تفسير سورة الكهف

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكهف. هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله ' جزرا ' والأول أصح وهي أفضل سور القرآن وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بسورة ( ملأ )١ عظمها ما بين السماوات والأرض ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك ؟ قالوا : أي سورة هي يا رسول الله ؟ قال سورة الكهف من قرأ بها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام. وفي رواية أنس : ومن قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر٢.
١ زيادة عن القرطبي وفتح القدير..
٢ أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها، وذكره إسحق بن عبد الله بن أبي فروة، كما ذكره الثعلبي والمهدوي بمعناه. وأخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن الضريس، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي العالية، قال: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فينظر فإذا ضبابة أو سحابة غشيته، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، قال اقرأ فلان فإنها السكينة نزلت للقرآن. وأخرج الطبراني أن هذا الرجل هو أسيد بن حضير..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الكهف
هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين، وروي عن فرقة أن أول السور نزل بالمدينة إلى قوله جُرُزاً [الكهف: ٨] والأول أصح، وهي من أفضل سور القرآن، وروي أن رسول الله ﷺ قال: ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا:
أي سورة هي يا رسول الله؟ قال: سورة الكهف، من قرأ بها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، في رواية أنس، ومن قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)
كان حفص عن عاصم يسكت عند قوله عِوَجاً سكتة خفيفة، وعند مَرْقَدِنا [ص: ٥٢] في سورة يس، وسبب هذه البدأة في هذه السورة أن رسول الله ﷺ لما سألته قريش عن المسائل الثلاث، الروح، والكهف، وذي القرنين، حسبما أمرتهم بهن يهود، قال لهم رسول الله ﷺ غدا أخبركم، بجواب سؤالكم، ولم يقل إن شاء الله، فعاتبه الله عز وجل بأن استمسك الوحي عنه خمسة عشر يوما، فأرجف به كفار قريش، وقالوا: إن محمدا قد تركه ربه الذي كان يأتيه من الجن، وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه إلى غير ذلك، فشق ذلك على رسول الله ﷺ وبلغ منه، فلما انقضى الأمد الذي أراد الله تعالى عتاب محمد إليه، جاءه الوحي من الله بجواب الأسئلة وغير ذلك، فافتتح الوحي بحمد الله الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ أي بزعمكم أنتم يا قريش، وهذا كما تقول لرجل يحب مساءتك فلا يرى إلا نعمتك الحمد لله الذي أنعم علي وفعل بي كذا على جهة النقمة عليه، والْكِتابَ هو القرآن، وقوله وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي لم يزله عن طريق الاستقامة، و «العوج» فقد الاستقامة، وهو بكسر العين في الأمور والطرق وما لا يحس متنصبا شخصا، و «العوج» بفتح العين في الأشخاص كالعصا والحائط ونحوه، وقال ابن عباس: معناه ولم يجعله مخلوقا، وقوله وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
494
عِوَجاً يعم هذا وجميع ما ذكره الناس من أنه لا تناقض فيه ومن أنه لا خلل ولا اختلاف فيه. وقوله قَيِّماً نصب على الحال من الْكِتابَ، فهو بمعنى التقديم، مؤخر في اللفظ، أي أنزل الكتاب قيما، واعترض بين الحال وذي الحال قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وذكر الطبري هذا التأويل عن ابن عباس، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله قَيِّماً، وفي بعض مصاحف الصحابة «ولم يجعل له عوجا لكن جعله قيما» قاله قتادة، ومعنى «قيم» مستقيم، هذا قول ابن عباس والضحاك، وقيل معناه أنه قيم على سائر الكتب بتصديقها، ذكره المهدوي، وهذا محتمل وليس من الاستقامة ويصح أن يكون معنى «قيم» قيامه بأمر الله عز وجل على العالم، وهذا المعنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللذين عما العالم. و «البأس الشديد» عذاب الآخرة، ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها، ونصبه على المفعول الثاني، والمعنى لينذر العالم، وقوله مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده ومن قبله، والضمير في لَدُنْهُ عائد على الله تعالى، وقرأ الجمهور من «لدنه» بضم الدال وسكون النون وضم الهاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «من لدنه» بسكون الدال وإشمام الضم فيها وكسر النون والهاء، وفي «لدن» لغات، يقال «لدن» مثل سبع، «ولدن» بسكون الدال «ولدن» بضم اللام، «ولدن» بفتح اللام والدال وهي لفظة مبنية على السكون، ويلحقها حذف النون مع الإضافة، وقرأ عبد الله وطلحة «ويبشر» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين، وقوله أَنَّ لَهُمْ أَجْراً تقديره بأن لهم أجرا، والأجر الحسن نعيم الجنة، ويتقدمه خير الدنيا، و، ماكِثِينَ حال من الضمير في لَهُمْ وأَبَداً ظرف لأنه دال على زمن غير متناه.
قال القاضي أبو محمد: وقد أشرت في تفسير هذه الآية إلى أمر اليهود قريشا بسؤال النبي ﷺ عن المسائل الثلاث، وينبغي أن تنص كيف كان ذلك.
ذكر ابن إسحاق عن ابن عباس بسند، أنه قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح. فأقبل النضر وعقبة إلى مكة وسألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، وكان الأمر ما ذكرناه، وقوله وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ الآية، أهل هذه المقالة هم بعض اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، وبعض العرب في الملائكة، والضمير في بِهِ يحتمل أن يعود على القول الذي يتضمنه قالُوا المتقدم، وتكون جملة قوله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ في موضع الحال، أي قالوا جاهلين، ويحتمل أن يعود على «الولد» الذي ادعوه، فتكون الجملة صفة للولد، قاله المهدوي، وهو معترض لأنه لا يصفه إلا القائل، وهم ليس في قصدهم أن يصفوه، والصواب عندي أنه نفي مؤتنف أخبر الله تعالى بجهلهم في ذلك، فلا موضع للجملة من الإعراب، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى بالجهل التام عليهم، وهو قول الطبري. وقوله وَلا لِآبائِهِمْ يريد الذين أخذ هؤلاء هذه المقالة عنهم،
495
وقرأ الجمهور «كبرت كلمة» بنصب الكلمة، كما تقول نعم رجلا زيد، وفسر «الكلمة» ووصفها بالخروج من أفواههم، وقال بعضهم: نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف: ٢٩] وقالت فرقة نصبها على الحال، والتقدير كَبُرَتْ فريتهم أو نحو هذا كَلِمَةً، وسميت هذه الكلمات كَلِمَةً من حيث هي مقالة واحدة، كما يقولون للقصيدة كلمة، وهذه المقالة قائمة في النفس معنى واحدا، فيحسن أن تسمى كلمة، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير «كبرت كلمة» برفع الكلمة على أنها فاعلة ب كَبُرَتْ، وقوله إِنْ يَقُولُونَ أي ما يقولون.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦ الى ٩]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩)
هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام، وقوله فَلَعَلَّكَ تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كلذلك، و «الباخع نفسه» هو مهلكها وجدا وحزنا على أمر ما، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
يريد نحته فخفف وقوله عَلى آثارِهِمْ، استعارة فصيحة، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم، وقوله بِهذَا الْحَدِيثِ أي بالقرآن الذي يحدثك به، وأَسَفاً نصب على المصدر، قال الزجاج: و «الأسف» المبالغة في حزن أو غضب.
قال القاضي أبو محمد: و «الأسف» في هذا الموضع الحزن، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضبا، كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: ٥٥] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة: هنا أَسَفاً غضبا، قال مجاهد أَسَفاً جزعا وقال قتادة أيضا: حزنا، ومن هذه اللفظة قول الأعشى:
[الطويل]
أرى رجلا منكم أسيفا كأنما يضم إلى كشحيه كفّا مخضبا
يريد حزينا كأنه مقطوع اليد، وقوله إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً، الآية بسط في التسلية أي لا تهتم للدنيا وأهلها فأمرها وأمرهم أقل بفنائه وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحانا وخبرة، واختلف في المراد ب ما، فقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد الرجال وقاله مجاهد، وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء، وقالت فرقة أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل في هذا الجبال الصم وكل ما لا زين فيه كالحيات والعقارب، وقالت
496
فرقة: أراد كل ما على الأرض عموما وليس شيء إلا وفيه زينة من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وفي معنى هذه الآية، قول النبي عليه السلام: «الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء». وزِينَةً مفعول ثان أو مفعول من أجله بحسب معنى «جعل». وقوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي لنختبرهم وفي هذا وعيد ما، قال سفيان الثوري: «أحسنهم عملا» أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العسقلاني: أحسن عملا: أترك لها.
قال القاضي أبو محمد: وكان أبي رضي الله عنه يقول: أحسن العمل أخذ بحق واتفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه. وقوله وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً، أي يرجع كل ذلك ترابا غير متزين بنبات ونحوه، و «الجرز» الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة، فهي البلقع، وهذه حالة الأرض العامرة الخالية بالدين لا بد لها من هذا في الدنيا جزءا جزءا من الأرض ثم يعمها ذلك بأجمعها عند القيامة، يقال: جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه إذا ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها ولا نفع، وأرضون أجراز، قال الزجاج: والجرز الأرض التي لا تنبت.
قال القاضي أبو محمد: وإنما ينبغي أن يقول: التي لم تنبت، و «الصعيد» وجه الأرض وقيل «الصعيد» التراب خاصة، وقيل «الصعيد» الأرض الطيبة وقيل، «الصعيد» الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة، وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ الآية، مذهب سيبويه في أَمْ إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام كأنه قال: بل أحسبت إضرابا عن الحديث الأول واستفهاما عن الثاني وقال بعض النحويين: هي بمنزلة ألف الاستفهام، وأما معنى الكلام فقال الطبري: هو تقرير للنبي ﷺ على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا بمعنى إنكار ذلك عليه أي لا تعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشنع، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق، وذكر الزهراوي: أن الآية تحتمل معنى آخر وهو أن تكون استفهاما له هل علم أصحاب الكهف عجبا، بمعنى إثبات أنهم عجب وتكون فائدة تقريره جمع نفسه للام لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته فيقال له: وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظه حسبت فتأمله، والْكَهْفِ النقب المتسع في الجبل وما لم يتسع منها فهو غار، وحكى النحاس عن أنس بن مالك أنه قال: الْكَهْفِ الجبل وهذا غير شهير في اللغة، واختلف الناس في الرَّقِيمِ، فقال كعب، الرَّقِيمِ القرية التي كانت بإزاء الْكَهْفِ، وقال ابن عباس وقتادة: الرَّقِيمِ الوادي الذي كان بإزائه وهو واد بين عصبان وأيلة دون فلسطين، وقال ابن عباس أيضا هو الجبل الذي فيه الْكَهْفِ، وقال السدي: الرَّقِيمِ الصخرة التي كانت على الْكَهْفِ، وقال ابن عباس الرَّقِيمِ كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى، وقيل من دين قبل عيسى، وقال ابن زيد: كتاب عمى الله علينا أمره ولم يشرح لنا قصته، وقالت فرقة: الرَّقِيمِ كتاب في لوح نحاس، وقال ابن عباس: في لوح رصاص كتب فيه القوم الكفار الذين فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم ذكروا وقت فقدهم وكم كانوا وبني من كانوا، وقال سعيد بن جبير: الرَّقِيمِ لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أَصْحابَ الْكَهْفِ ووضعوه على باب الكهف، ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث وذلك من
497
قبل المملكة وهو أمر مفيد، وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ومنه كتاب مرقوم، ومنه الأرقم لتخطيطه، ومنه رقمة الوادي أي مكان جري الماء وانعطافه يقال عليك بالرقمة وخل الضفة وقال النقاش عن قتادة:
الرَّقِيمِ دراهمهم، وقال أنس بن مالك والشعبي الرَّقِيمِ الكلب، وقال عكرمة الرَّقِيمِ الدواة، وقالت فرقة: الرَّقِيمِ كان لفتية آخرين في السراة جرى لهم ما جرى ل أَصْحابَ الْكَهْفِ، وروي عن ابن عباس أنه قال ما أدري ما الرَّقِيمِ أكتاب أم بنيان، وروي أنه قال: كل بالقرآن أعلمه إلا الحنان والأواه والرقيم.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠ الى ١٢]
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
الْفِتْيَةُ فيما روي، قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه دقليوس، ويقال دقينوس، وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى، وقيل كانوا قبل عيسى، وأما أسماؤهم فهي أعجمية، والسند في معرفتها واه، ولكن التي ذكر الطبري هي هذه، مكسيليمنيا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومجسيلينيا وتمليخا وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، مرطوس وكشوطونس، وبيرونس، ودينموس، ويطونس، واختلف الرواة في قصص هؤلاء الفتية وكيف كان اجتماعهم وخروجهم إلى الكهف؟ وأكثر المؤرخون في ذلك، ولكن نختصر من حديثهم ونذكر ما لا تستغني الآية عنه، ونذكر من الخلاف عيونه بحول الله، روى مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة فوقع للفتية علم من بعض النحويين حسب ما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم بحسب الخلاف الذي ذكرناه، فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرفع أمرهم إلى الملك، وقيل له إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك في مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما روي رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الكهف: ١٤] إلى قوله وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الكهف: ١٦]، وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم، بل أستأني، فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلا، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم إني أعرف كهفا في جبل كذا كان أبي يدخل فيه غنمه، فلنذهب إليه فنختفي فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم، وقيل إنهم كانوا مثقفين فحضر عيد أخرجوا له فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا في اللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك، وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان
498
أنهم كانوا من أبناء الأشراف فحضر عيد لأهل المدينة فرأى الفتيان ما يمتثله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام والذبح لها، فوقع الإيمان في قلوبهم وأجمعوا على مفارقة الناس لئلا ينالهم العذاب معهم، فزايلوا الناس، وذهبوا إلى الكهف، وروى وهب بن منبه أن أمرهم إنما كان أن حواريا لعيسى ابن مريم، جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فآجر نفسه من صاحب الحمام فكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة، فنشر فيهم الإيمان وعرفهم الله تعالى، فآمنوا واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به، فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة بغي أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاءه مرة أخرى فنهاه فشتمه وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعا، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتله، ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف، وقال عبيد بن عمير: إن أصحاب الكهف كانوا فتية أبناء العظماء مطوقين مسورين ذوي ذوائب قد داخلهم الإيمان أفذاذا، وأزمع واحد منهم الفرار بدينه من بلد الكفر، فأخرجهم الله في يوم واحد لما أراده بهم، فخرج أحدهم فجلس في ظل شجرة على بعد من المدينة، فخرج ثان، فلما رأى الجالس جلس إليه، ثم الثالث ثم الباقون حتى كمل جميعهم في ظل الشجرة، فألقى الله في نفوسهم أن غرضهم واحد، فتساءلوا، ففزع بعضهم من بعض وتكتموا، ثم تراضوا برجلين منهم، وقالوا لنفرد أو تواثقا وليفش كل واحد منكما سره إلى صاحبه، فإن اتفقتما كنا معكما، فنهضا بعيدا وتكلما فأفصحا بالإيمان والهروب بالدين فرجعا وفضحا الأمر وتابعهما الآخرون ونهضوا إلى الكهف، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلب معهم، واسم الكلب حمران، وقيل قطير، فدخلوا الغار على جميع هذه الأقوال فروت فرقة أن الله عز وجل «ضرب على آذانهم» عند ذلك لما أراده من سترهم، وخفي على أهل المملكة مكانهم، وعجب الناس من غرابة فقدهم، فأرخوا ذلك ورقموه
في لو حين من رصاص أو نحاس، وجعلوه على باب المدينة فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم وذكر شرفهم، وأنهم فقدوا بصورة كذا في وقت كذا، وقيل إن الذي كتب هذا وتهمم به رجلان قاضيان مؤمنان يكتمان إيمانهما من أهل بيت المملكة، وتسترا بذلك ودفنا اللوحين عندهما: وقيل على الرواية بأن الملك أتى باب الغار، وأنهما دفنا ذلك في بناء الملك على الغار، وروت فرقة أن الملك لما ذهب الفتية أمر بقص آثارهم، فانتهى ذلك بمتبعيهم إلى باب الغار، فعرف الملك، فركب في جنده حتى وقف عليه، فأمر بالدخول عليهم فهاب الرجال ذلك، فقال له بعض وزرائه ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم، قال نعم، قال فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش، ابن عليهم باب الغار ودعهم يموتوا فيه، ففعل، وقد «ضرب الله على آذانهم» قبل ذلك لما أراد من تأمينهم، وأرخ الناس أمرهم في اللوحين، أو أرخه الرجلان بحسب الخلاف، واسم أحد الرجلين فيما ذكر الطبري بندروس، واسم الآخر روناس، وروي أن هذا الملك الذي فر الفتية من دينه، كان قد امتحن الله به المؤمنين حيث أحس بهم، يقتلهم ويعلقهم أشخاصا ورؤوسا على أسوار مدينته، وكان يريد أن يذهب فيما ذكر، دين عيسى، وكان هو وقومه من الروم، ثم أخبر الله تعالى عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف أي دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام، دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة، وهي الرزق فيما ذكر
499
المفسرون، وأن يهيىء لهم من أمرهم رَشَداً أي خلاصا جميلا، وقرأ الجمهور «رشدا» بفتح الراء والشين، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وسكون الشين، والأولى أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط، فإنها كافية، ويحتمل ذكر «الرحمة» أن يراد بها أمر الآخرة وقد اختصرت هذا القصص، ولم أغفل من مهمه شيئا بحسب اجتهادي، والله المعين برحمته، وقوله فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ الآية عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم، ويعبر عن هذا ونحوه ب «الضرب» لتبين قوة المباشرة وشدة اللصوق في الأمر المتكلم فيه والإلزام، ومنه ضرب الذلة والمسكنة، ومنه ضرب الجزية، ومنه ضرب البعث. ومنه قول الفرزدق: [الكامل]
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
فهذا يستعمل في اللزوم البليغ، وأما تخصيص «الآذان» بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلّما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع، ومن ذكر الأذن في النوم قوله ﷺ «ذلك رجل بال الشيطان في أذنه» أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم لا يقوم بالليل، وقوله عَدَداً نعت للسنين، والقصد به العبارة عن التكثير، أي تحتاج إلى عدد وهي ذات عدد، قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصب عَدَداً على المصدر، و «البعث» التحريك بعد سكون، وهذا مطرد مع لفظة البعث حيث وقعت، وقد يكون السكون في الشخص أو عن الأمر المبعوث فيه وإن كان الشخص متحركا، وقوله لِنَعْلَمَ عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود، وهذا على نحو كلام العرب أي لنعلم ذلك موجودا، وإلا فقد كان الله تعالى علم أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أحصى الأمد وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء، و «الحزبان» الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إذ ظنوا لبثهم قليلا، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين، وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين اختلفا في مدة أصحاب الكهف، وقالت فرقة:
هما حزبان من المؤمنين، وهذا لا يرتبط من ألفاظ الآية، وأما قوله أَحْصى فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض، وأَمَداً منصوب به على المفعول، و «الأمد» الغاية، وتأتي عبارة عن المدة من حيث للمدة غاية هي أمدها على الحقيقة، وقال الزجاج: أَحْصى هو أفعل، وأَمَداً على هذا نصب على التفسير، ويلحق هذا القول من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، وأَحْصى فعل رباعي، ويحتج لقول أبي إسحاق بأن أفعل من الرباعي قد كثر، كقولك ما أعطاه للمال، وآتاه للخير، وقال النبي عليه السلام في صفه جهنم: «هي أسود من القار» وقال في صفة حوضه عليه السلام «ماؤه أبيض من اللبن» وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فهو لما سواها أضيع» وهذه كلها أفعل من الرباعي، وقال مجاهد:
أَمَداً معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب، وقال الطبري: نصب أَمَداً ب لَبِثُوا، وهذا غير متجه.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٦]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦)
500
لما اقتضى قوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الكهف: ١٢] اختلافا وقع في أمر الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بِالْحَقِّ الذي وقع، وفي مجموع هذه الآيات جواب قريش عن سؤالهم الذي أمرتهم به بنو إسرائيل. و «القص» الإخبار بأمر يسرد، لا بكلام يروى شيئا شيئا، لأن تلك المخاطبة ليست بقصص، وقوله وَزِدْناهُمْ هُدىً أي يسرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عز وجل ومباعدة الناس والزهد في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان. وقوله وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها، ومنه الربط على قلب أم موسى، وقوله إِذْ قامُوا فَقالُوا يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد، وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول، وقرأ الأعمش «إذ قاموا قياما فقالوا»، وقولهم: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي لو دعونا من دون ربنا إلها، والشطط الجور، وتعدي الحد والغلو بحسب الأمر، ومنه اشتط الرجل في السوم إذا طلب في سلعته فوق قيمتها، ومنه شطوط النوى والبعد، ومن اللفظة قول الشاعر:
[الطويل]
ألا يا لقوم قد اشتط عواذلي ويزعمن أن أودى بحقي باطلي
وقولهم: هؤُلاءِ قَوْمُنَا مقالة تصلح أن تكون مما قالوا في مقامهم بين يدي الملك، وتصلح أن تكون من قول بعضهم لبعض عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه، وقولهم: لَوْلا يَأْتُونَ تحضيض بمعنى التعجيز، لأنه تحضيض على ما لا يمكن، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن تلفت دعواهم، و «السلطان» الحجة، وقال قتادة: المعنى بعذر بين، وهذه عبارة محلقة، ثم عظموا جرم الداعين مع الله آلهة وظلمهم بقوله على جهة التقرير فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وقولهم وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ الآية أن القيام في قوله إِذْ قامُوا عزما كما تضمن التأويل الواحد وكان القول منهم فيما بينهم فهذه المقالة يصح أن تكون من قولهم الذي قالوه عند قيامهم، وإن كان القيام المذكور مقامهم بين يدي الملك فهذه المقالة لا يترتب أن تكون من مقالهم بين يدي الملك، بل يكون في الكلام حذف تقديره وقال بعضهم لبعض، وبهذا يترجح أن قوله تعالى: إِذْ قامُوا فَقالُوا إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم، وقوله إِلَّا اللَّهَ إن فرضنا
