الاسم المشتق من السمو والسمة، فسبيل من يذكر هذا الاسم أن يتسم بظاهره بأنواع المجاهدات، ويسمو بهمته إلى محال المشاهدات، فمن عدم سمة المعاملات على ظاهرة، وفقد سمو الهمة للمواصلات بسرائره لم يجد لطائف الذكر عند قالته، ولا كرائم القرب في صفاء حالته.
فصل : معنى الله : الذي له الإلهية، والإلهية استحقاق نعوت الجلال. فمعنى باسم الله : باسم من تفرد بالقوة والقدرة، الرحمن الرحيم من توحد في ابتداء الفضل والنصرة. فسماع الإلهية يوجب الهيبة والاصطلام، وسماع الرحمة يوجب القربة والإكرام. وكل من لاطفه الحق سبحانه عند سماع هذه الآية رده بين صحو ومحو، وبقاء وفناء، فإذا كاشفه بنعت الإلهية أشهده جلاله، فحاله محو. وإذا كاشفه بنعت الرحمة أشهده جماله فحاله صحو :
أغيب إذا شهدتك ثم أحيا | فكم أحيا لديك وكم أبيد |
ﰡ
وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه.
وقيل إنها أسماء السور.
وقيل الألف تدل على اسم " الله " واللام تدل على اسم " جبريل " والميم تدل على اسم " محمد " صلى الله عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
والألِف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف في الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع.
ويقال يتذكر العبد المخلص مِنْ حالة الألف تَقَدُّسَ الحق سبحانه وتعالى عن التخصص بالمكان ؛ فإن سائر الحروف لها محل من الحَلقْ أو الشفة أو اللسان إلى غيره من المدارج غير الألف فإنها هويته، لا تضاف إلى محل.
ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.
ويقال يطالب العبد في سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه في ( مَراعاة ) حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه.
ويقال اختص كل حرف بصيغة مخصوصة وانفردت الألف باستواء القامة، والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها من الحروف، فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرَّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حَظِي بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هي غير مركبة، على سنة الأحباب في ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبي من القصة - قال شاعرهم :
قلت لها قفي قالت قاف ***. . .
لا تحسبي أَنَّا نسبنا لا يخاف ***. . .
ولم يقل وقفت ستراً على الرقيب ولم يقل لا أقف مراعاة لقلب الحبيب بل :" قالت قاف ".
ويقال تكثر العبارات للعموم والرموز والإشارات للخصوص، أَسْمَعَ موسى كلامَه في ألف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم : أَلِفْ. . . وقال عليه السلام :" أوتيتُ جوامْع الكلِم فاختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً " وقال بعضهم : قال لي مولاي : ما هذا الدنَف ؟ قلت : تهواني ؟ قال : لام ألف.
قيل ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وقيل إشارة إلى ما تقدم إنزاله من الخطاب، وقيل ذلك الكتاب الذي وعدْتُك إنزاله عليك يوم الميثاق.
لا ريب فيه، فهذا وقت إنزاله. وقيل ذلك الكتاب الذي كتبتُ فيه الرحمةَ على نفسي لأمتك - لا شك فيه، فتحقق بقولي.
وقيل الكتاب الذي هو سابق حكمي، وقديم قضائي لمن حكمت له بالسعادة، أو ختمت عليه بالشقاوة لا شك فيه.
وقيل ( حكمي الذي أخبرت أن رحمتي سبقت على غضبي لا شك فيه ).
وقيل إشارة إلى ما كتب في قلوب أوليائه من الإيمان والعرفان، والمحبة والإحسان، وإن كتاب الأحباب عزيز على الأحباب، لا سيما عند فقد اللقاء، وبكتاب الأحباب سلوتهم وأنسهم، وفيه شفاؤهم ورَوْحهم، وفي معناه أنشدوا :
وكتْبُكَ حولي لا تفارق مضجعي | وفيها شفاء للذي أنا كاتم |
ورد الكتاب بما أقَرَّ عيوننا | وشفى القلوب فَنِلْن غايات المنى |
وتقاسم الناسُ المسرةَ بينهم | قِسَماً وكان أجلهم حَظّاً أنا |
أي بياناً وحجة، وضياء ومحجة، لمن وقاه الحق سبحانه وتعالى من ظلمات الجهل، وبصَّره بأنوار العقل، واستخلصه بحقائق الوصل. وهذا الكتاب للأولياء شفاء، وعلى الأعداء عمًى وبلاء. المُتَّقي من اتقى رؤية تقاه، ولم يستند إلى تقواه، ولم يَرَ نجاته إلا بفضل مولاه.
حقيقة الإيمان التصديق ثم التحقيق، وموجب الأمرين التوفيق. والتصديق بالعقل والتحقيق ببذل الجهد، في حفظ العهد، ومراعاة الحد. فالمؤمنون هم الذين صدَّقوا باعتقادهم ثم الذين صَدَقُوا في اجتهادهم.
وأمَّا الغيب فما يعلمه العبد مما خرج عن حد الاضطرار ؛ فكل أمر ديني أدركه العبد بضرب استدلال، ونوع فكر واستشهاد فالإيمان به غَيْبِيٌّ. فالرب سبحانه وتعالى غيب. وما أخبر الحق عنه من الحشر والنشر، والثواب والمآب، والحساب والعذاب - غيب.
وقيل إنما يؤمن بالغيب من كان معه سراج الغيب، وأن من أيّدوا ببرهان العقول آمنوا بدلالة العلم و إشارة اليقين، فأوْرَدَهم صدقُ الاستدلال ساحاتِ الاستبصار، وأوصلهم صائبُ الاستشهاد إلى مراتب السكون ؛ فإيمانهم بالغيب بمزاحمة علومهم دواعي الريب. ومن كوشف بأنواع التعريف أسبل عليهم سجوف الأنوار، فأغناهم بلوائح البيان عن كل فكر وروية، وطلب بخواطر ذكية، وردِّ وردع لدواعٍ ردية، فطلعت شموس أسرارهم فاستغنوا عن مصابيح استدلالهم، وفي معناه أنشدوا :
لَيْلِي من وجهك شمس الضحا | وظلامه في الناس ساري |
والناس في سدف الظلا | م ونحن في ضوء النهار |
طلعت شمس من أحبَّك ليلاً | فاستضاءت وما لها من غروب |
إن شمس النهار تغرب بالليل | وشمس القلوب ليست تغيب |
وأمَّا إقامة الصلاة فالقيام بأركانها وسننها ثم الغيبة عن شهودها برؤية مَنْ يُصَلَّى له فيحفظ عليه أحكام الأمر بما يجري عليه منه، وهو عن ملاحظتها محو، فنفوسهم مستقبلة القِبْلة، وقلوبهم مستغرقة في حقائق الوصلة :
أراني إذا صَلَّيْت يَمَّمْت نحوها | بوجهي وإنْ كان المُصَلَّى ورائيا |
أصلي فلا أدري إذا ما قضيتها | اثنتين صليت الضحا أم ثمانيا ؟ |
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾.
الرزق ما تمكَّن الإنسان من الانتفاع به، وعلى لسان التفسير أنهم ينفقون أموالهم إمَّا نَفْلاً وإما فرضاً على موجب تفصيل العلم. وبيان الإشارة أنهم لا يدخرون عن الله سبحانه وتعالى شيئاً من ميسورهم ؛ فينفقون نفوسهم في آداب العبودية، وينفقون قلوبهم على دوام مشاهدة الربوبية. فإنفاق أصحاب الشريعة من حيث الأموال، وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال، فهؤلاء يكتفي منهم عِشْرين بنصفٍ ومن المائتين بِخَمس، وعلى هذا السَّنَن جميع الأموال يعتبر فيه النِّصاب.
وأمَّا أهل الحقائق فلو جعلوا من جميع أحوالهم - لأنفسهم ولحظوظهم - لحظةً قامت عليهم القيامة.
فصل : الزاهدون أنفقوا في طريقة متابعة هواهم، فآثروا رضاء الله على مناهم، والعابدون أنفقوا في سبيل الله وسعهم وقواهم، فلازموا سراً وعلناً نفوسهم. والمريدون أنفقوا في سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شيء من دنياهم وعقباهم. والعارفون أنفقوا في سبيل الله ما هو سوى مولاهم فقرَّبهم الحق سبحانه وأجزاهم، ويحكم الإفراد به لقَّاهم.
فصل : الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم. والفقراء أنفقوا من هممهم على مَنَابَتِهمْ. ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم، وحين قاموا لِحَقِّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية.
وهذا عامر بن عبد القيس يقول :" لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين، والتقصي عن مجوزات الظنون.
وقوم ﴿ على هدىً ربهم ﴾ بدلائل العقول ؛ وضعوها في موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار.
﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ الفلاح الظفر بالبُغية، والفوز الطِلبة، ولقد نال القوم البقاء في مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء، وهي غاغة النفوس من هواجسها، ثم زلات القلوب من خواطرها، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل، أو رجوع إلى ذكر وفكر.
ويقال إن الكافر لا يرعوي عن ضلالتهِ لِمَا سَبَق من شقاوته، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده، ولا يسلك قصده. ويقال إن الذي بقي في ظلمات رعونته سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المُبْطِلين، لأن الله سبحانه وتعالى نزع عن أحواله بركاتِ الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول، ولا يُصغي إلى داعي الرشاد، كما قيل :
وعلى النصوح نصيحتي *** وعليَّ عصيان النصوح
ويقال من ضلَّ عن شهود المِنَّةِ عليه في سابق القسمة تَوَهَّمَ أن الأمر من حركاته وسَكَنَاته فاتَّكَلَ على أعماله، وتعامى عن شهود أفضاله.
من تحلى بغير ما هو فيه | فضح الامتحان ما يَدَّعِيه |
ويقال لما عَدِموا صدق الأحوال لم ينفعهم صدق الأقوال، فإن الله تعالى قال :﴿ واللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾[ المنافقون : ١ ] فكانوا يقولون نشهد إنك لرسول الله، وكذلك من أظهر من نفسه ما لم يتحقق به افتضح عند أرباب التحقيق في الحال، وقيل :
أيها المدعي سليمى هواها | لستَ منها ولا قلامة ظفر |
إنما أنت في هواها كواوٍ | أُلْصِقت في الهجاء ظلماً بعمرو |
والإشارة في هذه الآية أن من تناسى لطفه السابق وقال لي وبي ومني وأنا يقع في وهمه وظنه لك وبك ومنك وأنت، وهذا التوهم أصعب العقوبات لأنه يرى سراباً فيظنه شراباً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه.
فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف | ولو خلصنا تخلصنا من المحن |
ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتتُ همومهم ثم تَبَغض عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفي معناه قيل :
تبدلت فتبدلنا واحسرتا | لمن ابتغى عوضاً ليسلو فلم يجد |
وكما أن المرتد أشد على المسلمين عداوة كذلك من رجع عن الإرادة إلى الدنيا والعادة فهو أشد الناس إنكاراً لهذه الطريقة، وأبعد من أهلها، وفي المَثَل : من اخترق كُدسه تمنى أن يقع بجميع الناس ما أصابه.
وإرفاق المرتدين عن طريق الإرادة - عند الصادقين منهم - غير مقبول كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل زكاة ثعلبة.
سوف ترى إذا انجلى الغبارُ | أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أم حمارُ |
أراك بقية من قوم موسى | فهم لا يصبرون على طعام |
ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا.
وإذا كان المصاب بفوات النعيم مغبونا فالذي مُنِيَ بالبعاد عن المناجاة وانحاز بقلبه عن مولاه، وبقي في أسْرِ الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا في سرّه شهود - فهذا هو الْمُصَابُ والْمُمْتَحَن.
وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خَلَفَ عنها ولا بَدَلَ منها، ولقد قال بعضهم :
كنتَ السوادَ لمقلتي *** فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر
والإشارة من هذه الآية لمن له بداية جميلة ؛ يسلك طريق الإرادة، ويتعنَّى مدة، ويقاسي بعد الشدّة شدة، ثم يرجع إلى الدنيا قبل الوصول إلى الحقيقة، ويعود إلى ما كان فيه من ظلمات البشرية. أورق عُودُه ثم لم يثمر، وأزهر غصنه ثم لم يدركه، وعجَّل كسوف الفترة على أقمار حضوره، وردّته يد القهر بعد ما أحضره لسان اللطف، فوطن عن القرب قلبه، وغلّ من الطالبين نفسه، فكان كما قيل :
حين قرّ الهوى وقلنا سُرِرْنا | وَحِسْبناً من الفراق أمِنَّا |
بعث البَيْن رُسْل في خفاءٍ | فأبادوا من شملنا ما جمعنا |
وكذلك الذي يركن إلى حطام الدنيا وزخرفها، فإِذا استتبت الأحوال وساعد الأمل وارتفع المراد - برز عليه الموت من مكامن المكر فيترك الكُل ويحمل الكَلَّ.
ويقال صم عن السماع بالحق، بكم عن النطق بالحق، وعمي عن مطالعة الخلق بالحق. لم يسبق لهم الحكم بالإقلاع، ولم تساعدهم القسمة بالارتداع.
إن الكريم إذا حباك بوُدِّه | سَتَرَ القبيحَ وأظهر الإحسانا |
وكذا الملول إذا أراد قطيعةً | ملّ الوِصال وقال كان وكانا |
إذا ارعوى، عاد إلى جهله | كَذِي الضنى عاد إلى نكسه |
ويقال اعبدوه بالتجرد عن المحظورات، والتجلد في أداء الطاعات، ومقابلة الواجبات بالخشوع والاستكانة، والتجافي عن التعريج في منازل الكسل والاستهانة.
قوله :﴿ لعلكم تتقون ﴾ : تقريب الأمر عليهم وتسهيله، ولقد وقفهم بهذه الكلمة - أعني لعلَّ - على حد الخوف والرجاء.
وحقيقة التقوى التحرز والوفاء ( بالطاعة ) عن متوعدات العقاب.
وقوله عز وجل :﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أن من له حاجة في نفسه لا يَصْلُحُ أن تَرفَع حاجتك إليه. وتعلُّقُ المحتاج بالمحتاج، واعتماد الضعيف على الضعيف يزيد في الفقر، ولا يزيل هواجم الضُر.
وكما أنَّ كيد الكافرين يضمحل في مقابلة معجزات الرسل عليهم السلام فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين، وأمارةُ المُبْطِل في دعواه رجوعٌ الزجر منه إلى القلوب، وعلامة الصادق في معناه وقوع القهر منه على القلوب. وعزيزٌ من فصّل وميَّز بين رجوع الزجر وبين وقوع القهر.
قوله جلّ ذكره :﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
كما أن أهل الجنة تتجدد عليهم النعم في كل وقت، فالثاني عندهم - على ما يظنون - كالأول، فإِذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدّم - فكذلك أهل الحقائق : أحوالهم في السرائر أبداً في الترقي، فإِذا رُقيِّ أحدهم عن محلِّه توهَّم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفَس مثل ما تقدم فإِذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم :
ما زلت أنزل من ودادك منزلاً | تتحيَّرُ الألباب دون نزوله |
والخَلْقُ في التحقيق - بالإضافة إلى وجود الحق - أقلُّ من ذرةٍ من الهباء في الهواء، لأن هذا استهلاك محدود في محدود، فسِيَّان - في قدرته - العرش والبعوضة، فلا خَلْقٌ العرش أشق وأعسر، ولا خَلْق البعوضة أخف عليه وأيسر، فإِنه سبحانه مُتَقَدِّسٌ عن لحوق العُسْر واليُسْر.
فإذا كان الأمر بذلك الوصف، فلا يستحي أن يضرب بالبعوضة مثلاً كما لا يستحي أن يضرب بالعرش - فما دونه - مثلاً.
وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فَرَّتْ وطارت، وإذا شبعت تشققت فَتَلِفَتْ - كذلك﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾[ العلق : ٦ ].
وقيل ما فوقها يعني الذباب، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته، حتى أنه ليعود عند البلاغ في الذب، ولو كان ذلك في الأسد لم ينجُ منه أحد من الخَلْق، ولكنه لمَّا خَلَق القوة في الأسد خلق فيه تنافراً من الناس، ولما خلق الوقاحة في الذباب خلق فيه الضعف، تنبيهاً منه سبحانه على كمال حكمته، ونفاذ قدرته.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾.
