تفسير سورة الحج

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، إلا ﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف ﴾ الآيتين وإلا ﴿ هذان خصمان ﴾ الست آيات فمدنيات، وهي ثمان، وقيل : خمس أو ست أو سبع وسبعون آية.
﴿ بسم الله ﴾ أي : الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ برحمته كل موجود ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص بفضله من شاء من عباده. ولما ختمت السورة التي قبل هذه بالترهيب من الفزع الأكبر وطي السماء وإتيان ما يوعدون، وكان أعظم ذلك يوم الدين افتتحت هذه السورة بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم بقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ﴾.

﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : الذين تقدّم أوّل تلك أنه اقترب لهم حسابهم إن أريد أنّ ذلك عام وإلا فهم وغيرهم ﴿ اتقوا ﴾ أي : احذروا عقاب ﴿ ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية الطاعات، ولما أمرهم بالتقوى علل ذلك مرهباً لهم بقوله تعالى :﴿ إنّ زلزلة الساعة ﴾ أي : حركتها الشديدة للأشياء على الإسناد المجازي، فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله، ويصح أن يكون إلى المفعول فيه على طريق الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى :﴿ بل مكر الليل والنهار ﴾ [ سبأ، ٣٣ ]، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى :﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ﴾ [ الزلزلة، ١ ] واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة، وعن علقمة والشعبي عند طلوع الشمس من مغربها الذي هو أقرب للساعة ﴿ شيء عظيم ﴾ أي : أمر كبير وخطر جليل وحادث هائل لا تحتمل العقول وصفه وهذا للزلزلة نفسها، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بدّ لكم من الحشر فيه إلى الله تعالى ليجازيكم على ما كان منكم لا ينسى منه نقير ولا قطمير.
﴿ يوم ترونها ﴾ أي : الزلزلة أو الساعة، أو كل مرضعة أضمرها قبل الذكر تهويلاً للأمر، وترويعاً للنفس ﴿ تذهل ﴾ بسبب ذلك ﴿ كل مرضعة ﴾ أي : بالفعل أي : تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، والعامل في يوم تذهل.
فإن قيل : لم قال تعالى :﴿ مرضعة ﴾، ولم يقل : مرضع ؟ أجيب : بأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للطفل والمرضع التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وضعها، فقال : مرضعة ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت ثديها تنزعه من فيه لما يلحقها من الدهشة ﴿ عما أرضعت ﴾ عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته، وهو الطفل، فما إمّا مصدرية أو موصولة ﴿ وتضع كل ذات حمل حملها ﴾ أي : تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً.
تنبيه : هذا ظاهر على القول الثاني وهو قول علقمة والشعبيّ على أنّ ذلك يكون عند طلوع الشمس من مغربها، وأمّا على القول الأوّل وهو قول الحسن على أنّ ذلك يوم القيامة كيف يكون ذلك ؟ فقيل : هو تصوير لهولها، قاله البيضاوي، وقال البقاعي في المرضعة : هي من ماتت مع ابنها رضيعاً، وفي ذات الحمل : من ماتت حاملاً، فإنّ كل أحد يقوم على ما مات عليه، وهذا أولى فإني في حال كتابتي في هذا المحل حضر عندي سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته، فذكرت له هذين القولين، فانشرح صدره لترجيح هذا الثاني، وذلك يوم تاسوعاء من شهر الله المحرّم سنة ست وخمسين وتسعمائة، وعن الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام.
ويؤيد أنّ هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم، فيقول : لبيك وسعديك زاد في رواية والخير في يديك فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ؛ قال : يا رب، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تضع الحوامل حملها، ويشيب الوليد وساق بقية الآية »، وهي ﴿ وترى الناس سكارى ﴾ أي : لما هم فيه من الدهشة والحيرة، ثم بيّن الله تعالى أنّ ذلك ليس بسكر حقيقة بقوله تعالى :﴿ وما هم بسكارى ﴾ أي : من الشراب، ولما نفى أن يكونوا سكارى من الشراب أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة بقوله :﴿ ولكنّ عذاب الله ﴾ ذي العزة والجبروت ﴿ شديد ﴾ فهو الذي أوجب أن يظن بهم السكر ؛ لأنّ هوله أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم، تم الحديث عند آخر الآية، «فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم زاد في رواية قالوا : يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار، وإني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال : ثلث أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال : شطر أهل الجنة فكبّرنا »، وفي رواية :«إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة ».
روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فلم نرَ أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال ذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث بعث النار وذلك نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ثم قال :«يدخل من أمّتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب » قال عمر : سبعون ألفاً ؟ قال :«نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً ».
وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وسكون الكاف فيهما، والباقون بضم السين وفتح الكاف وبعد الكاف ألف، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح. ونزل في النضر بن الحرث، وكان كثير الجدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول : الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وكان ينكر البعث وإحياء من صار تراباً
﴿ ومن الناس ﴾ أي : المذبذبين ﴿ من ﴾ لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيبها، فيكذب فيؤبق بسوء عمله ؛ لأنه ﴿ يجادل في الله ﴾ أي : في قدرته على ذلك اليوم، وفي غير ذلك بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم ﴿ بغير علم ﴾ بل بالباطل الذي هو جهل صرف فيترك اتباع الهداة ﴿ ويتبع ﴾ بغاية جهده في جداله ﴿ كل شيطان ﴾ محترق بالسوء مبعد باللعن ﴿ مريد ﴾ أي : متجرّد للفساد ولا شغل له غيره ؛ قال البيضاوي : وأصله العري أي : عن الساتر.
﴿ كتب ﴾ أي : قدّر وقضي على سبيل الحتم الذي لا بدّ منه تعبيراً باللازم عن الملزوم ﴿ عليه ﴾ أي : على ذلك الشيطان ﴿ أنه ﴾ أي : الشأن ﴿ من تولاه ﴾ أي : فعل معه فعل الولي مع وليه باتباعه والإقبال على ما يزينه ﴿ فإنه يضله ﴾ بما يبغض إليه من الطاعات، فيخطئ سبيل الخير ﴿ ويهديه ﴾ أي : بما يزين له من الشهوات الحاملة على الزلات ﴿ إلى عذاب السعير ﴾ أي : النار.
ثم ألزم الحجة منكري البعث بقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : كافة ويجوز أن يراد به المنكر فقط ﴿ إن كنتم في ريب ﴾ أي : شك وتهمة وحاجة إلى البيان ﴿ من البعث ﴾ وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها فتفكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أنّ القادر على خلقكم أوّلاً قادر على خلقكم ثانياً، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة :
المرتبة الأولى : قوله تعالى :﴿ فإنّا خلقناكم ﴾ بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء ﴿ من تراب ﴾ لم يسبق له اتصاف بالحياة، وفي الخلق من تراب وجهان ؛ أحدهما : أنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه الصلاة والسلام من تراب كما قال تعالى :﴿ كمثل آدم خلقه من تراب ﴾ [ آل عمران، ٥٩ ]، الثاني : من الأغذية والأغذية إمّا حيوانية وإما نباتية وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعاً للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله تعالى :﴿ إنا خلقناكم من تراب ﴾.
المرتبة الثانية : قوله تعالى :﴿ ثم من نطفة ﴾ وحالها أبعد شيء عن حال التراب فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال تعالى :﴿ من ماء دافق ﴾ [ الطارق، ٦ ] وأصلها الماء القليل ؛ قاله البغوي، وأصل النطف الصب ؛ قاله البيضاوي.
المرتبة الثالثة : قوله تعالى :﴿ ثم من علقة ﴾ أي : قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة.
المرتبة الرابعة : قوله تعالى :﴿ ثم من مضغة ﴾ أي : قطعة لحم صغيرة وهي في الأصل قدر ما يمضغ ﴿ مخلقة ﴾ أي : مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب يقال : خلق السواك والعود سوّاه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء ﴿ وغير مخلقة ﴾ أي : وغير مسوّاة، فكأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد : المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط، وقال قوم : المخلقة المصوّرة وغير المخلقة غير المصوّرة، وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل، واحتجوا بما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه قال : إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم دماً، ولم تكن نسمة، وإن قال : مخلقة قال الملك : أي رب ذكر أم أنثى، وشقيّ أم سعيد، ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض تموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أمّ الكتاب فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال : حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق :«إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » فكأنه تعالى يقول : إنما نقلناكم من حال إلى حال، ومن خلقه إلى خلقة ﴿ لنبيّن لكم ﴾ بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا، وإنّ من قدر على خلق البشر من التراب والماء أوّلاً، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبدأه بل هو أدخل في القدرة من تلك وأهون في القياس، وورود الفعل غير معدّى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يحيط به الوصف ولا يكتنهه الذكر ﴿ ونقرّ في الأرحام ﴾ أي : من ذلك الذي خلقناه ﴿ ما نشاء ﴾ إتمامه ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه آخر أربع سنين بحسب قوّة الأرحام وضعفها، وقوّة المخلقات وضعفها وكثرة تغذيه من الدماء، وقلته إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا باريها جلت قدرته وتعالت عظمته، وما لم نشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته دون التمام، أو تحرقه فيضمحل.
المرتبة الخامسة : قوله تعالى :﴿ ثم نخرجكم طفلاً ﴾ وهو معطوف على نبين، ومعناه خلقناكم مدرّجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا، والثاني : أن نقرّ في الأرحام من نقرّ حتى تولدوا في حال الطفولية من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر، وجميع الحواس لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم.
المرتبة السادسة : قوله تعالى :﴿ ثم ﴾ أي : نمدّ أجلكم ﴿ لتبلغوا ﴾ بهذا الانتقال في أسنان الأجسام من الرضاع إلى المراهقة إلى البلوغ إلى الكهولة ﴿ أشدكم ﴾ أي : الكمال والقوّة، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين جمع شدّة كالأنعم جمع نعمة كأنه شدّة في الأمور.
المرتبة السابعة : قوله تعالى :﴿ ومنكم من يتوفى ﴾ أي : عند بلوغ الأشدّ أو قبله ﴿ ومنكم من يردّ ﴾ بالشيخوخة وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه لاستبعاده لولا تكرار المشاهدة عند الناظر لتلك القوّة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط ﴿ إلى أرذل ﴾ أي : أخس ﴿ العمر ﴾ وهو سنّ الهرم فتنقص جميع قواه ﴿ لكيلا يعلم من بعد علم ﴾ كان أوتيه ﴿ شيئاً ﴾ أي : ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر من عرفه حتى يسأل عنه من ساعته يقول لك : من هذا ؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه.
فإن قيل : هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ٥ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ [ التين، ٥ – ٦ ] أجيب : بأن معنى قوله تعالى :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ هو دلالة على الذمّ، فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة، ولذلك قال تعالى :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾، لكن قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة، وقد علم بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، ولما تم هذا الدليل على الساعة بحكم المقدّمات وأصح النتائج، وكان أوّل الإيجاد فيه غير مشاهد ذكر الله تعالى دليلاً آخر على البعث مشاهداً بقوله :﴿ وترى الأرض هامدة ﴾ أي : يابسة ساكنة سكون الميت ﴿ فإذا أنزلنا ﴾ أي : بما لنا من القدرة ﴿ عليها الماء اهتزت ﴾ أي : تحركت وتأهلت لإخراج النبات ﴿ وربت ﴾ أي : ارتفعت، وذلك أوّل ما يظهر منها للعين، وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشئ عن التراب والماء، وقوله تعالى :﴿ وأنبتت ﴾ مجاز ؛ لأنّ الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعاً أي : أنبتت بتقديرنا لا أنها المنبتة ﴿ من كل زوج ﴾ أي : صنف ﴿ بهيج ﴾ أي : حسن نضير من أشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ومقاديرها، قال الجلال المحلي : من زائدة، ولم أرَ من ذكر ذلك من المفسرين.
تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ النبات كما يتوجه من نقص إلى كمال، فكذلك الإنسان المؤمن يترقى من نقص إلى كمال، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعدّ له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود في دار السلام مبرأ عن عوارض هذا العالم،
ولما قرّر سبحانه هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة، وذكر أموراً خمسة أحدها قوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : المذكور من بدء الخلق إلى آخر إحياء الأرض ﴿ بأنّ ﴾ أي : بسبب أن تعلموا أنّ ﴿ الله ﴾ أي : الجامع لأوصاف الكمال ﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الحق ﴾ أي : الثابت الدائم وما سواه فان، ثانيها قوله تعالى :﴿ وأنه يحيي الموتى ﴾ أي : قادر على ذلك وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة، ثالثها : قوله تعالى :﴿ وأنه على كل شيء ﴾ من الخلق وغيره ﴿ قدير ﴾ ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ﴾ [ يس، ٨٢ ].
رابعها : قوله تعالى :﴿ وأن الساعة ﴾ التي تقدّم ذكرها وتقدّم التحذير منها وهي حشر الخلائق كلهم ﴿ آتية لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيها ﴾ أي : بوجه من الوجوه مما دلّ عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله، وهو حكيم لا يخلف ميعاده، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب، خامسها : قوله تعالى :﴿ وأنّ الله يبعث ﴾ بالإحياء ﴿ من في القبور ﴾ بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بدّ أن يفي بما وعد.