501
الكفار الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ولا علم لهم به، وإنما يعتقدون الألوهية في أصنامهم فقط، فهو استثناء منقطع ليس من الأول، وإن فرضناهم يعرفون الله ويعظمونه كما كانت تفعل العرب لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل، لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله تعالى، وفي مصحف ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله»، قال قتادة هذا تفسيرها، قال هارون وفي بعض مصاحفه «وما يعبدون من دوننا»، فعلى ما قال قتادة تكون إِلَّا بمنزلة غير، وما من قوله وَما يَعْبُدُونَ في موضع نصب عطفا على الضمير في قوله اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض إذ فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله تعالى فإنه سيبسط لنا رحمته وينشرها علينا ويهيىء لنا من أمرنا مِرفَقاً، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة من الله كانوا في أمر آخرتهم، وقرأ نافع وابن عامر «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء، وهو مصدر كالرفق فيما حكى أبو زيد، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق «مرفقا» بكسر الميم وفتح الفاء، ويقالان جميعا في الأمر وفي الجارحة، حكاه الزجاج، وذكر مكي عن الفراء أنه قال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون «المرفق» من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء، وخالفه أبو حاتم، وقال «المرفق» بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما بعد لغتان.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
بين هاتين الآيتين اقتضاب يبينه ما تقدم من الآيات، تقديره فآووا وضرب الله على آذانهم ومكثوا كذلك، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تزّاور» بتشديد الزاي وإدغام التاء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تزاور» بتخفيفها بتقدير تتزاور فحذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن عامر وابن أبي إسحاق وقتادة «تزور» في وزن تحمر، وقرأ الجحدري وأبو رجاء «تزوار» بألف بعد الواو، ومعنى اللفظة على كل هذا التصريف تعدل وتروغ وتميل، وهذه عبارات المفسرين، أما أن الأخفش قال «تزور» معناه تنتقض والزور الميل، والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين كقول ابن أبي ربيعة:
وجنبي خيفة القوم أزور ومن اللفظة قول عنترة: [الكامل] فازور من وقع القنا بلبانه ومنه قول بشر بن أبي حازم: [الوافر]
502
تؤم بها الحداة مياه نخل وفيها عن أبانين ازورار
وفي حديث غزوة مؤتة، أن رسول الله ﷺ رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة، وقرأ الجمهور «تقرضهم» بالتاء، وفرقة «يقرضهم» بالياء، أي الكهف كأنه من القرض وهو القطع، أي يقتطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس، وجمهور من قرأ بالتاء، فالمعنى أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة وهو قول ابن عباس، فيتأولون «تقرضهم» بمعنى تتركهم، أي كأنها عنده تقطع كلّ ما لا تناله عن نفسها، وفرقة ممن قرأ بالتاء تأول أنها كانت بالعشي تنالهم، فكأنها «تقرضهم» أي تقتطعهم مما لا تناله، وقالوا كان في مسها لهم بالعشي صلاح لأجسامهم، وحكى الطبري أن العرب تقول:
قرضت موضع كذا أي قطعته، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
ومنه أقرضني درهما أي اقطعه لي من مالك، وهذه الصفة مع الشَّمْسَ تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته، وحكى الزجاج وغيره قال: كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش، وقاله عبد الله بن مسلم وهذا نحو ما قلناه، غير أن الكهف كان مستور الأعلى من المطر، وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك، وقوله ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ يحتمل أن يريد ذات يمين الكهف بأن نقدر باب الكهف بمثابة وجه إنسان فإن الشمس تجيء منه أول النهار عن يمين، وآخره عن شمال، ويحتمل أن يريد ذات يمين الشمس وذات شمالها، بأن نقدر الشعاع الممتد منها إلى الكهف بمثابة وجه إنسان، والوجه الأول أصح و «الفجوة» المتسع وجمعها فجى، قال قتادة: في فضاء منه، ومنه الحديث كان رسول الله ﷺ يسير العنف فإذا وجد فجوة نص، وقال ابن جبير: فِي فَجْوَةٍ في مكان داخل، وقوله ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإشارة إلى الأمر بجملته، وعلى قول الزجاج إن الشمس كانت تزاور وتقرض دون حجاب تكون الإشارة إلى هذا المعنى خاصة ثم تابع بتعظيم الله عز وجل والتسليم له وما يقتضي صرف الآمال إليه، وقوله وَتَحْسَبُهُمْ الآية، صفة حال قد نقضت وجاءت أفعالها مستقبلة تجوزا واتساعا وأَيْقاظاً جمع يقظ كعضد وأعضاد، وهو المنتبه قال أهل التفسير: كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون، فلذلك كان الرائي يحسبهم أَيْقاظاً.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم، ورب نائم على أحوال لم يتغير عن حالة اليقظة فيحسبه الرائي يقظانا وإن كان مسدود العينين، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ، وقرأ الجمهور «ونقلبهم» بنون العظمة، وقرأ الحسن «وتقلّبهم» بالتاء المفتوحة وضم اللام والباء، وهو مصدر مرتفع بالابتداء، قاله أبو حاتم، وحكى ابن جني القراءة عن الحسن بفتح التاء وضم اللام وفتح الباء، وقال هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال وترى أو تشاهد تقلبهم، وأبو حاتم أثبت، ورأت فرقة أن التقلب هو الذي من أجله كان الرائي يحسبهم أَيْقاظاً وهذا وإن كان التقلب
503
لمن صادف رؤيته دليلا على ذلك، فإن ألفاظ الآية لم تسقه إلا خبرا مستأنفا، وقال أبو عياض: كان هذا التقليب مرتين في السنة، وقالت فرقة كل سبع سنين مرة، وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا، وذكر بعض المفسرين أن تقلبهم إنما كان حفظا من الأرض، وروي عن ابن عباس أنه قال لو مستهم الشمس لأحرقتهم، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض.
قال القاضي أبو محمد: وآية الله في نومهم هذه المدة الطويلة وحياتهم دون تغد أذهب في الغرابة من حفظهم مع مس الشمس ولزوم الأرض ولكنها روايات تجلب. وتتأمل بعد، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك وهم في غمرة النوم لا ينتبهون كما يعتري كثيرا من النوام، لأن القوم لم يكونوا موتى. وقوله وَكَلْبُهُمْ أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة كان لصيد أحدهم فيما روي، وقيل كان لراع مروا عليه فصحبهم وتبعه الكلب.
قال القاضي أبو محمد: وحدثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله، وقيل كان أنمر، وقيل أحمر، وقالت فرقة كان رجلا طباخا لهم حكاه الطبري ولم يسم قائله، وقالت فرقة: كان أحدهم وكان قعد عند باب الغار طليعة لهم.
قال القاضي أبو محمد: فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا لأنه منها كالكلب من الإنسان، ويقال له كلب الحيار: أما أن هذا القول يضعفه بسط الذراعين، فإنهما في العرف من صفة الكلب حقيقة ومنه قول النبي عليه السلام: «ولا يبتسط أحدكم ذراعيه في السجود ابتساط الكلب»، وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرىء «وكالبهم باسط ذراعيه» فيحتمل أن يريد ب «الكالب» هذا الرجل، على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة، المستخفي بنفسه، ويحتمل أن يريد ب «الكالب» الكلب، وقوله باسِطٌ ذِراعَيْهِ أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنها حكاية حال، ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب، و «الوصيد» العتبة لباب الكهف أو موضعها حيث ليست. وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير «الوصيد» الفناء، وقال ابن عباس أيضا «الوصيد» الباب، وقال ابن جبير أيضا «الوصيد» التراب، والقول الأول أصح، والباب الموصد هو المغلق، أي قد وقف على وصيده، ثم ذكر الله عز وجل ما حفهم من الرعب واكتنفهم من الهيبة، وقرأ «لو اطلعت» بكسر الواو جمهور القراء، وقرأ الأعمش وابن وثاب «لو اطلعت» بضمها. وقد ذكر ذلك عن نافع وشيبة وأبي جعفر، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عباس وأهل مكة والمدينة «لملّئت» بشد اللام على تضعيف المبالغة أي ملئت ثم ملئت ثم ملئت، وقرأ الباقون «لملئت» بتخفيف اللام والتخفيف أشهر في اللغة، وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي: [الطويل]
وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملىء من كعب بن عوف سلاسله
وقالت فرقة إنما حفهم هذا الرعب لطول شعورهم وأظفارهم، ذكره المهدوي والزجاج، وهذا قول بعيد، ولو كانت حالهم هكذا، لم يقولوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: ١٩] وإنما الصحيح في
504
أمرهم، أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها، لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يبل لهم ثوب، ولا تغيرت صفة، ولا أنكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم، ولروي ذلك، وقرأ الجمهور «رعبا» بسكون العين، وقرأ «رعبا» بضمها أبو جعفر وعيسى، قال أبو حاتم: هما لغتان.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكر الله في جهتهم، والعبرة التي فعلها فيهم، و «البعث» التحريك عن سكون، واللام في قوله لِيَتَسائَلُوا لام الصيرورة، لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم، وقول القائل كَمْ لَبِثْتُمْ يقتضي أنه هجس في خاطره طول نومهم، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني، لا تباين التي ناموا فيها، وأما أن يجدد الأمر جدا فبعيد، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم «بورقكم» بكسر الراء وقرأ أبو عمرو وحده وأبو بكر عن عاصم «بورقكم» بسكون الراء وهما لغتان، وحكى الزجاج قراءة «بورقكم» بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام، وروي عن أبي عمرو الإدغام، وإنما هو إخفاء، لأن الإدغام مع سكون الراء متعذر، وأدغم ابن محيصن القاف في الكاف قال أبو حاتم: وذلك إنما يجوز مع تحريك الراء، وقرأ علي بن أبي طالب «بوارقكم»، اسم جمع كالحامل والباقر، وقرأ أبو رجاء، «بورقكم» بكسر الواو والراء والإدغام، ويروى أنهم انتبهوا جياعا، وأن المبعوث هو تلميخا، وروي أنهم صلوا كأنما ناموا ليلة واحدة، وبعثوا تلميخا في صبيحتها، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه بطول السنين، وروي أن راعيا هدمه ليدخل فيه غنمه، فأخذ تلميخا ثيابا رثة منكرة ولبسها، وخرج من الكهف، فأنكر ذلك البناء المهدوم إذ لم يعرفه، ثم مشى فجعل ينكر الطريق والمعالم ويتحير، وهو في ذلك لا يشعر شعورا تاما، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة، فرأى على بابها أمارة الإسلام، فزادت حيرته وقال كيف هذا بلد دقيوس، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا، فنهض إلى باب آخر فرأى نحوا من ذلك، حتى مشى الأبواب كلها، فزادت حيرته، ولم يميز بشرا، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى، فاستراب بنفسه وظن أنه جن، أو انفسد عقله، فبقي حيران يدعو الله تعالى، ثم نهض إلى بائع الطعام الذي أراد شراءه فقال يا عبد الله بعني من طعامك بهذه الورق، فدفع إليه دراهم كأخفاف الربع فيما ذكر، فعجب لها البياع، ودفعها إلى آخر بعجبه، وتعاطاها الناس وقالوا له هذه دراهم عهد فلان الملك، من أين أنت، وكيف وجدت هذا الكنز؟
فجعل يبهت ويعجب، وقد كان بالبلد مشهورا هو وبيته، فقال: ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس
من هذه المدينة فقال الناس هذا مجنون، اذهبوا به إلى الملك، ففزع عند ذلك فذهب به حتى جيء به الملك، فلما لم يردقيوس الكافر تأنس، وكان ذلك الملك مؤمنا فاضلا يسمى ببدوسيس فقال له الملك أين وجدت هذا الكنز؟ فقال له إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة فأوينا إلى الكهف الذي في جبل الجلوس، فلما سمع الملك ذلك قال في بعض ما روي، لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية فلنسر إلى الكهف معه حتى نرى أصحابه، فسار وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاء هم الفتية الذين أرخ أمرهم على عهد دقيوس الملك، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه، فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا: أدخل عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمر، وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سرّوا وخرجوا إلى الملك، وعظموه وعظمهم، ثم رجعوا إلى كهفهم، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حيث حدثهم تمليخا، فانتظرهم الناس فلما أبطأ خروجهم، دخل الناس إليهم فرعب كل من دخل، ثم أقدموا فوجدوهم موتى، فتنازعوا بحسب ما يأتي في تفسير الآية التي بعد هذه، وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف، فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ هذه الآية، واعتمدت الأصح، والله المعين برحمته، وفي هذه البعثة بالورق الوكالة وصحتها، وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهم، وقرأ الجمهور «فلينظر» بسكون لام الأمر، وقرأ الحسن «فلينظر» بكسرها، وأَزْكى معناه أكثر فيما ذكر عكرمة، وقال قتادة معناه خير، وقال مقاتل:
المراد أطيب، وقال ابن جبير: المراد أحل.
قال القاضي أبو محمد: وهو من جهة ذبائح الكفرة وغير ذلك فروي أنه أراد شراء زبيب، وقيل بل شراء تمر، وقوله وَلْيَتَلَطَّفْ أي في اختفائه وتحيله، وقرأ الحسن «وليتلطف» بكسر اللام، والضمير في إِنَّهُمْ عائد على الكفار، آل دقيوس، ويَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ معناه يثقفوكم بعلوهم وغلبتهم، وقولهم يَرْجُمُوكُمْ قال الزجاج معناه بالحجارة.
قال القاضي أبو محمد: وهو الأصح، لأنه كان عازما على قتلهم لو ظفر بهم، و «الرجم» فيما سلف هي كانت على ما ذكر قتلة مخالف دين الناس، إذ هي أشفى لحملة ذلك الدين، ولهم فيها مشاركة، وقال حجاج، يَرْجُمُوكُمْ معناه بالقول، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢١]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
الإشارة بذلك في قوله وَكَذلِكَ إلى بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا [الكهف: ١٩] أي كما بعثناهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ، و «أعثر» تعدية عثر بالهمزة، وأصل العثار في القدم، فلما كان العاثر في الشيء منتبها له شبه به من تنبه لعلم شيء عن له وثار بعد خفائه، والضمير في قوله لِيَعْلَمُوا يحتمل أن يعود على الأمة
المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبري، وذلك أنهم، فيما روي، دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه، وقالوا إنما تحشر الأرواح، فشق على ملكهم ذلك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد، وتضرع إلى الله في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فلما بعثهم الله، وتبين الناس أمرهم، سر الملك ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ على هذا التأويل، ويحتمل أن يعمل في أَنَّ على هذا التأويل، أَعْثَرْنا، ويحتمل أن يعمل فيه لِيَعْلَمُوا، والضمير في قوله لِيَعْلَمُوا يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور، وقوله إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا التأويل ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم، والعامل في إِذْ، فعل مضمر تقديره واذكر، ويحتمل أن يعمل فيه فَقالُوا إِذْ يَتَنازَعُونَ ابْنُوا عَلَيْهِمْ. والتنازع على هذا التأويل، إنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، و «الريب» : الشك، والمعنى أن الساعة في نفسها وحقيقتها لا شك فيها، وإن كان الشك قد وقع لناس، فذلك لا يلحقها منه شيء، وقيل إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم فقال بعض هم أموات، وبعض هم أحياء، وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم، وتركهم فيه مغيبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: لنتخذن عليهم مسجدا، فاتخذوه، وقال قتادة الَّذِينَ غَلَبُوا هم الولاة، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي: «غلبوا» بضم الغين وكسر اللام، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت أولا تريد أن لا يبنى عليهم شيء، وأن لا يعرض لموضعهم، فروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت ولا بد طمس الكهف، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان ولا بد، قالت يكون مسجدا، فكان، وروي أن الطائفة التي دعت إلى البنيان، إنما كانت كافرة، أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم، فمانعهم المؤمنون، وقالوا لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، وروي عن عبيد بن عمير أن الله عمى على الناس حينئذ أثرهم، وحجبهم عنهم، فلذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
الضمير في قوله سَيَقُولُونَ يراد به أهل التوراة، من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص، وقرأ الجمهور «ثلاثة»، وقرأ ابن محيصن «ثلاث» بإدغام التاء في الثاء، وقرأ شبل عن ابن كثير «خمسة» بفتح الميم اتباعا لعشرة، وقرأ ابن محيصن «خمسة» بكسر الخاء والميم، وقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ معناه ظنا، وهو مستعار من الرجم، كأن الإنسان
507
يرمي الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة، يرجمه به عسى أن يصيب، ومن هذا هو الترجمان وترجمة الكتاب، ومنه قول زهير: [الطويل]
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
والواو في قوله وَثامِنُهُمْ طريق النحويين فيها أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم، لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا نهاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام. وتقول فرقة منها ابن خالويه:
هي واو الثمانية، وذكر ذلك الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية تسعة، فتدخل الواو في الثمانية.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم شرحها، وهي في القرآن في قوله الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: ١١٢] وفي قوله وَفُتِحَتِ [النبأ: ١٩]، وأما قوله تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: ٥]، وقوله سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الحاقة: ٧] فتوهم في هذين الموضعين أنها واو الثمانية وليست بها بل هي لازمة لا يستغني الكلام عنها، وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم «عدتهم» إليه عز وجل، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل، والمراد به قوم من أهل الكتاب، وكان ابن عباس يقول: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ويستدل على هذا من الآية: بأن القرآن لما حكى قول من قال «ثلاثة وخمسة» قرن بالقول أنه رجم بالغيب فقدح ذلك فيها، ثم حكى هذه المقالة ولم يقدح فيها بشيء، بل تركها مسجلة، وأيضا فيقوي ذلك على القول بواو الثمانية لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح، وقوله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً معناه على بعض الأقوال، أي بظاهر ما أوحيناه إليك، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى، وقيل معنى «الظاهر» أن يقول ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتج هو على أمر مقرر في ذلك فإن ذلك يكون مراء في باطن من الأمر، وقال التبريزي:
ظاهِراً معناه ذاهبا، وأنشد:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
ولم يبح له في هذه الآية أن يماري، ولكن قوله إِلَّا مِراءً استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب، سميت مراجعته لهم مِراءً، ثم قيد بأنه ظاهر، ففارق المراء الحقيقي المذموم. و «المراء» مشتق من المرية، وهو الشك، فكأنه المشاككة، والضمير في قوله فِيهِمْ عائد على أهل الكهف، وفي قوله مِنْهُمْ عائد على أهل الكتاب المعاصرين، وقوله فَلا تُمارِ فِيهِمْ يعني في عدتهم، وحذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها، وقوله وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ الآية، عاتب الله تعالى فيها نبيه عليه السلام على قوله للكفار غدا أخبركم يجواب أسئلتكم، ولم يستثن في ذلك، فاحتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه، وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة، وأمر في هذه الآية أن يقول في أمر من الأمور: إني أفعل غدا كذا وكذا إلا وأن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل، واللام في قوله لِشَيْءٍ بمنزلة في أو كأنه قال لأجل شيء، وقوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ في الكلام حذف يقتضيه الظاهر، ويحسنه الإيجاز، تقديره: إلا ان تقول إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول إن شاء الله، فالمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله، فليس إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ من القول الذي نهي عنه وقالت فرقة: قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من قوله وَلا
508
تَقُولَنَ
وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى، وقوله وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن عباس والحسن معناه، والإشارة به إلى الاستثناء أي ولتستثن بعد مدة، إذا نسيت الاستثناء أولا لتخرج من جملة من لم يعلق فعله بمشيئة الله، وقال عكرمة: المعنى واذكر ربك إذا غضبت، وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين، ولكن من حيث تكلم الناس فيها، ينبغي أن نذكر شيئا من ذلك، أما مالك رحمه الله وجميع أصحابه، فيما علمت، وكثير من العلماء، فيقولون لا ينفع الاستثناء ويسقط الكفّارة إلا أن يكون متصلا باليمين، وقال عطاء له أن يستثني في قدر حلب الناقة الغزيرة، وقال قتادة إن استثنى قبل أن يقول أو يتكلم فله ثنياه، وقال ابن حنبل له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر، وقاله ابن راهويه، وقال طاوس والحسن ينفع الاستثناء ما دام الحالف في مجلسه، وقال ابن جبير ينفع الاستثناء بعد أربعة أشهر فقط، وقال ابن عباس ينفع الاستثناء ولو بعد سنة، وقال مجاهد بعد سنتين، وقال أبو العالية ينفع أبدا، واختلف الناس في التأويل على ابن عباس، فقال الطبري وغيره إنما أراد ابن عباس أنه ينفع في أن يحصل الحالف في رتبة المستثنين بعد سنة من حلفه، وأما الكفارة فلا تسقط عنه، قال الطبري ولا أعلم أحدا يقول ينفع الاستثناء بعد مدة، يقول بسقوط الكفارة، قال ويرد ذلك قول النبي ﷺ «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليكفر وليأت الذي هو خير». فلو كان الاستثناء يسقط الكفارة لكان أخف على الأمة، ولم يكن لذكر الكفارة فائدة، وقال الزهراوي: إنما تكلم ابن عباس في أن الاستثناء بعد سنة لمن قال أنا أفعل كذا... لا لحالف أراد حل يمينه، وذهبت فرقة من الفقهاء إلى أن مذهب ابن عباس سقوط الكفارة وألزموا كل من يقول ينفع الاستثناء بعد مدة، إسقاط الكفارة، وردوا على القول بعد إلزامه، وليس الاستثناء إلا في اليمين بالله، لا يكون في طلاق ونحوه، ولا في مشي إلى مكة، هذا قول مالك وجماعة، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وطاوس وحماد الاستثناء في ذلك جائز، وليس في اليمين الغموس استثناء ينفع، ولا يكون الاستثناء بالقول، وإنما يكون قولا ونطقا، وقوله وَقُلْ عَسى الآية، قال محمد الكوفي المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء، وقال الجمهور هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص، وقرأ الجمهور «يهديني» بإثبات الياء، وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقرأ طلحة من مصرف دون ياء في الوصل، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، والإشارة بهذا إلى الاستدراك الذي يقع من ناسي الاستثناء
. وقال الزجاج المعنى عسى أن ييسر الله من الأدلة على نبوتي أقرب من دليل أصحاب الكهف.