فأمّا من فتحت أبصار سرائره فلا ينظر إلى الأغيار والآثار إلا بنظر الاعتبار، ولا يزداد إلا نفاذ الاستبصار، وأمَّا الذين سكرت أبصارهم بحكم الغفلة فلا يزيدهم ضربُ الأمثال إلا زيادة الجهل والإشكال والأنكال.
قوله جلّ ذكره :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِينَ ﴾.
هذا الكتاب لقومٍ شفاءٌ ورحمة، ولآخرين شقاء وفتنة. فمن تعرَّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله :﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾[ الأعراف : ١٧٢ ] تذكَّروا عند ورود الواسطة - صلوات الله عليه وعلى آله - قديم عهده، وسابقَ وُدِّه فازدادوا بصيرة على بصيرة، ومَنْ رَسَمَهُ بِذُلِّ القطيعة، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة ما ازدادوا عند حصول الدعوة النبوية إلا جُحداً على جُحد، وما خفي عليهم اليوم صادق الدلالة، إلا لِمَا تقدم لهم سابقُ الضلالة. لذلك قال الله تعالى :﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ ﴾.
إن الأُلى ماتوا على دين الهدى | وجدوا المنية منهلاً معلولا |
ومما أُمِرَ العبد بوصله : حفظه دِمام أهل هذه الطريقة، والإنفاق على تحصيل ذلك بصدق الهمم لا ببذل النِّعَم، فهممهم على اتصال أسباب هذه الطريقة وانتظام أحوالها موقوفة، وقلوبهم إلى توقع الحراسة من الله تعالى لأهلها مصروفة. وفساد هذه الطريقة في الأرض : أما مَنْ لهم حواشي أحوالهم، وإطراق أمورهم فيتشاغلون عن إرشادِ مريدٍ بكلامهم، وإشحاذِ قاصدٍ بهممهم ؛ وذلك مما لا يرضى به الحق سبحانه منهم.
ومِنْ نَقْضِ العهد أيضاً أن يحيد سِرُّك لحظةً عن شهوده، ومِنْ قَطْع ما أُمِرْتَ بِوَصْلِه أن يتخلل أوقاتك نَفَسٌ لحظِّك دون القيام بحقه، ومِنْ فسادِكَ في الأرض ساعة تجري عليك ولم تَرَهُ فيها. أَلاَ إن ذلك هو الخسران المبين، والمحنة العظمة، والرزية الكبرى.
ويقال تعرَّف إلى الخلق بلوائح دلالاته، ولوامع آياته. فقال :﴿ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ يعني نطفة، أجزاؤها متساوية، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ : بَشَراً اختصَّ بعض أجزاء النطفة بكونه عظماً، وبعضها بكونه لحماً، وبعضها بكونه شَعْراً، وبعضها بكونه جِلداً. . إلى غير ذلك.
﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ بأن يجعلكم عظاماً ورفاتاً، ﴿ ثُمَّ يُحْييكُمْ ﴾ بأن يحشركم بعدما صرتم أمواتاً، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي إلى ما سبق به حكم من السعادة والشقاوة.
ويقال :﴿ كُنْتُمْ أمْوَاتاً ﴾ بجهلكم عنّا، ثم ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ بمعرفتكم بنا، " ثم يميتكم " عن - شواهدكم، " ثم يحييكم " به بأن يأخذكم عنكم، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي بحفظ أحكام الشرع بإجراء الحق.
ويقال ﴿ وكُنتُمْ أمْواتاً ﴾ لبقاء نفوسكم فأحياكم بفناء نفوسكم ثم يميتكم عنكم عن شهود ذلك لئلا تلاحظوه فيفسد عليكم، ثم يحييكم بأن يأخذكم عنكم ثم إليه ترجعون بتقلبكم في قبضته سبحانه وتعالى.
ويقال يحبس عليهم الأحوال ؛ فلا حياة بالدوام ولا فناء بالكلية، كلّما قالوا هذه حياة - وبيناهم كذلك - إذ أدال عليهم فأفناهم، فإذا صاروا إلى الفناء أنبتهم وأبقاهم، فهم أبداً بين نفي وإثبات، وبين بقاء وفناءَ، وبين صحو ومحو. . كذلك جرت سنته سبحانه معهم.
ويقال مَهَّدَ لهم سبيل العرفان، ونبَّهَهُم إلى ما خصَّهم به من الإحسان، ثم علمهم علوَّ الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال :﴿ لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ وَلاَ لِلقَمَرِ ﴾[ فصلت : ٣٧ ]. قوله جلّ ذكره :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ﴾.
فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته - على مخلوق - استوى، وأَنَّى بذلك ! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكانٍ بذاته استوى.
وكم أبصرتُ من حسن ولكن *** عليك من الورى وقع اختياري
ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يَقُلْ في شأن شيء منه ما قال في حديث آدم حيث قال :﴿ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة لو كان من المخلوقين. والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل إني خالق عرشاً أو جنة أو مَلَكاً، وإنما قال تشريفاً وتخصيصاً لآدم إني جاعل في الأرض خليفة.
فصل : ولم يكن قول الملائكة :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حَمْلَ الخطاب على ما يُوجِب تنزيه الملائكة أَوْلى لأنهم معصومون. . قال تعالى :﴿ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ ﴾[ التحريم : ٦ ].
ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنَّ في قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب ؛ فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم :﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾. ثم إن الحق سبحانه عرَّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمُّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلاً وأقدمه، وآدم كان أكثر علماً وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته.
ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال :﴿ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، مِنْ غفراني لهم.
ويقال : في تسبيحهم إظهارُ فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم، ومن غفرانه لمعاصي بني آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته، والحق سبحانه غني عن طاعات كل مطيع، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه.
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم في محبتنا، وذكاء سرائرهم في حفظ عهودنا وإن تدنَّس بالعصيان ظاهرهم، كما قيل :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ *** جاءت محاسنُه بأَلْفِ شفيع
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من محبتي لهم، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفي عليهم أسراري فيهم، وفي معناه أنشدوا :
ما حطَّك الواشون عن رتبة *** عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثْنَوْا - ولم يعلموا - *** عليك عندي بالذي عابوا
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم، وصولةَ قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم، فأنتم في رتبة وفاقكم وفي عصمة أفعالكم، وفي تجميل تسبيحكم، وهم مُنْكَرون عن شواهدهم، متذللون بقلوبهم، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماماً قوياً.
ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلي، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوي ؟ ويقال لبَّسْتُكم طاعتكم ولبستهم رحمتي، فأنتم في صدار طاعتكم وفي حُلَّةِ تقديسكم وتسبيحكم، وهم في تغمد عفوي وفي ستر رحمتي ألبستهم ثوب كَرَمي، وجللتهم رداء عفوي.
ويقال إن أسعدتكم عصمتي فلقد أدركتهم رحمتي.
وإيصال عصمتي بكم عنده وجودكم وتعلُّق رحمتي بهم في أزلي.
ويقال : لئن كان مُحسِنْكم عتيق العصمة فإن مجرمَهُم غريق الرحمة.
ويقال : اتكالهم عليَّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا :﴿ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾.
وإذا كان التخصيص بمعرفة أسماء المخلوقات يقتضي أن يصحَّ ( به سجود ) الملائكة فما الظن بالتخصيص بمعرفة أسماء الحق سبحانه ؟ ما الذي يُوجَبُ لِمَنْ أُكْرِمَ به ؟
ويقال خصوصية الملائكة بالتسبيح والتقديس وهذه طاعات تليق بالمخلوقين ؛ فإنَّ الطاعةَ سِمَةُ العبيد ولا تتعداهم، والعلم في الجملة صفة مدح يجب في نعت الحق سبحانه واجباً لا يصحُّ لغيره، فالذي يُكْرِمهُ بما يتصف هو سبحانه ( بيانه وإن كان للمساواة أتم من الكرام بما يكون مخلوقاً على جنس المخلوقات ).
ويقال أكرمه في السر بما علَّمه ثم بيَّن تخصيصه يوم الجهر وقدَّمه. ويقال قوله :﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ ثم : حرف تراخٍ ومهلة. . إمّا على آدم ؛ فإنه أمهله من الوقت ما تقرر ذلك في قلبه، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذٍ استخبره عما تحقَّق به واستيقنه. وإمّا على الملائكة ؛ فقال لهم على وجه الوهلة :" أنبئوني " فلمَّا لم يتقدم لهم تعريف تحيَّروا، ولمَّا تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر، ونطق وأفلح، إظهاراً لعنايته السابقة - سبحانه - بشأنه.
وقوله :﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيه إشارة إلى أنهم تَعَرَّضوا لدعوى الخصوصية، والفضيلة والمزية على آدم، فعرَّفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه في قديم تخصيصه. ولمَّا عَلِمَ الحقُّ سبحانه تَقَاصُرَ علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات ثم كلَّفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أنَّ الأمر أمرهُ، والحكمَ حُكمُه، فَلَهُ تكليف المستطيع، ردَّاً على من تَوَهَّمَ أن أحكام الحق سبحانه مُعَلَّلَة باستحسان أرباب الغفلة بما يدعونه من قضايا العقول، لا بل له أن يلزم ما يشاء لمن يشاء، الحَسَنُ ما حكم بتحسينه والقبيح ما حكم بتقبيحه.
فصل : ولمَّا أراد الحق سبحانه أن يُنَجِيَ آدمَ عصمه، وعلَّمه، وأظهر عليه آثار الرعاية حتى أخبر بما أخبر به، وحين أراد إمضاء حكمه فيه أدخل عليه النسيان حتى نَسِيَ في الحضرة عهده، وجاوز حدَّه، فقال الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾[ طه : ١١٥ ] فالوقت الذي ساعدته العناية تقدم على الجملة بالعلم والإِحسان، والوقت الذي أمضى عليه الحكم ردَّه إلى حال النسيان والعصيان، كذا أحكام الحق سبحانه فيما تجري وتمضي، ذلَّ بحكمه العبيد، وهو فعَّال لما يريد.
السجود لا يكون عبادة لِعَيْنهِ ولكن لموافقة أمره سبحانه، فكأن سجودَهم لآدم عبادةٌ لله ؛ لأنه كان بأمره، وتعظيماً لآدم لأنه أمرهم به تشريفاً لشأنه، فكأن ذلك النوعَ خضوعٌ له ولكن لا يسمى عبادة، لأن حقيقة العبادة نهاية الخضوع وذلك لا يصحُّ لغيره سبحانه.
ويقال بَيَّن أن تقدُّسَه - سبحانه - بجلاله لا بأفعالهم، وأن التَجمُّلَ بتقديسهم وتسبيحهم عائدٌ إليهم، فهو الذي يجل من أَجَلَّه بإجلاله لا بأفعالهم، ويعز من أعزَّ قدره سبحانه بإعزازه، جَلَّ عن إجلال الخلق قدْرُه، وعزّ عن إعزاز الخَلْق ذِكْرُه.
قوله تعالى :﴿ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ أبى بقلبه، واستكبر عن السجود بنفسه، وكان من الكافرين في سابق حكمه وعلمه. ولقد كان إبليس مدةً في دلال طاعته يختال في صدار موافقته، سلَّموا له رتبة التقدم، واعتقدوا فيه استحقاق التخصيص، فصار أمره كما قيل :
وكان سراج الوصل أزهر بيننا | فهبَّت به ريحٌ من البيْن فانطفا |
فبات بخير والدني مطمئنة | وأصبح يوماً والزمان تقلبا |
ولقد حصلت من آدم هفوة بشرية، فتداركتهْ رحمة أحدية، وأما إبليس فأدركته شقوة أزلية، وغلبته قسمة وقضية. خاب رجاؤه، وضلَّ عناؤه.
ولو تطاولت تلك الشجرة حتى كانت لا تصل إليها يده حين مدَّها لم يقع في شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم.
ولا مكانَ أفضل من الجنة، ولا بَشَرَ أكيس من آدم، ولا ناصح يقابل قوله إشارة الحق عليه، ولا غريبة ( منه ) قبل ارتكابه ما ارتكب، ولا عزيمة أشد من عزيمته - ولكنَّ القدرةَ لا تُكابَرَ، والحُكْمَ لا يُعَارض.
ويقال لما قال له :﴿ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾ كان فيه إشارة إلى أن الذي يليق بالخَلْق السكون إلى الخَلْق، والقيام باستجلاب الحظ، وآدم عليه السلام وَحْدَه كان بكل خير وكل عافية، فلمَّا جاء الشكلُ والزوجُ ظهرت أنياب الفتنة، وانفتح باب المحنة ؛ فحين سَاكَنَ حواء أطاعها فيما أشارت عليه بالأكل، فوقع فيما وقع، ولقد قيل :
داءٌ قديمٌ في بني آدم *** صبوةُ إنسان بإنسان
فصل : وكلُّ ما منِع منه ابن آدم توفرت دواعيه إلى الاقتراب منه.
فهذا آدم عليه السلام أبيحت له الجنة بجملتها ونُهِيَ عن شجرة واحدة، فليس في المنقول أنه مدَّ يده إلى شيء من جملة ما أبيح، وكان عِيلَ صبره حتى واقع ما نُهِيَ عنه - هكذا صفة الخَلْق.
فصل : وإنما نبَّه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها حين قال :﴿ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ فإذا أخبر أنه جاعله خليفته في الأرض كيف يمكن بقاؤه في الجنة ؟
ويقال أصبح آدم عليه السلام محمود الملائكة، مسجود الكافة، على رأسه تاج الوصلة، وعلى وسطه نطاق القُرَبة، وفي جيده (. . . ) الزلفة، لا أحد فوقه في الرتبة، ولا شخص مثله في الرفعة، يتوالى عليه النداء في كل لحظة يا آدم يا آدم. فلم يُمْسِ حتى نُزِعَ عنه لباسهُ، وسُلِبَ استئناسه، والملائكة يدفعونه بعنف أن اخْرج بغير مُكْثٍ :
وأَمِنْتُهُ فأتاح لي من مَأْمني *** مكراً، كذا من يأمن الأحبابا
ولمّا تاه آدم عليه السلام في مِشيته لم يلبث إلا ساعة حتى خرج بألف ألف عتاب، وكان كما قيل :
لله دَرُّهُمُ من فِتْيةٍ بَكَرُوا *** مثلَ الملوكِ وراحوا كالمساكين
فصل : نهاه عن قرب الشجرة بأمره، وألقاه فيما نهاه عنه بقهره، ولبَّس عليه ما أخفاه فيه من سِرِّه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ ﴾.
أوقع العداوة بينهما و بين الشيطان، ولكن كان سبحانه مع آدم ( وحرب وهو معهم محالهم بالظفر ).
فصل : لم يكن للشيطان من الخطر ما يكون لعداوته إثبات، فإن خصوصية الحق سبحانه عزيزة قال تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾[ الحجر : ٤٢ ].
فصل : لو كان لإبليس سلطان على غواية غيره لكان له إمكانٌ في هداية نفسه، وكيف يكون ذلك ؟ والتفرد بالإبداع لكل شيء من خصائص نعته سبحانه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾.
مشهد الأشباح ومألفها أقطار الأرض، و معهد الأرواح ومرتعها رداء العرش، ولفظ الرداء استعارة وتوسع فكيف يكون للهمم بالحِدْثان تَعَلُّق، ولصعود القصود إلى الحقائق على الأغيار وقوع.
وإذا خِفْنا من الرقباء عينا | تكلمت السرائر في القلوب |
ويحتمل أن تكون كلمات آدم عليه السلام اعتذاراً وتنصلا، وكلمات الحق سبحانه قبولاً وتفضلاً. وعلى لسان التفسير أن قوله تعالى له : أفراراً منا يا آدم ؟ كذلك قوله عليه السلام :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفُسَنَا ﴾[ الأعراف : ٢٣٠ ] وقوله : أمخرجي أنت من الجنة ؟ فقال : نعم، فقال أتردني إليها ؟ فقال : نعم.