ونزل في أبي جهل بن هشام كما قاله ابن عباس :﴿ ومن الناس من يجادل ﴾ أي : بغاية جهده ﴿ في الله ﴾ أي : في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل له ولا خفاء فيه ﴿ بغير علم ﴾ أتاه عن الله تعالى على لسان أحد من أصفيائه أعمّ من أن يكون كتاباً أو غيره ﴿ ولا هدى ﴾ أرشده إليه أعمّ من كونه بضرورة أو استدلال ﴿ ولا كتاب منير ﴾ له نور منه صح لديه أنه من الله تعالى، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل، وقيل : قوله تعالى :﴿ ومن الناس ﴾ كرّر كما كرّرت سائر الأقاصيص، وقيل : الأوّل في المقلدين، وهذا في المقلدين. :
وقوله تعالى :﴿ ثاني عطفة ﴾ حال أي : لاوي عنقه تكبراً عن الإيمان كما قال تعالى :﴿ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً ﴾ [ لقمان، ٧ ] والعطف في الأصل الجانب عن يمين أو شمال، وقوله تعالى :﴿ ليضلّ عن سبيل الله ﴾ علة للجدال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بضمها.
فإن قيل : على قراءة الضمّ ما كان غرضه في جداله الضلال لغيره عن سبيل الله، فكيف علل به وما كان على قراءة الفتح مهتدياً حتى إذا جادل خرج بالجدال عن الهدى إلى الضلال ؟ أجيب عن الأوّل : بأن جداله لما أدّى إلى الضلال جعل كأنه غرضه، وعن الثاني : بأنّ الهدى لما كان معرّضاً له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال الباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. ولما ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه في الدنيا بقوله تعالى :﴿ له في الدنيا خزي ﴾ أي : إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه، وما أعدّ له عليه في الآخرة بقوله تعالى :﴿ ونذيقه يوم القيامة ﴾ الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت ﴿ عذاب الحريق ﴾ أي : الإحراق بالنار، وعن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرّة ويقال له حقيقة أو مجازاً.
﴿ ذلك ﴾ أي : العذاب العظيم ﴿ بما قدمت يداك ﴾ أي : بعملك، ولكن جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد ؛ لأنها آلة أكثر العمل وإضافة ما يؤدي إليهما أنكى ﴿ وأنّ ﴾ أي : وبسبب أنّ ﴿ الله ليس بظلام ﴾ أي : بذي ظلم ما ﴿ للعبيد ﴾ وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم أو أن المبالغة لكثرة العبيد. ونزل في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت به خيراً، واطمأن به، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرّاً، فينقلب عن دينه.
﴿ ومن الناس من يعبد الله ﴾ أي : يعمل على سبيل الاستمرار والتجدّد بما أمر الله به من طاعته ﴿ على حرف ﴾ فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة استمرّ، وإن توهم خوفاً طار وفرّ، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ فإن أصابه خير ﴾ أي : من الدنيا ﴿ اطمأنّ به ﴾ أي : بسببه وثبت على ما هو عليه ﴿ وإن أصابته فتنة ﴾ أي : محنة وسقم في نفسه وماله ﴿ انقلب على وجهه ﴾ أي : رجع إلى الكفر، وعن أبي سعيد الخدريّ :«أن رجلاً من اليهود أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني، فقال : إن الإسلام لا يقال، فنزلت » ولما كان انقلابه هذا مفسدة لدنياه ولآخرته قال تعالى :﴿ خسر الدنيا ﴾ بفوات ما أمّله منها ويكون ذلك سبب التقتير عليه قال تعالى :﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ [ المتئدة، ٦٦ ]، وروي " إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيب ".
﴿ والآخرة ﴾ بالكفر، ثم عظم مصيبته بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم ﴿ هو ﴾ أي : لا غيره. ﴿ الخسران المبين ﴾ أي : البين إذ لا خسران مثله
ثم بين هذا الخسران الذي ردّه إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفيّ بقوله تعالى : ﴿ يدعو ﴾ أي : يعبد حقيقة أو مجازاً ﴿ من دون اللَّه ﴾ أي : غير من الصنم ﴿ ما لا يضرّه ﴾ إن لم يعبده ﴿ وما لا ينفعه ﴾ إن عبده ﴿ ذلك ﴾ أي : الدعاء ﴿ هو الضلال البعيد ﴾ عن الحق والرشاد استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً فطالت وبعدت مسافة ضلاله.
ولما كان الإحسان جالباً للإنسان لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بَيَّن أن ما قيل في جلب النفع إنما هو على سبيل الفرض، فقال تعالى :﴿ يدعو لمن ﴾ أي : من ﴿ ضرّه ﴾ بكونه معبوداً، لأنه يوجب القتل والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿ أقر من نفعه ﴾ الذي يتوقع منه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى.
تنبيه : علم مما تقرّر أنّ اللام في لمن مزيدة كما قال الجلال المحلي، ﴿ فإن قيل ﴾ : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا متناقض.
( أجيب ) بأنّ المعنى إذا حصل ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضرّاً ولا نفعاً فيه بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع به ثم يوم القيامة يقوم هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم بدليل قوله تعالى :﴿ لبئس المولى ﴾ أي : الناصر هو ﴿ ولبئس العشير ﴾ أي : الصاحب هو قال الرازيّ وهذا الوصف بالرؤساء أليق لأنّ ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء.
ولما بين سبحانه وتعالى حال الكفار عقبه بحال المؤمنين بقوله تعالى :﴿ إنّ الله ﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص ﴿ يُدخل الذين آمنوا ﴾ بالله ورسله ﴿ وعملوا ﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات ﴾ من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان ﴿ جنات تجري من تحتها ﴾ أي : في أيّ مكان من أرضها ﴿ الأنهار ﴾.
ولما بين سبحانه وتعالى حال الفريقين قال تعالى ﴿ إن الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ يفعل ما يريد ﴾ من إكرام من يطيعه وإهانة من بعصيه لا دافع له ولا مانع.
وقوله تعالى :﴿ من كان يظنّ أن لن بنصره الله في الدنيا والآخرة ﴾ فيه اختصار والمعنى أنّ الله ناصر رسوله في الدنيا والآخر فمن كان يظنّ خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فالضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل لم يجر له ذكر في هذه الآية ﴿ أجيب ﴾ بأنّ فيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله تعالى :﴿ إن الله يُدخل الذين آمنوا ﴾ والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله، وقيل : الضمير راجع إلى من في أوّل الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى المذكور إذا أمكن ذلك، وعلى هذا المراد بالنصر الرزق. قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله ؟ أي : من يعطني أعطاه الله فكأنه قال من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ﴿ فليمدد بسبب ﴾ أي : بحبل ﴿ إلى السماء ﴾ أي : سقف بيته يشدّ بينه وبين عنقه ﴿ ثم ليقطع ﴾ أي : ليختنق به بأن يقطع نفسه من الأرض كما في الصحاح. وقيل : فليمدد حبلاً إلى سماء الدنيا ثم ليصعد عليه فيجتهد في دفع نصر النبي صلى الله عليه وسلم على الأوّل، أو يحصل رزقه على الثاني، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام والباقون بسكونها ﴿ فلينظر ﴾ ببصره وبصيرته ﴿ هل يُذهبنّ ﴾ وإن اجتهد ﴿ كيده ﴾ في عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته أو أنّ ذلك لا يغلب القسمة فإنّ الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع : اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا، مت غيظاً ونحو ذلك، والحاصل : إن لم يصبر طوعاً صبر كرهاً واختلف في سبب نزول هذه الآية على القول الأوّل فذكروا فيها وجوهاً :
أحدها : كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على الكفار يستبطؤن ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت.
ثانيها : قال مقاتل : نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أنّ الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا.
ثالثها : أنّ حساده وأعداءه كثيرة وكانوا يتوقعون أن لا ينصره وأن لا يعينه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك ﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل ما أنزلنا هذه الآيات لبيان حكمها وإظهار أسرارها ﴿ أنزلناه ﴾ أي : القرآن الباقي وقوله تعالى :﴿ آيات بينات ﴾ أي : معجزاً نظمها كما كان معجزاً حكمها حال وقوله تعالى :﴿ وأنّ الله ﴾ أي : الموصوف بالإكرام كما هو موصوف على محل أنزلناه.
ولما قال تعالى :﴿ وأنّ الله يهدي من يريد ﴾ أنبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه وبدأ بالقسم الأوّل بقوله :﴿ إن الذين آمنوا ﴾ بالله ورسوله وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان الذي هو أدنى وجوه الإيمان ثم شرع في القسم الثاني بقوله تعالى :﴿ والذين هادوا ﴾ أي : انتحلوا دين اليهودية ﴿ والصابئين ﴾ وهم فرقة من النصارى سميت بذلك قيل : لنسبتها إلى صابي عم نوح، وقيل : لخروجهم عن دين إلى دين لآخر، وإطلاق الصابئة على هذا هو المشهور وتارة يوافقونهم في أصول دينهم فتحل مناكحتهم وتارة يخالفونهم فلا تحل مناكحتهم وتطلق أيضاً على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة ويضيفون الآثار إليها وينفون الصانع المختار فهؤلاء لا تحل مناكحتهم وقد أفتى الإصطخري والمحاملي بقتلهم لما استفتى القاهر الفقهاء فيهم فبذلوا له أموالاً كثيرة فتركهم والبلاء قديم وقرأ نافع بالياء التحتية بعد الباء والباقون بهمزة مكسورة بعد الباء الموحدة ﴿ والنصارى ﴾ أي : الذين انتحلوا دين النصرانية ﴿ والمجوس ﴾ قال قتادة : هم عبدة الشمس والقمر والنيران قال :﴿ والذين أشركوا ﴾ هم عبدة الأوثان قال مقاتل : الأديان كلها ستة واحد للرحمن وهو الإسلام، وخمسة للشيطان وقيل : خمسة، أربعة للشيطان، وواحد للرحمن بجعل الصابئين مع النصارى لأنهم فرع منهم كما مر على المشهور وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة ﴿ إنّ الله ﴾ الذي هو أحكم الحاكمين ﴿ يفصل بينهم يوم القيامة ﴾ بإدخال المؤمنين الجنة وغيرهم النار وأدخلت إنَّ على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير :
إنّ الخليفة إنّ اللَّه سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم
ثم ذلك بقوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال ﴿ على كل شيء ﴾ من الأشياء كلها ﴿ شهيد ﴾ أي : عالم به علم مشاهدة.
﴿ ألم تر ﴾ أي تعلم ﴿ أن الله يسجد له ﴾ أي : يخضع منقاداً لأمره سبحانه مسخراً لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها ﴿ من في السماوات ومَنْ في الأرض ﴾ إن خصصت بذلك العاقل أفهم خضوع غيره من باب أولى وإن أدخلت غير العاقل فبالتغليب ثم أتبعه بأشرف ما ذكر مما لا يعقل لأنّ كلاً منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال تعالى :﴿ والشمس والقمر والنجوم ﴾ من الأجرام العلوية فعبد الشمس حمير، والقمر كنانة، والدبران تميم، والشعري لخم، والثريا طيىء، وعطارد أسد، قاله أبو حيان، روى عن عمرو بن دينار قال : سمعت رجلاً يطوف بالبيت ويبكي فإذا هو طاووس فقال أعجبت من بكائي ؟ قلت : نعم. قال : ورب الكعبة إن هذا القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له.
ثم أتبع ذلك أعلى الذوات السفلية فقال ﴿ والجبال ﴾ أي : التي قد نختت منها الأصنام ﴿ والشجر ﴾ أي : التي عبد بعضها ﴿ والدوابّ ﴾ أي : التي عبد منها البقر، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله ولا تأبى عن تدبيره ﴿ وكثير من الناس ﴾ وهم المؤمنون بزيادة الخضوع سجد سجوداً هو منه عبادة مشروعة فحق له الثواب ﴿ وكثير ﴾ أي : من الناس ﴿ حق عليه العذاب ﴾ وهم الكافرون ؛ لأنهم أَبَو، السجود المتوقف على الإيمان ﴿ ومَن يُهن الله ﴾ أي : يُشْقِهِ ﴿ فما له من مكرم ﴾ أي : مسعد، لأنه لا قدرة لغيره أصلاً ﴿ إنّ الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ يفعل ما يشاء ﴾ من الإكرام والإهانة، لا مانع له من ذلك، نقل عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : إنّ رجلاً يتكلم في المشيئة فقال له عليّ يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت ؟ قال بل لما يشاء. قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال : بل حيث يشاء قال : والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
ولما بين تعالى أنّ الله قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر كيفية اختصامهم بقوله تعالى :﴿ هذان خصمان ﴾ أي : المؤمنون خصم والكفار الخمسة خصم وهو يطلق على الواحد والجماعة وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف ﴿ اختصموا ﴾ أي : أوقعوا الخصومة بغاية الجهد ﴿ في ربهم ﴾ أي : دينه، وروى عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذرّ يقسم قسماً إن هذه الآية ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم ﴾ نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيد بن الحارث وعتبة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أخرجاه في الصحيحين وعن ابن عباس قال لما بارز عليّ وحمزة وعبيدة عتبة وشيبة والوليد قالوا لهم : تكلموا نعرفكم. قال أنا عليّ وهذا حمزة وهذا عبيدة فقالوا : أكفاء كرام فقال عليّ أدعوكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عتبة هلم للمبارزة فبارز عليّ شيبة فلم يلبث أن قتله بارز حمزة عتبة فقتله وبارز عبيدة الوليد فصعق عليه فأتى عليّ فقتله فنزلت وعن قتادة نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم قال المسلمون كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فنحن أولى بالله منكم، وعن ابن عباس أنها نزلت كذلك لكن قال أهل الكتاب : نحن أولى بالله وأقدم بين يديكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون : نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنكم تعرفون نبينا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم، وقيل : المؤمنون والكافرون من أيّ ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم، وقيل : الخصمان الجنة والنار لما روي عن أبي هريرة أنه قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها » وعن عكرمة فقالت النار خلقني الله لعقوبته وقال الجنة خلقني الله لرحمته وهذا القول بعيد عن السياق ؛ لأنّ الله تعالى ذكر جزاء الخصمين بقوله تعالى :﴿ فالذين كفروا ﴾ وهو الفصل بينهم المعني بقوله تعالى :﴿ إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة ﴾ ﴿ قطعت ﴾ أي : قدّرت ﴿ لهم ﴾ على تقادير جثثهم ﴿ ثبات من نار ﴾ أي : نيران تحيط بهم إحاطة الثياب سابغة عليهم كما كانوا يسبلون الثياب في الدنيا تفاخراً وتكبراً وعن إبراهيم التيمي أنه قال : سبحان من قطع من النار ثياباً. وعن سعيد بن جبير قال : قطعت من نحاس وليس من الآنية شيء إذا حمى أشدّ حرارة منه. وقال في قوله :﴿ يصبّ ﴾ أي : ادخلوها ﴿ من فوق رؤوسهم الحميم ﴾ قال ابن النحاس يذاب على رؤوسهم ولكن المشهور أنه الماء الحار وعن ابن عباس : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، والجملة حال من الضمير في لهم، أو خبر ثان وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وقرأ حمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا في الوصل، فإن وقف على رؤوسهم فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم وحمزة على أصله في الوقف على رؤوسهم بتسهيل الهمزة.
