تفسير سورة النساء

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة النساء من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة النساء مدنية وهي مائة وستة وسبعون آية كوفية.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ﴾ يخوفهم، يقول: اخشوا ربكم ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾، يعنى آدم.
﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾، يعنى من نفس آدم من ضلعه حواء، وإنما سميت حواء لأنها خلقت من حى آدم، قال سبحانه: ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ﴾، يقول: وخلق من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء، هم ألف أمة.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ ﴾، يقول: تسألون بالله بعضكم ببعض الحقوق والحوائج، واتقوا الأرحام أن تقطعوها وصلوها.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [آية: ١]، يعنى حفيظاً لأعمالكم.
﴿ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، يعنى الأوصياء، يعنى أعطوا اليتامى ﴿ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ﴾، يقول: ولا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحلال من أموالكم، ولا تذرو الحلال وتأكلوا الحرام.
﴿ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ﴾، يعنى مع أموالكم، كقوله سبحانه:﴿ فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ﴾[الشعراء: ١٣]، يعنى معى هارون.
﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾ [آية: ٢]، يعنى إثماً كبيراً بلغة الحبش، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الحوب الإثم،" نزلت فى رجل من غطفان، يقال له: المنذر بن رفاعة، كان معه مال كبير ليتيم، وهو ابن أخيه، فلما بلغ طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يرد عليه ماله، وقرأ عليه الآية، فلما سمعها قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، ونعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " هكذا من يطع ربه عز وجل، ويوق شح نفسه، فإنه يحل داره "، يعنى جنته، فلما قبض الفتى ماله، أنفقه فى سبيل الله، قال النبى صلى الله عليه وسلم: " ثبت الأجر وبقى الوزر "، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: قد عرفنا ثبت الأجر، فكيف بقى الورز وهو ينفق فى سبيل الله؟ فقال الأجر للغلام، والوزر على والده. "
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، نزلت فى خميصة بن الشمردل، وذلك أن الله عز وجل أنزل:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً ﴾يعنى بغير حق،﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾[النساء: ١٠]، فخاف المؤمنون الحرج، فعزلوا كل شىء لليتيم من طعام، أو لبن، أو خادم، أو ركوب، فلم يخالطوهم فى شىء منه، فشق ذلك عليهم وعلى اليتامى، فرخص الله عز وجل من أموالهم فى الخلطة، فقال:﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾[البقرة: ٢٢٠]، فنسخ من ذلك الخلطة، فسألوا النبى صلى الله عليه وسلم عما ليس به بأس، وتركوا أن يسألوه عما هو أعظم منه، وذلك أنه كان يكون عند الرجل سبع نسوة، أو ثمان، أو عشر حرائر، لا يعدل بينهن، فقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، يقول: ألا تعدلوا فى أمر اليتامى، فخافوا الإثم فى أمر النساء، واعدلوا بينهن، فذلك قوله عز وجل: ﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾، يعنى ما يحل لكم ﴿ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾، ولم يطب فوق الأربع، ثم قال سبحانه: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ الإثم ﴿ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ﴾ فى الاثنين والثلاث والأربع فى القسمة والنفقة.
﴿ فَوَاحِدَةً ﴾، يقول: فتزوج واحدة ولا تأثم، فإن خفت أن لا تحسن إلى تلك الواحدة.
﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ من الولائد، فاتخذ منهن ﴿ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ [آية: ٣]، يقول: ذلك أجدر ألا تميلوا عن الحق فى الواحدة وفى إتيان الولائد بعضهم على بعض،" ولما نزلت: ﴿ مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾، كان يومئذ تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " خل سبيل أربعة منهن وأمسك أربعة "، فقال للتى يريد إمساكها: أقبلى، وللتى لا يريد إمساكها: أدبرى، فأمسك أربعة وطلق أربعة.
﴿ وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾، وذلك أن الرجل كان يتزوج بغير مهر، فيقول: أرثك وترثينى، وتقول المرأة: نعم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ ﴾، يعنى أعطوا الأزواج النساء ﴿ صَدُقَاتِهِنَّ ﴾، يعنى مهورهن ﴿ نِحْلَةً ﴾، يعنى فريضة.
﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ ﴾، يعنى أحللن لكم، يعنى الأزواج ﴿ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ ﴾، يعنى المهر.
﴿ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ [آية: ٤]، يعنى حلالاً، مريئاً يعنى طيباً.﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ ﴾، يعنى الجهال بموضع الحق فى الأموال، يعنى لا تعطوا نساءكم وأولادكم ﴿ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾، يعنى قواماً لمعاشكم، فإنهن سفهاء، يعنى جهالاً بالحق، نظيرها فى البقرة:﴿ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً ﴾[البقرة: ٢٨٢]، ولا يدرى الصغير ما عليه من الحق فى ماله، ولكن ﴿ وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾، يقول: أعطوهم منها ﴿ وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ [آية: ٥]، يعنى العدة الحسنة أنى سأفعل، وكنت أنت القائم على مالك.
﴿ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، يقول: اختبروا عقولهم.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ ﴾، يعنى الحلم.
﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً ﴾ معشر الأولياء والأوصياء صلاحاً فى دينهم وحفظاً لأموالهم.
﴿ فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ التى معكم ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً ﴾، يعنى بغير حق.
﴿ وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾، يقول: يبادر أكلها خشية أن يبلغ اليتيم الحلم فيأخذ منه ماله، ثم رخص للذى معه مال اليتيم، فقال سبحانه: ﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ عن أموالهم.
﴿ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعنى بالقرض، فإن أيسر رد عليه، وإلا فلا إثم عليه.
﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ ﴾، يعنى الأولياء والأوصياء.
﴿ إِلَيْهِمْ ﴾، يعنى إلى اليتامى ﴿ أَمْوَالَهُمْ ﴾ إذا احتلموا.
﴿ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ بالدفع إليهم.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً ﴾ [آية: ٦]، يعنى شهيداً، فلا شاهد أفضل من الله بينكم وبينهم، نزلت فى ثابت ابن رفاعة وعمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابت، فولى ميراثه، فنزلت فيه: ﴿ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، يقول: واختبروا، يعنى به عم ثابت بن رفاعة ﴿ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، يعنى ثابت بن رفاعة، الآية كلها، حتى قال سبحانه: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً ﴾.
وقوله سبحانه: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ ﴾، نزلت فى أوس بن مالك الأنصارى، وذلك أن أوس بن مالك الأنصارى توفى وترك امرأته أم كحة الأنصارية، وترك ابنتين إحداهن صفية، وترك ابنى عمه عرفطة وسويد ابنى الحارث، فلم يعطياها ولا ولداها شيئاً من الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الولدان الصغار شيئاً، ويجعلون الميراث لذوى الأسنان منهم، فانطلقت أم كحة وبناتها إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أباهن توفى، وإن سويد بن الحارث وعرفطة منعاهن حقهن من الميراث، فأنزل الله عز وجل فى أم كحة وبناتها: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ ﴾، يعنى حظاً.
﴿ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ ﴾، يعنى حظاً ﴿ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ ﴾، يعنى من الميراث.
﴿ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ [آية: ٧]، يعنى حظاً مفروضاً، يعنى معلوماً، فأخذت أم كحة الثمن وبناتها الثلثين، وبقيته لسويد وعرفطة.
﴿ وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ ﴾، يعنى قسمة المواريث، فيها تقديم، وإذا حضر ﴿ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ ﴾، يعنى قرابة الميت.
﴿ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ ﴾ قسمة المواريث.
﴿ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ ﴾، يعنى فأعطوهم من الميراث، وإن قل، وليس بموقت هذه قبل قسمة المواريث.
﴿ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ [آية: ٨]، يقول سبحانه: إن كانت الورثة صغاراً فليقل أولياء الورثة لأهل هذه القسمة: إن بلغوا أمرناهم أن يدفعوا حقكم ويتبعوا وصية ربهم عز وجل، وإن ماتوا وورثناهم وأعطيناكم حقكم، فهذا القول المعروف، يعنى العدة الحسنة.
ثم قال عز وجل: ﴿ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً ﴾، فهو الرجل يحضر الميت، فيقول له: قدم لنفسك، أوص لفلان وفلان، حتى يوصى بعامة ماله، فيزيد على الثلث، فنهى الله عز وجل عن ذلك، فقال: وليخش الذين يأمرون الميت بالوصية بأكثر من الثلث، فليخش على ورثة الميت الفاقة والضيعة، كما يخشى على ذريته الضعيفة من بعده، فكذلك لا يأمر الميت بما يؤثمه، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً ﴾، يعنى عجزة، لا حيلة لهم، نظيرها فى البقرة.
﴿ خَافُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ الضيعة.
﴿ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ ﴾ إذا جلسوا إلى الميت ﴿ قَوْلاً سَدِيداً ﴾ [آية: ٩]، يعنى عدلاً، فليأمره بالعدل فى الوصية، فلا يحرفها، ولا يجر فيها.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً ﴾ بغير حق.
﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾ [آية: ١٠]، وذلك أن خازن النار يأخذ شفتيه، وهما أطول من مشفرى البعير، وطول شفتيه أربعون ذراعاً، أحداهما بالغة على منخره، والأخرى على بطنه، فليقمه جمر جهنم، ثم يقول: كل بأكلك أموال اليتامى ظلماً، فنسخت هذه الآية:﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[الأنعام: ١٥٢]،﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾[البقرة: ٢٢٠]، فرخص فى المخالطة ولم يرخص فى أكل أموال اليتامى ظلماً.
ثم بين قسمة المواريث بين الورثة، فقال عز وجل: ﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ ﴾، يعنى بنات أم كحة.
﴿ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ ﴾ ابنة ﴿ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ ﴾ الميت ﴿ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ ﴾، وبقية المال للأب.
﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ ﴾، وما بقى فللأب ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾، يعنى إلى الثلث أو دين عليه، فإنه يبدأ بالدين من ميراث الميت بعد الكفن، ثم الوصية بعد ذلك، ثم الميراث.﴿ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ﴾، يعنى فى الآخرة، فيكون معه فى درجته، وذلك أن الرجل يكون عمله دون عمل ولده، أو يكون عمله دون عمل والده، فيرفعه الله عز وجل فى درجته لتقر أعينهم، ثم قال فى التقديم لهذه القسمة: ﴿ فَرِيضَةً ﴾ ثابتة ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [آية: ١١] فى الميراث.
﴿ حَكِيماً ﴾ حكم قسمته.
﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ﴾ إذا متن.
﴿ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾ عليهم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ﴾ بعد الموت من الميراث.
﴿ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ﴾ من المال.
﴿ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾.
ثم قال عز وجل: ﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ ﴾ فيها تقديم.
﴿ يُورَثُ كَلاَلَةً ﴾، والكلالة الميت يموت وليس له ولد ولا والد ولا جد.
﴿ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ ﴾، فهم الإخوة لأم، والذكر والأنثى فى الثلث سواء، ولا يوصى لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة، فذلك قوله سبحانه: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى هذه القسمة فريضة من الله.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ بالضرار، يعنى من يضار فى أمر الميراث.
﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٢] حين لا يعجل عليهم بالعقوبة.
﴿ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى هذه القسمة فريضة من الله.
﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ فى قسمة المواريث.
﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون.
﴿ وَذٰلِكَ ﴾ الثواب ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ١٣].
﴿ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ فى قسمة المواريث، فلم يقسمها.
﴿ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ﴾، يعنى يخالف أمره وقسمته إلى غيرها.
﴿ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [آية: ١٤]، يعنى الهوان. فلما فرض الله عز وجل لأم كحة وبناتها انطلق سويد وعرفطة وعيينة بن حصن إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن المرأة لا تركب فرساً ولا تجاهد، وليس عند الصبينان الصغار منفعة فى شىء، فأنزل الله عز وجل فى ذلك:﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾يعنى ما بين فى قسمة المواريث فى أول السورة، ويفتيكم فى بنات أم كحة﴿ فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ... ﴾إلى قوله سبحانه:﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾[النساء: ١٢٧].
قوله سبحانه: ﴿ وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ ﴾، يعنى المعصية، وهى الزنا، وهى المرأة الثيب تزنى ولها زوج.
﴿ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ ﴾ عدولاً.
﴿ فَإِن شَهِدُواْ ﴾ عليهن بالزنا ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ ﴾، وإن كان لها زوج وقد زنت أخذ الزوج المهر منها من غير طلاق ولا حد ولا جماع، وتحبس فى السجن حتى تموت.
﴿ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ [آية: ١٥]، يعنى مخرجاً من الحبس، وهو الرجم، يعنى الحد، فنسخ الحد فى سورة النور الحبس فى البيوت. ثم ذكر البكرين اللذين لم يحصنا، فقال عز وجل: ﴿ وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ﴾، يعنى الفاحشة، وهو الزنا، منكم ﴿ فَآذُوهُمَا ﴾ باللسان، يعنى بالتعبير والكلام القبيح بما عملا، ولا حبس عليهما؛ لأنهما بكران، فيعيران ليندما ويتوبا، يقول الله عز وجل: ﴿ فَإِن تَابَا ﴾ من الفاحشة ﴿ وَأَصْلَحَا ﴾ العمل فيما بقى.
﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ ﴾، يعنى فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً ﴾ [آية: ١٦].
ثم أنزل الله عز وجل فى البكرين:﴿ فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾[النور: ٢]، فنسخت هذه الآية التى فى النور:﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾فلما أمر الله عز وجل بالجلد، قال النبى صلى الله عليه وسلم:" الله أكبر، جاء الله بالسبيل، البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة "، فأخرجوا من البيوت، فجلدوا مائة وحدوا، فلم يحبسوا، فذلك قوله عز وجل: ﴿ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾، يعنى مخرجاً من الحبس بجلد البكر ورجم المحصن.
﴿ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ ﴾، يعنى التجاوز على الله.
﴿ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ﴾، فكل ذنب يعمله المؤمن فهو جهل منه.
﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ﴾، يعنى قبل الموت.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾، يعنى يتجاوز عنهم.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [آية: ١٧].
﴿ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾، يعنى الشرك.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ ﴾، فلا توبة له عند الموت.
﴿ وَلاَ ﴾ توبة ﴿ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [آية: ١٨].
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً ﴾، نزلت فى محصن بن أبى قيس بن الأسلت الأنصارى، من بنى الحارث بن الخزرج، وفى امرأته هند بنت صبرة، وفى الأسود بن خلف الخزاعى، وفى امرأته حبيبة بنت أبى طلحة، وفى منظور بن يسار الفزارى، وفى امرأته ملكة بنت خارجة بن يسار المرى، تزوجوا نساء آبائهم بعد الموت، وكان الرجل من الأنصار إذا مات له حميم، عمد الذى يرث الميت، وألقى على امرأة الميت ثوباً، فيرث تزويجها، رضيت أو كرهت، على مثل مهر الميت، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقى عليها ثوباً، فهى أحق بنفسها، فأتين النبى صلى الله عليه وسلم، فقلن: يا رسول الله، ما يدخل بنا ولا ينفق علينا ولا نترك أن نتزوج، فأنزل الله عز وجل فى هؤلاء النفر: ﴿ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً ﴾، يعنى وهن كارهات، ولكن تزوجوهن برضى منهن، وكان أحدهم يقول: أنا أرثك لأنى ولى زوجك، فأنا أحق بك، ثم انقطع الكلام. ثم قال الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾، كان الرجل يفر بامرأته لتفتدى منه، ولا حاجة له فيها، يقول: لا تحبسوهن ﴿ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾، يقول: ببعض ما أعطيتموهن من المهر، ثم رخص واستثنى.
﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾، يعنى العصيان البين، وهو النشوز، فقد حلت الفدية إذا جاء العصيان من قبل المرأة، ثم قال تبارك وتعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يقول: صاحبوهن بإحسان.
﴿ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ ﴾ وأردتم فراقهن.
﴿ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [آية: ١٩]، يعنى فى الكره خيراً كثيراً، يقول: عسى الرجل يكره المرأة، فيمسكها على كراهية، فلعل الله عز وجل يرزقه منها ولداً، ويعطفه عليها، وعسى أن يكرهها، فيطلقها فيتزوجها غيره، فيجعل الله للذى يتزوجها فيها خيراً كثيراً، فيزرقه منها لطفاً وولداً.
ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ ﴾، يقول: وإن أراد الرجل طلاق امرأته ويتزوج أخرى غيرها.
﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً ﴾، يقول: وآتيتم إحداهن من المهر قنطاراً من ذهب، والقنطار ألف ومائتا دينار.
﴿ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ إذا أردتم طلاقها، يقول: فليس له أن يضر بها حتى تفتدى منه، يقول: ﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ [آية: ٢٠]، يعنى بيناً.
﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ﴾ تعظيماً له، يعنى المهر.
﴿ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾، يعنى به الجماع.
﴿ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ [آية: ٢١]، يعنى بالميثاق الغليظ ما أمروا به من قوله تبارك وتعالى فيهن:﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾[البقرة: ٢٣١]، والغلظ يعنى الشديد، وكل غليظ فى القرآن يعنى به الشديد.
﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾، نزلت فى محصن بن أبى قيس بن الأسلت بن الأفلح الأنصارى، وفى امرأته كبشة بنت معن بن معبد بن عدى بن عاصم الأنصارى من الاوس من بنى خطمة بن الأوس.
﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ لأن العرب كانت تفعل ذلك قبل التحريم، وذلك أن محصن مات أبوه، فشد على امرأته فتزوجها، وهو محصن بن أبى قيس بن الأسلت الأنصارى، من بنى الحارث بن الخزرج، وكبشة بنت معن بن معبد، وفى شريك وفى امرأته كحة.
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾، يعنى معصية.
﴿ وَمَقْتاً ﴾، يعنى وبغضاً.
﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ [آية: ٢٢]، يعنى وبئس المسلك، وقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء، ثم حرم النسب والصهر، ولم يقل: ﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ لأن العرب كانت لا تنكح النسب والصهر، وقال عز وجل فى الأختين: ﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ لأنهم كانوا يجمعون بينهما.
ثم بين ما حرم، فقال تعالى ذكره: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ ﴾، فهذا النسب، ثم قال سبحانه: ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾، يعنى جامعتم أمهاتهن.
﴿ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾، يقول: إن لم تكونوا جامعتم أمهاتهن.
﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، يقول: فلا حرج عليكم فى تزوج البنات.
﴿ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ ﴾، يقول: وحرم ما تزوج الابن الذى خرج من صلب الرجل ولم يتبناه، فهذا الصهر.
﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاخْتَيْنِ ﴾، فحرم جمعهما، إلا أن يكون إحداهما بملك، فزوجها غيره، فلا بأس.
﴿ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ قبل التحريم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [آية: ٢٣] لما كان من جماع الأختين قبل التحريم.
﴿ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾، يعنى وكل امرأة أيضاً فنكاحها حرام مع ما حرم من النسب والصهر، ثم استثنى من المحصنات، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ﴾ من الحرائر مثنى وثلاث ورباع.
﴿ كِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى فريضة الله لكم بتحليل أربع.
﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾، يعنى ما وراء الأربع.
﴿ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ ﴾ لفروجهن ﴿ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ بالزنا علانية، ثم ذكر المتعة، فقال: ﴿ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ﴾ إلى أجل مسمى.
﴿ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾، يعنى أعطوهن مهورهن.
﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ ﴾، يقول: لا حرج عليكم فيما زدتم من المهر وازددتم فى الأجل بعد الأمر الأول.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً ﴾ بخلقه ﴿ حَكِيماً ﴾ [آية: ٢٤] فى أمره، نسختها آية الطلاق وآية المواريث.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة بعد نزول هذه الآية مراراً، والله تعالى يقول:﴿ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ﴾[الحشر: ٧]، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ﴾، يقول: من لم يجد منكم سعة من المال.
﴿ أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾، يعنى الحرائر، فليتزوج من الإماء.
﴿ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ﴾، يعنى الولائد، فتزوجوا ﴿ مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾، يعنى الولائد، ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ﴾ من غيره، فيكره للعبد المسلم أن يتزوج وليدة من أهل الكتاب؛ لأن ولده يصير عبداً، فإن تزوجها وولدت له، فإنه يشترى من سيده رضى أو كره، ويسعى فى ثمنه.
﴿ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾ يتزوج هذا وليدة هذا، وهذا وليدة هذا. ثم قال سبحانه: ﴿ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾، يقول: تزوجوا الولائد بإذن أربابهن.
﴿ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، يقول: وأعطوهن مهورهن ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ ﴾ عفائف لفروجهن.
﴿ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ﴾ غير معلنات بالزنا.
﴿ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾، يعنى أخلاء فى السر، فيزنى بها سراً.
﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ ﴾، يعنى أسلمن.
﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ﴾، يقول: فإن جئن بالزنا.
﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ﴾، يعنى خمسين جلدة، نصف ما على الحرة إذا زنت.
﴿ ذَلِكَ ﴾ التزويج للولائد.
﴿ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾، يعنى الإثم فى دينه، وهو الزنا.
﴿ وَأَن ﴾، يعنى ولئن ﴿ تَصْبِرُواْ ﴾ عن تزويج الأمة.
﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من تزويجهن.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لتزويجه الأمه.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٢٥] به حين رخص له فى تزويجها إذا لم يجد طولاً، يعنى سعة فى تزويج الحرة.
﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾، يعنى أن يبين لكم.
﴿ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، يعنى شرائع هدى من كان قبلكم من المؤمنين من تحريم النسب والصهر.
﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى ويتجاوز عنكم من نكاحكم، يعنى تزويجكم إياهن من قبل التحريم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٢٦].
﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ ﴾، يعنى به الزنا، وذلك أن اليهود زعموا أن نكاح ابنة الأخت من الأب حلال، فذلك قوله سبحانه: ﴿ أَن تَمِيلُواْ ﴾ عن الحق ﴿ مَيْلاً عَظِيماً ﴾ [آية: ٢٧] فى استحلال نكاح ابنة الأخت من الأب.
﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾ إذ رخص فى تزويج الأمة لمن لم يجد طولاً لحرة، وذلك قوله سبحانه: ﴿ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾ [آية: ٢٨]، لا يصبر عن النكاح، ويضعف عن تركه، فلذلك أحل لهم تزويج الولائد لئلا يزنوا.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ ﴾، يقول: لا تأكلوها إلا بحقها، وهو الرجل يجحد حق أخيه المسلم، أو يقتطعه بيمينه، ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه من التجارة، فلا بأس، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يقول: لا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنكم أهل دين واحد.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ [آية: ٢٩]، إذا نهى عن ذلك.
﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ﴾، يعنى الدماء والأموال جميعاً.
﴿ عُدْوَاناً وَظُلْماً ﴾، يعنى اعتداء بغير حق وظلماً لأخيه.
﴿ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾ [آية: ٣٠]، يقول: كان عذابه على الله هيناً.
ثم قال سبحانه: ﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ من أول هذه السورة إلى هذه الآية.
﴿ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، يعنى ذنوب ما بين الحدين.
﴿ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾ [آية: ٣١]، يعنى حسناً، وهى الجنة لما نزلت: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: ١١]، قالت النساء: لم هذا؟ نحن أحق أن يكون لنا سهمان ولهم سهم؛ لأنَّا ضعاف الكسب والرجال أقوى على التجارة والطلب والمعيشة منا، فإذا لم يفعل الله ذلك بنا، فإنَّا نرجو أن يكون الوزر على نحو ذلك علينا وعليهم، فأنزل الله فى قولهم: كنا نحن أحوج إلى سهمين، قوله سبحانه: ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾، يقول: فضل الرجال على النساء فى الميراث، ونزل فى قولهن: نرجو أن يكون الوزر على نحو ذلك: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ ﴾، يعنى حظاً ﴿ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ ﴾ من الإثم.
﴿ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ ﴾، يعنى حظاً ﴿ مِّمَّا ٱكْتَسَبْنَ ﴾ من الإثم.
﴿ وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾، يعنى الرجال والنساء.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من قسمة الميراث ﴿ عَلِيماً ﴾ [آية: ٣٢] به.﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ﴾، يعنى العصبة بنى العم والقربى.
﴿ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾، كان الرجل يرغب فى الرجل، فيحالفه ويعاقده على أن يكون معه وله من ميراثه كبعض ولده، فلما نزلت هذه الآية آية المواريث ولم يذكر أهل العقد، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ﴿ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾، يقول: أعطوهم الذى سميتم لهم من الميراث.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أعمالكم ﴿ شَهِيداً ﴾ [آية: ٣٣] إن أعطيتم نصيبهم أو لم تعطوهم، فلم يأخذ هذا الرجل شيئاً حتى نزلت:﴿ وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾[الأحزاب: ٦]، فنسخت هذه الآية: ﴿ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾.
قوله عز وجل: ﴿ ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ ﴾، " نزلت فى سعد بن الربيع بن عمرو، من النقباء، وفى امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير، وهما من الأنصار من بنى الحارث بن الخزرج، وذلك أنه لطم امرأته، فأتت أهلها، فانطلق أبوها معها إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: أنكحته وأفرشته كريمتى فلطمها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " لتقتص من زوجها "، فأتت مع زوجها لتقتص منه، ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا، هذا جبريل، عليه السلام، قد أتانى، وقد أنزل الله عز وجل: ﴿ ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ ﴾ "، يقول: مسلطون على النساء.
﴿ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾، وذلك أن الرجل له الفضل على امرأته فى الحق.
﴿ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾، يعنى وفضلوا بما ساق إليها من المهر، فهم مسلطون فى الأدب والأخذ على أيديهن، فليس بين الرجل وبين امرأته قصاص إلا فى النفس والجراحة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم عند ذلك:" أردنا أمراً وأراد الله أمراً، والذى أراد الله خيراً ". ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ فَٱلصَّالِحَاتُ ﴾ فى الدين.
﴿ قَانِتَاتٌ ﴾، يعنى مطيعات له ولأزواجهن.
﴿ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ ﴾ لغيبة أزواجهن فى فروجهن وأموالهم.
﴿ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ﴾، يعنى بحفظ الله لهن، ثم قال: ﴿ وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾، يعنى تعلمون عصيانهن من نسائكم، يعنى سعداً، يقول: تعلمون معصيتهن لأزواجهن.
﴿ فَعِظُوهُنَّ ﴾ بالله، فإن لم يقبلن العظة.
﴿ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ ﴾، يقول: لا تقربها للجماع، فإن رجعت إلى طاعة زوجها بالعظة والهجران، وإلا ﴿ وَٱضْرِبُوهُنَّ ﴾ ضرباً غير مبرح، يعنى غير شائن.
﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ﴾، يعنى عللا، يقول: لا تكلفها فى الحب لك ما لا تطيق.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً ﴾، يعنى رفيعاً فوق خلقه.
﴿ كَبِيراً ﴾ [آية: ٣٤].
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ ﴾، يعنى علمتم ﴿ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ﴾، يعنى خلاف بينهما، بين سعد وامرأته، ولم يتفقا، ولم يدر من قبل من منهما النشوز من قبل الرجل أو من قبل المرأة؟ ﴿ فَٱبْعَثُواْ ﴾، يعنى الحاكم، يقول للحاكم: فابعثوا ﴿ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾، فينظرن فى أمرهما فى النصيحة لهما، إن كان من قبل النفقة أو إضرار وعظا الرجل، وإن كان من قبلها، وعظاها لعل الله أن يصلح على أيديهما، فذلك قوله عز وجل: ﴿ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً ﴾، يعنى الحكمين.
﴿ يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ ﴾ للصلح، فإن لم يتفقا وظنا أن الفرقة خير لهما فى دينهما، فرق الحكمان بينهما برضاهما.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً ﴾ بحكمهما ﴿ خَبِيراً ﴾ [آية: ٣٥] بنصيحتهما فى دينهما.
﴿ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾، يعنى وحدوا الله.
﴿ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾؛ لأن أهل الكتاب يعبدون الله فى غير إخلاص، فلذلك قال الله: ﴿ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ من خلقه.
﴿ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾، يعنى براً بهما.
﴿ وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ والإحسان إلى ذى القربى، يعنى صلته.
﴿ وَ ﴾ الإحسان إلى ﴿ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ أن تتصدقوا عليهم، والإحسان إلى ﴿ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾، يعنى جاراً بينك وبينه قرابة.
﴿ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ ﴾، يعنى من قوم آخرين.
﴿ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ ﴾، يقول: الرفيق فى السفر والحضر.
﴿ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾، يعنى الضيف ينزل عليك أن تحسن إليه.
﴿ وَ ﴾ إلى ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ من الخدم وغيره، وعن على وعبدالله، قالا: ﴿ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ ﴾، المرأة، فأمر الله عز وجل بالإحسان إلى هؤلاء.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً ﴾، يعنى بطراً مرحاً ﴿ فَخُوراً ﴾ [آية: ٣٦] فى نعم الله، لا يأخذ ما أعطاه الله عز وجل فيشكر.﴿ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ ﴾، يعنى رءوس اليهود.
﴿ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ ﴾، وذلك أن رءوس اليهود كعب بن الأشرف وغيره، كانوا يأمرون سفلة اليهود بكتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم خشية أن يظهروه ويبينوه، ومحوه من التوراة.
﴿ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ ﴾ عز وجل، يعنى ما أعطاهم ﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾ فى التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، ثم أخبر عما لهم فى الآخرة، فقال: ﴿ وَأَعْتَدْنَا ﴾ يا محمد ﴿ لِلْكَافِرِينَ ﴾، يعنى لليهود.
﴿ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ [آية: ٣٧]، يعنى الهوان. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يقول: لا يصدقون بالله أنه واحد لا شريك له، ولا يصدقون بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال بأنه كائن.
﴿ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً ﴾، يعنى صاحباً.
﴿ فَسَآءَ قِرِيناً ﴾ [آية: ٣٨]، يعنى فبئس الصاحب، ثم قال عز وجل: ﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ ﴾، يعنى وما كان عليهم ﴿ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعنى بالبعث.
