ﰡ
قصة زكريا عليه السلام
الرغبة في الذرية والإنجاب منزع فطري طبيعي، لأن محبة الولد عاطفة متأصلة في النفس الإنسانية، وقد يكون ذلك أيضا لمصلحة من أجل وراثة جهد الأب، والعون على شؤون الحياة ومصالح العمل، وقضايا الزراعة، ومتاعب العجز والمرض والشيخوخة. لذا رغب زكريا، عليه السلام، في إنجاب الولد، لا لمصلحة دنيوية، وإنما من أجل وراثة النبوة والعلم الإلهي، والتخوّف من العصبات غير المستقيمين على أمر الله وشرعه وآدابه، فدعا زكريا ربه أن يخلفه ولد من أجل هذا، قال الله تعالى حاكيا هذه القصة في مطلع سورة مريم المكية:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» »
«٧» [مريم: ١٩/ ١- ٦].
كان لزكريا عليه السلام شركة في خدمة الهيكل، وكانت مريم البتول عليها السلام
(٢) ضعف.
(٣) خائبا في وقت ما.
(٤) الموالي: هم عصبة الرجل، أقاربه من جهة الأب.
(٥) أي لا تلد.
(٦) ابنا يلي الأمر بعدي.
(٧) مرضيا عندك.
افتتحت سورة مريم بالأحرف المقطعة (كهيعص) للتنبيه لما يذكر في هذه السورة، وتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن، ما دام الكلام القرآني مركبا من حروف الهجاء العربية التي هي مادة تركيب الجملة والكلام العربي نثرا وخطابة وشعرا، فوجود هذه الحروف لمعان معينة، وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم أعقبت هذه الأحرف بما يلي:
هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك عبده زكريا، الذي كان أحد الأنبياء العظام لبني إسرائيل، وزوجته خالة (عيسى). والمراد بذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها وإجابة الله دعاء زكريا. وذلك حين نادى زكريا، أي نادى بالدعاء والرغبة، في حال من إخفاء النداء، لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد عن الرياء، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وغيره: «خير الذكر الخفي».
وقال بعض العلماء: يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الدعاء الذي هو في معنى القبول والمغفرة لأنه يدل من الإنسان على أنه خير، فإخفاؤه أبعد من الرياء، وأما دعاء زكريا وطلبه، فكان في أمر دنيا، وهو طلب الولد، فإنما أخفاه لئلا يلومه الناس في ذلك، وليكون على أول أمره، إن أجيب نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك. ويقال: وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل.
قال زكريا، عليه السلام، في دعائه الخفي: يا رب، لقد صرت فاتر العظام، ضعيف البنية والقوى، هرما كثير الشيب، ولم أعهد منك إلا إجابة الدعاء، ولم تردني قطّ فيما سألتك، فما كنت خائبا، بل كنت كلما دعوتك استجبت لي. وإني
فكانت مسوغات الدعاء ثلاثة: ضعف البدن مع عقم امرأته، وكونه مستجاب الدعاء، وخوفه من ورثته من ضياع الدين بعد موته. ولم يكن خوفه من إرث المال، لأن الأنبياء لا يورثون،
جاء في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة».
وفي رواية: «نحن معشر الأنبياء لا نورث».
فامنحني وأعطني من جنابك وواسع فضلك وليا يلي أمر الدين، يكون ولدا من صلبي، يرثني النبوة، ويرث ميراث آل يعقوب، وهي وراثة العلم والنبوة، على الراجح، لا وراثة المال، فيرث ما عندهم من العلم، ويقوم برعاية أمورهم في الدين، واجعله يا رب برّا تقيا مرضيا عندك في أخلاقه وأفعاله، ترضاه وتحبه أنت، ويرضاه عبادك ويحبونه، ليكون أهلا لحمل رسالة الدين، وتعليمه وتبليغه، وإقامة شعائره.
وأما يعقوب فهو إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب.
ولهذه الآية نظائر في القرآن الكريم، مثل: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) [آل عمران: ٣/ ٣٨]. ومثل: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) [الأنبياء: ٢١/ ٨٩].
ويلاحظ أن زكريا عليه السلام لما رأى من حاله، إنما طلب وليا أي ناصرا، ولم يصرح بالولد، لبعد ذلك بسبب عقم المرأة، وكبر سنه. ووصف الولي بأن يكون وارثا، يرث من آل يعقوب الحكمة والعلم والنبوة، والميراث في هذا كله استعارة.
قصة يحيى عليه السلام
من العجائب أو خوارق العادات والمعجزات: ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، وولادة يحيى بن زكريا عليه السلام: من أم عاقر، وأب شيخ كبير، وهذا بحسب توقعات البشر المعتادة والقدرات الشائعة، أما على قدرة الله تعالى العظمى فإن الأمر يهون لأن الخلق والأمر والإرادة الإلهية فورية الأثر، لا يتأخر شيء عن مراد الله إذا شاء، حتى ولو كان المعتاد خلاف ذلك، وهكذا ولد يحيى عليه السلام ببركة دعاء أبيه زكريا، مع أنه كان شيخا هرما، وامرأته عاقر لا تلد، قال الله تعالى واصفا هذا الحادث:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧ الى ١١]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [مريم: ١٩/ ٧- ١١].
استجاب الله تعالى دعاء زكريا عليه السلام طلب ولي يرثه العلم والنبوة، فقيل له بإثر دعائه: إنّا نبشرك بغلام يولد لك اسمه (يحيى) لم يسبق أحد تسميته بهذا الاسم.
قال قتادة: سمي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالنبوة والإيمان. وقال بعضهم: سمي،
(٢) العاقر من النساء: التي لا تلد من غير كبر. وكذلك العاقر من الرجال.
(٣) حالة لا تداوى.
(٤) سليما من غير علة. [.....]
(٥) المصلى أو المعبد.
(٦) طرفي النهار.
«لم تلد العواقر قبله مثله».
فتعجب زكريا النبي الرسول من هذه البشارة حين أجيب دعاؤه، وفرح فرحا شديدا، وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها، مع كبرها وكبر زوجها. وقوله سبحانه: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا معناه: انتهى سنه، وكبر ونحل عظمه، وفقد القدرة على جماع النساء.
قال الله تعالى عن طريق الملك مجيبا زكريا عما تعجب منه: الأمر كما قلت، سنهب لك ولدا، على الرغم من العقم والهرم، هو علي سهل ميسور، إذا أردت شيئا قلت له: (كن) فيكون، وقد خلقتك ابتداء، وأوجدتك من العدم المحض، ولم تك شيئا قبل ذلك، فإيجاد الولد وتهيئة الرحم، من طريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه.
وهذا دليل على القدرة الإلهية التي لا نظير لها، فإن الله تعالى يسهل عليه كل شيء، وأمر الخلق من العدم أو من طريق التوالد ولو مع وجود الكبر والعقم، سواء في شأن القدرة الخالقة.
فقال زكريا متعرفا أمارة أو وقت البشارة بالمولود: يا رب اجعل لي علامة، ودليلا على وقت وجود الغلام المبشر به، وهو حمل امرأتي، لتستقر نفسي، ويطمئن قلبي بما وعدتني، لأن الحمل كما هو معروف خفي المبدأ، ولا سيما ممن انقطع حيضها في الكبر.
فأجابه الله تعالى مرة أخرى وحقّق مطلبه قائلا بواسطة الملك: علامتك على
وقوله تعالى: «ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا» معناه صحيح الخلق، سوي من غير مرض ولا علة.
فخرج زكريا على قومه من المحراب: وهو مصلاه الذي بشّر فيه بالولد. وكان الناس ينتظرونه للصلاة في الغداة والعشي، فأشار إليهم إشارة خفية سريعة، ولم يستطع أن يكلمهم بذلك، مضمونها: أن يقولوا في الصباح والمساء في صلاتي الفجر والعصر: سبحان الله، وأن يذكروا الله، شكرا لله على ما أولاه، وقد كان أخبرهم بما بشّر به قبل ذلك. وفي الجملة: إن تعجب زكريا بهذه البشارة في قوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ليست شكا في قدرة الله تعالى على خلق الأشياء من غير مثال سابق، ولا إنكار لما أخبر الله تعالى به، وإنما كان ذلك على سبيل التعجب والانبهار من قدرة الله تعالى من ولادة ولد من أم عاقر وأب عجوز كبير.
نبوة يحيى عليه السلام في عهد الصّبا
لا تكون النبوة أو الرسالة والتكليف بمهامها عادة إلا بعد سن الأربعين، ليكتمل العقل والوعي، والنضج الفكري، والكمال الجسدي والعاطفي، واستثناء من هذا المبدأ العام قد تكون النبوة ممنوحة من بداية الحياة، مثل عيسى، عليه السلام، إذ
لذا بدأ يحيى، عليه السلام، ممارسة مهام النبوة وهو صغير، فكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمّدهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، وقد أخذ النصارى طريقته، وسموه: (يوحنا المعدان).
قال الله تعالى محددا تكليف يحيى بالنبوة منذ الصغر:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [مريم: ١٩/ ١٢- ١٥].
