأفعالكم لا تسئلون ايها المسرفون المفرطون ولا تحاسبون ايها الضالون المضلون
فَتَعالَى اللَّهُ المحيط بالكل حضورا وشهودا قد تنزه ان يتصف ذاته بالغفلة والذهول وأوصافه بعدم الحيطة والشمول وأفعاله بالعبث والفضول إذ هو الْمَلِكُ المستجمع المستحضر بجميع مملكته والمالك المراقب المحافظ على عموم مملوكاته ومماليكه شأنه انه لا يعزب عنه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء وكيف يعزب ويغيب عنه شيء من الأشياء إذ هو الْحَقُّ المقرر الثابت المحقق الحي الدائم القيوم المطلق المثبت المتحقق
الذي لا يشغله شأن عن شأن بل هو في شأن لا يعرضه شأن ولا يعتريه زمان ومكان بل مطلق الشئون مستهلكة في علو شأنه لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ وهو رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ المحيط لعروش ذرائر الكائنات الا وهو الوجود العيني الظلي الفائض من حضرة القدس الحقي والوجود المطلق الحقيقي على هياكل العكوس والأشباح واشكال الاظلال والأمثال
وَبعد ما تحقق ان الكل في حيطة أوصافه وأسمائه ومن عكوس اظلاله وتحت لوائه مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ المحيط للكل احاطة حضور وشهود إِلهاً آخَرَ من الاظلال المحاطة والعكوس الساقطة مع انه لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ يثبت به وجود اله آخر سواه سبحانه سيما بعد احاطته وشموله الكل وبالجملة فَإِنَّما حِسابُهُ اى حساب المدعى وجزاء ما ادعى من الشرك عِنْدَ رَبِّهِ وفي حيطة حضرة علمه يجازيه بمقتضى علمه وخبرته إِنَّهُ اى ان الشأن والأمر عنده سبحانه هذا لا يُفْلِحُ ولا يفوز الْكافِرُونَ بكفرهم وشركهم الى ما هو موجب للفلاح ومستلزم للنجاح وبعد ما اثبت سبحانه الفلاح للمؤمنين الموحدين في أول السورة ونفاه عن الكافرين المشركين في آخرها
قال وَقُلْ يا أكمل الرسل تعليما لكل من يقتدى بك ويقتفى اثرك وتنبيها عليهم وتذكيرا لهم رَبِّ يا من رباني بكنفك وجوارك اغْفِرْ واستر عن عين بصيرتي ذنب انانيتى وَارْحَمْ على بنفي هويتى وافنائها في هويتك يا رب وَأَنْتَ بذاتك وبمقتضى أسمائك وصفاتك خَيْرُ الرَّاحِمِينَ الذين هم ايضا من اظلال أسمائك وعكوس اوصافك وبالجملة الكل بك ومنك وفيك وإليك لا راحم سواك ولا مربى غيرك
خاتمة سورة المؤمنين
عليك ايها المحمدي المتحقق بمقام العبودية والإخلاص ان تلازم على هذه الكلمة التي قد أسمعك الحق على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم وتداوم عليها سيما في خلواتك وأعقاب صلواتك عازما عليها عزم صدق وجزم سامعا لها سمع قبول ورضى حتى تترسخ في قلبك وتتمرن في سرك وصدرك الى حيث قد نطقت حالك بها بلا ترجمان لسانك ومتى تحققت وتمكنت في هذه المرتبة العلية ارتقيت الى مرتبة الفناء في الله والبقاء ببقائه وذلك لا يتم الا باضمحلال رسوم هويتك وتلاشى لوازم بشريتك وماهيتك بحيث قد سقطت عنك تعيناتك رأسا وفنيت تشخصاتك الناسوتية جملة فحينئذ قد فزت بما فزت ووصلت الى ما وصلت وليس وراء الله مرمى ومنتهى تم الجزء الاول ويليه الجزء الثاني اوله سورة النور جميع الحقوق محفوظة للناشر رقم الإيداع بدار الكتب: ٣٨٨٢ لسنة ١٩٩٩
579
الجزء الثاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة النور]
فاتحة سورة النور
لا يخفى على من تنور قلبه بنور الكشف والشهود واكتحل عينه بمشاهدة آثار وجود الحق عن مظاهر الوجود ان انبساط نور الحق على ذرائر الأكوان وفيضان اظلال وجوده على صفائح الأعيان حسب جوده انما هو لإظهار الكمالات المندرجة في الذات الاحدية باعتبار الأوصاف والأسماء الذاتية المندمجة فيها حسب التجليات الحبية والتجددات الشوقية المنعثة من المحبة الذاتية الموجبة للجلاء والانجلاء وذلك لا يحصل الا بالتنزلات والهبوطات الى الشئون المتنوعة والتطورات المتلونة المترتبة على الأسماء والصفات المستلزمة للاضافات والكثرات لتعين مراتب الحب والمحبوب والمحبة والطالب والمطلوب والطلب والسير والسلوك والصعود والعروج والوصول والاتصال وبعد حصول التنزلات قد حدثت الإضافات والاختلافات وتفاوتت تشتت الأعمال والأحوال وظهرت الآراء والمذاهب وبرزت الأهواء والمشارب فاقتضت الحكمة الإلهية وضع الحدود والآداب بين المظاهر المختلفة والآراء المتفاوتة ليعتدل امر الأنام ولا يختل النظام واستقام السل وتميزت طرق السعادة والشقاوة والهداية والضلال لذلك أشار سبحانه الى وضع الحدود أولا بين الأنام ومن أهمها محافظة امر التناسل والتناكح من الزنا والسفاح المفضى الى سد باب المعرفة التي هي الحكمة العلية والمصلحة السنية من إيجاد نوع الإنسان وإظهاره إذ لهذا النوع مرتبة الخلافة والنيابة من الله الرحيم الرحمن فالخلطة في حصول هذا النوع مخل بصرافة الوحدة الذاتية إذ لا بد من المناسبة بين المستخلف والمستخلف عنه فقال سبحانه متيمنا متبركا باسمه الجامع بجميع الأسماء والأوصاف بِسْمِ اللَّهِ الذي اظهر نوع
2
Icon