تفسير سورة سورة المعارج من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ ؛ نزَلت في النَّضِرِ بن الحارثِ حين قالَ﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[الأنفال : ٣٢] والمعنى دعَا دعاءً على نفسهِ بعذابٍ، وذلك العذابُ واقعٌ لا محالةَ لا بدُّ منهُ، ذلكَ العذاب عندَ وُقوعهِ، ﴿ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴾ ؛ يدفعهُ عنهم، فقُتِلَ النَّضِرُ يومَ بدرٍ صبراً وهو من الكافرِين، ولم يُقتَلْ يومئذٍ من الأُسارى غيرهُ وغيرُ عُقبَةَ بن أبي مُعيطٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴾ ؛ أي وُقوعُ ذلك العذاب من اللهِ ذي الفواضِلِ والنِّعَمِ، وسُمِّيت معارجُ ؛ لأنَّها على مراتبَ. وَقِيْلَ : معناهُ : ذِي معالِي الدَّرجاتِ التي يُعطيها أولياءَهُ في الجنَّة. وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : ذِي السَّمَوَاتِ) سَمَّاها معارجَ ؛ لأنَّ الملائكةَ تعرجُ فيها. وقال ابن زيدٍ :(مَعْنَى الآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأ (سَالَ) بغَيْرِ هَمْزَةٍ ؛ أيْ سَالَ وَادٍ مِنْ أوْدِيَةِ جَهَنَّمَ بعَذابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ ﴾ ؛ أي تصعدُ الملائكة والرُّوحُ يعني جبريلَ عليه السلام ﴿ إِلَيْهِ ﴾ ؛ أي إلى الموضعِ الذي لا يجرِي لأحدٍ سواهُ فيه حكمٌ. وقولهُ تعالى :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ ؛ قال عكرمةُ وقتادة :(يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وعن أبي سعيدٍ قالَ :" قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أطْوَلَ هَذا الْيَوْمَ - يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ -! فَقَالَ ﷺ :" وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا " ".
وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : تعرجُ الملائكةُ والروح إليه في يومٍ يكون مقدارهُ خَمسين ألفَ سَنة لعُروجِ غيرِهم، وذلك أنَّ مِن أسفلِ الأرضين السَّبع إلى فوقِ السموات السَّبع خمسين ألفَ سنةٍ، هكذا رُوي عن مجاهدٍ. وأما قولهُ﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾[السجدة : ٥] هو ما بين سَماء الدُّنيا إلى الأرضِ في الصُّعود خمسمائةِ سَنة، وفي النُّزول خمسمائةِ سَنة كذلكَ، فذلكَ قولهُ ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ لغيرِ الملائكةِ.
وقال يَمانُ :(يَعْنِي : الْقِيَامَةَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ مَوْطِناً، كُلُّ مَوْطِنٍ ألْفُ سَنَةٍ). وفيه تقديمٌ وتأخير ؛ كأنَّه قالَ : ليس له دافعٌ في يومٍ كان مقدارهُ خمسين ألفَ سنةٍ، تعرجُ الملائكة والروحُ إليه. وَقِيْلَ : معنى الآية : لو جعلَ اللهُ محاسبةَ الخلائقِ إلى أحدٍ غيرهِ لم يفرَغْ منهُ في خمسين ألف سَنة، وهو يفرغُ منه في ساعةٍ واحدة ؛ لأنه سريعُ الحساب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ﴾ ؛ أي اصبرْ يا مُحَمَّدُ على تبليغِ الوحي والرسالةِ وعلى ما يلحقُكَ من الأذيَّة من الكفار، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جَزَعَ فيهِ ولا شكوَى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ﴾ ؛ أي يرَونَ العذابَ بعيداً غيرَ كائنٍ، كما يخبرُ الرجلُ عن شيءٍ فيقولُ : هذا بعيدٌ ؛ أي هذا مما لا يكونُ، وَنحنُ، ﴿ وَنَرَاهُ قَرِيباً ﴾ ؛ أي صَحيحاً كائناً ؛ لأنَّ كلَّ ما هو كائنٌ قريبٌ.
ثم أخبرَ متى يقعُ العذابُ فقالَ تعالى :﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ ﴾ أي كالصُّفرِ الْمُذاب، وَقِيْلَ : كَدُرْدِيِّ الزيتِ، وقال الحسنُ :(مِثْلِ الْفِضَّةِ إذا أُذِيبَتْ)، ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾ ؛ أي كالصُّوفِ الأحمرِ، وهو أضعفُ الصُّوفِ، ﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾ ؛ أي لا يسألُ قريباً عن قرائبهِ لاشتغالِ كلٍّ بنفسهِ من شدَّة الأهوالِ.