قال القاضي أبو محمد: وما قدمته أصوب، أي عسى أن يرشدني فيما استقبل من أمري وهذه الآية مخاطبة للنبي عليه السلام، وهي بعد تعم جميع أمته، لأنه حكم يتردد الناس بكثرة وقوعه والله الموفق.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧)
509
قال قتادة ومطر الوراق وغيرهما وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الآية حكاية عن بني إسرائيل أنهم قالوا ذلك، واحتجا بأن قراءة عبد الله بن مسعود، وفي مصحفه: «وقالوا لبثوا في كهفهم»، وذلك عند قتادة، على غير قراءة عبد الله، عطف على وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ [الكهف: ٢٢]، ذكره الزهراوي، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه ردا على مقالهم وتقييدا له، قال الطبري: وقال بعضهم: لو كان ذلك خبرا من الله، لم يكن لقوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وجه مفهوم.
قال القاضي أبو محمد: أين ذهب بهذا القائل، وما الوجه المفهوم البارع إلا أن تكون الآية خبرا عن لبثهم، ثم قيل لمحمد ﷺ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فخبره هذا هو الحق من عالم الغيب فليزل اختلافكم أيها المخرصون، وقال المحققون: بل قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم، ثم اختلف في معنى قوله بعد الإخبار قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فقال الطبري: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمره الله أن يرد علم ذلك إليه فقوله على هذا التأويل لَبِثُوا الأول، يريد في نوم الكهف، ولَبِثُوا الثاني: يريد بعد الإعثار موتى إلى مدة محمد عليه السلام، إلى وقت عدمهم بالبلى، على الاختلاف الذي سنذكره بعد، وقال بعضها إنه لما قال: وَازْدَادُوا تِسْعاً لم يدر الناس أهي ساعات، أم أيام، أم جمع، أم شهور، أم أعوام. واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمره الله برد العلم إليه، يريد في التسع فهي على هذا مبهمة، وظاهر كلام العرب والمفهوم منه أنها أعوام، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير، وقد بقيت من الحواريين بقية، وحكى النقاش ما معناه: أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأمم، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين، وقرأ الجمهور «ثلاثمائة سنين» بتنوين مائة ونصب «سنين» على البدل من «ثلاثمائة»، وعطف البيان، وقيل على التفسير والتمييز وقرأ حمزة والكسائي ويحيى وطلحة والأعمش بإضافة «مائة» إلى «سنين»، وترك التنوين، وكأنهم جعلوا «سنين» بمنزلة سنة، إذ المعنى بهما واحد قال أبو علي: إذ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب، قد تضاف إلى الجموع، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود:
«ثلاثمائة سنة»، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون»، بالواو، وقرأ أبو عمرو بخلاف: «تسعا» بفتح التاء، وقرأ الجمهور «تسعا» بكسر التاء، وقوله أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره وأسمعه. قال قتادة: لا أحد أبصر من الله ولا أسمع، وهذه عبارات عن الإدراك، ويحتمل أن يكون المعنى: أبصر به أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور. وأسمع به العالم، فتكون أمرين، لا على وجه التعجب، وقوله ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ يحتمل أن يعود الضمير في لَهُمْ على أصحاب الكهف، أي هذه قدرته وحده، لم
510
يوالهم غيره بتلطف لهم، ولا اشترك معه أحد في هذا الحكم، ويحتمل أن يعود الضمير في لَهُمْ على معاصري رسول الله ﷺ من الكفار ومشاقيه، وتكون الآية اعتراضا بتهديد، وقرأ الجمهور «ولا يشرك في حكمه أحدا» بالياء من تحت على معنى الخبر عن الله تعالى، وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري «ولا تشرك» بالتاء من فوق، على جهة النهي للنبي عليه السلام، ويكون قوله «ولا تشرك» عطفا على أَبْصِرْ وَأَسْمِعْ، وقرأ مجاهد «ولا يشرك» بالياء من تحت وبالجزم، قال يعقوب لا أعرف وجهه، وحكى الطبري عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: نزلت هذه الآية: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ فقط، فقال الناس هي أشهر أم أيام أم أعوام؟ فنزلت سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً وأما هل دام أهل الكهف وبقيت أشخاصهم محفوظة بعد الموت؟ فاختلفت الروايات في ذلك، فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته، مع ناس على موضع الكهف وجبله، فمشى الناس إليه، فوجدوا عظاما، فقالوا هذه عظام أصحاب الكهف، فقال لهم ابن عباس: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة فسمعه راهب، فقال ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا، فقيل له هذا ابن عم نبينا فسكت، وروت فرقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف، فإنهم لم يحجوا بعد.
قال القاضي أبو محمد: وبالشام على ما سمعت من ناس كثير، كهف كان فيه موتى، يزعم محاويه أنهم أصحاب الكهف، وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم، ومعهم كلب رمة، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة، كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه، وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم إشارة، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة، وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر محلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب في قبور ونحوها.
قال القاضي أبو محمد: وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل، وقوله وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ الآية، من قرأ «ولا تشرك» بالنهي، عطف قوله وَاتْلُ عليه، ومن قرأ «ولا يشرك»، جعل هذا أمرا بدىء به كلام آخر ليس من الأول، وكأن هذه الآية، في معنى الإعتاب للنبي عليه السلام، عقب العتاب الذي كان تركه الاستثناء، كأنه يقول هذه أجوبة الأسئلة فاتل وحي الله إليك، أي اتبع في أعمالك، وقيل اسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك، لا نقض في قوله، ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وليس لك سواه جانب تميل إليه، وتستند، و «الملتحد» : الجانب الذي يمال إليه، ومعنى اللحد كأنه الميل في أحد شقي القبر، ومنه الإلحاد في الحق، وهو الميل عن الحق، ولا يفسر قوله لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أمر النسخ لأن المعنى: إما أن يكون لا مبدل سواه فتبقى الكلمات على الإطلاق، وإما أن يكون أراد من «الكلمات» الخبر ونحوه، مما لا يدخله نسخ، والإجماع أن الذي لا يتبدل هو الكلام القائم بالذات الذي بحسبه يجري القدر. فأما الكتب المنزلة فمذهب ابن عباس أنها لا تبدل إلا بالتأويل.
511
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة، وقيل عيينة بن حصن وأصحابه والأول أصوب، لأن السورة مكية، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه، وقالوا إن ريح جباتهم تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وروي أن رسول الله ﷺ خرج إليهم وجلس بينهم، وقال الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه، وروي أنه قال لهم رحبا بالذي عاتبني فيهم ربي، وروى سلمان أن المؤلفة قلوبهم، عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذويهم، قالوا ما ذكر، فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: فالآية على هذا مدنية، ويشبه أن تكون الآية مكية، وفعل المؤلفة قريش فرد بالآية عليهم، وَاصْبِرْ معناه احبس، ومنه المصبورة التي جاء فيها الحديث: نهى رسول الله ﷺ عن صبر الحيوان، أي حبسه للرمي ونحوه، وقرأ الجمهور «بالغداة»، وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وهي قراءة نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبي عبد الرحمن والحسن، وهي في الخط على القراءتين بالواو، فمن يقرأها «بالغداة» يكتبها «بالغدوة» كما تكتب «الصلاة والزكوة»، وفي قراءة من قرأ «بالغدوة» ضعف لأن «غدوة» اسم معروف فحقه أن لا تدخل عليه الألف واللام ووجه القراءة بذلك أنهم ألحقوها ضربا من التنكير إذ قالوا حيث غدوة يريدون الغدوات فحسن دخول الألف واللام كقولهم الفينة وفينة اسم معرف، والإشارة بقوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إلى الصلوات الخمس. قاله ابن عمر ومجاهد وإبراهيم، وقال قتادة المراد صلاة الفجر، وصلاة العصر.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة، ومن يجتمع لمذاكرة علم، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال «لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله، ومن إعطاء المال سحا»، وقرأ أبو عبد الرحمن «بالغدو» دون هاء، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات» «والعشيات» على الجمع، وقوله وَلا تَعْدُ عَيْناكَ أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا والملابس من الكفار، وقرأ الحسن «ولا تعدّ عينيك» بضم التاء وفتح العين وشد الدال المكسورة، أي لا تجاوزها أنت عنهم، وروي عنه «ولا تعد عينيك» بضم التاء وسكون العين، وقوله مَنْ أَغْفَلْنا قيل إنه أراد بذلك معينا وهو عيينة بن حصن، والأقرع قاله خباب، وقيل إنما أراد من هذه صفته، وإنما المراد أولا كفار قريش، لأن الآية مكية، وقرأ الجمهور «أغفلنا قلبه» بنصب الباء على معنى جعلناه غافلا، وقرأ عمرو بن
512
فائد وموسى الأسواري «أغفلنا قلبه» على معنى أهمل ذكرنا وتركه، قال ابن جني المعنى من ظننا غافلين عنه، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد و «الفرط» يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلتزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، أي أمره وهواه الذي هو بسبيله، وقد فسره المتأولون بالعبارتين: أعني التضييع والإسراف، وعبر خباب عنه بالهلاك، وداود بالندامة، وابن زيد بالخلاف للحق، وهذا كله تفسير بالمعنى، وقوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ الآية، المعنى وقل لهم يا محمد هذا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي هذا القرآن، أو هذا الإعراض عنكم، وترك الطاعة لكم، وصبر النفس مع المؤمنين، وقرأ قعنب وأبو السمال «وقل» بفتح اللام قال أبو حاتم وذلك رديء في العربية، وقوله فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ الآية توعد وتهديد، أي فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله عز وجل، وتأولت فرقة فَمَنْ شاءَ الله إيمانه فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ الله كفره فَلْيَكْفُرْ، وهو متوجه، أي فحقه الإيمان وحقه الكفر، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر الزما وتحريضا، ومن حيث للإنسان في ذلك التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فليؤمن» «وليكفر» بكسر اللامين وأَعْتَدْنا مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر و «السرادق» وهو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط الفسطاط، وقد تكون من نوع الفسطاط أديما أو ثوبا أو نحوه، ومنه قول رؤبة: [الرجز]
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق والمجد عليك ممدود
ومنه قول سلامة بن جندل: [الطويل]
هو المولج النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال الزجاج «السرادق» كل ما أحاط بشيء.
قال القاضي أبو محمد: وهو عندي أخص مما قال الزجاج، واختلف في «سرادق» النار فقال ابن عباس سُرادِقُها حائط من نار وقالت فرقة سُرادِقُها دخان يحيط بالكفار، وقوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: ٣٠] وقالت فرقة الإحاطة هي في الدنيا، والسرادق البحر، وروي هذا المعنى عن النبي ﷺ من طريق يعلى بن أمية، فيجيء قوله تعالى: أَحاطَ بِهِمْ أي بالبشر ذكر الطبري الحديث عن يعلى قال، قال رسول الله ﷺ «البحر هي جهنم» وتلا هذه الآية: ثم قال «والله لا أدخله أبدا أو ما دمت حيا»، وروي عنه أيضا عليه السلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال «سرادق النار أربعة جدور، كتف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة»، وقوله عز وجل يُغاثُوا أي يكون لهم مقام الغوث وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر] تحية بينهم ضرب وجيع أي القائم مقام التحية و «المهل» قال أبو سعيد عن النبي عليه السلام هو دردي الزيت إذا انتهى حده، وقالت فرقة هو كل مائع سخن حتى انتهى حره، وقال ابن مسعود وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى يميع، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألوانا ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة، فقال ما رأيت في الدنيا
513
شيئا أدنى شبها «بالمهل» من هذا، يريد أدنى شبها بشراب أهل النار، وقالت فرقة «المهل» : الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر الصديق في الكفن: «إنما هو للمهلة»، يريد لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم: ١٦] الآية. وقوله يَشْوِي الْوُجُوهَ روي في معناه عن النبي ﷺ أنه قال تقرب الشربة من الكافر، فإذا دنت منه تكرهها، فإذا دنت أكثر شوت وجهه، وسقطت فيها فروة وجهه، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه. و «المرتفق»، الشيء الذي يرتفق به أي يطلب رفقه، و «المرتفق» الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية، لأنه في شيء واحد من معنى الرفق، على أن الطبري قد فسر الآية به، والأظهر عندي أن يكون «المرتفق» بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره، وقال مجاهد «المرتفق» المجتمع كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة، ومنه الرفقة، وهذا كله راجع إلى الرفق، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى، والقول بين الوجه، والله المعين.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
قوله عز وجل: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا اعتراض مؤكد للمعنى، مذكر بأفضال الله، منبه على حسن جزائه بين قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وقوله أُولئِكَ، فقوله تعالى:
أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ابتداء وخبر جملة، هي خبر إِنَّ الأولى، ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر: [البسيط]
إن الخليفة إن الله ألبسه... سربال ملك به ترجى الخواتيم
قال الزجاج: ويجوز أن يكون خبر إن في قوله إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا لأن المحسنين هم المؤمنون فكأن المعنى: لا يضيع أجرهم.
قال القاضي أبو محمد: ومذهب سيبويه أن الخبر في قوله لا نُضِيعُ على حذف العائد تقديره، مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا منهم، و «العدن» : الإقامة، ومنه المعدن، لأن حجره مقيم فيه ثابت، وقوله مِنْ تَحْتِهِمُ يريد من تحت غرفهم، ومبانيهم، وقرأ الجمهور «من أساور» وروى أبان عن عاصم «أسورة» من غير ألف، وبزيادة هاء. وواحد الأساور إسوار، حذفت الياء من الجمع لأن الباب أساوير، وهي ما كان من الحلي في الذراع. وقيل أَساوِرَ جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، وإنما الإسوار بالفارسية القائد ونحوه ويقال في حلي الذراع أسوار، ذكره أبو عبيدة معمر ومنه قول الشاعر: [الرجز]
والله لولا صبية صغار... كأنما وجوهم أقمار
تضمهم من العتيك دار... أخاف أن يصيبهم إقتار
أو لاضم ليس له أسوار... لما رآني ملك جبار
ببابه ما وضح النهار أنشده أبو بكر بن الأنباري حاشية في كتاب أبي عبيدة، و «السندس» : رقيق الديباج، و «الإستبرق» ما غلظ منه، وقال بعض الناس هي لفظة أعجمية عربت، وأصلها استبره، وقال بعضهم بل هو الفعل العربي، سمي به فهو إستبرق من الريق فغير حين سمي به بقطع الألف، ويقوي هذا القول أن ابن محيصن قرأ «من سندس وإستبرق» فجاء موصول الهمزة حيث وقع ولا يجزمه، بل بفتح القاف، ذكره الأهوازي، وذكره أبو الفتح، وقال هذا سهو أو كالسهو والْأَرائِكِ جمع أريكة هي السرير في المجال، والضمير في قوله وَحَسُنَتْ للجنات وحكى النقاش عن أبي عمران الجوني أنه قال: «الإستبرق» الحرير المنسوج بالذهب، وحكى مكي والزهراوي وغيرهما حديثا مضمنه أن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، سأل أعرابي رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الآي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للأعرابي: أعلم قومك أنها نزلت في هؤلاء الأربعة، وهم حضور.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤)
الضمير في لَهُمْ عائد على الطائفة المتجبرة التي أرادت من النبي عليه السلام أن يطرد فقراء المؤمنين الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف: ٢٨] وعلى أولئك الداعين أيضا، فالمثل مضروب للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبر في قريش أو بني تميم على الخلاف المذكور أولا، والرجل المؤمن المقر بالربوبية، هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم وَحَفَفْناهُما بمعنى وجعلنا ذلك لها من كل جهة، تقول حفك الله بخير: أي عمك به من جهاتك، و «الحفاف» الجانب من السرير والفدان ونحوه، وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع وكان موجودا، وعلى ذلك فسره أكثر أهل هذا التأويل، ويحتمل أن يكون مضروبا بمن هذه صفته وإن لم يقع ذلك في وجود قط، والأول أظهر، وروي في ذلك أنهما كانا أخوين من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار فصنع أحدهما بماله ما ذكر واشترى عبيدا وتزوج وأثرى وأنفق الآخر ماله في طاعات الله عز وجل حتى افتقر، والتقيا ففخر الغني ووبخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة، وروي أنهما كانا شريكين حدادين، كسبا مالا كثيرا وصنعا نحو ما روي في أمر الأخوين، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه، وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد، أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين، فباع أحدهما نصيبه من الآخر، وأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما هذه المحاورة، قال: فغرقها الله في ليلة وإياها عنى بهذه الآية،
وفي بسط قصصهما طول فاختصرته واقتصرت على معناه لقلة صحته، ولأن في هذا ما يفي بفهم الآية، وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله، فإن المرء لا يكاد يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس: جنتا عنب أحاط بهما نخل، بينهما فسحة، هي مزدرع لجميع الحبوب، والماء الغيل يسقى جميع ذلك من النهر الذي قد جمل هذا المنظر، وعظم النفع، وقرب الكد، وأغنى عن النواضح وغيرها. وقرأ الجمهور «كلتا»، وفي مصحف عبد الله «كلا»، والتاء في «كلتا» منقلبة من واو عند سيبويه وهو بالتاء أو بغير التاء اسم مفرد واقع على الشيء المثنى، وليس باسم مثنى، ومعناه كل واحدة منهما و «الأكل» ثمرها الذي يؤكل منها، قال الفراء: وفي قراءة ابن مسعود «كل الجنتين آتى أكله»، وقوله وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص عن العرف الأتم الذي يشبه فيها، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تظلمني مالي كذا ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
وقرأ الجمهور «وفجّرنا» بشد الجيم، وقرأ سلام، ويعقوب وعيسى بن عمر. «وفجرنا» بفتح الجيم دون شد، وقرأ الجمهور «نهرا» بفتح الهاء. وقرأ أبو السمال، والفياض بن غزوان، وطلحة بن سليمان:
«نهرا» بسكون الهاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن عباس ومجاهد وجماعة قراء المدينة ومكة «ثمر» و «بثمره» [الكهف: ٤٢] بضم الثاء والميم، جمع ثمار وقرأ أبو عمرو والأعمش وأبو رجاء بسكون الميم فيهما تخفيفا، وهي في المعنى كالأولى، ويتجه أن يكون جمع ثمرة كبدنة وبدن، وقرأ عاصم «ثمر» وبثمره يفتح الميم والثاء فيهما، وهي قراءة أبي جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج، واختلف المتأولون في «الثمر» بضم الثاء والميم، فقال ابن عباس وقتادة: «الثّمر» جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، ويستشهد لهذا القول ببيت النابغة الذبياني: [البسيط] وما أثمّر من مال ومن ولد وقال مجاهد يراد بها الذهب والفضة خاصة، وقال ابن زيد «الثمر» هي الأصول التي فيها الثمر.