﴿ يصهر ﴾ أي : يذاب ﴿ به ﴾ من شدّة حرارته ﴿ ما في بطونهم ﴾ من شحم وغيره ﴿ والجلود ﴾ فيكون أثره في الباطن والظاهر سواء وقال ابن عباس يسقون ماء إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون.
﴿ ولهم مقامع ﴾ جمع مقمعة بكسر ثم فتح وهو عمود حديد وقيل : سوط يضرب به الوجه والرأس ليردّ المضروب عن مراده ردّا عنيفاً ثم نفي المجاز بقوله تعالى :﴿ من حديد ﴾ أي : يقمعون بها روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أنّ مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان.
﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا منها ﴾ أي : من تلك الثياب أو من النار ﴿ من غمّ ﴾ أي : كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم ﴿ أعيدوا فيها ﴾ أي : ردّوا إليها بالمقامع، وعن الحسن أنهم يضربون بلهب النار فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً، وعن الفضيل بن عياض قال : والله ما طمعوا في الخروج لأنّ الأرجل مقيدة والأيدي موثقة ولكن يرفعهم لهبها وتردّهم مقامعها وعن الحسن قال كان عمر يقول أكثروا ذكر النار فإنّ حرّها شديد، وقعرها بعيد، وإنّ مقامعها من حديد ﴿ و ﴾ قيل لهم ﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾ أي : البالغ نهاية الإحراق.
ولما ذكر تعالى مالاً حد الخصمين وهم الكافرون أتبعه ما للآخر وهم المؤمنون، وغير الأسلوب فيه حيث لم يقل والذين آمنوا عطفاً على الذين كفروا وأسند الإدخال فيه إلى الله تعالى وأكده بأنّ احماداً لحال المؤمنين وتعظيماً لشأنهم فقال ﴿ إن الله ﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿ يدخل الذين آمنوا ﴾ بالله ورسوله ﴿ وعملوا ﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات ﴾ من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان ﴿ جنات تجري ﴾ أي : دائماً ﴿ من تحتها الأنهار ﴾ أي : المياه الواسعة أينما أردت من أرضها جري لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار، عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال إنّ في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعده » أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح ﴿ يحلون فيها ﴾ من حليت المرأة إذا لبست الحلي في مقابلة ما يزال من بواطن الكفرة وظواهرهم وقوله تعالى ﴿ من أساور ﴾ صفة مفعول محذوف أي : حلياً من أساور ومن زائدة أو تبعيضية وأساور جمع أسورة وهي جمع سوار.
ولما كان المقصود الحث على التقوى المعلية إلى الإنعام بالفضل شوّق إليه بأعلى ما يعرف من الحلية فقال ﴿ من ذهب ﴾ وقوله تعالى :﴿ ولؤلؤ ﴾ معطوف على أساور لا على ذهب لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد المرصعة وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب » أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب وقرأ نافع وعاصم بنصب الهمزة الثانية مع التنوين عطفاً على محل أساور أو إضمار الناصب مثل ويؤتون والباقون بالخفض مع التنوين وأبدل الهمزة الأولى الساكنة حرف مدّ السوسي وأبو بكر هذا حالة الوصل، وأمّا الوقف فحمزة يبدل الأولى واواً وكذا الثانية تبدل واواً له أيضاً فيها الرَّوْم وقوله تعالى :﴿ ولباسهم فيها حرير ﴾ وهو الإبريسم المحرم لبسه على الرجال المكلفين في الدنيا في مقابلة ثياب الكفار كما كان لبسا الكفار في الدنيا حريراً ولباس المؤمنين دون ذلك، وقد ورد في الصحيحين عن عبد الله ابن الزبير عن عمر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «لا تلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ». قال ابن كثير قال عبد الله بن الزبير ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى :﴿ ولباسهم فيها حرير ﴾ انتهى وفي الصحيحين أيضاً عن عمر رضي الله عنه أن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة » قال البقاعي : فيوشك المتشبه بالكفار في لباسهم أن يلحقه الله بهم فلا يموت مسلماً اه والأولى أن يحمل ذلك على أنه لا يلبسه مع السابقين فإنّ من مات على الإسلام لا بدّ من دخوله الجنة أو على من استحله من الرجال المكلفين.
﴿ وهدوا ﴾ أي : في الدنيا ﴿ إلى الطيب من القول ﴾ قال ابن عباس : هو شهادة أن لا إله إلا الله وقيل هو لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله، وقال السدي : هو القرآن. وقال عطاء : هو قول أهل الجنة الحمد لله الذي صدقنا وعده ﴿ وهدوا إلى صراط الحميد ﴾ أي طريق الله المحمود ودينه فكان فعلهم حسناً كما كان قولهم حسناً فدخلوا الجنة التي هي أشرف دار عند خير جار، وحلوا فيها أشرف الحلي كما تحلوا في الدنيا بأشرف الطرائق عكس الكفار فإنهم آثروا الفاني لحضوره وأعرضوا عن الباقي مع شرفه لغياته فدخلوا ناراً كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها.
ثم ذكر تعالى بعد ما فصل بين الفريقين حرمة البيت وعظم جرم من صدّ عنه فقال تعالى :﴿ إن الذين كفروا ﴾ أي : أوقعوا هذا الفعل الخبيث وصح عطف ﴿ ويصدون ﴾ وإن كان مضارعاً على الماضي لأنّ المضارع قد لا يلاحظ منه زمان معين م حال أو استقبال بل يكون المقصود منه الدلالة على مجرّد الاستمرار كما يقال : فلا يحسن إلى الفقراء لا يراد حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه فالصدود منهم مستمرّ دائم للناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : عن طاعته باقتسامهم طرق مكة يقول بعضهم لمن يمرّ به خرج فينا ساحر وآخر يقول شاعر وآخر يقول كاهن فلا تسمعوا منه فإنه يريد أن يردكم عن دينكم حتى قال من أسلم لم يزالوا بي حتى جعلت في أذني الكُرسف مخافة أن أسمع شيئاً من كلامهم وكانوا يؤذون من أسلم إلى غير ذلك من أعمالهم ﴿ و ﴾ يصدّون عن ﴿ المسجد الحرام ﴾ أن تقام شعائره من الطواف بالبيت، والصلاة، والحج، والاعتمار ممن هو أهل ذلك من أوليائنا، ثم وصفه بما يبين شديد ظلمهم في الصدّ عنه بقوله تعالى :﴿ الذين جعلناه ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ للناس ﴾ أي : كلهم ثم بين جعله لهم بقوله تعالى :﴿ سواء العاكف ﴾ أي : المقيم ﴿ فيه والباد ﴾ أي : الطارئ من البادية وهو الجائي إليه من غربة، وقال بعضهم : يدخل في العاكف الغريب إذا جاءه للتعبد وإن لم يكن من أهله قال الزمخشري : وقد استشهد بهذا أصحاب أبي حنيفة قائلين إنّ المراد بالمسجد الحرام مكة على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها انتهى. وأيضاً هو مذهب ابن عمر وعمر ابن عبد العزيز وإسحاق الحنطي المعروف بابن راهويه قال البيضاويّ وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم ﴾ [ البقرة، ٢٤٣ ] الآية. وشرى عمر داراً ليسجن فيها من غير نكير انتهى ووجه الرازي الضعيف بقوله : لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكر ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من الأوقات من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات انتهى واستدل أيضاً للجواز بقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له أسامة بن زيد «يا رسول الله أتنزل غداً بدارك بمكة فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور » وكان عقيل ورث أبا طالب دون علي وجعفر لأنهما كانا مسلمين ولا يورث إلا ما كان الميت مالكاً له قال الروياني : ويكره بيعها وإجارتها للخروج من الخلاف ونازعه النووي في مجموعه وقال : إنه خلاف الأولى لأنه لم يرد فيه نهي مقصود والأوّل كما قال الزركشيّ هو المنصوص بل اعترض على النوويّ فإنه صرّح بكراه بيع المصحف والشطرنج ولم يرد في ذلك نهي مقصود.
تنبيه : محل الخلاف بين العلة في بيع نفس الأرض أمّا البناء فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف أي : إذا لم يكن من أجزاء أرضها قيل : إن إسحاق الحنطيّ ناظر الشافعيّ رضي الله تعالى عنه بمكة في بيع دور مكة فاستدلّ الشافعي بما مرّ واستدلّ هو على المنع بقوله حدّثني بعض التابعين بأنها لا تباع فقال له الشافعيّ : لو قام غيرك مقامك لأمرت بفرك أذنيه، أقول لك : قال الله ورسوله تقول : حدّثني بعض التابعين وقال الرازي فقال إسحاق : فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي. وقرأ حفص سواء بالنصب على أنه ثاني مفعولي جعلناه أي : جعلناه مستوياً العاكف فيه والباد، والباقون بالرفع على أن الجملة مفعول ثان لجعلناه، ويكون للناس حالاً من الهاء ويصح أن يكون حالاً من المستكنّ في للناس بجعله مفعولاً ثانياً لجعلنا وقرأ ورش وأبو عمرو البادي بإثبات الياء بعد الدال وصلاً لا وقفاً وأثبتها ابن كثير وقفاً ووصلاً وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً ﴿ ومن يرد فيه ﴾ أي : المسجد الحرام ﴿ بإلحاد بظلم ﴾ أي : بميل إلى الظلم والإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاداً لحافر وقيل : الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله، وقيل : هو كل شيء منهيّ عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم، وقيل : هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر، وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك، أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد : هو تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال سعيد بن جبير : احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد » وعن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله بلى والله وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له فقال كنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : لا والله وبلى والله.
تنبيه : قوله : بإلحاد بظلم حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال : ومن يرد فيه مراداً أمّا عادلاً عن القصد ظالماً ﴿ نذقه من عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم أي : بعضه وخبر إنّ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، فكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده.
ولما ذكر تعالى الفريقين وجزاء كل وختمه بذكر البيت أتبعه التذكير به فقال تعالى :﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر إذ ﴿ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ﴾ أي : جعلنا له مكان البيت مبوّأ أي : مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة، فإنّ البيت رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها يقال لها : الخجوج كشفت ما حوله فبناه على أسِّهِ القديم، وقيل : بعث الله تعالى له سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن علي دوري فبني عليه، وعن عطاء بن أبي رباح قال : لما أهبط الله آدم عليه السلام كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع تسبيح أهل السماء ودعاءهم وأنس إليهم فهابت الملائكة منه حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها، وقيل في صلاتها فأخفضه الله تعالى إلى الأرض، فلما فقدما كان يسمع منهم استوحش وقيل : أوّل من بني البيت إبراهيم لما روى وورد في الصحيحين عن بي ذر قال :«قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أولاً ؟ قال المسجد الحرام، قلت : ثم أيّ ؟ قال : بيت المقدس قلت كم بينهما قال أربعون سنة » ثم فسر التبوئة بقوله تعالى :﴿ أن لا تشرك بي شيئاً ﴾ فابتدأ بأُسِّ العبادة ورأسها وعطف على النهي قوله تعالى :﴿ وطهر بيتي ﴾ أي : عن كل ما لا يليق به من الأوثان والأقذار وطواف عريان به كما كان العرب تفعل ﴿ للطائفين ﴾ أي : الذين يطوفون بالبيت فإن قيل كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسير للتبوئة ؟ ( أجيب ) بأنّ التبوئة لما كانت مقصودة من أجل العبادة فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفتين، وقال ابن عباس للطائفين بالبيت من غير أهله ﴿ والقائمين ﴾ أي : المقيمين ﴿ والركوع السجود ﴾ أي : المصلين من الكل وقال غيره القائمين هم المصلون لأنّ المصلي لا بدّ أن يكون في صلاته جامعاً بين القيام والركوع والسجود، قال البيضاويّ : ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أنّ كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت.
