تفسير سورة يوسف

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ يُوسُفَ - عَلَيهِ السَّلَامُ -
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ... (١)﴾
الزمخشري: تلك الآيات التي أنزلت عليه في هذه السورة.
الطيبي: سورة يوسف عليه السلام
إشارة إلى أن (تِلْكَ) مبتدأ والمشار إليه ما [في*] ذهن المخاطب.
قال ابن الحاجب: المشار إليه لَا يشترط أن يكون موجودا حاضرا؛ بل يكفي أن يكون موجود هنا.
(لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣)
الزمخشري: من الجاهلين به.
الطيبي: هذه كبيرة منه توهم أن الغافل عن الشيء هو الجاهل به، ولم يكن رسول الله ﷺ ممن يطلق عليه اسم الجاهل ويخاطب به أبدا.
قال القاضي: (لمن الغافلين) عن هذه القصة لم يخطر ببالك ولم يفزع سمعك قط؛ وهو تعليل لكونه موحى.
قلت: ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه، قيل للمخاطب: كنت عن هذا غافلا؛ أي كان يجب عليك أن تفتش عنه وأن تستوفي في تحصيله. الراغب: الغَفْلَةُ سهو [يعتري*] الإنسان من قلة التحفظ [واليقظ*]، [وأرض غُفْلٌ: لا منار بها*]، وإغفال الكتاب]؛ أي تركه غير معجم، قوله تعالى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) أي جعلناه غافلا عن الحقائق وتركناه غير مكتوب فيه الإيمان، كما قال تعالى (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ)، وحديث الكريم ابن الكريم الذي ذكره الزمخشري، رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، عن أبي هريرة.
(أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ... (٤)
الطيبي: كان من حق الظاهر تقديم الشمس والقمر على الكوكب بعد إخراجهما من الجنس تقديما للفاضل على المفضول؛ كقوله تعالى (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) لكن خولف هذا الاعتبار بتأخيرهما قصدا؛
372
أي تغايرهما مطلقا بإخراجهما من الجنس رأسا بحيث لَا مناسبة بينهما؛ فيقدم الفاضل على المفضول.
فإن قلت: ما نحن بصدده ليس من قبيل (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)؛ لأنه من عطف الخاص على العام لأنهما داخلان في الملائكة بخلافه هنا.
قلت: يكفى في الشبه إخراجهما من جنس الكواكب وجعلهما مغايرين لها بالعطف.
فإِن قلت: لم لم يقل: إني رأيت الكواكب والشمس والقمر ليوازي تلك الآيات؟ قلت: القصد الأول في تلك الآية ذكر جبريل وميكائيل، كما دل عليه بسبب النزول، وذكر الملائكة، [للترقية والتمهيد*] بخلافه هنا؛ فسلك به مسلكا علم منه المقصود وأدمج التفضيل والاختصاص، وفيه أمثال؛ قال: إن الآخرة مع تلك البينة ما سلب عليهم نور الولاية والنبوة.
والزمخشري: ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع.
قال صاحب التقريب: وفيه نظر لاتفاقهم على أن عمرا في: ضربت زيدا وعمرا ليس مفعولا معه.
ويجاب أن المعنى ليس أنه مفعول معه؛ فإن سؤاله لم أخر الشمس والقمر؟
ومعناه كيف أخرهما وموضعهما التقديم؟ وأجاب بجوابين:
أحدهما: فيه التزام التأخير لإفادة المبالغة في التغاير.
وثانيهما: أن الواو لَا توجب الترتيب لأن مقتضاها الجمعية؛ لأنها بمعنى مع؛ كأنه قيل: رأيت الشمس والقمر والكواكب دفعة واحدة.
يؤيده قوله في تفسير قوله تعالى (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) وإنما وجد الراجع في به؛ لأن الواو بمعنى مع فيتوحد المرجوع إليه.
وقوله بعد ذلك (يَخْلُ لَكُمْ... (٩)
إما مجرور بإضمار أن والواو بمعنى مع؛ كقوله تعالى (وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ).
373
قال شارح المبادئ: نزل على الجمع المطلق، ودلالتها على الجمع أقوى من دلالتها على العطف؛ فإِنها قد تعدى من معنى العطف ولا تعدى من معنى الجمع.
فإِن واو القسم وواو الحال بمعنى مع لَا تقيد العطف وتفيد الجمع لأنها في القسم نائبة عن التاء والباء للإلصاق، والحال مصاحبة لذي الحال، والواو في المختلفين بمنزلة التثنية، والجمع في المتفقين، وتلخيص الجواب يرجع إلى ما قال في سورة النمل.
فإِن قلت: ما الفرق بين هذا؛ أي بين تلك آيات القرآن وكتاب مبين، وبين قوله: تلك آيات الكتاب وقرآن مبين؟ قلت: لَا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقديم والتأخير؛ وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية لَا يترجح جانب عن جانب، وضرب فيه يترجح.
والأول نحو قوله تعالى (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا).
والثاني نحو قوله تعالى (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ).
ونقل عن تلميذ ابن الحاجب، أنه قال: ظاهر كلام الزمخشري لَا يشترط في المفعول معه مصاحبة الفاعل، والحد المذكور في الكافية لَا يمنع من مصاحبة المفعول.
ونقل المالكي عن سيبويه، أنه قال: بعد تمثيله بما صنعت وأباك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها؛ فالفصيل مفعول معه، والأب كذلك.
وقال المالكي أيضا: ويترجح العطف إن كان بلا تكلف ولا مانع ولا موهن؛ فإِن خفت به فوات ما يضر فواته رجح النصب على المعية، كذلك هنا رجحنا المعية على العطف؛ لتوخي حصول الأفضلية؛ ليرجع معنى الآية إلى معنى قوله تعالى (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
(سَاجِدِينَ).
الزجاج: إذا جعل الله غير المميز كالمميز؛ كذلك تكون أفعالنا وأنباؤنا.
وأما ساجدين فحقيقته فعل كل من يعقل؛ فإِذا وصف به غيرهم فقد دخل في المميزين وجاز الإخبار عنه كالإخبار عنهم.
374
(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ... (٦)
يحتمل كون الكاف للتعليل. أي ولأجل رؤياك ذلك يجتبك ربك.
وقال ابن العريف: إن الكات إنما ترد لتعليل مع ما.
(وَيُعَلِّمُكَ).
قول ابن بزيزة: هو داخل في التشبيه؛ يرد بأنه؛ إما أن يشبه بالاحتمال، وبالرؤية؛ والأول باطل لأن العطف يقتضي المغايرة؛ فلا يصح أن يكون التقدير: وكاجتبائك يجتبيك بتعلم تأويل الأحاديث، والثاني باطل لأنه إنما يشبه الأخفى بالأجلى والرؤية هنا أخفى وأدون رتبة من النبوة؛ فهو العكس سواء، فالظاهر أنه استئناف كلام.
(مِنْ تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ).
من ليست لبيان الجنس لأن مفسرها ما بعدها، والتي لبيان الجنس إنما يكون مفسرها قبلها؛ كقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) والمراد بالتأويل التفسير؛ وهي عبارة المتقدمين، وأما المتأخرين فيريدون بالتأويل حمل اللفظ على غير ظاهره.
الطيبي: التأويل من الأول؛ وهو الرجوع إلى الأصل، ومنه الموصل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا؛ ففي العلم، قوله تعالى (وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ).
وفي الفعل قول الشاعر:
وللقوي قبل يوم البين تأويل
وقوله تعالى (هَل يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأوِيلَهُ يَومَ يَأتي تَأوِيلُهُ) أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه.
الزمخشري: الأحاديث جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة.
الطيبي: وقال في موضع آخر: الأحاديث تكون جمعا للحديث، ومنه أحاديث الرسول، ويكون جمع للأحدوثة التي هي مثل الأضحوكة، والأعجوبة، وهي ما يتحدث به النَّاس تلهيا وتعجبا، وقد يظن أنه تناقض لأنه في المفصل، وقد يجيء الجمع مبينا على غير واحده المستعمل، وذلك نحو: أراهط، وأباطيل، وأحاديث.
قال الفراء: يرى أن واحد الأحاديث أحدوثة؛ ثم جعلوه جمعا للحديث.
وقال علم الدين السخاوي في شرح المفصل: كأنهم جمعوا حديثا على أحدوثة، ثم جمعوا الجمع على أحاديث؛ كقطيع، وأقطعة، وأقاطيع؛ فعلى هذا يصح أن يقال: هو مبني على واحدة المستعمل، ورؤياه تدل على تشتت أمره أولا، ثم يجمع الله من شتاته بعد دهر طويل، وذلك أن سجود إخوته مع بعضهم إياه وحسدهم أمر بعيد، وسجود أبويه له أبعد وذلك لَا يحصل إلا بعد ضربات الدهر، وشتات الأمر، وتقلبات الأحوال.
(عَلَى أَبَوَيْكَ).
قال اللخمي: اختلف في قوله تعالى (وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) هل تدخل زوجة الجد وأبيه بالنص فهو حقيقة مشتركة أو بالقياس، أو بالإجماع.
(عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
الفخر: (عَلِيمٌ) إشارة لقوله (عَلِيمٌ) انتهى؛ فيكون معنى (حَكِيمٌ) أنه عليم بالوقت الذي يرسل فيه الرسول باعتبار الزمان، وباعتبار عمره، ولمن يرسله.
(لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨)
الزمخشري: أي في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك.
الطيبي: يعني أن نسبة الضلال إلى أبيهم إن كان مطلق يوهم سوء أدب؛ فهو مقيد [بقرينة*] الأحوال؛ كقوله تعالى (وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ)، أي في التجارة، وقوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) أي رشدا في طريق التجارة.
(وَجْهُ أَبِيكُمْ... (٩)
أضاف الأب إلى المخاطبين، وقال أمور: أولا (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا).
فأضافه إلى المتكلمين جميعهم، والجواب: أنهم أولا أخبروا أنه أبو جميعهم، فأضافوا الأب إلى المتكلم ومعه غيره، فعبروا بـ أبانا عنهم وعن يوسف وأخيه، ثم لما قالوا (يَخْلُ لَكُم وَجْهُ أَبِيكُم)، أضافوه إلى المخاطب؛ لأنهم إذا أذهبوا يوسف صار يعقوب أبا لهم فقط، وهو خطاب للحاضرين.
(قَوْمًا صَالِحِينَ).
إذا وذكر قوم أنهم إذا تابوا يكونون كقومهم في ابتداء أمرهم صالحون، لم تصدر منهم معصية؛ لأن التوبة تجب ما قبلها.
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ... (١٠)
لم يقل: قال بعضهم إشارة إلى أنه لم يقل إلا واحد منهم، ولفظ بعض يصدق على الواحد وعلى أكثر منه.
الزمخشري: (الْجُبِّ) البئر، [لم تطو*] لأن الأرض تجب جبا.
الطيبي: يعني أنما سمي البئر غير المطوي جبا إذ ليس فيه غير جب الأرض؛ فإِنه لم يطو بعد الأساس طوي البناء باللبن، والبئر بالحجارة، وهو الطوي، والإطواء.
(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا... (١١)
لك خبر ما، ولا تأمنا حال، كقولك ما لك ضاحكا، ما لك باكيا.
الطيبي: قال صاحب التفسير كلهم، قرأ [(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا) *] بإدغام النون الأولى في الثانية، وإشمامها بالضم، وحقيقة الإشمام في ذلك أن يشار بالحركة إلى النون لا بالعضو إليها، فيكون ذلك أخفاء لَا إدغاما صحيحا؛ لأن الحركة لَا تسكن رأسا بل يضعف الصوت، فيفصل بين المدغم والمدغم فيه، لذلك هذا قول عامة، وهو الصواب لتأكيد دلالته وصحته في القياس.
وقال الجعبري: شارح القصيدة في قوله: وتأمننا للكل يخفي مفصلا، وقوله: وإدغام من إشمامها لبعض عنهم يريد بقوله إخفاء الحركة اختلاسها، ومعنى مفصلا؛ فصل إحدى النونين عن الأخرى وهي حقيقة الإظهار، وهذا معنى قول أبي علي الفارسي: ويجوز أن يبين ولا يدغم، ويخفي الحركة، وهو أن يختلسها، ومفهوم إطلاق السبب إلى أن كلا من النقلة رووه عن السبعة، وليس كذلك لإطباق العراقيين على خلافه، وقوله: التشديد من غير حركة النون، وبهذا قطع ابن مجاهد في قوله: وكلهم قرأ تأمنا بفتح الميم، وضم النون وإدغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم ونبه بقوله: وضم النون على أن الفعل مرفوع ليفهم علة الأسماء.
(وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ).
تمويه وتورية، أي وإنا لأجله لناصحون أنفسنا، وهذا لأنهم أنبياء يستحيل عليهم الكذب.
(لَيَحْزُنُنِي... (١٣)
قيل: متعلق الحزن ماض، والخوف مستقبل، فكيف يفهم هنا، أجيب بوجهين:
الأول: أن يحزنني مستقبل، وذهابهم به كذلك، فمعناه إن قدرت وجود ذهابكم به فالحزن مبني موجود بلا شك، لوقوع موجبه، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، إن قدرت ذهابكم به ولا يحزن عليه، لأني لَا أدري لعله يسلم لام الابتداء الداخلة على خبري تخلصه للحال، قيل في ذلك قولان والصحيح أنها للاستقبال، وإن كان ابن مالك في التسهيل جعلها من المخلصات للحال فقد صح غيره أنها للاستقبال الثاني؛ أن الحزن واقع منه، لأنه لما آتوه عصبة واجتمعوا وتظافروا على طلبه الذهاب به علم يعقوب أنه لَا بد له من إسعافهم بمطلوبهم، فكان موجب الحزن، وهو الذهاب واقعا في الوجود، فوقع الحزن لأجل ذلك بخلاف سبب الخوف، وهو أكل الذئب إياه.
(وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)
الزمخشري: متعلق بـ (أَوْحَينَا)، لَا غير.
الطيبي: أي قراءة النون يعني أوحينا إلى يوسف هذا التهديد والوعيد في حقهم، والحال أنهم لَا يشعرون بهذا الوحي، لأن إنباء الله إياهم لَا يجتمع مع عدم شعورهم به بخلاف إنباء يوسف، لأنه حصل مع عدم شعورهم، وفيه نظر بجواز أن يتعلق بقوله (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ)، وأن يريد بأنباء الله أيضا جزاء فعلهم لهم وهم لَا يشعرون بذلك، والظاهر أن هذا الإنباء هو قوله (هَلْ عَلِمْتُم مَا فَعَلتُم بِيُوسُفَ).
(عِشَاءً... (١٦)
الزمخشري: رواه ابن جني [عُشى*] العين والقصر.
الطيبي: قال ابن جني: رواه عيسى بن ميمون، فيكون عشوا من البكاء، وطريق ذلك أنه جمع عاش وكان قياسه عشاة كعاش وعشاة؛ إلا أنه حذف الهاء تخفيفا، وهو يريدها، وفيه ضعف؛ لأنه قدر ما يكون هي ذلك اليوم لَا يعشو منه الإنسان، ويجوز أن يكون جمع عشوة أي ظلاما، وجمعه لتفرق أجزائه.
(بِدَمٍ... (١٨)
قال المفسرون: أن يعقوب لوث وجهه بذلك الدم.
فإِن قلت: كيف فعل هذا والدم نجس؟ قلت: ملاقاة النجس إنما هي مكروهة، وهذا محل حزن وذهول.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
لما ذكر ابن عصفور ما يلزم فيه حذف المبتدأ وما يلزم فيه حذف الخبر، قال: وقسم يجوز فيه الأمران، وهو ما عدا ذلك، ومثله هذه الآية.
وقال ابن هشام في شرح "الإيضاح"، وابن مالك: لَا خلاف أن المصدر المنصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره، إذا ارتفع على الابتداء، يجب حذف خبره، وإذا ارتفع على الخبر يجب حذف مبتدئه كقوله:
شكى إلي جملي طول السُّرى... صبرا جميلا فكلنا مبتلى
على رواية من رواه صبر جميل بالرفع، وهذا خلاف ورجح بعضهم الأول؛ لأنه على الثاني يكون مجرد دعوى، وكان الشيخ ابنِ عبد السلام يرجح الأول أيضا؛ لأن الثاني يخالف قوله بعد هذا (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف)، فليس صبره صبرا جميلا.
(وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ).
على سبب وصفكم وهو الصبر.
(بِضَاعَةً... (١٩)
الزمخشري: نصب على الحالة، أي أخفوه متاعا للتجارة.
الطيبي: كذا عن أبي البقاء، قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يضمن (وَأَسَرُّوهُ) معنى جعلوه، أي جعلوه ميسرين، فهو مفعول ثان.
قال ابن الحاجب: يحتمل أن يكون مفعولا من أجله، أي كتموه لأجل تحصيل المال فيه، لأنه كان على حال تقتضي التجارة، وكتمانه خوفا من أن تمتد الأطماع من غيرهم، ولا يجوز أن يكون تمييز الماوردي إليه من أن الإسرار كان للبضاعة لَا له، وهو خلاف المعنى، وليس هو من باب عشرين درهما، ولا من باب حسن زيد وجها الراغب البضاعة قطعة وافرة من المال، يعني للتجارة، يقال: بضع بضاعة وابتضعها، والبضع بالكسر المقتطع من العشرة.
(وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
الطيبي: قال صاحب "الفرائد": يمكن أن نقول تقديره، وكانوا من الزاهدين فيه، (مِنَ الزَّاهِدِينَ)، من قبيل الإضمار على شريطة التفسير، وقلت: الظاهر أنه ليس منه؛ لأنه ليس بمشتغل عنه بل لضمير، وإن الأصل كانوا من الزاهدين فيه على أن فيه ليس صلته؛ بل متعلق بجملة محذوفة على السؤال، كقوله تعالى (هَيْتَ
لَكَ)، كأنه لما قيل: كانوا من الزاهدين لم يعلم في أي شيء اتجه لسائل أن يقول في أي شيء زهدوا، فقيل: زهدوا فيه، وهو من قول الزجاج فيه ليس بصلة الزاهدين؛ المعنى وكانوا من الزاهدين؛ ثم بين في أي شيء زهدوا؛ فإنه قال: زهدوا فيه وهذا في الظروف جائز، وإمَّا في المعقولات؛ فلا يجوز فيها؛ لَا يجوز كنت زيدا من الضاربين؛ لأن زيدا من صلة الضاربين، فلا يتقدم الوصول صلته.
وذهب ابن الحاجب إلى الجواز قائلا في قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، الظاهر أن لكما في مثل هذا ونحوه، متعلق بالناصحين؛ لأن المعنى عليه، فإن [اللام*] إنما جيء بها لتخصيص معنى النصح بالمخاطبين، وإنَّمَا قرأ الأكثرون من هذا لأن صلة الموصول لَا تعمل فيما قبل الموصول، والفرق عندنا أن الألف واللام لما كانت صورتها صورة الحرف المنزل جزءا من الكلمة صارت كغيرها من الأجزاء التي لَا يمنع التقدم، ولذا لم يوصل بجملة اسمية لتعذر ذلك فيها، وهذا واضح فلا حاجة إلى التعسف.
(أَكْرِمِي مَثْوَاهُ... (٢١)
الفخر: هذا تعظيم؛ لأن المشارقة عادتهم يقولون: السلام على المقام العلي، تنزيها بالاسم المكتوب إليه أن يذكر، وتعظيما له، وكذلك هذا لأن مثواه موضع إقامته.
(أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا).
إن قلت: اتخاذهم إياه ولدا محقق، فكيف فيه معنى الترجي، قلت: إنما يتخذونه ولدا إذا ظهر) لهم نجابته ومنفعته.
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ).
الطيبي: الضمير إما لله عز وجل، فالجملة تذييل، أي لَا أحد فوقه فيفعل ما شاء لا [رادَّ*] لما أراده، وهذا صريح في مذهب أهل السنة، ولكن أهل الاعتزال لَا يعلمون، وأما ليوسف فيكون تتميما لما دبره الله فيه، أن العاقبة له ومعنى مغلوبية الأمر على التمثيل فإن المغلوب تذلل للغالب فيتصرف فيه من غير مانع.
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ... (٢٢)
اختلفوا في حد بلوغ الأشد، فقيل: ثلاثون، [وقيل*] ستة وثلاثون، وقيل: عشرون، ويدل على أنه ستة وثلاثون، قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، لأن العطف يقتضي المغايرة، واتفق الأطباء على أن بدن
الآدمي لَا يزال فيه النمو والزيادة إلى أن يبلغ ستة وثلاثين سنة، لكنه نمو خفي لَا يظهر وأما النمو الظاهر فحده عند ابن سينا عشرون سنة خلافا للفارابي.
ابن عطية: وقيل: كان في الأسبوع الخامس وهو ثلاثة وثلاثون، لأن الأسبوع الرابع هو ثمانية وعشرون لاجتماعها في ضرب أربعة في سبعة، والخامس هو خمسة وثلاثون.
(وَرَاوَدَتْهُ... (٢٣)
الطيبي: عن الراغب: الرَّوْدُ: التردد في طلب الشيء برفق، يقال: [رَادَ وارْتَادَ، ومنه:*] [الرَّائِدُ، لطالب الكلإ*]، وباعتبار الرفق، قيل: [رَادَتِ الإبلُ*] في مشيها تَرُودُ رَوَدَاناً [ومنه بني المرْوَدُ*] والإرادة منقولة [من رَادَ يَرُودُ*]، إذا سعى في طلب شيء، وتارة يستعمل في [المبدإ*]، وهو نزوع النفس إلى الشيء، وتارة في المنتهى، وأنه تعالى يتعالى عن معنى النزوع فمعنى أراد الله كذا، [حكم فيه*] أنه كذا، وليس بكذا، وقد يراد بها معنى الأمر نحو أريد منك كذا؛ أي آمرك بكذا نحو تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريده، أو يريد غير ما تريده.
الزمخشري: خادعته في نفسه أي فعل ما يفعل المخادع لصاحبه، الطيبي: قال صاحب "الفرائد": مراده تضمين راودت معنى خادعت، لأن في المخادعة معنى التبعيد، وهو متعد بعن، كأنه قال: بالتضمين، لأن التضمين هو أن يضمن فعل معنى فعل، ويعدي تعديته مع إرادة معناها، فلا بد من ذكرهما في التفسير معا.
قال الزمخشري في الكهف: الغرض في هذا الأسلوب إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى واحد، وأما التعدي فإن خدع ورد في الأساس على استعمالات شتى، وليس فيها تعدية بعن، وأما هذا فليس على حقيقته، لقوله: فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه، لأنه وارد على التشبيه، وتمثيل حاله أيضا ما أتى به في هذا التركيب بلفظ المراودة، وقد مر أن شرحه أن يذكر معنى المضمن فيه، وذكر في الأساس أيضا راود رودانا جاء وذهب، وما لي أراك ترود منذ اليوم، وذكر في قسم المجاز، وراوده عن نفسه، خادعه عنها ثم مجموع التمثيل كناية عن التمحيل لمدافعته إياها.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ... (٢٤)
381
قال صاحب "المرشد": أن وقف عند قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، ثم يبتدئ (وَهَمَّ بِهَا)، ليفرق بين ما كان منها وما كان منه، كان صالحا ليعلمَ أن المرأة همت على صفة، ويوسف على صفة أخرى.
وقال بعضهم: معناه اشتهته، واشتهاها، لأن الشهوة قد تجري مجرى الهم في سعة اللغة، واحتج بقولهم هذا أهم الأشياء إلي، أي أشهاها، وهذا أحسن الوجوه، قال صاحب "الفرائد": لولا مقدم بالطبع على الجواب؛ لأنه هو الذي يوجب الجواب، والموجب مقدم بالطبع على الموجب بالضرورة؛ فتقديمه عليه إخراج له من الأصل، والإخراج من الأصل لَا يجوز إلا لموجب راجح على ما يوجب الإبقاء على الأصل، وهو كونه أنهم بالذكر منه، ولما كان الاهتمام بذكره بعد لولا؛ لأنه هو الذي يقتضي ذكره ويوجبه، لم يوجد الموجب الراجح لتقديمه فوجب تأخيره عملا بالموجب السالم عن المعارض، هذا اختيار الإمام في تفسيره.
وأورد الزمخشري سؤالا، الطيبي حاصله لم علقت أولا بالجملة الثانية، ولم يعلق بالجملتين معاً؛ لأن الهم لَا يتعلق بالذوات، وإنما يتعلق بالمعاني كالمخالطة والمعانقة والملامسة والمباشرة ونحوها، وهذا المعنى فما لَا يحصل إلا من الجانبين، فينتزع من مجموع قوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) بها معنى المخالطة ثم يقيدهم يوسف، وقال الآخرون أنها معلومة بالسياق، فالسياق يبين المحرم وهو نكاحهن واختلفوا هل كان حينئذ نبيا أو لَا؟ فعلى تقدير كونه نبيا لَا يجوز صدور هذا منه لأنه نبي معصوم فلابد من تأويله، وأحسن التأويلات ما قاله الزمخشري وهو إما حضور ذلك بالبال أو مروره به كمن رأى البرق الخاطف ثم يذهل عنه يريد في الحال، وإما أن هم بمعنى قارب الفعل ولم يخطر بباله شيء، وقال ابن عطية: إن هذا من الصغائر المستهلة، ابن عرفة، وهذا خطأ لأنهم أجمعوا أن الأشياء المباحة في حق الأنبياء أن ذكرت على معنى النقيض، قيل: قابلها وإن ذكرت على معنى التسلية أدب قائلها وهذا كمن يقول إنه ﷺ رعى الغنم، وقال الفخر: [وَهَمَّ بِهَا] أي وهم بطريقها وبمدافعتها بالأمر الخفي، أو بما لَا يصح توجب فيه [ضعفا*]، لأنه لَا يجوز أن يقول هممت بقتل زيد، وهم هؤلاء وأنت تريد وهمَّ هو بقتلي، قال: أردت وهم هو بالعفو عني لم يجز حذف ذلك، وقال [ابن زيتون*]: وهم بها أي [... ].
ابن عرفة: [وهذا*] كله لَا يصح منه شيء، وأطنب الزمخشري هنا في الرد على الحشوية وغيرهم لأنه [معتزلي*] ومن قواعدهم التحسين والتقبيح فصدور الصغائر من النبي قبيح عندهم عقلا، وعندنا جائز عقلا لَا شرعا؛ لأن الشرع أخبر بعدم وقوع ذلك
382
فهذه الآية قوية في الرد عليهم. وقال الفخر: في غير هذا الموضع اختلفوا هل يصح صدور المعصية من العالم أم لَا؟ واحتج من منع صدورها منه بأن الفعل متوقف على القدرة والإرادة والداعي، وقالوا: في أصول الدين أن الداعي هو العالم بما في الفعل من مصلحة أو مفسدة كالمكلف لَا بد له من مرجح يترجح به عنده الفعل أو عدمه وهو الداعي، قال المعصية عنده راجعة للفعل فهو جاهل أعماه الشيطان وأشغل فكره حتى ظهر له أن مصلحة المعصية أرجح وإن كانت عنده مرجوحة فهو عالم فيستحيل صدور المعصية منه حينئذ، ابن عرفة: وفي الآية سؤال وهو أن همها هي بمعمول من قوله (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ).