قال القاضي أبو محمد: كأنها ثمار وثمر ككتاب وكتب، وأما من قرأ بفتح الثاء والميم، فلا إشكال في أن المعنى ما في رؤوس الشجر من الأكل، ولكن فصاحة الكلام تقتضي أن يعبر إيجازا عن هلاك الثمر والأصول بهلاك الثمر فقط، فخصصها بالذكر إذ هي مقصود المستغل، وإذ هلاك الأصول إنما يسوء منه هلاك الثمر الذي كان يرجى في المستقبل كما يقتضي قوله إن له «ثمرا»، إن له أصولا كذلك تقتضي الإحاطة المطلقة بالثمر، ان الأصول قد هلكت، وفي مصحف أبي «وآتيناه ثمرا كثيرا» وقرأ أبو رجاء «وكان له ثمر» بفتح الثاء وسكون الميم، والمحاورة مراجعة القول، وهو من حار يحور. واستدل بعض الناس من قوله وَأَعَزُّ نَفَراً على أنه لم يكن أخاه، وقال المناقض أراد ب «النفر» العبيد والخول، إذ هم الذين ينفرون في رغائبه، وفي هذا الكلام من الكبر والزهو والاغترار ما بيانه يغني عن القول فيه، وهذه المقالة بإزاء قول عيينة والأقرع للنبي صلّى الله عليه وسلّم نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر، فنح عنا سلمان وقرناءه.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩)
516
أفرد الجنة من حيث الوجود كذلك، إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، و «ظلمه لنفسه» : كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث، فقد نص على ذلك قتادة وابن زيد، وفي شكه في حديث العالم إن كانت إشارته ب هذِهِ إلى الهيئة من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط، فإنما في الكلام تساخف واغترار مفرط وقلة تحصيل، وكأنه من شدة العجب بل والسرور أفرط في وصفها بهذا القول ثم قاس أيضا الآخرة على الدنيا، وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، قال: فإن كان ثم رجوع كما يزعم فستكون حالي كذا وكذا، وليست مقالة العاصي بن وائل لخباب على حد هذه، بل قصد العاصي الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وابن الزبير، وثبت في مصاحف المدينة «منهما» يريد الجنتين المذكورتين أولا، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والعامة، وكذلك هو مصحف أهل البصرة «منها» يريد الجنة المدخولة، وقوله قالَ لَهُ صاحِبُهُ حكاية أن المؤمن من الرجلين لما سمع كلام الكافر وقفه على جهة التوبيخ على كفر بالله تعالى، وقرأ أبي بن كعب: «وهو يخاصمه»، وقرأ ثابت البناني، «ويلك أكفرت»، ثم جعل يعظم الله تعالى عنده بأوصاف تضمنت النعم والدلائل على جواز البعث من القبور، وقوله مِنْ تُرابٍ إشارة إلى آدم عليه السلام، وقوله سَوَّاكَ رَجُلًا كما تقول سواك شخصا أو حيا، أو نحو هذا من التأكيدات، وقد يحتمل أن قصد تخصيص الرجولة، على وجه تعديد النعمة، في أن لم يكن أنثى ولا خنثى، وذكر الطبري نحو هذا، واختلفت القراءة في قوله لكِنَّا فقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيبي «لكنا» في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «لكن» في الوصل و «لكنا» في الوقف، ورجحها الطبري، وهي رواية ورش وقالون عن نافع، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والحسن «لكن أنا هو الله ربي»، وقرأ عيسى الثقفي والأعمش بخلاف «لكن هو الله ربي» فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن، وأما الذي قبلها فعلى معنى لكن أنا أقول ومن هذه الفرقة، من قرأ «لكننا»، على حذف الهمزة وتخفيف النونين، وفي هذا نظر، وأما من قرأ «لكننا»، فأصله عنده لكن أنا: حذفت الهمزة على غير قياس، وأدغمت النون في النون، وقد قال بعض النحويين: نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء لكننا، ثم أدغمت بعد ذلك فجاء «لكنا»، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة، فمنهم من حذفها في الوصل، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف، ليدل على أصل الكلمة، ويتوجه في لكِنَّا أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في «خرجنا وضربنا»، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين، ثم وجد في رَبِّي على المعنى، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا ذكره أبو علي، ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حال الوصل، والوقف، ويتوجه في لكِنَّا أن تكون المشهورة من أخوات إن، المعنى: لكن قولي: هو اللَّهُ رَبِّي، أما أني لا أعرف من يقرأ بها وصلا ووقفا، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه، وروى هارون عن أبي
517
عمرو «ولكنه هو الله ربي» بضمير لحق «لكن» وباقي الآية بين، وقوله وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ الآية:
وصية من المؤمن للكافر، وَلَوْلا تحضيض، بمعنى هلا وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي، بتقدير الذي إن شاء الله كائن، وفي شاءَ ضمير عائد، ويحتمل أن تكون شرطية، بتقدير ما شاء الله كان، ويحتمل أن تكون خبر ابتداء محذوف تقديره هو ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، وقوله لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ تسليم وضد لقول الكافر ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأبي هريرة «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟» قال بلى يا رسول الله، قال لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم»، وفي حديث أبي موسى: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قال افعل يا رسول الله، قال «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، واختلفت القراءة في حذف الياء من تَرَنِ وإثباتها فأثبتها ابن كثير وصلا ووقفا، وحذفها ابن عامر وعاصم وحمزة فيهما، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل فقط، وقرأ الجمهور «أقلّ» بالنصب على المفعول الثاني، وقوله أَنَا فاصلة ملغاة وقرأ عيسى بن عمر: «أقلّ» بالرفع، على أن يكون أَنَا مبتدأ و «أقل» خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والرؤية، رؤية القلب في هذه الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
هذا الترجي ب «عسى» يحتمل أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعا، وأذهب مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية المخاطب، وأشد إيلاما لنفسه، و «الحسبان» العذاب كالبرد والصر ونحوه، واحد الحسبان: حسبانة، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وهي أيضا سهام ترمى دفعة بآلة لذلك، و «الصعيد» وجه الأرض و «الزلق» الذي لا تثبت فيه قدم، يعني أنه تذهب أشجاره ونباته، ويبقى أرضا قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي فيها، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيه قدم، و «الغور» مصدر يوصف به الماء المفرد والمياه الكثيرة، كقولك رجل عدل وامرأة عدل ونحوه، ومعناه ذاهبا في الأرض لا يستطاع تناوله وقرأت فرقة «غورا»، وقرأت فرقة «غورا»، بضم الغين، وقرأت فرقة «غؤرا»، بضم الغين وهمز الواو، و «غور» مثل نوح، يوصف به الواحد والجمع المذكر والمؤنث، ومنه قول الشاعر: [الوافر].
تظل جيادها نوحا عليه... مقلدة أعنتها صفونا
وهذا كثير، وباقي الآية بين، وقوله تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ الآية، هذا خبر من الله عن إحاطة
العذاب بحال هذا المثل به، وقد تقدم القول في الثمر، غير أن الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد، ويُقَلِّبُ كَفَّيْهِ يريد يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهف المتأسف على فائت وخسارة ونحوها، ومن عبر بيصفق فلم يتقن، وقوله خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يريد أن السقوف وقعت، وهي العروش، ثم تهدمت الحيطان عليها، فهي خاوية، والحيطان على العروش وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً قال بعض المفسرين: هي حكاية عن قول الكافر هذه المقالة في الآخرة، ويحتمل أن يريد أنه قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ويكون فيها زجر للكفرة من قريش أو غيرهم، لئلا تجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة: «ولم تكن» بالتاء على لفظة الفئة، وقرأ حمزة والكسائي ومجاهد وابن وثاب «ولم يكن» بالياء على المعنى، «الفئة» الجماعة التي يلجأ إلى نصرها، قال مجاهد هي العشيرة.
قال القاضي أبو محمد: وهي عندي من فاء يفيء وزنها فئة، حذفت العين تخفيفا، وقد قال أبو علي وغيره: هي من فاوت وليست من فاء، وهذا الذي قالوه أدخل في التصريف، والأول أحكم في المعنى، وقرأ ابن أبي عبلة: «فئة تنصره»، وقوله هُنالِكَ يحتمل أن يكون ظرفا لقوله مُنْتَصِراً ويحتمل أن تكون الْوَلايَةُ مبتدأ، وهُنالِكَ خبره، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب «الولاية» بكسر الواو، وهي بمعنى الرياسة والزعامة ونحوه، وقرأ الباقون «الولاية» بفتح الواو وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه، ويحكى عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن، لأن فعالة، إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلدا، وليس هنا تولي أمر الموالاة، وقرأ أبو عمرو والكسائي «الحق» بالرفع على جهة النعت ل الْوَلايَةُ، وقرأ الباقون «الحقّ» بالخفض على النعت لِلَّهِ عز وجل، وقرأ أبو حيوة «لله الحقّ» بالنصب وقرأ الجمهور «عقبا» بضم العين والقاف وقرأ عاصم وحمزة والحسن «عقبا» بضم العين وسكون القاف وتنوين الباء، وقرأ عاصم أيضا «عقبى» بياء التأنيث، والعقب والعقب بمعنى العاقبة.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)
قوله الْحَياةِ الدُّنْيا يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه، وقوله كَماءٍ يريد هي كماء، وقوله فَاخْتَلَطَ بِهِ أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، فالباء في بِهِ باء السبب، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك، لا أنه أراد اختصاصا بوقت الصباح، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع:
[المنسرح]
519
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
و «الهشيم» المتفتت من يابس العشب، ومنه قوله تعالى كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر: ٣١] ومنه هشم الثريد، وتَذْرُوهُ، بمعنى تفرقه، وقرأ ابن عباس: «تذريه»، والمعنى: تقلعه وترمي به، وقرأ الحسن «تذروه الريح» بالإفراد، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله: وَكانَ اللَّهُ عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله، هذا قول سيبويه، وهو معنى صحيح وقال الحسن كانَ: إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات، أي إن القدرة كانت، وهذا أيضا حسن، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك هَشِيماً ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل صالح، يبقى في الآخرة فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة، ونحوه. وقوله الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا لفظ الخبر، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين لأنه في المثل، قبل حقر أمر الدنيا وبنيه، فكأنه يقول في هذه: إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة، فلا تتبعوها نفوسكم، وقوله زِينَةُ مصدر، وقد أخبر به عن أشخاص فإما أن يكون على تقدير محذوف، وتقديره:
مقر زينة الحياة الدنيا، وإما أن نضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة، واختلف الناس في الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل: هي الصلوات الخمس وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، روي في هذا حديث: «أكثروا من الباقيات الصالحات»، وقاله أيضا ابن عباس، وروي عن رسول الله ﷺ من طريق أبي هريرة وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، وقال ابن عباس أيضا الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ: كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ورجحه الطبري، وقال ابن عباس بكل الأقوال دليل على قوله بالعموم، وقوله خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا صاحبها ينتظر الثواب وينبسط على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح، وقوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ الآية التقدير: واذكر يوم، وهذا أفصح ما يتأول في هذا هنا، وقرأ نافع والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرف وأبو عبد الرحمن «نسير» بنون العظمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى: «تسيّر» بالتاء، وفتح الياء المشددة «الجبال» رفع، وقرأ الحسن: «يسيّر» بياء مضمونة، والثانية مفتوحة مشددة، «الجبال» رفعا، وقرأ ابن محيصن «تسير» : بتاء مفتوحة وسين مكسورة، أسند الفعل إلى «الجبال»، وقرأ أبي بن كعب «ويوم سيرت الجبال». وقوله بارِزَةً إما أن يريد أن الأرض، لذهاب الجبال والظراب والشجر، برزت وانكشفت، وإما أن يريد: بروز أهلها، والمحشورين من سكان بطنها وَحَشَرْناهُمْ أي أقمناهم من قبورهم، وجعلناهم لعرضة القيامة، وقرأ الجمهور «نغادر» بنون العظمة، وقرأ قتادة: «تغادر» على الإسناد إلى القدرة أو إلى الأرض، وروى أبان بن يزيد عن عاصم: «يغادر» بياء وفتح الدال «أحد» بالرفع، وقرأ الضحاك «فلم نغدر» بنون مضمومة وكسر الدال وسكون الغين، والمغادرة:
الترك، ومنه غدير الماء، وهو ما تركه السيل، وقوله فًّا
إفراد نزل منزلة الجمع، أي صفوفا، وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفدهم البصر،
520
الحديث بطوله، وفي حديث آخر «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا، أنتم منها ثمانون صفا»، وقوله تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا
إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين للبعث، ومضمنها التقريع والتوبيخ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره: يقال للكفرة منهم، ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
يفسره قول النبي ﷺ إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: ١٠٤].
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)
الْكِتابُ اسم جنس، يراد به كتب الناس التي أحصاها الحفظة لواحد واحد، ويحتمل أن يكون الموضوع كتابا واحدا حاضرا، و «إشفاق المجرمين» : فزعهم من كشفه لهم وفضحه فشكاية المجرمين إنما هي من الإحصاء لا من ظلم ولا حيف، وقدم الصغيرة اهتماما بها، لينبه منها، ويدل أن الصغيرة إذا أحصيت، فالكبيرة أحرى بذلك، والعرب أبدا تقدم في الذكر الأقل من كل مقترنين، ونحو هذا هو قولهم: القمران والعمران، سموا باسم الأقل تنبيها منهم، وقال ابن عباس:
«الصغيرة» الضحك، وهذا مثال، وباقي الآية بين، وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ الآية، هذه الآية مضمنها تقريع الكفرة وتوقيفهم على خطاياهم في ولايتهم العدو دون الذي أنعم بكل نعمه على العموم، صغيرها وكبيرها، وتقدير الكلام: واذكر إذ قلنا وتكررت هذه العبارة حيث تكررت هذه القصة، إذ هي توطئة النازلة فأما ذكر النازلة هنا فمقدمة للتوبيخ، وذكرها في البقرة إعلام بمبادىء الأمور، واختلف المتأولون في السجود لآدم فقالت فرقة هو السجود المعروف، ووضع الوجه بالأرض، جعله الله تعالى من الملائكة عبادة له وتكرمة لآدم، فهذا كالصلاة للكعبة، وقالت فرقة بل كان إيماء منهم نحو الأرض، وذلك يسمى سجودا لأن السجود في كلام العرب عبارة عن غاية التواضع، ومنه قول الشاعر: [الطويل] ترى الأكم فيه سجدا للحوافر وهذا جائز أن يكلفه قوم، فمنه قول النبي ﷺ «قوموا إلى سيدكم»، ومنه تقبيل أبي عبيدة بن الجراح يد عمر بن الخطاب حين تلقاه في سفرته إلى الشام ذكره سعيد بن منصور في مصنفه، وقوله إِلَّا إِبْلِيسَ قالت فرقة هو استثناء منقطع، لأن إِبْلِيسَ ليس من الملائكة، بل هو من الجن، وهم الشياطين المخلوقون من مارج من نار، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور، واختلفت هذه الفرقة فقال بعضها إبليس من الجن، وهو أولهم، وبدءتهم، كآدم من الإنس، وقالت فرقة بل كان إبليس وقبيله
521
جنا، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته، فهو كنوح في الإنس، احتجوا بهذه الآية، وتعنيف إِبْلِيسَ على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة، وقالت فرقة إن الاستثناء متصل، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار، فإبليس من الملائكة وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين، وقال بعض هذه الفرقة كان في الملائكة صنف يسمى الجن وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض، وكان إبليس مدبر أمرهم ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى، إذ كان متصرفا بالأمر والنهي، مرسلا، والملك مشتق من المالكة، وهي الرسالة، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول اسْجُدُوا وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور، وقوله فَفَسَقَ معناه فخرج وانتزح، وقال رؤبة:
[الرجز]
تهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
ومنه قال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت النواة إذا خرجت عن الثمرة، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة، إنما هو في فساد، وقول النبي ﷺ «خمس فواسق يقتلن في الحرم إنما هن مفسدات» وقوله عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ يحتمل أن يريد خرج عن أمر ربه إياه، أي فارقه كما فعل الخارج عن طريق واحد، أي منه، ويحتمل أن يريد فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها، وعَنْ قد تجيء بمعنى بعد في مواضع كثيرة، كقولك أطعمتني عن جوع، ونحوه، فكأن المعنى: فسق بعد أمر ربه بأن يطيع ويحتمل أن يريد فخرج بأمر ربه أي بمشيئته ذلك له ويعبر عن المشيئة ب «الأمر»، إذ هي أحد الأمور، وهذا كما تقول فعلت ذلك عن أمرك أي بجدك وبحسب مرادك، وقال ابن عباس في قصص هذه الآية: كان إبليس من أشرف صنف، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون، وقال بعض العلماء إذا كانت خطيئة المرء من الخطأ فلترجه، كآدم، وإذا كانت من الكبر، فلا ترجه، كإبليس، ثم وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ يريد أفتتخذون إبليس، وقوله وَذُرِّيَّتَهُ ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل، وذكر الطبري أن مجاهدا قال: ذرية إبليس الشيطان، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق، وتبن صاحب المصائب، والأعور صاحب الربا، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلا، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح فلذلك اختصرته، وقد طول النقاش في هذا المعنى، وجلب حكايات تبعد من الصحة، فتركتها إيجازا، ولم يمر بي في هذا صحيح، إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء والوسوسة شيطانا يسمى خنزت، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان والله العليم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره، وقوله وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء، فهو اسم جنس، وقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بدل ولاية لله عز وجل بولاية إبليس وذريته، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل، وهذا هو نفس الظلم، لأنه وضع الشيء في غير موضعه.
522
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)
الضمير في أَشْهَدْتُهُمْ عائد على الكفار، وعلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين، وأهل الطبائع، والمتحكمين من الأطباء، وسواهم من كل من يتخوض في هذه الأشياء.