﴿ وأذن في الناس ﴾ أي : أعلمهم وناد فيهم ﴿ بالحج ﴾ وهو قصد البيت على سبيل التكرار للعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة، وفي المأمور بذلك قولان :
أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه إبراهيم عليه السلام، قالوا : لما فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له أذن في الناس بالحج. قال : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي أخرى على المقام قال إبراهيم : كيف أقول قال جبريل قل لبيك اللهمّ لبيك فهو أوّل من لبى وفي رواية أخرى صعد على الصفا فقال : يا أيها الناس إنّ الله كتب عليكم حج هذا البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهمّ لبيك، وفي رواية أخرى : إنّ الله يدعوكم إلى حج بيته الحرام ليثيبكم به الجنة ويجيركم من الناس فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر، أو شجر، أو آنية، أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرّة حج مرّة، ومن أجاب مرّتين أو أكثر فيحج مرّتين أو أكثر بذلك المقدار، وفي رواية فنادى على جبل أبي قبيس يا أيها الناس إنّ ربكم بنى بيتاً وأوجب الحج عليكم إليه فأجيبوا ربكم والتفت بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجل وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك، وعن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى.
القول الثاني : أنّ المأمور بذلك هو النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختاره أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأنّ ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أنّ محمد صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى لأنّ قوله تعالى :﴿ وإذ بوأنا ﴾ تقديره واذكر يا محمد إذ بوّأنا فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى : وأذن فإليه يرجع الخطاب أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع، روي عن أبي هريرة قال :«خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا » وجواب الأمر ﴿ يأتوك ﴾ أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مجنبين خاشعين من أقطار الأرض كما يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بعد الموت بمثل ذلك ﴿ رجالاً ﴾ أي : مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام ﴿ و ﴾ ركباناً ﴿ على كل ضامر ﴾ أي : بعير مهزول وهو يطلق على الذكر والأنثى.
تنبيه على كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجلاً وركباناً وقوله تعالى :﴿ يأتين ﴾ صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع ﴿ من كل فج ﴾ أي : طريق واسع بين جبلين ﴿ عميق ﴾ أي بعيد روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال كل حسنة بمائة ألف حسنة » وفي هذا دلالة على أنّ المشي أفضل من الركوب وفي ذلك خلاف بين الأئمة محله كتب الفقه.
ولما كان الإنسان ميالاً إلى الفوائد متشوفاً إلى جميل العوائد علل الإتيان بما يرغبه مبيحاً من فضله ما يقصده من أمر المعاش بقوله تعالى :﴿ ليشهدوا ﴾ أي : ليحضروا حضوراً تاماً ﴿ منافع لهم ﴾ واختلف في تلك المنافع فبعضهم حملها على منافع الدنيا وهي أن يتجروا في أيام الحج وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً وهو كما قال الرازي أولى فيأتون لتلك المنافع يتنقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى مشعر، ومن مشهد إلى مشهد، مجموعين بالدعوة، خاشعين بالهيبة، خائفين من السطوة، راجين للمغفرة، ثم يتفرّقون إلى منازلهم ومواطنهم ويتوجهون إلى مساكنهم كالسائرين إلى مواقف الحشر يوم البعث والنشر، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم، فيا أيها المصدقون بأنّ خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله تعالى حجه على بعد أقطارهم وتناي دارهم ممن كان موجوداً في ذلك الزمان وممن كان في ظهور الآباء والأمّهات الأقربين والأبعدين صدّقوا أنّ الداعي من قبلنا بالنفح في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار تراباً وما بين ذلك لأنّ الكل علينا يسير، قال الزمخشريّ : وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات كلها قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
ولما كانت المنافع لا تطيب ولا تثمر إلا بالتقوى وكان الحامل على التقوى ذكر الله تعالى قال تعالى :﴿ ويذكروا اسم الله ﴾ أي : الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره وقيل كنى بالذكر عن الذبح لأنّ ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهاً على أنّ المقصود مما يتقرّب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه.
واختلف في الأيام المعلومات في قوله تعالى ﴿ في أيام معلومات ﴾ فالذي عليه أكثر المفسرين وهو اختيار الشافعيّ وأبي حنيفة أنه عشر ذي الحجة واحتجوا بأنها معلومة عند الناس بحرصهم على علمّها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام، ولتلك الذبائح وقت منها وهو يوم النحر وعن ابن عباس أنها أيام التشريق وقيل يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وقيل يوم النحر إلى آخر أيام التشريق واستدلّ لهذا بقوله تعالى ﴿ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ﴾ وهي الإبل والبقر والغنم من الهدايا والضحايا أي : يذكروا اسم الله تعالى عند نحرها ونحر الضحايا والهدايا يكون في هذه الأيام وتقدّم الكلام على الأيام المعدودات في سورة البقرة عند قوله تعالى :﴿ واذكروا الله في أيام معدودات ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] وقوله تعالى ﴿ فكلوا منها ﴾ أي : لحومها أمر إباحة، وذلك أنّ الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً فأمر الله تعالى بمخالفتهم، واتفق العلماء على أنّ الهدي إذا كان تطوّعاً يجوز للمهتدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوّع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع «فأتى عليّ ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة ونحر عليّ ما غبر أي ما بقي وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة أي بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها » أخرجه مسلم واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل شيئاً منه ؟ قال الشافعي رضيّ الله عنه لا يأكل منه شيئاً وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر رضي الله عنهما لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر، وعن أصحاب أبي حنيفة أنه يأكل من كل من دم التمتع والقرآن ولا يأكل من واجب سواهما وقوله تعالى :﴿ وأطعموا البائس ﴾ أي : الذي أصابه بؤس أي : شدّة ﴿ الفقير ﴾ أي : المحتاج أمر إيجاب وقد قيل به في الأوّل.
﴿ ثم ليقضوا تفثهم ﴾ أي : يزيلوا أوساخهم وشعثهم كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال ﴿ وليوفوا نذورهم ﴾ من الهدايا والضحايا ﴿ وليطوّفوا ﴾ طواف الإفاضة الذي به تمام التحلل ﴿ بالبيت العتيق ﴾ أي القديم لأنه أوّل بيت وضع للناس وقال ابن عباس سمي عتيقاً لأنّ الله تعالى أعتقه من تسلط الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى منه فإن قيل : قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع أجيب بأنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه ولما قصد التسلط عليه أبرهة فعل به ما فعل، وقيل لأنّ الله تعالى أعتقه من الغرق فإنه رفع في أيام الطوفان، وقال مجاهد لأنه لم يملك قط وقيل بيت كريم أي : العتيق بمعنى الكريم، من قولهم عتاق الخيل والطير، والطواف ينقسم إلى ثلاثة هذا ويدخل وقته بعد الوقوف وهذا لا يجبر تركه بدم لأنه ركن الثاني : طواف الوداع ووقته عند إرادة السفر من مكة وهو واجب يجبر تركه بدم، الثالث : طواف القدوم وهو مستحب للحاج والحلال إذا قدم مكة روت عائشة رضي الله تعالى عنها «أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حج » أبو بكر وعمر مثله وقرأ ابن ذكران وليوفوا وليطوفوا بكسر اللام فيهما والباقون بإسكانها وفتح أبو بكر الواو ومن وليوفوا وشدّد الفاء.
وقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ خبر مبتدأ مقدر أي : الأمر أو الشأن ذلك المذكور كما تقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا فقد كان كذا ﴿ ومن يعظم ﴾ أي بغاية جهده ﴿ حرمات الله ﴾ ذي الجلال والإكرام كلها وهي ما لا يحلّ انتهاكه من مناسك الحج وغيرها وقيل : الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحلّ ﴿ فهو ﴾ أي : التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجه واجتناب المنهي عنه كالذبح بذكر اسم غير الله والطواف عرياناً ﴿ خير ﴾ كائن ﴿ له عند ربه ﴾ أي : الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم في الآخرة ومن انتهكها فهو شر عليه عند ربه ثم إنه تعالى بين أحكام الحج بقوله تعالى :﴿ وأحلت لكم الأنعام ﴾ أي : أكلها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم ﴿ إلا ما يتلى ﴾ أي : على سبيل التحذير مستمرّاً ﴿ عليكم ﴾ تحريمه في قوله تعالى ﴿ حرّمت عليكم الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ] الآية فالاستثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم لما عرض من الموت ونحوه فحافظوا على حدوده وإياكم أن تحرّموا مما أحلّ شيئاً كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك وأن تحلوا مما حرم الله شيئاً كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك.
ولما فهم من ذلك حلّ السوائب وما معها وتحريم المذبوح للأنصاب وكان سبب ذلك كله الأوثان تسبب عنه قوله تعالى ﴿ فاجتنبوا ﴾ أي : بغاية الجهد اقتداء بأبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تقدّم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة ﴿ الرجس ﴾ أي : القذر الذي من حقه أنّ يجتنب من غير أمر ثم بينه وميزه بقوله تعالى :﴿ من الأوثان ﴾ أي : الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس فهو بيان للرجس وتمييز له، كقولك عندي عشرون من الدراهم وسمى الأوثان رجساً وكذا الخمر والميسر والأزلام على طريق التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم من الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة، ونبه على هذا المعنى بقوله تعالى ﴿ رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] جعل العلة في اجتنابه أنه رجس والرجس مجتنب وقوله تعالى ﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾ تعميم بعد تخصيص فإنّ عبادة الأوثان رأس الزور لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة كأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع وقيل : قول الزور قولهم : هذا حلال وهذا حرام. وما أشبه ذلك من افترائهم وقيل : هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك له إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل : هو شهادة الزور لما روى أبو داود والترمذي " أنّه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فلما سلم قام قائماً مستقبل الناس بوجهه الكريم وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله قالها ثلاثاً وتلا هذه الآية ".
وقوله تعالى ﴿ حنفاء لله ﴾ أي : مسلمين عادلين عن كل دين سوى دينه ﴿ غير مشركين به ﴾ تأكيد لما قبله وهما حالان من الواو ﴿ ومن يشرك ﴾ أي : يوقع شيئاً من الشرك ﴿ بالله ﴾ الذي له العظمة كلها بشيء من الأشياء في وقت من الأوقات ﴿ فكأنما خر ﴾ أي : سقط ﴿ من السماء ﴾ لعلوّ ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك ﴿ فتخطفه الطير ﴾ أي : تأخذه بسرعة وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض ﴿ أو تهوي به الريح ﴾ أي : حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه ﴿ في مكان ﴾ من الأرض ﴿ سحيق ﴾ بعيد فهو لا يرجى خلاصه.
تنبيه : قال الزمخشري يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه هلاكاً ليس بعده هلاك بأن صوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرّق مزعاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة اه قوله يطوح به الباء مزيدة للتأكيد قال الجوهري : طوّحه أي توّهه وذهب به هاهنا وهاهنا وقرأ نافع بفتح الخاء وتشديد الطاء والباقون بإسكان الخاء وتخفيف الطاء.
ثم عظم ما تقدّم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم الكبير فمن راعاه فاز ومن حاد عنه خاب، ثم عطف عليه ما هو أعمّ من هذا القدر فقال تعالى :﴿ ومن يعظم شعائر الله ﴾ جمع شعيرة وهي البدن التي تهدي للحرم لأنها من معالي الحج بأن يختار عظام الأجرام حساناً سماناً غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها فقد كانوا يغالون في ثلاث، ويكرهون المكاس فيهنّ الهدي والأضحية والرقبة، وروى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما «أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب » وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدّق بلحومها وجلالها ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه ﴿ فإنها ﴾ أي : تعظيمها ناشئ ﴿ من تقوى القلوب ﴾ فمن للابتداء فإن جعلت تبعيضية فلا بدّ من حذف تقديره : فإنّ تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بدّمن راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء وسميت تلك البدن شعائر لإشعارها بما يعرف به أنهار هدي كطعن حديدة بسنامها قال البقاعي : ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو أزيل عن محل الجرح فيكون من الإزالة.
﴿ لكم فيها ﴾ أي : البدن ﴿ منافع ﴾ كركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وعن إبراهيم : من احتاج إلى ظهرها ركب ومن احتاج إلى لبنها شرب وقال أصحاب الرأي : لا يركبها إلا إذا اضطرّ إليها ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ وهو وقت نحرها ﴿ ثم محلها ﴾ أي : مكان حلّ نحرها ﴿ إلى البيت العتيق ﴾ أي : عنده والمراد الحرم جميعه وقيل المراد بالشعائر المناسك ومشاهد الحج وبالمنافع الأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء آجالها وبحملها إلى محل الناس من إحرامهم إلى البيت يطوفون به طواف الزيارة.