فلم احتيج إلى أن القسم عليه، ويؤكد السؤال على ما قال الزمخشري: من أنه يحسن الوقف عليه (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) لأن همها هي به دائم لَا ينقطع إلا إضرارا من غير اختيارها [وهمه هو بها خطر بباله*] مرة ثم زال [فهو مباين لهمها*]، والجواب: عن السؤال من وجوه، الأول: لما كان نبيا معصوما [ومن حاله هذه يجب أن لا يظن بباله معصية الله تعالى*] فقد يقال إنها يستبعد منه الموافقة على ذلك فلا تهم بذلك، فكذلك أقسم على همها به، الثاني: أنها أنزلته منزلة الولد [بقول*] العزيز لها (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، ورده ابن عرفة: بأنه من قول العزيز لَا من قولها.
قوله تعالى: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ).
اختلف فيه المفسرون عامله يرجع لثلاثة أحوال: إما أنه رأى البرهان بالقول، أو بالفعل، أو بالفكر وهو أنها سترت الصنم منه فتذكر هو وخاف من رؤية الله له.
قوله تعالى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ... (٢٥)﴾
قال الزمخشري: أفرد الباب هنا لأن المراد الباب البراني، ابن عرفة: إنما أفرده هنا وجمعه في قوله: (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) لوجهين الأول أن قوله: (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) اختياري وهو من مختار تعلق الجميع ليتمكن من غرضه [... ] نعت، وأما قوله (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) فخروج يوسف اضطرارا والمضطر يتشبث بأدنى سبب فأفرد الباب إشارة إلى أن يوسف أراد أن [يهرب منها*] بأول ما تلقاه من الأبواب خوف أنه إن فر إلى غيره لحقته ولم يقصد الخروج للعزيز لأنه لم يعلم أنه عند الباب ولكنها اضطرته ولحقته حتى خرج من باب إلى باب إلى أن فتح الباب البراني فوجد العزيز هناك مصادفة، الجواب الثاني: أنه أتى به مفردا لأنه أبلغ كقول الزمخشري في (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أن عموم المفرد المحلى بالألف واللام أقوى من عموم الجمع.
قوله تعالى: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ).
ولم يقل: [سيدهما*] لوجهين، أحدهما: أنه لو قال كذلك للزم منه استعمال اللفظ المشترك في مفهومه معا أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لأنه مجاز في الزوجة، فإِن قلت: البادئ بالمسابقة إنما هو يوسف فلم قال استبقا وهي إنما خرجت تتبعه؟ فالجواب: أنه إشارة إلى أنها سبقته بالجري لترده وتعارضه وقد قميصه، قيل: كان [طُولًا*]، وقيل: كان عرضا، والمناسب قوله [طُولًا*] لأنه إن كان عرضا فيحتمل أن يكون [يقطع بجره هو فيتعثر فيه*].
قوله تعالى: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا).
قال الزمخشري: أتت باللفظ العام وهو أبلغ من الخاص، ابن عرفة: بل الخاص أبلغ لأن العام يقبل التخصيص فقد تكون تلك الصورة المفهومة من العام فخرجه مخصصة غير مرادة بدلالة قولك أكرم زيد العالم، فالدلالة على إكرامه أقوى لأنه قولك أكرم العلماء على إكرام زيد، وقولها: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ) هو مغالطة منها لأن المنازع قد يستدل [بمقدمتين*] وتكون الصغرى منها ضعيفة [حيث إذا ذكرها يتأملها خصمه*] أو يبطلها، فيترك ذكرها حكما لَا على فهم السامع وكذلك فعلت هي لأن الأمثل أن يقول يوسف أراد بأهلك سوءا ولو قالت كذلك لوقعت ريبة في كذبها.
قال تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦).. إن قلت: فهلا قال [لم أردها بسوء، فيجد من كلامها مطابقة*]، فالجواب بوجهين الأول: قال ابن عرفة: لما ظهرت عليه مخائل تهمته بأحد أمرين إما أنها بدأته بالسوء ووافقها أو العكس فتوهم بدايته هو لها [... ] مما رآه منها وخروجه قبلها فلم يبق إلا توهم موافقته لها أن كانت هي البادئة فلذلك: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) الثانية: قال بعض الطلبة إنه تقدم في قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) أن ذلك مر بفكره كمرور البرق الخاطف، فلو قال: لم أراودها بسوء لوقع في الكذب المستحيل على الأنبياء.
قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا).
إن قلت: كيف [سُمِّيَ شاهدًا*] وأصل الشهادة أن يقول كان ذلك أو لم يكن، فأجاب ابن عرفة: إنه مجاز والمعنى وذكر إنسان قام يفصل عنهما كما يفصل الشاهد بشهادته بين الخصمين، فقال كذا وكذا.
قوله تعالى: ﴿فَصَدَقَتْ وَهُوَ... (٢٦)﴾
إن قلت: لم دخلت الفاء؟ فالجواب: بوجهين الأول: قال ابن عرفة: عن بعض المتأخرين أن الفاء تلزم في جواب الشرط إذا كان ماضيا لفظا ومعنى وهذا كذلك، قلت: وذكره الجزولي، قال: ومع الماضي لفظا ومعنى ولا بد معه من قد ظاهرة أو مقدرة، التالي قلت: أن لما كان المراد أنه يعلم أن قميصه قُدَّ من دبر يعلم إنها صدقت أتى بالفاء لثبوت مناسب يعلم واستدل المبرد بهذه الآية على أن إرادة الشرط لَا تخلص كان للاستقبال، فأجابه [الآبذي] والزمخشري: بأن التقدير أن يعلم أنه كان. قال الزمخشري: وعن النبي ﷺ "تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى"، قال ابن عرفة: الذي في مسلم "تكلم ثلاثة ابن ماشطة فرعون، وعيسى وصاحب جريج"، قال ابن عرفة: فإِن قلت: لم [عبّر*] في جهتها بالفعل، فقال: صدقت فكذبت وفي حق يوسف بالاسم، فقال (مِنَ الصَّادِقِينَ) من الكاذبين، فأجيب من وجهين الأول قال ابن عرفة: لأن صدق زليخا [... ] غير محقق عند العزيز فأخبر فيه بالفعل لكنه إذا ثبت صدقها فالمخالف لها من الكاذبين وكذلك المخالف لم يثبت كذبه من الصادقين لأنه لَا يتجرأ على هذا وينازع فيه إلا من أولع به وأما من جُرّب ذلك منه مرة فإِنه يخاف ويستريب. الجواب الثاني: لأجل رؤوس الآي، فإن قلت: [لم بدأ بها*]، فقال: (فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) قلنا: [**لأنها من دم عليه المبادئة] في قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، ولأنها البادئة بالشكوى.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ... (٢٨)﴾
إن قلت: لم أسند القول الواحد والأصل في مثل هذا ما يقع به التبكيت أن يسند القول فيه إلى كل من حضر؛ ولأنه مرئي مشاهد رآه الشاهد والعزيز لأنهم ذكروا أن الشاهد كان حاضراً، فالجواب: أن الأمور قسمان ضرورية ونظرية، فالأمور الضرورية لا يحتاج الإنسان فيها إلى غاية ولا إلى تأمل، فلو قيل: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ) قالا يتوهم أن قطع القميص كان من جهة يمكن أن تضاف [إلى*] القبل وإلى الدبر بحيث لا يقطع الرأي الواحد بإضافتها إلى أحد الجهتين حتى يشترك في ذلك مع غيره ويتدابرا فيعلما، أسند ما إلى [**الواجد إفاداته] من جهة الدبر صرفا بحيث لَا يحتاج فيه إلى تأمل لا إلى مشاركة الغير.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ... (٣٠)﴾
قال المفسرون: كن جيرانها، فإن قلت: تجريح الأقارب والجيران أو من يقرب لهم أقوى من تجريح الأجانب فهلا قال، وقال نسوة في حارتها أو في جيرانها، [فأجيب*]: بأنه إشارة إلى اشتهار هذا الأمر وانتشاره في المدينة ورد أنه يقال قلتم
أنه شاع هل قالت هؤلاء خمس فممنوع وإن كان بعد مقالتهم فمسلم ولا يتناول محل النزل لأنه حين مقالته من لم يوجد يكن ذلك غيرهن، وأجيب: بأنه شاع واشتهر إشهارا كان ابتداوه من أولئك النسوة، واتساع الظرف يدل على اتساع المظروف فأشار إلى كثرة القائلين في المدينة.
قوله تعالى: (فَتَاهَا).
ظاهره أنها إضافة ملك وتقدم لنا في قوله (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ) متعلق يقال هذا يدل على أن هناك متعلق بـ اشتراه، وقال الفخر: القطبي أنه اشتراه لنفسه ثم وهبه لامرأته، وقوله (تُرَاوِدُ) أتوا به مضارعا تشريفا عليها أي إنها مداومة على ذلك.
قوله تعالى: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
فيه سؤالان الأول لم أكذبن رؤيتهن لها في ضلال، ولم يؤكدن مراوداتها له في نفسه؟ وجوابه: أنه لما يكنَّ من أقاربها وجيرانها تلطفن بحالها ولم يؤكدن وقوع ذلك منها لمعرفتهن الأسباب الحاملة لها على مستنكر ففيه ضرب من العذر لها بخلاف الأجانب فإنهن يأخذن بالظن إذا سمعن بالفعل القبيح عن غيرهن ينكرن عليه لجهلن بعذره فأكدن الكلام ليفيد أنهن مع قربهن لها يظهر لهن وجه قدرها ولا قلن لها موجبا يتلفظن به بحالها فأحرى الأجانب بخلاف مراوداتها إياه عن نفسه فإِنها واقعة لَا ينكرها أحد ولا يحتجن إلى تأكيدها لثبوت ذلك عندهن وتحققه وظاهره أنها لم تكن تظهره لهن وهو شأن المحب إذا غار على محبوبه ويحتاط عليه خيفة أن يتصل به غيره، السؤال الثاني: أنهن قلن: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) وأسندن رؤية ذلك إلى تفسيرين وهلا قلن أنها لفي ضلال مبين فهو أبلغ، وجوابه: أنه إنصاف منهن وإشارة إلى أنهن في اعتمادهن لم يعلمهن لذلك وجها ولعل له وجها في نفس الأمر، وانظر هل الرؤية بصرية أو علمية، فقيل علمية لأن الضلال معنى والبصر لَا يتعلق بالمعاني، ابن عرفة: مفعولها هو الضمير لَا غير فلم تتعلق الرؤية إلا بها فقط حالة كونها هي في ضلال مبين لَا أنها تعلقت بها وبالضلال.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ... (٣١)﴾
أي فلما أُخبرت بمكرهن فلذلك [عديت هنا إلى*] حرف الجر؛ لأن (سمعت) من أخوات، (قلت) تتعدى إلى مفعولين بنفسها فهي متعلقة بالمسموع [**سائره مجيب بلو] قال الكلام الأول [... ] وهذه إنما عرضه ممن نقل له كلام النسوة.
386
قوله تعالى: (كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا).
ابن عرفة: اختلف إذ قال لكل واحدة منهن [سِكِّينًا*] أو يعطي لكلهم درهماً واحدا يقسمونه بخلاف قولهم درهما درهما، هلا قال لكل واحدة منهن سكينا بأنه فعلهم من قولهم وكل واحدة أخذت سكينا؛ لأن قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)، وهو أبلغ في حق يوسف؛ لأنه بنفس خروجه أكبرنه ولا يعدل عن ذلك إلا لنكتة [... ] والجواب أنه قد يخرج وتذهل إحداهن عن رؤيته وإنَّمَا يقع الإكبار بالرؤية أو يقع بنفس الرؤية، وإن لم يستوف الخروج عليهن فقد رأوه وهو في الغمامات أو من طاق أو من خلف حائل، وإن لم يخرج.
قوله تعالى: (مَا هَذَا بَشَرًا).
قال الأصوليون في الفرق بين الحقيقة والمجاز وهو ما صح بجهة وهو زيد أسد يقول زيد ليس بأسد ولا يقول ليس زيد رجل، وقول يوسف بشر [... ] وقال وأجيب الوجوه الأول قال عادتهم يقولون هو على حذف الصفة أي ما هذا بشر معمول الثاني أن هذا النفي مجاز ورده ابن عرفة: بأنه يلزم عليه الدور لأنه لم يكن مجازا إلا يكون إبانة حقيقة لكن الحقيقة لَا يعلمها إلا بعد معرفة كون نفيها مجازا الثالث أن النفي حقيقة لأنه في محل الدهش والغفلة والذهول لما جرت لهن من رؤيته.
قوله تعالى: (أَكْبَرْنَهُ).