قال القاضي أبو محمد: وحدثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاد المهدوي بالمهدية، يقول سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين، وقيل الضمير في أَشْهَدْتُهُمْ عائد على ذرية إبليس، فهذه الآية، على هذا تتضمن تحقيرهم، والقول الأول أعظم فائدة، وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية، هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم والمعظمين للجن حين يقولون أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته، وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول ب الْمُضِلِّينَ، وتندرج هذه الطوائف في معناهم، وقرأ الجمهور، «وما كنت» وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف «وما كنت»، والصفة ب الْمُضِلِّينَ، تترتب في الطوائف المذكورة، وفي ذرية إبليس لعنه الله، و «العضد» استعارة للمعين المؤازر، وهو تشبيه بالعضد للإنسان الذي يستعين به، وقرأ الجمهور «عضدا» بفتح العين وضم الضاد، وقرأ أبو عمرو والحسن بضمهما، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد، وقرأ عكرمة «عضدا» بضم العين وسكون الضاد، وقرأ عيسى بن عمر «عضدا» بفتح العين والضاد، وفيه لغات غير هذا لم يقرأ بها، وقوله وَيَوْمَ يَقُولُ الآية وعيد، المعنى واذكر يوم، وقرأ طلحة ويحيى والأعمش وحمزة «نقول» بنون العظمة، وقرأ الجمهور بالياء أي «يقول» الله تعالى للكفار الذين أشركوا به من الدنيا سواه: نادُوا شُرَكائِيَ أي على وجه الاستغاثة بهم، وقوله شُرَكائِيَ أي على دعواكم أيها المشركون وقد بين هذا بقوله الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وقرأ ابن كثير وأهل مكة «شركائي» بياء مفتوحة، وقرأ الجمهور: «شركائي» بهمزة. فمنهم من حققها، ومنهم من خففها، و «الزعم» إنما هو مستعمل أبدا في غير اليقين، بل أغلبه في الكذب، ومنه هذه الآية، وأرفع موضعه أن يستعمل «زعم» بمعنى أخبر، حيث تبقى عهدة الخبر على المخبر، كما يقول سيبويه رحمه الله: زعم الخليل. وقوله فَدَعَوْهُمْ فلم يستجيبوا لهم ظاهره أن ذلك يقع حقيقة، ويحتمل أن يكون استعارة، كأن فكرة الكفار ونظرهم في أن تلك الجمادات، لا تغني شيئا ولا تنفع، هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة، والأول أبين، واختلف المتأولون في قوله مَوْبِقاً قال عبد الله ابن عمرو وأنس بن مالك ومجاهد: هو واد في جهنم يجري بدم وصديد، قال أنس: يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين، فقوله على هذا بَيْنَهُمْ ظرف، وقال الحسن مَوْبِقاً معناه عداوة وبَيْنَهُمْ على هذا
ظرف، وبعض هذه الفرقة، يرى أن الضمير في قوله بَيْنَهُمْ يعود على المؤمنين والكافرين، ويحتمل أن يعود على المشركين ومعبوداتهم، وقال ابن عباس مَوْبِقاً معناه مهلكا بمنزلة موضع وهو من قولك وبق الرجل وأوبقه غيره إذا أهلكه، فقوله بَيْنَهُمْ على هذا التأويل، يصح أن يكون ظرفا، والأظهر فيه أن يكون اسما، بمعنى جعلنا تواصلهم أمرا مهلكا لهم، ويكون بَيْنَهُمْ مفعولا أولا ل جَعَلْنا، وعبر بعضهم عن الموبق بالموعد وهذا ضعيف، ثم أخبر عز وجل عن رؤية المجرمين النار، ومعاينتهم لها، ووقوع العلم لهم بأنهم مباشروها، وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين، ولو قال بدل فَظَنُّوا وأيقنوا لكان الكلام متسقا، على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبدا في موضع يقين تام قد قاله الحسن، بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون، وإلا، فقد يقع ويحسن، لا يكاد توجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن وتأمل هذه الآية، وتأمل قول دريد:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج وقرأ الأعمش «فظنوا أنهم ملاقوها»، وكذلك في مصحف ابن مسعود، وحكى أبو عمرو الداني عن علقمة، أنه قرأ: «ملافوها» بالفاء مشددة من لففت، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة. و «المصرف» المعدل، والمرغ، ومنه قول أبي كبير الهذلي: [الكامل]
أزهير هل عن شيبة بن مصرف أم لا خلود لباذل متكلف
وهو مأخوذ من الانصراف من شيء إلى شيء، وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا الآية، المعنى: ولقد خوفنا ورجينا وبالغنا في البيان، وهذا كله بتمثيل وتقريب للأذهان، وقوله: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل مثال له نفع في الغرض المقصود بهم، وهو الهداية، وقوله وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا خبر مقتضب في ضمنه، فلم ينفع فيهم تصريف الأمثال، بل هم منحرفون يجادلون بالباطل وقوله الْإِنْسانُ يريد الجنس، وروي أن سبب هذه الآية هو النضر بن الحارث، وقيل ابن الزبعرى. وروي أن رسول الله ﷺ دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد نام عن صلاة الليل، فأيقظه، فقال له علي إنما نفسي بيد الله، ونحو هذا، فخرج رسول الله ﷺ وهو يضرب خده بيده ويقول: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا فقد استعمل الآية على العموم في جميع الناس، و «الجدل» الخصام والمدافعة بالقول، فالإنسان أكثر جدلا من كل ما يجادل من ملائكة وجن وغير ذلك إن فرض وفي قوله وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا تعليم تفجع ما على الناس، ويبين فيما بعد.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)
524
هذه آية: تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم، لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مصيبون، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا، فكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم، والنَّاسَ يراد به كفار عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها، والْهُدى هو شرع الله والبيان الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، و «الاستغفار» هنا طلب المغفرة على فارط الذنب كفرا وغيره، وسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظلمة والريح وغير ذلك، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي مقابلة عيانا، والمعنى عذابا غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيم وكذلك صدق هذا الوعيد في بدر، وقال مجاهد:
قُبُلًا معناه فجأة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ومجاهد وعيسى بن عمر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ عاصم والكسائي وحمزة والحسن والأعرج «قبلا» بضم القاف والباء، ويحتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى قبل، لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، والآخر أن يكون جمع قبيل، أي يجيئهم العذاب أنواعا وألوانا، وقرأ أبو رجاء والحسن أيضا: «قبلا» بضم القاف وسكون الباء، وقوله وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ الآية، كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار، قال: وليس الأمر كما يظنوا، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار، و «يدحضوا» معناه يزهقوا، و «الدحض» الطين الذي يزهق فيه، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وردت ونجى اليشكريّ نجاؤه وحاد كما حاد البعير عن الدحض
وقوله وَاتَّخَذُوا إلى آخر الآية توعيد، و «الآيات» تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله وَما أُنْذِرُوا هُزُواً يريد من العذاب الآخرة، والتقدير وما أنذروه فحذف الضمير و «الهزاء» : السخر والاستخفاف، كقولهم أساطير الأولين، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ استفهام بمعنى التقرير، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه، فالمعنى لا أحد أَظْلَمُ مِمَّنْ هذه صفته، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال، ونسب السيئات إلى اليدين، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في المعاني، استعارة، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح، فإنه تعالى: جعل عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وهي جمع كنان، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه، هل هو حقيقة أو مجاز، والحقيقة في هذا غير مستحيلة، والتجوز أيضا فصيح، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في
525
الأجسام وحاملة، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير، وأما «الوقر» في الآذان، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعا تاما، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر، فلا يسمع، شبهوا به، وكذلك العمى والصم والبكم، كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز، و «الوقر» : الثقل في السمع، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبدا، وهذا يخرج على أحد تأويلين: أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص، ممن حتم الله عليه أنه لا يؤمن ولا يهتدي أبدا، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد: وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يؤمنوا جميعا أبدا، أي إنهم ربما آمن منهم الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠)
لما أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم، أنهم لا يهتدون أبدا، عقب ذلك بأنه للمؤمنين، الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، ويتحصل للكفار من صفته تعالى بالغفران والرحمة، ترك المعاجلة، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب المبيد لهم، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون عنه منجي، قالت فرقة هو أجل الموت، وقالت فرقة هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يوم بدر، والحشر و «الموئل» المنجى يقال: وأل الرجل يئل إذا نجا. ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خيلتها... للعامريين ولم تكلم
ومنه قول الأعشى: [البسيط]
وقد أخالس رب البيت غفلته... وقد يحاذر مني ثم ما يئل
ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله، وفي قوله وَتِلْكَ الْقُرى حذف مضاف تقديره وَتِلْكَ أهل الْقُرى يدل على ذلك قوله أَهْلَكْناهُمْ فرد الضمير على أهل القرى، والْقُرى: المدن، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم. وَتِلْكَ ابتداء، والْقُرى صفته، وأَهْلَكْناهُمْ خبر، ويصح أن يكون تِلْكَ منصوبا بفعل يدل عليه أَهْلَكْناهُمْ.
وقرأ الجمهور «لمهلكهم» بضم الميم وفتح اللام، من أهلك، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء، ولمكانه، ويكون مصدرا فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «لمهلكهم» بفتح الميم واللام وقرأ في رواية حفص «لمهلكهم» بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر من هلك، وهو في مشهور اللغة غير متعد، فالمصدر على هذا مضاف إلى الفاعل، لأنه بمعنى: وجعلنا لأن هلكوا موعدا،
526
وقالت فرقة إن هلك يتعدى، تقول أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد، وأنشد أبو علي في ذلك: [الرجز] ومهمه هالك من تعرجا فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافا إلى المفعول، وقوله وَإِذْ قالَ مُوسى الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، المعنى: اذكر واتل، ومُوسى هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران، وهو موسى بن مشنى، ويقال ابن منسى، وأما «فتاه» فعلى قول من قال موسى بن عمران، فهو يوشع بن نون بن إفراييم بن يوسف بن يعقوب، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون، ولكنه قول غير صحيح، رده ابن عباس وغيره و «الفتي» في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا، قيل للخادم فتى، على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي»، فهذا ندب إلى التواضع، و «الفتى» في الآية هو الخادم، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي ﷺ أن موسى جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل، وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحدا أعلم منك قال لا، فأوحى الله إليه بلى:
عبدنا خضر، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك، وأمر أن يتزود حوتا، ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة لا أَبْرَحُ أسير، أي لا أزال، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر، ومن هذا قول الفرزدق: [الطويل]
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
وذكر الطبري عن ابن عباس: قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يوما، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر نحو ما تقدم، وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام، وما أراه يصح، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم، والتواضع للعالم، وقرأ الجمهور «مجمع» بفتح الميمين، وقرأ الضحاك «مجمع» بكسر الميم الثانية، واختلف الناس في مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أين هو؟ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم.
قال القاضي أبو محمد: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام، هو مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ
هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا. وروي عن أبي بن كعب أنه قال مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ بإفريقية، وهذا يقرب من الذي قبله، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيرا، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ يريد بحرا ملحا وبحرا عذبا، فعلى هذا إنما كان
527
الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر، لأنهما بحرا علم، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر، وقوله أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً معناه أو أمضي على وجهي زمانا، واختلف القراء، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم «حقبا» بسكون القاف، وقرأ الجمهور «حقبا» بضمه، وهو تثقيل حقب، وجمع الحقب أحقاب، واختلف في الحقب، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد سبعون، وقال الفراء «الحقب» سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة «الحقب» جمع حقبة، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)
الضمير في قوله بَيْنِهِما للبحرين، قاله مجاهد، وقيل هو لموسى والخضر، والأول أصوب، وقرأ عبيد الله بن مسلم «مجمع» بكسر الميم الثانية، وقال نَسِيا وإنما كان النسيان من الفتى وحده، نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله من حيث كان لهما زادا، وكانا بسبب منه فنسب فعل الواحد فيه إليهما، وهذا كما تقول فعل بنو فلان لأمر إنما فعله منهم بعض، وروي في الحديث أن يوشع رأى الحوت قد حش من المكتل إلى البحر فرآه قد اتخذ السرب، وكان موسى نائما فأشفق أن يوقظه، وقال أؤخر حتى يستيقظ، فلما استيقظ نسي يوشع أن يعلمه، ورحلا حتى جاوزا «والسبيل» : المسلك، و «السرب» : المسلك في جوف الأرض، فشبه به مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده، بل بقي موضع كالطاق وهذا الذي ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله جمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا، وقال قتادة، صار موضع سلوكه حجرا صلدا. وقال ابن زيد إنما اتخذ سَبِيلَهُ سَرَباً في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة.
قال القاضي أبو محمد: وهؤلاء يتأولون سَرَباً بمعنى تصرفا وجولانا من قولهم فحل سارب، أي مهمل يرعى حيث شاء، ومنه قوله تعالى: وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد: ١٠]، أي متصرف وقالت فرقة اتخذ سَرَباً في التراب من المكتل إلى البحر، وصادف في طريقه حجرا فثقبه، وظاهر الأمر أن السرب، إنما كان في الماء، ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست قط شيئا إلا حيي، ومن غريبه أيضا أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجرا طريقا، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى ذلك
528
الطريق إلى الجزيرة في البحر وفيها وجد الخضر، وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر، يدل على ذلك قوله تعالى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً وروي في قوله فَلَمَّا جاوَزا أن موسى عليه السلام نزل عند صخرة عظيمة في ضفة البحر، فنسي يوشع الحوت هنالك، ثم استيقظ موسى ورحلا مرحلة بقية الليل وصدر يومهما، فجاع موسى ولحقه تعب الطريق، فاستدعى الغداء، قال أبي رضي الله عنه سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم، و «النصب» التعب والمشقة، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «نصبا» بضم النون والصاد، ويشبه أن يكون جمع نصب وهو تخفيف نصب وقوله أَرَأَيْتَ الآية حكى الطبري عن فرقة أنها قالت الصخرة هي الشام عند نهر الذيب، وقد تقدم ذكر الخلاف في موضع هذه القصة، وقوله نَسِيتُ الْحُوتَ يريد نسيت ذكر ما جرى فيه لك، وأما الكسائي وحده «أنسانيه»، وقرأت فرقة «أنسانيه» وقرأ ابن كثير في الوصل «أنسانيهي» بياء بعد الهاء، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وما أنسانيه أن أذكركه إلا الشيطان». وقوله أَنْ أَذْكُرَهُ بدل من الْحُوتَ بدل اشتمال، وقوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس، ويحتمل أن يكون قوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ تام الخبر، فاستأنف التعجب فقال من قبل نفسه:
عَجَباً لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه الأيسر ثم حيي بعد ذلك، قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته، أتيت به فإذا هو شقة حوت، وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء.
قال القاضي أبو محمد: وأنا رأيته والشق الذي فيه شيء عليه قشرة رقيقة يشق تحتها شوكة وشقه الآخر، ويحتمل أن يكون قوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ الآية إخبار من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البرح عجبا أي تعجب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس، وقرأ أبو حيوة «واتخاذ سبيله» فهذا مصدر معطوف على الضمير في أَذْكُرَهُ، وقوله تعالى:
قالَ ذلِكَ الآية، المعنى قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثم، فرجعا يقصان أثرهما لئلا يخطئان طريقهما، وقرأ الجمهور «نبغي» بثبوت الياء، وقرأ عاصم وقوم «نبغ» دون ياء، وكان الحسن يثبتها إذا وصل ويحذفها إذا وقف، و «قص الأثر» اتباعه وتطلبه في موضع خفائه، و «العبد» هو الخضر في قول الجمهور بمقتضى الأحاديث، وخالف من لا يعتد بقوله فقال ليس، صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر، والخضر نبي عند الجمهور، وقيل هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله، وروي في الحديث أن موسى عليه السلام وجد الخضر مسجى في ثوبه مستلقيا على الأرض فقال له السلام عليك، فرفع الخضر رأسه وقال وأنى بأرضك السلام؟ ثم قال له من أنت؟ قال أنا موسى، قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، قال له ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال بلى، ولكني أحببت لقاءك، وأن أتعلم منك، قال له إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا.
قال القاضي أبو محمد: كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها. وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم. وروي أن موسى
529
وجد الخضر قاعدا على تيح البحر، وسمي الخضر خضرا لأنه جلس على فروة يابسة فاهتزت تحته خضراء، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، و «الرحمة» في هذه الآية النبوءة، وقد ذكرنا الحديث المضمن أن سبب هذه القصة أن موسى عليه السلام، قيل له تعلم أحدا أعلم منك، قال: لا، وحكى الطبري حديثا آخر، مضمنه: أن موسى عليه السلام قال: من قبل نفسه: أي رب، أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة خير تهديه، قال رب فهل في الأرض أحد؟ قال نعم فسأل السبيل إلى لقيه، والحديث الأول في صحيح البخاري، وقرأ الجمهور «من لدنّا» بتشديد النون وقرأ أبو عمرو من «لدنا» بضم الدال وتخفيف النون، قال أبو حاتم هما لغتان.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٦ الى ٧٣]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
هذه مخاطبة المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك، وهذا كما في الحديث «هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ» وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً [المائدة: ١١٢] وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم «رشدا» بضم الراء والشين، وقرأ أبو عمرو «رشدا» بفتح الراء والشين، ونصبه على وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا ثانيا ب تُعَلِّمَنِ والآخر أن يكون حالا من الضمير في قوله أَتَّبِعُكَ ثم قال الخضر، إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي إنك يا موسى، لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي، لأن الظواهر التي علمك لا تعطيه، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما تراه خطأ، ولم تخبر بوجه الحكمة فيه ولا طريق الصواب، فقرب له موسى الأمر بوعده أنه سيجده، ثم استثنى حين حكم على نفسه بأمر فقوى الخضر وصاته وأمره بالإمساك عن السؤال والإكنان لما يراه حتى يبتدئه الخضر لشرح ما يجب شرحه، وقرأ نافع فلا «تسألنّي» بفتح اللام، وتشديد النون وإثبات الياء وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه حذف الباء فقال «تسألنّ»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «تسألني» بسكون اللام وثبوت الياء، وقرأ الجمهور «خبرا» بسكون الباء، وقرأ الأعرج «خبرا» بضمها، وقوله فَانْطَلَقا روي عن النبي ﷺ أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر حتى مرت بهما سفينة، فعرف الخضر فحملا بغير قول إلى مقصد أمه الخضر، وعرفت السَّفِينَةِ بالألف واللام تعريف الجنس لا لعهد عينها، فلما ركبا عمد الخضر إلى وتد فجعل يضرب في جنب السفينة حتى قلع به، فيما روي لوحين من ألواحها فذلك هو معنى خَرَقَها فلما
530
رأى ذلك موسى غلبه ظاهر الأمر على الكلام حين رأى فعلا يؤدي إلى غرفة جميع من في السفينة، فوقفه بقوله أَخَرَقْتَها وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «لتغرق أهلها» بالتاء وقرأ أبو رجاء «لتغرّق» بشد الراء وفتح الغين، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» برفع الأهل، وإسناد الفعل إليهم و «الإمر» الشنيع من الأمور كالداهية والإد ونحوه، ومنه أمر أمر ابن أبي كبشة ومنه أمر القوم إذا كثروا، وقال مجاهد «الإمر» المنكر.
قال القاضي أبو محمد: والأمر أخص من المنكر، فقال الخضر مجاوبا لموسى: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فتنبه موسى لما أتى معه، فاعتذر بالنسيان، وذلك أنه نسي العهد الذي كان بينهما، هذا قول الجمهور، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا»، وفيه عن مجاهد أنه قال «كانت الأولى نسيانا»، والثانية شرطا، والثالثة عمدا، وهذا كلام معترض لأن الجميع شرط ولأن العمد يبعد على موسى عليه السلام، وإنما هو التأويل إذ جنب صيغة السؤال أو النسيان، وروى الطبري عن أبي بن كعب أنه قال: إن موسى عليه السلام لم ينس، ولكن قوله هذا من معاريض الكلام، ومعنى هذا القول صحيح، والطبري لم يبينه، ووجهه عندي أن موسى عليه السلام إنما رأى العهد في أن يسأل ولم ير إنكار هذا الفعل الشنيع سؤالا بل رآه واجبا، فلما رأى الخضر قد أخذ العهد على أعم وجوهه فضمنه السؤال والمعارضة والإنكار وكل اعتراض إذ السؤال أخف من هذه كلها أخذ معه في باب المعاريض، التي هي مندوحة عن الكذب، فقال له لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولم يقل له: إني نسيت العهد، بل قال لفظا يعطي للمتأول أنه نسي العهد، ويستقيم أيضا تأويله وطلبه، مع أنه لم ينس العهد لأن قوله لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ كلام جيد طلبه، وليس فيه للعهد ذكر هل نسيه أم لا، وفيه تعريض أنه نسي العهد، فجمع في هذا اللفظ بين العذر والصدق وما يخل بهذا القول إلا أن الذي قاله وهو أبي بن كعب روى عن النبي ﷺ أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا» وتُرْهِقْنِي معناه تكلفني وتضيف علي ومما قص من أمرهما، أنهما لما ركبا السفينة وجرت، نزل عصفور على جنب السفينة، فنقر في الماء نقرة، فقال الخضر لموسى، ماذا ترى هذا العصفور نقص من ماء البحر؟ فقال موسى قليلا، فقال: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من ماء البحر.
قال القاضي أبو محمد: فقيل معنى هذا الكلام وضع العلم موضع المعلومات، وإلا فعلم الله تعالى يشبه بمتناه إذ لا يتناهى، والبحر لو فرضت له عصافير على عدد نقطه لانتهى، وعندي أن الاعتراض باق لأن تناهي معلومات الله محال، إذ يتناهى العلم بتناهي المعلومات، وقيل فرارا عن هذا الاعتراض، يحتمل أن يريد من علم الله الذي أعطاه العلماء قبلهما، وبعدهما إلى يوم القيامة، فتجيء نسبة علمهما إلى البشر نسبة تلك النقطة إلى البحر، وهذا قول حسن لولا أن في بعض طرق الحديث «ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كنقرة هذا العصفور»، فلم يبق مع هذا إلا أن يكون التشبيه بتجوز، إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة من نقطة بالإضافة إلى البحر، فكأنها لا شيء إذ لا يوجد لها إلى البحر نسبة معلومة، ولم يعن الخضر لتحرير موازنة بين المثال وبين علم الله تعالى.