﴿ ولكل أمّة ﴾ أي : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم ﴿ جعلنا منسكاً ﴾ أي : متعبداً وقرباناً يتقرّبون به إلى الله تعالى، وقرأ حمزة والكسائي منسكاً هنا وفي آخر السورة بكسر السين في الموضعين فيكون بمعنى الموضع والباقون بفتحها مصدر بمعنى النسك ﴿ ليذكروا اسم الله ﴾ أي : الملك لا على وحده على ذبائحهم وقرابتهم لأنه الرازق لهم وحده فيقولون عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهمّ منك وإليك ثم علل الذكر بالنعمة تنبيها على التفكر فيها فقال تعالى :﴿ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ﴾ فوجب شكره لذلك عليهم، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام ﴿ فإلهكم ﴾ أي : الذي شرع هذه المناسك كلها ﴿ إله واحد ﴾ وإن اختلفت فروع شرائعه، ونسخ بعضها بعضاً، وإذا كان واحداً وجب اختصاصه بالعبادة فلذا قال تعالى :﴿ فله ﴾ وحده ﴿ أسلموا ﴾ أي : انقادوا بجميع ظواهركم وبواطنكم في كل ما أمر به أو نهى عنه ﴿ وبشر المخبتين ﴾ أي : المطيعين المتواضعين من الخبث، وهو المطمئن من الأرض وقيل : هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
ثم بين علاماتهم بقوله تعالى :﴿ الذين إذا ذكر الله ﴾ أي : الذي له الجلال والجمال ﴿ وجلت ﴾ أي : خافت خوفاً مزعجاً ﴿ قلوبهم ﴾ فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى ﴿ والصابرين ﴾ الذين صار الصبر عادتهم ﴿ على ما أصابهم ﴾ من الكلف والمصائب ولما كان ذلك قد يشغل عن الصلاة قال تعالى ﴿ والمقيمي الصلاة ﴾ في أوقاتها والمحافظة عليها، وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع تلك المشاق والشواغل إلا راسخ في حبها فهم لما تمكن حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها كأنهم دائماً في صلاة ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ في وجوه الخير من الهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك إحساناً إلى خلق الله تعالى.
ولما قدّم تعالى الحث على التقرّب بالأنعام كلها وكانت الإبل أعظمها خلقاً وأجلها في أنفسهم أمراً خصها بالذكر فقال تعالى :﴿ والبدن ﴾ أي : الإبل المعروفة جمع بدنة كخشب وخشبة وانتصابه بفعل يفسره ﴿ جعلناها لكم من شعائر الله ﴾ أي : من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى وقيل لأنها تُشْعَر وهي أن تطعن بحديدة في سنامها ليعلم بذلك أنها هدي ﴿ لكم فيها خير ﴾ أي : نفع في الدنيا وثواب في العقبى كما قال ابن عباس دنياً وأخرى، وروى الترمذيّ وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدم وأنه ليؤتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفساً » وروى الدارقطني في السنن عن ابن عباس قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد » وعن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال سمعت ربي يقول ﴿ لكم فيها خير ﴾ ﴿ فاذكروا اسم الله عليها ﴾ أي : على ذبحها بالتكبير حال كونها ﴿ صواف ﴾ أي قائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى لأنّ البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث ﴿ فإذا وجبت جنوبها ﴾ أي : سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً، من وجب الحائط وجبة سقط، ووجبت الشمس وجبة غربت، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع :" ولا تعجلوا النفوس أن تزهق " وقوله تعالى ﴿ فكلوا منها ﴾ أي : إذا كانت تطوّعاً أمر إباحة دفعاً لما قد يظنّ أنه يحرم الأكل منها للأمر بتقريبها لله تعالى :﴿ وأطعموا القانع ﴾ أي المتعرّض للسؤال بخشوع وانكسار ﴿ والمعتر ﴾ أي : السائل وقيل بالعكس وهو قول الشافعيّ رحمه الله تعالى قال في كتاب اختلاف الحديث القانع هو السائل، والمعتر هو الزائر، وقيل : القانع هو الجالس في بيته المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرّض، والمعتر المعترّض وقيل القانع هو المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين، ولا تكون له ذبيحة فيجيء إلى القوم فيتعرّض لهم لأجل لحمهم ﴿ كذلك ﴾ أي مثل هذا التسخير العظيم الذي وصفناه من نحرها قياماً ﴿ سخرناها ﴾ بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك ﴿ لكم ﴾ وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوّتها تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها ولو شئنا لجعلناها وحشية لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ إنعامنا عليكم لتعرفوا أنّ ما ذللها لكم إلا الله تعالى، فيكون حالكم حال من يرجو شكره فتوقعوا لشكر بأن لا تحرّموا منها إلا ما حرّم عليكم ولا تحلوا منها إلا ما أحلّ، وتهدوا منها ما حث على إهدائه وتتصرفوا بحسب ما أمركم.
ولما حث تعالى على التقرّب بها مذكوراً اسمه عليها قال تعالى :﴿ لن ينال الله ﴾ الذي له صفات الكمال ﴿ لحومها ﴾ المأكولة ﴿ ولا دماؤها ﴾ المهراقة أي : لا يرفعان إليه ﴿ ولكن يناله التقوى منكم ﴾ أي : يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الإيمان، كما قال تعالى :﴿ والعمل الصالح يرفعه ﴾ [ فاطر : ١٠ ] أي : يقبله وقيل : كان أهل الجاهلية إذ انحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.
ثم كرّر سبحانه وتعالى التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به بقوله تعالى :﴿ كذلك ﴾ أي : التسخير العظيم ﴿ سخرها لكم ﴾ بعظمته وغناه عنكم ﴿ لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ أي : أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، كأن تقولوا الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعدّي تعديته.
ثم وعد من امتثل الأمر بقوله تعالى :﴿ وبشر المحسنين ﴾ أي : المخلصين فيما يفعلونه ويذرونه كما قال تعالى من قبل ﴿ وبشر المخبتين ﴾ والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير مخبتاً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه، وقال ابن عباس : الموحدين.
وقوله تعالى :﴿ إنّ الله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ يدفع عن الذين آمنوا ﴾ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء والباقون بضم الياء وفتح الدال وبعدها ألف وكسر الفاء أي : يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه ولم يذكر الله تعالى ما يدفعه عنهم حتى يكون أعظم وأفخم وأعمّ وإن كان في الحقيقة أنه يدفع بأس المشركين فلذلك قال تعالى بعده ﴿ إنّ الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ لا يحب ﴾ أي : لا يكرم كما يفعل المحب ﴿ كل خوّان ﴾ في أمانته ﴿ كفور ﴾ لنعمته وهم المشركون، قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا معه شريكاً وكفروا نعمه، فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته وقال مقاتل : يدفع عن الذين آمنوا بمكة حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتلهم سرّاً فنهاهم عن ذلك.
ثم أذن الله تعالى لهم قتالهم بقوله تعالى :﴿ أذن للذين يقاتلون ﴾ أي : المشركين والمأذون فيه وهو في القتال محذوف لدلالة يقاتلون عليه ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ ظلموا ﴾ فكانوا يأتونه صلى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت وهي أوّل آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية وقيل نزلت في قوم بأعيانهم مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي منعوهم من الهجرة بأنهم ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بضم الهمزة والباقون بفتحها.
ولما كان التقدير فإنّ الله أراد إظهار دينه بهم عطف عليه قوله تعالى :﴿ وإنّ الله ﴾ أي : الذي هو الملك الأعلى ﴿ على نصرهم لقدير ﴾ وفي ذلك وعد من الله بنصر المؤمنين.
ثم وصفهم بقوله تعالى :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم ﴾ إلى الشعب والحبشة والمدينة ﴿ بغير حق ﴾ أوجب ذلك ما أخرجوا ﴿ إلا أن يقولوا ﴾ أي : بقولهم ﴿ ربنا الله ﴾ وهذا القول حق والإخراج به إخراج بغير حق ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ﴾ [ المائدة : ٥٩ ].
تنبيه : الذين أخرجوا مجرور نعت للذين يقاتلون، أو بدل منه، أو منصوب على المدح، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف ﴿ ولولا دفع الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء علماً ﴿ الناس بعضهم ببعض ﴾ أي : بتسليط المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم وعلى متعبداتهم كما قال تعالى :﴿ لهدّمت ﴾ أي : خربت ﴿ صوامع ﴾ وهي : معابد صغار للرهبان مرتفعة ﴿ وبيع ﴾ كنائس للنصارى ﴿ وصلوات ﴾ أي : كنائس لليهود وسميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل : هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا ﴿ ومساجد ﴾ للمسلمين ﴿ يذكر فيها ﴾ أي : هذه المواضع المذكورة ﴿ اسم اللَّه ﴾ العليّ العظيم ﴿ كثيراً ﴾ وتنقطع العبادات بخرابها، وقيل : الضمير يرجع للمساجد فقط تشريفاً لها بأن ذكر الله يحصل فيها كثيراً فإن قيل لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد أجيب بأنها أقدم في الوجود وقيل : أخرها في الذكر كما في قوله تعالى :﴿ ومنهم سابق بالخيرات ﴾ [ فاطر، ٣٢ ] ولأنّ الذكر آخر العمل فلما كان نبينا صلى الله عليه وسلم خير الرسل وأمتنا خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون والسابقون » وقيل : أخرها لتكون بعيدة عن الهدم قريبة من الذكر وقرأ نافع دفاع بكسر الدال وفتح الفاء وألف بعدها والباقون بفتح الدال وسكون الفاء وقرى نافع وابن كثير لهدمت بتخفيف الدال والباقون بتشديدها وأظهر التاء عند الصاد نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها الباقون ﴿ ولينصرن الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ من ينصره ﴾ أي : ينصر دينه وأولياءه كائناً من كان منهم أو من غيرهم وقد أنجز الله تعالى وعده بأن سلطا المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم ﴿ إنّ الله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ لقويّ ﴾ أي : على ما يريد ﴿ عزيز ﴾ أي : منيع في سلطانه وقدرته.
وقوله تعالى :﴿ الذين إن مكناهم ﴾ أي : بما لنا من القدرة ﴿ في الأرض ﴾ بإعلائهم على ضدّهم ﴿ أقاموا الصلاة ﴾ أي : التي هي عماد الدين الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ أي المؤذنة بالزهد في الحاصل منه المؤذن بعمل النفس للرحيل ﴿ وأمروا بالمعروف ﴾ أي : الذي أمر الله تعالى ورسوله به ﴿ ونهوا عن المنكر ﴾ أي : الذي نهى الله ورسوله عنه وصف للذين هاجروا وهو إخبار من الله تعالى بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه هذا والله ثناء قبل بلاء يريد أن الله تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا.
تنبيه : في ذلك دليل على صحة خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين وإذا ثبت ذلك وجب أن يكونوا على الحق ولا يجوز حمل الآية على أمير المؤمنين عليّ وحده لأنّ الآية دالة على الجمع، وعن الحسن هم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : الذين منصوب بدل من قوله تعالى من ينصره ﴿ والله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ عاقبة الأمور ﴾ أي : آخر أمور الخلق ومصيرها إليه في الآخرة فلا يكون لأحد فيها أمر حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن منه.
ولما بين سبحانه وتعالى فيما تقدّم إخراج الكفار للمؤمنين من ديارهم بغير حق وأذن في مقاتلتهم وضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم النصرة وبين أنّ الله عاقبة الأمور أردفه بما يرجي مجرى التسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره فقال تعالى :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم ﴾ أي : قبل قومك ﴿ قوم نوح ﴾ وتأنيث قوم باعتبار المعنى وتحقير المكذبين في قدرته وإن كانوا من أشدّ الناس ﴿ وعاد ﴾ أي : ذوو الأبدان الشداد قوم هود ﴿ وثمود ﴾ ولو الأبنية الطوال في السهول والجبال قوم صالح.
﴿ وقوم إبراهيم ﴾ المتجبرون المتكبرون ﴿ وقوم لوط ﴾ الأنجاس بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس.
﴿ وأصحاب مدين ﴾ أرباب الأموال المجموعة من خزائن الضلال فأنت يا أشرف الخلق لست بأوحديّ في التكذيب، فإنّ هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومك.
ولما كان موسى عليه السلام قد أتى من الآيات المرئية ثم المسموعة بما لم يأت بمثله أحدهن تقدّمه فكان تكذيبه في غاية البعد غير سبحانه وتعالى الأسلوب تنبيها على ذلك وعلى أنّ الذين أطبقوا على تكذيبه القبط وأمّا قومه فما كذبه منهم إلا أناس يسير فقال تعالى :﴿ وكذب موسى ﴾ وفي ذلك أيضاً تعظيم للتأسية وتفخيم للتسلية ﴿ فأمليت للكافرين ﴾ أي : أمهلتهم بتأخير العقاب عنهم إلى الوقت الذي ضربته لهم وعبر عن طول الإملاء بأداة التراخي لزيادة التأسية فقال تعالى ﴿ ثم أخذتهم ﴾ أخذ عزيز مقتدر.
ثم نبه سبحانه وتعالى بالاستفهام في قوله تعالى :﴿ فكيف كان نكير ﴾ أي : إنكاري لأفعالهم على أنه كان في أخذهم عبر وعجائب وأهوال وغرائب حيث أيد لهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكاً، وبالعمارة خراباً، والاستفهام للتقرير أي : وهو واقع موقعه فليحذر هؤلاء الذين أتبتهم بأعذم ما أتى به رسول قومه مثل ذلك فإن لم يؤمنوا بك فعلت بهم كما فعلت بهؤلاء وإن كانوا أمكن الناس فلا يحزنك أمرهم.