ابن عطية عن الجمهور أي أعظمنه فاستهولن كماله، وقال عبد الصمد بن علي الإمام عن أبيه عن جده: أي حضن له، ابن عرفة: وهذا لَا يتم إلا بزيادة هاء السكت كما قال الزمخشري لأن حاض لَا يعدى، وأنشد الزمخشري شاهدا عليه بيت المتنبي، وهو:
[خفِ اللهَ واستُر ذا الجمالَ ببرقُعٍ... فإنْ لُحتَ حاضتْ في الخدور العواتقُ*]
وأنشد ابن عطية:
تَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا... تَأْتِي النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارَا
ثم قال وهذا البيت مصنوع وليس عبد الصمد من ذوات العلم، قلت قال عبد الصمد لابن عباس ونسب البيت لأبي ذؤيب
387
قال [... ]
يغشى النسا على أولادهن ولا... يغشى النسا إذا أكبرن إكبارا
وزاد عن بعضهم بيتا آخر:
إذا نظرت أم الحسين مجاشعا... ضحى أكبرن حتى نقضن المجاسدا
قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن الملك أفضل من النبي قال السكاكي أتى بالجملة غير معطوف لَا في معنى أتى قبلها والعطف يقتضي المغايرة، ابن عرفة [... ]: معنوي والحسي بذل المال والمعنوي بذل العرض إشارة إلى عفوه عن زليخا، وصفحه وإعراضه.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ... (٣٢)﴾
قال ابن عرفة: لما أخبرت أن الأمر لَا يخلو من أحد شيئين إما أن يفعل ما تأمره به أو السجن. اختار هو السجن قال: وتقريره على [قاعدة*] المنطق إن هذه قضية شرطية متصلة تلزمنا منفصلة مركبة من غير [تاليها*] ونقيض مقدمها وهو إما أن يفعل ما آمره به، وإما أن يسجن، وقوله السجن (أحب إليَّ) إن قلنا إنها فعل وليست ما فعل من فلا إشكال وإن قلنا إنها على ما بها فتكون المحبة هنا الطبيعية لأنها بمعنى الإرادة ولا إرادة له فيما أرادت منه زليخا واكتفى يوسف بقوله السجن أحب إلي من أن يقول السجن والصغار أحب ولأنه خاطب به الله تعالى العالم بخفيات الأمور والأول من كلام زليخا تخويفا ليوسف وإنذارا فيه مبالغة وإطناب.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ... (٣٤)﴾
قال ابن عرفة: اختلف في الخطاب وأجاب هل هما بمعنى واحد أو متغايران فأجاب بأمر الآيتان بآيتان الموافق للمقصود والمخالف، واستجاب خاص بالموافق والآية عندي حجة للقول بها وبما أن استجابة أعم بعطف قوله (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ)، والعطف يقتضي المغايرة.
قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ... (٣٦)﴾
قال ابن عرفة: ودخل معه مستعمل في قطع المسافة بين الداخل والمدخول إليه، وفي دوام الاستقرار في الشيء عليهما من حلف ألَّا يدخل على فلان دارا تفضل عليه فلان وأقام معه هل حنث أم لَا فيها قولان بناء على أن الدوام [..... ] عدم الحث قال
لأن الدخول هو قطع المسافة من خارج الباب إلى داخله وأخوك لم [... ] إلا قبل دخول فلان عليه.
قوله تعالى: (أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا).
ابن عرفة: [... ] على المقالة.
قوله تعالى: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ).
قال طلب منه واحد أن ينبئه عن رؤياه بالذات، وعن رؤيا صاحبه بالعرض.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... (٣٧)﴾
قال ابن عرفة: أطلق الملة هنا على الكفر، وكذا ما يطلق على دين الإسلام والشيوخ فيها اختلاف، والأكثر في كشف الحقائق يطلقها على الجماعة المستندين ما مذهبهم إلى السمع لأنه يقول ودليل الملتين وكان بعضهم يقول إنما يطلق على غيره من الإسلام ملة، وإن الملة هي العقدة يناسب قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)، وتقدم الإشارة إلى بعضه في آخر سورة الأنعام، قوله تعالى: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ... (٣٩).. أي مختلفون إشارة إليه لأنه من المتمانع، وتقول إنهما لو كانا إلهين لم يخل من أن يتفقا [أو يختلفا*] فلذلك قال متفرقون ولم يقل مجتمعون لأنهما لو اتفقا لتجوز اختلافهما.
قوله تعالى: (أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
جرى مجرى التطبيق فقوله أم الله تتابع لقوله أرباب وقوله القهار راجع لقوله متفرقون لأن اختلافهم يؤذن بعجز من لم ينفد أمره منهم فجاء وصف القهر مقابله. ابن عرفة إن في الآية دليل على أن أول الواجبات النظر. في المسألة شبه أقوال منقولة في أول شرح الأوتار قيل النظر، وقيل المعرفة، وقيل القصد إلى النظر، وقيل غيره لك.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ... (٤٠)﴾
[... ] ثلاثة أوجه إما أن يراد ذوي أسماء فإما أن الاسم هو المسمى قل إن المراد الأسماء فقط وهو أنها لم تكن [آلهة*] إلا لمجرد قولهم وتسميتهم لها؛ لهذا فهم لا يعبدون إلا أسماء سموها فقط، ابن عرفة قال: قلت لو خاطب بالموعظة هذين الرجلين فقط ومعه في السجن كثير من النَّاس فأجيب باحتمال كونه رأى في هذين الرجلين من القول الهداية ما لم ير في غيرهما لأن غيرهما متعنت، وقد قال أبو المعالي في الإتيان، وانتظر في التي يعتاد العلم بالمتطور فيه ويعاد الجهل به والسبب
فيه يريد الجهل المركب لأن الناظر في التي يستحيل أن يكون جاهلا به الجهل المركب لأن الجاهل الجهل المركب لَا ننظر لاعتقاده أنه عالم فلذلك خاطب هذين دون غيرهما، وتكلم الزمخشري هنا بكلام سيئ، ابن عرفة: لكن هذه المتروكات هي عندهم أفقه من المفعولات.
قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ... (٤١)﴾
ابن عرفة: اللذان حرصا على تنبيه المخاطب [... ] عنه لئلا يذهل عن سماع ما يلقى إليه. قلت له تقدم لك إنه ما خصهما بالخطاب إلا لصلتهما بذلك وأنه رأى فيهما القابلية إليه فهلا نادى لهما بالهمزة أو [الياء المشعرين*] بالقرب الحسي أو المعنوي فقال العبد مقول بالتشكيك في قرب بعيد وأبعد منه كما أن ثم جاهلا الجهل البسيط وأجهل منه، وهو من جهله مركب.
قوله تعالى: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
الضمير عائد على السجن الذي كان سببا في استفتائهما فقوله فيه أي بسببه قلت أو يعود على الأمر قوله تستفتيان حكاية حال مضت.
قوله تعالى: ﴿ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ... (٤٢)﴾
وُجّه بأن الظن بمعنى العلم، وقال ابن عطية في غير هذا الموضع إن الظن لا يجوز بأَن يجعل بمعنى اليقين إلا في الأمور الفردية قلت له بل هو نظري لأن الأولين لا يعلمون إلا من علمهم الله فقال وكذلك أنت لولا أن الله علمك أن الواحد نصف الاثنين ما علمته. قلت له الله خلق لي إدراكا أعلم به ذلك [ما*] علمته إلا بواسطة خلق الله لَا الإدراك ولا [... ] بالوحي لَا بالإدراك العقلي هذا نظري.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ... (٤٥)﴾
ابن عرفة: الأمثل تقديم السبب على مسببه والإدراك النجاة فهلا قدم علتها؟ فأجيب بأن السبب قسمان منه مقدم في زمانه كتقدم الأب على ولده، وسبب مقدم بالذات كحركة الخاتم بالنسبة إلى حركة الإصبع إذا لو كان متقدما في الزمان للزم عليه تداحل الإحساس لكن ورد في الآية الحث على المبادرة وأنه بادر إلى النجاة [عبر*] الإدراك حتى أنه فعلها قبله.
قوله تعالى: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ).
وفيه [نقول*] إن الملك عبر عن تعبير الرؤيا بالفتيا، والملأ عبروا عن ذلك بالتأويل والأصل [فيه*] مقاولة، وليس [للقوم أن يجيبوه*] على وفق ما تكلم به، فأجيب بأنه قصد الرد على الملأ في كونهم سبقوا على الملك وأخرجوا رؤياه عن التعبير في الأحكام [الفاسدة* فأجابوه*] على وفق قولهم (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) قوله تعالى: قبل هذا (بضع سنين) انظر ما قال ابن عطية. قال القاضي في الإكمال في كتاب الفضائل على حديث ابن مسعود وفيه [فَلَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً*] وذهب ابن ثابت في روايتان مع العلم أن [ابن عباس زاد*] أن في البضع قولين آخرين أحدهما أنه من الثلاثة إلى الخمسة، والثاني أنه من السبعة إلى التسعة.
قوله تعالى: ﴿أَيُّهَا الصِّدِّيقُ... (٤٦)﴾
ابن عرفة: إنما ينادى الشخص بالوصف المناسب لمقتضى الحال فلا يقال: للفارس في الحرب يا كريم يا حليم، وإنما يقال له: يا شجاع فلذلك قال أيها الصديق إشارة إلى ما قد علمنا منك الصدق في مقالتك. قال ابن عرفة: وفي الآية سؤالان الأول: عادتهم يقولون من القواعد المعرفة في كتب العبارة أن الرؤيا إذا قال المعبر إنها أضغاث أحلام فإنه لَا يقدر أحد على تعبيرها فلم فسرها يوسف، وجوابه أن قول الملأ لم يكن لديهم علم تام بالعبارة بل كانوا [يعرفون مبادئها*] بخلاف يوسف. السؤال الثاني: قال سبع بقرات سمان وسبع سنبلات وقال اكتفى بالبقرات عن السنبلات والعكس فأجيب بأنه لو قال سبع بقرات سمان لأفاد أنها سبع سنين خصبة وسبع مجدبة، وكلٌّ [يكون*] حصدها في الزرع أو في الغلة أو في [**اللبن]، فقال سبع سنبلات ليدل على أن خصبتها إنما هي في الزرع، ابن عرفة: لكن يرد على هذا أن يقال هلا اكتفى بذكر سبع بقرات لأنها تفيد سبع سنين خصبة في الزرع فأجبت بأنها إذا كان حصادها في السبع الأول وجوب الأخرى في الطعام فقالا وبذلك على حد قوله تعالى: (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قال المفسرون يعصرون الزيت.
قوله تعالى: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).
أي يعلمون الصدق في قول (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) ابن عرفة: فيؤخذ منه أن غير الواحد يفيد العلم، وقال ابن العربي إن كان الَمراد لعلهم يعلمون مكانتك فالعلم عنها بدا وإن كان المراد لعلهم يعلمون صدقك فيكون بمعنى العلم، ورد ابن عرفة: بأنه لا يعلم مكانه حتى صدقه في الأمر، وفي تفسير الرؤيا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ... (٥٣)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منها عندي شيئان أحدهما أنه لَا ترجيح بين البينتين بالكثرة، والثاني: أن الأصل الجرحة حتى تبين العدالة [... ] إخراج الأقل من الأكثر يدل على أن أكثر النفوس أمارة بالسوء.
قوله تعالى: ﴿مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)﴾
أي ذو مكانة ومنزلة ابن مؤمن على كل شيء، ابن عرفة: حصول الفضيلة للإنسان والمزية على غيره بالعلم والعمل به فقوله (مَكِينٌ) ترجع للقوة العلمية كالصلاة والزكاة والصوم، وقوله (أَمِينٌ) ترجع للعلم أي عندك من العلم ما يتفضل لنا به والثقة بك واشتماله كل جميع الأمور، وذكر المفسرون أن ملك دخل عليه بالعبراني فلم يكن الملك يعرفها مع وجود أنه كان يعرف سبعين لسانا لم يكن هذا منها، ابن عرفة: ولا يؤخذ منها من الآية تعليم العجمية والألسن بمخاطبة العدو في الجهاد، وعند المقاومة ولا يجوز التكلم له بهذا مطلقا لأن فيه إجمالا وتدليل على من لا يعرفها.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)﴾
يجوز للإنسان أن يقول أنا فقيه إذا علم أنه لَا يلزم العجب والرياء، وقوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قالوا إنه لَا يحمل على ظاهره منهم، ومن قال ما من علم ولو كان أعلم النَّاس إلا وقد يجد ما هو دونه يختص عنه ويمتاز بمثيلة لَا يعرفها هو، ابن عرفة: ولا يؤخذ من الآية جواز خدمة الكفار فإن الملك كان قد أسلم. كذا قال المفسرون. قال وعلى تقدير إذا لو كان كافراً قال النقص الذي يلبي المسلم في خدمته للكافر تقابله الزيادة في إسلام يوسف لأنه كان نبيا فقد يقال أنه يؤخذ عند الجواز، ولو كان أسلم فإن إسلامنا ليس كإسلامه.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ... (٥٦)﴾
ابن عرفة: [إنما يشبه الأخفى بالأخفى*]، والتمكين في الأرض ليوسف على ظاهر معرفة كل أحد، وهو أظهر من امتناعه من زليخا، وتنجيته من السجن، ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الامتناع من زليخا من باب حفظ الأعراض، والنجاة من السجن من باب رفع المؤلم وتمكينه في الأرض من باب حفظ جلب الملائم، ورفع المؤلم آكد من جلب الملائم فكذلك جعل الأصل، وشبه هذا أنه قيل لابن عرفة، وهل تكون الكاف في ذلك للتعليل أي ولأجل حفظ عموم عرضه وخوفه مكنا له في الأرض فقال: لَا يعرف أن الكاف ترد للتعليل إلا إذا لم يكن يحتمل أن يرجع هذا ليوسف
392
والله تعالى لأن الخير من فعل الله والشر من فعل العبد، ابن عطية، وهذه نزعة اعتزالية، ابن عرفة: ليس باعتزال وإنَّمَا التفريق بينهما باعتبار الإرادة فالمعتزلة يقولون إن الله تعالى ما أراد الشر ولا قدره في الأزل ونحن نقول تعالى الله أن يكون في الله ما لا يريد، وأما باعتبار الفعل فلا فرق بين الخير والشر وهما من فعل الله عندنا ومن ثم من فعل العبد فإنما هذا كقوله (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، قلت: قال بعض الطلبة [... ] ابن عرفة: نجيب عن مثل هذا بأن من علم من حب الاعتزال إذا ذكره [... ] هو خلاف مذهبه بأنه يناول له ويرد إلى مذهبه والقاضي من كبار المعتزلة. قال ابن عرفة: والذي تعلقت به المسببة غير الذي تعلق به الأجر في قوله (أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) لأن إرادة الله كانت مرجح لما وجد ذلك المرجح إلا بإرادة، والإرادة الأخرى لَا بد لنا من مرجح بإرادة فيلزم التسلسل فإذا كانت الإرادة متساوية فالرحمة تصيب [الطائع والعاصي*] ولا تفاوت بينهما.