531
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٨]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
فَانْطَلَقا في موضع نزولهما من السفينة، فمرا بغلمان يلعبون، فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء، فاقتلع رأسه، ويقال رضه بحجر، ويقال ذبحه وقال بعض الناس كان الغلام لم يبلغ الحلم، ولذلك قال موسى زَكِيَّةً أي لم تذنب، وقالت فرقة بل كان بالغا شابا، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية: [الطويل] غلام إذا هز القناة سقاها وهذا في صفة الحجاج، وفي الخبر أن هذا الغلام، كان يفسد في الأرض ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر ونافع والجمهور «زاكية»، وقرأ الحسن وعاصم والجحدري «زكية» والمعنى واحد، وقد ذهب القوم إلى الفرق وليس ببين، وقوله بِغَيْرِ نَفْسٍ يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، ولا بغير نفس وقرأ الجمهور «نكرا» وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وشيبة «نكرا» بضم الكاف واختلف عن نافع، ومعناه: شيئا ينكر، واختلف الناس أيهما أبلغ قوله إِمْراً [الكهف: ٧١] أو قوله نُكْراً فقالت فرقة هذا قتل بين، وهناك مترقب ف نُكْراً أبلغ وقالت فرقة هذا قتل واحد، وذلك قتل جماعة ف إِمْراً [الكهف: ٧١] أبلغ وعندي أنهما المعنيين، قوله إِمْراً [الكهف: ٧١] أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، ونُكْراً أبين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ونصف القرآن بعد الحروف انتهى إلى النون من قوله نُكْراً وقوله أَلَمْ أَقُلْ لَكَ زجر وإغلاظ ليس في قوله أولا أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وقوله بعد هذا يُرِيدُ بعدها القصة، فأعاد الضمير عليها وإن كانت لم يتقدم لها ذكر صريح، من حيث كانت في ضمن القول، وقرأ الجمهور «فلا تصاحبني» ورواها أبي عن النبي ﷺ وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني»، وقرأ عيسى أيضا «فلا تصحبني» بضم التاء وكسر الحاء ورواها سهل عن أبي عمرو، والمعنى فلا تصحبني علمك، وقرأ الأعرج «فلا تصحبنّي» : بفتح التاء والباء وشد النون، وقوله قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قد أعذرت إلي، وبلغت إلى العذر من قبلي، ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام التلوم ثلاثة فتأمله، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من
532
«لدنّي» بفتح اللام وضم الدال وشد النون. وهي «لدن» اتصلت بها نون الكناية التي في ضربني ونحوه، فوقع الإدغام، وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافع وعاصم «لدني» كالأولى إلا أن النون مخففة، فهي «لدن» اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لدني» بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وهي تخفيف «لدني» التي ذكرناها قبل هذه وروي عن عاصم «لدني» بضم اللام وسكون الدال قال ابن مجاهد وهي غلط قال أبو علي هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية فأما على قياس العربية فهي صحيحة، وقرأ الحسن «لدني» بفتح اللام وسكون الدال، وقرأ الجمهور «عذرا» وقرأ أبو عمرو وعيسى «عذرا» بضم الدال، وحكى الداني أن أبي روى عن النبي ﷺ «عذري» بكسر الراء وياء بعدها وأسند الطبري، قال: كان رسول الله ﷺ إذا دعا لأحد بدأ بنفسه، فقال يوما رحمة الله علينا، وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، ولكنه قال فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً وفي البخاري عن النبي ﷺ قال: يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر، حتى يقص علينا من أمرهما، وروي في تفسير هذه الآية أن الله جعل هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر، حجة على موسى وعجبا له، وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة، نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم، فلما أنكر أمر الغلام، قيل له أين إنكارك هذا من وكرك للقبطي
وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك حجر البير لبنات شعيب دون أجر؟ وقوله: فَانْطَلَقا يريد انطلق الخضر وموسى يمشيان لارتياد الخضر أمرا ينفذ فيه ما عنده من علم الله فمرا بقرية فطلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا، وفي حديث:
أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم، وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله، واختلف الناس في «القرية» : فقال محمد بن سيرين هي الأبلة. وهي أبخل قرية وأبعدها من السماء، وقالت فرقة هي أنطاكية، وقالت فرقة هي برقة، وقالت فرقة هي بجزيرة الأندلس، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة هي أبو حوران، وهي بناحية أذربيجان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك، وقرأ الجمهور «يضيّفوهما» بفتح الضاد وشد الياء، وقرأ أبو رجاء «يضيفوهما»، بكسر الضاد وسكون الياء وهي قراءة ابن محيصن، وابن الزبير، والحسن وأبي رزين، والضيف مأخوذ من ضاف إلى المكان إذا مال إليه، ومنه الإضافة، وهي إمالة شيء إلى شيء، وقرأ الأعمش «فأبوا أن يطعموهما»، وقوله في الجدار يُرِيدُ استعارة، وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكان الجماد إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل، فمن ذلك قول الأعشى: [البسيط]
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
فأسند النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الشاعر: [الوافر]
533
ومنه قول عنترة: [الكامل] وشكا إلي بعبرة وتحمحم وقد فسر هذا المعنى بقوله لو كان يدري ما المحاورة البيت، ومنه قول الناس: داري تنظر إلى دار فلان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتراءى نارهما، وهذا كثير جدا وقرأ الجمهور «ينقض» أي يسقط، وقرأ النبي ﷺ فيما روي عنه «أن ينقض» بضم الميم وتخفيف الضاد وهي قراءة أبي، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعكرمة «أن يناقص»، بالصاد غير منقوطة بمعنى ينشق طولا، يقال انقاص الجدار وطي البير، وانقاصت السن، إذا انشقت طولا، وقيل إذا تصدعت كيف كان، ومنه قول أبي ذؤيب: [الطويل]
يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل
فراق كقيص السن فالصبر انه لكل أناس عبرة وحبور
ويروى عثرة وجبور بالثاء والجيم، وقرأ ابن مسعود والأعمش «يريد لينقض» واختلف المفسرون في قوله فَأَقامَهُ فقالت فرقة هدمه وقعد يبنيه، ووقع هذا في مصحف ابن مسعود، ويؤيد هذا التأويل قول، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لأنه فعل يستحق أجرا، وقال سعيد بن جبير مسحه بيده وأقامه فقام.
قال القاضي أبو محمد: وروي في هذا حديث وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم السلام فقال موسى للخضر: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي طعاما تأكله، وقرأ الجمهور «لتخذت» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتخذت» وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم، ومن قولهم تخذ قول الشاعر [المزق] :[الطويل]
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها نسيقا كأفحوص القطاة المطرق
وفي حرف أبي بن كعب: «لو شئت لأوتيت عليه أجرا»، ثم قال الخضر لموسى بحسب شرطهما هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ واشترط الخضر، وأعطاه موسى أن لا يقع سؤال عن شيء، والسؤال أقل وجوه الاعتراضات، فالإنكار والتخطئة أعظم منه، وقوله لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وإن لم يكن سؤالا ففي ضمنه الإنكار لفعله، والقول بتصويب أخذ الأجر، وفي ذلك تخطئة ترك الأجر، والبين الصلاح، الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما، وذلك مستعار فيه من الظرفية، ويستعمل استعمال الأسماء، وأما فصله، وتكريره بَيْنِي وَبَيْنِكَ وعدوله عن بيننا، فلمعنى التأكيد، والسين في قوله سَأُنَبِّئُكَ مفرقة بين المحاورتين والصحبتين، ومؤذنة بأن الأولى قد انقطعت، ثم أخبره في مجلسه ذلك وفي مقامه بِتَأْوِيلِ تلك القصص والتأويل هنا المآل.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٩]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
قرأ الجمهور «لمساكين» بتخفيف السين، جمع مسكين، واختلف في صفتهم، فقالت فرقة كانت
534
لقوم تجار، ولكنهم من حيث هم مسافرون على قلة، وفي لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة غصب جائر، عبر عنهم ب «مساكين»، إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كما تقول لرجل غني إذا وقع في وهدة وخطب مسكين وقالت فرقة:
كانوا عشرة إخوة: أهل عاهات خمسة منهم: عاملون بالسفينة لا قدرة بهم على العمل، وقرأت فرقة «لمساكين» بتشديد السين. واختلف في تأويل ذلك فقالت فرقة أراد ب «المساكين» ملاحي السفينة وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل المركب وكل الخدمة يصلح لإمساكه، فسمي الجميع «مساكين»، وقالت فرقة: أراد «المسّاكين» دبغة المسوك، وهي الجلود واحدها مسك.
قال القاضي أبو محمد: والأظهر في ذلك القراءة الأولى وأن معناها أن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق لهم، واحتج الناس بهذه الآية في أن المسكين الذي له البلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء، وأنه أصلح حالا من الفقير، واحتج من يرى خلاف هذا بقول الشاعر: [البسيط]
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
وتحرير هذا عندي أنهما لفظان يدلان على ضعف الحال جدا، ومع المسكنة انكشاف وذل وسؤال، ولذلك جعلها الله صنفين، في قسم الصدقات، فأما حديث النبي ﷺ الذي هو: «ليس المسكين بهذا الطواف». فجعل المساكين في اللغة أهل الحاجة الذين قد كشفوا وجوههم، وأما قول الله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا [البقرة: ٢٧٣]. فجعل الفقراء أهل الحاجة الذين لم يكشفوا وجوههم، وقد تقدم القول في هذه المسألة بأوعب من هذا. وقوله وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قال قوم معناه أمامهم، وقالوا وراء من الأضداد، وقرأ ابن جبير وابن عباس: «وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة» صحيحة وقرأ عثمان بن عفان «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة».
قال القاضي أبو محمد: وقوله وَراءَهُمْ هو عندي على بابه وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعا بها الزمن، وذلك أن الحادث المقدم الوجود هو الإمام، وبين اليد: لما يأتي بعده في الزمن، والذي يأتي بعد: هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر ببادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: أن هؤلاء وعملهم، وسعيهم، يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ «أمامهم»، أراد في المكان، أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده، وقوله تعالى في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلنا في الزمن، وقوله مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: ١٠] مطرد كما قلنا مراعاة الزمن وقول النبي ﷺ «الصلاة أمامك» يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ، ووقع لقتادة في كتاب الطبري وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قال قتادة أمامهم، ألا ترى أنه يقول مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: ١٠] وهي بين أيديهم. وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج ويجوز إن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب، فكان وراءهم حقيقة، وقيل اسم هذا الغاصب هدد بن بدد، وقيل اسمه الجلندا، وهذا كله غير ثابت، وقوله كُلَّ سَفِينَةٍ عموم
535
معناه الخصوص في الجياد منها الصحاح المارة به.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
تقدم القول في الْغُلامُ، والخلاف في بلوغه أو صغره، وفي الحديث: أن ذلك الغلام طبع يوم طبع كافرا، وهذا يؤيد ظاهره أنه كان غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه، مع كونه بالغا. وقيل اسم الغلام جيسور بالراء، وقيل جيسون بالنون، وهذا أمر كله غير ثابت، وقرأ أبي بن كعب: «فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين»، وقرأ أبو سعيد الخدري «فكان أبواه مؤمنان» فجعلها كان التي فيها الأمر والشأن، وقوله فَخَشِينا قيل هو في جملة الخضر، فهذا متخلص. والضمير عندي للخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا فيه، وقيل هو في جهة الله تعالى، وعنه عبر الخضر قال الطبري معناه فعلمنا وقال غيره معناه فكرهنا والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل، وإن كان اللفظ يدافعه، أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين، لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين، وقرأ ابن مسعود «فخاف ربك» وهذا بين في الاستعارة وهذا نظير ما يقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى. فإن جميع ما في هذا كله، من ترج وتوقع، وخوف، وخشية، إنما هو بحبكم أيها المخاطبون، ويُرْهِقَهُما معناه يحثهما ويكلفهما بشدة، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه، وقرأ الجمهور «أن يبدّلهما» بفتح الباء وشد الدال، وقرأ ابن محيصن والحسن وعاصم «يبدلهما» بسكون الباء وتخفيف الدال، و «الزكاة» : شرف الخلق، والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية، و «الرحم» الرحمة، والمراد عند فرقة أي يرحمهما، وقيل أي يرحمانه، ومنه قول رؤبة بن العجاج: [الرجز]
يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا
وقرأ ابن عامر «رحما» بضم الحاء، وقرأ الباقون «رحما» بسكونها، واختلف عن أبي عمرو، وقرأ ابن عباس «ربهما أزكى منه» وأَقْرَبَ رُحْماً وروي عن ابن جريج أنهما بدلا غلاما مسلما، وروي عن ابن جريج أنهما بدلا جارية، وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبيا، وذكره المهدوي عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم، وروي عن ابن جريج أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم، وقوله وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ هذان الغلامان صغيران، بقرينة وصفهما باليتم، وقد قال ﷺ «لا يتم بعد بلوغ». هذا
الظاهر، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما، واختلف الناس في «الكنز» : فقال عكرمة وقتادة كان مالا جسيما، وقال ابن عباس كان علما في صحف مدفونة، وقال عمر مولى غفرة كان لوحا من ذهب قد كتب فيه عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب، وعجبا للموقن بالحساب كيف يغفل، وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح، وروي نحو هذا مما هو في معناه، قوله وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دنيّة، وقيل هو الأب السابع، وقيل العاشر، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته»، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: ٧٩] وفي الثانية فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما وفي الثالثة فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا وإنما انفرد أولا في الإرادة لأنها لفظة عيب، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠]، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند المرض إلى لنفسه، إذ هو معنى نقص ومصيبة، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيرا، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ [الصف: ٥]، وتقديم فعل الله تعالى في قوله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: ١١٨]، وإنما قال الخضر في الثانية فَأَرَدْنا لأنه أمل قد كان رواه هو وأصحابه الصالحون، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين، وتمنى البديل لهما، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى. لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد أيضا ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر، والله أعلم، و «الأشد» كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن، فقيل خمس وثلاثون، وقيل ست وثلاثون، وقيل أربعون، وقيل غير هذا مما فيه ضعف، وقول الخضر وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يقتضي أن الخضر نبي، وقد اختلف الناس فيه: فقيل هو نبي، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم، وتقول فرقة إنه حي، لأنه شرب من عين الحياة، وهو باق في الأرض، وأنه يحج البيت، وغير هذا، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، كلها لا يقوم على ساق، ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي ﷺ «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد»، وقوله ذلك تأويل أي مآل، وقرأت فرقة «تستطع»، وقرأ الجمهور «تسطع» قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع» المصحف، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: ٥٨] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي ﷺ في قومه أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦)
537
اختلف فيمن سأله عن هذه القصة، فقيل سألته طائفة من أهل الكتاب، وروى في ذلك عقبة بن عامر حديثا ذكره الطبري وقيل إنما سألته قريش، حين دلتها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك، و «ذو القرنين» : هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه، فيقال المقدوني، وذكر ابن إسحاق في كتاب الطبري أنه يوناني، وقال وهب بن منبه هو رومي، وذكر الطبري حديثا عن النبي ﷺ «أن ذا القرنين شاب من الروم» وهو حديث واهي السند، فيه عن شيخين من تجيب، واختلف الناس في وجه تسميته ب ذِي الْقَرْنَيْنِ، فأحسن الأقوال أنه كان ذا ضفرتين من شعر هما قرناه، فسمي بهما، ذكره المهدوي وغيره، والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف لبرد ماء الحشرج
ومنه حديث في غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أم عطية: فضفرنا رأسها ثلاثة قرون، وكثيرا تجيء تسمية النواصي قرونا، وروي أنه كان في أول ملكه يرى في نومه أنه يتناول الشمس، ويمسك قرنين لها بيديه، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب على ما ذرت عليه، وسمي «ذا القرنين»، وقالت فرقة سمي «ذا القرنين» لأنه بلغ المغرب والمشرق، فكأنه حاز قرني الدنيا، وقالت فرقة إنه بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرنيها، فسمي بذلك، أو قرني الشيطان بها، وقال وهب بن منبه: سمي بذلك لأن جنبتي رأسه كانتا من نحاس، وقال وهب بن منبه أيضا كان له قرنان تحت عمامته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بعيد، وقال علي بن أبي طالب: إنما سمي «ذا القرنين» لأنه ضرب على قرن رأسه فمات. ثم حيي ثم ضرب على قرن رأسه الآخر فمات، فسمي بذلك لأنه جرح على قرني رأسه جرحين عظيمين في يومين عظيمين من أيام حربه فسمي بذلك، وهذا قريب، والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا، ودانت له الملوك كلها، فروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران، والمؤمنان: سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران نمرود وبخت نصر، وقوله وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً معناه علما في كل أمر، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء، وقوله كُلِّ شَيْءٍ عموم، معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه، وثم لا محالة أشياء لم يؤت منها سببا يعلمها به، واختلف في ذِي الْقَرْنَيْنِ فقيل هو نبي، وهذا ضعيف. وقيل هو ملك بفتح اللام، وروي عن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلا يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. وروي عن النبي ﷺ أنه سئل عنه فقال «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب». وقيل هو عبد ملك بكسر اللام صالح، نصح لله فأيده، قاله علي بن أبي طالب، وقال فيكم اليوم مثله، وعنى بذلك نفسه، والله أعلم. وقوله فَأَتْبَعَ سَبَباً الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «فاتّبع»
538
بشد التاء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «فأتبع» بسكون التاء على وزن أفعل، قال بعض اللغويين هما بمعنى واحد، وكذلك تبع، وقالت فرقة «أتبع» بقطع الألف: هي عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، و «اتبع» إنما يتضمن معنى الاقتفاء دون هذه القرائن، قاله أبو زيد وغيره.
قال القاضي أبو محمد: واستقرأ هذا القائل هذه المقالة من القرآن كقوله عز وجل فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: ١٠]، وكقوله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ [يونس: ٩٠] [طه: ٧٨]، وكقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الأعراف: ١٧٥]، وهذا قول حكاه النقاش عن يونس بن حبيب، وإذا تأملت «اتّبع» بشد التاء لم تربط لك هذا المعنى ولا بد. و «السبب» في هذه الآية، الطريق المسلوكة، لأنها سبب الوصول إلى المقصد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «في عين حمئة»، على وزن فعلة، أي ذات حماة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، والباقون في «عين حامية»، أي حارة، وقد اختلف في ذلك قراءة معاوية وابن عباس فقال ابن عباس «حمئة»، وقال معاوية «حامية»، فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة، فقال لهما أما العربية فأنتما أعلم بها مني، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثاط، والثاط الطين. فلما انفصلا قال رجل لابن عباس: لوددت أني حضرت يا أبا العباس، فكنت أنجدك بشعر تبع الذي يقول فيه في ذكر ذي القرنين: [الكامل]
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ملكا تدين له الملوك ويحشد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغار الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثاط حرمد
فالخلب: الطين، والثاط: الحمأة، الحرمد: الأسد، ومن قرأ «حامئة»، وجهها إلى الحرارة، وروي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ نظر إلى الشمس وهي تغيب فقال «في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من الله لأحرقت ما على الأرض»، وروى أبو ذر أن رسول الله ﷺ نظر إلى الشمس عند غروبها فقال «أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟ قلت لا، قال «إنها تغرب في عين حامية»، فهذا يدل على أن العين هنالك حارة، و «حامية» هي قراءة طلحة بن عبيد الله، وعمرو بن العاص وابنه، وابن عمر، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين: فيقال يحتمل أن تكون العين حارة، ذات حمأة فكل قراءة وصف بصفة من أحوالها، وذهب بعض البغداديين إلى أن فِي بمنزلة عند، كأنها مسامتة من الأرض فيما يرى الرائي ل عَيْنٍ حَمِئَةٍ وقال بعضهم: قوله فِي عَيْنٍ إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها، أي هي آخر الأرض.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر هذه الأقوال تخيل والله أعلم، قال أبو حاتم: وقد يمكن أن تكون «حاميئة» مهموزة، بمعنى ذات حمأة، فتكون القراءتان بمعنى واحد، واستدل بعض الناس عل أن ذا القرنين نبي، بقوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ومن قال إنه ليس بنبي، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام، وإِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل على الكفر وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي بالإجمال على الإيمان، واتباع الهدى، فكأنه قيل له هذه لا تعطيها إلا إحدى خطتين: إما أن تكفر فتعذبها، وإما أن تؤمن فتحسن
539
إليها، وذهب الطبري إلى أن اتخاذ الحسن هو الأسر مع كفرهم، فالمعنى، على هذا، أنهم كفروا ولا بد فخيره الله بين قتلهم أو أسرهم، ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية.