وقرأ البزيُّ عن ابنِ كثير (وَلاَ يُسْأَلُ حَمِيمٌ) بضمِّ الياء أي لا يقالُ لحميمٍ : أينَ حَمِيمُكَ ؟ قال الفرَّاءُ :(وَلَسْتُ أشْتَهِي ذلِكَ ؛ ضَمَّ اليَّاءِ ؛ لأنَّهُ مُخَالِفُ لِجَمَاعَةِ الْقُرَّاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ ؛ أي يعرفُ الأقاربُ أقاربَهم ساعةً من النهار في ذلك اليومِ، ثم لا تعارُفَ بعد تلكَ الساعةِ، فيُبَصَّرُ الرجلُ حَمِيمَهُ بعدَ ذلك فلا يُكلِّمهُ. والمعنى : يعرِفُ الحميمُ حميمَهُ حتى يعرفَهُ، ومع ذلك لا يسألهُ عن شأنهِ لشُغلهِ بنفسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴾ ؛ أي يتمنَّى الكافرُ أن يَفدِي نفسَهُ من عذاب الله بأولادِه وزوجتهِ وأخيه. وقولهُ تعالى :﴿ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴾ ؛ أي وعشيرتهِ الأقرَبين التي تضُمه ويأوي إليها، وتنصرهُ في المكارهِ والشدائد، ويوَدُّ أيضاً أن يفتَدِي، ﴿ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ ﴾ ذلك الفداءُ من العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ ﴾ ؛ لا يُنجيه ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهَا ﴾ ؛ وهي من أسماءِ النَّار، سُميت بهذا الاسمِ في قولهِ :﴿ لَظَى ﴾ ؛ أي توقَدُ، واللَّظَى هو اللَّهَبُ الخالصُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى ﴾ ؛ ؛ صفةُ النار ؛ أي كثرةُ النَّزعِ للأعضاءِ والأطرافِ.
والشَّوَى : جمعُ الشَّوَاةِ ؛ وهو الطَّرْفُ، وسُمِّيت جِلدَةُ الرأسِ أيضاً بهذا الاسمِ. وفي الحديثِ :" إنَّ النَّارَ تَنْزِعُ قَحْفَ رَأسِهِ فَتَأْكُلُ الدِّمَاغَ كُلَّهُ، ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ، فَتَعُودُ لأَكْلِهِ، فَذلِكَ دَأبُهَا أبَداً " وَقِيْلَ : ارتفعَ قوله (نَزَّاعَةٌ) على إضمار : هي نزاعةٌ للشَّوى ؛ تنْزِعُ اليدَين والرِّجلَين وسائرِ الأطراف، فلا تتركُ لَحماً ولا جِلداً إلاَّ أحرقتْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴾ أي تدعُو النارُ من أعرضَ عن الإيمانِ وتولَّى عن التوحيدِ وأدبرَ عن الحقِّ، فتقولُ : إلَيَّ يا مشركُ ؛ إلَيَّ يا منافقُ ؛ إلَيَّ.. إلَيَّ، فإنَّ مستقرَّكَ فِيَّ، وَتدعُوا أيضاً من ﴿ وَجَمَعَ ﴾، المالَ في الدنيا، ﴿ فَأَوْعَى ﴾ ؛ أي فجعله في الأوعيةِ، لم يصِلْ بهِ رَحِماً ولا أدَّى فريضةً ولا أنفقَهُ في طاعةِ الله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾ ؛ أي ضَجُوراً شَحِيحاً شديدَ الحرصِ مع قلَّة الصبرِ، وتفسيرُ الْهُلُوعِ مع ما ذكرَهُ اللهُ تعالى :﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾ ؛ يعنِي إذا أصَابَهُ الفقرُ والشدَّةُ جَزِعَ فلم يصبرْ ولم يحتسِبْ، وإذا أصابَهُ ما يُسَرُّ به من المالِ والسِّعة منعَ خلقَ اللهِ منه ولم يشكُرْ.