قوله تعالى: (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
فهو [... ] غير المحسن لَا أجر له فيلزم عليه تناقضه مع قوله (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ) أما أن المراد به النور المشتملة على المؤمن والكافر وأن الكافر منعم عليه في الدنيا حسبما قال ﷺ في حديث الإفك لعمر "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا"، وقال أيضا " [الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ*] ". قيل لابن عرفة: ليس هو منعما عليه لقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا). قال ابن عرفة: وإمَّا أن المراد بالرحمة الإيمان والخلوص من الكفر. قال ابن عرفة: ومنهم من قال [المؤمن*] منعم عليه في الدنيا والآخرة لأنه ما من عذاب يصيبه إلا في علم الله وقدرته [... ] ومنه قول المحسنين. انظر هل المراد الإحسان المذكور وفي حديث القدرة وهو أن تعبد الله كأنك تراه. قال [... ]: إن لم تكن تراه فإنه يراك، والمراد به بحور الهداية وهو أصوب لعمومه في جميع المؤمنين فهو داخل في باب الطمع والرجاء ويكون العصاة محسنين لأنهم آمنوا فالإحسان مجرد الإيمان. قيل لابن عرفة: هلا قال أجر الصابرين فهو النسبة لسياق الآية. قال علي بن أبي طالب: الصبر أساس كل عبادة فأجاب ابن عرفة: بأن الإحسان يشمل الصبر وغيره واختلف هنا نقل الزمخشري، وابن عطية. فقال الزمخشري: إن يوسف عليه السلام باع من أهل مصر الطعام بكل شيء حتى برقابهم بابتياع [... ] أعني أهل مصر عن آخرهم ورد عليهم أملاكهم، وقال [لابن عطية:
393
قوله تعالى: ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا... (٥٧)﴾
قيل لابن عرفة هذا دليل على أن المراد بقوله (أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الأمر في الدنيا فقال لَا بل في الآخرة، وأكد هذا قوله (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) إشارة إلى هذا حالهم الدائم إلى أن ماتوا كما إذا قال الصحابي كان محمد رسول الله ﷺ [يفعل*] كذا، وكان رسول الله ﷺ يفعل كذا فإِنه إشارة إلى حالته [**المتعرنن] فهو أبلغ من أن لو قال الذين آمنوا واتقوا وليتوفى عند ابن عطية مراده للإيمان، وعند الزمخشري والمعتزلة إنها أخص من الإيمان والقاضي عندهم غير متفق.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ... (٥٩)﴾
قال أفاد المجرور أنه الجهاز الآتي بهم مثل (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أو (عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا).
قوله تعالى: (بِأَخٍ لَكُمْ).
نكرة، ولم يقل بأخيكم لئلا [... ].
قوله تعالى: (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).
[ولم يقل وأنا خير منزل*]، وقال والموفين فأجاب بأن الإنزال والإكرام [عليَّ إذ هو عن غير معاوضة*] [والتوفية في الكيل*] أصلها عن عوض فإِذا كان خير المنزلين المعلمين المنزلين متصلا قادر على أن يكون خير الموفين فهو تنبيه بالأدنى على الأعلى.
وذكر ابن عطية هنا أن الصواع كان عند يوسف يختبر به بأن [ينقر*] عليه [ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم يوسف: صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب، طن يوسف الصاع وقال: كذبتم، ثم تغير لهم، وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك*] (١). ابن عرفة: هذا [... ] عليهم وتخويف وليس يوسف عليه السلام ممن يركن إلى ذلك.
قوله تعالى: ﴿فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠)﴾
قيل مرفوع، وقيل مجزوم فالمجزوم إما معطوف على فلا كيل، وإما أنه يعني لا نفي؛ ورده ابن عرفة. الأول قال معطوف حكمه حكم المعطوف فيكون الناقد رحل على الجواب ولا يصح جزم الجواب مع الفاعل؛ وأجيب بأنه معطوف على محل الفاء وما دخلت عليه ومحلها جزم.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ... (٦٢)﴾
(١) العبارة في الأصل مضطربة وبها سقط، والتصويب من (المحرر الوجيز. ٣/ ٢٥٨).
[وقوله لفتيته*] وارد على اتباع جمع الكثرة موقع جمع القلة وإما على أن قراه غنية روعي فيها مخاطبة خواص خدمه وقرئ [فتيانه*] وروعي فيها مخاطبة عموم خدمه ويصح إيقاع أحد الجمعين موقع الآخر مجازا.
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا).
أي يعرفون قدرها وقدر ما صنعت معهم فيها. قال ابن عرفة أيضا، وقال لفتيانه إذ أريد المباشرون بالخطاب وهم الخواص لجمع القلة وإذ أريد الممتثلون له وكل من بلغه ذلك إما مباشرة أو بواسطة فجمع الكثرة ابن عرفة مثبتا عنهم. إما على التوزيع أي اجعلوا بضاعة كل واحد منهم في رحله أو على نسبة المجموع للجموع.
قوله تعالى: (إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ).
غير في الثاني بالرجوع لأنه من قصد؛ لأن يوسف عليه السلام أراد رجوعهم إليه، وعبر في الأول بالانقلاب لأنه غير مقصود لأن يوسف لَا يريد انقلابهم إلى أهلهم.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ... (٦٣)﴾
عطفه [بالفاء*]؛ لظهور السببية وكذلك لم يعطف بها في قوله (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُم) لخفاء السببية.
قوله تعالى: (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ).
هل هو من باب القلب مثل كسر الزجاج الحجر فالأصل يقال منعنا من الكيل. قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول راعيت حالهم إنما عدلوا عن الحقيقة إلى المجاز لقصدهم المبالغة في المنع. فإن قلت، [وما كالوا لأنفسهم*]؟ قلنا منعوا من آخر [يريدون حظ أخيهم لغيبته*].
قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ... (٦٤)﴾
ابن عرفة: أنظن هذا كما يقال أن البلاء موكل بالنطق، وقد قال لهم في يوسف (وَأَخَافُ أَن يَأكُلَهُ الذَئبُ) فلما رجعوا إليه قالوا أكله الذئب.
قوله تعالى: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
فيحفظني [... ] ويرحمني من صبري على يوسف.
قوله تعالى: (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا).
قال ابن عرفة كان ابن عبد السلام يحكي أن الفقيه أبا العباس أحمد بن علي بن عبد الرحمن التماري ولي قضاء بجاية وكان بها عبد الحق بن معمر موثقا وشاهدا فجرت بينهما مكالمة ومناقشة ثم أخلي التماري عن القضاء مدة ثم أعيد إليها فلما قدم عليه، وخرج أهلها للقائه، وفيهم عبد الحق سمعه القاضي وهو يقول (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) فقال له القاضي (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا) قال ابن عرفة وإنَّمَا فسرنا البضاعة بالدنانير والدراهم فيؤخذ من الآية [... ].
قوله تعالى: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ... (٦٦)﴾
استشكل الزمخشري هذا الاستثناء أجاب بأنه مستثنى من أعم العام أي لَا تتركن في حال من الأحوال إلا في حال الإحاطة بكم فالترك عام لنفسه بلا، وقوله في جميع الأحوال عموم آخر واستثنى هذا من أعم العام وهو الأحوال ونحوه.
وللزمخشري في سورة الأحزاب في قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفا)، وقوله (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) [... ].
قوله تعالى: (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ).
قيل له لم أضاف الموثق إليهم وإنَّمَا هو موثق يعقوب فالأصل أضافه إليه ليفيد حينئذ أنهم آتوه موثقهم اللائق به وأجاب أن موثقا غير مصدر لمطلع ومذهب تلك إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول، وقد قال ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب في كتاب [... ]، وحكى فيه حكاية الأول.
قوله تعالى: ﴿لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ... (٦٧)﴾
وقيل لابن عرفة ما يقال إن كان يقسمون نصفين ويدخلون منها بينها فإذا لأمرائهم بأن يدخل كل واحد من باب؛ فإِن قلت هلا قال ادخلوا من أبواب متعددة؟ قلت التفرق يقتضى بعد ما بينهما بخلاف التعدد فهو أبلغ في حصول مراده. فإن قلت هلا أمرهم بالدخول واحد بعد واحد من باب واحد قلنا تفرقهم في الأمكنة أشد عليهم من تفرقهم في الأزمنة [والوجود يشهد له*].
قوله تعالى: (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).
أي القائلون للتوكل لئلا يلزم منه تحصيل حاصل. قال ابن عطية التوكل أقسام أحدها [توكل مع تسبب*]، ابن عرفة وبين [... ] ولا يخرج لقوله (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا).
قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ... (٦٨)﴾
[بالدخول*]؛ لأن حيث لَا يضاف إليها ظرف يكون محلا للفعل العامل فيها وأمر ليس محلا للدخول وإنَّمَا محله متعلق وأمر بالدخول من أبواب مفتوحة فأطلق الأمر على متعلقه مجازا لأن المراد (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ)
قوله تعالى: (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ).
أي دخولهم غير قابل لأن يغني عنهم شيئا لأن اقترانه بكان يدل على نفي القول قلت لأن هو لَا يغني شيئا مطلقا دخلوا من حيث أمرهم أو لَا فقال هو تنبيه بالأعلى على الأدنى لأن هذا دخول اختاره لهم أبوهم وتوخاه فإذا لم يغن عنهم شيئا قادرا أن لا يغني عنهم غيره.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ... (٧٠)﴾
قال ابن عرفة عطف الأولى بالواو بعده بفاء السبب بسبب ما وقع من المقاولة بين يوسف وأخيه المتضمنة [... ] بنية السرقة إليه حرصا على عدم مفارقة. ذكرها الزمخشري والظاهر أن هذا الجهاز أكثر من الأول [لوجوه*]: منها أن الكريم إذا كره الإعطاء يزيد وغيره يقطع، وأيضا فإن قدومهم الثاني محصل له [المعرفة بهم*] (١). قوله (جَعَلَ السِّقَايَةَ) أي أمر من جعلها إذا الغالب أنه لَا يجلس في مجلس الطعام ولا يجول إليه [لئلا يفطن*] (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ) قال الزمخشري: ومنه المؤذن لكثرة ذلك عنه وتبعه في ذلك أبو حيان المختص، وقال: إن التضعيف للمبالغة والتكثير، ورد ابن عرفة بأنه إنما يكون للمبالغة في فعل كفتح من فتح كان متعديا لواحد فلم يزده التضعيف تعديا فساد تضعيفه للمبالغة لأجل زيادة الحرف، وأما هذا فوزن أذن فعل ووزن أَذن أفعل وكلاهما رباعي فلم يزده التضعيف فإن المبالغة قبله لعلم في أذن بالتخفيف فقال لَا يقال أذن وإنما يقال في الثلاثي أذن قلت ووافق الحق لابني وابن القصار على هذا التضعيف، قال الخولاني: أذن وزنها فعل كأعرب وليس وزنه فاعل لأن الهمزة الأولى زائدة والثانية أصلية، وأصله أذن فهملت الثانية، وأما أذن فوزنه فعل لأن الهمزة الأولى أصلية لأنه مضاعف وأحد الحرفين المدغمين زائدا وأقل الأصول ثلاثة فلابد أن تكون الهمزة أصلية فصح أن وزنه فعل فالفعلان رباعيان فأين فائدة التضعيف، وإنما كانت الهمزة الثانية في أذن أصلية لتوافقها في الاشتقاق أو خوص الأذان والأذان انتهى.
قلت: ونظرته مع صاحبنا ابن القصار حفظه الله في المنع لابن عصفور فوجدناه ذكر لأفعل أحد عشر معنى وأفعل ثمانية معان أحداها أن يكون للتنكير، قال: وذلك
(١) في المطبوع العبارة هكذا:
"أنال المعرفة بهم".
في فعل المضاعف من أفعل كفتح من فتح، فكلامه مصحح لما قال شيخنا الإمام أبو عبد الله محمد ابن عرفة حفظه الله. قلت وفي صحاح الجوهري: [أذن لها في [الشيء*] إذْنًا [يقال: ائْذَنْ لي*] على الأمر، وأذن يعني علم، ومنها (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وأذن له أذنا أسمع.
قال الشاعر:
إن أرض مصر لَا يتقرر عليها ملك لأنه قال مت نفسه] وروى ليوسف عليه السلام [ ] في الملك السنين أموال النَّاس [لم أملاكهم] فمن هنالك وليس لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك.
صمٌّ إذَا سمعُوا خيراً ذكرتُ بهِ وإنْ ذكرتُ بسوءٍ عندهمْ أذنُوا
قلت يذكر أذن بوجه، إنما ذكر أذن قال ابن [عرفة*]: كان بعضهم يقول لَا يقال قام زيد إذ لا فائدة فيه فما فائدة قوله (فَآفنَ مُؤَذِنٌ) فأجيب بأنه إن المراد أذن رجل ومادته الإعلام والمقاولة، وإما بأنه يجوز أن يقال قام قائم لمن هو متوقع ذلك ومنتظر له وقد كان يوسف وأخاه ينتظرانه.