بعد أن ولد يحيى المولود السعيد الأسعد المبشر لزكريا عليه السلام في سن الشيخوخة، قال الله للمولود: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ خاطبه الله تعالى بعد أن بلغ المبلغ المقبول أو المعقول الذي يخاطب به الإنسان، فقال له: يا يحيى خذ التوراة المتدارسة، والتي يحكم بها النبيون، والتي هي نعمة على بني إسرائيل، بجد واجتهاد، وعزيمة، وحرص على العمل بها.
ثم أورد الله تعالى ما أنعم به من نعم على يحيى عليه السلام وعلى والديه ووصفه بسبع صفات وهي:
- آتيناه أو أعطيناه الحكم والفهم للكتاب والفقه في الدين، والإقبال على الخير، وهو صغير حدث، دون سبع سنين.
- وحنانا من لدنا، أي رحمناه رحمة من عندنا، وأشفقنا عليه وأحببناه، أو تعظيما من لدنا كما قال عطاء، أو جعلناه ذا حنان، أي رحمة وشفقة ومحبة.
(٢) بركة.
(٣) مطيعا غير عاص.
(٤) كثير البر والإحسان إليهما.
(٥) متكبرا، مخالفا أمر ربه.
- وكان تقيا، أي متجنبا المعاصي، مطيعا الله تعالى.
- وبرأ بوالديه، أي وكثير البر والطاعة لوالديه، متجنبا عقوقهما قولا وفعلا، أمرا ونهيا، فهو مطيع لله ولأبويه.
- ولم يكن جبارا عصيا، أي لم يكن متكبرا على الناس، بل كان متواضعا لهم، ولم يكن مخالفا عاصيا ما أمره به ربه،
روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا».
وفي رواية أخرى عند الحاكم وغيره عن عبد الله بن عمرو: «كل ابن آدم يأتي يوم القيامة، وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا صلوات الله عليه».
وتكميلا لهذه الأوصاف العالية السامية ليحيي عليه السلام، كان جزاؤه الحسن من الله تعالى هو: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
أي له الأمان من الله في هذه الأحوال الثلاثة: أمان عليه من الله يوم الولادة، فقد أمن مسّ الشيطان له في ذلك اليوم، ويوم الموت، حيث أمن عذاب القبر، ويوم البعث إذا أمن أهوال يوم القيامة وعذابه.
قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم ولد، فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت، فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم، فأكرم الله يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال:
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
قال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأشبه من الأمان لأن الأمان متحصل له، فيبقى العصيان عنه.
قال قتادة رحمه الله: (إن يحيى بن زكريا، عليه السلام، لم يعص الله قطّ بكبيرة ولا صغيرة، ولا هم بامرأة).
وقال قتادة أيضا: وكان طعام يحيى صلوات الله عليه العشب، وكان للدمع في خدّه مجار ثابتة.
وكان يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام، وقد التقيا، فقال يحيى لعيسى: «ادع لي، فأنت خير مني، فقال له عيسى: بل أنت ادع لي، فأنت خير مني، سلّم الله عليك، وأنا سلّمت على نفسي».
حمل السيدة مريم بعيسى عليه السلام
إذا كان خلق يحيى عليه السلام من أبوين كبيرين محل تعجب واستغراب، فإن هناك خلقا أعجب للناس، هو خلق عيسى عليه السلام الطاهر النقي من غير أب، والخلق الأعجب من الأمرين: هو خلق آدم عليه السلام أبي البشر من غير أب ولا أم، وكل ذلك داخل في مضمون قدرة الله الخارقة، الشاملة لإحداث الأشياء وإيجادها من غير مثال سبق، والحديث الآن عن الحالة الثانية وهي حمل السيدة مريم بابنها عيسى عليه السلام من غير أب، قال الله تعالى:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢)
«١»
كل قصة في القرآن الكريم محل تأمل وإعجاب، وموضع تجليات لأيادي الرحمن، فيزداد أهل الإيمان إيمانا، بما أخبر الله، ويزداد أهل الشقاوة شقاء، بسبب انعدام التصديق والإيمان بكلام الله وخبره.
وهذه قصة عجيبة، افتتحت بمطالبة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن يذكر للناس قصة مريم العذراء البتول عليها السلام، الطاهرة المطهرة من الدنس والرجس والفسق، حين اعتزلت الناس وأهلها، وابتعدت عنهم إلى مكان شرقي بيت المقدس، لتتفرغ للعبادة والابتهالات الربانية، والتضرع بإخلاص وخشوع وفراغ قلب لله عز وجل. ومن أجل اتجاه مريم لمكان شرقي اتخذ المسيحيون قبلتهم نحو الشرق.
فاستترت من الناس، واتخذت حاجزا بينها وبينهم، لئلا يروها حال العبادة، فأرسل الله إليها روح القدس جبريل عليه السلام، أمين الوحي، متمثلا بصورة إنسان تام الخلقة، لتأنس بكلامه، ولئلا تنفر من محاورته في صورته الملكية، فظنت أنه يريدها بسوء، كما رئي جبريل في صفة دحية الكلبي في حوار النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي سؤاله عن الإيمان والإسلام.
قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا، لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته، فأساءت به الظن: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت ذا تقى. قال أبو وائل: علمت أن
(٢) جبريل عليه السلام.
(٣) إنسانا تام الخلق.
(٤) فاجرة.
(٥) بعيدا من أهلها.
فأجابها جبريل بالأسلوب الهادىء نفسه، مهدئا روعها، ومزيلا مخاوفها: لست أريد بك سوءا، ولكني رسول من عند الله الذي استعذت أو استجرت به، بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا، أي طاهرا من الذنوب، ينمو على النزاهة والعفة. وقد نسب الهبة لنفسه: لِأَهَبَ
لإجراء الأمر على يده، وبواسطته بأمر الله تعالى. وكأن نفخ الروح الذي فعله مجرد تعاط للأسباب، والحقيقة: أي ليهب لك الله.
فتعجبت مريم مما سمعت، وقالت لجبريل: كيف يكون لي غلام، وعلى أي صفة، يوجد هذا الغلام مني، ولست متزوجة ولم يقربني زوج، ولا يتصور مني الفجور، ولم أك يوما بغيا، أي زانية، أو مجاهرة مشتهرة بالزنى، وأنا العذراء البتول، والقائمة بعبادة الله قياما مستقلا متفرغا.
فأجابها جبريل الأمين: إن الله قال: سيوجد منك غلاما، وإن لم يكن لك زوج، ولا من طريق الفاحشة، وليجعله الله آية أو علامة للناس على قدرته، حيث خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى فقط، وخلق أغلب الناس من الزوجين: الذكر والأنثى. وليكون هذا الغلام رحمة من الله يبعثه لعباده، وطريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وكان هذا الأمر قد أبرم به القضاء الإلهي، وقدّره الله في سابق علمه، لا يتغير ولا يتبدل، أي إن الأمر قد قضي وانتجز، ولا مرد منه.
روي أن جبريل عليه السلام- حين قال لها هذه المقالة- نفخ في جيب درعها
فحملت الغلام بعد هذه النفخة الروحانية، فلما أحست مريم عليها السلام بذلك، وخافت تعنيف الناس، وأن يظنّ بها البشر سوءا، انتبذت، أي تنحّت مكانا بعيدا حياء وفرارا، على وجهها.
ومكث الحمل في بطن السيدة مريم كالمعتاد الغالب، وهو تسعة أشهر قمرية، ليتغذى الطفل من دم أمه، ويتنشأ بعواطفه محبا غيورا عليها، متمسكا بانتمائه إليها، معتزا بارتباطه بها، يملأ جوانحه عاطفة الأمومة.
ولادة عيسى عليه السلام
إننا لنقدر عاليا تلك المشاعر الجياشة المؤلمة التي أحسّت بها السيدة مريم العذراء البتول، حين اقتراب ميعاد وضع حملها المبارك، وهي المرأة المنقطعة للعبادة، القائمة بحقوق الله تعالى على أتم وجه، وهي من بيت كريم ونسب شريف، إن الناس لا يعذرون من كان أقل شأنا أو رتبة من السيدة مريم، إذا ظهر عليها الحمل، وهي بكر، فما بالك بمريم؟! لقد عانت معاناة شديدة من ظهور بوادر المخاض، فماذا تعمل؟ إنها اعتصمت بالصبر، وادرعت بالإيمان المتين، وفوضت الأمر لله ربها، وتوكلت عليها، وهذه المشاعر الأليمة صوّرتها لنا الآيات التالية:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
«١» «٢» «٣»
(٢) شيئا متروكا مهملا.
(٣) أي نهر ماء صغير.
بعد اكتمال مدة الحمل بعيسى في بطن أمه، اضطرها المخاض وألجأها وجع الولادة وألم الطلق إلى الاستناد إلى جذع نخلة، لتسهيل الولادة، فتمنت الموت قبل ذلك الحال، أو تكون شيئا متروكا محتقرا، أي جعلها في عداد المنسيين حيث لم تخلق ولم تك شيئا، استحياء من الناس، وخوفا من ظن السوء بها، دينا وخلقا وسمعة وسلوكا، وقد تظاهرت الروايات أنها ولدته لثمانية أشهر استثناء وخصوصية لعيسى عليه السلام خلافا للمعتاد أنه لا يعيش ابن ثمانية أشهر.
قال ابن كثير: فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها- أي مريم- عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدّقونها في خبرها، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية.