ويقال حين أمر بخروجه من الجنة جعل ما أسمعه إياه من عزيز خطابه زاداً، ليكون له تذكرة وعتاداً :
وأذكر أيام الحمى ثم انْثَني على | على كبدي من خشية أن تَقطَّعا |
إذا افتقروا عادوا إلى الفقر حسبة | وإن أيسروا عادوا سراعاً إلى الفقر |
وتنقسم إلى نعمة أَبشار وظواهر، ونعمة أرواح وسرائر، فالأولى وجوه الراحات والثانية صنوف المشاهدات والمكاشفات. فمن النعم الباطنة عرفان القلوب ومحاب الأرواح ومشاهدات السرائر.
فصل : ويقال أمَرَ بني إسرائيل بذكر النِّعَم وأمَرَ أَمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم بذكر المُنعِم، وفرق بين من يقال له :﴿ اذْكُرْ نعمتي ﴾[ المائدة : ١١٠ ] وبين من يقال له :﴿ فاذكروني أَذْكُرْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَوْفُوا بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ ﴾.
عهدهُ - سبحانه - حفظ المعرفة وعهدنا اتصال المغفرة، عهده حفظ محابه وعهدنا لطف ثوابه، عهده حضور الباب وعهدنا جزيل المآب.
أوفوا بعهدي بحفظ السر أوفِ بعهدكم بجميل البِر، أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق أوفِ بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق، أوفوا بعهدي في ألا تؤثروا عليّ غيري أوف بعهدكم في ألا أمنع عنكم لطفي وخيري، أوفوا بعهدي برعاية ما أثبتُّ فيكم من الودائع أوفِ بعهدكم بما أُديم لكم من شوارق اللوامع وزواهر الطوالع، أوفوا بعهدي بحفظ أسراري أوف بعهدكم بجميل مَبَارِّي، أوفوا بعهدي باستدامة عرفاني أوفِ بعهدكم في إدامة إحساني، أوفوا بعهدي في القيام بخدمتي أوفِ بعهدكم في المِنَّةِ عليكم بقبولها منكم، أوفوا بعهدي في القيام بحسن المجاهدة والمعاملة أوفِ بعهدكم بدوام المواصلة والمشاهدة، أوفوا بعهدي بالتبري عن الحوْل والمُنَّة أوف بعهدكم بالإكرام بالطول والمِنَّة، أوفوا بعهدي بالتفضيل والتوكل أوفِ بعهدكم بالكفاية والتفضل، أوفوا بعهدي بصدق المحبة أوفِ بعهدكم بكمال القربة، أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوفِ بعهدكم أرضي بكم عنكم، أوفوا بعهدي في دار الغيبة على بساط الخدمة بشدِّ نطاق الطاعة، وبذل الوسع والاستطاعة أوفِ بعهدكم في دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأُنْس والرؤية وسماع الخطاب وتمام الزلفة، أوفوا بعهدي في المطالبات بترك الشهوات أوف بعهدكم بكفايتكم تلك المطالبات، أوفوا بعهدي بأن تقولوا أبداً : ربي ربي أوفِ بعهدكم بأن أقول لكم عبدي عبدي. وإياي فارهبون، أي أَفْرِدُوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد فلا تصح الخشية ممن ليس له ذرة ولا مِنَّة.
ولا تكونوا أول كافرٍ به، ولا تَسُنُّوا الكفر سُنَّةً فإن وِزْرَ المبتدئ فيما يَسُنُّ أعظم من وزر المقتدي فيما يتابع.
﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ لا تؤثروا على عظيمِ حقي خسيسَ حظِّكم. ﴿ وإياي فَاتَّقُونِ ﴾ كثيرٌ من يتقي عقوبته وعزيز من يهاب اطلاعه ورؤيته.
﴿ وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ ﴾ تدنيس، ﴿ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ ﴾ تلبيس، ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أن حق الحق تقديس، وأنشدوا :
أيها المنكح الثريا سهيلا | عمرك الله، كيف يلتقيان ؟ ! |
هي شامية إذا ما استهلت | وسهيلٌ إذا استهل يماني ! |
كلُّ شيءٍ له زكاةٌ تُودّى | وزكاةُ الجمال رحمةُ مثلى |
ويقال أتبصرون من الحق مثقالَ الذَّرِ ومقياسَ الحَبِّ وتساهمون لأنفسكم أمثال الرمال والجبال ؟ قال قائلهم :
وتبصر في العين مني القذى | وفي عينك الجذع لا تبصر ؟ ! |
﴿ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ ﴾ ثم تعاندون بخافايا الدعاوى وتجحدون بما شام قلوبكم من فضيحات الخواطر وصريحات الزواجر.
﴿ أفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ إن ذلك ذميمٌ من الخِصال وقبيحٌ من الفِعال.
ويقال استعينوا بي على الصبر معي، واستعينوا بحفظي لكم على صلاتكم لي، حتى لا تستغرقكم واردات الكشف والهيبة، فلا تقدرون على إقامة الخدمة.
وإن تخفيف سطوات الوجود على القلب في أوان الكشف حتى يقوى العبد على القيام بأحكام الفرق لِمَنَّةٌ عظيمة من الحق.
وأقسام الصبر كلها محمودة الصبر في الله، والصبر لله، والصبر بالله والصبر مع الله إلا صبراً واحداً وهو الصبر عن الله :
والصبر يحسن في المواطن كلها | إلا عليك فإنه مذموم |
ويذكر ويراد به الحسبان فَمَنْ ظنَّ ظن يقين فصاحب وصلة.
ومن ظنَّ ظن تخمين فصاحب فرقة. ومُلاقو ربهم، صيغة تصلح لماضي الزمان والحاضر وهم ملاقون ربهم في المستقبل. ولكن القوم لتحققهم بما يكون من أحكام الغيب صاروا كأن الوعدَ لهم تَقَرَّرَ، والغيب لهم حضور.
وأشهد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فضل نفسه فقال :
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فِبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾[ يونس : ٥٨ ].
فشتّان بين مَنْ مشهودُه فضلُ نفسه، وبين مَنْ مشهودُه فضل ربه ؛ فشهود العبد فضل نفسه يوجب له الشكر وهو خطر الإعجاب، وشهود العبد فضل الحق - الذي هو جلاله في وصفه وجماله في استحقاق نعته - يقتضي الثناء وهو يوجب الإيجاب.
والخواص خوَّفهم بصفاته فقال :﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾ [ التوبة : ١٠٥ ] وقال :﴿ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ ﴾ إلى قوله :﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ﴾ [ يونس : ٦١ ]. وخاص الخاص خوَّفهم بنفسه فقال :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ﴾[ آل عمران : ٢٨ ].
والعدل : الفداء.
يوم القيامة لا تسمع الشفاعة إلا لمن أمر الحق بالشفاعة له، وأَذِنَ فيه، فهو الشفيع الأكبر - على التحقيق - وإن كان لا يطلق عليه لفظ الشفيع لعدم التوقيف. وفي معناه قيل :
الحمد لله شكرا *** فكلُّ خيرٍ لديه
صار الحبيب شفيعاً *** إلى شفيع إليه
والذين أصابتهم نكبة القسمة لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وما لهم من ناصرين، فلا يُقْبَل منهم فداء، ولو افتدوا بملء السموات وملء الأرضين.
وحين شاهدوا ظاهر تلك الآيات من فلق البحر وإغراق آل فرعون - دَاخَلَهُمْ ريبٌ ؛ فقالوا : إنه لم يغرق حتى قذفهم البحر، فنظر بنو إسرائيل إليهم وهم مغرقون. وهذه الأمة لفظ تصديقهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقوة بصائرهم ( أن ) قال واحد من أفتاء الناس :" كأني بأهل الجنة يتزاورون وكأني بأهل النار يتعاوون وكأني أنظر عرش ربي بارزاً " فشتَّان بين من يُعاين فيرتاب مع عيانه، وبين مَنْ يسمع فكالعيان حالُه من قوة إيمانه.
﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ ﴾[ طه : ٨٨ ] وأمة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم مضى من وقت نبيِّهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحداً يذكر في وصف معبودهم ما يوجب تشبيهاً لما أبْقَوْا على حشاشتهم ولو كان في ذلك ذهاب أرواحهم.
ويقال إن موسى - صلوات الله عليه - سلَّم أمته إلى أخيه فقال : اخلفني في قومي، وحين رجع وجدهم وقعوا في الفتنة، ونبيُّنا - صلوات الله عليه - توكَّل على الله فلم يُشِرْ على أحَدِ في أمر الأمة وكان يقول في آخر حاله : الرفيق الأعلى. فانظر كيف تولَّى الحق رعاية أمته في حفظ التوحيد عليهم. لعمري يُضَيِّعون حدودَهم ولكن لا ينقضون توحيدَهم.
وقال :" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ".
وقال الله تعالى :﴿ إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ﴾[ الأنفال : ٢٩ ] وذلك الفرقان ميراث ما قدَّموه من الإِحسان.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾.
الإشارة إلى حقيقة التوبة بالخروج إلى الله بالكلية.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاقتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾.
التوبة بقتل النفوس غير (. . . ) إلا أن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً، وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سراً، فأَوَّلُ قَدَمِ في القصد إلى الله الخروجُ عن النفس.
فصل : ولقد توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا ؛ فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة واحدة، وأمَّا أهل الخصوص من هذه ( الأمة ) ففي كل لحظة قتل، ولهذا :
ليس من مات فاستراح بميتٍ | إنما الميت ميت الأحياء |
قوله جلّ ذكره :﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.
كونه لكم عنكم أتمُّ من كونكم لأنفسكم.
وإثبات نعت التولي بمكاشفات العزة مقروناً بملاطفات القربة من علامات الوصلة ودلالات السعادة.
فلا جَرَمَ لما أطلقوا لسان الجهل بتقوية ترك الحشمة أخذتهم الرجفة والصعقة.
ثم أراد الحق سبحانه أن يكون كل قوم جارياً على سُنَّة، ملازماً لحَدّه، غير مُزَاحِمٍ لصاحبه فأفرد لكل سبطة علامةً يعرفون بها مشربهم، فهؤلاء لا يَرِدُون مشرب الآخرين، والآخرون لا يَرِدُون مشرب الأولين.
وحين كفاهم ما طلبوا أمرَهُم بالشكر، وحِفْظِ الأمرِ، وتَرْكِ اختيار الوِزر، فقال :﴿ وَلاَ تَعْثَوْا فِى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾.
والمناهل مختلفة، والمشارب متفاوتة، وكلٌّ يَرِدَ مَشْرَبه فمشربٌ عَذْبٌ فُرات، ومشربٌ مِلْح أُجاج، ومشربٌ صافِ زلال، ومشرب رتق أوشال. وسائقُ كلِّ قوم يقودهم، ورائد كُلِّ طائفة يسوقهم ؛ فالنفوس تَرِدُ مناهل المنى والشهوات، والقلوب ترد مشارب التقوى والطاعات، والأرواح ترد مناهل الكشف والمشاهدات، والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف عن الكون والمرسومات، ثم عن الإحساس والصفات ثم بالاستهلاك في حقيقة الوجود والذات.
﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾[ الإسراء : ٤٦ ].
يا سائلي : كيف كنتَ بَعْده ؟ *** لقيتُ ما ساءني وسَرَّه
ما زلت أختال في وِصالي حتى *** أمِنت من الزمانِ مَكره
طال عليَّ الصدود حتى *** لم يُبْقِ مما شَهِدَت ذرَّه
وقد أحدق الصبيان بي وتَجمعوا | عليَّ وأشلوا بالكلاب ورائيا |
كما كان يأخذ لونها الأبصار فالإشارة منها أن من كان من أهل القصة يستغرق شاهدُه القُلوبَ لِمَا أُلبس من رداء الجبروت، وأقيم به من شاهد الغيب حتى أن من لاحَظَه تناسى أحوال البشرية واستولى عليه ذكر الحق، كذا في الخبر المنقول :" أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله " (. . . ).
كما كان يأخذ لونها الأبصار فالإشارة منها أن من كان من أهل القصة يستغرق شاهدُه القُلوبَ لِمَا أُلبس من رداء الجبروت، وأقيم به من شاهد الغيب حتى أن من لاحَظَه تناسى أحوال البشرية واستولى عليه ذكر الحق، كذا في الخبر المنقول :" أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله " (... ).
وكما أن معبودَهم الله كذلك مقصودهم الله.
وكما أن مقصودهم الله كذلك مشهودهم الله، وموجودهم الله، بل هم محو بالله و (. . . ) عنهم الله، وأنشد قائلهم :
إذا شِئتِ أن أرْضَى وترضي وتملكي | زِمَامِيَ - ما عشنا معاً - وعناني |
إذن فارمُقي الدنيا بعيني واسمعي | بأذني وانطقي بلساني |
طلبوا الحيلة ما أمكنهم فلما ضاقت بهم الحِيَل استسلموا للحكم فتخلصوا من شدائد المطالبات، ولو أنهم فعلوا ما أمِروا به لما تضاعفت عليهم المشاق.
أن من أراد حياة قلبه لا يصل إليه إلا بذبح نفسه ؛ فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حَيِيَ قلبُه بأنوار المشاهدات، وكذلك من أراد الله حياةَ ذِكْرِه في الأبدال أمات في الدنيا ذكره بالخمول.
أي خَسِروا في الحال والمآل، والإشارة في هذه الآية لمن عَدِم الإخلاص في الصحبة في طريق الحق ؛ يَنْضَمُّ إلى الأولياء ظاهراً ثم لا تَصْدُقُ له إرادة فهو مع أهل الغفلة مُصَاحِب، وله مع هذه الطريقة جانب، كلما دَعَتْهُ هواتف الحظوظ تَسَارَعَ إلى الإجابة طوعاً، وإذا قادته دواعي الحق - سبحانه - يتكلف شيئاً، فَبِئْسَتْ الحالة حين لم يخلص، وما أشد ندمه فيما ادَّخَرَ عن الله ثم لا يُفْلحْ.
ولكنّ الإشارة منه إلى مَنْ سكن قلبُه على استغاثاته على وجه الدوام، فإن أصحاب الحقائق كالحب على المَقْلَى - في أوقات صحوهم، فَمَنْ سَكَنَ فَلِفَرْطِ عَزّتِه - لا يفترون.
ومَنْ استند إلى طاعة يتوسَّلُ بها ويَظن أنه يقرب بها ينبغي أن يتباعد عن السكون إليها ومَنْ تَحَقَّقَ بالتوحيد علِمَ ألا وسيلة إليه إلا به.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾.
أي كما تراعون - بالفداء عنهم - حقوقهم، فكذلك يُفْتَرَضُ عليكم كَفُّ أيديكم عنهم، وتَرْكُ إزعاجهم عن أوطانهم، فإذا قُمتم ببعض ما يجب عليكم فما الذي يقعدكم عن الباقي، حتى تقوموا به كما أُمِرْتُم ؟ أما علمتم أن مَنْ فَرّقَ بين ما أُمِرَ به فآمن ببعضٍ وكَفَرَ ببعضٍ فقط حبط - بما ضيَّعه - أجرُ ما عَمِلَهُ.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خزي في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.
أي ظنوا أن ما فعلوه نَفَعهم، فانكشف لهم في الآخرة أن جميع ما فعلوه - لمَّا مزجوه بالآفات وجرَّدُوه عن الصدق والإخلاص - غيرُ مقبولٍ منهم.
والأُسَرَاء أصناف : فَمِنْ أسير غَرِقَ في بحار الهوى فإنقاذُه بأن تدلَّه على الهُدَى. ومِنْ أسيرٍ بقي في أيدي الوساوس فافتداؤه أن ترشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذَه من الشك والتخمين، وتخرجه عن ظلمات التقليد فيما تقوده إلى اليقين. ومن أسيرٍ تجده في أسر هواجسه استأسرته غاغة نفسه، فَفَكُّ أسْرهِ بأن تدلَّه على شهود المِنن، بِتَبَرِّيه عن حسبانِ كلِّ حَوْلٍ بِخلْقٍ وغَيْر. ومن أسيرٍ تجده في ربيطة ذاته ففكُّ أسره إنشاده إلى إقلاعه، وإنجاده على ارتداعه. ومن أسير تجده في أسر صفاته فَفَكُّ أسْرِه أن تدله على الحق بما يحل عليه من وثائق الكون، ومن أسيرٍ تجده في قبضة الحق فتخبره أنه ليس لأسرائهم فداء، ولا لقتلاهم عَوْد، ولا لربيطهم خلاص، ولا عنهم بُدُّ، ولا إليهم سبيل، ولا مِنْ دونهم حيلة، ولا معَ سِواهم راحة، ولا لحكمهم رَدٌّ.