وعن ابنِ عبَّاس أنَّهُ قال :(الْهَلُوعُ الَّذِي يَرْضَى عِنْدَ الْمَوْجُودِ، وَيَسْخَطُ عِنْدَ الْمَفْقُودِ). وَقِيْلَ : هو الذي يكون نَسَّاءً عندَ النِّعَمِ، دعَّاءً عندَ الْمِحَنِ، وهذا كلُّه إخبارٌ عما خُلِقَ الإنسانُ عليه من جهةِ الطَّبعِ، ثم نَهاهُ عن الجزعِ والمنعِ، يستحقُّ بذلك جزيلَ الثواب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴾ ؛ يعني : فإنَّهم يَغلِبُونَ فرطَ الهلعِ لِثقَتِهِمْ بربهم، وثقتِهم بمقدوراتهِ، والمعنى : إلاَّ المصَلِّين الصلواتِ الخمسِ، ويدُومُونَ عليها ولا يدَعُونَها ليلاً ولا نَهاراً. وعن عِمران بن الْحُصَينِ : أنَّ معناهُ :(هُمُ الَّذِينَ لاَ يَلْتَفِتُونَ فِي صَلاَتِهِمْ يَمِيناً وَلاَ شِمَالاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴾ ؛ يعني الزكاةَ المفروضةَ ؛ لأن ما لا يكون مَفرُوضاً لا يكون مَعْلُوماً، وقولهُ تعالى :﴿ لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ ؛ السائلُ : الطَّوَّافُ الذي يسالُ الناسَ، والْمَحْرُومُ : الذي يُحرَمُ وجوهَ الاكتساب، لا يَسأَلُ ولا يُعطَى. وعن ابنِ عبَّاس قال :(هُوَ الَّذِي لاَ تَسْتَقِيمُ لَهُ تِجَارَةٌ). وَقِيْلَ : هو الذي يُسهَمُ له في الغنيمةِ.
" وسُئل رسولُ اللهِ ﷺ عن المحرومِ فقالَ :" هُوَ الَّذِي تُحُمِّلَ نَخْلُ النَّاسِ، ولا يُحْمَلُ نَخْلُهُ، وَيَزْكُو زَرْعُ النَّاسِ، وَلاَ يَزْكُو زَرْعَهُ، وَتَلْبَنُ شَاءُ النَّاسِ وَلاَ تَلْبَنُ شَاهُهُ " ووجهُ استثناءِ المصلِّين والمنفقِين : أنَّ المصلِّن لا يفعَلُون ما يفعلهُ الْهَلُوعُ ؛ لأنَّهم يؤدُّون حقَّ اللهِ ؛ فإنَّ مُداومتَهم على طاعةِ الله تَمنَعُهم عن أفعالِ الكفَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴾ ؛ أي خَائِفُون حَذِرون، ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ أي لا يُؤمَنُ وقوعهُ بمَن يستحقُّه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ ؛ أي لا يُرسِلُونَها إلاَّ على أزواجِهم الأربعِ أو جَوَاريهِمْ، ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾، أي فإنَّهم لا يُلاَمُونَ على تركِ حفظِ فُروجِهم عن هؤلاءِ، ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ ﴾ ؛ أي فمَنِ اعتدَى وضَلَّ في استباحةِ الوطئِ طريقاً غيرَ هذين الطَّريقين، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ ؛ يتعدَّون الحلالَ إلى الحرامَ.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ ؛ معناهُ : والذين هُم لأَمانَاتِهم التي ائتُمِنوا عليها في أمرِ الدين، والذين للعَهْدِ الذي بُعِثَ به الأنبياءُ إلى الخلقِ رَاعُونَ، وكلُّ محافظٍ على شيء فهو راعٍ له، والإمامُ رَاعٍ لرعيَّتهِ. ويَدْخُلُ في هذه الآيةِ أماناتُ الناسِ فيما بينهم وعهودُهم وعقودهم بينهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾ ؛ أي الذين يقُومون بأدَائِها على وَجهها، ولا يكتُمونَها وإنْ كانت على أنفسهم، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ ؛ أي يُراعون مواقيتَها وشروطَها وحدودَها.
والفائدةُ في إعادةِ ذكرِ الصَّلاة ؛ لتعظيمِ أمرِها وتفخيم شأنِها. وقوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴾ ؛ معناهُ : الذين استَجمَعُوا هذه الخصَالَ في جنَّاتٍ في الآخرةِ مُكرَمِين بالتُّحَفِ والهدايَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴾ ؛ هذه الآيةُ في المستَهزِئين ؛ وهم خمسةٌ سَمَّيناهم من قبلُ، كانوا قد جلَسُوا حول النبيِّ ﷺ يستَهزِئُونَ بالقرآنِ ويكذِّبون به، فقَالَ اللهُ تَعَالَى : ما لَهم ينظُرون إليك، ويجلِسُون عندكَ وهم لا ينتَفعون بما يسمَعون، والْمُهْطِعُ : الْمُقْبلُ على الشَّيء ببصرهِ لا يُزيله، وكانوا ينظرون إلى النبيِّ ﷺ نظرةَ العداوَةِ غَيظاً وحِنْقاً. وَقِيْلَ : معنى مُهْطِعِينَ : مُدِيْمِينَ النظرَ متطلِّعين نحوكَ، وهو نُصِبَ على الحالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ﴾ ؛ أي عن يَمين النبيِّ ﷺ وشِمالِهِ حِلَقاً حِلَقاً، وجماعةً جماعةً، وعصبةً عصبةً، والعِزِينُ : جماعةٌ في تَفْرِقَةٍ، واحدتُها عِزَةٌ، ونظيرُها ثُبَةٌ وَثِبينَ.