في هذه الأزمة والتعرض لآلام المخاض واستناد مريم لجذع نخلة بال يابس ناداها من تحتها عيسى المولود- في رأي مجاهد والحسن وابن جبير وأبّي بن كعب- أو ناداها جبريل عليه السلام، في قول ابن عباس، من تحت الأكمة أو النخلة، قائلا لها: لا تحزني، فقد جعل ربك تحتك جدولا أو نهرا صغيرا، أجراه الله لتشربي منه.
والأصح أن عيسى هو المنادي، ليكون ذلك آية لأمه، وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم، فإنه يتبين به عذر مريم، ولا تبقى به استرابة، فلذلك كان النداء ألا يقع حزن.
(٢) طيبي نفسا.
قال الزمخشري: كان جذع نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة، وكان الوقت شتاء. فكلي من ذلك الرطب، واشربي من ذلك الماء، وطيبي نفسا، ولا تحزني، وقري عينا برؤية الولد النبي، فإن الله قادر على صون سمعتك، والإرشاد إلى حقيقة أمرك. قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وتابع المنادي قائلا: فإن رأيت إنسانا يسألك عن أمرك وأمر ولدك، فأشيري له بأنك نذرت لله صوما عن الكلام، أي صمتا، بألا أكلم أحدا من الإنس، بل أكلم الملائكة، وأناجي الخالق.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر مريم- على لسان جبريل أو ابنها عليهما السلام- بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية والمعجزة، فيظهر عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الكلمات التي في الآية: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
كان هذا الصوم صوما عن الطعام والكلام، لظرف خاص، فإن السكوت يوحي بوجود لغز في الموضوع، يستدعي استغراب الناس، ثم إدراك سبب الصيام عن الكلام بالذات. قال جماعة: أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج.
أما في الأحوال العادية فلا يجوز في شرعنا الصوم عن الكلام، ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صوما عن الكلام، وكان ابن مسعود يأمر من فعل ذلك بالنطق والكلام.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم».
كلام عيسى عليه السلام في المهد
ظهرت معجزة عيسى عليه السلام حينما نطق بعد ولادته، وهو مولود صغير، ما يزال في المهد والفراش، وكان ذلك خير دليل ألقى الطمأنينة في قلب أمه المحتارة والقلقة على هذا الحدث، فإنها علمت أن هذا الطفل يكفيها مهمة الحجاج والدفاع عن سمعتها، وأنه سيعرف عذرها، فتشجعت على المجيء لقومها وبلدها، وفي وسط اجتماعي عام نطق الطفل كالخطيب الفصيح، وهذا ما توضحه الآيات التالية:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
«١» «٢» «٣» [مريم: ١٩/ ٢٧- ٣٣].
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآية الباهرة، وهو نطق ابنها الوليد الطفل، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي انتبذت فيه. وروي أن قومها خرجوا في طلبها، فلقوها وهي مقبلة.
أتت السيدة مريم بطفلها الوليد إلى قومها، بعد أن استسلمت لقضاء الله وأمره،
(٢) رضيعا في مضجع الأولاد.
(٣) محسنا إليها.
يا أخت هارون أخي موسى، لأنها كانت من نسله، كما تقول لرجل من قبيلة: يا أخا فلانة. أو يا شبيهة هارون في العبادة، فليست مريم إذن أختا معاصرة لهارون أخي موسى، لأن بينهما في المدة ست مائة سنة. كيف تأتين بهذا؟ فلم يكن أبوك فاجرا عاصيا، ولم تكن أمك زانية بغيا.
والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة، فكيف جئت بها أنت؟
فأشارت مريم إلى عيسى الطفل الوليد أن يكلمهم، مكتفية بالإشارة لأنها نذرت الصوم عن الكلام، فقالوا لها متهكمين بها، ظانين أنها تهزأ بهم وتحتقرهم: كيف نكلم طفلا صبيا ما يزال في المهد، أي فراش الرضيع؟
وحينئذ ظهرت المعجزة الكبرى بنطق الرضيع، كأنه خطيب الجماهير، فوصف نفسه بتسع صفات، وهي:
- قال عيسى: إني عبد تام العبودية لله الكامل الصفات، الذي لا أعبد غيره، وهذا أول اعتراف بعبوديته لربه.
- آتاني الكتاب، أي أعطاني التوراة أو التوراة والإنجيل، وقدّر لي في الأزل أن أكون ذا كتاب.
- وقدّر لي أن أكون نبيا، وفي هذا تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة، لأن الأنبياء عادة أطهار، ليسوا أولاد زنا.
- وصيرني الله مباركا، أي نافعا، قضّاء للحوائج، معلما للخير، هاديا إلى الرشاد في أي مكان وجدت.
- وجعلني بارا بوالدتي مريم، وأمرني ببرها وطاعتها والإحسان إليها بعد طاعة ربي لأن الله كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين. وهذا أيضا دليل واضح على نفي الزنا عنها، إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعظم مأمورا بتعظيمها. وقوله: (بوالدتي) بيان لأنه لا والد له، وبهذا القول برّأها قومها.
- ولم يجعلني الله جبارا شقيا، أي متعاظما مستكبرا عن عبادة ربي وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.
- والسلام علي، أي والسلامة والأمان علي من كل سوء، يوم الميلاد، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت، ولا أغواني عند الموت، ولا عند البعث، فأنا في أمان لا يقدر أحد على ضري في هذه الأوقات الثلاثة. وهذه الصفة أيضا إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق، من جملة خلق الله، الذي يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكنه موصوف بالسلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد.
وفي قصص هذه الآية- عن ابن زيد وغيره- أنهم لما سمعوا كلام عيسى عليه السلام، وهو في المهد، أذعنوا، وقالوا: إن هذا لأمر عظيم.
وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى نشأ على عادة البشر.
تتفاوت أنظار الناس عادة في العظماء والقادة، فمنهم المبالغ الخارج عن الحق والحقيقة، إما بحسن نية أو بسوء نية، أو بغباء وجهل، ومنهم المعتدل في كلامه وإصدار أحكامه، وهذا شأن العلماء والعقلاء وأصحاب النظر السوي، حتى لو كانوا من العوام. ومن بين أولئك السادة الكبار الذين اختلف الناس في شأنهم عيسى عليه السلام، وها هو القول الحق فيه، من غير خروج على الواقع والمألوف، ويتبين ذلك في الآيات التالية:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
«١» «٢» «٣» «٤» »
[مريم: ١٩/ ٣٤- ٤٠].
المعنى: قل يا محمد لمعاصريك من أهل الكتاب: ذلك الذي هذه قصته المتصف بالأوصاف المذكورة في الآيات السابقة، هو عيسى ابن مريم، والكلام فيه هو القول الحق والوصف الصادق الذي لا شك فيه، وبه تتبين حقيقة عيسى عليه السلام، فهو بشر، لا إله، ولا ابن الإله، ولا ثالث ثلاثة، كما جاء في آية أخرى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء: ٤/ ١٧١].
ولا يصح ولا يستقيم عقلا وفعلا أن يكون لله ولد، لأنه إله، لا حاجة له
(٢) أراد إحداثه.
(٣) أي فهلاك وعذاب.
(٤) أي ما أسمعهم وأبصرهم!!
(٥) الندامة الشديدة.
ولقد أمر عيسى عليه السلام أتباعه وقومه وهو في المهد بقوله: إن الله ربي وربّكم، فاعبدوه وحده لا شريك له، وهذا الذي جئتكم به عن الله هو الطريق القويم، الذي لا اعوجاج فيه، ولا يضل سالكه، من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضل وغوى.
ثم أخبر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم عما آل إليه أمر عيسى عليه السلام، وهو أن بني إسرائيل اختلفوا أحزابا، أي فرقا، في عيسى، بعد بيان أمره وإيضاح حاله، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فويل، أي هلاك وعذاب شديد للذين كفروا بحقيقة عيسى، من مشهد يوم عظيم، هو مشهد يوم القيامة، حيث يجتمع الناس فيه، فيهلك الكافر الظالم، وينجو المؤمن العادل في نظرته وعقيدته.
وفي مشهد القيامة، ما أقوى سمع الكفار وأشد بصرهم، يوم يأتون إلى ربهم للحساب والجزاء، ويرون ما يصنع بهم من العذاب، فإن إعراضهم يومئذ يزول، ويقلبون على الحقيقة، حيث لا ينفعهم الإقبال عليها، وهم في الدنيا صم عمي، إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم، ولكنّ هؤلاء الظالمين الكافرين يعرفون الحق في الآخرة، أما في الدنيا فهم في ضلال مبين، أي في متاهة واضحة وجهل مسلك بيّن في نفسه، وإن لم يتبين لهم.
ثم أمر الله نبيه بإنذار الكفار لهدايتهم وتحقيق مصلحتهم، ومفاد الإنذار: أنذر أيها الرسول الخلائق من المشركين وغيرهم، يوم الحسرة، أي التحسر فيه، فالمسيء
وإذا أدرك الناس أن سلطان الحساب والجزاء ينفرد به الله تعالى، وجب عليهم أن يعملوا في الدنيا بما وجههم إليه في القرآن الكريم، ولا يبقى هناك في الآخرة أمل لأحد في الإنقاذ والنجاة من غير طريق الله تعالى.
قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه
الصراع بين الأنبياء والرسل وبين أقوامهم من أجل إبطال عبادة الشرك والوثنية قديم من عهد نوح عليه السلام، وكان للرسل مواقف متعددة وأساليب مختلفة في الدعوة لتوحيد الله تعالى، والتخلص من عبادة الأصنام والأوثان لأنها عبادة باطلة لا تتفق مع الكرامة الإنسانية، ولا مع مقتضيات العقل والفكر السديد. وكان لإبراهيم أبي الأنبياء موقفان مشهوران في هذا الصدد: موقف مع قومه حيث دمر لهم الأصنام، وموقف مع أبيه حيث ناقشه بالحسنى، والسبب في تنبيه القرآن لهذين
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [مريم: ١٩/ ٤١- ٤٦].
هذه هي القصة الثالثة في سورة مريم بعد قصة زكريا ويحيى، وعيسى ومريم عليهم السلام، وهي قصة إبراهيم في جداله العقلي مع أبيه الوثني، ذكرت القصة لأهداف كثيرة، تفيد في تأييد دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم قومه في مكة لتوحيد الله، ونبذ عبادة الأصنام.
وفاتحة القصة: واذكر يا محمد الرسول إبراهيم الصدّيق النبي، خليل الرحمن، وأب الأنبياء، فإنه امتاز بقوته في الحق وتصديقه بآيات الله وصدقه في دعوته ورسالته. اذكره واتل خبره في القرآن في موقفه العظيم حين قال بلطف وعقل، وتقديم برهان مفحم لأبيه آزر: يا أبي، وإن كنت ابنك وأصغر سنا منك، قد بلغني من العلم القاطع والدليل الساطع من الله تعالى ما لم يبلغك، ولم تطلع عليه، فاتبعني في دعوتي لتوحيد الله رب العالمين، وترك الشرك والوثنية، أرشدك طريقا سويا مستقيما، موصلا لنيل المطلوب، منجيا من كل مكروه.
يا أبي العزيز، لا تطع الشيطان في عبادتك الأصنام، فإنه داع لعبادتها، وهو كثير العصيان لربه، مخالف أمره، مستكبر عن عبادته، حين ترك أمر الله في السجود لأبينا
(٢) كثير العصيان.
(٣) قرينا تليه ويليك في النار.
(٤) اجتنبني.
يا أبي، إن أخشى أن يصيبك عذاب من الله على شركك وعصيانك لما أطلبه منك، فتكون بذلك مواليا للشيطان، وقرينا معه في النار، بسبب موالاته، وهذا تحذير شديد من الابن لأبيه من سوء العاقبة والمصير، وإنذار بالشر، حيث يتبع وساوس الشيطان وإغراءاته، ولا يكون له مولى ولا ناصر إلا إبليس، مع أنه لا سلطان له على شيء، ولا يستطيع حماية نفسه ولا غيره من عذاب الله، فيكون اتباع الشيطان مجلبة للضلال، وموقعا في العذاب، كما جاء في آية أخرى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) [النحل: ١٦/ ٦٣].
وعلى الرغم من هذا الأدب الجم وإيراد البراهين الدالة على بطلان عبادة الأوثان في نقاش إبراهيم لأبيه، أجاب الأب ابنه جوابا حادّا متسما بالإصرار والعناد، ومهددا بالقتل، فقال له: أمعرض أنت عن آلهتي الأصنام إلى غيرها يا إبراهيم، فإنك إن لم تنته عن ذلك الموقف وعن السب والشتم والتعييب، لأرجمنك بالحجارة أو لأشتمنك، وفارقني زمنا طويلا أو مدة من الدهر، روي أن آزر كان ينحت الأصنام وينجزها بيده ويبيعها ويحض عليها، فأقر ابنه إبراهيم أولا على رغبته عنها، ثم أخذ يتوعده.
لقد قابل الأب ابنه بالعنف، فلم يقل: يا بني، كما قال إبراهيم: يا أبت، وقابل وعظه الرقيق وبرهانه المقنع بالتهديد والوعيد بالقتل، أو الضرب بالحجارة، وفي ذلك إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وعنجهية أبي جهل فرعون هذه الأمة.
اعتزال إبراهيم عليه السلام قومه
لما يئس إبراهيم الخليل من استجابة أبيه آزر لدعوة التوحيد وترك عبادة الأصنام، وعد أباه بالاستغفار له بناء على موعد سابق بالإيمان، واعتزل قومه، فوهب الله له ولدين نبيين إسحاق ويعقوب، رحمة من الله وفضلا، واستمر في هداية آخرين، لأن الرسول النبي لا يتوقف عن دعوته والقيام بواجبه، وهذا ما دونته الآيات الآتية:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
«١» «٢» [مريم: ١٩/ ٤٧- ٥٠].
بعد أن هدد آزر ابنه إبراهيم عليه السلام بالرجم بالحجارة، وطلب هجره والبعد عنه، قال إبراهيم قولا لطيفا لينا: سلام عليك سلام مسالمة ومفارقة أو وداع وترك، لا سلام تحية، فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، لحرمة الأبوة، سأدعو الله تعالى في أن يهديك، فيغفر لك بإيمانك، إن ربي متلطف بي، يكرمني، ويجيبني إذا دعوته، وإنما استغفر له إما قبل أن يوحى إليه أن الله لا يغفر لكافر، وإما لوعد سابق من الوالد أن يؤمن، كما جاء في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: ٩/ ١١٤].
(٢) اللسان في كلام العرب: القالة الذائعة، كانت في خير أو شرّ.
وقول إبراهيم عن ربه: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا شكر من إبراهيم عليه السلام لنعم الله تعالى عليه.
ثم قرر إبراهيم عليه السلام الهجرة إلى بلاد الشام، وأعلن أنه يعتزل قومه ويبتعد عنهم، ويهاجر بدينه عنهم وعن معبوداتهم، حين لم يقبلوا نصحه، وأعلن أيضا أنه يعبد ربه وحده لا شريك له، ويجتنب عبادة غيره، وقوله: وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدون. وأضاف قائلا: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي لعلني لا أشقى بدعاء ربي، وفيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم وعبادتها. وقوله: (عسى) على سبيل التواضع وهو ترجّ، في ضمنه خوف شديد.
ثم أخبر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم عما عوّض به إبراهيم عليه السلام لمّا رحل عن بلد أبيه وبلد قومه، ومضمون الخبر: لما اعتزل إبراهيم الخليل أباه وقومه، وترك أرضه ووطنه، وهجر موطن عبادة غير الله، وهاجر في سبيل الله من أرض نينوى بالموصل إلى أرض بيت المقدس، حيث يقدر على إظهار دينه، لما قام بهذه الهجرة أبدله الله خيرا من قومه، ووهب له ابنه إسحاق، وحفيده يعقوب بن إسحاق، وجعل الله كل واحد من إسحاق ويعقوب نبيا أقر الله بهما عينيه، فكل الأنبياء من سلالتهما، وكل الأديان تحترم إبراهيم وتحبه، وتحب إسحاق ويعقوب.
لذا أخبر الله تعالى عن مزيد فضله لآل إبراهيم، فقال: وأعطيناهم من فضلنا ورحمتنا النبوة والمال والعلم والمنزلة، والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة، كل ذلك من رحمة الله، وجعلنا لهم لسان صدق عليا، أي حققنا لهم الثناء الباقي عليهم آخر الأبد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وذلك إجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام
(عليا) لأن جميع الملل والأديان والأمم والشعوب يثنون عليهم، ويمدحونهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وبما أن العرب من سلالة إبراهيم عليه السلام، وتدعي أنها على دين إبراهيم، ذكر الله تعالى لهم قصته، ليعتبروا ويتعظوا.
والتاريخ حافل بآثار إبراهيم وآل إبراهيم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وتعظيمه، وفي حمل الناس على مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال. وعلى الرغم من مجابهة الأقوام لإبراهيم، فإن الله تعالى نفعه وعوّضه أولادا أنبياء، وذلك من أعظم النعم في الدنيا والآخرة.
خصائص موسى وإسماعيل عليهما السلام
الأنبياء والرسل الكرام: هم الصفوة العليا المختارة من البشر، ليكونوا قدوة حسنة طيبة للناس في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك والسمعة، وهذه القدوة لها تأثيرها البالغ في ترغيب الناس بدعوتهم، والانضمام تحت رايتهم، وقد ذكر الله تعالى صفات بعض الأنبياء في سورة مريم بنحو موجز، وهم موسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام، ثم أبان ما تميزوا به من نعمة الله عليهم، وهذه آيات كريمة توضح لنا الصفة البارزة لموسى وهارون وإسماعيل عليهم السلام، فقال الله تعالى:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
«١»
هذه نبذة طريفة عن خواص بعض الأنبياء، لتكون أنموذجا رائدا للقدوة الطيبة للعرب الجاهليين، بعد الحديث عن إبراهيم الخليل أبي الأنبياء وعن ذريته، ليحملهم هذا الوصف على اتباع خط النبوة ومنهج الأنبياء كلهم في توحيد الله، وترك عبادة الأصنام.