﴿ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ من الأموال فى الإيمان ومعرفته.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً ﴾ [آية: ٣٩] أنهم لن يؤمنوا.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾، يعنى لا ينقص وزن أصغر من الذرة من أموالهم.
﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَةً ﴾ واحدة ﴿ يُضَاعِفْهَا ﴾ حسنات كثيرة، فلا أحد أشكر من الله عز وجل.
﴿ وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [آية: ٤٠]، يقول: ويعطى من عنده فى الآخرة جزاء كثيراً، وهى الجنة، ثم خوفهم، فقال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ بهم ﴿ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾، يعنى نبيهم، وهو شاهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم من ربهم.
﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾ يا محمد ﴿ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً ﴾ [آية: ٤١]، يعنى كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة. ثم أخبر عن كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ ﴾، وذلك بأنهم قالوا فى الآخرة: والله ربنا ما كنا مشركين، فشهدت عليهم الجوارح بما كتمت ألسنتهم من الشرك، فودوا عند ذلك أن الأرض انشقت فدخلوا فيها فاستوت عيلهم.
﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً ﴾ [آية: ٤٢]، يعنى الجوارح حين شهدت عليهم.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ ﴾، لما نزلت هذه الآية قال النبى صلى الله عليه وسلم:" قد قدم الله عز وجل تحريم الخمر إلينا "، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف الزهرى صنع طعاماً، فدعا أبا بكر، وعمرن وعثمان، وعلى، وسعد ابن أبى وقاص، رحمهم الله جميعاً، فأكلوا وسقاهم خمراً، فحضرت صلاة المغرب، فأمهم على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فقرأ:﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ ﴾[الكافرون: ١]، فقال فى قراءته: نحن عابدون ما عبدتم، فأنزل الله عز وجل فى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، وأصحابه: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ ﴾ ﴿ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ فى صلاتكم، فتركوا شربها إلا من بعد صلاة الفجر إلى الضحى الأكبر، فيصلون الأولى وهم أصحياء. ثم إن رجلاً من الأنصار يسمى عتبان بن مالك دعا سعد بن أبى وقاص إلى رأس بعير مشوى، فأكلا ثم شربا فسكرا، فغضب الأنصارى، فرفع لحى البعير فكسر أنف سعد، فأنزل الله عز وجل تحريم الخمر فى المائدة بعد غزوة الأحزاب، ثم قال سبحانه: ﴿ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ ﴿ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ ﴾، ثم استثنى المسافر الذى لا يجد الماء، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾.
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾، نزلت فى عبدالرحمن بن عوف، أصابته جنابة وهو جريح، فشق عليه الغسل، وخاف منه شراً، أو يكون به قرح أو جدرى، فهو بهذه المنزلة، فذاك قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ ﴾ يعنى به جرحاً فوجدتم الماء، فعليكم التيمم. وإن كنتم على سفر وأنتم أصحاء، نزلت فى عائشة أم المؤمنين، رضى الله عنها.
﴿ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ ﴾، يعنى الخلاء.
﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾، يعنى جامعتم.
﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ ﴾، يقول: الصحيح الذى لا يجد الماء، والمريض الذى يجد الماء يتيمموا ﴿ صَعِيداً طَيِّباً ﴾، يعنى حلالاً طيِّبا.
﴿ فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ﴾ إلى الكرسوع.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً ﴾ عنكم ﴿ غَفُوراً ﴾ [آية: ٤٣] لما كان منكم قبل النهى عن السكر والصلاة والتيمم بغير وضوء، وقد نزلت آية التيمم فى أمر عائشة، رضى الله عنها، بين الصلاتين.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً ﴾، يعن حظاً، ألم تر إلى فعل الذين أعطوا نصيباً، يعنى حظاً ﴿ مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى التوراة.
﴿ يَشْتَرُونَ ﴾، يعنى يختارون، وهم اليهود، منهم إصبغ ورافع ابنا حريملة، وهما من أحبار اليهود ﴿ يَشْتَرُونَ ﴾ ﴿ ٱلضَّلاَلَةَ ﴾، يعنى باعوا إيماناً بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، بتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته.
﴿ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ﴾ [آية: ٤٤]، يعنى أن تخطئوا قصد طريق الهدى كما أخطأوا الهدى، نزلت فى عبدالله بن أبى، ومالك بن دخشم، حين دعوهما إلى دين اليهودية وعيروهما بالإسلام وزهدوهما فيه، وفيهما نزلت: ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ﴾، يعنى بعداوتهم إياكم، يعنى اليهود.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً ﴾، فلا ولى أفضل من الله عز وجل.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً ﴾ [آية: ٤٥]، فلا ناصر أفضل من الله جل ذكره. وفيهما نزلت:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ... ﴾[آل عمران: ١١٨]، نزلت فى عبدالله بن أبى، ومالك بن دخشم، وفى بنى حريملة.
﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾، يعنى بالتحريف نعت محمد صلى الله عليه وسلم، عن مواضعه، عن بيانه فى التوراة، لياً بألسنتهم.
﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ للنبى صلى الله عليه وسلم ﴿ سَمِعْنَا ﴾ قولك ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ أمرك، فلا نطيعك.
﴿ وَٱسْمَعْ ﴾ منا يا محمد نحدثك ﴿ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ منك قولك يا محمد، غير مقبول ما تقول.
﴿ وَرَاعِنَا ﴾، يعنى ارعنا سمعك.
﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ ﴾، يعنى دين الإسلام، يقولون: إن دين محمد ليس بشىء، ولكن الذى نحن عليه هو الدين. يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا ﴾ قولك ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ أمرك ﴿ وَٱسْمَعْ ﴾ منا ﴿ وَٱنْظُرْنَا ﴾ حتى نحدثك يا محمد.
﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ من التحريف والطعن فى الدين ومن راعنا.
﴿ وَأَقْوَمَ ﴾، يعنى وأصوب من قولهم الذى قالوا.
﴿ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [آية: ٤٦]، والقليل الذى آمنوا به، إذ يعلمون أن الله ربهم، وهو خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، نزلت فى رفاعة بن زيد بن السائب، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، كلهم يهود، مثلها فى آخر السورة.
ثم خوفهم، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى كعب بن الأشرف، يعنى الذين أعطوا التوراة.
﴿ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا ﴾، يعنى بما أنزل الله من القرآن على محمد.
﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾، يقول: تصديق محمد معكم فى التوراة أنه نبى رسول.
﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ﴾، يقول: نحول الملة عن الهدى والبصيرة التى كانوا عليها من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث.
﴿ فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ ﴾ بعد الهدى الذى كانوا عليه كفاراً ضلالاً.
﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ ﴾، يعنى نعذبهم ﴿ كَمَا لَعَنَّآ ﴾، يعنى كما عذبنا ﴿ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ ﴾، يقول: فنمسخهم قردة كما فعلنا بأوائلهم.
﴿ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ [آية: ٤٧]، يقول: أمره كائن لا بد، هذا وعيد.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾، فيموت عليه، يعنى اليهود.
﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾ الشرك ﴿ لِمَن يَشَآءُ ﴾ لمن مات موحداً، فمشيئته تبارك وتعالى لأهل التوحيد. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثنى أبى، عن الهذيل، عن مقاتل بن سليمان، عن رجل، عن مجاهد، أن الاستثناء لأهل التوحيد.
﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾ معه غيره.
﴿ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً ﴾ [آية: ٤٨]، يقول: فقد قال ذنباً عظيماً.
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾، يعنى ألم تنظر ﴿ إِلَى ﴾، يعنى فعل ﴿ ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾، يعنى اليهود، منهم بحرى بن عمرو، ومرحب بن زيد، دخلوا بأولادهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أهل لهؤلاء ذنوب؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " لا "، فقالوا: والذى تحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، نحن أبناء الله وأحباؤه، وما من ذنب نعمله بالنهار إلا غفر لنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا غفر لنا بالنهار، فزكوا أنفسهم، يقول الله عز وجل: ﴿ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾، يعنى يصلح من يشاء من عباده.
﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ ﴾، يعنى ولا ينقصون من أعمالهم ﴿ فَتِيلاً ﴾ [آية: ٤٩]، يعنى الأبيض الذى يكون فى شق النواة من الفتيل. يقول الله عز وجل: يا محمد.
﴿ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ﴾، لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه.
﴿ وَكَفَىٰ بِهِ ﴾، يعنى بما قالوا.
﴿ إِثْماً مُّبِيناً ﴾ [آية: ٥٠]، يعنى بيناً.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، وذلك أن كعب بن الأشرف اليهودى، وكان عربياً من طيئ، وحيى بن أخطب، انطلقا فى ثلاثين من اليهود إلى مكة بعد قتال أُحُد، فقال أبو سفيان بن حرب: إن أحب الناس إلينا من يعيننا على قتال هذا الرجل، حتى نفنى أو يفنوا، فنزل كعب على أبى سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود فى دور قريش، فقال كعب لأبى سفيان: ليجئ منكم ثلاثون رجلاً، ومنا ثلاثون رجلاً، فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب هذا البيت، لنجتهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك. قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف: أنت امرؤ من أهل الكتاب تقرأ الكتاب، فنحن أهدى أم ما عليه محمد؟ فقال: إلى ما يدعوكم محمد؟ قال: إلى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، قال: فأخبرونى ما أمركم؟ وهو يعلم ما أمرهم، قالوا: ننحر الكوماء، ونقرى الضيف، ونفك العانى، يعنى الأسير، ونسقى الحجيج الماء، ونعمر بيت ربنا، ونصل أرحامنا، ونعبد إلهنا ونحن أهل الحرم، فقال كعب: أنت والله أهدى مما عليه محمد، فأنزل الله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يقول: أعطوا حظاً من التوراة.
﴿ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ ﴾، يعنى حيى بن أخطب القرظى.
﴿ وَٱلطَّاغُوتِ ﴾، وكعب بن الأشرف.
﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة ﴿ هَؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ﴾ [آية: ٥١]، يعنى طريقاً.
يقول الله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ ﴾، يعنى كعباً وأصحابه.
﴿ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ﴾ [آية: ٥٢]، فلما رجع كعب إلى المدينة، بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى نفر من أصحابه بقتله، فقتله محمد بن مسلمة الأنصارى، من بنى حارثة بن الحارث تلك الليلة، فلما أصبح النبى صلى الله عليه وسلم سار فى المسلمين، فحاصر أهل النضير حتى أجلاهم من المدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام.
﴿ أَمْ لَهُمْ ﴾، تقول: ألهم، والميم ها هنا صلة، فلو كان لهم، يعنى اليهود.
﴿ نَصِيبٌ ﴾، يعنى حظاً ﴿ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً ﴾ [آية: ٥٣]، يعنى لا يعطون الناس من بخلهم وحسدهم وقلة خيرهم، نقيراً يعنى بالنقير النقرة التى فى ظهر النواة التى ينبت منها النخلة. ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ ﴾، يعنى النبى صلى الله عليه وسلم وحده.
﴿ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾، يعنى ما أعطاهم من فضله، وذلك أن اليهود قالوا: انظروا إلى هذا الذى لا يشبع من الطعام، ما له هم إلا النساء، يعنون النبى صلى الله عليه وسلم، فحسدوه على النبوة وعلى كثرة النساء، ولو كان نبياً ما رغب فى النساء، يقول الله عز وجل: ﴿ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى النبوة.
﴿ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ﴾ [آية: ٥٤]، وكان يوسف منهم على مصر، وداود وسليمان منهم وكان لداود تسعة وتسعون امرأة، وكان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة، وسبعمائة سرية، فكيف تذكرون محمداً فى تسع نسوة، ولا تذكرون داود وسليمان، عليهما السلام، فكان هؤلاء أكثر نساء، وأكثر ملكاً من محمد صلى الله عليه وسلم. ومحمد أيضاً من آل إبراهيم، وكان إبراهيم، ولوطاً، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، عليهم السلام، يعملون بما فى صحف إبراهيم.
﴿ فَمِنْهُمْ ﴾، يعنى من آل إبراهيم ﴿ مَّنْ آمَنَ بِهِ ﴾، يقول: صدق بالكتاب الذى جاء به.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ ﴾، يعنى أعرض عن الإيمان بالكتاب ولم يصدق به.
﴿ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ﴾ [آية: ٥٥]، يقول: وكفى بوقودها وعذابها وقوداً لمن كفر بكتاب إبراهيم، فلا وقود أحر من جهنم لأهل الكفر.
ثم أخبر بمستقر الكفار، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ بِآيَاتِنَا ﴾، يعنى القرآن.
﴿ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ ﴾، يعنى احترقت ﴿ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾، جددنا لهم جلوداً غيرها، وذلك أن النار إذا أكلت جلودهم بدلت كل يوم سبع مرات على مقدار كل يوم من أيام الدنيا.
﴿ لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ﴾ عذاب النار جديداً.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً ﴾ فى نقمته ﴿ حَكِيماً ﴾ [آية: ٥٦ ]، حكم لهم النار.
ثم أخبر بمستقر المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ﴾، يعنى البساتين.
﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾، لا يموتون.
﴿ لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ ﴾، يعنى النساء.
﴿ مُّطَهَّرَةٌ ﴾، يعنى المطهرات من الحيض والغائط والبول والقذر كله.
﴿ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ﴾، يعنى أكنان القصور.
﴿ ظَلِيلاً ﴾ [آية: ٥٧]، يعنى لا خلل فيها.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا ﴾، " نزلت فى عثمان بن طلحة بن عبد الله القرشى، صاحب الكعبة فى أمر مفاتيح الكعبة، وذلك أن العباس بن عبد المطلب، رضى الله عنه، قال للنبى صلى الله عليه وسلم: اجعل فينا السقاية والحجابة لنسود بها الناس، وقد كان أخذ المفتاح من عثمان حين افتتح مكة، فقال عثمان بن طلحة للنبى صلى الله عليه وسلم: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فادفع إلىَّ المفتاح، فدفع النبى صلى الله عليه وسلم المفتاح، ثم أخذه ثلاث مرات، ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا ﴾، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعثمان: " خذه بأمانة الله "، حين دفع إليه المفتاح، فقال العباس، رضى الله عنه، للنبى صلى الله عليه وسلم: جعلت السقاية فينا والحجابة لغيرنا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " أما ترضون أنى جعلت لكم ما تدرون، ونحيت عنكم ما لا تدرون، ولكم أجر ذلك؟ "، قال العباس: بلى، قال: " بشرفهم بذلك، أى تفضلون على الناس، ولا يفضل الناس عليكم ". ثم قال عز وجل: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [آية: ٥٨]، فلا أحد أسمع منه.
