ﰡ
مكية، وهي أربع وأربعون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) السائل هو النضر بن الحارث الذي قال: " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ". وقيل: رسول اللَّه - ﷺ - قال: " اللَّهم عليك بقريش " ويؤيد الأول قوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا) وقرأ نافع وابن عامر: " سال " بالألف، إما مبدلة من الهمزة تخفيفاً، أو أجوف واوي، كخاف يخاف. قال أبو زيد(لِلْكَافِرِينَ... (٢) صفة (عذَابٍ وَاقِعٍ) أي: كائن، أو يتعلق بالفعل أي: سال للكافرين، أو بـ " واقع " أي: نازل لأجلهم. وعن قتادة: سأل سائل على من ينزل عذاب اللَّه؟. فعلى هذا قوله: " للكافرين " جواب لذاك السائل. والباء؛ لتضمن سأل معنى اهتمّ. (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) (مِنَ اللَّهِ... (٣) جملة مؤكدة على قول قتادة، صفة أخرى لعذاب على الأول. وعلى الوجهين: (مِنَ اللَّهِ) إمّا متعلق بـ " واقع " أي: من جهته، أو بـ " دافع " أي: لأمته ولا من غيره. (ذِي الْمَعَارِجِ) ذي المصاعد. جمع معراج، أو مَعْرِج يصعد فيها الأعمال الصالحة، أو المؤمنون في سلوكهم، أو دار ثوابهم.
(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) بيان وتفصيل لتلك المعارج؛ إظهار لعز شأنه وملكوته. والروح: جبرائيل، وإفراده؛ لمزيته، وقيل: خلق آخر موكَّلون بالملائكة كالملائكة بنا. واليوم: يوم القيامة، وصف بغاية الطول إما كناية عن شدته، أو حقيقة على ما قيل: إن فيه خمسين موطناً يقف الخلق في كل موطن ألف سنة. ويؤيد الأول ما رواه الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد، أنه قيل لرسول اللَّه - ﷺ -: " ما أطول هذا اليوم؟ قال: " والذي نفسي ييده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥) لا قلق معه ولا شكوى بعد علمك بوقوع العقاب على أعدائك. (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) عن إمكان الوقوع.
(وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧) منه؛ لكمال قدرتنا. والضمير للعذاب، أو لليوم. فإن قلت: السائل سواء كان رسول اللَّه - ﷺ - أو غيره، لم يسأل إلا عذاب الدنيا كما نزل بسائر الأمم، والسياق يدل على وقوع العذاب يوم القيامة، فكيف طابق السؤال؟
قلت: هو من قبيل قوله: (حسبهُمْ جَهَنَّمُ) كأنه قيل: العذاب المستعجل به ليس بعذاب حقيقة، بل العذاب هو المعد لهم، وهم ينكرونه ويدعون إحالته، ثم هوّل شأنه بما فصله.
(يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨) منصوب بـ " قريباً "، أو بيقع مقدراً؛ لدلالة " واقع " عليه، وبدل عن محل في " يوم " إن علّق بـ " واقع "، أو (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) تكون كيت وكيت. والمهل: دُرْديّ الزيت، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: الفضة المذابة
(وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) كيف حالك؟. لكلٍّ شأن يغنيه ويشغله عن غيره.
(يُبَصَّرُونَهُمْ... (١١) استئناف جواب: لم لا يسأل كأنه لا يراه أو حال. وجمع الضمير؛ لأن المعنى على العموم، والأصل: يبصرون بهم. يقال: بصرته بالشيء إذا أوضحته له، وكأنه ضمن معنى التعريف، أو حذفت الصلة، وأوصل الفعل. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ) حال من أحد الضميرين، أو استئناف يدل على أنَّ الأمر أهم من الاشتغال بالسؤال عن حال أحدٍ. (بِبَنِيهِ) الذين هم أعزّ من الروح.
(وَصَاحِبَتِهِ... (١٢) التي يختار ذهاب مهجته دونها غيرة. (وَأَخِيهِ) الذي هو شقيقه.
(وَفَصِيلَتِهِ... (١٣) وعشيرته الذين فصل منهم (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تضمّه في النسب وعند الشدائد.
(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا... (١٤) كائناً من كان (ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف على (يفتدي) استبعاد لما يتمناه. هيهات.
(كَلَّا... (١٥) ردع له عن ارتكاب ما لا نفع فيه (إِنَّهَا لَظَى) الضمير للنار دلّ عليه ذكر العذاب. أو مبهم فسّره الخبر وهو. " لظى " أو ضمير القصة. و " لظى ": علم النار. منقول من اللظى وهي: اللَّهب، ويجوز أن يراد بها نفس اللَّهب مبالغة كأنَّ كلها لهب خالص.