بدأ الحق تعالى هذه الآيات بذكر موسى بن عمران أحد الأنبياء أولي العزم، صلوات الله عليه، على جهة التشريف، وفي الآية أمر من الله تعالى بالحديث عن موسى، يتضمن: واذكر يا محمد الرسول في الكتاب المنزل عليك، واتل على قومك ما تميّز به موسى بن عمران من صفات خمس وهي:
- إنه كان مخلصا، أي مختارا مصطفى، ومطهرا من الآثام والذنوب، كما قال الله تعالى في شأنه: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف: ٧/ ١٤٤].
- وكان نبيا رسولا، اجتمع له الوصفان من الرسل أولي العزم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليهم وآلهم وسلّم، والرسول: كل من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي: كل من أوحي إليه بشرع يخبر به عن الله قومه، وليس معه كتاب كيوشع عليه السلام.
- وكلمناه تكليما من جانب جبل الطور في سيناء عن يمين موسى وهو الأصح أو عن يمين الجبل نفسه، أثناء مجيئه من مدين متجها إلى مصر، فهو كليم الله بعدئذ، وصار رسولا نبيا، وأنزلنا عليه كتاب التوراة.
- ومنحناه من فضلنا ونعمتنا، فجعلنا أخاه هارون نبيا لكونه أفصح لسانا وألين عريكة، حين سأل موسى ربه أن يجعله نبيا قائلا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) [طه: ٢٠/ ٢٩- ٣٢]. وفي آية أخرى طالب به حين إرساله لفرعون: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) [القصص: ٢٨/ ٣٤].
قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا، قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣).
قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين.
ثم أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يذكر في القرآن للعرب خبر وصفات إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السلام، الذي هو والد عرب الحجاز كلهم، وأب العرب اليوم، وهم اليمنية والمضرية، وصفاته أربع جعلته أيضا من بركة لسان الصدق والشرف المضمون بقاؤه على آل إبراهيم عليه السلام، وهو الذبيح في قول الجمهور:
إنه كان صادق الوعد، مشهورا بالوفاء بالعهد والوعد، فما وعد وعدا مع الله أو مع الناس إلا وفّى به، فكان لا يخالف شيئا مما يؤثر به من طاعة ربه. وصف بصدق الوعد لأنه كان مبالغا في ذلك.
روي أنه وعد رجلا في موضع، فجاء إسماعيل عليه السلام، وانتظر الرجل يومه وليلته، ثم جاء الرجل في اليوم الآخر، فقال له: ما زلت في انتظارك هنا منذ أمس.
- وكان رسولا نبيا جامعا بين هذين الوصفين كأبيه إبراهيم، وكموسى عليهم
- وكان إسماعيل يأمر أهله وأمته وعشيرته بالصلاة والزكاة، فهما فريضتان جوهريتان في كل ملة، فالصلاة لأداء حق الله تعالى، والزكاة لأداء حق العباد المحتاجين.
- وكان إسماعيل عند ربه مرضيا، أي رضيا زاكيا صالحا، مرضي العمل غير مقصر في طاعة ربه، فعلى المؤمن الاقتداء به.
صفة إدريس وبعض الأنبياء الآخرين
أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يذكر لقومه العرب المكيين صفة إدريس وصفات بعض الأنبياء الآخرين من ذرية آدم ونوح، وإبراهيم وإسرائيل، ليعلموا ما امتاز به هؤلاء الصفوة المختارة من طاعة الله وعبادته ومبادرتهم للخضوع لعظمة الله والسجود له، وكثرة البكاء والنحيب خوفا من ربهم. وهذا وحده كاف لحمل الناس على التشبه بهم، والتزام منهجهم وطاعتهم، في رسالاتهم المكلفين بتبليغها، من أجل إسعاد البشر، وتحقيق الخير لهم. قال الله تعالى واصفا خصائص هؤلاء الأنبياء:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
«١» «٢» [مريم: ١٩/ ٥٦- ٥٨].
إدريس عليه السلام: هو من أجداد نوح عليه السلام، وهو أول نبي بعث إلى
(٢) باكين.
أمر الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام أن يذكر في القرآن صفة إدريس عليه السلام، ووصفه ربه بصفات ثلاث، وهي:
- إنه كان صدّيقا، أي كثير الصدق، قوي التصديق بآيات الله تعالى.
- وكان رسولا نبيا، جامعا بين الوصفين، موحى إليه بشرع، وأمر بتبليغه إلى قومه، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة، كما في حديث أبي ذر.
- ورفعه الله مكانا عليا، أي أعلى قدره، وشرّفه بالنبوة، وجعله ذا منزلة عالية،
روى مسلم في صحيحة في حديث الإسراء والمعراج: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ به في ليلة الإسراء، وهو في السماء الرابعة».
وسبب رفع مكانته: أنه كان كثير العبادة، يصوم النهار، ويتعبد في الليل. قال وهب بن منبّه: كان يرفع لإدريس عليه السلام كل يوم من العبادة مثلما يرفع لأهل الأرض في زمانه. لقب إدريس بذلك لكثرة درسه.
وبعد أن قص الله تعالى في سورة مريم قصص زكريا ويحيى وعيسى ومريم وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس، أخبر الله سبحانه أن أولئك المذكورين في هذه السورة، وجميع الأنبياء: أنعم الله عليهم بنعمة النبوة والقرب منه، وعظم المنزلة لديه، واختارهم واجتباهم من بين عباده، وهداهم وأرشدهم ليكونوا المثل الأعلى للبشرية، والأسوة الحسنة للناس جميعا، في عبادة الله وطاعته، والتأسي بطريقتهم ومنهجهم وأخلاقهم.
وأولئك الأنبياء: هم من ذرية آدم عليه السلام أبي البشر الأول، ومن ذرية أولئك الفئة المؤمنة الذين حملهم نوح أبو البشر الثاني معه في السفينة، ما عدا إدريس
وهم أي الأنبياء أيضا من جملة من هداهم الله إلى الإسلام الذي هو الدين الحق المشترك بين جميع الأنبياء، وممن اختارهم للنبوة والكرامة والاصطفاء. وكانوا إذا سمعوا آيات الله المتضمنة حججه ودلائله وبراهينه وشرائعه المنزلة، سجدوا لربهم خضوعا لذاته، وانقيادا لأمره، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، وهم باكون خشية من الله ومن عذابه. والبكي: جمع باك.
وإذا كان جميع الأنبياء قد سجدوا لله تعالى، كان السجود مشروعا عند قراءة هذه الآية، لذا أجمع العلماء على شرعية سجود التلاوة هنا، اقتداء بالأنبياء، واتباعا لهم.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا».
حقا كان هؤلاء الأنبياء جميعا قدوة رفيعة صالحة، وأسوة حسنة للبشرية في سلامة العقيدة، وكثرة العبادة، وصحة الدين، ونقاوة الأصل، وطهارة النسب والمعدن، واستقامة المنهج والطريق، ورفعة الشأن والخلق.
ألا يجدر بالبشر العاديين أن يكونوا أتباعا لهؤلاء الأنبياء، لا لغيرهم في صحة الاعتقاد، وتقويم الخلق والسلوك، وتقديم أصلح النظريات لتقدم البشرية على منهج النبوة ووحي الإله.
كان الناس إزاء دعوات الأنبياء بأحوال مختلفة ومواقف متباينة، فمنهم من آمن برسالاتهم واتبع دعوتهم، ومنهم من جحد بها وعارضها، ومنهم المتوسط الذي آمن ولم يعمل، وصدّق ولم يلتزم. وهؤلاء هم العصاة والفسّاق، وهذا التنوع في اتّباع الأنبياء دليل على صدقهم لأن رسل الإصلاح لا يلقون عادة الاستجابة من جميع الناس، وهذا ما أبانته الآيات الكريمة:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
«١» «٢» «٣» «٤» [مريم: ١٩/ ٥٩- ٦٣].
بعد أن وصف الله تعالى الأنبياء بالإنابة والطاعة والسجود لله والبكاء خوفا من الله، ذكر موقف الناس من هؤلاء الأنبياء، فإنهم لم يكونوا جميعا على المستوى المطلوب، لقد جاء خلف سوء من بعد الأنبياء عليهم السلام، مخالفون وكافرون، ومقصرون وفسّاق، تركوا الصلاة المفروضة عليهم، وآثروا اتباع شهواتهم وأهوائهم بارتكاب المحرمات، على طاعة الله، فاقترفوا الزنى، وشربوا الخمر، وشهدوا شهادة الزور، ولعبوا القمار، بل وتأولوا النصوص عبثا ولهوا وجهلا، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها. فهؤلاء لهم جزاء شديد، إنهم سيلقون غيا، أي شرا وخيبة وخسارا يوم القيامة، لارتكابهم المعاصي، وإهمال الواجبات، فالغي: هو الخسران، والوقوع في الورطات، وإضاعة الصلاة: الكفر والجحود بها أو إهمالها وتأخيرها عن أوقاتها.
(٢) جزاء الغي.
(٣) آتيا منجزا.
(٤) فضولا من الكلام.
وأوصاف الجنات التي يحظى بها التائبون من ذنوبهم ثلاثة:
- إنها جنات عدن، أي إقامة دائمة، وعد الرحمن بها عباده بظهر الغيب، دون أن يروها، إن وعد الله لآت منجز لا يخلف. وقوله سبحانه: بِالْغَيْبِ. أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم، وفي هذا مدح لهم على سرعة إيمانهم وقرارهم إذ لم يعاينوا.