قال القاضي أبو محمد: ولكن تقسيم ذِي الْقَرْنَيْنِ بعد هذا الأمر إلى كفر أو إيمان، يريد هذا القول بعض الرد، فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٧ الى ٩١]
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١)
ظَلَمَ في هذه الآية بمعنى كفر، ثم توعد الكافرين بتعذيبه إياهم قبل عذاب الله، وعقب لهم بذكر عذاب الله، لأن تعذيب ذي القرنين هو اللاحق عندهم، المحسوس لهم، الأقرب نكاية فلما جاء إلى وعد المؤمنين، قدم تنعيم الله تعالى الذي هو اللاحق عن المؤمنين، والآخر بإزائه حقير، ثم عبر أخيرا بذكر إحسانه في قول اليسر، وجعله قولا، إذ الأفعال كلها خلق الله تعالى، فكأنه سلمها، ولم يراع تكسبه، وقرأت فرقة «نكرا» بضم الكاف، وفرقة «نكرا» بسكون الكاف، ومعناه المنكر الذي تنكره الأوهام لعظمه وتستهوله، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وابن عامر: جَزاءً الْحُسْنى بإضافة الجزاء إلى الْحُسْنى، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد ب الْحُسْنى الجنة، والجنة هي الجزاء، فأضاف ذلك كما قال «دار الآخرة» والدار هي الآخرة، والثاني أن يريد ب الْحُسْنى أعمالهم الصالحة في إيمانهم، فوعدهم بجزاء الأعمال الصالحة، وقرأ حمزة الكسائي وحفص عن عاصم «جزاء الحسنى» بنصب الجزاء على المصدر في موضع الحال، و «الحسنى» : ابتداء خبره في المجرور، ويراد بها الجنة، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق «جزاء» بالرفع والتنوين الْحُسْنى وقرأ ابن عباس ومسروق:
«جزاء» نصب بغير التنوين الْحُسْنى بالإضافة، قال المهدوي: ويجوز حذف التنوين لالتقاء الساكنين، ووعدهم بذلك بأنه ييسر عليهم أمور دنياهم، وقرأ ابن القعقاع: «يسرا» بضم السين، وقوله ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده، فيجيء سبب الوصول، وكان ذو القرنين، على ما وقع في كتب التواريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، والإعداد الموفي، والحزم المستيقظ المتقد، والتأييد المتواصل، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة ولا مر بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته، وكل من عارضه أو توقف عن أمره جعله عظة وآية لغيره، وله في هذا المعنى أخبار كثيرة وغرائب. كرهت التطويل بها لأنها علم تاريخ. وقرأ الجمهور «مطلع» بكسر اللام، وقرأ الحسن بخلاف وابن كثير وأهل مكة «مطلع الشمس» بفتح اللام، و «القوم» : الزنج، قاله قتادة وهم الهنود وما وراءهم، وقال النقاش في قوله لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً معناه: أنه ليس لهم بنيان، إذ لا تحمل أرضهم البناء، وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب، وقيل يدخلون في ماء البحر، قاله الحسن وقتادة
وابن جريج، وكثر النقاش في غيره في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم وفعلها، لقدرة الله تعالى فيهم، ونيلها منهم، ولو كان لهم أسراب تغني لكان سترا كثيفا، وإنما هم في قبضة القدرة، سواء كان لهم أسراب أو دور أو لم يكن، ألا ترى أن الستر، عندنا نحن، إنما هو من السحاب والغمام وبرد الهوى، ولو سلط الله علينا الشمس لأحرقتنا، فسبحان المنفرد بالقدرة التامة، وقوله كَذلِكَ معناه: فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، فأوجز بقوله كَذلِكَ ثم أخبر الله تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين، وما تصرف من أفعاله ويحتمل أن يكون كَذلِكَ استئناف قول، ولا يكون راجعا على الطائفة الأولى، فتأمله، والأول أصوب.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٢ الى ٩٥]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥)
قرأت فرقة «اتّبع» بشد التاء، وقرأت فرقة «أتبع» بتخفيفها، وقد تقدم ذكره وهذه الآية تقتضي أنه لما بلغ مطلع الشمس، أي أدنى الأرض من مطلع الشمس، أَتْبَعَ بعد ذلك سَبَباً، أي طريقا آخر، فهو، والله أعلم، إما يمنة وإما يسرة من مطلع الشمس، و «السدان» فيما ذكر أهل التفسير، جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض، وبين طرفي الجبلين فتح، هو موضع الردم، قال ابن عباس: الجبلان اللذان بينهما السد: أرمينية وأذربيجان، وقالت فرقة: هما من وراء بلاد الترك، ذكره المهدوي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله غير متحقق، وإنما هما في طريق الأرض مما يلي المشرق ويظهر من ألفاظ التواريخ، أنه إلى ناحية الشمال، وأما تعيين موضع فيضعف، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم:
«السّدين» بضم السين، وكذلك «سدا» حيث وقع، وقرأ حفص عن عاصم بفتح ذلك كله من جميع القرآن، وهي قراءة مجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي، وقرأ ابن كثير «السّدين» بفتح السين وضم «سدا» في يس، واختلف بعد فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح هو المصدر، وقال الكسائي: الضم والفتح لغتان بمعنى واحد، وقرأ عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح.
قال القاضي أبو محمد: ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرأ «بين السّدين» بالضم وبعد ذلك «سدا» بالفتح، وهي قراءة حمزة والكسائي، وحكى أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة، وقال ابن أبي إسحاق: وما رأته عيناك فهو «سد» بالضم، وما لا يرى فهو «سد» بالفتح، والضمير في دُونِهِما عائد على الجبلين، أي: وجدهم في الناحية التي تلي عمارة الناس إلى المغرب، واختلف في القوم، فقيل: هم بشر، وقيل جن، والأول أصح من وجوه، وقوله لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس، لكنهم فقهوا وأفهموا بالترجمة ونحوها، وقرأ حمزة والكسائي «يفقهون» من أفقه، وقرأ
541
الباقون «يفقهون» من فقه، والضمير في قالُوا: للقوم الذين من دون السدين، ويَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ:
قبيلتان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعا كثيرة، اختلف الناس في عددها، فاختصرت ذكره لعدم الصحة، وفي خلقهم تشويه: منهم المفرط الطول، ومنهم مفرط القصر، على قدر الشبر، وأقل، وأكثر، ومنهم صنف: عظام الآذان، الأذن الواحدة وبرة والأخرى زعرى يصيف بالواحدة ويشتو في الأخرى وهي تعمه، واختلفت القراءة فقرأ عاصم وحده «يأجوج ومأجوج» بالهمز وقرأ الباقون: «يأجوج وماجوج» بغير همزة فأما من همز، فاختلف: فقالت فرقة: هو أعجمي علتاه في منع الصرف: العجمة والتأنيث، وقالت فرقة: هو معرب من أجج وأج، علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث، وأما من لم يهمز فإما أن يراهما اسمين أعجميين، وإما أن يسهل من الهمز، وقرأ رؤبة بن العجاج: «آجوج ومأجوج» بهمزة بدل الياء، واختلف الناس في «إفسادهم» الذي وصفوهم به، فقال سعيد بن عبد العزيز: «إفسادهم» : أكل بني آدم، وقالت فرقة «إفسادهم» إنما عندهم توقعا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم، وقالت فرقة: «إفسادهم» هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وهذا أظهر الأقوال، لأن الطائفة الشاكية إنما تشكت من ضرر قد نالها، وقولهم فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً استفهام على جهة حسن الأدب، و «الخرج» :
المجبي، وهو الخراج، وقال فوم: الخرج: المال يخرج مرة، والخراج المجبي المتكرر، فعرضوا عليه أن يجمعوا له أموالا يقيم بها أمر السد، قال ابن عباس خَرْجاً: أجرا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «خرجا» وقرأ حمزة والكسائي «خراجا» وهي قراءة طلحة بن مصرف والأعمش والحسن بخلاف عنه وروي في أمر يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أن أرزاقهم هي من التنين يمطرونها، ونحو هذا مما لم يصح، وروي أيضا أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف، والأنثى لا تموت حتى تخرج من بطنها ألف، فهم لذلك إذا بلغوا العدد ماتوا، ويروى أنهم يتناكحون في الطرق كالبهائم، وأخبارهم تضيق بها الصحف، فاختصرتها لضعف صحتها وقوله قالَ ما مَكَّنِّي الآية، المعنى قال لهم ذو القرنين: ما بسطه الله لي من القدرة والملك، خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وبعمل منكم بالأيدي، وقرأ ابن كثير «ما مكنني» بنونين، وقرأ الباقون «ما مكني» بإدغام النون الأولى في الثانية، وهذا من تأييد الله تعالى لذي القرنين، فإنه «تهدا؟؟؟» في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه، فإن القوم، لو جمعوا له خرجا لم يمنعه منهم أحد، ولوكلوه إلى البنيان، ومعونتهم بالقوة أجمل به، وأمر يطاول مدة العمل، وربما أربى على المخرج، و «الردم» أبلغ من السد، إذ السد كل ما سد به، و «الردم» وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه: إذا رقعه برقاع متكاثفة، بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر:
[الكامل] هل غادر الشعراء من متردم أي من قول يركب بعضه على بعض.
قوله عز وجل:
542

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٦ الى ١٠٠]

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠)
قرأ عاصم وحمزة «ايتوني» بمعنى جيئوني، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي «آتوني» بمعني أعطوني، وهذا كله إنما هو استدعاء إلى المناولة، لا استدعاء العطية والهبة، لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخرج، فلم يبق الاستدعاء المناولة، وإعمال القوة، و «ايتوني» : أشبه بقوله:
فأعينوني بقوة، ونصب «الزبر» به على نحو قول الشاعر: أمرتك الخير، حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور «زبر» بفتح الباء، وقرأ الحسن بضمها، وكل ذلك جمع زبرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى: فرصفه وبناه، حتى إذا ساوى بين الصدفين، فاختصر ذلك لدلالة الظاهر عليه، وقرأ الجمهور «ساوى» وقرأ قتادة «سوى»، و «الصدفان» : الجبلان المتناوحان، ولا يقال للواحد صدف وإنما يقال صدفان لاثنين لأن أحدهما يصادف الآخر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «الصّدفين» بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «الصّدفين» بضم الصاد والدال، وهي قراءة مجاهد والحسن، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال، وهي قراءة أبي رجاء وأبي عبد الرحمن وقرأ الماجشون: بفتح الصاد وضم الدال، وقراءة قتادة «بين الصّدفين»، بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد: هما الجبلان المتناوحان، وقيل «الصدفان» :
السطحان الأعليان من الجبلين، وهذا نحو من الأول، وقوله قالَ انْفُخُوا إلى آخر الآية معناه أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها، حتى تحمى، ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو الرصاص أو بالحديد، بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه، على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد استأنف وصف طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل، وقرأ بعض الصحابة: «بقطر أفرغ عليه»، وقال أكثر المفسرين:
«القطر» : النحاس المذاب، ويؤيد هذا ما روي أن رسول الله ﷺ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال كيف رأيته؟ قال رأيته كالبرد المحبر: طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأيته، وقالت فرقة «القطر» :
الرصاص المذاب، وقالت فرقة الحديد المذاب، وهو مشتق من قطر يقطر، والضمير في قوله اسْتَطاعُوا ل يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الكهف: ٩٤]، وقرأت فرقة «فما اسطاعوا» بسكون السين وتخفيف الطاء، وقرأت فرقة بشد الطاء، وفيها تكلف الجمع بين ساكنين ويَظْهَرُوهُ معناه: يعلونه بصعود فيه، ومنه في الموطأ:
والشمس في حجرتها قبل أن تظهر، وَمَا اسطاعوا لَهُ نَقْباً لبعد عرضه وقوته ولا سبيل سوى هذين إما ارتقاء وإما نقب، وروي أن في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسين فرسخا، وروى غير هذا مما لا ثبوت له، فاختصرناه، إذ لا غاية للتخرص، وقوله في هذه الآية انْفُخُوا يريد بالأكيار، وقوله اسْطاعُوا بتخفيف الطاء، على قراءة الجمهور قيل هي لغة بمعنى استطاعوا وقيل بل استطاعوا بعينه، كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء، فقالوا: اسْطاعُوا، وحذف بعضهم منه الطاء
فقال: «استاع» يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة وقرأ حمزة وحده «فما اسطّاعوا» بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي: هي غير جائزة، وقرأ الأعمش: «فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا» بالتاء في الموضعين، وقوله هذا رَحْمَةٌ الآية القائل: ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به، وقرأ ابن أبي عبلة «هذه رحمة»، و «الوعد» : يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «دكا» مصدر دك يدك إذا هدم ورض، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «دكاء» بالمد، وهذا على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره جعله مثل دكاء، وأما النصب في «دكا» فيحتمل أن يكون مفعولا ثانيا ل «جعل»، ويحتمل أن يكون «جعل» بمعنى خلق، وينصب «دكا» على الحال، وكذلك أيضا النصب في قراءة من مد يحتمل الوجهين، والضمير في تَرَكْنا لله عز وجل، وقوله يَوْمَئِذٍ يحتمل أن يريد به يوم القيامة لأنه قد تقدم ذكره، فالضمير في قوله بَعْضَهُمْ على ذلك لجميع الناس، ويحتمل أن يريد بقوله يَوْمَئِذٍ يوم كمال السد، فالضمير في قوله بَعْضَهُمْ على ذلك يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الكهف: ٩٤]، واستعارة «الموج» لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض كالمولهين من هم وخوف ونحوه، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض، وقوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إلى آخر الآية معني به يوم القيامة بلا احتمال لغيره، فمن تأول الآية كلها في يوم القيامة، اتسق تأويله، ومن تأول الآية إلى قوله يَمُوجُ فِي بَعْضٍ في أمر يأجوج ومأجوج، تأول القول وتركناهم يموجون دأبا على مر الدهر وتناسل القرون منهم فنائهم، ثم نُفِخَ فِي الصُّورِ فيجتمعون، والصُّورِ: في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح، هو القرن الذي ينفخ فيه للقيامة، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا الجبهة وأصغى بالأذن متى يؤمر»، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قولوا حسبنا الله وعلى الله توكلنا، ولو اجتمع أهل منى ما أقلوا ذلك القرن»، وأما «النفخات»، فأسند الطبري إلى أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «الصور» قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين»، وقال بعض الناس «النفخات» اثنتان: نفخة الفزع، وهي نفخة الصعق، ثم الأخرى التي هي للقيام، وملك الصور هو إسرافيل، وقالت فرقة الصُّورِ جمع صورة، فكأنه أراد صور البشر والحيوان نفخ فيها الروح، والأول أبين وأكثر في الشريعة، وقوله وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ معناه: أبرزناها لهم لتجمعهم وتحطمهم، ثم أكد بالمصدر عبارة عن شدة الحال، وروى الطبري في هذا حديثا مضمنه أن النار ترفع لليهود والنصارى كأنها السراب، فيقال هل لكم في الماء حاجة؟ فيقولون نعم، وهذا مما لا صحة له.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠١ الى ١٠٦]
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
544
قوله أَعْيُنُهُمْ كناية عن البصائر، لأن عين الجارحة لا نسبة بينها وبين الذكر، والمعنى: الذين فكرهم بينها وبين ذِكْرِي والنظر في شرعي حجاب، وعليها غِطاءٍ ثم قال إنهم كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يريد لإعراضهم ونفارهم عن دعوة الحق، وقرأ جمهور الناس: «أفحسب الذين» بكسر السين بمعنى: أظنوا، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن وابن يعمر ومجاهد وابن كثير بخلاف عنه: «أفحسب» بسكون السين وضم الباء بمعنى أكافيهم ومنتهى غرضهم، وفي مصحف ابن مسعود «أفظن الذين كفروا»، وهذه حجة لقراءة الجمهور، وقال جمهور المفسرين يريد كل من عبد من دون الله كالملائكة وعزير وعيسى، فيدخل في الَّذِينَ كَفَرُوا بعض العرب واليهود والنصارى، والمعنى أن ذلك ليس كظنهم، بل ليس من ولاية هؤلاء المذكورين شيء، ولا يجدون عندهم منتفعا وأَعْتَدْنا معناه: يسرنا، و «النزل» موضع النزول، و «النزل» أيضا ما يقدم للضيف أو القادم من الطعام عند نزوله، ويحتمل أن يراد بالآية هذا المعنى أن المعد لهم بدل النزول جهنم، كما قال الشاعر: [الوافر] تحية بينهم ضرب وجيع ثم قال تعالى: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الآية المعنى: قل لهؤلاء الكفرة على جهة التوبيخ:
هل نخبركم بالذين خسروا عملهم وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم مع ذلك يظنون أنهم يحسنون فيما يصنعونه فإذا طلبوا ذلك، فقل لهم: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، وقرأ ابن وثاب «قل سننبئكم»، وهذه صفة المخاطبين من كفار العرب المكذبين، بالبعث، و «حبطت» معناه: بطلت، وأَعْمالُهُمْ: يريد ما كان لهم من عمل خير، وقوله فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً يحتمل أن يريد أنه لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار لا محالة، ويحتمل أن يريد المجاز والاستعارة، كأنه قال فلا قدر لهم عندنا يومئذ، فهذا معنى الآية عندي، وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال «يؤتى بالأكول الشروب الطويل فلا يزن بعوضة» ثم قرأ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً وقالت فرقة: إن الاستفهام تم في قوله أَعْمالًا ثم قال: هم الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فقال سعد بن أبي وقاص هم عباد اليهود والنصارى، وأهل الصوامع والديارات، وقال علي بن أبي طالب هم الخوارج، وهذا إن صح عنه، فهو على جهة مثال فيمن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن وروي أن ابن الكواء سأله عن بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا فقال له أنت وأصحابك، ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ وليس من هذه الطوائف من يكفر بلقاء الله، وإنما هذه صفة مشركي عبدة الأوثان، فاتجه بهذا ما قلناه أولا وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من صدر الآية، وقوله أَعْمالًا نصب على التمييز، وقرأ الجمهور «فحبطت» بكسر الباء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال «فحبطت» بفتح الباء، وقرأ كعب بن عجرة والحسن وأبو عمرو ونافع والناس «فلا نقيم لهم» بنون العظمة، وقرأ مجاهد «فلا يقيم»، بياء الغائب، يريد
545
فلا يقيم الله عز وجل، وقرأ عبيد بن عمير: «فلا يقوم» ويلزمه أن يقرأ «وزن»، وكذلك قول مجاهد «يقول لهم يوم القيامة»، وقوله ذلِكَ إشارة إلى ترك إقامة الوزن وجَزاؤُهُمْ خبر الابتداء في قوله ذلِكَ، وقوله جَهَنَّمُ بدل منه، و «ما» في قوله بِما كَفَرُوا مصدرية و «الهزء» الاستخفاف والسخرية.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
لما فرغ من ذكر الكفرة والأخسرين أعمالا الضالين، عقب بذكر حالة المؤمنين ليظهر التباين، وفي هذا بعث النفوس على اتباع الحسن القويم، واختلف المفسرون في الْفِرْدَوْسِ فقال قتادة إنه أعلى الجنة وربوتها، وقال أبو هريرة إنه جبل تنفجر منه أنهار الجنة، وقال أبو أمامة: إنه سرة الجنة، ووسطها، وروى أبو سعيد الخدري أنه تنفجر منه أنهار الجنة، وقال عبد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكرم والأعناب خاصة من الثمار، وقاله كعب الأحبار، واستشهد قوم لذلك بقول أمية بن أبي الصلت: [البسيط]
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل
وقال الزجاج قيل إن الْفِرْدَوْسِ سريانية، وقيل رومية، ولم يسمع ب الْفِرْدَوْسِ في كلام العرب إلا في بيت حسان: [الطويل]
وإن ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد
وروي عن النبي ﷺ أنه قال «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»، وقالت فرقة الْفِرْدَوْسِ البستان بالرومية، وهذا اقتضاب القول في الْفِرْدَوْسِ وعيون ما قيل، وقوله نُزُلًا يحتمل الوجهين اللذين قدمناهما قبل، و «الحلول» بمعنى التحول، قال مجاهد: متحولا، ومنه قول شصار: [مجزوء الرجز] لكل دولة أجل ثم يتاح لها حول وكأنه اسم جمع، وكأن واحده حوالة، وفي هذا نظر، وقال الزجاج عن قوم: هي بمعنى الحيلة في التنقل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف متكلف، وأما قوله قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ إلى آخر الآية، فروي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي عليه السلام كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها، ومبعوث إليها، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم، وأنت مقصر، قد سئلت في الروح ولم تجب فيه، ونحو هذا من
546
القول، فنزلت الآية معلمة باتساع معلومات الله عز وجل، وأنها غير متناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكير، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه، وهو قوله قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي و «الكلمات» : هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، ومعلومات الله سبحانه لا تناهى، والْبَحْرُ متناه، ضرورة، وقرأ الجمهور: «تنفد» بالتاء من فوق، وقرأ عمرو بن عبيد «ينفد» بالياء وقرأ ابن مسعود وطلحة: قبل أن تقضي كلمات ربي، وقوله مِداداً أي زيادة، وقرأ الجمهور: «مدادا» وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش ومجاهد والأعرج «مدادا»، فالمعنى لو كان البحر مِداداً تكتب به معلومات الله عز وجل، لنفد قبل أن يستوفيها، وكذلك إلى ما شئت من العدد، وإِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لم أعط إلا ما أوحي إلي وكشف لي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: «ينفد» بالياء من تحت، وقرأ الباقون بالتاء، وقوله قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ المعنى: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ ينتهي علمي إلى حيث يُوحى إِلَيَّ ومهم ما يوحى إلي، أنما إلهكم إله واحد، وكان كفرهم بعبادة الأصنام فلذلك خصص هذا الفصل مما أوحي إليه، ثم أخذ في الموعظة، والوصاة البينة الرشد، ويَرْجُوا على بابها، وقالت فرقة: يَرْجُوا بمعنى يخاف، وقد تقدم القول في هذا المقصد، فمن كان يؤمن بلقاء ربه وكل موقن بلقاء ربه، فلا محالة أنه بحالتي خوف ورجاء، فلو عبر بالخوف لكان المعنى تاما على جهة التخويف والتحذير، وإذا عبر بالرجاء فعلى جهة الإطماع وبسط النفوس إلى إحسان الله تعالى، أي فَمَنْ كانَ يَرْجُوا النعيم المؤبد من ربه فَلْيَعْمَلْ وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى، وقال ابن جبير في تفسيرها لا يرائي في عمله وقد روي حديث أنها نزلت في الرياء، حين سئل النبي ﷺ عمن يجاهد ويحب أن يحمده الناس، وقال معاوية بن أبي سفيان هذه آخر آية نزلت من القرآن.