(نَزَّاعَةً لِلشَوَى (١٦) خبر بعد خبر لـ (إن)، أو خبر (لَظَى) إن كان الضمير للقصة، ويجوز أن يكون صفة إن أريد باللظى اللَّهب؛ لأنَّ علم الجنس كالمعرّف
والشوى جمع شواة: جلدة الرأس، أو أطراف الإنسان وكل ما ليس بمقتل، يقال للرامي إذا لم يصب المقتل: أشوى.
(تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) مجاز عن جذبها وإحضارها، من أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أو تدعوهم بلسان المقال: يا كافر، يا منافق، وهنا أبلغ. (وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨) لبخله وحرصه وحفظه في الوعاء، ولم يؤد حقّ اللَّه منه.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) الهلع: شده الجزع عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسِّ الخير. وقد فسّره بقوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) فإنَّ " جزوعاً " و " منوعاً "، وصف كاشف لـ " هلوعاً ".
(إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) استثناء منقطع. لما وصف من أدبر وتولى بالهلع قال: لكن المصلين في مقابلة أولئك. أو متصل أي: إنَّ الإنسان خلق هلوعاً واستمر ذلك عليه ولم يفارقه إلا المصلين الموصوفين بالصفات الآتية، فإنهم خلعوا ربقة الهلع عن أعناقهم. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنهما عن رسول اللَّه - ﷺ -: " شرّ ما في الرجل شحّ هالع وجن خالع ".
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) مقدار معلوم هو الزكاة، لأنَّ وجوبه كان بمكة. وتقدير نصبه مفصلاً بالمدينة.
(لِلسَّائِلِ... (٢٥) الذي يسأل، (وَالْمَحْرُومِ) الذي لا يسأل يعتنون بحاله ويفتشون عليه.
(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) أخَّرَه؛ اهتماماً بالصلاة والزكاة. وقيل: يصدقونه بالأعمال، بالأبدان والأموال؛ ولذلك ذكّره بيوم الدين (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) خائفون.
(إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) اعتراض دلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن وإن كان على قدم راسخٍ في الطاعة.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) دلّ على أنَّ المباح لا يمدح عليه. (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١) المتجاوزون.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٣٢) حافظون. وقرأ ابن كثير: " أمانتهم " على التوحيد؛ لإرادة الجنس.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (٣٣) إحياء للحقوق وهي من الأمانة، أفردها؛ دلالة على زيادة فضلها. وقرأ حفص: بالجمع مناسبة للمضاف إليه، أو لاختلاف أنواعها.
(أُولَئِكَ... (٣٥) الموصوفون بتلك الصفات. (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) بأنواع الإكرام.
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ... (٣٦) حولك (مُهْطِعِينَ) مسرعين مادي أعناقهم.
(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ عِزِينَ (٣٧) فِرقاً شتى. جمع عزة أصلها عزوة، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها، ثم حذفت الياء وعوض عنها التاء. كانوا خمسة أرهط. كل واحدة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى.
(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كانوا يقولون استهزاء: نحن أولى بالجنة من محمد وأتباعه.
(كَلَّا... (٣٩) ردع لهم عن هذا الاعتقاد. (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) استدل على إمكان البعث بخلقهم أولاً، والقدرة على خلق مثلهم ثانياً، وأشار إلى أنّ استحقاق دخول الجنة إنما هو بالأعمال الزاكية وإلا فأصل نشأتهم من ماء مهين بين المياه يستحيى من ذكره صريحاً؛ لذلك أبهم بقوله (مَا يَعْلَمُونَ).
(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ... (٤١) بأن نذهبهم ونأتي بقوم آخرين، أو نوفق لمحمد طائفةً خيراً من أهل مكة وهم الأوس
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا... (٤٢) في أباطيلهم، (وَيَلْعَبُوا) كالصبيان (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) إضافة اليوم إليهم؛ لمزيد الاختصاص.
(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) أي: مسرعين سراعاً يشبه الإسراع الذي كانوا يسرعونه إلى الحجر الذي كان علماً لذبح النسائك. وعن الحسن: كانوا يبتدرون عند طلوع الشمس إلى أصنامهم لا يلوي أحدهم على الآخر. وقرأ ابن عامر وحفص: نُصُب بضم النون والصاد، جمع نصب كسقف جمع سقف، أو مفرد أنصاب. والباقون بفتح النون، وإسكان الصاد، و (سِرَاعًا) وَ (كَأنَّهمْ) حالان من فاعل (يَخْرجُونَ) وكذا.
(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ... (٤٤) ويجوز أن يكون أحوالاً متداخلة. (ذَلِكَ الْيَوْمُ) الموصوف (الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا على ألسنة الرسل.
* * *
تمت سورة المعارج، والحمد لمن لكل همٍّ فارج، والصلاة على المختار عدد رمل عالج.
* * *