تنبيه : أثبت ورش الياء بعد الراء من نكير في الوصل وحذفها الباقون وقفاً وصلاً ﴿ فكأين ﴾ أي : وكن ﴿ من قرية ﴾ وقيل : معنى كأين رُبَّ، وقوله تعالى :﴿ أهلكتها ﴾ قرأه أبو عمرو بعد الكاف بتاء فوقية مضمومة والباقون بعد الكاف بنون وبعدها ألف والمراد أهلها بدليل قوله تعالى ﴿ وهي ﴾ أي والحال أنها ﴿ ظالمة ﴾ أي أهلها بكفرهم ويحتمل أن يكون المراد أهلاك نفس القرية فيدخل تحت هلاكها هلاك من فيها لأنّ العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة جعل هالكاً لمن فيها وإن كان الأوّل أقرب ﴿ فهي ﴾ أي : فتسبب عن إهلاكها أنها ﴿ خاوية ﴾ أي : منهدمة ساقطة أي : جدرانها ﴿ على عروشها ﴾ أي : سقوفها إذ كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظله أو كرم فهو عرش والخاوي الساقط من خوى إذا سقط أو الخالي من خوى المنزل إذا خلا من أهله وخوى بطن الحامل.
تنبيه : قوله :﴿ على عروشها ﴾ لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى إنها ساقطة على عروشها أي : سقوفها، أي : تقصفت الأخشاب أوّلاً من كثرة الأمطار وغير ذلك من الأشرار، فسقطت ثم سقط عليها الجدران، فسقطت فوق السقوف أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها وإما أن يكون خبراً بعد خبر كأنه قيل : هي خاوية وهي على عروشها، أي : قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان مائلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة، وقوله :﴿ فهي خاوية ﴾ جملة معطوفة على ﴿ أهلكتها ﴾ لا على ﴿ وهي ظالمة ﴾، فإنها حال كما قدّرته، والإهلاك ليس حال خرابها، فلا محل لها إن نصبت كأين بمقدّر يفسره أهلكتها لأنها معطوفة على جملة أهلكتها كما مرّ، وهي مفسرة لا محل لها، وإن رفعت كأين بالابتداء فمحلها رفع خبراً ثانياً لكأين والخبر الأوّل أهلكتها ﴿ و ﴾ كم من ﴿ بئر معطلة ﴾ أي : متروكة بموت أهلها ﴿ وقصر مشيد ﴾ أي : رفيع خال بموت أهله.
تنبيه : علم مما قدّرته أن بئر معطوف على قرية، وهو يقوي على أنّ عروشها بمعنى مع أوجه، وروي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهي بحضرموت، وإنما سميت بذلك ؛ لأنّ صالحاً حين حضرها مات، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح وأمّروا عليهم جهلس بن جلاس وأقاموا بها زماناً، ثم كفروا وعبدوا صنماً فأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان عليه السلام نبياً فقتلوه، فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم، وخرب قصورهم.
وقوله تعالى :﴿ أفلم يسيروا ﴾ أي : كفار مكة ﴿ في الأرض ﴾ يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله تعالى بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، وإن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا ﴿ فتكون ﴾ أي : فتسبب عن سيرهم أن تكون ﴿ لهم قلوب ﴾ واعية ﴿ يعقلون بها ﴾ ما رأوه بأبصارهم مما نزل بالمكذبين قبلهم ﴿ أو ﴾ أي : أو يكون لهم إن كانوا عمي الأبصار كما دل عليه جعل هذا قسيماً ﴿ آذان يسمعون بها ﴾ أخبارهم بالإهلاك وخراب الديار فيعتبروا ﴿ فإنها ﴾ أي : القصة ﴿ لا تعمى الأبصار ﴾ ويجوز أن يكون الضمير مبهماً يفسره الأبصار وفي تعمى راجع إليه، والمعنى أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى فيها، وإنما العمى لقلوبهم كما قال تعالى :﴿ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾ ولا يعتد بعمى الأبصار، فإنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب.
فإن قيل : فأي فائدة في ذكر الصدور ؟ أجيب : بأن الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة للبصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة وتمثيل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تبيين وفضل تعريف ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك : الذي بين فكيك تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت ؛ لأن محل المضاء هو لا غير، فكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً.
قيل : لما نزل قوله تعالى :﴿ ومن كان في هذه أعمى ﴾ فهو في الآخرة أعمى ؛ قال ابن أم مكتوم : يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى، فنزلت :﴿ ويستعجلونك بالعذاب ﴾ الذي توعدتهم به تكذيباً واستهزاء ﴿ و ﴾ الحال أنه ﴿ لن يخلف الله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ وعده ﴾ لامتناع الخلف فيه وفي خبره سبحانه وتعالى فيصيبهم ما وعدهم به، ولو من بعد حين لكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، وقد أنجزه يوم بدر ﴿ وإنّ يوماً عند ربك ﴾ أي : المحسن إليك بتأخير العذاب عنهم إكراماً لك من أيام الآخرة بالعذاب ﴿ كألف سنة مما تعدّون ﴾ في الدنيا وطول أيامه حقيقة أو من حيث أنّ أيام الشدائد مستطالة، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
﴿ وكأين من قرية أمليت لها ﴾ أي : أمهلتها كما أمهلتكم ﴿ وهي ظالمة ﴾ كظلمكم بالاستعجال وغيره ﴿ ثم أخذتها ﴾ أي : بالعذاب والمراد أهلها ﴿ وإليّ المصير ﴾ أي : المرجع فينقطع كل حكم دون حكمي ففيه وعيد وتهديد.
فإن قيل : لم قال :﴿ فكأين من قرية أهلكناها ﴾ [ الحج، ٤٥ ] بالفاء، وقال هنا بالواو ؟ أجيب : بأنّ الأولى وقعت بدلاً عن قوله تعالى :﴿ فكيف كان نكير ﴾، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدّم من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله تعالى :﴿ ولن يخلف الله وعده وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾،
ولما كان الاستعجال لا يطلب من الرسول وإنما يطلب من المرسل، أمره الله تعالى بأن يديم لهم التخويف والإنذار بقوله تعالى :﴿ قل ﴾. أي : لهم ولا يصدَّنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عملهم ﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : جميعاً من قومك وغيرهم ﴿ إنما أنا لكم نذير مبين ﴾ أي : بين الإنذار والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب،
وذكر الفريقين لأنّ صدر الكلام وسياقه للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم بقوله :﴿ فالذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿ وعملوا ﴾ أي : تصديقاً لدعواهم تلك ﴿ الصالحات لهم مغفرة ﴾ أي : لما فرط منهم ﴿ ورزق ﴾ أي : في الدنيا بالغنائم وغيرها، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿ كريم ﴾ أي : لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره زيادة في غيظهم.
ولما كان في سياق الإنذار قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف :﴿ والذين سعوا ﴾ أي : أوقعوا السعي ولو مرّة واحدة ﴿ في آياتنا ﴾ أي : القرآن بإبطالها ﴿ معجزين ﴾ من اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم أي : ينسبونهم إلى العجز ويثبطونهم عن الإيمان أو مقدّرين عجزنا عنهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الجيم بعد العين على أنها حال مقدّرة والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم أي : مسابقين مشاقين للساعين فيها بالتثبيط ﴿ أولئك ﴾ البعداء البغضاء ﴿ أصحاب الجحيم ﴾ أي : النار استحقاقاً بما سعوا فيسكنهم فيها ليعلموا أنهم هم العاجزون.
ولما لاح من ذلك أنّ الشيطان ألقى شبهاً يفاخرون فيها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإظهاره وتقريره وإشهاره عطف عليه تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا ﴾ أي : بعظمتنا ﴿ من قبلك ﴾ ثم أكد الاستغراق بقوله تعالى :﴿ من رسول ﴾ وهو نبيّ أمر بالتبليغ ﴿ ولا نبيّ ﴾ وهو من لم يؤمر بالتبليغ وهذا هو المشهور، فمعنى أرسلنا أوحينا، فالنبي أعم من الرسول، ويدل عليه ما رواه الإمام أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم " سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل : فكم الرسل، فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً ".
وقيل : كما هو ظاهر الآية الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه، والنبيّ غير الرسول من لا كتاب له، وقيل : يمكن حمل الآية عليه أيضاً، والرسول من يأتيه الكتاب، والنبيّ يقال له ولمن يوحى إليه في المنام ﴿ إلا إذا تمنّى ﴾ أي : تلا على الناس ما أمره الله تعالى به أو حدّثهم به، واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم ﴿ ألقى الشيطان ﴾ من التشبيه والتخييلات ﴿ في أمنيته ﴾ أي : فيما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل ما يتلقفه منه أولياؤه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، ﴿ وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ﴾ [ الأنعام، ١١٢ ] كما يفعل هؤلاء فيما يفترقون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم في القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾ [ الأنعام، ١٤٨ ]، وقولهم : إنّ ما قتله الله تعالى بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم : نحن أهل الله وسكان حرمه، ولا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمشعر الحرام، وتقف الناس بعرفة، ونحن نطوف في ثيابنا وكذا من ولدناه، وأمّا غيرنا فلا يطوف إلا عارياً ذكراً كان أو أنثى إلا أن يعطيه أحدنا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله تعالى، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية، وأنظارهم التي ألحدوا فيها يضل الله تعالى بها من يشاء، ثم يمحوها ممن أراد من عباده، وما أراد من أمره ﴿ فينسخ ﴾ أي : فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ ﴿ الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿ ما يلقي الشيطان ﴾ فيبطله بإيضاح أمره ﴿ ثم يحكم الله آياته ﴾ أي : ثم يجعلها جلية فيما يريد منها وأدل دليل على أنّ هذا هو المراد من الافتتاح بالمتأخرة في الآيات الختام بقوله عطفاً على ما تقديره فالله على ما يشاء قدير ﴿ والله عليم ﴾ بأحوال خلقه ﴿ حكيم ﴾ فيما يفعله بهم.
وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت، وقال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم لما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذٍ أن يأتيه من الله تعالى شيء لم ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة والنجم إذا هوى، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى ففرح به المشركون، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة السورة كلها، وسجد في آخرها، وسجد المسلمون لسجوده وجميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها على جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرهم ما سمعوا، وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا تشفع بأحسن الذكر وقالوا : قد عرفنا أنّ الله تعالى يحيي ويميت ويرزق، ولكن هذه آلهتنا تشفع لنا عنده، فإذا جعل لهم محمداً نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله تعالى خوفاً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية تعزية له وكان به رحيماً، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش، وقيل : قد أسلمت أهل مكة، فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يتحدّثون به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار مستخفياً، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله تعالى، فغيّر ذلك. قال الرازي : هذه رواية عامّة المفسرين الظاهرية أما أهل التحقيق فقد قالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا على البطلان بالقرآن والسنة والمعقول.
أمّا القرآن فبوجوه أحدها : قوله تعالى :﴿ ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل ٤٤ لأخذنا منه باليمين ٤٥ ثم لقطعنا منه الوتين ﴾ [ الحاقة : ٤٤، ٤٥، ٤٦ ] ثانيها : قوله تعالى :﴿ قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ [ يونس، ١٥ ]، ثالثها : قوله تعالى :﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ [ النجم، ٣ ].
وأمّا السنة فمنها ما روي عن محمد بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة، فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً، وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، فقد روى البخاري في صحيحه :«أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها، وسجد المسلمون والكفار والإنس والجن »، وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه : أحدها : أنّ من جوّز على النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر ؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أن النبيّ كان معظم سعيه في نفي الأوثان، ثانيها : قوله تعالى :﴿ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ﴾ [ الحج، ٥٢ ]، وإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من نسخ هذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى، ثالثها : وهو أقوى الوجوه لو جوّزنا ذلك ارتفع الإيقان عن شرعه ولجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك فيبطل قوله تعالى :﴿ بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة، ٦٧ ]، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه.
وزاد الرازي أدلة أخرى على ذلك ثم قال : وقد عرفنا أنّ هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعاً من المفسرين ذكروها وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة، انتهى. وهذا هو الذي يطمئن إليه القلب وإن أطنب ابن حجر العسقلاني في صحتها، ثم قال : وحينئذٍ فيتعين تأويل ما وقع فيها مما ينكر، وهو قوله : ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق الخ، انتهى.
وعلى القول بها قد سلك العلماء في ذلك مسالك أحسنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، وقال البيضاوي : بعد أن ذكر بعض هذه القصة وهو مردود عند المحققين، وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه، انتهى. قال ابن الأثير : والغرانيق هنا الأصنام، وهي في الأصل للذكور من طير الماء واحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه قال : وكانوا يزعمون أنّ الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التي تعلو إلى السماء وترتفع، وقيل : تمنى أي : قرأ، كقول حسان في حق عثمان بن عفان :
تمنى كتاب الله أوّل ليلة تمنى داود الزبور على رسل
أي : على تأن وتمهل.
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء ذكر العلة في ذلك بقوله تعالى :
﴿ ليجعل ما يلقي الشيطان ﴾ أي : في المتلو أو المحدّث به من تلك الشبهة في قلوب أوليائه على التفسير الأوّل، وعلى الثاني وغيره يؤوّل بما يناسبه ﴿ فتنة ﴾ أي : اختباراً وامتحاناً ﴿ للذين في قلوبهم مرض ﴾ أي : شك ونفاق ﴿ والقاسية ﴾ أي : الجافية ﴿ قلوبهم ﴾ عن قول الحق وهم المشركون ﴿ وإنّ الظالمين ﴾ أي : الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام ﴿ لفي شقاق ﴾ أي : خلاف لكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبهة التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن ﴿ بعيد ﴾ عن الصواب ﴿ لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ﴾ [ الأنعام، ١١٣ ]، وعلى ثبوت ذكر القصة وجرى عليه الجلال المحلي ؛ قال : إنهم في خلاف طويل مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم، ثم أبطل ذلك.
﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم ﴾ بإتقان حججه وإحكام براهينه وضعف شبه المعاجزين ﴿ أنه ﴾ أي : الشيء الذي تلوته أو تحدثت به ﴿ الحق ﴾ أي : الثابت الذي لا يمكن زواله ﴿ من ربك ﴾ أي : المحسن إليك بتعليمك إياه ﴿ فيؤمنوا به ﴾ لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبهة ﴿ فتخبت ﴾ أي : تطمئن وتخضع ﴿ له قلوبهم ﴾ وتسكن به نفوسهم ﴿ وإنّ الله ﴾ بجلاله وعظمته ﴿ لهادي الذين آمنوا ﴾ في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان ﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ أي : قويم، وهو الإسلام يصلون به إلى معرفة بطلانه حتى لا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين.
﴿ ولا يزال الذين كفروا ﴾ أي : وجد منهم الكفر وطبعوا عليه ﴿ في مرية ﴾ أي : شك ﴿ منه ﴾ قال ابن جريج : أي : من القرآن، وقيل : مما ألقى الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولون : فما باله ذكرها بخير ثم ارتدّ عنها، وقيل : من الدين وهو الصراط المستقيم ﴿ حتى تأتيهم الساعة ﴾ أي : القيامة، وقيل : أشراطها، وقيل : الموت ﴿ بغتة ﴾ أي : فجأة ﴿ أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ﴾ قال عكرمة والضحاك : لا ليل بعده وهو يوم القيامة، والأكثرون على أنه يوم بدر، وسمي عقيماً لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، وقيل : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، ويقوي التفسير الأوّل قوله تعالى :﴿ الملك يومئذٍ ﴾.
﴿ الملك يومئذٍ ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ لله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال وحده، ولما كان كأنه قيل : ما معنى اختصاصه به، وكل الأيام له قيل :﴿ يحكم بينهم ﴾ أي : المؤمنين والكافرين بالأمر الفصل الذي لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره كما ترونه الآن بل يمشي فيه الأمر على أتم شيء من العدل ﴿ فالذين آمنوا وعملوا ﴾ أي : وصدّقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا ﴿ الصالحات ﴾ وهي ما أمرهم الله به ﴿ في جنات النعيم ﴾ فضلاً منه ورحمة لهم بما رحمهم الله تعالى من توفيقهم للأعمال الصالحات.
﴿ والذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا ﴿ وكذبوا بآياتنا ﴾ أي : ساعين بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه ﴿ فأولئك ﴾ أي : البعداء عن أسباب الكرم ﴿ لهم عذاب مهين ﴾ أي : شديد بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتنا والتكبر عن آياتنا.
فإن قيل : لم أدخل الفاء في خبر الثاني دون الأوّل ؟ أجيب : بأن في ذلك تنبيهاً على أنّ إثابة المؤمنين بالجنان تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال :﴿ لهم عذاب ﴾ ولم يقل : هم في عذاب.
ولما كان المؤمنون في حصر مع الكفار رغبهم الله في الهجرة بقوله تعالى :﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ﴾ أي : فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب مرضاته من مكة إلى المدينة ﴿ ثم قتلوا ﴾ في الجهاد بعد الهجرة، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه بقوله تعالى :﴿ أو ماتوا ﴾ أي : من غير قتل ﴿ ليرزقنّهم الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿ رزقاً حسناً ﴾ هو رزق الجنة من حين تفارق أرواحهم أشباحهم ؛ لأنهم أحياء عند ربهم ﴿ وإنّ الله ﴾ أي : الملك الأعلى القادر على الإحياء كما قدر على الإماتة ﴿ لهو خير الرازقين ﴾ فإنه يرزق بغير حساب يرزق الخلق عامة البارّ منهم والفاجر.
فإن قيل : الرازق في الحقيقة هو الله تعالى لا رازق للخلق غيره فكيف قال :﴿ لهو خير الرازقين ﴾ ؟ أجيب : بأنّ غير الله يسمى رازقاً على المجاز كقولهم : رزق السلطان الجيش أي : أعطاهم أرزاقهم، وإن كان الرازق في الحقيقة هو الله تعالى،
ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار وكان ذلك من أفضل الرزق قال تعالى دالاً على ختام التي قبل :﴿ ليدخلنّهم مدخلاً يرضونه ﴾. هو الجنة يكرمون فيه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا ينالهم فيها مكروه، وقيل : هو خيمة في الجنة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع، وقرأ نافع بفتح الميم أي : دخولاً، أو مكان دخول، والباقون بالضم أي : إدخالاً أو مكان إدخال ﴿ وإنّ الله ﴾ أي : الذي عمت رحمته وتمت عظمته ﴿ لعليم ﴾ أي : بمقاصدهم وما عملوا مما يرضيه وغيره ﴿ حليم ﴾ عما قصروا فيه من طاعته وما فرّطوا في جنبه تعالى، فلا يعاجل أحداً بالعقوبة.
روي أنّ طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.
﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك ﴿ ومن عاقب ﴾ أي : جازى من المؤمنين ﴿ بمثل ما عوقب به ﴾ ظلماً من المشركين أي : قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام ﴿ ثم بغي عليه ﴾ أي : ظلم بإخراجه من منزله، قال مقاتل : نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم، فقال بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام، فأبى المشركون، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى :﴿ لينصرنّه الله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ إنّ الله ﴾ أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ لعفو ﴾ عن المؤمنين ﴿ غفور ﴾ لهم.
فإن قيل : لم سمى ابتداءً فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء ؟ أجيب : بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى، ٤٠ ] ﴿ يخادعون الله وهو خادعهم ﴾ [ النساء، ١٤٢ ]، وكما في قوله : كما تدين تدان.
فإن قيل : كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين ؛ لأنهم مظلومون ؟ أجيب : بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾ [ الشورى، ٤٣ ] وبقوله تعالى :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ [ الشورى، ٤٠ ] وبقوله تعالى :﴿ وأن تعفو أقرب للتقوى ﴾ [ البقرة، ٢٣٧ ]، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال : عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له، فإني أنا الذي أذنت له فيها، وفي ذكر العفو تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه.
﴿ ذلك ﴾ أي : النصر ﴿ بأنّ الله ﴾ أي : المتصف بجميع صفات الكمال ﴿ يولج ﴾ أي : يدخل لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن ﴿ الليل في النهار ﴾ فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء الله تعالى مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار ﴿ ويولج النهار في الليل ﴾ فينسخ ضياءه بظلامه ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو بأنّ يدخل كلاً منهما في الآخر فيزيد به وذلك من أثر قدرته التي بها النصر ﴿ وأنّ الله ﴾ بجلاله وعظمته ﴿ سميع ﴾ لكل ما يقال ﴿ بصير ﴾ لكل ما يفعل، دائم الاتصاف بذلك، فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر ؛ لأنه سبحانه وتعالى منزه عن الأغراض.
ولما وصف تعالى نفسه بما ليس لغيره علله بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم ﴿ بأنّ الله ﴾ أي : القادر على كل ما أراد ﴿ هو ﴾ وحده ﴿ الحق ﴾ أي : الثابت الواجب الوجود ﴿ وأنّ ما يدعون ﴾ أي : يعبد المشركون ﴿ من دونه ﴾ وهو الأصنام ﴿ هو الباطل ﴾ الزائل، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بالتاء على الخطاب للمشركين، والباقون بالياء على الغيبة، وأنّ هذه مقطوعة من ما في الرسم ﴿ وأنّ الله ﴾ لكونه هو الحق الذي لا كفء له ﴿ هو ﴾ وحده ﴿ العليّ ﴾ أي : العالي على كل شيء بقدرته ﴿ الكبير ﴾ وكل ما سواه سافل حقير تحت قهره وأمره.
ثم إنه سبحانه وتعالى استدل على كمال قدرته بأمور ستة :
الأول : قوله تعالى :﴿ ألم ترَ ﴾ أي : أيها المخاطب ﴿ أنّ الله ﴾ أي : المحيط قدرة وعلماً ﴿ أنزل من السماء ماءً ﴾ أي : مطراً بأنّ يرسل رياحاً فتثير سحاباً، فيمطر على الأرض الماء ﴿ فتصبح الأرض ﴾ أي : بعد أنّ كانت مسودّة يابسة ميتة جامدة ﴿ مخضرة ﴾ حية يانعة مهتزة نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد فإن قيل : لم قال تعالى :﴿ فتصبح ﴾، ولم يقل : فأصبحت ؟ أجيب : بأنّ ذلك لنكتة وهي إفادة بقاء المطر زماناً بعد زمان كما تقول : أنعم عليّ فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت : فرحت وغدوت شاكراً له لم يقع ذلك الموقع. فإن قيل : لم رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام ؟ أجيب : بأنه لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض ؛ لأنّ معناه أنبتت الأخضر فينقلب بالنصب إلى نفي الأخضر، ووجه ذلك : بأنّ النصب بتقدير أنّ وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقباً والرفع جزم بإثباته مثاله أنّ تقول لصاحبك : ألم ترَ أني أنعمت عليك فتشكر، فإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك في تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره، وهذا وأمثاله مما يجب أنّ يتنبه له من اتسم بالعلم في علم الإعراب، وتوقير أهله ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له تمام النعم وكمال العلم ﴿ لطيف ﴾ بعباده في إخراج النبات بالماء ﴿ خبير ﴾ أي : بمصالح الخلق ومنافعهم، فإنه مطلع على السرائر، وإن دقت فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، وقال ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط.
الأمر الثاني : قوله تعالى :﴿ له ما في السماوات ﴾ أي : التي أنزل منها الماء ﴿ وما في الأرض ﴾ أي : التي استقر فيها ملكاً وخلقاً ﴿ وإنّ الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة التامة ﴿ لهو ﴾ أي : وحده ﴿ الغني ﴾ في ذاته عن كل شيء ﴿ الحميد ﴾ أي : المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.
الأمر الثالث : قوله تعالى :﴿ ألم ترَ ﴾ أي : أيها المخاطب ﴿ أنّ الله ﴾ ذا الجلال والإكرام ﴿ سخر لكم ﴾ فضلاً منه ﴿ ما في الأرض ﴾ كله من مسالكها وفجاجها، وما فيها من حيوان وجماد وزرع وثمار، فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى ذللهما للضعيف من الناس لما انتفع بهما أحد منهم.
الأمر الرابع : قوله تعالى :﴿ والفلك ﴾ أي : وسخر لكم الفلك أي : السفن، ثم بيّن تسخيرها بقوله :﴿ تجري في البحر ﴾ العجاج المتلاطم بالأمواج بريح طيبة للركوب والحمل ﴿ بأمره ﴾ أي : بإذنه.
الأمر الخامس : قوله تعالى :﴿ ويمسك السماء ﴾ أي : كراهة ﴿ أنّ تقع على الأرض ﴾ التي تحتها مع علوها وعظمها وكونها بغير عمد فتهلكوا ﴿ إلا بإذنه ﴾ أي : بمشيئته، فيقع ذلك يوم القيامة حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الخلق والأمر ﴿ بالناس ﴾ أي : على ظلمهم ﴿ لرؤوف ﴾ أي : بما يحفظ من سرائرهم ﴿ رحيم ﴾ أي : حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أبواب المضار.
﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي أحياكم ﴾ أي : عن الجمادية بعد أنّ أوجدكم من العدم ﴿ ثم يميتكم ﴾ أي : عند انقضاء آجالكم ليكون الموت واعظاً لأولي البصائر منكم ﴿ ثم يحييكم ﴾ أي : يوم البعث للثواب والعقاب وإظهار العدل في الجزاء ﴿ إن الإنسان ﴾ أي : المشرك ﴿ لكفور ﴾ أي : لبليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به فيوحد الله تعالى، وقال ابن عباس : هو الأسود بن عبد الأسد، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبيّ بن خلف، قال الرازي : والأولى تعميمه في كل المنكرين.
﴿ لكل أمة ﴾ أي : في كل زمان ﴿ جعلنا منسكاً ﴾ قال ابن عباس : شريعة يتعبدن بها ﴿ هم ناسكوه ﴾ أي : عاملون بها، وروي عنه أنه قال : عيداً، وقال مجاهد وقتادة : موضع قربان يذبحون فيه، وقيل : موضع عبادة، وقرأ حمزة والكسائي : منسكاً، بكسر السين، والباقون بفتحها ﴿ فلا ينازعنك في الأمر ﴾ أي : أمر الذبائح، نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ : صلى الله عليه وسلم ما لكم تأكلون مما تقتلون، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى ؟ يعنون الميتة، وقال الزجاج : هو نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربنك فلان أي : فلا تضاربه، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين معناه لا تنازعهم أنت ﴿ وادع ﴾ أي : أوقع الدعوة لجميع الخلق ﴿ إلى ربك ﴾ المحسن إليك أي : إلى دينه، ثم علل ذلك بقوله :﴿ إنك ﴾ مؤكداً له بحسب ما عندهم من الإنكار ﴿ لعلى هدى ﴾ أي : دين واضح ﴿ مستقيم ﴾ هو دين الإسلام.