﴿ بَصِيراً ﴾، فلا أحد أبصر منه، فكان من العدل أن دفع السقاية إلى العباس بن عبدالمطلب، والحجابة إلى عثمان بن طلحة؛ لأنهما كانا أهلها فى الجاهلية.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾، وذلك" أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد على سرية فيهم عمار بن ياسر، فساروا حتى دنوا من الماء، فعرسوا قريباً، وبلغ العدو أمرهم فهربوا، وبقى منهم رجل، فجمع متاعه، وجاء ليلاً فلقى عماراً، فقال: يا أبا اليقظان، إن القوم سمعوا بكم، فهربوا ولم يبق غيرى، وقد أسلمت، وشهدت ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فهل الإسلام نافعى؟ فقال عمار: ينفعك، فأقم، فلما أصبح خالد غار بخيله، فلم يجد إلا هذا الرجل وماله، فقال عمار: خل عن هذا الرجل وماله، فقد أسلم وهو فى أمانآ، قال خالد: فبم أنت تجير دونى وأنا أمير عليك، فاستبا، فلما رجعا إلى المدينة أجاز النبى صلى الله عليه وسلم أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فقال خالد: يا نبى الله، يسبنى هذا العبد الأجدع، وشتم خالد عماراً. فقال النبى صلى الله عليه وسلم لخالد: " لا تسب عماراً، فمن سب عماراً سب الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله، ومن لعن عماراً لعنه الله "، فغضب عمار، فقام فذهب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لخالد: " قم فاعتذر إليه "، فأتاه خالد فأخذ بثوبه، فاعتذر إليه، فأعرض عنه "، فأنزل الله عز وجل فى عمار: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾، يعنى خالد بن الوليد؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان ولاه أمرهم، فأمر الله عز وجل بطاعة أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ من الحلال والحرام، يعنى خالداً وعماراً.
﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ ﴾، يعنى إلى القرآن.
﴿ وَٱلرَّسُولِ ﴾، يعنى سُنة النبى صلى الله عليه وسلم، نظيرها فى النور، ثم قال: ﴿ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾، يعنى تصدقون بالله بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعنى باليوم الذى فيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمر الله.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الرد إليهما ﴿ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [آية: ٥٩]، يعنى وأحسن عاقبة.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ ﴾، يعنى صدقوا ﴿ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ من القرآن ﴿ وَ ﴾ صدقوا بـ ﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ من الكتب على الأنبياء، وذلك أن بشر المنافق خاصم يهودياً، فدعاه اليهودى إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب، ثم إنهما اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقضى لليهودى على المنافق، فقال المنافق لليهودى: انطلق أخاصمك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فقال اليهودى لعمر، رضى الله عنه: إنى خاصمته إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقضى لى، فلم يرض بقضائه، فزعم أنه مخاصمنى إليك، فقال عمر، رضى الله عنه، للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، أحببت أن أفترق عن حكمك، فقال عمر، رضى الله عنه: مكانك حتى أخرج إليكما، فدخل عمر، رضى الله عنه، فأخذ السيف، واشتمل عليه، ثم خرج إلى المنافق فضربه حتى برد، فقال عمر، رضى الله عنه: هكذا أقضى على من لم يرض بقضاء الله عز وجل وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم. وأتى جبريل، عليه السلام، إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، قد قتل عمر الرجل، وفرق الله بين الحق والباطل، فسمى عمر، رضى الله عنه، الفاروق، فأنزل الله عز وجل فى بشر المنافق: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ ﴾، يعنى كعب بن الأشرف، وكان يتكهن.
﴿ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ﴾، يعنى أن يتبرأوا من الكهنة.
﴿ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ﴾ عند الهدى ﴿ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ [آية: ٦٠]، يعنى طويلاً.﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ فى كتابه.
﴿ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾، يعنى بشراً.
﴿ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ﴾ [آية: ٦١]، يعنى يعرضون عنك يا محمد إعراضاً إلى غيرك، مخافة أن تحيف عليهم.
﴿ فَكَيْفَ ﴾ بهم، يعنى المنافقين.
﴿ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ ﴾ فى أنفسهم بالقتل.
﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من المعاصى فى التقديم، ثم انقطع الكلام، ثم ذكر الكلام، فقال عز ذكره: ﴿ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ ﴾ نظيرها فى سورة براءة.
﴿ إِنْ أَرَدْنَآ ﴾ ببناء مسجد القرار.
﴿ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ﴾ [آية: ٦٢]، يعنى إلا الخير والصواب، وفيهم نزلت:﴿ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾يعنى إلا الخير،﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾[التوبة: ١٠٧] فى قولهم الذى حلفوا به.﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ من النفاق.
﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ﴾ بلسانك.
﴿ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ﴾ [آية: ٦٣]، نسختها آية السيف.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ ﴾، يعنى إلا لكى يطاع.
﴿ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: لا يطيعه أحد حتى يأذن الله عز وجل له فى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ ﴾ بالذنوب، يعنى حين لم يرضوا بقضائك جاءوك.
﴿ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ ﴾ من ذنوبهم.
﴿ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ﴾ [آية: ٦٤].
﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، وذلك" أن الزبير بن العوام، رضى الله عنه، وهو من بنى أسد بن عبد العزى، وحاطب بن أبى بلتعة العنسى من مذحج، وهو حليف لبنى أسد بن عبد العزى، اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى الماء، وكانت أرض الزبير فوق أرض حاطب، وجاء السيل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: للزبير: " اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك "، فغضب حاطب وقال للنبى صلى الله عليه وسلم: أما إنه ابن عمتك، فتغير وجه النبى صلى الله عليه وسلم، ومر حاطب على المقداد بن الأسود الكندى، فقال: يا أبا لتعة، لمن كان القضاء، فقال: قضى لابن عمته، ولوى شدقه "، فأنزل الله عز وجل، فأقسم: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ﴿ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾، يعنى اختلفوا بينهم، يقول: لا يستحقون الإيمان حتى يرضوا بحكمك فيما اختلفوا فيه من شىء.
﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ﴾، يقول: لا يجدون فى قلوبهم شكاً مما قضيت أنه الحق.
﴿ وَيُسَلِّمُواْ ﴾ لقضائك لهم وعليهم ﴿ تَسْلِيماً ﴾ [آية: ٦٥].
فقالت اليهود: قاتل الله هؤلاء، ما أسفههم، يشهدون أن محمداً رسول الله ويبذلون له دماءهم وأموالهم، ووطئوا عقبه، ثم يتهمونه فى القضاء، فوالله لقد أمرنا موسى، عليه السلام، فى ذنب واحد، أتيناه فقتل بعضنا بعضاً، فبلغت القتلى سبعين ألفاً حتى رضى الله عنا، وما كان يفعل ذلك غيرنا، فقال عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى: فوالله، إن الله عز وجل ليعلم أنه لو أمرنا أن نقتل أنفسنا لقتلناها، فأنزل الله عز وجل فى قول ثابت: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا ﴾، يقول: لو أنا فرضنا ﴿ عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾، فكان من ذلك القليل عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وثابت بن قيس، فقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: والله لو فعل ربنا لفعلنا، فالحمد لله الذى لم يفعل بنا ذلك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" والذى نفسى بيده، للإيمان أثبت فى قلوب المؤمنين من الجبال الرواسى ". ثم قال: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ ﴾ من القرآن.
﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ فى دينهم ﴿ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ [آية: ٦٦]، يعنى تصديقاً فى أمر الله عز وجل.
﴿ وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ ﴾، يعنى من عندنا.
﴿ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [آية: ٦٧]، يعنى الجنة.
﴿ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ [آية: ٦٨]،" فلما نزلت: ﴿ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾، قال النبى صلى الله عليه وسلم: " لعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وثابت بن الشماس من أولئك القليل ".
﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ﴾، نزلت فى رجل من الأنصار يسمى: عبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصارى، قال للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو الذى رأى الأذان فى المنام مع عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما: إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك، فلم ينفعنا شىء حتى نرجع إليك، فذكرت درجاتك فى الجنة، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ﴾ ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ بالنبوة.
﴿ وَٱلصِّدِّيقِينَ ﴾ بالتصديق، وهم أول من صدق بالأنبياء، عليهم السلام، حين عاينوهم.
﴿ وَٱلشُّهَدَآءِ ﴾، يعنى القتلى فى سبيل الله بالشهادة.
﴿ وَٱلصَّالِحِينَ ﴾، يعنى المؤمنين أهل الجنة.
﴿ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً ﴾ [آية: ٦٩].
﴿ ذٰلِكَ ﴾، يعنى هذا الثواب هو ﴿ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً ﴾ [آية: ٧٠]، فلما توفى النبى صلى الله عليه وسلم أتاه ابنه وهو فى حديقة له، فأخبره بموت النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عند ذلك: اللهم اعمنى، فلا أرى شيئاً بعد حبيبى أبداً، فعمى مكانه، وكان يحب النبى صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، فجعله الله عز وجل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى الجنة.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ ﴾، يعنى عدتكم من السلاح.
﴿ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ ﴾، عصباً سراياً جماعة إلى عدوكم.
﴿ أَوِ ٱنْفِرُواْ ﴾ إليهم.
﴿ جَمِيعاً ﴾ [آية: ٧١] مع النبى صلى الله عليه وسلم، إذا نفر.
﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ﴾، يعنى ليتخلفن النفر، نزلت فى عبدالله بن أبى بن ملك بن أبى عوف بن الخزرج رأس المنافقين.
﴿ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ ﴾، يعنى بلاء من العدو أو شدة من العيش.
﴿ قَالَ ﴾ المنافق.
﴿ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ﴾ [آية: ٧٢]، يعنى شاهداً فيصيبنى من البلاء ما أصابهم.﴿ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ ﴾، يعنى رزق.
﴿ مِنَ الله ﴾ عز وجل، يعنى الغنيمة.
﴿ لَيَقُولَنَّ ﴾ ندامة فى التخلف.
﴿ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ﴾ فى الدين والولاية.
﴿ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [آية: ٧٣]، فألحق من الغنيمة نصيباً وافراً.
﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ ﴾، فيقتل فى سبيله أو يغلب عدوه.
﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [آية: ٧٤] فى الجنة، لقولهم للنبى صلى الله عليه وسلم: إن نقاتل فنقتل ولا نقتل؟ فنزلت هذه الآية، فأشركهم جميعاً فى الأجر.
﴿ وََمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، وتقاتلون عن.
﴿ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾، يعنى المقهورين ﴿ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ ﴾ المقهورين بمكة حتى يتسع الأمر، ويأتى إلى الإسلام من أراد منهم. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ﴾، يعنى مكة.
﴿ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ﴾، يعنى من عندك ولياً.
﴿ وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً ﴾ [آية: ٧٥] على أهل مكة والمستضعفين من الرجال، يعنى المؤمنين، قال ابن عباس، رحمه الله: كنت أنا وأمى من المستضعفين من النساء والولدان.
ثم قال: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى طاعة الله.
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ ﴾، يعنى فى طاعة الشيطان، ثم حرض الله عز وجل المؤمنين، فقال: ﴿ فَقَاتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَانِ ﴾، يعنى المشركين بمكة.
﴿ إِنَّ كَيْدَ ﴾، يعنى إن مكر ﴿ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ [آية: ٧٦]، يعنى واهناً، كقوله سبحانه:﴿ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾[الأنفال: ١٨]، يعنى مضعف كيد الكافرين، فسار النبى صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها، وجعل الله عز وجل للمستضعفين مخرجاً.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ ﴾ عن القتال،" نزلت فى عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، رضى الله عنهما، وهما من بنى زهرة، وقدامة بن مظعون الجمحى، والمقداد بن الأسود الكندى، رضى الله عنهم، وذلك أنهم استأذنوا فى قتال كفار مكة سراً، مما كانوا يلقون منهم من الأذى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " مهلاً، كفوا أيديكم عن قتالهم.
﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ﴾، فإنى لم أومر بقتالهم "، فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أمر الله عز وجل بالقتال، فكره بعضهم، فذلك قوله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ ﴾، يعنى فرض القتال بالمدينة.
﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾، نزلت فى طلحة بن عبيد الله، رضى الله عنه.
﴿ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ ﴾، يعنى كفار مكة.
﴿ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ ﴾، فلا يقاتلونهم.
﴿ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ ﴾، وهو الذى قال: ﴿ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ ﴾، يعنى لم فرضت علينا القتال.
﴿ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ هلا تركتنا حتى نموت موتاً وعافيتنا من القتل.
﴿ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾، تتمتعون فيها يسيراً.
﴿ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ ﴾ من الدنيا، يعنى الجنة أفضل من الدنيا.
﴿ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ من أعمالكم الحسنة ﴿ فَتِيلاً ﴾ [آية: ٧٧]، يعنى الأبيض الذى يكون فى وسط النواة حتى يجازوا بها.
ثم أخبر عن كراهيتهم للقتال ذاكراً لهم أن الموت فى أعناقكم، فقال سبحانه: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ ﴾ من الأرض ﴿ يُدْرِككُّمُ ﴾، يعنى يأتيكم ﴿ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾، يعنى القصور الطوال المشيدة إلى السماء فى الحصانة حين لا يخلص إليه ابن آدم يخلص إليه الموت حين يفر منه، وقال عبدالله بن أبى، لما قتلت الأنصار يوم أُحُد، قال: لو أطاعونا ما قتلوا، فنزلت: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾، يعنى القصور. ثم أخبر سبحانه عن المنافقين عبدالله بن أبى وأصحابه، فقال: ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ ببدر، يعنى نعمة، وهى الفتح والغنيمة، يقول: هذه الحسنة من عند الله.
﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾، يعنى بلية، وهى القتل والهزيمة يوم أُحُد.
﴿ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ﴾ يا محمد، أنت حملتنا على هذا، وفى سببك كان هذا، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ كُلٌّ ﴾، يعنى الرخاء والشدة ﴿ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَا لِهَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ ﴾، يعنى المنافقين ﴿ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾ [آية: ٧٨]، أن الشدة والرخاء والسيئة والحسنة من الله، ألا يسمعون ما يحذرهم ربهم فى القرآن؟ يعنى عبدالله بن أبى.
فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ﴾، يعنى الفتح والغنيمة يوم بدر.
﴿ فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾ كان.
﴿ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ ﴾، يعنى البلاء من العدو، والشدة من العيش يوم أُحُد.
﴿ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾، يعنى فبذنبك، يعنى ترك المركز، وفى مصحف عبدالله بن مسعود، وأبى بن كعب: " فبذنبك، وأنا كتبتها عليك ".
﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾ [آية: ٧٩]، يعنى فلا شاهد أفضل من الله بأنك رسوله.
﴿ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ﴾، وذلك" أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى المدينة: " من أحبنى فقد أحب الله، ومن أطاعنى فقد أطاع الله "، فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى هذا الرجل وما يقول؟ لقد قارب الشرك، وهو ينهى ألا يعبد إلا الله، فما حمله على الذى قال إلا أن نتخذه حناناً، يعنون رباً، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حناناً، فأنزل الله عز وجل تصديقاً لقول نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ﴾ ﴿ وَمَن تَوَلَّىٰ ﴾ عرض عن طاعتهما.
﴿ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ [آية: ٨٠]، يعنى رقيباً. ثم أخبر عن المنافقين، فقال سبحانه: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ﴾ للنبى صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بالجهاد، وذلك أنهم دخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مرنا بما شئت، فأمرك طاعة، فإذا خرجوا من عنده خالفوا، وقالوا غير الذى قال لهم النبى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ﴾ للنبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ ﴾، يعنى خرجوا من عندك يا محمد.