والمأتي: اسم مفعول مثل محكي. وقال جماعة من المفسرين: هو مفعول في اللفظ بمعنى: آت. والنظر الأول أصوب، كما قال ابن عطية.
- ولا يسمع العباد الأبرار أهل الجنة في الجنة لغوا، أي كلاما ساقطا، أو تافها لا معنى له، أو هذرا لا طائل تحته. لكن يسمعون سلاما: وهو تحية الملائكة لهم في كل الأوقات، والسلام يشعرهم بالأمان والاطمئنان، وهما منتهى الراحة والسعادة.
- وللعباد الأبرار رزق دائم في الجنة، يأتيهم ما يشتهون من الطعام والشراب مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمان، لأنه ليس هناك ليل ولا نهار، وإنما بمقدار طرفي النهار في الدنيا، أي بكرة وعشيا، وهو وقت الغداء صباحا، والعشاء مساء.
وقال مجاهد رحمه الله: «ليس بكرة ولا عشيا، ولكن يؤتون به، على ما كانوا يشتهون في الدنيا». والتعبير بالبكرة والعشي لإفادة الدوام في الأوقات المرغوبة، وهذا خطاب بما تعرفه العرب وتستغربه من رفاهة العيش. وجعل ذلك عبارة عن أن
تلك الجنة- والإشارة بتلك للتعظيم- بهذه الأوصاف الرائعة: هي التي يورثها الله الكريم عباده المتقين، وهم المطيعون لله عز وجل في السراء والضراء، أي نجعلها حقا خالصا لهم كملك الميراث، كما قال الله تعالى في آية أخرى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) [المؤمنون: ٢٣/ ١- ١١].
والخلاصة: إن تخصيص الجنة للمتقين الصالحين الأبرار هو بمثابة الميراث، حيث يتملك الورثة ما يؤول إليهم من التركة. والاختصاص بالشيء هو أغلى ما يتوقعه الإنسان.
الوحي والأمر بيد الله
الله تعالى صاحب الإرادة والمشيئة المطلقة، وبيده الأمر كله، بعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ويفعل عادة ما فيه الخير والمصلحة للعباد، ولا يملك أحد من البشر إنزال الوحي أو تنزيله، وإنما تنزل الوحي بأمر الله سبحانه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، يأمر الملائكة بالأمر المعين فيفعلونه، وليس للملائكة سلطان في تنزيل شيء، فهم يعملون وقتا بعد وقت، بما يريد الله ويشاء، على ما تقتضيه حكمته، وهذا موضوع الآيات التالية، قال الله تعالى:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
[مريم:
١٩/ ٦٤- ٦٥].
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: أبطأ جبريل في النزول أربعين، فذكر نحوه.
هذه الآيات تبين سبب تأخر الوحي أحيانا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، جاءت بطريق الحكاية على لسان الملائكة. فبعد أن استبطأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزول جبريل عليه السلام، أمر الله جبريل أن يقول: وما نتنزل نحن الملائكة بالوحي على الأنبياء والرسل، إلا بأمر الله بالتنزيل، على وفق الحكمة والمصلحة، وخير العباد في الدنيا والآخرة. ولا يتنزل القرآن إلا بأمر الله تبارك وتعالى في الأوقات التي يقدرها.
إن لله تعالى التدبير والتصرف في الكون، وأمر الدنيا والآخرة، وما بين ذلك من الجهات والأماكن والأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلة. فلا يقدم أحد من الملائكة على أمر إلا بإذن الله. والتنزل هنا: النزول على مهل، وقتا بعد وقت، وقوله سبحانه: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب جماعة لواحد، وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسل. كأن جبريل عنى نفسه والملائكة.
وما كان ربك يا محمد ناسيا لك، وإن تأخر عنك الوحي، ولا ينسى الله شيئا، ولا يغفل عن شيء، وإنما يقدم ويؤخر لما يراه من الحكمة. وهذه الآية تشبه مطلع سورة الضحى: وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) [الضحى:
٩٣/ ١- ٣].
روى ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء مرفوعا قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا
وكيف ينسى الله شيئا، فهو سبحانه تام العلم، مالك كل شيء، فهو خالق
وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي لم يكن الله ممن يلحقه نسيان لإرسال أو تنزيل شيء على النبي في وقت المصلحة إليه، فإنما ذلك عن قدر له، أي فلا تطلب يا محمد الزيادة أكثر مما شاء الله.
والمراد بقوله سبحانه من نفي العلم: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا نفي الشريك على أي وجه، والاستفهام للإنكار، وهل بمعنى (لا) أي لا تعلم.
قال ابن عباس: ليس أحد يسمى (الرحمن) غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.
والخلاصة: إن الله تعالى نفى النسيان عن نفسه مطلقا، أما الترك فلا ينتفي مطلقا، ألا ترى قوله تبارك وتعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: ٢/ ١٧]، وقوله سبحانه: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: ١٨/ ٩٩].
وقول الله سبحانه: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار بما فيها من صعوبة، كالجهاد والحج والصدقات، فهي شريعة تحتاج إلى اصطبار، أعاننا الله عليها.
يقدّر الإنسان الأشياء ويفهمها بمجرد عقله المحدود وبقدر طاقته وإمكانه، فيقع في الضلال والخطأ، ولا ينظر بمنظار أقوى أو أوسع من علمه وقدرته، وهذا في الواقع سبب إنكار المشركين البعث، لأنهم نظروا للأشياء نظرة مجردة، وضعيفة، وعاجزة، فرأوا أن تفتت الأجساد وصيرورتها مثل التراب، هل يتصور إعادتها ذاتها خلقا جديدا، ونسوا أن أصل خلق الإنسان من تراب، وأن الله على كل شيء قدير. وهذا ما تحكيه الآيات الآتية من شبهة المشركين في إنكار البعث مرة أخرى:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٢]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [مريم: ١٩/ ٦٦- ٧٢].
روي أن سبب نزول هذه الآية: هو أن رجالا من قريش كانوا يقولون هذا ونحوه. وروي أن القائل: هو أبي بن خلف، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: إن القائل: هو العاص بن وائل.
والمعنى: ويقول الإنسان (اسم للجنس يراد به الكافرون) أي يقول الكافر المشرك منكر البعث متعجبا، مستبعدا حصوله بعد الموت: هل إذا متّ وأصبحت ترابا، سوف أخرج حيا من القبر، وأبعث للحساب؟! وأسند الكلام لكل مشرك كافر، وإن لم يقله إلا بعضهم، لرضاهم بمقالته.
(٢) عصيانا.
(٣) دخولا.
(٤) مارّ على الصراط الممدود عليها.
ثم هدد الله منكري البعث تهديدا من وجوه قائلا:
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا. أي فو الله- وهو قسم من الله بذاته الكريمة- لا بد من أن يحشر الله جميع الإنس والجن والشياطين الذين كانوا يعبدون من دون الله، بأن يخرجهم ربهم من قبورهم أحياء، ويجمعهم إلى المحشر مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم، ثم ليحضرنهم حول جهنم بعد طول الوقوف، جاثمين قاعدين على الرّكب، لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، كما قال الله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: ٤٥/ ٢٨].
- ثم لننتزعن ونأخذن من كل فرقة دينية، أو طائفة غي وفساد أعصاهم وأعتاهم، وأكثرهم تكبرا وتجاوزا لحدود الله، وهم قادتهم ورؤساؤهم في الشر.
ثم لنحن أي (والله) أعلم بمن يستحق من العباد إصلاءه نار جهنم، وولوجه فيها، وتخليده في أنحائها، وأعلم بمن يستحق مضاعفة العذاب، كما قال سبحانه:
لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٧/ ٣٨].
ثم أخبر الله تعالى عن نبأ عام: وهو ورود جميع الناس نار جهنم فقال: ما منكم من أحد من الناس إلا سوف يرد إلى النار، وهو المرور على الصراط، وهو حد فاصل بين الجنة والنار، كان ذلك المرور أمرا محتوما، قضى الله تعالى أنه لا بد من وقوعه لا محالة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: «يرد الناس جميعا الصراط، وورودهم:
وبعد أن تمر الخلائق كلهم على الصراط والنار، ينجي الله الذين اتقوا دخول النار ولو بشق تمرة، واتقوا الكفر بالله ومعاصيه، ينجيهم ربهم من الوقوع في النار، ويبقى الكافرين والعصاة في النار، جاثين على الركب، لا يستطيعون الخروج.
شبهة المشركين بحسن الحال في الدنيا
يتهرب المشركون الوثنيون من مواجهة الواقع، لأغراض وأهواء ذاتية، فمرة يحتجون بفناء الدنيا وإنكار الآخرة، ومرة يعتمدون على شبهة كون الرسل بشرا، وأحيانا يزعمون أن حسن الحال في الدنيا، دليل على حسن الحال في الآخرة، فجاء الرد الإلهي القاطع بأن الكفار السابقين كانوا أحسن حالا في الدنيا وأكثر مالا، ولكن الله تعالى أهلكهم بعذاب الاستئصال، فليس نعيم الدنيا قرينة على محبة الله تعالى، ولا سوء الدنيا علامة على غضب الله تعالى، كما أن نعم الدنيا لا تنقذ الكافرين من عذاب الآخرة، قال الله تعالى واصفا شبهة حسن الحال في الدنيا:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
(٢) أي عليه شوك كشوك نبات السعدان في نجد.