وكان هؤلاءِ الكفَّار يقولون : إنْ كان أصحابُ مُحَمَّدٍ يدخُلون الجنةَ، فإنَّا ندخُلها قبلَهم، فقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ ﴾ ؛ لا يكون ذلك، ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي مِن المقاذيرِ والأنجاسِ والنُّطَفِ والعَلَقِ، فأيُّ شيءٍ لَهم يدخُلون به الجنَّة، ومِن حُكمِنا في بني آدمَ أن لاَ يدخُلَ أحدٌ منهم الجنَّة إلاّ بالإيمانِ والعمل الصالحِ، فماذا يُطمِعُهم في ذلك وهم كفَّار ؟ وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ الناسَ كلَّهم من أصلٍ واحد، وإنما يتفَاضَلُون بالإيمانِ والطاعة.
قرأ الحسنُ وطلحة (يَدْخُلَ) بفتح الياء وضمِّ الخاء، ومعنى : إنَّا خلَقناهم مما يعلَمُون، يعني لا يستوجبُ أحدُ الجنَّةَ بكونه شَريفاً، فإنَّ مادةَ الخلقِ واحدةٌ، بل يَستَوجِبُونَها بالطاعةِ. قال قتادةُ في هذه الآيةِ :(إنَّمَا خُلِقْتَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ قَذرٍ فَاتَقِ اللهَ). قال بعضُهم : أنَّى لابنِ آدمَ الكِبَرُ ؛ وقد خرجَ من مخرجِ البول مرَّتين، ثم مِن بطنِ أُمِّه متَلَوِّثاً بالدَّمِ متلطِّخاً ببولهِ وخَرائهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾ ؛ معناهُ : فَأُقْسِمُ برب مشارقِ الشَّمسِ ومغاربها في الشِّتاء والصيفِ، يعني مَشْرِقَ كل يومٍ في السَّنة ومَغرِبَهُ، ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ ؛ أي على أن نُهلِكَهم، ونأتِي بخلقٍ أطْوَعَ للهِ منهم، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ ؛ أي بمغلُوبين بالفَوْتِ ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ ﴾ ؛ أي اترُكْهُمْ يا مُحَمَّدُ يَخوضُوا في بَاطِلهم ويلعَبُوا في كُفرهم، ﴿ حَتَّى يُلَاقُواْ ﴾ ؛ يُعاينُوا، ﴿ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ ؛ فيه وهو يومُ القيامةِ، فأنتقِمُ منهم بأعمالِهم، وهذا لفظهُ لفظُ الأمرِ، ومعناهُ : الوعدُ. وَقِيْلَ : إنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بآيةِ القتالِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً ﴾ ؛ بيانُ اليومِ الذي يُوعَدون، وهو يومُ خروجِهم من القبور سِرَاعاً نحوَ الدَّاعي، وذلك حين يسمَعُون الصيحةَ الآخِرةَ، ﴿ كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ ؛ أي إلى عَلَمٍ منصوبٍ لَهم يُسرِعون ويستبقون إلى موضعِ الحساب.
والأَجْدَاثُ : جمعُ الْجَدَثِ وهو القبرُ، وكذلك الْحَرْفُ، والسِّرَاعُ : جمعُ سَرِيعٍ، والسَّرَائِعُ بمعنى الْمُسْرِعِ، كالأليم بمعنى الْمُؤلِم، والإيفاضُ : الإسراعُ، يقال : وَفَضَ يُوفِضُ ؛ وَأوْفَضَ يُوفِضُ ؛ إذا أسرعَ في عَدْوهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ ؛ أي يخرُجون من القُبور ذليلةً أبصَارُهم تَعْلُوهم مذلَّة وسوادُ الوجوهِ، ﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾ ؛ فيه العذابَ على ألْسِنَةِ الرُّسلِ، فلم يُصدِّقُوهم.
وقرأ زيدُ بن ثابت وأبو الرجاءِ وأبو العاليةِ والحسن وابن عامرٍ (إلَى نُصُبٍ) بضمَّتين ومعناهُ : الأصنامُ التي كانوا ينصِبونَها ويعبُدونَها ويَذبَحُونَ تَقرُّباً إليها.