﴿ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ ﴾، يقول: ألفت طائفة.
﴿ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ﴾، يعنى الحفظة، فيكتبون ما يقولون من الكذب.
﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾، يعنى الجلاس بن سويد، وعمرو بن زيد، فلا تعاتبهم.
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾، يعنى وثق بالله عز وجل.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [آية: ٨١]، يعنى وكفى به منيعاً، فلا أحد أمنع من الله عز وجل، ويقال: وكيلاً، يعنى شهيداً لما يكتمون.
ثم وعظهم، فقال سبحانه: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ﴾، يعنى أفلا يسمعون ﴿ ٱلْقُرْآنَ ﴾ فيعلمون أنه.
﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ [آية: ٨٢]، يعنى كذباً كبيراً؛ لأن الاختلاف فى قول الناس، وقول الله عز وجل لا اختلاف فيه.
﴿ وَإِذَا جَآءَهُمْ ﴾، يعنى المنافقين.
﴿ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ ﴾، يعنى شيئاً من الأمر يسر المؤمنين من الفتح والخير، قصروا عما جاءهم من الخير. ثم قال سبحانه: ﴿ أَوِ ٱلْخَوْفِ ﴾، يعنى فإن جاءهم بلاء أو شدة نزلت بالمؤمنين.
﴿ أَذَاعُواْ بِهِ ﴾، يعنى أفشوه، فإذا سمع ذلك المسلمون كاد أن يدخلهم الشك.
﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ حتى يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان من الأمر أو ردوه.
﴿ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ ﴾، يقول: أمراء السرايا، فيكونون هم الذين يخبرون ويكتبون به.
﴿ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾، يعنى الذين يتبينونه منهم، يعنى الخير على وجهه، ويحبوا أن يعلموا ذلك فيعلمونه، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾، يعنى ونعمته فعصمكم من قول المنافقين.
﴿ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [آية: ٨٣]، نزلت فى أناس كانوا يحدثون أنفسهم بالشرك. ثم قال عز وجل: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، فأمره أن يقاتل بنفسه.
﴿ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ﴾، يعنى ليس عليك ذنب غيرك.
﴿ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾، يعنى وحرض على القتال، يعنى على قتال العدو.
﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ﴾، يعنى قتال ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً ﴾، يعنى أخذاً.
﴿ وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾ [آية: ٨٤]، يعنى نكالاً، يعنى عقوبة من الكفار، ولو لم يطع النبى صلى الله عليه وسلم أحداً من الكفار، لكفاه الله عز وجل.
وقوله سبحانه: ﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ﴾ لأخيه المسلم بخير.
﴿ يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ﴾، يعنى حظاً من الأجر من أجل شفاعته.
﴿ وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً ﴾، وهو الرجل يذكر أخاه بسوء عند رجل فيصيبه عنت منه، فيأثم المبلغ، فذلك قوله سبحانه: ﴿ يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا ﴾، يعنى إثماً من شفاعته.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾ [آية: ٨٥] من الحيوان، عليه قوت كل دابة لمدة رزقها.﴿ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ ﴾، نزلت فى نفر بخلوا بالسلام، فحيوا بأحسن منها.
﴿ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾، يقول: فردوا عليه أحسن مما قال، قال: فيقول: وعليك ورحمة الله وبركاته، أو يرد عليه مثل ما سلم عليه.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أمر التحية، إن رددت عليها أحسن منها أو مثلها.
﴿ حَسِيباً ﴾ [آية: ٨٦]، يعنى شهيداً.
﴿ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾، نزلت فى قوم شكوا فى البعث، فأقسم الله عز وجل بنفسه ليبعثهم إلى يوم القيامة.
﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾، يعنى لا شك فى البعث.
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً ﴾ [آية: ٨٧]، يقول: فلا أحد أصدق من الله حديثاً إذا حدث، يعنى فى أمر البعث.﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ صرتم ﴿ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ نزلت فى تسعة نفر، منهم: مخرمة بن زيد القرشى، هاجروا من مكة إلى المدينة، فقدموا وأرادوا الرجعة، فقال بعضهم: نخرج كهيئة البداة، فإذا غفل عنا مضينا إلى مكة، فجعلوا يتحولون منقلة منقلة، حتى تباعدوا من المدينة، ثم إنهم أدلجوا حتى أصبحوا قد قطعوا أرضاً بعيدة، فلحقوا بمكة، فكتبوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم: إنَّا على ما فرقناك عليه، ولكنا اشتقنا إلى بلادنا وإخوتنا بمكة، ثم إنهم خرجوا تجاراً إلى الشام، واستبضعهم أهل مكة بضائعهم، فقالوا لهم: أنتم على دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا بأس عليكم، فساروا وبلغ المسلمين أمرهم، فقال بعضهم لبعض: اخرجوا إلى هؤلاء فنقاتلهم، ونأخذ ما معهم، فإنهم تركوا دار الهجرة وظاهروا عدونا. وقال آخرون: ما حلت دماؤهم ولا أموالهم ولكنهم فتنوا، ولعلهم يرجعوا للتوبة، والنبى صلى الله عليه وسلم ساكت، فأنزل الله عز وجل يخبر عن تسعة رهط ويعظ المؤمنين ليكون أمرهم جميعاً عليهم فقال الله عز وجل: ﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ صرتم ﴿ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ ﴿ فِئَتَيْنِ ﴾ تختصمون.
﴿ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ﴾، يعنى أضلهم فردهم إلى الكفر.
﴿ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ ﴾ عن الهدى.
﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾ [آية: ٨٨].
ثم أخبر عن التسعة، فقال سبحانه: ﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً ﴾ أنتم وهم على الكفر.
﴿ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى حتى يهاجروا إلى دار الهجرة بالمدينة.
﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ ﴾، فإن أبوا الهجرة.
﴿ فَخُذُوهُمْ ﴾، يعنى فأسروهم.
﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ﴾، يعنى أين ﴿ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ من الأرض فى الحل والحرم.
﴿ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ [آية: ٨٩]، يعنى ولا ناصراً. ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ ﴾، يعنى التسعة المرتدين.
﴿ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾، يعنى عهد خزاعة وبنى خزيمة، وفيهم نزلت:﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾[التوبة: ٤]، وإن وصل هؤلاء التسعة إلى أهل عهدكم وهم خزاعة، منهم: هلال بن عويمر الأسلمى، وسراقة بن مالك بن جشم، وبنو مدلج، وبنو جذيمة، وهما حيان من كنانة، فلا تقتلوا التسعة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم صالح هؤلاء على أن من يأتيهم من المسلمين فهو آمن، يقول: إن وصل هؤلاء وغيرهم إلى أهل عهدكم، فإن لهم مثل الذى لحلفائهم. ثم قال عزوجل: ﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ ﴾، يعنى بن جذيمة.
﴿ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾، يعنى ضيقة قلوبهم.
﴿ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، يعنى ضاقت قلوبهم أن يقاتلوكم.
﴿ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ من التسعة، ثم قال: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾، يخوف المؤمنين، ثم قال: ﴿ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ ﴾، يعنى الصلح، يعنى هلالاً وقومه خزاعة.
﴿ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾ [آية: ٩٠] فى قتالهم.﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ﴾ منهم أسد غطفان، أتوا النبى صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم: " أجئتم مهاجرين؟ "، قالوا: بل جئنا مسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم، قالوا: آمنا بالعقرب والخنفساء إذ تعود، فقال: ﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ﴾ ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ ﴾، يعنى يأمنوا فيكم معشر المؤمنين بأنهم مقرون بالتوحيد.
﴿ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ المشركين؛ لأنهم على دينهم.
﴿ كُلَّ مَا رُدُّوۤاْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ ﴾، يعنى كلما دعوا إلى الشرك.
﴿ أُرْكِسُواْ فِيِهَا ﴾، يقول: عادوا فى الشرك.
﴿ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ﴾ فى القتال.
﴿ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ ﴾، يعنى الصلح.
﴿ وَيَكُفُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ عن قتالكم.
﴿ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ ﴾، يعنى أأسروهم واقتلوهم.
﴿ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ ﴾، يعنى أدركتموهم من الأرض فى الحل والحرم.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ [آية: ٩١]، يعنى حجة بينة.
ثم صارت منسوخة.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ﴾، يعنى عياش بن أبى ربيعة بن المغيرة المخزومى، يقول: ما كان ينبغى لمؤمن ﴿ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً ﴾، يعنى الحارث بن يزيد بن أبى أنيسة من بنى عامر بن لؤى.
﴿ إِلاَّ خَطَئاً ﴾، وذلك أن الحارث أسلم فى موادعة أهل مكة، فقتله عياش خطأ، وكان عياش قد حلف على الحارث بن يزيد ليقتلنه، وكان الحارث يومئذ مشرك، فأسلم الحارث ولم يعلم به عياش فقتله بالمدينة.
﴿ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾، أى التى قد صلت لله ووحدت الله.
﴿ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ ﴾، أى المقتول ﴿ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ﴾، يقول: إلا أن يصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل، فهو خير لهم.
﴿ فَإِن كَانَ ﴾ هذا المقتول ﴿ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ ﴾ من أهل الحرب.
﴿ وَهُوَ ﴾، يعنى المقتول ﴿ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾ نزلت فى مرداس بن عمر القيسى، ولا دية له.
﴿ وَإِن كَانَ ﴾ هذا المقتول وكان ورثته ﴿ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾، يعنى عهد ﴿ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ ﴾، أى إلى أهل المقتول، يعنى إلى ورثته بمكة، وكان بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يومئذ عهد.
﴿ وَ ﴾ عليه ﴿ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ الدية ﴿ فَـ ﴾ عليه ﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، تلك الكفارة تجاوز من الله فى قتل الخطأ لهذه الأمة؛ لأن المؤمن كان يقتل بالخطأ فى التوراة على عهد موسى، عليه السلام.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [آية: ٩٢]، حكم الكفارة والرقبة.
﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ﴾، نزلت فى مقيس بن ضبابة الكنانى، ثم الليثى، قتل رجلاً من قريش، يقال له: عمرو مكان أخيه هشام بن ضبابة، وذلك أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلاً فى الأنصار فى بنى النجار، فانطلق إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فأرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار رجلاً من بنى فهر مع مقيس، فقال: ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه، إن علمتم ذلك، وإلا فادفعوا إليه ديته، فلما جاءهم الرسول، قالوا: السمع والطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلاً، ولكنا نؤدى ديته، ودفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فلما انصرف مقيس عمد إلى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله وفر وارتد عن الإسلام، ورحل من المدينة، وساق مع الدية، ورجع إلى مكة كافراً، وهو يقول فى شعره: قتلت به فهراً وحملت عقله   سراة بنى النجار أرباب فارعوأدركت ثأرى واضطجعت موسدا   وكنت إلى الأوثان أول راجعفنزلت فيه بعدما قتل النفس وارتد عن الإسلام، وساق معه الدية إلى مكة، نزلت فيه الآية: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً ﴾، يعنى الفهرى ﴿ مُّتَعَمِّداً ﴾ لقتله ﴿ فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾ [آية: ٩٣] وافر الانقطاع له بقتله النفس وبأخذه الدية.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، وذلك" أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وبعث عليها غالب بن عبدالله الليثى أخا ثميلة بن عبدالله، فلما أصبحوا رأوا رجلاً يسمى مرداس بن عمرو بن نهيك العنسى من بنى تيم بن مرة من أهل فدك، معه غنيمة له، فلما رأى الخيل ساق غنيمته حتى أحرزها فى الجبل، وكان قد أسلم من الليل وأخبر أهله بذلك، فلما دنوا منه كبروا، فسمع التكبير، فعرفهم، فنزل إليهم، فقال: سلام عليكم، إنى مؤمن، فحمل عليه أسامة بن زيد بن حارثة الكلبى من بنى عبد ود، فقال مرداس: إنى منكم أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. فطعنه أسامه برمحه فقتله وسلبه وساق غنمه، فلما قدم المدينة أخبر أسامة النبى صلى الله عليه وسلم، فلامه النبى ملامة شديدة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " قتلته وهو يقول: لا إله إلا الله؟ "، قال: إنما قال ذلك أراد أن يحرز نفسه وغنمه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " أفلا شققت عن قلبه، فتنظر صدق أم لا؟ "، قال: يا رسول الله، كيف يتبين لى؟ وإنما قلبه بضعة من جسده، فقال: " فلا صدقته بلسانه، ولا أنت شققت عن قلبه فيبين لك "، فقال: استغفر لى يا رسول الله، قال: " فكيف لك بلا إله إلا الله "، يقول ذلك ثلاث مرات، فاستغفر له النبى صلى الله عليه وسلم الرابعة "قال أسامة فى نفسه: وددت أنى لم أسلم حتى كان يومئذ، فأمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة. قال مقاتل، رحمه الله: فعاش أسامة زمن أبى بكر، وعمر، وعثمان، رضى الله عنهم، حتى أدرك على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فدعاه على، رحمه الله، إلى القتال، فقال أسامة: ما أحد أعز علىَّ منك، ولكن لا أقاتل مسلماً بعد قول النبى صلى الله عليه وسلم: " كيف لك بلا إله إلا الله؟ ". فإن أتيت بسيف إذا ضربت به مسلماً، قال السيف: هذا مسلم، وإن ضربت به كافراً، قال لى: هذا كافر، قاتلت معك، فقال له على: اذهب حيث شئت، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى سرتم غزاة فى سبيل الله.
﴿ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ من تقتلوا.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ ﴾، يعنى مرداس، وذلك أنه قال لهم: السلام عليكم إنى مؤمن.
﴿ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾، يعنى غنم مرداس.
﴿ فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ﴾ فى الآخرة والجنة.
﴿ كَذٰلِكَ ﴾، يعنى هكذا.
﴿ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ الهجرة بمنزلة مرداس تأمنون فى قومكم بالتوحيد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إذا لقوكم، فلا تخيفون أحداً بأمر كان فيكم تأمنون بمثله قبل هجرتكم.
﴿ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ بالهجرة فهاجرتم.
﴿ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ إذا خرجتم فلا تقتلوا مسلماً.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [آية: ٩٤]، فقال أسامة: والله لا أقتل رجلاً بعد هذا يقول: لا إله إلا الله.
وقوله سبحانه: ﴿ لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ ﴾ عن الغزو ﴿ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾، يعنى عبدالله بن جحش الأسدى، وابن أم مكتوم من أهل العذر. قال أبو محمد: هم ثلاثة منهم عبدالله بن جحش، عقد له النبى صلى الله عليه وسلم وعبيد الله مات نصرانياً، وعبدالله بن جحش هو الضرير الذى نزل فيه قوله عز وجل: ﴿ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ ﴾.
يقول عز وجل: لا يستوى فى الفضل القاعد الذى لا عذر له، والمجاهد بنفسه وماله فى سبيل الله، وهى غزوة تبوك، قال عز وجل: ﴿ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ ﴾ من أهل العذر.
﴿ دَرَجَةً ﴾، يعنى فضيلة على القاعدين.
﴿ وَكُـلاًّ ﴾، يعنى المجاهد والقاعد المعذور.
﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾، يعنى الجنة، ثم قال سبحانه: ﴿ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ ﴾ الذين لا عذر لهم ﴿ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [آية: ٩٥].
﴿ دَرَجَاتٍ مِّنْهُ ﴾، يعني فضائل من الله فى الجنة سبعين درجة بين كل درجتين مسيرة سبعين سنة.
﴿ وَمَغْفِرَةً ﴾ لذنوبهم.
﴿ وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [آية: ٩٦]، يعنى أبا لبابة، وأوس بن حزام، ووداعة بن ثعلب، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة من بنى عمرو بن عوف، كلهم من الأنصار.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾، يعنى ملك الموت وحده.
﴿ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ ﴾، وذلك أنه كان نفر أسلموا بمكة مع النبى صلى الله عليه وسلم، منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاطه بن المغيرة، والوليد بن عقبة بن ربيعة بن عبد شمس، وعمرو بن أمية ابن سفيان بن أمية بن عبد شمس، والعلاء بن أمية بن خلف الجمحى. ثم إنهم أقاموا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى قتال بدر، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا فى النبى صلى الله عليه وسلم، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، وكان بعضهم نافق بمكة. فلما قتل هؤلاء ببدر.
﴿ قَالُواْ ﴾، أى قالت الملائكة لهم، وهو ملك الموت وحده: ﴿ فِيمَ كُنتُمْ ﴾؟ يقول: فى أى شىء كنتم.
﴿ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، يعنى كنا مقهورين بأرض مكة لا نطيق أن نظهر الإيمان.
﴿ قَالْوۤاْ ﴾، أى قالت الملائكة لهم: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً ﴾ من الضيق، يعنى أرض الله المدينة.
﴿ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ﴾، يعنى إليها، ثم انقطع الكلام، فقال عز وجل: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ [آية: ٩٧]، يعنى وبئس المصير صاروا. ثم استثنى أهل العذر، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ ﴾، فليس مأواهم جهنم.
﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ﴾، يقول: ليس لهم سعة للخروج إلى المدينة.
﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴾ [آية: ٩٨]، يعنى ولا يعرفون طريقاً إلى المدينة.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ﴾، والعسى من الله واجب.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً ﴾ عنهم ﴿ غَفُوراً ﴾ [آية: ٩٩]، فلا يعاقبهم لإقامتهم عن الهجرة فى عذر. فقال ابن عباس، رضى الله عنه: أنا يومئذ من الولدان، وأمى من النساء، فبعث النبى صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى مسلمى مكة، فقال جندب بن حمزة الليثى، ثم الجندعى لبنيه: احملونى فإنى لست من المستضعفين، وإنى لهاد بالطريق ولو مت لنزلت فى الآية، وكان شيخاً كبيراً، فحمله بنوه على سريره متوجهاً إلى المدينة، فمات بالتنعيم، فبلغ أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم موته، فقالوا: لو لحق بنا لأتم الله أجره، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه لا يخيب من التمس رضاه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، يعنى فى طاعة الله إلى المدينة.
﴿ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً ﴾، يعنى متحولاً عن الكفر.
﴿ وَسَعَةً ﴾ فى الرزق ﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [آية: ١٠٠].
ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ ﴾، يعنى سرتم ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، يعنى غزوة بنى أنمار ببطن مكة.
﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾، يعنى أن يقتلكم، كقوله:﴿ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ﴾[يونس: ٨٣]، يعنى أن يقتلكم الذين كفروا من أهل مكة، فيصيبوا منكم طائفة.
﴿ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾ [آية: ١٠١].
﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ ﴾، يعنى النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ ﴾، وليأخذوا حذرهم من عدوهم.
﴿ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ ﴾، يعنى تذرون ﴿ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ ﴾، يعنى فيحملون ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ جميعاً ﴿ مَّيْلَةً وَاحِدَةً ﴾، يعنى حملة واحدة، يعنى كرجل واحد عند غفلتكم، ثم رخص لهم فى وضع السلاح عند المطر أو المرض، فقال: ﴿ وَلاَ جُنَاحَ ﴾ يعني لا حرج ﴿ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ ﴾ من عدوكم عند وضع السلاح.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ [آية: ١٠٢]، يعنى الهوان.
وكان تقصير الصلاة بعسفان، بين مكة والمدينة، والنبى صلى الله عليه وسلم بإزاء الذين خافوه وهم غطفان.
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلاَةَ ﴾، يعنى صلاة الخوف.
﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ﴾ باللسان.
﴿ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾، إذا أقمتم فى بلادكم فأقيموا الصلاة، يعنى فأتموا الصلاة كاملة ولا تقصروا.
﴿ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ [آية: ١٠٣]، يعنى فريضة معلومة، كقوله:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ ﴾[البقرة: ٢١٦]، يعنى فرض عليكم القتال.﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ﴾، يقول: ولا تعجزوا، كقوله:﴿ فَمَا وَهَنُواْ ﴾[آل عمران: ١٤٦] يعنى فما عجزوا فى طلب أبى سفيان وأصحابه يوم أحُد بعد القتل بأيام، فاشتكوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم الجراحات، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ ﴾، يعنى تتوجعون.
﴿ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ ﴾، يعنى يتوجعون كما تتوجعون.
﴿ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ من الثواب والأجر.
﴿ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾، يعنى أبا سفيان وأصحابه.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً ﴾ بخلقه ﴿ حَكِيماً ﴾ [آية: ١٠٤] فى أمره.
﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ ﴾، وذلك أن يهودياً يسمى زيد بن السمين، كان استودع طعمة بن أبيرق الأنصارى من الأوس من بنى ظفر بن الحارث درعاً من حديد، ثم إن زيداً اليهودى طلب درعه فجحده طعمة، فقال زيد لقومه: قد ذكر لى أن الدرع عنده، فانطلقوا حتى نلتمس داره، فاجتمعوا ليلاً فأتوا داره، فلما سمع جلبة القوم أحس قلبه أن القوم إنما جاءوا من أجل الدرع، فرمى به فى دار أبى مليك، فدخل القوم داره، فلم يجدوا الدرع، فاجتمع الناس. ثم إن طعمة اطلع فى دار أبى مليك، فقال: هذا درع فى دار أبى مليك، فلا أدرى هى لكم أم لا؟ فأخذوا الدرع، ثم إن قوم طعمة، قتادة بن النعمان وأصحابه، قالوا: انطلقوا بنا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فلنبرئ صاحبنا، ونقول: إنهم أتونا ليلاً ففضحونا، ولم يكن معهم رسول من قبلك ونأمرهم أن يبرءوا صاحبنا لتنقطع ألسنة الناس عنا بما قذفونا به، ونخبره أنها وجدت فى دار أبى مليك، فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم، فأخبروه فصدق النبى صلى الله عليه وسلم طعمة وأبرأه من ذلك، وهو يرى أنهم قد صدقوا، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى القرآن ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ لم ننزله باطلاً عبثاً لغير شىء.
﴿ لِتَحْكُمَ ﴾، يعنى لكى تحكم ﴿ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ ﴾، يعنى بما علمك الله فى كتابه، كقوله سبحانه:﴿ وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾[سبأ: ٦].
﴿ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ﴾ [آية: ١٠٥]، يعنى طعمة. ثم قال: ﴿ وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ ﴾ يا محمد عن جدالك عن طعمة حين كذبت عنه، فأبرأته من السرقة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [آية: ١٠٦]، فاستغفر النبى صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
﴿ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾، يعنى طعمة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ﴾ [آية: ١٠٧] فى دينه أثميا بربه.
﴿ يَسْتَخْفُونَ ﴾، يعنى يستترون بالخيانة ﴿ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى طعمة.
﴿ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ ﴾، ولا يشترون بالخيانة من الله.
﴿ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ﴾، يعنى إذ يؤلفون ﴿ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ ﴾، لقولهم: إنا نأتى النبى صلى الله عليه وسلم فنقول له كذا وكذا، فألقوا قولهم بينهم، يعنى قتادة وأصحابه ليدفعوا عن صاحبهم ما لا يرضى الله من القول.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾ [آية: ١٠٨]، يعنى أحاط علمه بأعمالهم، يعنى قوم الخائن قتادة بن النعمان وأصحابه. ثم قال يعينهم: ﴿ هَاأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ قوم الخائن ﴿ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ ﴾ نبيكم ﴿ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ عن طعمة.
﴿ فَمَن يُجَادِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ [آية: ١٠٩]، يعنى به قومه، يقول: أم من يكون لطعمة مانعاً فى الآخرة، ثم عرض على طعمة التوبة، فقال: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً ﴾، يعنى إثماً.
﴿ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾، يعنى قذف البرئ أبا مليك.
﴿ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [آية: ١١٠].
﴿ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً ﴾، يعنى طعمة.
﴿ فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [آية: ١١١] فى أمره.
﴿ وَمَن يَكْسِبْ ﴾ لنفسه ﴿ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ﴾، يعنى قذف البرئ.
﴿ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ﴾، يعنى أنه رمى به فى دار أبى مليك الأنصارى.
﴿ فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً ﴾، يعنى قذفه البرئ بما لم يكن.
﴿ وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ [آية: ١١٢]، يعنى بيناً. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ﴾، يعنى ونعمته بالقرآن حين بين لك أمر طعمة، فحولك عن تصديق الخائنين بالقرآن.
﴿ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ ﴾، يقول: لكادت طائفة من قوم الخائنين أن يستنزلوك عن الحق.
﴿ وَمَا يُضِلُّونَ ﴾، يعنى وما يستنزلون ﴿ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ﴾، يعنى وما ينقصونك من شىء ليس ذلك بأيديهم، إنما ينقصون أنفسهم، ثم قال: ﴿ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى الحلال والحرام.
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ من أمر الكتاب وأمر الدين.
﴿ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ [آية: ١١٣]، يعنى النبوة والكتاب.
ثم قال سبحانه: ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ﴾، يعنى قوم طعمة قيس بن زيد، وكنانة بن أبى الحقيق، وأبو رافع، وكلهم يهود، حين تناجوا فى أمر طعمة، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾، يعنى القرض.
﴿ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [آية: ١١٤]، يعنى جزاء عظيماً، فأنزل الله عز وجل فى قولهم: ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ ﴾، يعنى يخالف ﴿ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ﴾، يعنى غير دين ﴿ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ ﴾ من الآلهة.
﴿ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ [آية: ١١٥]، يعنى وبئس المصير. فلما قدم طعمة مكة، نزل على الحجاج ابن علاط السلمى، فأحسن نزله، فبلغه أن فى بيته ذهباً، فلما كان من الليل خرج فنقب حائط البيت، وأراد أن يأخذ الذهب وفى البيت مسوك يا بسة مسوك الشاء قد أصابها حر الشمس ولم تدبغ، فلما دخل البيت من النقب وطئ المسوك، فسمعوا قعقة المسوك فى صدره عند النقب، وأحاطوا بالبيت، ونادوه: اخرج فإنا قد أحطنا بالبيت، فلما خرج إذا هم بضيفهم طعمة، فأراد أهل مكة أن يرجموه فاستحيا الحجاج لضيفه، وكانوا يكرمون الضيف فأهزوه وشتموه، فخرج من مكة، فلحق بحرة بنى سليم يعبد صنمهم، ويصنع ما يصنعون حتى مات على الشرك، فأنزل الله عز وجل فيه: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾، يعنى يعدل به، فيموت عليه.
﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾، يعنى ما دون الشرك لمن يشاء، فمشيئته لأهل التوحيد.
﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ﴾ عن الهدى.
﴿ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ [آية: ١١٦].
ثم إن أبا مليك عاش حتى استخلف عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فحلف بالله لعمر، رضى الله عنه، لا يولى راجعاً، فلما كان يوم القادسية انهزم المشركون إلى الفرات وجاءت أساورة كسرى، فهزموا المسلمين إلى قريب من الجيش، فثبت أبو مليك حتى قتل، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فقال أبو مليك: صدق الله وعده: ﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً ﴾، يعنى أوثاناً، يعنى أمواتاً اللات والعزى، وهى الأوثان لا تحرك ولا تضر ولا تنفع، فهى ميتة.
﴿ وَإِن يَدْعُونَ ﴾، يعنى وما يعبدون من دونه.
﴿ إِلاَّ شَيْطَاناً ﴾، يعنى إبليس، زين لهم إبليس طاعته فى عبادة الأوثان ﴿ مَّرِيداً ﴾ [آية: ١١٧]، يعنى عاتباً تمرد على ربه عز وجل فى المعصية.
﴿ لَّعَنَهُ ٱللَّهُ ﴾ حين كره السجود لآدم صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَقَالَ ﴾ إبليس لربه جل جلاله: ﴿ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ [آية: ١١٨]، يعنى حظاً معلوماً من كل ألف إنسان واحد فى الجنة وسائرهم فى النار، فهذا النصيب المفروض.﴿ وَ ﴾ قال إبليس: ﴿ وَلأُضِلَّنَّهُمْ ﴾ عن الهدى.
﴿ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ﴾ بالباطل، ولأخبرنهم ألا بعث ولا جنة ولا نار.
﴿ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ﴾، يعنى ليقطعن.
﴿ آذَانَ ٱلأَنْعَامِ ﴾، وهى البحيرة للأوثان.
﴿ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى ليبدلن دين الله.
﴿ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ ﴾، يعنى إبليس ﴿ وَلِيّاً ﴾، يعنى رباً ﴿ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ عز وجل.
﴿ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ﴾ [آية: ١١٩]، يقول: فقد ضل ضلالاً بيناً.﴿ يَعِدُهُمْ ﴾ إبليس الغرور ألا بعث.
﴿ وَيُمَنِّيهِمْ ﴾ إبليس الباطل.
﴿ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [آية: ١٢٠]، يعنى إلا باطلاً، الذى ليس بشئ، وقال: ﴿ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ وَلِيّاً ﴾ ﴿ أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ﴾ [آية: ١٢١]، يعنى مقراً يلجئون إليه، يعنى القرار.
ثم أخبر بمستقر من لا يتولى الشيطان، فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً ﴾، يعنى صدقاً أنه منجز لهم ما وعدهم.
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً ﴾ [آية: ١٢٢]، فليس أحد أصدق قولاً منه عز وجل فى أمر الجنة والنار والبعث وغيره.
﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾، نزلت فى المؤمنين واليهود والنصارى، قالت اليهود: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أهدى وأولى بالله منكم، وقالت النصارى: نبينا كلمة الله وروح الله وكلمته، وكان يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وفى كتابنا العفو، وليس فيه قصاص، فنحن أولى بالله منكم معشر اليهود ومعشر المسلمين. فقال المسلمون: كذبتم، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وآمنا بنبيكم وكتابكم، وكذبتم نبينا وكتابنا، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا، فنحن أهدى منكم وأولى منكم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ﴾ معشر المؤمنين ﴿ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ [آية: ١٢٣].
﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾ [آية: ١٢٤].
﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ ﴾، نزلت فى المؤمنين مجازات الدنيا تصيبهم فى النكبة بحجر، والضربة واختلاج عرق أو خدش عود، أو عثرة قدم فيدميه أو غيره، فبذنب قدم وما يعفو الله عنه أكبر، فذلك قوله سبحانه:﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[الشورى: ٣٠]، ثم قال: ﴿ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً ﴾، يعنى قريباً ينفعه.
﴿ وَلاَ نَصِيراً ﴾ يعنى ولا مانعاً يمنعه من الله عز وجل. فلما افتخرت اليهود على المؤمنين بالمدينة بين الله عز وجل، أمر المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ بتوحيد الله عز وجل.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾، يعنى ولا ينقصون من أعمالهم الحسنة نقيراً حتى يجازوا بها، يعنى النقير الذى فى ظهر النواة التى تنبت منه النخلة. ثم اختار من الأديان دين الإسلام، فقال عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله ﴾، يعنى أخلص دينه لله.
﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ فى علمه.
﴿ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾، يعنى مخلصاً.
﴿ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ [آية: ١٢٥]، يعنى محباً، وأنزل الله عزوجل فيهم:﴿ هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ﴾يعنى كفار أهل الكتاب،﴿ ٱخْتَصَمُواْ ﴾يعنى ثلاثتهم: المسلمين واليهود والنصارى،﴿ فِي رَبِّهِمْ ﴾أنهم أولياء الله، ثم أخبر بمستقر الكافر، فقال:﴿ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ ﴾[الحج: ١٩]، يعنى جعلت لهم ثياب من نار، إلى آخر الآية، ثم أخبر سبحانه بمستقر المؤمنين، فقال: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ... ﴾ إلى آخر الآية. قوله: ﴿ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾، والخليل الحبيب؛ لأن الله أحبه فى كسره الأصنام، وجداله قومه، واتخذ الله إبراهيم خليلاً قبل ذبح ابنه، فلما رأته الملائكة حين أمر بذبح ابنه، أراد المضى على ذلك، قالت الملائكة: لو أن الله عز وجل اتخذ عبداً خليلاً لا تخذ هذا خليلاً محباً، ولا يعلمون أن الله عز وجل اتخذه خليلاً، وذلك أن" النبى صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، رضى الله عنهم: " إن صاحبكم خليل الرحمن "، يعنى نفسه، فقال المنافقون لليهود: ألا تنظرون إلى محمد يزعم أنه خليل الله، لقد اجترأ، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾، وإنما إبراهيم عبد من عباده مثل محمد، واتخذ إبراهيم خليلاً حين ألقى فى النار، فذهب حر النيران يومئذ من الأرض كلها.
﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق عبيده، وفى ملكه.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً ﴾ [آية: ١٢٦]، يعنى أحاط علمه.
﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ ﴾ نزلت فى سويد وعرفطة ابنى الحارث، وعيينة ابن حصن الفزارى، ذلك أنه لما فرض الله عز وجل لأم كحة وبناتها الميراث انطلق سويد وعرفطة وعيينة بن حصن الفزارى إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إن المرأة لا تركب فرساً ولا تجاهد، وليس عند الولدان الصغار منفعة فى شىء، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ ﴾، يعنى يسألونك عن النساء، يعنى سويداً وصاحبيه.
﴿ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى ما بين من القسمة فى أول هذه السورة، قال: ويفتيكم ﴿ فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ ﴾، يعنى بنات أم كحة ﴿ ٱلَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ﴾، يعنى ما فرض لهن من أنصبائهن من الميراث فى أول السورة. ثم قال عز وجل: ﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾، يعنى بنات أم كحة، وكان الرجل يكون فى حجره اليتيمة ولها مال، ويكون فيها موق، فيرغب عن تزويجها، ويمنعها من الأزواج من أجل ما لها رجاء أن تموت فيرثها، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ لدمامتهن.
﴿ وَ ﴾ يفتيكم فى ﴿ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَانِ ﴾ أن تعطوهم حقوقهم، وكانوا لا يورثونهم ﴿ وَ ﴾ يفتيكم ﴿ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىٰ ﴾ فى الميراث ﴿ بِٱلْقِسْطِ ﴾، يعنى بالعدل.
﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ مما أمرتم به من قسمة المواريث.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾ [آية: ١٢٧] فيجزيكم به.﴿ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ ﴾، واسمها خويلة بنت محمد بن مسلمة.
﴿ خَافَتْ ﴾، يعنى علمت ﴿ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً ﴾، يعنى زوجها.
﴿ أَوْ إِعْرَاضاً ﴾ عنها لما بها من العلة إلى الأخرى، نزلت فى رافع بن خديج الأنصارى وفى امرأته خويلة بنت محمد بن مسلمة الأنصارى، وذلك أن رافعاً طلقها ثم راجعها وتزوج عليها أشب منها، وكان يأتى الشابة ما لا يأتى الكبيرة، يقول: ﴿ فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ ﴾ الزوج والمرأة الكبيرة ﴿ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً ﴾ أن ترضى المرأة الكبير بما له، على أن يأتى الشابة ما لا يأتى الكبيرة، يقول: فلا بأس بذلك فى القسمة، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ من المفارقة.
﴿ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ ﴾، يعنى الحرص على المال، يعنى الكبيرة يرضيها الزوج من بعض ماله، فتحرص على المال وتدع نصيبها من زوجها.
﴿ وَإِن تُحْسِنُواْ ﴾ الفعل فلا تفارقها.
﴿ وَتَتَّقُواْ ﴾ الميل والجور.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [آية: ١٢٨] فى أمرهن من الإحسان والجور. ثم قال عز وجل: ﴿ وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ فى الحب أن يستوى حبهن فى قلوبكم.
﴿ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾، فلا تقدرون على ذلك.
﴿ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ ﴾ إلى التى تحب، وهى الشابة.
﴿ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ ﴾، أى فتأتيها وتذر الأخرى، يعنى الكبيرة كالمعلقة، لا أيم ولا ذات بعل، ولكن اعدلوا فى القسمة.
﴿ وَإِن تُصْلِحُواْ ﴾ أمرهن ﴿ وَتَتَّقُواْ ﴾ الميل والجور.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً ﴾ حين ملت إلى الشابة برضى الكبيرة.
﴿ رَّحِيماً ﴾ [آية: ١٢٩] بك حين رخص لك فى الصلح، فإن أبت الكبيرة الصلح إلا أن تسوى بينها وبين الشابة أو تطلقها كان ذلك لها. ثم إنه طلقها، فنزلت: ﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا ﴾، يعنى رافع وخويلة المرأة الكبيرة.
﴿ يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ ﴾، يعنى الزوج والكبيرة.
﴿ مِّن سَعَتِهِ ﴾، يعنى من فضله الواسع.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً ﴾ لهما فى الرزق جميعاً.
﴿ حَكِيماً ﴾ [آية: ١٣٠] حين حكم فرقتهما.
﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق عبيده وفى ملكه.
﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً ﴾ عن عباده وخلقه ﴿ حَمِيداً ﴾ [آية: ١٣١] عند خلقه فى سلطانه.﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [آية: ١٣٢]، يعنى شهيداً، فلا شاهد أفضل من الله عز وجل أن من فيهما عباده وفى ملكه.
ثم قال عز وجل: ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ بالموت ﴿ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾، يعنى بخلق غيركم أطوع منكم.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً ﴾ [آية: ١٣٣] أن يذهبكم ويأت بغيركم إذا عصيتموه.﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا ﴾ بعمله فليعمل لآخرته.
﴿ فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا ﴾، يعنى الرزق فى الدنيا وثواب ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾، يعنى الجنة.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [آية: ١٣٤] بأعمالكم.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ ﴾، يعنى قوالين ﴿ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ ﴾، يقول سبحانه: أقيموا الشهادة لله بالعدل.
﴿ وَلَوْ ﴾ كانت الشهادة ﴿ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ﴾ على ﴿ ٱلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ ﴾ أحدهما ﴿ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ﴾ بالغنى والفقير من غيره.
﴿ فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ ﴾ فى الشهادة والقرابة، واتقوا ﴿ أَن تَعْدِلُواْ ﴾ عن الحق إلى الهوى، ثم قال: ﴿ وَإِن تَلْوُواْ ﴾، يعنى التحريف بالشهادة، يلجلج بها لسانه فلا يقيمها ليبطل بها شهادته.
﴿ أَوْ تُعْرِضُواْ ﴾ عنها فلا تشهدوا بها.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ من كتمان الشهادة وإقامتها ﴿ خَبِيراً ﴾ [آية: ١٣٥]، نزلت فى رجل كانت عنده شهادة على أبيه، فأمره الله عز وجل أن يقيمها لله عز وجل، ولا يقول: إنى إن شهدت عليه أجحفت بماله، وإن كان فقيراً هلك وازداد فقره، ويقال: إنه أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، الشاهد على أبيه أبى قحافة.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، نزلت فى مؤمنى أهل الكتاب، كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا، قالوا: نؤمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم ونكفر بما سواه، فقال تعالى: ﴿ آمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾ وصدقوا بتوحيد الله عز وجل.
﴿ وَرَسُولِهِ ﴾، أى وصدقوا برسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنَزلَ مِن قَبْلُ ﴾ نزول كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر كفار أهل الكتاب، فحذرهم الآخرة، يعنى البعث، فقال الله تعالى ذكره: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ ﴾، يعنى بتوحيد الله.
﴿ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعنى البعث الذى فيه جزاء الأعمال.
﴿ فَقَدْ ضَلَّ ﴾ عن الهدى.
﴿ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ [آية: ١٣٦]، وبما أوعد الله عز وجل من الثواب والعقاب.
ثم ذكر أهل الكتاب، فقال: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بالتوراة وبموسى.
﴿ ثُمَّ كَفَرُواْ ﴾ من بعد موسى.
﴿ ثُمَّ آمَنُواْ ﴾ بعيسى صلى الله عليه وسلم وبالإنجيل.
﴿ ثُمَّ كَفَرُواْ ﴾ من بعده.
﴿ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
﴿ لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ﴾ على ذلك.
﴿ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ﴾ [آية: ١٣٧] إلى الهدى، منهم: عمرو بن زيد، وأوس بن قيس، وقيس ابن زيد. ولما نزلت المغفرة للنبى صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين فى سورة الفتح، قال عبدالله بن أبى ونفر معه: فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿ بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾، يعنى عبدالله بن أبى، ومالك بن دخشم، وجد بن قيس.
﴿ بِأَنَّ لَهُمْ ﴾ فى الآخرة ﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [آية: ١٣٨]، يعنى وجيعاً، ثم نعتهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ من اليهود ﴿ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾، وذلك أن المنافقين قالوا: لا يتم أمر محمد، فتابعوا الهيود وتولوهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ ﴾، يعنى المنعة، وذلك أن اليهود أعانوا مشركى العرب على قتال النبى صلى الله عليه وسلم ليتعززوا بذلك، فقال سبحانه: ﴿ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ ﴾، يقول: أيبتغى المنافقون عند اليهود المتعة.
﴿ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ﴾ [آية: ١٣٩]، يقول: جميع من يتعزز، فإنما هو بإذن الله.
وكان المنافقون يستهزءون بالقرآن، فأنزل الله عز وجل بالمدينة.
﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى فى سورة الأنعام بمكة.
﴿ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾، يقول: حتى يكون حديثهم، يعنى المنافقين فى غير ذكر الله عز وجل، فنهى الله عز وجل عن مجالسة كفار مكة ومنافقى المدينة عند الاتسهزاء بالقرآن، ثم خوفهم: إن جالستموهم ورضيتم باستهزائهم.
﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ فى الكفر ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾، يعنى عبدالله بن أبى، ومالك بن دخشم، وجد بن قيس من أهل المدينة.
﴿ وَٱلْكَافِرِينَ ﴾ من أهل مكة ﴿ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ [آية: ١٤٠].
ثم أخبر سبحانه عن المنافقين، فقال عز وجل: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ﴾ الدوائر.
﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ ﴾ معشر المؤمنين ﴿ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى النصر على العدو يوم بدر.
﴿ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ ﴾ على عدوكم، فاعطونا من الغنيمة، فلستم أحق بها، فذلك قوله سبحانه فى العنكبوت:﴿ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾[العنكبوت: ١٠] على عدوكم.﴿ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ﴾، يعنى دولة على المؤمنين يوم أُحُد.
﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أى المنافقون للكفار: ﴿ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى ألم نحط بكم من ورائكم.
﴿ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾، ونجادل المؤمنين عنكم فنحبسهم عنكم ونخبرهم أنا معكم، قالوا ذلك جبناً وفرقاً منهم، قال الله تعالى: ﴿ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [آية: ١٤١]، يعنى حجة أبداً، نزلت فى عبدالله بن أبى وأصحابه.
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ حين أظهروا الإيمان وأسروا التكذيب.
﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ على الصراط فى الآخرة حين يقال لهم:﴿ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً ﴾[الحديد: ١١٣]، فبقوا فى الظلمة، فهذه خدعة الله عز وجل لهم فى الآخرة، ثم أخبر عن المنافقين، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ ﴾، يعنى المنافقين متثاقلين لا يروا أنها حق عليهم، نظيرها فى براءة.﴿ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ ﴾ بالقيام بالنهار.
﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ ﴾، يعنى فى الصلاة.
﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [آية: ١٤٢]، يعنى بالقليل، الرياء ولا يصلون فى السر.
﴿ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ ﴾، يقول: إن المنافقين ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم، ولا مع المؤمنين فى الولاية.
﴿ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ ﴾ عن الهدى.
﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾ [آية: ١٤٣] إليه.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ يرغبهم، نزلت فى المنافقين، منهم: عبدالله بن أبى، ومالك بن دخشم، وذلك أن مواليهما من اليهود أصبغ ورافع عيروهما بالإسلام، وزينوا لهما ترك دينهما وتوليهما اليهود فصانعا اليهود، فقال الله: ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ من اليهود ﴿ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ [آية: ١٤٤]، يعنى حجة بينة يحتج بها عليكم حين توليتم اليهود ونصحتموهم.
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾، يعنى الهاوية.
﴿ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ﴾ [آية: ١٤٥]، يعنى مانعاً من العذاب، ولما أخبر بمستقر المنافقين، قال ناس للنبى صلى الله عليه وسلم: فقد كان فلان وفلان منافقين فتابوا منه، فكيف يفعل الله بهم؟ فأنزل الله جل ذكره: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ من المنافقين.
﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ العمل ﴿ وَٱعْتَصَمُواْ ﴾، يعنى احترزوا ﴿ بِٱللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ ﴾ الإسلام ﴿ للَّهِ ﴾ عز وجل ولم يخلطوا بشرك.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ فى الولاية.
﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [آية: ١٤٦]، يعنى جزاء وافراً.
﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ ﴾ نعمته.
﴿ وَآمَنْتُمْ ﴾، يعنى صدقتم، فإنه لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾ [آية: ١٤٧] بهم.
﴿ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ ﴾ لأحد من الناس.