547
فهرس المحتويات
تفسير سورة التوبة الآيات: ١- ٣ ٤ الآيتان: ٤، ٥ ٧ الآيتان: ٦، ٧ ٨ الآيات: ٨- ١٠ ٩ الآيتان: ١١، ١٢ ١١ الآيات: ١٣- ١٥ ١٣ الآيتان: ١٦، ١٧ ١٤ الآيتان: ١٨، ١٩ ١٥ الآيات: ٢٠- ٢٣ ١٧ الآية: ٢٤ ١٨ الآيات: ٢٥- ٢٧ ١٩ الآية: ٢٨ ٢٠ الآية: ٢٩ ٢١ الآية: ٣٠ ٢٣ الآيات: ٣١- ٣٣ ٢٥ الآيتان: ٣٤، ٣٥ ٢٧ الآية: ٣٦ ٢٩ الآية: ٣٧ ٣١ الآيتان: ٣٨، ٣٩ ٣٤ الآية: ٤٠ ٣٥ الآيتان: ٤١، ٤٢ ٣٦ الآيتان: ٤٣، ٤٤ ٣٨ الآيات: ٤٥- ٤٧ ٣٩ الآيات: ٤٨- ٥١ ٤١ الآيتان: ٥٢، ٥٣ ٤٣ الآيات: ٥٤- ٥٦ ٢٤٤ الآيات: ٥٧- ٥٩ ٤٦ الآية: ٦٠ ٤٧ الآيات: ٦١- ٦٣ ٥٢ الآيات: ٦٤- ٦٦ ٥٤ الآيات: ٦٧- ٦٩ ٥٦ الآيات: ٧٠- ٧٢ ٥٧ الآيتان: ٧٣، ٧٤ ٥٩ الآيات: ٧٥- ٧٨ ٦١ الآيتان: ٧٩، ٨٠ ٦٣ الآيات: ٨١- ٨٣ ٦٥ الآيات: ٨٤- ٨٧ ٦٧ الآيات: ٨٨- ٩٠ ٦٩ الآيتان: ٩١، ٩٢ ٧٠ الآيتان: ٩٣، ٩٤ ٧١ الآيات: ٩٥- ٩٧ ٧٢ الآيتان: ٩٨، ٩٩ ٧٣ الآيتان: ١٠٠، ١٠١ ٧٥ الآيتان: ١٠٢، ١٠٣ ٧٧ الآيتان: ١٠٤، ١٠٥ ٧٩ الآيتان: ١٠٦، ١٠٧ ٨٠ الآيتان: ١٠٨، ١٠٩ ٨٢ الآيتان: ١١٠، ١١١ ٨٦ الآيتان: ١١٢، ١١٣ ٨٨ الآيات: ١١٤- ١١٦ ٩١ الآيات: ١١٧- ١١٩ ٩٢ الآيتان: ١٢٠، ١٢١ ٩٥ الآيتان: ١٢٢، ١٢٣ ٩٦
548
الآيات: ١٢٤- ١٢٦ ٩٨ الآيات: ١٢٧- ١٢٩ ٩٩ تفسير سورة يونس الآيتان: ١، ٢ ١٠٢ الآيتان: ٣، ٤ ١٠٤ الآيتان: ٥، ٦ ١٠٥ الآيات: ٧- ١٠ ١٠٦ الآيتان: ١١، ١٢ ١٠٨ الآيات: ١٣- ١٥ ١٠٩ الآيات: ١٦- ١٨ ١١٠ الآيات: ١٩- ٢١ ١١١ الآيات: ١٩- ٢١ ١١١ الآية: ٢٢ ١١٢ الآية: ٢٣ ١١٣ الآية: ٢٤ ١١٤ الآيات: ٢٥- ٢٧ ١١٥ الآيات: ٢٨- ٣٠ ١١٦ الآيات: ٣١- ٣٣ ١١٧ الآيات: ٣٤- ٣٦ ١١٨ الآيتان: ٣٧، ٣٨ ١١٩ الآيات: ٣٩- ٤٣ ١٢١ الآيات: ٤٤- ٤٦ ١٢٢ الآيات: ٤٧- ٤٩ ١٢٣ الآيات: ٥٠- ٥٣ ١٢٤ الآيات: ٥٤- ٥٦ ١٢٥ الآيتان: ٥٧، ٥٨ ١٢٦ الآيات: ٥٩- ٦٣ ١٢٧ الآيات: ٦٤- ٦٦ ١٢٩ الآيات: ٦٧- ٧٠ ١٣٠ الآية: ٧١ ١٣١ الآيتان: ٧٢، ٧٣ ١٣٢ الآيتان: ٧٤، ٧٥ ١٣٣ الآيات: ٧٦- ٧٨ ١٤٣ الآيات: ٧٩- ٨٢ ١٣٥ الآيات: ٨٣- ٨٦ ٢١٣٦ الآيات: ٨٧- ٨٩ ١٣٨ الآيات: ٩٠- ٩٢ ١٤٠ الآيات: ٩٣- ٩٥ ١٤٢ الآيات: ٩٦- ٩٨ ١٤٣ الآيات: ٩٩- ١٠١ ١٤٥ الآيات: ١٠٢- ١٠٤ ١٤٦ الآيات: ١٠٥- ١٠٧ ١٤٦ الآيتان: ١٠٨، ١٠٩ ١٤٧ تفسير سورة هود الآيات: ١- ٤ ١٤٨ الآيتان: ٥، ٦ ١٥٠ الآيتان: ٧، ٨ ١٥٢ الآيات: ٩- ١١ ١٥٣ الآيتان: ١٢، ١٣ ١٥٤ الآيات: ١٤- ١٦ ١٥٥ الآية: ١٧ ١٥٧ الآيات: ١٨- ٢٠ ١٥٩ الآيات: ٢١- ٢٤ ١٦١ الآيات: ٢٥- ٢٧ ١٦٢ الآيات: ٢٨- ٣٠ ١٦٤ الآيتان: ٣١، ٣٢ ١٦٥ الآيات: ٣٣- ٣٥ ١٦٦ الآيتان: ٣٦، ٣٧ ١٦٨ الآيات: ٣٨- ٤٠ ١٧٠ الآيتان: ٤١، ٤٢ ١٧٢ الآيتان: ٤٣، ٤٤ ١٧٤ الآيتان: ٤٥، ٤٦ ١٧٦ الآيات: ٤٧- ٤٩ ١٧٨ الآيات: ٥٠- ٥٢ ١٧٩ الآيات: ٥٣- ٥٦ ١٨١ الآيات: ٥٧- ٦٠ ١٨٢ الآيتان: ٦١، ٦٢ ١٨٣ الآيات: ٦٣- ٦٥ ١٨٤ الآيات: ٦٦- ٦٨ ١٨٦
549
الآيات: ٦٩- ٧١ ١٨٧ الآيتان: ٧٢، ٧٣ ١٩٠ الآيات: ٧٤- ٧٦ ١٩٢ الآيات: ٧٧- ٨٠ ١٩٣ الآية: ٨١ ١٩٥ الآيتان: ٨٢، ٨٣ ١٩٧ الآيات: ٨٤- ٨٦ ١٩٨ الآيتان: ٨٧، ٨٨ ٢٠٠ الآيات: ٨٩- ٩٢ ٢٠١ الآيات: ٩٣- ٩٥ ٢٠٣ الآيات: ٩٦- ١٠٠ ٢٠٤ الآيات: ١٠١- ١٠٥ ٢٠٦ الآيات: ١٠٦- ١٠٨ ٢٠٧ الآيات: ١٠٩- ١١١ ٢٠٩ الآيات: ١١٢- ١١٥ ٢١١ الآيتان: ١١٦، ١١٧ ٢١٤ الآيتان: ١١٨، ١١٩ ٢١٥ الآيات: ١٢٠- ١٢٣ ٢١٦ تفسير سورة يوسف الآيات: ١- ٣ ٢١٨ الآية: ٤ ٢١٩ الآيتان: ٥، ٦ ٢٢٠ الآيات: ٧- ١٠ ٢٢١ الآيات: ١١- ١٥ ٢٢٣ الآيات: ١٦- ١٨ ٢٢٦ الآيتان: ١٩، ٢٠ ٢٢٨ الآيتان: ٢١، ٢٢ ٢٣٠ الآيات: ٢٣- ٢٥ ٢٣٢ الآيات: ٢٦- ٢٩ ٢٣٦ الآيتان: ٣٠، ٣١ ٢٣٧ الآيات: ٣٢- ٣٤ ٢٤١ الآيتان: ٣٥، ٣٦ ٢٤٢ الآيتان: ٣٧، ٣٨ ٢٤٤ الآيات: ٣٩- ٤٢ ٢٢٤٥ الآيات: ٤٣- ٤٥ ٢٤٧ الآيات: ٤٦- ٤٩ ٢٤٩ الآية: ٥٠ ٢٥١ الآيات: ٥١- ٥٣ ٢٥٣ الآيات: ٥٤- ٥٧ ٢٥٤ الآيات: ٥٨- ٦٠ ٢٥٧ الآيات: ٦١- ٦٣ ٢٥٨ الآيتان: ٦٤، ٦٥ ٢٥٩ الآيتان: ٦٦، ٦٧ ٢٦١ الآيتان: ٦٨، ٦٩ ٢٦٢ الآيات: ٧٠- ٧٥ ٢٦٣ الآية: ٧٦ ٢٦٥ الآية: ٧٧ ٢٦٦ الآيات: ٧٨- ٨٠ ٢٦٨ الآيات: ٨١- ٨٣ ٢٧٠ الآيات: ٨٤- ٨٦ ٢٧١ الآيتان: ٨٧، ٨٨ ٢٧٤ الآيات: ٨٩- ٩٢ ٢٧٦ الآيات: ٩٣- ٩٥ ٢٧٨ الآيات: ٩٦- ٩٩ ٢٨٠ الآية: ١٠٠ ٢٨٢ الآيتان: ١٠١، ١٠٢ ٢٨٣ الآيات: ١٠٣- ١٠٨ ٢٨٤ الآيتان: ١٠٩، ١١٠ ٢٨٦ الآية: ١١١ ٢٨٩ تفسير سورة الرعد الآيتان: ١، ٢ ٢٩٠ الآيتان: ٣، ٤ ٢٩٣ الآيات: ٥- ٧ ٢٩٥ الآيات: ٨- ١٠ ٢٩٧ الآيات: ١١- ١٣ ٣٠٠ الآيات: ١٤- ١٦ ٣٠٥ الآية: ١٧ ٣٠٧ الآيات: ١٨- ٢١ ٣٠٨
550
الآيات: ٢٢- ٢٤ ٣٠٩ الآيات: ٢٥- ٢٩ ٣١٠ الآيات: ٣٠- ٣٢ ٣١٢ الآيات: ٣٣- ٣٥ ٣١٤ الآيات: ٣٦- ٣٩ ٣١٥ الآيات: ٤٠- ٤٣ ٣١٨ تفسير سورة إبراهيم الآيات: ١- ٣ ٣٢١ الآيتان: ٤، ٥ ٣٢٣ الآيات: ٦- ٩ ٣٢٥ الآية: ١٠ ٣٢٧ الآيتان: ١١، ١٢ ٣٢٨ الآيات: ١٣- ١٧ ٣٢٩ الآيات: ١٨- ٢٠ ٣٣١ الآية: ٢١ ٣٣٢ الآيتان: ٢٢، ٢٣ ٣٣٣ الآيات: ٢٤- ٢٦ ٣٣٤ الآيات: ٢٧- ٣٠ ٣٣٧ الآيات: ٣١- ٣٤ ٣٣٨ الآيات: ٣٥- ٣٧ ٣٤٠ الآيات: ٣٨- ٤١ ٣٤٢ الآيات: ٤٢- ٤٤ ٣٤٣ الآيات: ٤٥- ٤٨ ٣٤٥ الآيات: ٤٩- ٥٢ ٣٤٧ تفسير سورة الحجر الآيات: ١- ٥ ٣٤٩ الآيات: ٦- ١١ ٣٥١ الآيات: ١٢- ١٥ ٣٥٢ الآيات: ١٦- ٢١ ٣٥٤ الآيات: ٢٢- ٢٧ ٣٥٦ الآيات: ٢٨- ٣٣ ٣٥٩ الآيات: ٣٤- ٤٤ ٣٦١ الآيات: ٤٥- ٥٠ ٣٦٣ الآيات: ٥١- ٥٦ ٢٣٦٤ الآيات: ٥٧- ٦٥ ٣٦٦ الآيات: ٦٦- ٧٧ ٣٦٨ الآيات: ٧٨- ٨٦ ٣٧١ الآيات: ٨٧- ٩٣ ٣٧٣ الآيات: ٩٤- ٩٩ ٣٧٥ تفسير سورة النحل الآيات: ١- ٤ ٣٧٧ الآيات: ٥- ٩ ٣٧٩ الآيات: ١٠- ١٢ ٣٨١ الآيات: ١٣- ١٥ ٣٨٣ الآيات: ١٦- ٢١ ٣٨٤ الآيات: ٢٢- ٢٥ ٣٨٦ الآيتان: ٢٦، ٢٧ ٣٨٨ الآيات: ٢٨- ٣٠ ٣٨٩ الآيتان: ٣١- ٣٢ ٣٩٠ الآيات: ٣٣- ٣٥ ٣٩١ الآيات: ٣٦- ٣٨ ٣٩٢ الآيتان: ٣٩، ٤٠ ٣٩٣ الآيات: ٤١- ٤٤ ٣٩٤ الآيات: ٤٥- ٤٨ ٣٩٦ الآيات: ٤٩- ٥٥ ٣٩٩ الآيات: ٥٦- ٥٩ ٤٠١ الآيات: ٦٠- ٦٢ ٤٠٢ الآيات: ٦٣- ٦٦ ٤٠٤ الآيات: ٦٧- ٦٩ ٤٠٥ الآيات: ٧٠- ٧٢ ٤٠٧ الآيات: ٧٣- ٧٥ ٤٠٩ الآيات: ٧٦- ٧٩ ٤١٠ الآيتان: ٨٠، ٨١ ٤١٢ الآيات: ٨٢- ٨٥ ٤١٣ الآيات: ٨٦- ٨٩ ٤١٤ الآيتان: ٩٠، ٩١ ٤١٥ الآيتان: ٩٢، ٩٣ ٤١٧ الآيات: ٩٤- ٩٧ ٤١٩
551
الآيات: ٩٨- ١٠٣ ٤٢٠ الآيات: ١٠٤- ١٠٦ ٤٢٢ الآيات: ١٠٧- ١١١ ٤٢٤ الآيات: ١١٢- ١١٤ ٤٢٦ الآية: ١١٥ ٤٢٧ الآيات: ١١٦- ١١٩ ٤٢٩ الآيات: ١٢٠- ١٢٤ ٤٣٠ الآيات: ١٢٥- ١٢٨ ٤٣٢ تفسير سورة الإسراء الآية: ١ ٤٣٤ الآيات: ٢- ٤ ٤٣٦ الآيات: ٥- ٧ ٤٣٨ الآيات: ٨- ١١ ٤٤٠ الآيات: ١٢- ١٤ ٤٤٢ الآيات: ١٥- ١٧ ٤٤٣ الآيات: ١٨- ٢٢ ٤٤٦ الآيات: ٢٣- ٢٥ ٤٤٧ الآيات: ٢٦- ٣٠ ٤٤٩ الآيات: ٣١- ٣٣ ٤٥١ الآيات: ٣٤- ٣٦ ٤٥٣ الآيات: ٣٧- ٤٠ ٤٥٦ الآيات: ٤١- ٤٤ ٤٥٨ الآيات: ٤٥- ٤٧ ٤٦٠ الآيات: ٤٨- ٥١ ٤٦١ الآيات: ٥٢- ٥٥ ٤٦٣ الآيات: ٥٦- ٥٩ ٤٦٥ الآية: ٦٠ ٤٦٧ الآيات: ٦١- ٦٥ ٤٦٩ الآيات: ٦٦- ٦٩ ٤٧١ الآيات: ٧٠- ٧٥ ٤٧٢ الآيات: ٧٦- ٧٩ ٤٧٦ الآيات: ٨٠- ٨٤ ٤٧٩ الآيات: ٨٥- ٨٨ ٤٨١ الآيات: ٨٩- ٩٢ ٤٨٤ الآيات: ٩٣- ٩٥ ٤٨٥ الآيات: ٩٦- ٩٨ ٤٨٦ الآيات: ٩٩- ١٠١ ٤٨٧ الآيات: ١٠٢- ١٠٤ ٤٨٩ الآيات: ١٠٥- ١٠٨ ٤٩٠ الآيات: ١٠٩- ١١١ ٤٩٢ تفسير سورة الكهف الآيات: ١- ٥ ٤٩٤ الآيات: ٦- ٩ ٤٩٦ الآيات: ١٠- ١٢ ٤٩٨ الآيات: ١٣- ١٦ ٥٠١ الآيتان: ١٧، ١٨ ٥٠٢ الآيتان: ١٩، ٢٠ ٥٠٥ الآية: ٢١ ٥٠٦ الآيات: ٢٢- ٢٤ ٥٠٧ الآيات: ٢٥- ٢٧ ٥٠٩ الآيتان: ٢٨، ٢٩ ٥١٢ الآيتان: ٣٠، ٣١ ٥١٤ الآيات: ٣٢- ٣٤ ٥١٥ الآيتان: ٣٥- ٣٩ ٥١٧ الآيات: ٤٠- ٤٤ ٥١٨ الآيات: ٤٥- ٤٨ ٥١٩ الآيتان: ٤٩- ٥٠ ٥٢١ الآيات: ٥١- ٥٤ ٥٢٣ الآيات: ٥٥- ٥٧ ٥٢٥ الآيات: ٥٨- ٦٠ ٥٢٥ الآيات: ٦١- ٦٥ ٥٢٨ الآيات: ٦٦- ٧٣ ٥٣٠ الآيات: ٧٤- ٧٨ ٥٣٢ الآية: ٧٩ ٥٣٤ الآيات: ٨٠- ٨٢ ٥٣٦ الآيات: ٨٣- ٨٦ ٥٣٨ الآيات: ٨٧- ٩١ ٥٤٠ الآيات: ٩٢- ٩٥ ٥٤١ الآيات: ٩٦- ١٠٠ ٥٤٣ الآيات: ١٠١- ١٠٦ ٥٤٥ الآيات: ١٠٧- ١١٠ ٥٤٦
552
Icon