استشكل الفخر إطلاق السرقة عليهم مع أن يوسف ما أمر بذلك أو علم به وأذن؛ وأجاب إما بأن حملهم لرحل أخيهم وفيه السقاية تشبه بفعل السارق، وإما بأنه من تسمية الكل [وإرادة البعض*]. وقيل لابن عرفة حفظ الأعراض واجب فكيف رضي أخو يوسف قذفاً عليه؟ فقال ليس واجب لاسيما على أحد القولين في أن القذف حق للمقذوف فإذا عفى عن قاذفه صح وسقط الحد، قوله تعالى: (نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ... (٧٢).. قال الزمخشري: [وقرئ: صواع، وصاع، وصوع. بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة*]، ابن عرفة يريد معجمة في اللغتين لفظتين فقط وهما [صواع وصوع*] كذا في طي كتاب الزمخشري، وقيل إن الصواع كان مستطيله أشبه [بالمكوك*]، قلت وسمعت ابن عرفة ينطق به بتخفيف الكاف. الزمخشري: وقيل هو المكوك الفارسي الذي يلقى طرفاه، ابن عرفة: وقيل إن الصواع كانت من مَسك بفتح الميم، وهو الجلد والمِسك بالكسر الطيب المعروف.
قوله تعالى: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ).
قال [ابن العربي: يؤخذ من الآية [جَوَاز الْإِجَارَةِ*] واتفقوا على ذلك إلا الأهم وهو من الشريعة أهم] وجواز الجعل وجواز [الجعالة*] لقوله (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) إن الإجارة والجعالة متباينان وهذه مثله [... ] فالثابت فيها أحد السندين لَا كلاهما أعني إما الإجارة أو الجعالة فكيف يؤخذ من الآية جوازهما معا. قلت أنا له يؤخذ منها جواز الجعل وقد قال مالك في كتاب الجعل والإجارة كلما جاز فيه الجعل جازت فيه الإجارة، والفرق بينهما أن الإجارة من شرطها ضرب الأجل وإن منعه من التمام مانع فلا شيء له. ابن عرفة: وفي الآية لأن أحدها قال في كتاب الغرر من المدونة لَا يجوز أن يقول
398
له أبيعك ملء هذه الغرارة لأن طيها مجهول، وهذا في الآية جعل وشرط الجعل أن يكون المجعول له معلوما، وأجيب بأن حمل البعير معلوما عندهم أنه قفيزان أو نحوهما. الثاني أن المجعول عليه من شرطه عند مالك أن يكون فيه شفعة، وما به للجاعل فلا يجوز [أن يجعل لرجل دينارا*] أو يقول من [يخبرني*]، بموضعه فله كذا لأنه عاجز بموضعه وكذلك لَا يقول لرجل اطلع هذا الجبل أو هذه الصخرة ولك كذا لأنك لَا تنتفع في طلوعه بشيء نص على ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل، وذكر فيه قولين وذكر ابن يونس في فروع زادها في آخر كتاب الجعل والإجارة.
قال ابن عرفة: أيضا الأصل في جواز الجعالة [(وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) *] فهذه حالة الوجه أما الآية الأولى فقال المازري في شرح التلقين لا يتم الاستدلال بها إلا على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا حتى ينفع في شرعنا ما ينسخه ولم يقع ما ينسخ جوازها له بل ورد ما يؤكدها.
ابن عرفة: وكان ابن عبد السلام يقول ليس في الآية دليل مطلقا وقلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أو لَا قال لأن مذهب مالك مخالف لمقتضى الآية لأن الجعالة عنده لا تجوز إلا على ما فيه منفعة للجاعل، وهذا لَا فائدة له فيه فنحن نقول كان يكون جائزا في شرعنا لجوازه في شرعنا إلا أنه ورد عليه النسخ بدليل مسألة الجعالة فيمن أخفى ثوبا، وقال من يخبرني بموضعه فله كذا لَا يجوز عند مالك. قال: لَا [... ] إلا ابن عرفة، وكنا نحن نجيبه بأن الآية اشتملت على أمرين على حمالة وجهالة أننسخ فيها حكم الجعالة، وبقي حكم الحمالة قائماً يرد في شرعنا ما ينسخه. قيل لابن عرفة: الحمالة في الآية منه على الجعالة فإِذا انتسخ الأصل [انتسخ*] الفرع فقال فنقول إن شرع من قبلنا شرع لنا فيما ورد فيه نسخ دون ما عداه. ابن عرفة ويفتقر إلى سؤال في الأبد من هذه [... ] ليست بحمالة وإنما على التزام على تقدير، وقيل لابن عرفة: ليس هذا عنه، وإنما نظير الآية يقول لك أي [... ] إنما قيل لك عنه [**بدينا] فقال ليس عندكم أن الحمالة يشترط فيها رضى المحتمل عنه بها فقال [... ] يدلنا على أن يوسف عليه السلام علم بذلك ورضي به فما قاله ذلك الرجل إلا بعد علمه ورضاه فقال الآية محتملة أن يكون يوسف أمره بذلك أو لَا إذا احتملت احتمل سقط الاستدلال وعلى تقدير ثبوت الأمر فهل أمر بحمل بعير أو أقل أو أكثر أو لم يعني له شيئا.
ومذهب [... ] أنه لابد من التفسير وأيضا قال قائل ذلك حمل من اعتبر يوسف غير معصوم فلا يحتج بقوله فقال قد [تقرر*] وثبت أن صدور الحكم من [... ] لَا يتنافى زمانهم إذا اشتهر به وانتشر ولم ينقل عنهم إعادة أنه تنزل منزلة إقراره له نصا؛ فإِن قلت
399
ما [فائدة قوله*] (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) بعد قوله (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) قلنا حقيقة أن يتوهم أن الملك لَا يرضى بذلك ولا [... ] لمن جاء بالصواع.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ... (٧٣)﴾
ابن عرفة: هذا يسميه البيانيون المذهب الكلامي وهو الإتيان بالدعوى مصاحبة بالدليل وعلى طريقة المتكلمين لذلك سموها المذهب الكلامي، الزمخشري: ثم دخلوا على [... ] من حصيد النَّاس.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ... (٧٥)﴾
فهو جزاؤه قيل خبرا مبتدأ ومن وجد مبتدأ ثاني خبره فهو جزاؤه والجملة كلها خبر جزاؤه الأول، ابن عرفة ورده أبو حيان بعدم الرابط؛ [وأجيب بأوجه*] الأول، لابن عرفة: الرابط الضمير المضاف فهو جزاؤه لأنه عائد على المكان إلى جزائه الأول أي فهو جزاء السارق أو فهو جزاء ذلك الفعل، وقد ذكر النحويون في أقسام الضمير الرابط أن لَا يكون ضميرا ما عائدا على ما اتصل بالمبتدأ مثل غلام الجارية صديقها وهذا هنا عائد على ما عاد عليه الضمير المتصل بالمبتدأ قلت: قال ابن القصار: هذا جائز عند الأخفش واستدل له بقوله:
وَذي إخْوَة قطعت أَقْرَان بَينهم... كَمَا تركوني وَاحِدًا لَا [أخا ليا*]
فأعاد الضمير في بينهم على المضاف إلى الموصوف بتلك الجملة وظاهر كلام سيبويه المنع لأنه منع الربط مثل زيد [... ]، أبو عبد الله فأحرى هذا. الثاني: لابن عصفور في شرح مقربه في عدم الموصولات أو المبتدأ ذكر هذه الآية وقال: الرابط لفظ الجزاء [كرر*] مثل زيد قام زيد، فردها ابن عرفة: بأن الخبر الثاني غير الأول، قلت: أراد بالأول عقوبة الفعل، وبالثاني غير الأول، قلت: محل العقوبة.
قوله تعالى: [(وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ) *].
نقل أبو حيان أنه يجيز [الوقف*] على قوله (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) يكون (جَزَاؤُهُ) الأول خبر مبتدأ مضمرا في المسئول عنه جزاؤه، قال المختص: فيه لَا فائدة فيه لأن قوله (فما جزاؤه) يغني عنه، ابن عرفة: ويحتمل أن يجاب: بأن قوله [(فما جَزَاؤُهُ) أفاد فائدة*] يضمن إحديهما بالمطابقة وهي السؤال [عن*] نفس الجزاء، والآخرة [يضمن*] وهي السؤال عمن أضيف إليه الجزاء؛ لأن الجزاء تارة يضاف إلى السارق لَا عن جزاء غيره؛ فقوله المسئول عنه جزاؤه إذ وإن السؤال الحقيقة إنما هو من جزاء السارق وهو الذي اقتضى السؤال الأول بالتضمن أي المسئول عنه جزاء السارق من حيث هو
جزاؤه لَا الجزاء من حيث هو مثل ما إذا سألت عن قيام زيد فأنت سائل عن زيد القائم بالتضمن وهذه فائدة دقيقة [فتأملها*] [**نصب أن إما الله تعالى] قوله: (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ... (٧٧).. ابن عرفة: [لما أتوا بالمضارع*] صار جواب الشرط ماضيا لفظا ومعنى لتحقق [علمهم*] [ونكروا (أَخٌ) ليأتوا*] مع الضمير بلام الاختصاص على جهة التبرئ منه والبعد عنه أي (أَخٌ لَهُ) فقط لاعتقادهم أنه يشاركه في السرقة [التي لم تم براءته منها*] قوله (فَأَسَرَّهَا) إضمار على شريطة التفسير، وفسره قوله (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) الزمخشري: [أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً بدل من (أسرَّها) *] واستبعده ابن عرفة لقوله: (وَلَم يُبْدِهَا لَهُمْ).
قوله تعالى: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا... (٨٠)﴾
أي [**نعت لقد رأي نومه (نَجِيًّا) أو يصدر] فيتعارض فيه المجاز والإضمار [ولأبي سعيد*] شارح سيبويه أنه جمع [أَنْجِيَةٍ*] فهو جمع الجمع.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ).
أضاف الأب إليهم دونه لَا يساعد من الرجوع إليه أو لأنهم لم يحزنوا لحزنه.
قوله تعالى: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ).
أي فلن أفارق الأرض مفعول له (١) لأن الفعل لَا يتعدى إلى ظرف المكان المختص إلا بواسطة في قوله: (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) فإن ظاهره أنه جعل قسم الشيء قسما له؛ لأن إذن الأب إنما هو بحكم الله، وأجيب: بأن المراد أو حكم الله لي بغير ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا... (٨٢)﴾
سؤال القرية إما حقيقة فيكون خرقا للعادة لأنه شيء [وردَّه*] ابن عرفة: بأن الأمور الخفية لَا تحتاج فيها لسؤال ما لَا يعقل لإطلاعه على الغيوب بالوحي، وإما أن يراد وَاسْأَلِ أهل القرية بنكرة سيبويه، أو له كناية، [وقيل*] القرية اسم للجماعة، ابن عرفة: فإن قلت: لم قدم سؤال الغير والمناسب العكس لأن الغير أقرب إليه وأهون وإنما يبدوا في الأمور لحين فالجواب: أن هذا أبعد عن التهمة إشارة إلى نعم السؤال فإنه إذا ابتدأ بالآباء قد يكون تنبيها منهم بأول مهلة على عدم الافتقار على من قدم معهم بخلاف ما لو بدءوا بالقادمين معهم فإنه قد يتوهم أنهم أرادوا الاقتصار على سؤالهم فقط.
قوله تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ... (٨٣)﴾
(١) في الكتاب المطبوع العبارة هكذا [ولأمر] ولا معنى لها، ولعلها زائدة، ومن ثم تم حذفها.
ذكر ابن عصفور في الشرح الكبير عن الجمل أن هذه الآية مما يجوز فيها حذف المبتدأ وإثباته وحذف الخبر وإثباته، قال: والتقدير فأمري صبر جميل أو فصبر جميلا مثل لي. قال الخولاني: وهو خلاف ما قال ابن هشام في شرح الإيضاح وابن مالك فإِنهما قالا لَا خلاف أن المصدر المنصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره إذا ارتفع على الابتداء يجب حذف خبره ولو ارتفع على الخبر أوجب حذف مبتدأيه كقوله:
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ [السُّرَى*]... صَبْرًا جَمِيلا فَكِلانَا مُبْتَلَى
على رواية من رواه صبر جميل (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ... (٨٤)... إن قلت: كيف تأسف على يوسف وأن فيه مع تقادم عهده كان مضيا عنده [... ]، وأجاب ابن عرفة: بأنه عليه السلام كان يظن أن يوسف هلك حسبما ذكره الزمخشري أنه [رأي*] ملك الموت في النوم فسأله هل قبضت روح يوسف فقال لَا وأخوه بنيامين قد أخبرني أنه محبوس وقالوا له: إن يوسف أكله الذئب وتأسف الإنسان على من مات وانقطع منه أشد من تأسفه على من هو حي محبوس يرجو رجوعه ويطمع فيه.
قوله تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ).
إن الحزن سبب في البكاء إذ البكاء سبب في الحزن، [البياض فهو من إقامة **المسبب مقام السبب].
قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا... (٨٥)﴾
ابن عرفة: القسم على الأمر المحقق جاز بلا خلاف واختلف في القسم على المظنون واختيار ابن الحاجب، لأنه قال: ومن حلف على ما شك فيه فتبين علاقة [... ] سلم، قلت: والظاهر أن الظن كذلك وهو أنهم أقسموا على أمر مظنون أو لم يكن منه شيء لأنهم أقسموا على أنه لَا يزال فيما يستقبل من الزمان يذكر يوسف حتى شارف الهلاك أو يهلك وهو لم يهلك بذلك ولا شارف الهلاك، لأن حزنه هذا لم [يبق*] هذه إلا يسيرا، واجتمع [بيوسف*] فإذا كان حزنه الماضي على طول زمانه وهو ثمانون سنة لم يهلك به ولا [شارف*] الهلاك فأحرى هذا، قيل له: إنه اتصاف إلى ما حكى فصار كثيرا وانضاف إليه حزنه على الأخوين الآخرين، فقال: إنما المعتبر ما أقسموا عليه وهو يوسف.