أناسٌ أعرضوا عنَّا *** بلا جُرْمٍ ولا معنى
فإن كانوا قد استَغْنَوْا *** فإنَّا عنهم أغنى
إذا انسكبت دموعٌ في خدود | تبيَّن مَنْ بكى ممن تباكى |
وفي هذا بشارة للمؤمنين الذين يشتاقون إلى الموت أنهم مغفور لهم، ولا يرزقهم الاشتياق إلا وتحقق لهم الوصول إلى الجنة، وقديماً قيل : كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء. قال الله تعالى :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمِتْ أَيْدِيهِمْ ﴾.
وفي هذا بشارة للمؤمنين الذين يشتاقون إلى الموت أنهم مغفور لهم، ولا يرزقهم الاشتياق إلا وتحقق لهم الوصول إلى الجنة، وقديماً قيل : كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء. قال الله تعالى :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمِتْ أَيْدِيهِمْ ﴾.
والإشارة من قصتهما إلى مَنْ مآلَ في هذه الطريقة إلى تمويهٍ وتلبيس، وإظهار دعوى بتدليس، فهو يستهوي مَنْ اتّبعه، ويلقيه في جهنم بباطله، (. . . . . . ).
ومن تهتك بالجنوح إلى أباطيله تهتكت أستارُه، وظهر لذوي البصائر عوارُه. وإن هاروت وماروت لما اغتَّرا بحاصل ما اعتاداه من المعصية بَسَطَا لسان الملامة في عُصاة بني آدم، فَلِمَا رُكِّب فيهما من نوازع الشهوات، ودواعي الفتن والآفات، اقتحما في العصيان، وظهر منهما ما انتشر ذِكْرُه على ألسنة القصاص، وهما مُنَكَّسَان إلى يوم القيامة ولولا الرفق بهما وبشأنهما لَمَا انتهى في القيامة عذابُهما، ولكنَّ لطفَ الله مع الكافة كثيرٌ. ولَمَّا قال الله تعالى :﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ ﴾ عَلِم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم - وإن كان صفةَ مدح - ففيه غيرُ مرغوبٍ فيه، بل هو مستعاذٌ منه قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أعوذ بك من علم لا ينفع ".
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾.
لو علم المغبونُ ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسراتٍ، ولكن سيعلم :
﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾[ الطارق : ٩ ] الذي فاته من الكرائم.
فأبداً سِرُّك في الترقي، وقدرك في الزيادة بحسن التَوَلِّي.
وقيل ما رقَّاكَ عن محل العبودية إلا سَلكَكَ بساحات الحرية، وما رَفَعَ شيئاً من صفات البشرية إلا أقامك بشاهدٍ من شواهد الألوهية.
وكذلك كانت صفات الكفار، فأرغم اللهُ أَنْفَهُم، وكبَّهم على وجوههم.
والإشارة من هذا إلى حال أصحاب الإرادة في البداية إذا رغبوا في السلوك، فمن لم يساعده التوفيق ( في الصحبة، وعاشر أناساً مترِّسمين بالظواهر ) فإنهم يمنعون هؤلاء من السلوك ولا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح، والتخويف بالعجز والتهديد بالفقر حتى ينقلوهم إلى سبيل الغفلة، ويقطعوا عليهم طريق الإرادة، أولئك أعداء الله حقاً، أدركهم مقت الوقت. وعقوبتهم حرمانهم من أن يشموا شيئاً من روائح الصدق.
﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ﴾ فسبيل المريد أن يحفظ عن الأغيار سِرَّه، ويستعمل مع كل أحدٍ ضلة، ويبذل في الطلب رفعة، فعن قريب يفتح الحق عليه طريقه.
ولكنّ مجرد الحسبان دون تحقق البرهان لا يأتي بحاصل، ولا يجوز بطائل.
ويقال :" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فتكون مستسلماً بظاهرك، مشاهداً بسرائرك، في الظاهر جهد وسجود وفي الباطن كشف ووجود.
ويقال :﴿ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ﴾ بالتزام الطاعات، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ قائمٌ بآداب الخدمة بحسن آداب الحضور، فهؤلاء ليس عليهم خوف الهجر، ولا يلحقهم خفيُّ المكر، فلا الدنيا تشغلهم عن المشاهدة ولا الآخرة تشغلهم غداً عن الرؤية.
لكنّ الأعداء كلهم على الباطل : عند تَبَرِّي بعضهم من بعض أمَّا الأولياء فكُلُّهم على الحق - وهذه ما ذكرنا من حكم العكس.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَهُمْ في الدُّنْيَا خزي وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
لأهل الإشارة خزي الدنيا بذل الحجاب، وعذاب الآخرة الامتناع بالدرجات.
وشوارقها نجوم العلوم وأقمار الحضور وشموس المعارف.
فما دامت الشوارق طالعة فَقِبلْةُ القلوب، واضحة ظاهرة، فإذا استولت الحقائق خَفَى سلطانُ الشوارق، كالنجوم تستتر عند طلوع الشمس، كذلك عند ظهور الحق يحصل اصطلام وقهر، فلا شهود رسم، ولا بقاء حِسِّ وفَهْم، ولا سلطان عقل وعلم، ولا ضياء عرفان. فإن وجدان هذه الجملة صفات لائقة ببقاء البشرية، وإذا صار الموصوف محواً فأنَّى لهم ببقاء الصفة.
قال تعالى :﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ ما دام يبقى من الإحساس والتمييز بقية - ولو شظية - فالقِبْلة مقصودة، فإن لم تكن معلومة تكون مطلوبة. وعلى لسان العلم إذا اشتبهت الدلائلُ بكلِّ وِجْهَةٍ، ولا معرفةَ بالقِبْلة تَسَاوَتْ الجهاتُ في جواز الصلاة إلى كل واحدٍ منها إذا لم يكن للنية ترجيح.
قوله جلّ ذكره :﴿ بَل لَّهُ مَا في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾.
أي ليس في الكون شيء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادي عليه آثار الحِلْقَة، وتفصح منه شواهد الفطرة، وكل صامتِ منها ناطق، وعلى وحدانيته - سبحانه - دليلٌ وشاهد.
وكلُّ أحدٍ يقول يومئذٍ نفسي نفسي ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم يقول :" أمتي أمتي ".
ولقد ابتلى الحق - سبحانه - خليلَه عليه السلام بما فرض عليه وشرع له، فقام بشرط وجوبها، ووَفَّى بحكم مقتضاها، فأثنى عليه سبحانه بقوله :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [ النجم : ٣٧ ] - من التوفية - أي لم يُقَصِّر بوجهٍ ألبتة.
يقال حملَّه أعباء النبوة، وطالبه بأحكام الخُلَّة، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شيء، فقام بتصحيح ذلك مختليًا عن جميع ما سواه، سِرًّا وعَلَنًا.
كذلك لم يلاحظ جبريلَ عليه السلام حين تعرض له وهو يُقْذف في لُجة الهلاك، فقال : هل من حاجة ؟ فقال : أمَّا إِليكَ. . . فلا.
ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه السلام في تلك الحالة، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنًا من كان ؟ !
وفي هذا إشارة دقيقة إلى الفَرْقِ بين حال نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وحال إبراهيم عليه السلام، لأنه تعرض جبريل للخليل وعَرَضَ عليه نفسه :
فقال : أمَّا إليكَ. . . فَلاَ. ولم يُطِقْ جبريل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فنطق بلسان العجز وقال : لو دنوتُ أنملة لاحترقتُ.
وشتّان بين حالة يكون فيها جبريل عليه السلام من قُوَّتِه بحيث يعرض للخليل عليه السلام نفسه، وبين حالةٍ يعترف للحبيب - صلوات الله عليه - فيها بعجزه.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذريتي قَالَ لاَ يَنَالُ عهدي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾.
الإمام مَنْ يُقْتَدى به، وقد حقَّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال :﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾[ الحج : ٧٨ ] أي اتبعوا ملة إبراهيم يعني التوحيد، وقال :﴿ وَاتَّخَذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ﴾.
هذا هو تحقيق الإمامة. ورتبة الإمامة أن يَفْهَم عن الحق ثم يُفْهِمَ الخَلق ؛ فيكون واسطة بين الحق والخَلْق، يكون بظاهره مع الخَلْق لا يفتر عن تبليغ الرسالة، وبباطنه مشاهدًا للحق، لا يتغير له صفاء الحالة، ويقول للخلْق ما يقوله له الحق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾.
نطق بمقتضى الشفقة عليهم، فطلب لهم ما أُكرِم به. فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نَسَب، أو باستيجاب سبب، وإنما هي أقسام مضت بها أحكام فقال له :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ ﴾ وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها، فهي لا ادِّخَار لها عن أحد وإن كان كافرًا، ولذلك قال جلّ ذكره :﴿ وَارزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ﴾.
فقال الله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾.
يعني ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار، ولكن عهدي لا يناله إلا مَنْ اخترته مِنْ خواص عبادي.
أمَّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد.
أمَّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد.
واذكر يا محمد حين جعلنا البيت - يعني الكعبة - مثابة للناس إليه يثوبون، ومأمنًا لهم إليه يرجعون، وإياه من كل نحوٍ يقصدون.
هو بيت خلقتُه من الحجر ولكن أضفته إلى الأزل ؛ فمن نظر إلى البيت بعين الخِلْقَة انفصل، ومن نظر إليه بعين الإضافة وصل واتصل، وكلُّ من التجأ إلى ذلك البيت أَمِنَ من عقوبة الآخرة إذا كان التجاؤه على جهة الإعظام والاحترام، والتوبة عن الآثام.
ويقال بُنيَ البيتُ من الحجر لكنه حجر يجذب القلوب كحجر المغناطيس يجذب الحديد.
بيتٌ من وقع عليه ظِلُّه أناخ بعَقْوَةِ الأمن.
بيتٌ مَنْ وقع عليه طَرْفُه بُشِّرَ بتحقيق الغفران.
بيتٌ مَنْ طاف حَوْلَه طافت اللطائف بقلبه، فطَوْفَة بطوفة، وشَوْطة بشوطة وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
بيتٌ ما خَسِرَ مَنْ أنفق على الوصول إليه مَالَه.
بَيت ما ربح مَنْ ضَنَّ عليه بشيءٍ ؛ مَنْ زاره نَسِيَ مزارَه، وهجر ديارَه.
بيت لا تُسْتَبْعَدُ إليه المسافة، بيت لا تُترَك زيارته لحصول مخافة، أو هجوم آفة، بيت ليس له بمهجة الفقراء آفة.
بيت من قعد عن زيارته فَلِعدَمِ فُتَوَّتِه، أو لقلة محبته.
بيتٌ من صَبِرَ عنه فقلبه أقسى من الحجارة. بيت من وقع عليه شعاعُ أنواره تَسَلَّى عن شموسه وأقماره.
بيت ليس العجب ممن بقي ( عنه ) كيف يصبر، إنما العجب ممن حضره كيف يرجع !
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ﴾.
عَبْدٌ رفع لله سبحانه قَدمًا فإلى القيامة جعل أثر قَدَمِه قِبْلَةً لجميع المسلمين إكرامًا لا مدى له.
الأمر في الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلب.
وتطهير البيت بِصَوْنه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار.
وطوافُ الحجاج حول البيت معلومٌ بلسان الشرع، وطوافُ المعاني معلومٌ لأهل الحق ؛ فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحدين الحقائق فيها عاكفة، فهؤلاء أصحاب التلوين وهؤلاء أرباب التمكين.
وقلوبُ القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدًا واقفة.
وقلوب الموحدِّين على بساط الوصل أبدًا راكعة.
وقلوب الواجدين على بساط القرآن أبدًا ساجدة.
ويقال صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدًا واقفة، وسوامي قصود المريدين بمشهد الجود أبدًا طائفة، ووفود هِمَمِ العارفين بحضرة العِزِّ أبداً عاكفة. .
السؤال إذا لم يكن مشوبًا بحظِّ العبد كان مستجابًا، ولم يكن سؤال إبراهيم هذا لحظِّ نفسه، وإنما كان لِحقِّ ربِّه عزَّ وجلَّ.
ولمَّا حفظ شرط الأدب طلب الرزق لمن آمن منهم على الخصوص أجيب فيهم وفي الذين لم يؤمنوا. ولمَّا قال في حديث الإمامة :﴿ ومن ذُرِّيتي ﴾ من غير إذن مُنِعَ وقيل له :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
﴿ إنك أنت السميع ﴾ لأقوالنا ﴿ العليم ﴾ بأحوالنا.
﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ إذ لا سبيل إلى معرفة الموافقات إلا بطريق التوفيق والإعلام.
﴿ وتب علينا ﴾ : بعد قيامنا بجميع ما أَمَرْتَنَا حتى لا نلاحظ حركاتِنا وسكناتِنا، ونرجع إليه عن شهود أفعالنا لئلا يكونَ خطرُ الشِّرْك الخفيِّ في توهُّمِ شيءِ مِنّا بِنَا.
ويقال إن قوله :﴿ أسلمتُ ﴾ : ليس بدعوى من قِبَلِه لأن حقيقة الإسلام إنما هو التَّبري من الحَوْل والقوة، فإذا قال :﴿ أسلمت ﴾ فكأنه قال أَقِمْني فيما كلفتني، وحَقِّق مني ما بِه أمرتني. فهو أحال الأمر عليه، لا لإظهار معنى أو ضمان شيء من قِبَلِ نفسه.
ويقال أَمَرَه بأن يستأثر بمطالبات القدرة ؛ فإن من حلَّ في الخلَّة محلَّه يحل به - لا محالة - ما حَلَّ به.
ويُسأَلُ ها هنا سؤال فيقال : كيف قال إبراهيم صلوات الله عليه :﴿ أسلمت ﴾ ولم يَقُلْ نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم حينما قيل له اعْلم " علمت " ؟.
والجواب عن ذلك من وجوه : منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنا أعلمكم بالله " ولكن لم يَرِد بعده شرع فكان يخبر عنه بأنه قال علمت.
ويقال إن الله سبحانه أخبر عن الرسول عليه السلام بقوله :﴿ آمن الرسول ﴾ لأن الإيمان هو العلم بالله سبحانه وتعالى، وقول الحق وإخباره عنه أتمُّ من إخباره - عليه السلام - عن نفسه.
والآخر أن إبراهيم لما أخبر بقوله :﴿ أسلمت ﴾ اقترنت به البلوى، ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يتحرز عما عو صورة الدعوى فَحُفِظَ وكُفِيَ.
والآخر أن إبراهيم عليه السلام أُمِرَ بما يجري مجرى الأفعال، فإن الاستسلامَ به إليه يشير. ونبينا صلى الله عليه وسلم أُمِر بالعلم، ( ولطائف العلم أقسام ).
قوله جلّ ذكره :﴿ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.
لم يقولوا إلهنا مراعاة لخصوصية قَدْره، حيث سلموا له المزية، ورأوا أنفسهم ملحقين بمقامه، ثم أخبروا عن أنفسهم أنهم طُيَّع له بقولهم ﴿ ونحن له مسلمون ﴾.
ولمَّا آمنت أُمتَّهُ بجميع ما أَنزل الله على رسله، ولم يفرقوا بين أحدٍ فهم ضربوا في التكريم بالسَّهم الأعلى فتقدموا على كافة الأمم.
﴿ فسيكفيكم الله وهو السميع العليم ﴾ : كفاية الله متحققة لأن عناية الله بكم متعلقة، فمن نابذكم قصمته أيادي النصرة، ومن خالفكم قهرته قضايا القسمة، وهو السميع لمناجاة أسراركم معنا على وصف الدوام، العليم باستحقاقكم ( منا ) خصائص اللطف والإكرام.
والإشارة أن العبرة بما وضع الحق لا بما جمع العبد، فما يتكلفه الخلْقُ فإلى الزوال مآله، وما أثبت الحقُّ عليه الفطرة فإثباته العبرة.
وللقلوب صبغة وللأرواح صبغة وللأسرار صبغة وللظواهر صبغة. صبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق.
ومتى يستوي حال من هو بنعت الإفلاس بِغَيْبَتهِ مع حال من هو حكم الاختصاص والإخلاص لانغراقه في قُرْبَتِه ؟ هيهات لا سواء !