سبب نزول هذه الآية: أن كفار قريش، لما كان الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين، فيقرأ المؤمن عليه القرآن، ويبهره بآيات النبي صلّى الله عليه وسلّم كان الكافر منهم يقول:
إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه، وإنما ينعم على أهل الحق، ونحن قد أنعم علينا، فنحن أغنياء وأنتم فقراء، ونحن أحسن مجلسا وأجمل شارة، فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف، في قوله تعالى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ وزعيم هذه المقالة: هو النضر بن الحارث وأشباهه من قريش، حينما رأوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في خشونة عيش، ورثاثة ثياب، وهم في غضارة العيش، ورفعة الثياب.
ومعنى الآيات: وإذا تليت على الكفار المشركين آيات القرآن الكريم، واضحة الدلالة والبرهان، بينة المقصد والغاية، أعرضوا عن ذلك، وقالوا مفتخرين على المؤمنين: أي الفريقين (المؤمنين والكافرين) خير منزلا ومسكنا، وأكبر جاها وأكثر أنصارا؟ وقوله تعالى: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا، وهو مجتمع الرجال للحديث.
فرد الله تعالى عليهم شبهتهم بأنه كثيرا ما أهلكنا قبلهم من الأمم السابقة المكذبين رسلهم بكفرهم، وكانوا أحسن من هؤلاء متاعا ومنظرا.
(٢) أمة أو جماعة.
(٣) أي منظرا حسنا. وأثاثا: متاعا من المفروشات والثياب ونحوها.
(٤) يمهله استدراجا.
(٥) أقل أعوانا.
(٦) مرجعا وعاقبة.
والمعنى: أن مظاهر الثراء والنفوذ والكرامة عند الناس لا تدل بحال على حسن الحال عند الله، فقد أهلك الله المترفين، ونجّى الفقراء الصالحين. وهذا تهديد ووعيد لكل متوهم من العوام أن حسن الحال في الدنيا دليل على رضا الله وحسن الحال في الآخرة.
ثم أكد الله تعالى التهديد والوعيد بجواب آخر وهو: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم، المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: من كان في الضلالة منا ومنكم، ومن كان يخبط في الدنيا على هواه، فإن الله تعالى جعل جزاءه أن يتركه في ضلاله وطغيانه، ويمهله فيما هو عليه، ويمده ويستدرجه بالنعم، ليزداد إثما، حتى يلقى ربه وينقضي أجله. حتى إذا ما شاهدوا رأي العين ما يوعدون به، إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، كما حصل يوم بدر، وإما مجيء القيامة بغتة أو فجأة، وما يشتمل عليه من العذاب الأخروي، فحينئذ يعلمون من هو شر مكانا وأضعف جنودا، على عكس ما كانوا يظنون في الدنيا من خيرية المقام وحسن المجلس. أي إنهم سيصطدمون بالحقيقة وهي أنهم شر مكانا وأضعف جندا.
ثم قابل الله زيادة الضلال لأهل الضلالة، مع زيادة الهدى للمهتدين، وهو أن الله يزيد المهتدين إلى الإيمان توفيقا وهدى للخير لأن الخير يدعو للخير. وهذه مقارنة واضحة بين مصير المؤمنين وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ومصير الكافرين وشقاوتهم في الدارين.
والباقيات الصالحات: كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله من الفرائض وغيرها.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنها الكلمات المشهورات:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قد يحمل العناد والاستبداد بعض المستكبرين، فيحملهم على طمس الحقائق، ومصادمة المنطق والواقع، ومجابهة أهل الحق والخير، ثم سرعان ما يتبدد غرورهم، وتنتهي أباطيلهم، وتنكشف أمامهم وفي أنظار غيرهم مواقفهم المزيفة، وتدمغهم الحقيقة، ويزهق الباطل، قال الله تعالى مبينا قصة أحد أكابر مجرمي مكة في تحديه لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنكاره البعث والحشر استهزاء وطعنا في الدين:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
«١» «٢» «٣» [مريم: ١٩/ ٧٧- ٨٠].
سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وغيرهم عن خبّاب بن الأرتّ قال: كنت رجلا قينا- حدادا- وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا، والله، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فقلت:
لا والله، لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني، ولي ثمّ مال وولد، فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا.. الآية. هذا هو سبب النزول في رأي جمهور المفسرين، إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي.
والمعنى: ألا أخبرك بقصة هذا الكافر الذي تجرأ على الله، وقال: لأعطيّن في الآخرة مالا وولدا، وثروة وعزا، وحرسا وحفظة.
وليس لهذا الأفاك المشرك أي دليل من الغيب أو عهد من الله، ودعواه إنما تصح إن اعتمد على أحد أمرين: إما علم الغيب، وإما عهد من الله، فهل اطلع على
(٢) أعلم الغيب.
(٣) نطوّل له. [.....]
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إشارة إلى أن الحصول على علم الغيب أمر صعب شاق لأن الله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.
ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وأمثاله بقوله: كلا، وهي كلمة ردع وزجر لما قبلها، وتأكيد لما بعدها، ولم ترد في النصف الأول من القرآن، وهذه في سورة (مريم) أول ذكر لها. وقوله: (سنكتب) مع أنه يكتب من غير تأخير، لمحض التهديد من المتوعد.
والمعنى: ليس الأمر كما قال العاص بن وائل وأمثاله، بل سنحفظ ما يقول، فنجازيه في الآخرة، ونزيده عذابا فوق عذابه، ونمده بالعذاب مدا في الدار الآخرة على قوله ذلك، وكفره بالله في الدنيا، مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد، جزاء عمله، وسوف نميته ونرثه المال والولد الذي يقول: إنه يؤتاه، ونسلبه إياه، ويأتينا يوم القيامة فردا، لا مال له ولا ولد، مما كان معه في الدنيا لأنا نسلبه منه، فكيف يطمع أن نعطيه مالا وولدا؟! وهذا المعنى مقرر في آيات أخرى، مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: ٦/ ٩٤].
ومعنى قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي هذه الأشياء التي سماها، وقال: إنه يؤتاها في الآخرة، يرث الله ماله منها في الدنيا، بإهلاكه وتركه لها، فالوراثة معنوية، ويحتمل أن تكون خيبته في الآخرة كوراثة ما أمّل. وقال أبو جعفر النحاس:
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ معناه: نحفظه عليه فنعاقبه، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما
أخرجه ابن
وقوله سبحانه: وَيَأْتِينا فَرْداً يتضمن ذلته.
وفي الجملة: إن الاعتزاز القائم في الدنيا بالمال والولد لبعض الكفار لا ينفع في الآخرة أبدا، ويتبدل هذا الحال إلى حال أخرى وهي الذلة، والخراب، والفقر، والضياع لأن الإنسان في الآخرة لا يستفيد شيئا من مال الدنيا، وليس لابن آدم في الآخرة من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدّق فأبقى، يعني أن فائدة المال في الآخرة محصورة فيما قصد به وجه الله من الإنفاق في سبيل الله، أو التصدق به على المحاويج.
تعدد الآلهة عند المشركين
أخطأ المشركون خطأ بالغا حين اعتقدوا بتعدد الآلهة، وأن الأصنام والأوثان تكون لهم شفعاء وأنصارا ينقذونهم من الهلاك، ومن أسوأ نتائج الشرك والتعدد: أن هذه الآلهة المزعومة ستكون أعداء لعبدتها، ومنشأ هذا الاعتقاد الفاسد: وسوسة الشيطان، ومع ذلك ترك الله تعالى الفرصة الكافية لهؤلاء المشركين، فلم يعجل لهم العذاب حتى يتداركوا الموقف، ويصححوا الاعتقاد، قال الله تعالى واصفا هذه العقيدة الوثنية:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٧]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
«٢» »
«٤»
(٢) شفعاء وأنصارا.
(٣) ليسوا أعوانا لهم.
(٤) أي تهيجهم وتحركهم تهييجا وتحريكا نحو الكفر والضلال.
المعنى: اتخذ عبدة الأوثان آلهة من الأصنام وكل ما عبد من دون الله تبارك وتعالى، ليكونوا لهم أنصارا وأعوانا وشفعاء عند ربهم يقربونهم إليه، ويحققون لهم المنفعة وغير ذلك من وجوه الخير.
ولكن ليس الأمر كما زعموا ولا كما طمعوا، كلا: زجر وردع وردّ، إن هذه الآلهة المزعومة ستتنكر لعبادة عبدتها الكفار، يوم ينطقها الله، وتتبرأ من العابدين، وتكون أعداء وأضدادا لهم وأعوانا عليهم، لا لهم، بخلاف ما ظنوا، فيقولون: ما عبدتمونا، كما جاء في آية أخرى: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: ٢٨/ ٦٣]. وقوله سبحانه: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) [البقرة: ٢/ ١٦٦].