قوله: (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) (أَوْ) مانعة الجمع فقط [وليست مانعة الجمع والخلو*].
قوله تعالى: ﴿فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ... (٨٧)﴾
انظر في آل عمران في قوله (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) قال الجوهري في الصحاح: وتحسست من الشيء أي [تخبرت خبره*] وحسست له أحِسّ بالكسر أي رفعت له وحسست بالخير وأحست به أي تعقبته وقال زَيْد بْنُ [صُوحانَ*] حين [ارْتُثَّ*] يوم الجمل [ادْفِنوني*] في ثيابي ولا تحسوا عني [تُراباً، أي لا تَنْفُضوه]، ابن عطية: [فَتَحَسَّسُوا*] أي استقصوا [ونقروا*] [والتحسس الشيء بالحواس من البصر والسمع*]، وقوله (من يوسف) متعلق بمحذوف يعمل فيه (تحسسوا) حقيقة من أمر يوسف، أبو حيان: وفيه [نظر*] لم يبين [وجهة*] النظر، فقال ابن عرفة: لعله يريد [أن مِن هنا بمعنى عن*] لأن هذا إنما يتعدى باللام أو بمن قلت وهذا لَا يصح لأن الجوهري قال في الصحاح وحسست عن الشيء تخبرت خبره.
قوله تعالى: ﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ... (٨٨)﴾
إن قلت: قال في سورة الأنبياء (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأكد أيوب شكواه بأن هؤلاء لم يؤكد وأن المناسب كان العكس لأن هؤلاء يخاطبون يوسف الذي لَا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه وأيوب يشكو لحاله إلى الله تعالى العالم بخفيات الأمور، فأجيب: بأن سبب الشكوى في أيوب أشد من سبب الشكوى في إخوة يوسف لكن لما ورد أن الدود أكل جميع بدنه حتى وصل إلى قلبه [... ]، الزمخشري قيل: [إنها الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: المقل*]. ابن عرفة ودهن المقل.
قوله تعالى: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ).
ابن عطية: يؤخذ عنه أن الكيل على البائع ولو كان على المبتاع لقالوا فاسمح لنا بالوفاء في الكيل، وقال مالك: الكيل على البائع، وقال فيما إذا قطع يد رجل أو رجله أنه ليس له أن يلي القصاص لنفسه بل تنبيهه من له. [... ]. بذلك قال مالك: وجزاء ذلك النائب على المقتص له ومذهب غيره أنه المقتص فيه، وحجة مالك: أنه بنفس الجنايات صارت اليد للمجني عليه وأجره قطعها عليه وحجة المخالف أن المجني عليه يقول للجاني أعطني يدا عوضا عن يدي ولا يمكن إعطاؤها إلا مقطوعة فبغى فيها حق التوفية وهو القطع، ابن عرفة: فجعل مالك الجزاء [... ]، المالك على المقتص له ومذهب غيره الحق للمجني عليه فيها قبل القطع بدليل أنه في أوسط كتاب الديات
فمن قطع يد رجل أو فقأ عينه فقطع آخر عين القاطع إن قبل المجني عليه أن غيره من يفعل في القاطع الجزاء أو نص في الخصوم بأحد الفعل في الخطأ فهذا يدل على أنه تعلق هذه بها قبل القطع.
قوله تعالى: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ... (٨٩)﴾
قلت لابن عرفة: فرق بين الاستفهام، أبو جعفر [... ] هذا السؤال هل الهمزة في تفيد له محطة بأن هل لَا يسئل هنا إلا الجاهل والهمزة يهملها من بين من لَا يعلم ومن يعلم على سبيل التقرير والتوبيخ رده بقوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: إلا أن يريد أن (هَلْ) الاستفهام من الهمزة لكثرة حروفها، قلت: وقال صاحب الإسناد أبو العباس أحمد ابن القصار المعروف أن (هَلْ) في الاستفهام بمنزلة قد في الخبر أعني أنها لَا ينال بها إلا عن شيء متوقع، وهذا قد تلخص للتوقع إذا دخلت إليها همزة الاستفهام وأنشدوا...............
سَائل فوارس يَرْبُوع بشدتنا... أهل رأونا بسفح القاع ذِي الأكم
قوله تعالى: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ... (٩٠)﴾.. قدره الزمخشري: (إِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ) فأنت يوسف، وابن عطية: إنك غير يوسف أو أنت يوسف.
قوله تعالى: (قَالَ أَنَا يُوسُفُ).
احتج بها ابن مالك على أن العلم أعرف من المضمر لأن الخبر محل الفائدة إما يعرف الشيء بما هو [أجلى منه*]، ابن عرفة إن أراد الإعراف قبل الإخبار علم وليس هو كذلك في الآية وإن أراد الإعراف بعد الإخبار فليس هو مراد النحويين بقولهم أن هذا الشيء أعرف من هذا الشيء لأن خبر المبتدأ عندهم لَا يكون إلا مجهولا فلا يعتبر معلوما إلا بعد الإخبار.
قوله تعالى: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا... (٩١)﴾
ابن عرفة: إن قلت: لم أكدوا هذا بالقسم وهو أمر واقع محقق، وأجاب: بأنه لما كانت فيه غرابة بوقوع الإخبار على خلاف ما كانوا يظنون، أكده بالقسم والأثرة في الدنيا بالصبر على المنزلة، وفي الآخرة بكثرة الثواب وحمله الفخر على الدنيا فقط، وقوله (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) قال: والتفضيل نوعان فتفضيل يوجب الخزي للمفضول [كتفضيل المسلم على الكافر*] وتفضيل لَا يوجبه كتفضيل الأعلم على العالم فلما قالوا: (لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ) أي فضلك الله، أجابهم يوسف بأن ذلك التفضيل لَا يوجب لهم تحريما ولا نقيضه؛ بل ثم نزل منزلتهم شريفة.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ... (٩٤)﴾
ابن عرفة: جعل خروج (الْعِير) موجبا لوجدانه ريح يوسف، وليس كذلك إنما الموجب خروجهم بالثوب فوجدان الريح من لوازم الخروج بالثوب لَا من لوازم مطلق الخروج فلم عدل عن اللازم النسبي إلى اللازم الأعم، قال: والجواب: أن [ذلك مبالغة في وجدان الريح*]؛ لأنه إذا كان الموجب له مطلق الخروج للسيارة فأحرى أن يوجبه الخروج بالثوب، فإن قلت: لم قال (لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) وهلا قال [أشم*] ريح يوسف؟ والجواب: [قال هو أبلغ لأن الوجد يكون*] بالقلب والتذكير [**ويرويا يوميه] فهو أضعف من الشم، قلت: جواب بوجهين: الأول: أن هذا من وجه أن المسألة إشارة إلى أنه وجد فسألته التي كاد يجب عليها، والثاني: أنه تلطف في الإخبار بما يدل على مبادي الشم ولو صرح لهم بالشم لبالغوا في شدة الإحكام عليه وكان بعضهم يحكي عن سيدي أبي محمد عبد الله المرجاني أنه كان يقول: ما يدرك [عادات الصديق إلا صديق لَا يعرف دلائل الولي إلا ولي*] لَا يستلذ برائحه المسك كاستلذاذ الخضري بها والخضري العطار ضده أنفس مما هو عند غيره لعلة يقدرها فيوسف وإن كان صديقا نبيا، وأبوه يعقوب كذلك فلذلك أدرك مماثله [وأماراته*] ولم يذكرها أحد من أهله الذين معه لأنهم ليسوا بأنبياء إذ هم حفدته وقرابته [وإما أساءوه فلم يجد*] حينئذ منهم أحد بل كانوا عند يوسف].
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)﴾
[**إنما قال جهدته والآية عد من قرابته وهم غير معصومين؛ لأن النبي لَا يتصف بالضلال ولا ببينة لَا يجوز عليه] وفيه دليل على أن هذا لما كان يقال للأنبياء من أهلهم وغيره لأنه أصيب في ولده بسببهم، وهم مع ذلك ينكرون عليه حزنه.
قوله تعالى: ﴿أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ... (٩٦)﴾
الزمخشري: طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو الفاعل يعقوب، ابن عرفة: طرح أي ألقاه على وجهه بلين ورفق (أَلْقَاهُ) أي وضعه على وجهه من بعد وكلاهما [قوي*] وقوله: (إِنِّي لأَجدُ رِيحَ يُوسُفَ) لَا يبعد أن يكون جواب قسم مقدر لأنه فهم عنهم الإنكار وقوله: (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أن (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لما رأيتكم في ذلك الزمخشري: (لَوْلا) تفنيدكم لصدقتموني ورده ابن عرفة: بأنه بمعنى الأول فلا فائدة فيه، أبو حيان لولا تفنيدكم لقلت لكم أجد ريح يوسف، ورده ابن عرفة: بأنه قد قال ذلك قال ولهذا كانوا يفندون على الحريري في قوله في المقامة الدينارية:
وحقِّ موْلًى أبدَعَتْهُ [فِطْرَتُهْ*] لوْلا التُّقَى لقُلتُ جلّتْ قُدرتُهْ
وقال: ذلك مما أحرز منه وقع فيه إلا أن يجاب بأن المراد لقلت جلت قدرته وعظمته معتقدا ذلك.
قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧)﴾
إن قلت: خطابهم عام في الاستغفار والأصل تقديمه، والجواب: أنه أخر قصد العموم والاستغفار من ذلك الذنب وغيره فلذا قالوا: (ذُنُوبَنَا) ولو قدموا السبب لكان في ذلك الاستغفار [مقصور*] على سببه، فإِن قلت: يوسف دعا بالمغفرة في الحال، فقال (يغفر الله لكم) ويعقوب [وعدهم*] بالدعاء بها فقال: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨).. فما السر في ذلك؟ فالجواب: أن يوسف لشدة ما فعلوا به مع ما [... ] له لأن من الملك [... ] أن يقع عندهم منه هلع [**وجوب أن هو وعدهم بالمغفرة ولم يخبرهم ذلك لهم في الحال] فلذلك (قَالَ لَا تَثرِيبَ عَلَيْكُمُ) وأما يعقوب فهو من أمره في أمن ومعاتبة. فإِن قلت: هلا قال (أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) ربما فهو أقرب لإيقاع الأمن والطمأنينة لهم، قلنا: أضافه إلى نفسه لاختصاصه حينئذ بفرصة منه حيث جمع عليه [... ]، فإن قلت: حذفه من الجملة الأولى ما ذكر في الثانية وهو المفعول الأول لاستغفر، ومن الثانية ما ذكرِ في الأولى وهو المفعول الثاني لاستغفر فالأصل استغفر لنا ربنا ذنوبنا (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [ذنوبكم*] فما السر في ذلك.
قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
إن قلت: الرحمة سبب المغفرة لأنه إذا [حن*] له ورق عليه ستره، والأصل تقديم السبب، والجواب من وجهين: أنه قدم للاهتمام تقديم المغفرة، وإما [لذكر*] الرحمة مرتين أولا باللزوم وثانيا بالمطابقة، قال ابن العربي في رحلته بل في قانون التأويل بل سمعت بعض الزهاد يقول: إن الله رد على موسى أمه في لحظة، ورده يوسف على يعقوب في مدة طويلة قال فيه سبعة أوجه من الحكمة، الأول: أن أم موسى كانت ضعيفة لأنها أنثى وكان يعقوب قويا لأنه ذكر، الثاني: رمي موسى كان من الله، وذهاب يوسف كان من النَّاس لأنه استحفظه إخوته فخانوا فيه فأدب لأن لَا يستحفظ أحد غير الله، الثالث: أن أم موسى وثقت بوعد الله، ويعقوب بقي يرجى شفقة الإخوة، الرابع: أن أم موسى وعدها الله بإنجازه وعده، ويعقوب لم يكن له من الله وعد، الخامس: أن موسى رمي صغيرا فسبب إليه كفيلا، السادس أن يوسف لو قال حين أخرج من الجب أنا حر وابن نبي وهؤلاء إخوتي وهذه قريتي لما اشتروه ولكنه
استسلم فأسلمه الله تعالى إلى الحكمة، السابع: أن إخوة يوسف [قالوا*] (اطرَحُوهُ أَرْضًا) والأرض [أم الآدمي ومقره*] فلم [يلق بمضيعة*]، وموسى رمي في البحر فلم يكن له [بدٌّ*] من هلكته أو نجاة، فكانت النجاة السابقة في علم الله.
قوله تعالى: [(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ*]... (٩٩)
ابن عرفة: قال: أولا فلما دخلوا عليه فأضمره لتقدم ذكر يوسف بالقرب وهنا لما بعد ذكره ووقع الفصل ليعقوب أظهره، وأيضا فإِن يعقوب هنا أول ما دخل عليه خلاف الأول فإِن [الأول*] تكرر دخولهم عليه، ابن عرفة: وكان بعضهم يقول إذا قلت: لما قام زيد قام عمرو يكون نصا في أن الأول سببا في الثاني، وإذا قلت: قام زيد فقام عمرو وقد يكون الأول سببا وقد لَا يكون والدخول ليس بسبب حسي.
قوله تعالى: (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ).
يحتمل أن يريد مجرد الدخول فقط أو الدخول والسكنى [والإقامة*] وصيغة افعل هنا للإكرام [والمشيئة للتبرك*].
قوله تعالى: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا... (١٠٠)﴾
ولم يقل ساجدين لأن إخوته أحد عشر مع أبويه فلذلك غير [جمع الكثرة*].
قوله تعالى: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ).
أي هذا مدلول تأويلها، قالوا: والمجرور متعلق برؤياي، وقيل: تأويل ابن عرفة معلقة بتأويل بني على صحة أن الرؤيا كانت قبل التأويل بهذا ولم يرد في ذلك حتى صحح.
قوله تعالى: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي).