ذلك ظن الذين كفروا فتعساً لهم !
فمن ذلك تغير أمر القِبْلة حينما حُوِّلَتْ إلى الكعبة قالوا إن كانت قبلتهم حقاً فما الذي ولاَّهم عنها ؟ فقال جلّ ذكره : قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ للهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.
يتعبَّد العباد إلى قطرٍ و (. . . ) ونحو شاؤوا، وكذلك أصحابُ الغيبة والحُجبة - عن شهود تصريف الحق لأوليائه - يطلبون وجوهاً من الأمر، يحملون عليها أحوالهم، ولو طالعوا الجميع من عين واحدة لتخلصوا عن ألمِ تَوَزُّع الفِكْر، وشِغْل تَرَجُّم الخاطر، ومطالبات تَقَسُّم الظنون، ولكنَّ الله يهدي لنوره من شاء.
قوله جلّ ذكره :: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانِت لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
بيَّن أن الحكم في تقرير أمر القبلة إلى وقت التحويل، وتحويلها من وقت التبديل كان اختباراً لهم من الحق ليتميز الصادق من المارق، ومَنْ نَظر إلى الأم بعين التفرقة لكبُر عليه أمر التحويل، ومن نظر بعين الحقيقة ظهرت لبصيرته وجوه الصواب. ثم قال :﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلبٍ واحد فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواءٌ غيَّر أو قرَّر، وأثبت أو بدَّل، وحقَّق أو حوَّلَ فَهُمْ بِهِ لَهُ في جميع الأحوال، قال قائلهم :
كيفما دارت الزجاجة دُرْنا | يحسب الجاهلون أنَّا جُنِنَّا |
كلَّ العبيد يجتهدون في طلب رضائي وأنا أطلب رضاك ﴿ فلنولينك قِبْلَةً ترضاها ﴾ ﴿ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ : ولكن لا تُعَلِّقْ قلبَكَ بالأحجار والآثار، وأَفْرِد قلبك لي، ولتكن القِبلةُ مقصودَ نَفْسِك، والحقُّ مشهودَ قلبك، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره، ولكن أَخْلِصوا قلوبَكم لي وأَفرِدوا شهودكم بي.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾
ولكنه عِلْمٌ لا يكون عليهم حجة، ولا تكون لهم فيه راحة أو منه زيادة، ﴿ وما اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ تهويلاً على الأعداء، وتأميلاً على الأولياء.
إذا الأشغالُ أَلْهَوْني عنك بشُغْلِهم | جعلتك أشغالي فأَنْسَيْتَني شُغْلي |
قوله جلّ ذكره :﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾.
إذا كانوا محوا عن كونهم رسوماً تجري عليهم أحكامنا - فأنَّى بالخشية منهم ! ؟
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.
إتمام النعمة إضافة الكشف إلى اللطف، فإن من كفاه بمقتضى جوده دون من أغناه بحق وجوده، وفي معناه أنشدوا :
نحن في أكمل السرورِ ولكنْ | ليس إلا بكم يَتمُّ السرور |
عيبُ ما نحن فيه - يا أهلَ وُدِّي - | أنّكم غُيَّبٌ ونحن الحُضُور |
﴿ فاذكروني أذكركم ﴾ أي كونوا مستهلكين في وجودنا، نذكركم بعد فنائكم عنكم، قال الله تعالى :﴿ إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴾ [ الذاريات : ١٦ ] كانوا وقتاً ولكنهم بانوا دائماً :
أناس حديث حسن *** فكن حديثاً حسناً لمن وعنى
وطريقة أهل العبارة ﴿ فاذكروني ﴾ بالموافقات ﴿ أذكركم ﴾ بالكرامات، وطريقة أهل الإشارة ﴿ فاذكروني ﴾ بِتَرْكِ كل حظ ﴿ أذكركم ﴾ بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم.
﴿ فاذكروني ﴾ مكتفين بي عن عطائي وأفضالي ﴿ أذكركم ﴾ راضياً بكم دون أفعالكم.
﴿ فاذكروني ﴾ بذكري لكم ما تذكرون، ولولا سابق ذكري لما كان لاحِقُ ذكركم.
﴿ فاذكروني ﴾ بقطع العلائق ﴿ أذكركم ﴾ بنعوت الحقائق.
ويقال اذكرني لكل مَنْ لَقِيتَه أذكرك لمن خاطَبتُه، " فمن ذكرني في مَلأٍ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم ".
ويقال ﴿ واشكروني ﴾ على عظيم المِنَّةِ عليكم بأن قُلْتُ :﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾.
ويقال الشكر من قبيل الذكر، وقوله :﴿ ولا تكفرون ﴾ النهي عن الكفران أمرٌ بالشكر، والشكر ذكر، فكرر عليك الأمر بالذكر، والثلاث أول حدِّ الكثرة، والأمر بالذكر الكثير أمر بالمحبة لأنَّ في الخبر :" من أحب شيئاً أكثر ذكره " فهذا - في الحقيقة - أمرٌ بالمحبة أي أحْبِبْني أحبك ؛ ﴿ فاذكروني أذكركم ﴾ أي أحبوني أحببكم.
ويقال :﴿ فاذكروني ﴾ بالتذلل ﴿ أذكركم ﴾ بالتفضُّل.
﴿ فاذكروني ﴾ بالانكسار ﴿ أذكركم ﴾ بالمبار.
﴿ فاذكروني ﴾ باللسان ﴿ أذكركم ﴾ بالجِنان.
﴿ فاذكروني ﴾ بقلوبكم ﴿ أذكركم ﴾ بتحقيق مطلوبكم.
﴿ فاذكروني ﴾ على الباب من حيث الخدمة ﴿ أذكركم ﴾ بالإيجاب على بساط القربة بإكمال النعمة.
﴿ فاذكروني ﴾ بتصفية السِّر ﴿ أذكركم ﴾ بتوفية البرِّ.
﴿ فاذكروني ﴾ بالجهد والعناء ﴿ أذكركم ﴾ بالجود والعطاء.
﴿ فاذكروني ﴾ بوصف السلامة ﴿ أذكركم ﴾ يومَ القيامة يومَ لا تنفع الندامة.
﴿ فاذكروني ﴾ بالرهبة ﴿ أذكركم ﴾ بتحقيق الرغبة.
ويقال استوجب الصابرون نهاية الذخر، وعلو القدر حيث نالوا معَيَّة الله قال تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
ويقال هم أحياء لأن الخَلَفَ عنهم اللهُ ومَنْ كان الخلفُ عنه الله لا يكون ميتاً، قال قائلهم في مخلوق :
إن يكن عنَّا مضى بسبيله فما | مات من يبقى له مثل خالد |
ويقال إنَّ أشباحهم وإنْ كانت متفرقة، فإنَّ أرواحهم - بالحق سبحانه - متحققة.
ولئن فَنِيَتْ بالله أشباحُهم فلقد بَقِيَتْ بالله أرواحهم لأنَّ من كان فناؤه بالله كان بقاؤه بالله.
ويقال هم أحياء بشواهد التعظيم، عليهم رداء الهيبة وهُمْ في ظلال الأُنْس، يبسطهم جَمَالُه مرةً، ويستغرقهم جلاله أخرى.
﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ يعني الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه.
ويقال طالبهم بالخوف ( ابتعاداً ) عن عقوبته ثم بمقاساة الجوع ابتغاء قربته وكرامته، ونقصٍ من الأموال بتصَدُّقِ الأموال والخروج عنها طلباً للخير منه بحصول معرفته.
" والأنفس " تسليماً لها إلى عبادته " والثمرات " القول بترك ما يأملونه من الزوائد في نعمته ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ على استحسان قضيته، والانقياد لجريان قدرته.
ومطالبات الغيب إما أن تكون بالمال أو بالنفس أو بالأقارب ؛ فمن أوقف المال لله فله النجاة، ومن بذل لحكمه النَّفْسَ فله الدرجات، ومن صبر عند مصائب الأقارب فله الخلف والقُرُبات، ومن لم يدخر عنه الروح فله دوام المواصلات.
ومن طالع الأشياء مِلْكاً للحق رأى نفسه أجنبياً بينه وبين حكمه ؛ فمِنشِئُ الخَلْقِ أولى بالخَلْق من الخَلْق.
ويقال من شهد المصائب شهد نفسه لله وإلى الله، ومن شاهد المُبْلِي عَلِمَ أن ما يكون من الله فهو عبد بالله، وشتان بين من كان لله وبين من كان بالله ؛ الذي كان لله فصابرٌ واقفٌ، والذي هو بالله فساقط الاختيار والحكم، إنْ أثبته ثَبَتَ، وإنْ محاه انمحى، وإنْ حرَّكه تحرك، وإن سَكَّنَه سَكَن، فهو عن اختياراته فانٍ، وفي القبضة مُصْرَّفٌ.
قال تعالى :﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ ﴾ لما رحمهم في البداية اهتدوا في النهاية.
أهوى الديار لمن قد كان ساكنها | وليس في الدارِ همٌّ ولا طَرَبُ |
وما ذاك إلا أن مشت عليه أميمةٌ | في ترِبها وجرَّت به بُردا |
حَظَى الصفا والمروة بجوار البيت فَشُرعَ السعي بينهما كما شرع للبيت الطواف، فكما أن الطواف ركن في النُّسك فالسعي أيضاً ركن، والجارُ يُكْرَمُ لأجل الجار.
﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾[ هود : ٨٨ ].
حين كانت طاعتك وحركاتك وسكناتك أو ذاتك وصفاتك لا بل قبل ذلك أزل الأزل حين لا حِينَ، ولا أوَانَ، ولا رسم ولا حدثان.
و ﴿ الوَاحِدُ ﴾ من لا مِثْلَ له يدانيه، ولا شكل يلاقيه. لا قسيم يجانسه ولا نديم يؤانسه. لا شريكَ يعاضده ولا مُعِين يساعده ولا منازعَ يعانده.
أحديُّ الحق صمديُّ العين ديموميُّ البقاء أبديُّ العز أزليُّ الذات.
واحدٌ في عز سنائه فَردٌ في جلال بهائه، وِتْرٌ في جبروت كبريائه، قديم في سلطان عِزِّه، مجيد في جمال ملكوته. وكل مَنْ أطنب في وصفه أصبح منسوباً إلى العمى ( ف ) لولا أنه الرحمن الرحيم لتلاشى العبدُ إذا تعرَّض لعرفانه عند أول ساطعٍ من بادياتِ عزِّه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ ﴾.
ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام، ولكن من أحبَّ حبيباً استكثر ذكره، بل استحسن كل شيء منه.
ويقال وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن ( هذه ) محبة الجنس للجنس، وقد يميل الجنس إلى الجنس، وتلك محبةُ من ليس بجنسٍ لهم فذلك أعزُّ وأحق.
ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود، وأمَّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حَالَ بينهم وبين ( شهوده ) رداء الكبرياء على وجهه.
ويقال الذين آمنوا أشد حباً لله لأنهم لا يتبرأون من الله سبحانه وإنْ عَذَّبَهُم. والكافر تبرأ من الصنم والصنمُ من الكافر كما قال تعالى :﴿ إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ﴾ الآية.
ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم فهي أتم، قال تعالى :﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
[ المائدة : ٥٤ ] ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم.
ويقال محبة المؤمنين أتمُّ وأشدُّ لأنها على موافقة الأمر، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع، ويقال إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم، واتسعت ذات يدهم اتخذوا أصناماً أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك في حال فقرهم ؛ فكانوا يتخذون من الفضة - عند غناهم - أصناماً ويهجرون ما كان من الحديد. . . وعلى هذا القياس ! وأمَّا المؤمنون فأشَدُّ حباً لله لأنهم عبدوا إلهاً واحداً في السّراء والضراء.
( أما المؤمنون ) فيأتي عليهم طول الأيام والأعمال فلا يزدادون إلا محبة ( على محبة ) ولذلك قال :﴿ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ﴾.
والحلال الصافي ما لم ينسَ مُكْتَسِبُه الحقَّ في حال اكتسابه.
ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق في كل حال.
وكلُّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان.
وحقيقة الشكر عليه ألا تتنفس في غير رضاء الحق ما دام تبقى فيك القوة لذلك الطعام.
وكثرة الأوراد - وإن جلَّت - فحرفة العجائز، وإخلاص الطاعات - وإن عزَّ - فصفة العوام، وَوَصْلُ الليل بالنهار في وظائف كثيرة ومجاهدات غزيرة عظيم الخطر في استحقاق الثواب، ولكنَّ معرفة الحق عزيزة.
وما ذُكِر في هذه الآية من فنون الإحسان، ووجوه قضايا الإيمان، وإيتاء المال، وتصفية الأعمال، وصلة الرحم، والتمسك بفنون الذّمم والعِصَم، والوفاء بالعهود، ومراعاة الحدود - عظيم الأثر، كثير الخطر، محبوب الحق شرعاً، ومطلوبه أمراً، لكنّ قيام الحق عنك بعد فنائك، وامتحائك مِنْ شاهِدِك، واستهلاكك في وجود القِدَم، وتعطل رسومك عن مساكنات إحساسك - أتمُّ وأعلى في المعنى ؛ لأن التوحيد لا يُبقِي رسماً ولا أثراً، ولا يغادر غَيْراً ولا غَبَراً.
والدم المراق يجري فيه القِصاص على لسان أهل العلم، وأمَّا على لسان الإشارة لأهل القصة فدماؤهم مطلولة وأرواحهم هدرة قال :
وإن فؤداً رعته لَكَ حامدٌ | وإنَّ دماً أجريته بِكَ فاخِرُ |
ولكن ترك القصاص - على بيان الإشارة - فيه أعظم الحياة لأنه إذا تَلِفَ فيه ( سبحانه ) فهو الخَلَفُ عنه، وحياته عنه أتم له من بقائه بنفسه. وإذا كان الوارثَ عنهم الله والخَلَفَ عنهم اللهُ فبقاءُ الخلفِ أعزُّ مِنْ حياةِ مَنْ ورد عليه التلف.
أحبكُم ما دمتُ حياً فإنْ أمُتْ | يُحبكم عظمي في التراب رميم |
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لا بل كما قال قائلهم :
وأتى الرسول فأخبر أنهم رحلوا قريبا ***
رجعوا إلى أوطانهم فجرى له دمعي صبيبا ***
وعقوبته أن يُحرَم رائحة الصدق أن يشمه. فمن أعان الدينَ أعانه الله، ومن أعان على الدين خذله الله.
ويقال صوم العابدين شرطه - حتى يَكْمُلَ - صونُ اللسان عن الغيبة، وصون الطَرْف عن النظر بالريبة كما في الخبر :" مَنْ صام فَلْيَصُمْ سمعه وبصره. . . . " الخبر، وأما صوم العارفين فهو حفظ السر عن شهود كل غيره.
وإن من أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق، قال صلى الله عليه وسلم :" صوموا وأفطروا لرؤيته " الهاء في قوله عليه السلام - لرؤيته - عائدة عند أهل التحقيق إلى الحق سبحانه، فالعلماءُ يقولون معناه عندهم صوموا إذا رأيتم هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال، وأما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله، وفطرهم بالله، وإقبالهم على الله، والغالب عليهم الله، و الذي هم به محو - الله.
من شهد الشهر أمسك عن المفطرات، ومن شهد الحق أمسك في جميع أوقاته عن شهود المخلوقات.
من صام بنفسه سُقِيَ شرابَ السلسبيل والزنجبيل، ومن صام بقلبه سُقِيَ شراب المحاب بنعمة الإيجاب.
ومن صام بِسِرِّهِ فهم الذين قال فيهم الله تعالى :
﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾[ الإنسان : ٢١ ].
شراب يا له من شراب ! ! شراب لا يُدار على الكف لكنه يبدو له من اللطف.
شراب استئناس لا شراب كأس.