هذه حال الكفار مع الأصنام، ثم ذكر الله تعالى حال الكفار مع الشياطين في الدنيا، فإنهم يسألونهم وينقادون لهم، فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)، أي ألم تعلم أننا سلطنا الشياطين على الكفار، وخلينا بينهم وبينهم، ومكناهم من إضلالهم، فهم يحركونهم إلى فعل المعاصي، ويهيجونهم إلى الكفر والضلال ويغوونهم، كما قال الله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء: ١٧/ ٦٤].
فلا تتعجل يا محمد على هؤلاء، بأن تطلب تعذيبهم وإهلاكهم، بسبب تصميمهم على الكفر والضلال، إنما نعد لهم أوقاتا معدودة، ونؤخرهم لأجل معدود مضبوط،
(٢) عطاشا كالتي ترد الماء.
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: ١٤/ ٤٢].
ثم وازن الله تعالى بين المتقين وبين المجرمين في وقت الحشر، وأبان أنه يفصل بين الفريقين فقال: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم نحشر جماعة المتقين وافدين ركبانا، إلى جنة الله ودار كرامته. والوفد:
القادمون ركبانا، مراكبهم من نور، من مراكب الدار الآخرة.
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) أي ونحمل المجرمين المكذبين على السير العنيف طردا إلى جهنم، مشاة عطاشا، كالإبل ترد الماء.
لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا: وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها، بأن كان صالح الاعتقاد والقول والعمل، وكان في الدنيا هاديا مصلحا. أما شفاعة الآلهة المزعومة: فهي مجرد أمنيات زائفة، وأوهام فارغة، فهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
أي إن من كان له عمل صالح مبرّز يحصل به في حيز من يشفع. وقد تظاهرت الأحاديث: أن أهل العلم والفضل والصلاح يشفعون فيشفّعون،
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «في أمتي رجل يدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من بني تميم».
نسبة الولد لله تعالى
إن من أكبر الجرائم وأعظم الآثام جريمة الشرك باتخاذ شريك لله تعالى، ونسبة الولد لله عز وجل، فهذا من الإفك والقول المفترى، ومما يتصادم مع عظمة الله
قال الله تعالى واصفا هذا الشذوذ المفترى:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٥]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
«١» «٢» «٣» [مريم: ١٩/ ٨٨- ٩٥].
المعنى: وقال بعض أهل الكتاب: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وقال كفار من العرب: الملائكة بنات الله، هذان الفريقان زعموا أن لله ولدا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ورد الله عليهم: لقد جئتم شيئا إدّا، أي شيئا منكرا عظيم الجرم والإثم.
تقارب السماوات أن تتشقق من هذا القول، وأن تتصدع الأرض وتتناثر أجزاؤها، وتسقط بصوت مرعب شديد، وتتهدم الجبال هدما خطيرا تتضعضع منه، لشدة نكرانه، إعظاما للرب وإجلالا له لأنهن مخلوقات على توحيد الله، وأنه إله واحد لا شريك له، ولا ندّ ولا نظير له، ولا ولد ولا مثيل، ولا صاحبة ولا زوجة له.
ويروي ابن جرير الطبري في تفسيره عن مجاهد، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن هذه المقالة
(٢) أي يتشققن مرة بعد أخرى، على رتبة غير مقصودة.
(٣) الهدّ: الانهدام والتفرق في سرعة.
وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة، لقوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١).
إن سبب هذه المقالة الخطيرة جدا أنهم نسبوا الولد إلى الله، ولا يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد، لجلال الله وعظمته، فإن هذا نقص، تعالى الله وتنزه عنه، لأن جميع الخلائق عبيد له.
وتأكيدا لإنكار هذه الفرية وإبطالها: كل واحد من الخلق من الملائكة والإنس والجن، لا بد له من أن يأتي إلى الله يوم القيامة عبدا خالص العبودية لله، مقرا بالحقيقة، خاضعا ذليلا، معلنا أنه مملوك لله، فكيف يكون أحد المخلوقات ولدا لله؟! قد علم الله عدد الخلائق، منذ خلقهم إلى يوم القيامة، وعدّ أشخاصهم وأحوالهم كلها، فهم تحت قهره وسلطانه وتدبيره، وكل واحد يأتي لربه في الآخرة بمفرده، لا ناصر له ولا مال معه، ولا مجير له إلا الله وحده لا شريك له، فيحكم في خلقه بما يشاء، وحكمه عادل عدلا مطلقا، لا يشوبه شيء من الظلم، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وقوله سبحانه عَدًّا في قوله وَعَدَّهُمْ عَدًّا توكيد للفعل وتحقيق له. وقوله عز وجل: فَرْداً في قوله: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) يتضمن معنى قلة النصير والحول والقوة، فلا مجير له، مما يريده الله به.
إن هذه الآيات تقرر مبدأ جوهريا في العقيدة: وهو مبدأ توحيد الله، ونفي اتخاذ الله ولدا على جهة التنزيه لله عن ذلك. وتلتقي هذه الآيات في موضوعها مع سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، وهي: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) ومع
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري حيث قال هذا الصحابي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
وفي حديث آخر عند الشيخين والترمذي عن معاذ، حيث كان رديف النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمار فقال له: «يا معاذ، تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتّكلوا».
القبول لأهل الإيمان والصلاح
إن أساس الرضا والقبول، والود والمحبة هو شيء واحد، هو الطاعة، فالطاعة أساس لكل علاقة طيبة، كعلاقة الآباء بالأبناء، وعلاقة الأبناء بالوالدين، وعلاقة الزوجين، وعلاقة السادة والخدم، والعلاقات الاجتماعية. وكذلك تكون الطاعة من باب أولى مجلبة لرضا الله تعالى، وقبول الأعمال، وعقد أواصر الود والمحبة بين الله وعباده. ويخطئ كثير من الناس حين يزعمون: أن الله يحبهم أو أنهم يحبون الله ورسوله، ثم تجدهم مبتعدين عن ساحة الطاعة لأوامر الله والرسول، فكيف يصح هذا عقلا وشرعا؟ هذا ما عبرت عنه الآيات الكريمة:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
«١»
هذه خاتمة سورة مريم التي ذكر فيها قصص عدد من كبار الأنبياء المشهورين كزكريا ويحيى وعيسى وموسى وهارون عليهم السلام، وذكر فيها أحوال الكفار والمشركين في الدنيا والآخرة، وتوّجت هذه السورة ببيان أحوال المؤمنين الصالحين، وهي ما يأتي:
إن الذين آمنوا وصدقوا بالله ورسله، وبخاتم النبيين محمد عليهم الصلاة والسلام، وعملوا صالح الأعمال: من أداء الفرائض والتطوعات، وأحلوا الحلال، وحرموا الحرام، وفعلوا ما يرضي الله تعالى، سيغرس الله محبتهم في قلوب الصالحين، ويضع القبول في النفوس لمن يحبه الله من عباده.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الله عبدا، نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل: إني قد أبغضت فلانا، فينادي في السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض».
التقت الآية والحديث في غرس أصل الود والمحبة في القلوب في الأرض والسماء لأولئك المؤمنين أهل الصلاح والتقوى والعمل الصالح. وطريق الصلاح والاستقامة: هو اتباع منهج القرآن وحكمه، ومعرفة ما في القرآن من آداب، وأحكام وشرائع: سهل يسير، لسهولة تلاوته وفهم مضمونه. وقد يسر الله القرآن للنبي بإنزاله على قلبه بلغة قومه: وهي اللغة العربية، وفصّله وسهّله، لتبشير المتقين
(٢) أمة.
(٣) تجد.
(٤) أي صوتا خفيا. [.....]
جاء في حديث عائشة عند البخاري: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»
وهو الذي يخاصمك ويجادلك بالباطل.
ومن أجل حمل الناس على طاعة الله ورسوله، أخبر الله تعالى عما فعل بالأقوام الظالمين، الذين عصوا الله والرسل، واتبعوا أهواءهم، فكثيرا ما أهلك الله قبل مشركي العرب من الأمم والجماعات من الناس لكفرهم بآيات الله وتكذيب رسله، فهل تجد أو ترى منهم أحدا أو تسمع لهم صوتا بعد هذا الإهلاك. وقوله سبحانه «من قرن» القرن: الأمة. والركز: الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، وإنما هو صوت الحركات وخشفها، والخشف: الحركة والحس.
إن وصف الله تعالى معارضي القرآن الكريم بأنهم قوم لدّ: أشداء في الخصومة والجدال بالباطل، يدل على غاية السوء والإنكار، فهذه صفة سوء بحكم الشرع والحق، لذا قسا الله عليهم بالوعيد، والتمثيل بإهلاك من كان أشدّ منهم، وألدّ وأعظم، قدر ما كان يسرهم في أنفسهم من الوصف بكلمة «لدّ» فإن العرب بجهالتها وعتوها وكفرها كانت تتمدح باللّدد، وتراه إدراكا وشهامة، وهو في الواقع قسوة وهمجية، فمثّل الله لهم بمثل ليعتبروا ويتعظوا بإهلاك من قبلهم، ليحتقروا أنفسهم، ويتبين صغر شأنهم.
إن إهلاك من قبلهم من العتاة الأشداء كان إبادة تامة، عبّر عنها القرآن الكريم بأنهم لم يبق لأحد منهم كلام أو تصويت بوجه من الوجوه، فهل يعتبر كفار قريش وغيرهم إذا بقوا على معارضة النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته ورسالته؟!