الإحسان أكثر من الإنعام لأنه مشتق من الحسن فالشكرية أقوى، فإِن قلت: فهلا قال في الفاتحة صراط الذين أحسنت إليهم لأنه دعاء، وإنما يدعو الإنسان بالوصف [... ]، قلنا: الإنعام هناك قدر مشترك بين [... ] المسلمين والطائعين منهم وأتى فيه بالمعنى الأعم الذي اشتركوا فيه بخلاف الإحسان فإِنه لم يحصل لجميعهم وهو المفسر في الحديث بقوله "أن تعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك"، قيل لابن عرفة: دلالة في أنهم ما خروا له سجدا إلا بعد دخولهم مصر، ولم يسجدوا له عند أول [... ]
فإنهم له مع أنهم كانت تحيتهم السجود، فقال: لأنه خرج هو وفرعون [مصر عن ملكها*] فأخَّروا السجود حتى انفردوا بيوسف وحده.
قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
قال الفخر: احتج بها المعتزلة على أن الشر ليس مخلوقا لله ولا أراده، وأجيب: بأن إسناده للشيطان تأدب منه، وعلى مذهب الأشعري القائل بالكسب كما نقول قتل زيد عمراً وأفاد ذلك من فعل الله، ابن عرفة: وفي هذا احتراس روعي منه [**لستر إخوته] ويحتمل أن يقول بكون قوله (من السجن) تورية وإيماء للجب لصدقه على السجن الحقيقي بالمطابقة وعلى الجب مجازا.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ... (١٠١)﴾
ابن عرفة: إن قلت لم ذكر متعلق لعلم ولم يذكر متعلق الملك، فالجواب: أن الملك كله في نفسه شريف فلذلك لم يحتج أن يقول رب قد آتيتني ملك مصر والعلم منه الشريف والساقط فلذلك ذكر متعلقه، فإن قلت: لم قدم الملك على العلم، والأولى العكس لوجهين أحدهما: أن العلم أشرف لأن الملك أمر [دنيوي*] والعلم موصل إلى الآخرة، الثاني: أن العلم سبب في ذلك لأنه به حصل له الملك وهو تأويله لرؤيا الملك، فالجواب: أنه قصد في الآية التي في ذكر الأوصاف النسبية في محل الشكر أو قدم الملك لأنه نعمة ظاهرة لجميع الخلق، والعلم بتأويل الأحاديث نعمة خفية لم تظهر إلا لبعضهم، إن قلت: لم ذكر هاتين النعمتين في وصف الشكر وترك النعمة العظمى، وهي النبوة وهي أولى بأن يذكرها ويشكر عنها، فالجواب: إنه في مقام النأي به والتعليم لغيره فذكر النعمة التي شارك فيها غيره ليقتدي به من حصل له شيء منها يشكر عليه، وأما النبوة فصاحبها معصوم لَا يحتاج تنبيهه للشكر عليه بوجه.
قوله تعالى: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ).
أي مبتدعها، قال ابن عباس: ما كنت أعرف ما معنى (فَاطِرَ) حتى اختصم إلي أعرابيان في بير فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها.
قوله تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا).
قيل لابن عرفة: فيه سؤالان الأول الشيء معصوم [... ] على الإسلام وهلا دعا بأن على النبوة؟ فأجاب بوجهين: أحدهما أن الدعاء يكون لوجهين إما لتحصيل المطلوب وإما لإظهار التذلل والخضوع، وذلك فيما هو محقق الوقوع عند الداعي. الثاني أن هذا على سبيل التعليم لغيره، كما قال: [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ*] وأن
الإنسان لَا يركن إلى الواقع بل يدعو ما استطاع، السؤال الثاني أن الإيمان أخص من الإسلام (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، ولحديث ابن عمر "الإسلام أن تشهد أن لَا إله إلا الله [وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة*] وتؤتي الزكاة وتحج البيت، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره فمن حصل الإيمان حصل الإسلام" بخلاف العكس ألا ترى أن القدرية ليسوا بمؤمنين مع أن بعضهم يظهر له من التقشف والعبادة ما لم يظهر على بعض المؤمنين، فقال ابن عرفة: أما الآية فإنما ذلك فيها باعتبار الظاهر فالأعراب ظهر منهم الاقتفاء بالنبي وذلك هو الإسلام، وكذبوا في قولهم آمنا وانظر حديث أبي موسى وبلال في الأعرابي القائل للنبي ﷺ ["أَلَا تُنْجِزُ لِي، يَا مُحَمَّدُ مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَبْشِرْ» فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ «أَبْشِرْ» فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ، كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا قَدْ رَدَّ الْبُشْرَى، فَاقْبَلَا أَنْتُمَا» فَقَالَا: قَبِلْنَا، يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا، وَأَبْشِرَا"*]. (١)
أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة،
وكذلك الأعرابي الذي جذب النبي ﷺ في رواية بشدة حتى أثر في عنقه
وطلب منه أن يعطيه. ابن عرفة: وأما الحديث فالإسلام أخص ولا سيما على مذهب
أهل السنة القائلين بأن المعاصي في المشيئة وأنه مؤمن مع وجود أنه تارك للصلاة
والزكاة فليس بمسلم، والمعنى أنهم يقولون أنه كافر فترى الإسلام عنده أخص لا
يصدق إلا على الطائع فما طلب يوسف إلا الأخص.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ... (١٠٢)﴾
قال الزمخشري: هذا تهكم بهم، ابن عرفة أراد أنه ما يقال ما كنت تدري قيام زيد، وما كنت تعرف الفقه إلا لمن يظن به علم ذلك والنبي ﷺ لا طريق له إلى معرفة ذلك إلا من الوحي فإتيانه بالقصة على الوجه الأكمل الصحيح من أدل دليل على صدقه فالمخالف فيه مخالف للضرورة.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾
هذا تمهيد عذر للنبي - ﷺ - لأنه قد يتوهم أن عدم إيمانهم سبب تقصير النبي ﷺ في التبليغ لهم؛ لأن الملك إذا أمر حاجبه أن يبلغ أمرا إلى الرعية فيسر لهم أسباب القبول فلم يمتثلوا لقربهم منه في التقصير.
قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤)﴾
(١) تم تصحيح ألفاظ الحديث من صحيح مسلم. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).
أي بالتمكن لَا بالفعل بمعنى أنهم متمكنون من النظر في هذه الآيات فلو نظروا وتأملوا لتذكروا بالفعل فآمنوا.
قوله تعالى: ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (١٠٥)﴾
قرئ والأرضُ بالرفع على الابتداء وخبره يمترون عيها فعلى الرفع يكون في الآية الحذف من الأول لدلالة الثاني، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعلمونها أو يرونها، والأرض يمرون عليها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو... (١٠٨)﴾
ابن عرفة: إن قلت: كلما ورد فعلى هذا مصدرا بكلمة قل مثل (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، (قلْ أُعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ) هل أمر به بتبليغ الضمير القول والمقول له فيقرأ عليهم الآية بكمالها، ويصير كأنه يقول لهم: قيل لي (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي)، أو قل هذه سبيل، أو أمر بتبليغ المقول له فقط فيقرأ عليهم الآية ويحذف منها كلمة (قُلْ)، فالجواب: إن القرآن كله هو مأمور تبليغه فما نزلت معه كلمة (قُلْ) أمر بتبليغ القول والمقول له وما لم ينزل معه كلمة (قُلْ) أمر فيه بتبليغ المقول له فقط والسبب في ذلك أنه إن فهم من الحاضرين الامتثال بأمره لم يحتج إلى التصريح بأنه أمر بأن يترك لهم ذلك إن فهم عنهم عدم الركون إلى مجرد قوله أسند ذلك لمرسله، وعينه ولأنه إنما أمر يحكي ذلك عنهم لهم، ابن عرفة: والإشارة إلى القصة أو الحالة والظاهر أن (سَبِيلِي) مبتدأ وهو خبر لأنه أعرب ولأن المبتدأ منحصر في الخبر وقد فرق القرافي وغيره بين زيد صديقي وصديقي زيد، فالخبر لَا بد أن يكون أعم من المبتدأ وذكر ابن هشام في شرح الإيضاح في قوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) فالمراد الإخبار بأنه ليس سبيله إلا هذه، وليس المراد الإخبار بأنه ليست هذه إلا سبيله لأنها سبيل غيره من الأنبياء ونقل بعض الطلبة: أن [... ] شارح البرهان أنكر التفريق بين زيد صديقي، وصديقي زيد، وقال: لم يرد ذلك عن العرب ولا عن النحويين، ورده ابن عرفة [... ] من أن الخبر لَا بد أن يكون أعم من المبتدأ.
قوله تعالى: (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).
حكى الزمخشري في (أَنَا) ثلاثة أوجه: أحدهما: قال (أَنَا) تأكيد الضمير في أدعوا (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) معطوف عليه، قلت لابن عرفة: هذا لَا يصح لأن الهمزة للمتكلم وحده وحرف العطف مشترك في الإعراب والمعنى، فقال لي أنت إذًا تمنع أن
تجوز أقوم أنا وزيد، قلت له نعم، ومن قال بجوازه ما أظن أنه يجوز أصلا للتناقص، فقال لي لَا يخالف أحد في أن ذلك جائز وإنما الذي قاله الزمخشري بعيد من ناحية أن يخرج عنه التمثلة في الإيمان لأنه ليس على بصيرة.
قوله تعالى: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
انظر هل فيه تعريض لكفار قريش هذا بناء على أن المراد بقوله (وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُشرِكُونَ) أهل الكتاب وأما إن قلنا: إن المراد به مشركوا مكة فلا حاجة للتعريض هنا لأنه قد تقدم التنصيص على شركهم.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ... (١٠٩)﴾
أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قيل قبلك.
قوله تعالى: (إِلَّا رِجَالًا).
احتج بها المعتزلة بمذهبهم في إنكار نبوة النساء عقلا ونحن نجوزها لولا أن الشرع لم يرد بها، وأجاب أصحابنا بأنه نفيت في الآية الرسالة ولا خلاف أن النساء ليست فيهن رسولة؛ لأن المقصود من الرسالة التبليغ إلى النَّاس وليس ذلك في شأن النساء. قوله: (مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) قال ابن عطية: إن يعقوب لم يكن ساكنا بالبادية أعني بيت العمود وهي بيت الشعر، وإنما كان ساكنا بقرية من قرى الشام وهي بادية بالنسبة إلى أرض مصر [كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر*]. ابن عرفة ذكره معاذ بن جبل الغزي، وقال: أنه يستفيق من صلاة العشاء الآخرة، وابن رشد يريد في جماعة لأن الحاضرة فيها المستأجر يجتمع فيها النَّاس، وقال بعض المصريين: إن يعقوب عليه السلام كان من أهل العمور فيرد الإشكال في الآية، لكن يجاب: بأن الصواب أن يعقوب لم يثبت أنه كان رسولا وإنَّمَا الثابت أنه كان نبيا.
قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ).
ابن عرفة: كان بعضهم يقول يحتمل أن يراد به السير في الأمكنة أو في الأزمنة ففي الأمكنة هو السير في الأرض حقيقة وقطع مفاوزها للتفكر والاعتبار، وفي الأزمنة هو أن ينظر في الكتب أخبار الأمم السابقة وما جرى لهم.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ... (١١٠)﴾
قال ابن عرفة: ذكر ابن خروف في شرح سيبويه أنه حتى التي هي حرف ابتداء لا يلزمها الغاية ولا يحتاج إلى ما تكلفه المفسرون من أن التقدير هنا يوحي إليهم فتراخى نصرهم (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ).
قوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا).
أي نسبوا في قولهم إلى الكذب وقرئ بالتخفيف [على البناء*] للفاعل والمفعول فعلى قراءة التشديد الظن إما على بابه لأن الرسل لما أخبروا المؤمنين بالنصر على الكفار في المستقبل وطال ذلك ارتابوا فظن الرسل أنهم قد كذبوا ولم يصدر منهم تكذيب حقيقة لأنهم مؤمنون.
قوله تعالى: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
ابن عرفة: إن قلت هلا أسند الإنجاء لعموم المؤمنين كما نفى رد البأس [عن*] عموم المجرمين؟ (١): فالجواب أنه إشارة إلى قول أهل السنة من أنه لَا ينجينا من الله شيء، وأن كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، فننجي من نشاء [**بجانبه بعد آتيه] إلى الإيمان، ولا يرد بأسنا عمن اتصف بالإجرام الثابت الدائم عليه اللازم إلى الخاتمة فلذلك عبر عنه بالاسم، وذكر ابن عطية في قوله: " (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ما لَا ينبغي أن يقال على رءوس العوام ولا على غيرهم فمن أراد فلينظر فيه.
قوله تعالى: ﴿عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ... مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)﴾
ابن عرفة: يحتمل أن يريد غيره بالفعل أو بالإمكان والقوة وإن كانت بالفعل والمراد (عِبْرَةٌ) كما لأولي العقول النافعة ولا يلزم عليه الحلف في الأخير لأنه لو اتعظ به جميعهم واعتبروا لآمنوا كلهم، فإن كان المراد أنه بحيث يعتبروا به من عامله ونظر فيه فيكون المراد به جميع أولي الألباب والحقيقة ثابتة لهم لكنهم لم يحصل لجميعهم الاعتبار بالفعل وأشار الفخر إلى هذا.
قوله تعالى: (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
هذا تأكيد المدح بما يشبه الذم مثل:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ
الزمخشري: (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الذي قبله من الكتب السماوية، وقال ابن عطية: في قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يحتمل أنه يراد بما بين يديه المستقبل باعتبار يوم القيامة.
* * *
(١) في الأصل المطبوع هكذا [فكان يقال] وهي عبارة غير مفيدة في السؤال، والسياق يقتضي حذفها.
Icon