قوله تعالى :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ أي من أفطر لهذه الأعذار فعليه صوم عدة أيام بعدد ما أفطر قضاء لذلك. الإشارة لمن سقمت إرادته عن الصحة فيرجع إلى غيره إما لرخصة تأويل أو لقلة قوة واحتمال، أو عجز للقيام بأعباء أحكام الحقيقة فليُمْهَل حتى تقوى عزيمته وتشتد إرادته، فعند ذلك يُسْتَدْرَك منه ما رُخِّص له بالأخذ بالتأويل، وتلك سُنَّةُ الله سبحانه وتعالى في التسهيل على أهل البداية، ثم استيفاءُ ذلك منهم واجبٌ في آخر الحال.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (. . . . . ) طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
الإشارة منه أَنَّ مَنْ فيه بقية من القوة للوقوف لمطالبات الحقيقة ويرجع إلى تسهيل الشريعة وينحط إلى رخصة التأويل فعليه الغرامة بواجب الحال وهو الخروج عما بقي له من معلوم مال أو مرسوم حال ويبقى مجرداً للواحد.
فصل : ويقال إنه لما علم أن التكليف يقتضي المشقة خففه عليك ذلك بأن قلَّل أيام الصوم في قلبك فقال :﴿ أَيّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾ أي مدة هذا الصوم أيام قليلة فلا يهولنكم سماع ذكره، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾[ الحج : ٧٨ ] ثم قال :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[ الحج : ٧٨ ] أي لا يلحقكم كثير مشقة في القيام بحق جهاده.
شهر رمضان شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب. شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة، شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة. شهر النجاة، شهر المناجاة.
قوله جلّ ذكره :﴿ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ﴾.
أراد بك اليسر ( وأنت تظن ) أنه أراد بك العسر.
ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه ( أقامه ) بطلب اليسر ؛ ولو لم يُرِدْ به اليسر لَمَا جعله راغباً في اليسر، قال قائلهم :
لو لم تُرِدْ نَيْلَ ما أرجو وأطلبهُ | من فيضِ جودِك ما علمتني الطلبا |
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ﴾.
على لسان العلم تكملوا مدة الصوم.
وعلى لسان الإشارة لتقرنوا بصفاء الحال ( وفاء ) ( المآل ).
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ في النَّفَسِ الأخير، وتخرجوا من مدة عمركم بسلامة إيمانكم. والتوفيق في أن تكمل صوم شهر عظيم، لكن تحقيق أنه يختم عمرك بالسعادة - أعظم.
﴿ ويسألونك عَنِ اليَتَامَى ﴾[ البقرة : ٢٢٠ ] ولا من جملة من قال :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ ﴾[ البقرة : ٢٢٢ ]، ولا من جملة من قال :﴿ ويسألونك عَنِ الرُّوحِ ﴾[ الإٍسراء : ٨٥ ]، ولا من جملة من قال : و﴿ يسألونك عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ ﴾[ البقرة : ٢١٩ ]، و﴿ يسألونك عِنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾[ البقرة : ٢١٧ ].
هؤلاء قوم مخصوصون :﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّى ﴾. أي إذا سألك عبادي عني فبماذا تجيبهم ؟ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد، فأنت وإنْ كنتَ السفير بيننا وبين الخلْق فهذا الجواب أنا أتولاه ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ ( رَفَعَ الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يَقُل قل لهم إني قريب بل قال جل شأنه :﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾.
ثم بَيَّن أن تلك القربة ما هي : حيث تقدَّس الحقُّ سبحانه عن كل اقتراب بجهة أو ابتعاد بجهة أو اختصاص ببقعة فقال :﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ﴾ وإن الحق سبحانه قريب - من الجملة والكافة - بالعلم والقدرة والسماع والرؤية، وهو قريب من المؤمنين على وجه التبرية والنصرة وإجابة الدعوة، وجلَّ وتقدَّس عن أن يكون قريباً من أحد بالذات والبقعة ؛ فإنه أحديٌّ لا يتجه في الأقطار، وعزيز لا يتصف بالكُنْهِ والمقدار.
قوله جلّ ذكره :﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتِجِيبُوا لي وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾.
لم يَعِدْ إجابة من كان باستحقاق زهد أو في زمان عبادة، بل قال دعوة الداعي متى دعاني وكيفما دعاني وحيثما دعاني ثم قال :﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ﴾ هذا تكليف، وقوله :﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ﴾ تعريف وتخفيف، قدَّم التخفيف على التكليف، وكأنه قال : إذا دعوتني - عبدي - أَجَبْتُك، فأَجِبنِي أيضاً إذا دَعَوْتُك، أنا لا أرضى بِرَدِّ دعائِك فلا تَرْضَ - عبدي - بردِّي من نفسك. إجابتي لك بالخير تحملك - عبدي - على دعائي، ولا دعاؤك يحملني على إجابتك. ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِى ﴾ : وليثقوا في، فإني أجيب من دعاني، قال قائلهم :
يا عَزُّ أُقْسِم بالذي أنا عبده | وله الحجيج وما حوت عرفات |
لا أبتغي بدلاً سِواكِ خليلة | فشقِي بقولي والكرامُ ثِقات |
نزلت الآية في زَلَّةٍ بَدَرَتْ من الفاروق، فَجَعَلَ ذلك سببَ رُخْصةٍ لجميع المسلمين إلى القيامة. وهكذا أحكام العناية.
ويقال علم أنه لا بُدَّ للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظِّك، فقال أما حقي ﴿ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾، وأما حظك ﴿ وَكَلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.
أخبر أن محل القدرة مقدَّس عن اجتلاب الحظوظ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بِكُم فيكم، وإذا كنتم قائمين بِنَا فلا تعودوا منَّا إليكم.
ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يُمزَجَ الجدُّ بالهزلِ، قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك فقال عليه السلام :" ذريتي يا ابنة أبي أبكر أتعبد ربي " وقال صلى الله عليه وسلم " لي وقت لا يسعني غير ربي ".
وهي مواقيت لأهل القصة في تفاوت أحوالهم ؛ فللزاهدين مواقيت أورادهم، وأما أقوام مخصوصون فهي لهم مواقيت لحالاتهم، قال قائلهم :
أعد الليالي ليلةً بعد ليلةٍ | وقد كنت قدماً لا أعد اللياليا |
ثمانٍ قد مضَيْنَ بِلا تلاقٍ | وما في الصبر فضل عن ثمانٍ |
شهورٌ يَنْقُضَين وما شعرنا | بأنصافٍ لهن ولا سِرار |
يعني ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر.
﴿ وأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ : أولاً أَخْرِجُوا حبَّهم وموالاتهم من قلوبكم، ثم (. . . . . ) عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جارياً عليهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ والفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ ﴾.
والإشارة : أنَّ المحنةَ التي تَرِدُ على القلوب من طوارق الحجب أشد من المحنة التي تَرِدُ على النفوس مِنْ بذل الروح، لأن فوات حياة القلب أشد من فوات حياة النَّفْس، إذ النفوس حياتها بمألوفاتها، ولكن حياة القلب لا تكون إلا بالله.
ويقال الفتنة أشد من القتل : أن تنأى عن الله أعظم من أن تنأى عن روحك وحياتك.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلَكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ ﴾.
الإشارة منه : لا تشوش وقتك مع الله إذا كان بوصف الصفات بما تدخله على نفسك وإنْ كانت نوافل من الطاعات، فإن زاحمك مزاحم يشغلك عن الله فاقطع مادة ذلك عن نفسك بكل ما أمكنك لئلا تبقى لك علاقة تصدك عن الله.
﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ : الذين اتقوا إيثار هواهم على ما فيه رضاه، فإذا قاموا لله – فيما يأتون – لا لهم فإن الله تعالى بالنصرة معهم، قال تعالى :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ﴾( محمد : ٧ ).
إنفاق الأغنياء من النِّعم وإنفاق الفقراء من الهِمَم.
إنفاق الأغنياء إخراج المال من الكيس، وإنفاق الفقراء إخراج الروح عن أنفس النفيس، و إنفاق الموحِّدين إخراج الخَلْق من السِّر.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ الإشارة فيه إلى إمساك يدك عن البذل ؛ فمن أمسك يده وادَّخر شيئاً لنفسه فقد ألقى بيده إلى التهلكة. ويقال : إلى إيثار هواك على رضاه.
ويقال ﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ أي الغفلة عنه بالاختيار.
ويقال تَوَهُّمُ أنك تعيش من دون لطفه وإقباله لَحْظَةً.
ويقال الرضا بما أنت فيه من الفترة والحجاب.
ويقال إمساك اللسان عن دوام الاستغاثة في كل نَفَسٍ.
قوله تعالى :﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾ الإحسان أن ترفق مع كل أحد إلا معك ؛ فإحسانُك إلى نفسك في صورةٍ إساءتُك إليها في ظن الاعتماد، وذلك لارتكابك كل شديدة، ومقاساتك فيه كل عظيمة. والإحسان أيضاً ترك جميع حظوظك من غير بقية، والإحسان أيضاً تفرغك إلى قضاء حق كل أحد علَّق عليك حديثه. والإحسان أن تعبده على غير غفلة. والإحسان أن تعبده وأنت بوصف المشاهدة.
وفي التفسير أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وعلى لسان الإشارة الحج هو القَصْد ؛ فَقَصْدٌ إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص.
وكما أن الذي يحج بنفسه يُحْرِمُ ويَقِفُ ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه ؛ فإحرامه بعقد صحيح على قصد صريح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته، ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى، وإطلاق خواطر المنى، وما في هذا المعنى. ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، ثم تلبية الأسرار باستجابة كل جزء منك.
وأفضل الحج الشُّج والعجَّ ؛ الشَّجُّ صَبُّ الدَّم والعجُّ رفع الصوت بالتلبية، فكذلك سفك دم النفس بسكاكين الخلاف، ورفع أصوات السِّر بدوام الاستغاثة، وحسن الاستجابة ثم الوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عَرَفات وموقف القلوب الأسامي والصفات لِعِزِّ الذات ( عند ) المواصلات. ثم طواف القلوب حول ( مشاهدة ) العز، والسعي بالأسرار بين صَفَّيِّ كشف الجلال ولطف الجمال.
ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيارات، والمنى والمعارضات : بكل وجه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ ﴾.
الحصر بأمرين بعدو أو مرض.
والإشارة فيه إنْ استولى عدو النفس فلم تجد بداً من الإناخة بعقوة الرُّخَص وتأويلات العلم فعند ذلك تتحلل بموجب العذر والاضطرار إذ لا مزاحمة مع الحُكمْ. ﴿ الهَدْىِ ﴾ الذي يهدي به عند التحلل بالعذر، والخروج عن المعلوم، وتسليمه للفقراء، وانتظار أن يزول الحصر فيستأنف الأمر. وإن مَرِضَتْ الواردات وسَقِمتْ القصود وآل الأمرُ إلى التكليف فليجتهد ألا ينصرف كما أنه في الحج الظاهر يجتهد بألا ينصرف لكل مرض أو إن احتاج إلى اللبس والحلق وغير ذلك - بشرط الفدية.
ثم إن عجز، اشترط أن محله حيث حسبه فكذلك يقوم ويقعد في أوصاف القصد وأحكام الإرادة، فإِن رجع - والعياذ بالله - لم يُقابَلْ إلا بالردِّ والصد، وقيل :
فلا عن قِلى كان التقرب بيننا | ولكنه دهر يُشِتُّ ويجمع |
ولستُ - وإنْ أحببتُ مَنْ يَسْكُن الفضا | بأولِّ راجٍ حاجة لا ينالها |
يبذل ما أمكنه، ويخرج عن جميع ما يملكه، وعليه آثار الحسرة، واستشعار أحزان الحجبة.
فمن كان منكم مريضاً. . . الخ : الإشارة منه أن يبتهل ويجتهد بالطواف على الأولياء، والخدمة للفقراء، والتقرب بما أمكنه من وجود الاحتيال والدعاء.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضري المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾.
فإذا تجلت أقمار القصود عن كشوف التعزز، وانجلت غيابة الحجبة عن شموس الوصلة وأشرف نون الإقبال في تضاعيف أيام الوقفة، فليستأنِف للوصلة وقتاً، وليفرش للقربة بساطاً، وليجدد للقيام بحق السرور نشاطاً، ولَيَقُلْ : حَيِّ على البهجة ! فقد مضت أيام المحنة.
وليُكْمِل الحج والعمرة، وَلْيَسْتَدِم القِيَام بأحكام الصحبة والخدمة.
﴿ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ بالحجاب لمن لم يُرِه أَهِلَّة الوصلة والاقتراب.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ ﴾.
كذلك الإشارة لمن سلك طريق الإرادة ألا يُعرِّج على شيء في الطريق، ولا يمزج إرادته بشيء. فمن نَازَعه أو عَارَضَهُ أو زاحمه - سَلَّم الكل للكل، فلا لأجل الدنيا مع أحدٍ يخاصم، ولا لشيء من حظوظ النَّفْس والجاه مع أحد يزاحم، قال تعالى :
﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ﴾[ الفرقان : ٦٣ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ﴾.
تكتفي بِعِلْمِه وحُكْمِه عن شهود خَلْقِه وحُكْم خلْقِه وعلم خلْقِه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الأَلْبَابِ ﴾.
تقوى العامة مُجانبة الزلات، وتقوى الخواص مجانبة الأغيار بالسرائر.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعِرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾.
الإشارة فيه إذا وقفت حتى قمت بحق طلبه فاذكر فضله معك ؛ فلولا أنه أَرَادَكَ لما أَرَدْتَهُ، ولولا أنه اختارك لما آثرتَ رضاه.
﴿ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ إشارة إلى القيام بحق المحبة.
قضاء المناسك قيامٌ بالنفس.
﴿ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ قيامٌ له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر.
ويقال كما أنَّ الأغيار يفتخرون بآبائهم، ويستبشرون بأسلافهم فَلْيَكُنْ افتخاركم بنا واستبشاركم بنا.
ويقال إن كان لآبائكم عليكم حقُّ التربية فحقُّنا عليكم أوجب، وأفضالنا عليكم أتم.
ويقال إن كان لأسلافكم مآثر ومناقب، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال.
ويقال إنك لا تملُّ ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك، فاسْتَدِمْ ذِكرنا، ولا تَعْترِضَنَّكَ ملالة أو سآمة أو نسيان.
ويقال إنْ طَعَنَ في نَسَبِكَ طاعِنٌ لم ترضَ فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبِدَعِ فَذُبَّ عنَّا.
ويقال الأبُ يُذكَرُ بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية.
وقال ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يُذكَر احتراماً والأم تُذكَر شفقةً عليها، والله يَرْحَم ولا يُرْحَم.
﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ لأن الحقَّ أحقُّ، ولأنك قد تستوحش كثيراً عن أبيك، والحقُّ سبحانه مُنَزَّهٌ عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضي الواجب حتى إن كان ذرة. وقوله ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ الأب على ما يستحقه والرب على ما يستحقه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾.
خطاب لو قاله مخلوقٌ لَكَ كان شاكراً، ولو أنه شكا منك كما شكا إليك لساءت الحالة، ولكن بفضله أَحَلَّكَ محل أن يشكو إليك فقال : مِنَ الناس من لا يجنح قلبه إلينا، ويرضى بدوننا عنَّا، فلا يبصر غير نفسه وحظِّه، ولا يمكن إيمان له بربه وحقِّه.
ويقال الحسنة في الدنيا العزوف عنها، والحسنة في الآخرة الصون عن مساكنتها. والوقاية من النار ونيران الفُرقة إذ اللام في قوله ﴿ النَّارَ ﴾ لام جنس فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة جميعاً.
ويقال الحسنة في الدنيا شهود بالأسرار وفي الآخرة رؤية بالأبصار.
ويقال حسنة الدنيا ألا يُغنيك عنك وحسنة الآخرة ألا يردك إليك.
ويقال حسنة الدنيا توفيق الخدمة وحسنة الآخرة تحقيق الوصلة.
ويقال ذكر فريقين : منهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا، والثاني يقول في الدنيا والعقبى، وثالث لم يذكرهم وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لأمره، الساكنون عن كل دعاء واقتضاء.
والإشارة منه أَنَّ مَنْ خمدت نفسهُ، وَحى قلبُه واستدام بحقائق الشهود ( سِرُّه ).
فإنْ سَقطَ عنه شيء من فروع الأوراد ففيما هو له مستديمُ من آداب الحضور عِوَضٌ عن الذي يفوت.
والإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم تساعدهم أنوار البصيرة فهم مربوطون بأحكام الظاهر ؛ لا لهم بهذا الحديث إيمان، ولا بهذه الجملة استبصار، فالواجبُ صونُ الأسرار عنهم فإنهم لا يقابِلون هذا الحديث إلا بالإنكار، وإن أهل الوداعة من العوام الذين في قلوبهم تعظيم لهذه الطريقة، و لهم إيمان على الجملة بهذا الحديث لأقرب إلى هذه الطريقة من كثيرٍ ممن عدَّ نفسه من الخواص وهو بمعزل عن الإيمان بهذا الأمر.