﴿ وإن جادلوك ﴾ أي : في أمر الدين بعد أنّ ظهر الحق ولزمت الحجة ﴿ فقل الله ﴾ أي : الملك المحيط بالعز والعلم ﴿ أعلم بما تعملون ﴾ من المجادلة الباطلة وغيرها، فيجازيكم عليه وهذا وعيد فيه رفق، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال.
ولما أمر الله تعالى بالإعراض عنهم، وكان ذلك شديداً على النفس لتشوقها إلى النصرة رجاه في ذلك بقوله تعالى مستأنفاً تحذيراً لهم :﴿ الله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ يحكم بينكم ﴾ أي : بينك مع اتباعك وبينهم ﴿ يوم القيامة ﴾ الذي هو يوم التغابن ﴿ فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ من أمر الدين ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حلّ به، فهو كقوله :﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ﴾ [ الشعراء، ٢٢٧ ] ؛ قال البغوي : والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
﴿ ألم تعلم أنّ الله ﴾ بجلال عزه وعظيم سلطانه ﴿ يعلم ما في السماء والأرض ﴾ فلا يخفى عليه شيء ﴿ إن ذلك ﴾ أي : ما ذكر ﴿ في كتاب ﴾ كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه، وكتب جزاؤه وهو اللوح المحفوظ ﴿ إن ذلك ﴾ أي : علم ما ذكر ﴿ على الله ﴾ وحده ﴿ يسير ﴾ أي : سهل ؛ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على السواء.
﴿ ويعبدون ﴾ أي : المشركون على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿ من دون الله ﴾ أي : من أدنى رتبة من رتبه الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال وتنزيهه عن شوائب النقص ﴿ ما لم ينزل به سلطاناً ﴾ أي : حجة واحدة من الحجج وهو الأصنام ﴿ وما ليس لهم به علم ﴾ حصل لهم من ضرورة العقل واستدلاله بالحجة ﴿ وما للظالمين ﴾ أي : الذين وضعوا التعبد في غير موضعه لارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر، وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار، فقال تعالى :﴿ من نصير ﴾ أي : ينصرهم من الله لا مما أشركوه به ولا من غيره فيدفع عنهم عذابه أو يقرّر مذهبهم.
﴿ وإذا تتلى ﴾ أي : على سبيل التحذير والمبالغة من أيّ تال كان ﴿ عليهم آياتنا ﴾ أي : من القرآن حال كونها ﴿ بينات ﴾ لا خفاء فيها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع ﴿ تعرف في وجوه الذين كفروا ﴾ أي : تلبسوا بالكفر ﴿ المنكر ﴾ أي : الإنكار الذي هو منكر في نفسه، فيظهر أثره في وجوههم من الكراهة والعبوس لما حصل لهم من الغيظ، ثم بيّن ما لاح في وجوههم بقوله تعالى :﴿ يكادون يسطون ﴾ أي : يوقعون السطوة بالبطش والعنف ﴿ بالذين يتلون عليهم آياتنا ﴾ أي : الدالة على أسمائنا الحسنى وصفاتنا العليا القاضية بوحدانيتنا مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنّ يقابلهم بالوعيد بقوله تعالى :﴿ قل أفأنبئكم ﴾ أي : أفأخبركم خبراً عظيماً ﴿ بشر من ذلكم ﴾ بأكره إليكم من القرآن المتلوّ عليكم، وقوله تعالى :﴿ النار ﴾ كأنه جواب سائل قال : ما هو ؟ فقيل : النار، أي : هو النار، ويجوز أنّ تكون مبتدأ خبره ﴿ وعدها الله الذين كفروا ﴾ جزاء لهم فبئس الموعد هي ﴿ وبئس المصير ﴾ أي : النار.
ولما بين تعالى أنه لا حجة لعابد غيره اتبعه بأنّ الحجة قائمة على أنّ ذلك الغير في غاية الحقارة، فقال تعالى منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل ﴾ حاصله أنّ من عبدتموه من الأصنام أحقر منكم ﴿ فاستمعوا ﴾ أي : أنصتوا ﴿ له ﴾ وتدبروه، ثم فسره بقوله تعالى :﴿ إن الذين تدعون ﴾ أي : تعبدون وتدعونهم في حوائجكم وتجعلونهم آلهة ﴿ من دون الله ﴾ أي : الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترّون ﴿ لن يخلقوا ذباباً ﴾ أي : لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره فكيف بما هو أكبر منه ﴿ ولو اجتمعوا ﴾ أي : الذين زعمتموهم شركاء ﴿ له ﴾ أي : الخلق فهم في هذا أمثالكم.
تنبيه :﴿ محل ولو اجتمعوا له ﴾ النصب على الحال كأنه قال تعالى : يستحيل أنّ يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أنّ الشيطان قد خدعهم بخداعه حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أنّ تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم أنّ هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أنّ يستخلصوه منه لم يقدروا كما قال تعالى :﴿ وإن يسلبهم الذباب ﴾ أي : الذي تقدّم أنهم لا قدرة لهم على خلقه، وهو غاية في الحقارة ﴿ شيئاً ﴾ أي : من الأشياء جل أو قل ﴿ لا يستنقذوه منه ﴾ لعجزهم، فكيف يجعلونهم شركاء لله ؟ هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل.
تنبيه : الذباب مفرد وجمعه القليل : أذبة، والكثير : ذبان مثل غراب وأغربة وغربان، وعن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل، ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وعن ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ، وأنواع الجواهر ويطيبونها بألوان الطيب فربما يسقط شيء منها فيأخذه طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استرداده منه ﴿ ضعف الطالب ﴾ قال الضحاك : هو العابد ﴿ والمطلوب ﴾ المعبود، وقال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم، والمطلوب هو الصنم، وقيل : على العكس الطالب الصنم، والمطلوب الذباب، أي : لو طلب الصنم أنّ يخلق الذباب لعجز عنه.
ولما أنتج هذا جهلهم بالله عز وجل عبّر عنه بقوله تعالى :﴿ ما قدروا الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ حق قدره ﴾ أي : ما عظموه حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع عن الذباب ولا ينتصف منه ﴿ إنّ الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿ لقويّ ﴾ على خلق الممكنات بأسرها ﴿ عزيز ﴾ أي : لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها ؛ قال الكلبي في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الإنعام أنها نزلت في جماعة من اليهود مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم حيث قالوا : إنّ الله تعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض وأجناس خلقها استلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله تعالى :﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ [ ق، ٣٨ ] ؛ قال الرازي : واعلم أنّ منشأ هذه الشبهة هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني عن الغرض والدواعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما يقوله المعتزلة، قال أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى : فهو سبحانه وتعالى خير النعت عزيز الوصف، فالأوهام لا تصوّره والأفكار لا تقدره، والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحدّه، صمديّ الذات سرمديّ الصفات.
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوّات بقوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ يصطفي ﴾ أي : يختار ويختص ﴿ من الملائكة رسلاً ﴾ كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام ﴿ ومن الناس ﴾ كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم نزلت حين قال المشركون :﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾ [ ص، ٨ ] فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه ﴿ إنّ الله ﴾ أي : الذي له الجلال والجمال ﴿ سميع ﴾ لمقالتهم ﴿ بصير ﴾ بمن يتخذه رسولاً.
﴿ يعلم ما بين أيديهم ﴾ أي : الرسل ﴿ وما خلفهم ﴾ أي : علمه محيط بما هم مطلعون عليه، وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه ﴿ وإلى الله ﴾ أي : وحده تعالى ﴿ ترجع ﴾ بغاية السهولة ﴿ الأمور ﴾ يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهراً لا خفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم.
ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : تلبسوا بالإيمان ﴿ اركعوا ﴾ تصديقاً لإيمانكم ﴿ واسجدوا ﴾ أي : صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان.
تنبيه : إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون، وقيل : كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى :﴿ واعبدوا ﴾ أي : بأنواع العبادة ﴿ ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، أو قد يكون بلا نية، فقال :﴿ وافعلوا الخير ﴾ أي : كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى ؛ قال أبو حيان : بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة، ثم بعام وهو : واعبدوا ربكم، ثم بأعمّ وهو : وافعلوا الخير ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ : لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكلٌ ميسر لما خلق له.
تنبيه : اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما » حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه، وذهب قوم إلى أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري، وقول أبي حنيفة وأصحابه ؛ لأنهم يقولون : قرن السجود بالركوع في ذلك، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.
ولما كان الجهاد أساس العبادة وهو مع كونه حقيقة في جهاد الكفار صالح لأنّ يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل، بالسيف وغيره وكل جهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل ختم به فقال تعالى :﴿ وجاهدوا في الله ﴾ أي : لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس، وقول البيضاوي : وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال :«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ». حديث رواه البيهقي وضعف إسناده، وقال غيره : لا أصل له، قيل : أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس ﴿ حق جهاده ﴾ أي : باستفراغ الطاقة في كل ما أمر به من جهاد العدوّ والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما.
فإن قيل : ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس في حق الجهاد في الله أو حق جهادكم في الله، كما قال تعالى :﴿ وجاهدوا في الله ﴾ ؟ أجيب : بأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث أنه مفعول لأجله صحت إضافته إليه، وعن مجاهد عن الكلبي أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ [ التغابن، ١٦ ]، ولما أمر الله تعالى بهذه الأوامر أتبعها ببعض ما يجب به شكره وهو كالتعليل لما قبله فقال تعالى :﴿ هو اجتباكم ﴾ أي : اختاركم لدينه ولنصرته، وجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أشرف الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم لكونكم أتباعه خير الأمم ﴿ وما جعل عليكم في الدين ﴾ أي : الذي اختاره لكم ﴿ من حرج ﴾ أي : من ضيق وشدّة وهو أنّ المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله تعالى له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها بردّ المظالم والقصاص، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفقه الله تعالى وسهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر، وغير ذلك ؛ قال صلى الله عليه وسلم :«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » رواه البخاري، وعن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، وقوله تعالى :﴿ ملة أبيكم ﴾ نصب بنزع الخافض وهو الكاف أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أي : اتبعوا ملة أبيكم، أو على الاختصاص أي : أعني بالدين ملة أبيكم كقولك : الحمد لله الحميد، وقوله تعالى :﴿ إبراهيم ﴾ عطف بيان.
فإن قيل : لم كان إبراهيم أباً للأمة كلها ؟ أجيب : بأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أباً لأمّته ؛ لأنّ أمّة الرسول في حكم أولاده. واختلف في عود ضمير ﴿ هو ﴾ على قولين أحدهما أنه يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ لكل نبيّ دعوة مستجابة، ودعوة إبراهيم عليه السلام :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ [ البقرة، ١٢٨ ]، فاستجاب الله تعالى له فجعلها محمداً صلى الله عليه وسلم وأمّته، والثاني : أنه يعود على الله تعالى في قوله تعالى :﴿ هو اجتباكم ﴾، وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى ﴿ سمّاكم المسلمين من قبل ﴾ أي : في كل الكتب المنزلة التي نزلت قبل إنزال هذا لقرآن ﴿ وفي هذا ﴾ أي : وسماكم في هذا القرآن الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب، وهذا القول كما قال الرازي : أقرب لأنه تعالى قال :﴿ ليكون الرسول شهيداً عليكم ﴾ أي : يوم القيامة أنه بلغكم ﴿ وتكونوا شهداء على الناس ﴾ أي : أنّ رسلهم بلغتهم، فبيّن أنه تعالى سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى، وإنما كانوا شهداء على الناس لسائر الأنبياء ؛ لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أنّ أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك صحت شهادتهم وقبلها الحكم العدل وعن كعب أعطيت هذا الأمة ثلاثاً لم يعطهن إلا الأنبياء : جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال تعالى :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ [ غافر، ٦٠ ]، وعن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : لم يذكر الله بالإيمان والإسلام غير هذه الأمّة ذكرها بهما وكرّرهما جميعاً، ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام والإيمان غيرها وعن مكحول أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" تسمى الله عز وجل باسمين سمى بهما أمّتي ؛ هو السلام وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين ".
تنبيه : في الآية دليل على أنّ شهادة غير المسلم ليست مقبولة، ولما ندبهم تعالى ليكونوا خير الأمم تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فأقيموا الصلاة ﴾ التي هي أركان قلوبكم وصلة ما بينكم وبين ربكم أي : داوموا عليها ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ التي هي طهرة أبدانكم، وصلة بينكم وبين إخوانكم ﴿ واعتصموا بالله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال في جميع ما أمركم به من المناسك التي تقدمت وغيرها، ثم علل تعالى أهليته بقوله تعالى :﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ مولاكم ﴾ أي : المتولي لجميع أموركم فهو ينصركم على كل من يعاديكم بحيث أنّ تتمكنوا من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها، ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله تعالى :﴿ فنعم المولى ﴾ أي : هو ﴿ ونعم النصير ﴾ أي : الناصر لكم لأنه تعالى إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه وإذا نصر أحد أعلاه عن كل من خاصمه " ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته " الحديث إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها فقد انطبق آخر السورة على أوّلها ورد مقطعها على مطلعها.
Icon