﴿ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾، يعنى اعتدى عليه، فينتصر من القول مثل ما ظلم، ولا حرج عليه أن ينتصر بمثل مقالته،" نزلت فى أبى بكر، رضى الله عنه، شتمه رجل والنبى صلى الله عليه وسلم جالس، فسكت عنه مراراً، ثم رد عليه أبو بكر، رضى الله عنه، فقام النبى صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فقال أبو بكر، رضى الله عنه: يا رسول الله، شتمنى وأنا ساكت، فلم تقل له شيئاً، حتى إذا رددت عليه قمت، قال: " إن ملكاً كان يجيب عنك، فلما أن رددت عليه، ذهب الملك وجاء الشيطان، فلم أكن لأجلس عند مجىء الشيطان ".
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً ﴾ بجهر السوء.
﴿ عَلِيماً ﴾ [آية: ١٤٨] به. ثم أخبر أن العفو والتجاوز خير عند الله من الانتصار، فقال سبحانه: ﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْراً ﴾، يعنى تعلنوه.
﴿ أَوْ تُخْفُوهْ ﴾، يعنى تسروه.
﴿ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ ﴾ فعل بك.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ [آية: ١٤٩]، يقول: فإن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على العفو عن صاحبك.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾، يعنى اليهود منهم: عامر بن مخلد، ويزيد بن زيد، كفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ﴾ الرسل، يعنى موسى.
﴿ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ الرسل، يعنى عيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً ﴾ [آية: ١٥٠]، يعنى ديناً، يعنى إيماناً ببعض الرسل، وكفراً ببعض الرسل.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً ﴾ حين كفروا ببعض الرسل، لا ينفعهم إيمان ببعض.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ ﴾ فى الآخرة.
﴿ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ [آية: ١٥١]، يعنى الهوان.
ثم ذكر المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾، يعنى بين الرسل، وصدقوا بالرسل جميعاً.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾، يعنى جزاء أعمالهم.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [آية: ١٥٢].
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾، نزلت فى اليهود، وذلك أن كعب بن الأشرف، وفنحاص اليهودى، قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً بأنك رسول، فائتنا بكتاب غير هذا، مكتوب فى السماء جملة واحدة كما جاء به موسى، فذلك قوله: ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ... ﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً ﴾، يعنى معاينة.
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ ﴾، يعنى الموت.
﴿ بِظُلْمِهِمْ ﴾ لقولهم: أرنا الله جهرة معاينة.
﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾، يعنى الآيات التسع.
﴿ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ ﴾، فلم نستأصلهم جميعاً عقوبة باتخاذهم العجل.
﴿ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ [آية: ١٥٣]، يعنى حجة بينة، يعنى اليد والعصى.﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ ﴾، يعنى الجبل فوق رءوسهم، رفعه جبريل، عليه السلام، وكانوا فى أصل الجبل، فرفع الطور فوق رءوسهم.
﴿ بِمِيثَاقِهِمْ ﴾؛ لأن يقروا بما فى التوراة.
﴿ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً ﴾، يعنى باب حطة.
﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾، أى لا تعدوا فى أخذ الحيتان يوم السبت.
﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ [آية: ١٥٤]، يعنى شديداً، والميثاق إقرارهم بما عهد الله عز وجل فى التوراة.﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ ﴾، يعنى فبنقضهم إقرارهم بما فى التوراة.
﴿ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى الإنجيل والقرآن، وهم اليهود.
﴿ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾، وذلك حين سمعوا من النبى صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ ﴾ عرفوا أن الذى قال لهم النبى صلى الله عليه وسلم حق، وقالوا: ﴿ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾، يعنى فى أكنة عليها الغطاء، فلا تفقه ولا تفهم ما تقول يا محمد، كراهية ما سمعوا من النبى صلى الله عليه وسلم من كفرهم بالإنجيل والفرقان، يقول الله تعالى: ﴿ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾، يعنى ختم على قلوبهم.
﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [آية: ١٥٥]، يقول: ما أقل ما يؤمنون، فإنهم لا يؤمنون البتة.﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ﴾ [آية: ١٥٦]، وذلك أن اليهود قذفوا مريم، عليها السلام، بيوسف بن ماثان بالزنا، وكان ابن عمها، وكان قد خطبها، ومريم ابنة عمران بن ماثان.
﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾، ولم يقولوا: رسول الله، ولكن الله عز وجل قال: ﴿ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾، ثم قال تعالى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ بصاحبهم الذى قتلوه، وكان الله عز وجل قد جعله على صورة عيسى فقتلوه، وكان المقتول لطم عيسى، وقال لعيسى حين لطمه: أتكذب على الله حين تزعم أنك رسوله، فلما أخذه اليهود ليقتلوه، قال لليهود: لست بعيسى، أنا فلان، واسمه يهوذا، فكذبوه وقالوا له: أنت عيسى، وكانت اليهود جعلت المقتول رقيباً على عيسى صلى الله عليه وسلم، فألقى الله تعالى ذكره شبهه على الرقيب فقتلوه. ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، يعنى فى عيسى، وهم النصارى، فقال بعضهم: قتله اليهود، وقال بعضهم: لم يقتل.
﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ فى شك من قتله.
﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴾ [آية: ١٥٧]، يقول: وما قتلوا ظنهم يقيناً، يقول: لم يستيقنوا قتله، كقول الرجل: قتلته علماً، فأكذب الله عز وجل اليهود فى قتل عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: ﴿ بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ إلى السماء حياً فى شهر رمضان فى ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، رفع إلى السماء من جبل بيت المقدس، فذلك قوله سبحانه: ﴿ بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ [آية: ١٥٨]، يعنى عزيزاً منيعاً حين منع عيسى من القتل، حكيماً حين حكم رفعه، قال: وترك عيسى صلى الله عليه وسلم بعد رفعه خفين، ومدرعة، وحذافة يحذف بها الطير، وقالت عائشة، رضى الله عنها: وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته إزاراً غليظاً، وكساء، ووسادة أدم حشوها ليف.﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ ﴾، يعنى وما من أهل الكتاب، يعنى اليهود، إلا ليؤمنن ﴿ بِهِ ﴾، يعنى بعيسى صلى الله عليه وسلم.
﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ أنه نبى رسول قبل موت اليهودى، يعنى عند موته؛ لأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، وتقول: يا عدو الله، إن المسيح الذى كذبتم به، هو عبدالله ورسوله حقاً، فيؤمن به ولا ينفعه، ويؤمن به من كان منهم حياً إذا نزل عيسى صلى الله عليه وسلم، فينزل عيسى صلى الله عليه وسلم على ثنية يقال لها: أفيق، دهين الرأس، عليه ممصرتان، ومعه حربة يقتل بها الدجال، فقيل لابن عباس، رحمه الله: فمن غرق من اليهود، أو أحرق بالنار، أو أكله السبع، قال: لا تخرج روحه حتى يؤمن بعيسى صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾ [آية: ١٥٩] أنه قد بلغهم الرسالة.
قوله سبحانه: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾، يعنى فى الأنعام، يعنى اللحوم والشحوم وكل ذى ظفر لهم حلال، فحرمها الله عز وجل عليهم بعد موسى.
﴿ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً ﴾ [آية: ١٦٠]، فيها إضمار، يقول: ﴿ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً ﴾، يعنى دين الإسلام، وعن محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ ﴾، وهو محرم بغير حق.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ ﴾، يعنى اليهود ﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [آية: ١٦١]، يعنى وجيعاً، فهذا الظلم الذى ذكره فى هذه الآية. ثم ذكر مؤمنى أهل التوراة، فقال سبحانه: ﴿ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ ﴾، وذلك أن عبدالله بن سلام وأصحابه، قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إن اليهود لتعلم أن الذى جئت به حق، وأنك لمكتوب عندهم فى التوراة، فقالت اليهود: ليس كما تقولون، وإنهم لا يعلمون شيئاً، وإنهم ليغرونك ويحدثونك بالباطل، فقال الله عز وجل: ﴿ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ ﴾، يعنى المتدارسين علم التوراة، يعنى ابن سلام وأصحابه.
﴿ مِنْهُمْ ﴾، يعنى من اليهود.
﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾، يعنى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من غير أهل الكتاب.
﴿ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ ﴾ من القرآن.
﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ من الكتب على الأنبياء: التوراة والإنجيل. ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ ﴾، يعنى المعطون الزكاة.
﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ أنه واحد لا شريك له، والبعث الذى فيه جزاء الأعمال.
﴿ أُوْلَـۤئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً ﴾، يعنى جزاء ﴿ عَظِيماً ﴾ [آية: ١٦٢].
﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾، وذلك أن عدى بن زيد وصاحبيه اليهود، قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: والله ما أوحى الله إليك ولا إلى أحد من بعد موسى، فكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ ﴿ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ﴾، يعنى من بعد نوح: هود وصالح.
﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ ﴾، يعنى بنى يعقوب: يوسف وإخوته، وأوحينا إليهم فى صحف إبراهيم، ثم قال: ﴿ وَ ﴾ أوحينا إلى ﴿ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ [آية: ١٦٣]، ليس فيه حد، ولا حكم، ولا فريضة، ولا حلال، ولا حرام، خمسين ومائة سورة، فأخبره الله بهن ليعلموا أنه نبى. فقالت اليهود: ذكر محمد النبيين ولم يبين لنا أمر موسى أكلمه الله أم لم يكلمه؟ فأنزل الله عز وجل فى قول اليهود: ﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ﴾، هؤلاء بمكة فى الأنعام وفى غيرها؛ لأن هذه مدنية.
﴿ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً ﴾ [آية: ١٦٤]، يعنى مشافهة، وهو ابن أربعين سنة ليلة النار، ومرة أخرى حين أعطى التوراة.
﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ ﴾ بالجنة.
﴿ وَمُنذِرِينَ ﴾ من النار ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ ﴾، فيقولوا يوم القيامة: لم يأتنا لك رسول.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ [آية: ١٦٥]، حكم إرسال الأنبياء إلى الناس. فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم:" إنكم لتعلمون حق ما أقول، وإنه لفى التوراة، فإن تتوبوا وترجعوا يغفر لكم ذنوبكم "، قالوا: لو كان ما تقول فى التوراة لاتبعناك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " والله إنكم لتشهدون بما أقول "، قالوا: ما عندنا بذلك شهادة، قال الله عز وجل: فإن لم يشهد لك أحد منهم، فإن الله وملائكته يشهدون بذلك "، فذلك قوله عز وجل: ﴿ لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ ﴾ من القرآن.
﴿ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾ بذلك.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾ [آية: ١٦٦]، يقول: فلا شاهد أفضل من الله بأنه أنزل عليك القرآن.
ثم قال يعنيهم: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى اليهود كفروا بمحمد والقرآن.
﴿ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى عن دين الإسلام.
﴿ قَدْ ضَلُّواْ ﴾ عن الهدى.
﴿ ضَلاَلاَ بَعِيداً ﴾ [آية: ١٦٧]، يعنى طويلاً، ثم قال: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى اليهود كفروا بمحمد والقرآن.
﴿ وَظَلَمُواْ ﴾، يعنى وأشركوا بالله.
﴿ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ﴾ [آية: ١٦٨] إلى الهدى، ثم استثنى: ﴿ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ ﴾، يعنى طريق الكفر، فهو يقود إلى جهنم خالدين فيها ﴿ أَبَداً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾ [آية: ١٦٩]، يعنى عذابهم على الله هيناً.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ ﴾، يعنى محمداً ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾، يعنى بالقرآن.
﴿ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ ﴾، يعنى صدقوا بالقرآن، فهو خير لكم من الكفر.
﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [آية: ١٧٠].
﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى النصارى.
﴿ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾، يعنى الإسلام، فالغلو فى الدين أن تقولوا على الله غير الحق فى أمر عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ ﴾، وليس لله تبارك وتعالى ولداً.
﴿ وَكَلِمَتُهُ ﴾، يعنى بالكلمة، قال: كن فكان.
﴿ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾، يعنى بالروح أنه كان من غير بشر، نزلت فى نصارى نجران فى السيد والعاقب ومن معهما. ثم قال سبحانه: ﴿ فَآمِنُواْ ﴾، يعنى صدقوا ﴿ بِٱللَّهِ ﴾ عز وجل بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَرُسُلِهِ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه نبى ورسول.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ﴾، يعنى لا تقولوا: إن الله عز وجل ثالث ثلاثة.
﴿ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ﴾، يعنى عيسى صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَّهُ وما فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق عبيده، وفى ملكه عيسى وغيره.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [آية: ١٧١]، يعنى شهيداً بذلك.
ثم قال عز وجل: ﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ ﴾، يعنى لن يأنف.
﴿ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ﴾ يستنكف ﴿ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾ أن يكونوا عبيداً لله؛ ليعتبروا بكون الملائكة أقرب إلى الله عز وجل منزلة من عيسى ابن مريم وغيره، فإن عيسى عبد من عباده، ثم أوعد النصارى، فقال: ﴿ وَمَن يَسْتَنْكِفْ ﴾، يعنى ومن يأنف.
﴿ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ ﴾، يعنى من يأنف عن عبادة الله، يعنى التوحيد ويستكبر، يعنى ويتكبر عن العبادة.
﴿ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ﴾ [آية: ١٧٢]، فلم يستنكف ويستكبر غير إبليس.
وأخبر المؤمنين بمنزلتهم فى الآخرة ومنزلة المستنكفين فقال: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾، يعنى فيوفى لهم جزاءهم.
﴿ وَيَزيدُهُمْ ﴾ على أعمالهم ﴿ مِّن فَضْلِهِ ﴾ الجنة.
﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ ﴾، يعنى أنفوا ﴿ وَٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ عن عبادة الله بالتوحيد.
﴿ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً ﴾، يعنى وجيعاً.
﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً ﴾، يعنى قريباً ينفعهم.
﴿ وَلاَ نَصِيراً ﴾ [آية: ١٧٣]، يعنى مانعاً يمنعهم من الله عز وجل.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، يعنى بيان، وهو القرآن.
﴿ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾ [آية: ١٧٤]، يعنى ضياء بيناً من العمى، وهو القرآن.
﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ ﴾، يعنى صدقوا بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ ﴾، يعنى احترزوا به، يعنى بالله عز وجل.
﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ ﴾، يعنى الجنة.
﴿ وَفَضْلٍ ﴾، يعنى الرزق فى الجنة.
﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ [آية: ١٧٥].
﴿ يَسْتَفْتُونَكَ ﴾، نزلت فى جابر بن عبدالله الأنصارى من بنى سلمة بن جشم بن سعد بن على بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج وفى أخواته.
﴿ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ ﴾، يعنى به الميت الذى يموت وليس له ولد ولا والد، فهو الكلالة، وذلك أن جابر بن عبدالله الأنصارى، رحمه الله، مرض بالمدينة، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنى كلالة لا أب لى ولا ولد، فكيف أصنع فى مالى، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ ﴾، يعنى مات.
﴿ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ﴾ الميت من الميراث.
﴿ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ ﴾ إذا ماتت قبله.
﴿ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ ﴾، يعنى أختين.
﴿ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾، يقول: لئلا تخطئوا قسمة المواريث.
﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من قسمة المواريث.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٦]، نظيرها فى الأنفال.
Icon