﴿ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ : ما كان فيه خراب الأمور الدينية ونظام الأحوال الدنيوية فهو الفاسد الظاهر.
وأنا كذا وكذا ! ثم يكبر عليك (. . . ) فيقول : وأنت أَوْلى بأن تؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا.
أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلَّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء وصفه، لم يطوِ على نصيحة جنبيه وتبقى في القلب - إلى سنين - آثارها.
قال تعالى :﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾ يعني ما هو فيه في الحال من الوحشة وظلمات النَّفْس وضيق الاختيار حتى لا يسعى في شيء غير مراده، فيقع في كل لحظة غير مرة في العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ ﴾[ السجدة : ٢١ ].
و ﴿ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة، وتركِ نزعاتٍ لا عِبْرة بها، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إليها، بل كما قال الله تعالى :﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ ﴾[ القصص : ٧ ] ثم أَبْصِرْ ما الذي فعل به حين أَلْقَتْه، وكيف ردَّه إليها بعدما نجَّاه.
وتلك أفعال في معنى الأحوال، يظهرها الله سبحانه بما يزيل عنهم الإشكال في علو شأنه سبحانه وتعالى، ونفاذ قدرته فيما يريد. ﴿ وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ أي انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير السابق. ولقد استغنت قلوب الموحدين لما فيها من أنوار البصائر عن طلب التأويل لهذه الآية وأمثالها إذ الحق سبحانه مُنَزَّهُ عن كل انتقال وزوال، واختصاص بمكان أو زمان، تقدس عن كل حركة وإتيان.
﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ بزوال تلك النعمة. وعند ذلك يعرفون قدرها، ثم يَنْدُبُونَها ولا يصلون إليها قط، قال قائلهم :
ستهجرني وتتركني *** فتطلبني فلا تَجَدِ
ويقال لم ينفقوا على إشارات الهوى. وإنَّ ما طالعوه تفاصيلُ الأمر وإشارات الشرع. والواو في هذه الآية في قوله :﴿ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى ﴾ تشير إلى نوعٍ من الترتيب ؛ فالأوْلى بمعروفك والداك ثم أقاربك ثم على الترتيب الذي قاله.
وبشرى ضمان الحق باليُسْر أَوْلَى أن تُقْبَل من محذرات هواجس النفوس في حلول العسر وحصول الضر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عِن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
الإشارة من هذا أن أهل الغفلة إذا راودوك أرادوا صَرْفَكَ إلى ما هم عليه من الغفلة، فلا يرضون إلا بأن تفسخ عقد إرادتك بما تعود إليه من سابق حالتك، ومَنْ فسخ مع الله عهده مَسخَ قلبه.
الخمر ما خامر العقول، وكما أن الخمر حرام بعينها بالسُكْر حرام بقوله صلى الله عليه وسلم :" حُرِّمت الخمر بعينها، والسُكْر من كل شراب "، فمن سَكِرَ من شراب الغفلة استحق ما يستحق شارب الخمر من حيث الإشارات، فكما أنَّ السكران ممنوع من الصلاة فصاحب السُكْر بالغفلة محجوب عن المواصلات وأوضح شواهد الوجود، فمَنْ لم يُصَدِّقُ فَلْيُجَرِّب.
ومعنى القمار موجود في أكثر معاملات أهل الغفلة إذا سلكوا طريق الحِيَل والخداع والكذب في المقال. وبذلُ الصدقِ والإنصاف عزيزٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ ويسألونك مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾.
قيل العفوُ ما فضل عن حاجتك، وهذا للخواص يخرجون من فاضل أموالهم عن قدر كفاياتهم، فأمَّا خواص الخواص فطريقهم الإيثار وهو أن يُؤثِر به غيرَه على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحبه الذي يؤثِر به غيباً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
فيُعاملُ كلاً على سواكن قلبه من القُصُود لا على ظواهر كَسْبِه من جميع الفنون.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ﴾.
يقال يحب التوابين من الذنوب، والمتطهرين من العيوب.
ويقال التوابين من الزلة، والمتطهرين من التوهم أن نجاتهم بالتوبة.
ويقال التوّابين من ارتكاب المحظورات، والمتطهرين من المساكنات والملاحظات.
ويقال التوّابين بماء الاستغفار والمتطهرين بصوب ماء الخجل بنعت الانكسار.
ويقال التوَّابين من الزلة، والمتطهرين من الغفلة.
ويقال التوَّابين من شهود التوبة، والمتطهرين من توهم أن شيئاً بالزلة بل الحكم ابتداء من الله تعالى.
﴿ وَقَدِّموا لأَنْفُسِكُمْ ﴾ من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُّلاقُوهُ ﴾ فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم.
ويقال لا تجعلوا ذكر الله شركاً يُصْطَاد به حطام الدنيا.
ولمَّا كان الفراق شديداً عَزَّى المرأة بأن قال إنه ﴿ السَّمِيعُ ﴾ أي سمعنا موحش تلك القالة، فهذا تعزية لها من الحق سبحانه.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ﴾.
يعني إنْ انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النَّسَبِ.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ ﴾.
يعني مَنْ سَبَقَ له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع في النكاح من الثلمة.
﴿ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا ﴾.
يعني أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعدما أرجعها.
﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ ﴾.
يعني إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال. ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
في الفضيلة، ولهن مزية في الضعف وعجز البشرية.
إنْ تَبْيَنْتُ أَنَّ عَزْمَكِ قتلى | فذريني أضني قليلاً قليلا |
إمَّا صحبة جميلة أو فُرْقة جميلة. فأمَّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مَرَْضِيٍ في الطريقة، ولا محمود في الشريعة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾.
فإِن في الخبر " العائد في هبته كالعائد في قَيْئِه " والرجوع فيما خرجتَ عنه خِسَّة.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾.
يعني إنْ أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنَّ النفس تساوي لصاحبها كل شيء، والرجال إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئاً فلا أقلَّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شيء من المال.
قوله جلّ ذكره :﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.
هذه آداب يُعَلِّمكمها الله ويَسُنُّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه.
والإشارة فيه أن استيلاء المحبة على القلب يُهَوِّن مُقاساة كلِّ شديدة ؛ فلو انطوى الزوجان بعد الفرقة على التحسُّر على ما فاتهما من الوصلة، وندما على ذلك غاية الندامة فلا جناح عليهما أن يتراجعا، والمرأة في هذه الحالة كأنها (. . . ) من الزوج الأول بمكان الزوج الثاني والزوج كالآتي على نفسه في احتمال ذلك.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾.
يعني لا يعودان بعد ذلك إلى الفراق ثانياً إذا علما حاجة أحدهما إلى صاحبه، قال قائلهم :
ولقد حلفت لئن لقيتك مرةً | ألا أعود إلى فراقك ثانية |
بل إذا رضيت بكفوٍ يخطبها فحرام عليكم ظلمها. والتذويبُ عن أوصاف البشرية بقهر النفس أشَدُّ مجاهدةً وأصدقُ معاملة لله.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ ﴾.
يعني الأب عليه رزقهن وكسوتهن - أي المرضعات - بالمعروف. لمَّا يَنُبْن عنك وَجَبَ حَقَّهُن عليك، فإِنَّ مَنْ لك كله فعليك كله.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾.
ادخارُ المستطاع بُخْلٌ، والوقوفُ - عند العجز - عذر.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾.
في الإرضاع وما يجب عليه.
﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾.
يعني الوالد بولده يعني فيما يلزم من النفقة والشفقة. فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود.
ثم قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَّا آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
يعني فطاماً قبل الحولين، فلا جناح بعدما كان القصد الصلاح. اشتملت الآية على تمهيد طريق الصحبة، وتعليم محاسن الأخلاق في أحكام العسرة وإن من لا يَرْحَم لا يُرْحَم.
وقال صلى الله عليه وسلم لمن ذكر أنه لم يُقَبِّل أولاده :" إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقي ".
وكما تَبْلى وجوهٌ في الثرى | فكذا يَبْلَى عليهن الحَزَن |
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾.
أي تنقضي عدة الأول فإِن حُرْمة الماضي لا تضيع.
ولمَّا وقع عليهن اسمكم فنصف المسمَّى يجب لهن، فإِن الفراق - كيفما كان - فهو شديد، فجعل ما يستحق من العوض كالخَلفِ لها عند تجرع كأس الفرقة.
فإن لم يكن مسمًّى فلا يخلو العقد من متعة ؛ فإن تجرع الفرقة - مجرداً عن الراحة - بلاء عظيم.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
يقال من أخذ بالفضل واقتصر على الفرض فعن قريب يخل بالفرض.
ويقال نسيان الفضل يقرب صاحبه من البخل، وإن من سُنَّةِ الكرام إذا خفيت عليهم مواضع الكرم أن يشحذوا بصائر الجود لتطالع لطائف الكرم فتتوفر دواعيهم في اقتناء أسباب الفضل.
إلى الحول ثم اسم السلام عليكم *** ومَنْ لبَّاك حولاً كاملاً فقد اعتذر
ثم نُسِخَ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بد من انتهاء مدة الحداد ولقد قال قائلهم :
قال : لو مِتَّ لم أَعِشْ *** قلتُ : نافقتَ فاسْكُتِ
أي حيٍ رأيْتَه *** ماتَ وَجْداً بِمَيِّتِ ؟ !
إذا ما تمنى الناسُ روحا وراحةً | تمنيت أن أشكو إليك فتسمع |
ويقال دلّت الآية على عِظَم رتبة الغَنِيِّ حيث سأل منه القرض، ولكن رتبة الفقير في هذا أعظم لأنه سأَل لأَجْله القَرضَ، وقد يسأل القرض من كل أحد ولكن لا يسأل لأجل كل أحد. وفي الخبر " مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي على شعير أخذه لقوت عياله أَبْصِرْ مِمَّن اقترض ولأجل مَنْ اقترض ".
ويقال القرض الحسن ما لا تتطلع عليه لجزاء ولا تطلب بسببه العِوَض.
ويقال القرض الحسن ألا يعطى على الغفلة، وإنما يعطى عن شهود.
ويقال القرض الحسن من العلماء إذا كان عند ظهر الغني، ومن الأكابر إذا كان بشرط الإيثار يعطى ما لا بد منه.
ويقال القرض الحسن من العلماء عن مائتين خَمْسَة، وعلى لسان القوم بذل الكل، وزيادة الروح على ما يبذل.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
يقبض الصدقة من الأغنياء قبض قبوله، ويبسط عليهم بسط خَلَفِه.
ويقال يقبض الرزق أي يُضَيق، يبسط الرزق أي يوسِّع ؛ يقبض على الفقراء ليمتحنَهم بالصبر، ويبسط على الأغنياء ليطالبهم بالشكر.
ويقال يقبض تسلية للفقراء ليطالبهم حتى لا يروا من الأغنياء، ويبسط لئلا يتقلدوا المِنَّةَ من الأغنياء.
ويقال قال للأغنياء : إذا أنا قبضت الرزق على الفقراء فلا تذروهم، وإذا أنا بسطت عليكم فلا تروا ذلك لفضيلة لكم.
ويقال قَبَضَ القلوب بإعراضه وبَسَطَها بإقباله.
ويقال القبض لما غلب القلوب من الخوف، والبسط لما يغلب عليها من الرجاء.
ويقال القبض لقهره والبسط لِبِرَّه.
ويقال القبض لِسرِّه والبسط لكشْفِه.
ويقال القبض للمريدين والبسط للمُرادين.
ويقال القبض للمتسابقين والبسط للعارفين.
ويقال يقبضك عنك ثم يبسطك به.
ويقال القبض حقه، والبسط حظك.
ويقال القبض لمن تولَّى عن الحق، والبسط لمن تجلى له الحق.
ويقال يقبض إذا أَشْهَدَكَ فِعْلَكَ، ويبسط إذا أشهدك فضله.
ويقال يقبض بذكر العذاب ويبسط بذكر الإيجاب.
فلذلك لم يتم قصدهم لأنه لم يَخْلُص - لحقِّ الله - عزمُهم، ولو أنهم قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، فإنه سيدنا ومولانا، ويجب علينا أمره - لعلَّهم وُفِّقُوا لإتمام ما قصدوه.
ويقال إن الله تعالى جعل سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي رَضوا عن الألواح، وعصا موسى عليه السلام، وآثار صاحب نبوتهم. وجعل سكينة هذه الأمة في قلوبهم، فقال :" هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " ثم إن التابوت كان تتداوله أيدي الأعداء وغيرهم ؛ فَمرَّةً كان يُدْفَن ومرة كان يُغلب عليه فيُحمَل، ومرة يُرَد ومرة ومرة. . . وأما قلوب المؤمنين فَحَالَ بين أربابها وبينها، ولم يستودعها ملكاً ولا نبياً، ولا سماء ولا هواء، ولا مكاناً ولا شخصاً، وقال صلى الله عليه وسلم :
" قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " يعني في قبضة الحق سبحانه، وتحت تغليبه وتصريفه، والمراد منه " القدرة "، وشتَّان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليه تَسَلُّط وأمةٍ سكينتهم فيما ليس لمخلوق عليه لسلطان.
ثم قال جلّ ذكره :﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾.
كذلك الخواص في كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾.
فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فَدَاخَلَهم شيء من رعب البشرية، فربط الله على قلوبهم بما ذكَرهم من نصرة الحق سبحانه لأوليائه إذا شاء.
قوله جلّ ذكره :﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
لا بهم ولكن بإذن الله، بمشيئته وعونه ونصرته، والله مع الصابرين بالنصرة والتأييد والقوة.
فقاموا بكل وجهٍ لله بالله ؛ فلذلك نُصِرُوا وَوَجدوا الظفر.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ ﴾.
فلم يبق منهم أثر ولا عين، وقتل داودُ جالوتَ وداود بالإضافة إلى جالوت في الضخامة والجسامة كان بحيث لا تُتَوهَم غلبته إياه ولكن كما قال قائلهم :
استقبلني وسيفه مسلول | وقال لي واحدنا معذول |
لو تظاهر الخلْق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرَّهم عن قوم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّن آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾.
ولكنهم مُصَرّفون بالمشيئة الأزلية، ومسلوبون من الاختيار الذي عليه المدار وبه الاعتبار. والعبودية شدُّ نطاق الخدمة وشهود سابق القسمة.
﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾[ مريم : ٦٥ ] أي هل تعرف أحداً غيره تسمَّى " الله " ؟.
من اعتبر في هذا الاسم الاشتقاق فهو كالمتعارض، فهذا اسم يدل على استحقاق صفات الجلال لا على اشتقاق الألفاظ، فلا يعارض ما لا يعارض فيه من الأقوال.
قوله :﴿ لا إله إلا هو ﴾ : إخبار عن نفي النظير والشبيه، بما استوجب من التقديس والتنزيه. ومن تحقق بهذه القالة لا يرى ذَرّةً من الإثبات بغيره أو من غيره ؛ فلا يرفع إلى غيره حاجته، ولا يشهد من غيره ذرة، فَيَصْدُقُ إليه انقطاعه، ويديم لوجوده انفرادَه، فلا يسمع إلا من الله وبالله، ولا يشهد إلا بالله، ولا يُقْبِلْ إلا على الله، ولا يشتغل إلا بالله، فهو محوٌ عما سِوى الله، فَمَالَهُ شكوى ولا دعوى، ولا يتحرك منه لغيره عِرْقٌ، فإذا استوفى الحق عبداً لم يَبْقَ للحظوظ - ألبتة - مساغ.
ثم إن هذه القالة تقتضي التحقق بها، والفناء عن الموسومات بجملتها، والتحقق بأنه لا سبيل لمخلوق إلى وجود الحق - سبحانه، فلا وصل ولا فصل ولا قُرْبَ ولا بُعدَ، فإن ذلكَ أجمعَ آفاتٌ لا تليق بالقِدَم.
وقوله :﴿ الحي القيوم ﴾ : المتولي لأمور عباده، القائم بكل حركة، و ( المحوي )، لكل عين وأثر.
﴿ لا تأخذه سنة ولا نوم ﴾ لأنه أحدي لا ترهقه غفلة، وصمد لا تمسه علة، وعزيز لا تقاربه قلة، وجبار لا تميزه عزلة، وفَرْدٌ لا تضمه جثة، ووتر لا تحده جهة، وقديم لا تلْحَقُه آفة، وعظيم لا تدركه مسافة.
تَقَدَّس مِنْ جمالِه جلالُه، وجلالُه جمالُه، وسناؤه بهاؤه، وبهاؤه سناؤه، وأزله أبده، وأبده سرمده، وسرمدهِ قدَمُه، وقدمه وجوده.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ﴾
مِلْكاً وإبداعاً، وخَلْقاً واختراعاً.
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾.
من ذا الذي يتنفس بنَفَس (. . . ) إلا بإجرائه، أو يتوسل إليه من دون إذنه وإبدائه. ومن ظنَّ أنه يتوسل إليه باستحقاقٍ أو عمل، أو تذلل أو أمل، أو قربة أو نسب، أو علة أو سبب - فالظنُّ وطنه والجهل مألفه والغلظ غايته والبعد قُصاراه.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾
لأنه لا يخرج عن علمه معلوم، ولا يلتبس عليه موجود ولا معدوم.
﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ﴾.
يعني من معلوماته، أي تقاصرت العلوم عن الإحاطة بمعلوماته إلا بإذنه.
فأي طمع لها في الإحاطة بذاته وحقه ؟ وأَنَّى تجوز الإحاطة عليه وهو لا يقطعه في عِزِّه أَمَد، ولا يدركه حَدٌّ ؟ !.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾.
خطاب لهم على قدر فهمهم. وإلا فأي خَطَرٍ للأكوان عند صفاته ؟
جلَّ قَدْرُه عن التعزز بعرش أو كرسي، والتجمل بجنٍ أو إنْسِي.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِىُّ العَظِيمُ ﴾.
كَيف تُتْعِبُ المخلوقاتُ مَنْ خَلْقُ الذرة والكونِ بجملته - لو سواء ؛ فلا من القليل له تَيَسُّر، ولا من الكثير عليه تَعَسُّر.
﴿ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغي ﴾ وامتاز الليل بظلامه عن النهار بضيائه، والحقوق الأزلية معلومة، والحدود الأولية معلولة فهذا بنعت القدم وهذا بوصف العَدَم.
﴿ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ وطاغوتُ كلِّ واحدٍ ما يشغله عن ربه.
﴿ وَيُؤْمِنُ بِاللهِ ﴾ والإيمان حياة القلب بالله.
﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقِى ﴾ الاستمساك بالعروة الوثقى الوقوف عند الأمر والنهي، وهو سلوك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
﴿ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ فمن تحقق بها سراً، وتعلَّق بها جهراً فاز في الدارين وسَعِد في الكونين.
الولي بمعنى المتولي لأمورهم، والمتفرد بإصلاح شؤونهم، ويصح أن يكون الولي على وزن فعيل في معنى المفعول فالمؤمنون يقولون طاعته. وكلاهما حق : فالأول جمع والثاني فرق، وكلُّ جمع لا يكون مقيداً بفرقٍ وكلُّ فرقٍ لا يكون مؤيداً بجمع فذلك خطأ وصاحبه مبطل والآية تُحْمَلُ عليهما جميعاً.
﴿ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾.
يعني بحكمه الأزلي صانهم عن الظلمات التي هي الضلال والبدع، لأنهم ما كانوا في الظلمات قط في سابق علمه.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾.
ما استهواهم من دواعي الكفر.
﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
باستيلاء الشُبَه على قلوبهم، فيجحدون الربوبية، أولئك الذين بقوا عن الحق بقاء أبدياً.
ويقال بخرجهم من ظلمات تدبيرهم إلى سعة شهود تقديره.
ويقال يخرجهم من ظلمات ظنونهم أنهم يتوسلون أو يَصِلُون إليه بشيء من سكناتهم وحركاتهم.
ويقال يخرجهم من ظلماتهم بأن يرفع عنهم ظِلْ أنفسهم ويدخلهم في ظل عنايته.
ويقال يخلصهم عن حسبان النجاة بهم.
ويقال يحول بينهم وبين الاعتماد على أعمالهم والاستناد إلى أحوالهم.
عَجَّل الحق سبحانه لأعدائه عقوبة الفرقة قبل أن يعاقبهم بالحرقة، وهذه العقوبة أشد أثراً في التحقيق - لو كانت لهم عين البصيرة.
وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه :﴿ أو لم تؤمن قال بلى ﴾ كنت أومن ولكني اشتقتُ إلى قولك لي : أَوَ لم تؤمن، فإن بقولك لي :﴿ أو لم تؤمن ﴾ تطميناً لقلبي. والمحبُّ أبداً يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.
وقيل : إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فَمُنِعَ منها بالإشارة بقوله ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. وإن موسى - عليه السلام - لما سأل الرؤية جهراً وقال :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾[ الأعراف : ١٤٣ ] فَرُدَّ بالجهر صريحاً وقيل له ﴿ لَن تَرَانِي ﴾.
وقيل إنما طلب حياة قلبه فأُشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور، وفي الطيور الأربعة طاووس، والإشارة إلى ذبحه تعني زينة الدنيا، وزهرتها، والغراب لحِرصِه، والديك لمشيته، والبط لطلبه لرزقه.
ولما قال إبراهيم عليه السلام ﴿ أرِنِى كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى ﴾ ؟ قيل له : وأرني كيف تذبح الحي ؟ يعني إسماعيل، مطالبة بمطالبة. فلمَّا وَفَّى بما طولب به وفَّى الحق سبحانه بحكم ما طلب.
وقيل كان تحت ميعاد من الحق - سبحانه - أن يتخذه خليلاً، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده، فجرى ما جرى.
ووصل بين قصة الخليل صلى الله عليه وسلم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عُزَير إذ أراه في نفسه ؛ لأن الخليل يَرْجُح على عزير في السؤال وفي الحال، فإن إبراهيم - عليه السلام - لم يَرُدَّ عليه في شيء ولكنه تَلَطَّف في السؤال، وعُزَير كلمه كلام من يُشْبِه قولُه قولَ المسْتَبْعِد، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمَّ دلالة حيث أظهر إحياءَ الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم - عليه السلام - ربي الذي يحيي ويميت، فقال :﴿ أَنَا أُحْييِ وَأُمِيتُ ﴾ أراد إبراهيم أن يُرِيَه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادَّعى.
وفي هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادةَ اليقين من الله سبحانه وتعالى في حال النظر.
ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام، فقيل له :﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ يعني أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شيء رأيته﴿ هَذَا رَبِّى ﴾[ الأنعام : ٧٧ ] فلم تَدْرِ كيف بَلَّغْنَاكَ إلى هذه الغاية، فكذلك يوصلك إلى ما سَمَتْ إليه هِمَّتُك.
والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعني النفس ؛ فَمَنْ لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يَحْيَى قلبُه بالله.
وفيه إشارة أيضاً وهو أنه قال قَطِّعْ بيدك هذه الطيور، وفَرِّقْ أجزاءها، ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعياً، فما كان مذبوحاً بيد صاحب الخلة، مقطعاً مُفَرَّقاً بيده - فإذا ناداه استجاب له كل جزء مُفَرَّق. . كذلك الذي فَرَّقه الحق وشتَّته فإذا ناداه استجاب :
ولو أنَّ فوقي تُرْبةً وَدَعَوْتَنِي | لأجَبْتُ صَوْتَكَ والعِظَامُ رُفَاتُ |
أُريد وصاله ويريد هجري | فأتركُ ما أريد لما يريد |
فلا حَسَنٌ نأتي به يقبلونه | ولا إن أسأنا كان عندهم محو |
ويقال ينفقون ما ينفقون ثم لا يشهدون ألبتة أفعالهم ولا أعمالهم.
ويقال كيف يمنون بشيء تستعذرونه وتستحقونه.
ويقال لا يمنون بفعلهم بل يشهدون المنة لله بتوفيق ذلك عليهم.
ويقال إقرار منك مع الله بعجزك وجُرْمك، وغفران الله لك على تلك القالة - خبرٌ مِنْ صَدَقَةٍ بالمنِّ مشوبة، وبالأذى مصحوبة.
ليس إجلالُكَ الكبار بِذُلِّ | إنما الذُّلُّ أنْ تُجِلَّ الصِّغَارا |
ويقال مَثَلُ هؤلاء كالذي أنبت زرعاً فزكا أصله ونما فصله، وعلا فَرْعُه وكثر نَفْعُه. ومَثَلُ هؤلاء كالذي خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت - على كبره - حيلته وتواترت من كل وجهٍ وفي كل وقت محنته. . . هل يستويان مثلاً ؟ هل يتقاربان شَبَها ؟
ويقال مَثَلُ هؤلاء كالذي أنبت زرعاً فزكا أصله ونما فصله، وعلا فَرْعُه وكثر نَفْعُه. ومَثَلُ هؤلاء كالذي خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت - على كبره - حيلته وتواترت من كل وجهٍ وفي كل وقت محنته... هل يستويان مثلاً ؟ هل يتقاربان شَبَها ؟
ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه، بل أبصر كيف يقلبه منك، بل أبصر كيف يمدحك بل أبصر كيف ينسبه إليك ؛ الكلُّ منه فضلاً لكنه ينسبه إليك فعلاً، ثم يُولِي عليك عطاءه ويسمي العطاء جزاءً، يوسعك بتوفيقه بِرًّاً، ثم يملأ العَالَم منك شكراً.
الشيطانُ يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم، ويقال يشير عليكم - بطاعته- بالحرص ؛ ولا فقرَ فوقه.
يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم.
يعدكم الفقر بنسيان ما تَعَوَّدْتُموه من فضله - سبحانه.
ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك.
ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه.
ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته.
﴿ وَيَأْمُرُكُم بِالفَحْشَاءِ ﴾ أي الرغبة في الدنيا، ويقال بالأسباب التي تقوي الحرص، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة، ويقال بمتابعة الشهوات، ويقال بإيثار الحظوظ، ويقال بالنظر إلى غيره، ويقال بإخطار شيء سواه ببالك.
ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرُّخص والتأويلات بعد وضوح الحق.
ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله.
﴿ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ﴾ : الفضل الموعود - في العاجل - القناعة، وفي الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و(. . . . ) والغفران.
ويقال في العاجل الظفر بالنفس، ويقال فتح باب العرفان، ونشر بساط القرب، والتلقي لمكاشفات الأنْس.
ويقال الحكمة صواب الأمور.
ويقال هي ألا تحكم عليك رعوناتُ البشرية.
( ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره ).
ويقال الحكمة موافقة أمر الله تعالى، والسَّفَهُ مخالفة أمره.
ويقال الحكمة شهود الحق والسَّفَهُ شهود الغير.
[ الطور : ٤٨ ] فلا شيء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه، فليحذر المريد من إزلال نفسه في ذلك غايةَ الحذر.
كأنَّ فجاجَ الأرض ضاقَتْ بِرَحْبِها | عليهم فما تزداد طولاً ولا عرضا |
والفقير الصادق واقف مع الله بالله، لا إشراف للأجانب عليه، ولا سبيل لمخلوق إليه تنظره عين الأغيار في لبسة سوى ما هو به ؛ قال تعالى :﴿ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ فأما من كان ذا بصيرة فلا إشكال عليه في شيء من أحوالهم. تعرفهم يا محمد - أنت - بسيماهم، فليست تلك السيماء مما يلوح للبصر ولكنها سيماء تدركها البصيرة. لا إشراف عليهم إلا بنور الأحدية.
ويقال :﴿ تَعرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ﴾ : استبشار قلوبهم عند انكسار نفوسهم، وصياح أسرارهم إلى العرش ( نشاطاً عنه ) عند ذبول ظاهرهم عن الانتعاش.
ويقال تكسر الظاهر عند تكسر الباطن وبالعكس من هذه لا يسألون الناس إلحافاً، فإن جرى منهم من الخلق بدون الإلحاف سؤال - لما يشير إليه دليل الخطاب - فذلك صيانة لهم ولسر قصتهم، لئلا يلاحظهم الخلْق بعين السؤال، وليس على سرّهم ذرة من الإثبات للأغيار.
ويقال :﴿ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ : وقفوا على حكم الله، وأحْصَرُوا نفوسَهم على طاعته وقلوبَهم على معرفته، وأرواحَهم على محبته، وأسرارَهم على رؤيته.
ومَنْ انتبه بزواجر الوعظ، وكَبَحَ لجامَ الهوى، ولم يُطْلِقْ عنان الإصرار فَلَهُ الإمهال في الحال، فإنْ عاد إلى مذموم تلك الأحوال فَلْيَنْتَظِرُوا أوشكَ الاستئصالِ وفجاءة النّكال.
ومقصودُك من تسويلات النفس، وموعودك مما ضمنه الحق.
قوله :﴿ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾. ليس للفقير المفلس وجه يحصل له منه شيء إلا من حيث ما جعل الله سبحانه من سهم الغارمين، فأمَّا من جهة الغلات فالغلة تدخل من رقاب الأموال والعقد. . وأنَّى للمفلس به ؟ !
وأمَّا الربح في التجارة من تقليب رأس المال والتصرُّف فيه. . فأنَّى للمفلس به ؟ !
ما بقي للمفلس إلا قول من قال من الفقهاء (. . . . ) وإن كان ضعيفاً، فلذلك لمن بقيت له منه الحراك أما المفلس عن قوته - كما هو مفلس عن ماله - ما بقي له وجه إلا ما يسبب له مولاه.
وقال للعوام :﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾ وقال للخواص :﴿ وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ ﴾.
ومن شرع اليومَ ما يقطع الخصومة بينهم فبالحري أن يجري ما يرفع في الآخرة آثار الخصومة بينهم، وفي الخبر المنقول :" تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالي عليكم، فإن الكريم إذا قدر غفر ".
وفيما شرع من الدَيْن رِفْق بأرباب الحاجات، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال، ويضيق به الصدر عن الاحتمال، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال، فأذِنَ له في الاستدانة ليَجْبُرَ أمرهَ في الحال، وينتظرَ فضل الله في المآل، وقد وعد على الإدانة الثوابَ الكثير، وذلك من لطفه تعالى.
ويقال ما " تبديه " : العبادة، " وما تخفيه " الإرادة.
ويقال ما " تخفيه " : الخطرات و " ما تبديه " :" العبارات ".
ويقال ما " تخفيه " : السكنات والحركات.
ويقال الإشارة فيه إلى استدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة، فلا تغفل خطرة ولا تحمل وقتك نَفَساً.
ويقال آمن الخَلْق كلُّهم من حيث البرهان وآمن الرسول - عليه السلام - من حيث العيان.
ويقال آمن الخَلْق بالوسائط وآمن محمد - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة.
ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القَدْر فقال :﴿ آمَنَ الرَّسُولُ ﴾، ولم يقل آمَنتَ، كما تقول لعظيم الشأن من الناس : قال الشيخ، وأنت تريد قلتَ.
ويقال :﴿ آمَنَ الرَّسُولً كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾، ولكن شتان بين إيمان وإيمان، الكلُّ آمنوا استدلالاً، وأنت يا محمد آمنتَ وصالاً.
لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير، كل ذلك رِفق منه وفضل. ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾.
من الخيرات.
﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾.
ما تكسبه من التوبة التي تُنَجِّي من كسب.
قوله جلّ ذكره :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾.
كان إذا وقعت حاجة كلَّموه بلسان الواسطة. قالوا :﴿ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾
[ الأعراف : ١٣٤ ] وهذه الأمة قال لهم :﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾[ غافر : ٦٠ ].
وكانت الأمم ( السالفة ) إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضي مدة لقبول التوبة، وفي هذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم :" الندم توبة ".
وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم، وخصائصُهم أكثر من أن يأتي عليه الشرح.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾.
في الحال.
﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾.
في المآل.
﴿ وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ﴾.
في جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك.
ولمَّا قالوا :﴿ وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ خَسَفَ الله ذنوبهم بدل خسف المتقدمين، فأبدل ذنوبهم حسنات بدل مسخهم، وأمطر عليهم الرحمة بدل ما أمطر على المتقدمين من الحجارة.
والحمد لله رب العالمين.