تفسير سورة الرحمن

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه، أنه أنزل على عباده القرآن، ويسر حفظه وفهمه على من رحمه، فقال تعالى :﴿ الرحمن * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان ﴾ قال الحسن : يعني النطق، وقال الضحّاك : يعني الخير والشر، وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى، لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها، على اختلاف مخارجها وأنواعها، وقوله تعالى :﴿ الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ ﴾ أي يجريان متعاقبين بحساب مقنّن، لا يختلف ولا يضطرب. ﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ]. وقوله تعالى :﴿ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ ﴾ اختلف المفسرون في معنى قوله ﴿ والنجم ﴾، فروي عن ابن عباس ﴿ والنجم ﴾ ما انبسط على وجه الأرض، يعني من النبات، وقال مجاهد : النجم الذي في السماء، وكذا قال الحسن وقتادة، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم، لقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ [ الحج : ١٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان ﴾ يعني العدل، كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط ﴾ [ الحديد : ٢٥ ] وهكذا قال هاهنا :﴿ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان ﴾ أي خلق السماوات والأرض بالحق والعدل، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل، ولهذا قال تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان ﴾ أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط، كما قال تعالى :﴿ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ﴾ [ الإسراء : ٣٥، ١٨ ].
وقوله تعالى :﴿ والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ﴾ أي السماء أرساها بالجبال الشامخات، لتستقر بما على وجهها من الأنام، وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أقطارها وأرجائها، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : الأنام : الخلق، ﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ اي مختلفة الألوان والطعوم والروائح، ﴿ والنخل ذَاتُ الأكمام ﴾ أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام : قال ابن عباس : هي أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه القنو، ثم ينشق عن العنقود فيكون بسراً ثم رطباً، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه، وقيل الأكمام رفاتها، وهو الليف الذي على عنق النخلة، وهو قول الحسن وقتادة، ﴿ والحب ذُو العصف والريحان ﴾ قال ابن عباس :﴿ ذُو العصف ﴾ يعني التبن، وعنه : العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس، وكذا قال قتادة والضحاك : عصفة : تبنه، وقال ابن عباس ومجاهد : والريحان يعني الورق، وقال الحسن : هو ريحانكم هذا، ومعنى هذا والله أعلم أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما، له ف يحال نباته عصف وهو ما على السنبلة، وريحان وهو الورق الملتف على ساقها، وقيل : العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلا، والريحان الورق يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة :
2451
وقولا له :
من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعياً
وقوله تعالى :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان؟ أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها، فنحن نقول كما قالت الجن :« اللهم ولا بشيء من الآئك ربنا نكذب فلك الحمد » وكان ابن عباس يقول : لا بأيها يا رب، أي لا نكذب بشيء منها.
2452
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو طرف لهبها، قاله ابن عباس، وعنه :﴿ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ من لهب النار من أحسنها، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ من خالص النار، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحّاك وغيرهم، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت، قال رسول الله ﷺ :« خُلِقت الملائكةُ من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم » وقوله تعالى :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟ تقدم تفسيره، ﴿ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين ﴾ يعني مشرقي الصيف والشتاء، ومغربي الصيف والشتاء، وقال :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب ﴾ [ المعارج : ٤٠ ] وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس، وقال :﴿ رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً ﴾ [ المزمل : ٩ ]، والمراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟ وقوله تعالى :﴿ مَرَجَ البحرين ﴾ قال ابن عباس : أي أرسلها، وقوله ﴿ يَلْتَقِيَانِ ﴾ قال ابن زيد : أي منعهما أن يلتقيا بماجعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما، والمراد بقوله ﴿ البحرين ﴾ : الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس؛ وقد اختار ابن جرير : أن المراد بالبحرين بحر السماء، وبحر الأرض، لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء وأصداف بحر الأرض، وهذا لا يساعده اللفظ، فإنه تعالى قد قال :﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ أي وجعل بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخاً وحجراً محجوراً.
وقوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ أي من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى ﴿ يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق، واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل : هو صغار اللؤلؤ، وقيل : كباره وجيده، حكاه ابن جرير عن بعض السلف. وقيل : هو نوع من الجواهر أحمر اللون، قال ابن مسعود : المرجان الخرز الأحمر، وأما قوله :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [ فاطر : ١٢ ]، فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحيلة إنما هي من المالح دون العذب، قال ابن عباس : ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر فوقعت في صدفة إالاّ صار منها لؤلؤة، ولما كان اتخاذ هذه الحيلة نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟ وقوله تعالى :﴿ وَلَهُ الجوار المنشئات ﴾ يعني السفن التي تجري ﴿ فِي البحر ﴾ قال مجاهد : ما رفع قلعه من السفن فهي منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت.
2453
وقال قتادة : المنشآت يعني المخلوقات، وقال غيره : المنشئات بكسر الشين يعني البادئات، ﴿ كالأعلام ﴾ أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم، مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، ولهذا قال :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟ عن عمرة بن سويد قال :« كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على شاطىء الفرات إذا أقبلت سفينة مرفوع شراعها فبسط عليٌّ يديه، ثم قال : يقول الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام ﴾ والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ».
2454
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات الاّ من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس هو الحي الذي لا يموت أبداً، قال قتادة : أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فغنٍ، وفي الدعاء المأثور :« يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، ويا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك » وقال الشعبي : إذا قرأت :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ فلا تسكت حتى تقرأ :﴿ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام ﴾. وهذا الآية كقوله تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي هو أهل أن يُجل فلا يُعصى، وأن يُطاع فلا يُخالف، كقوله تعالى :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [ الأنعام : ٥٢، الكهف : ٢٨ ]، وكقوله :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله ﴾ [ الإنسان : ٩ ]، قال ابن عباس :﴿ ذُو الجلال والإكرام ﴾ ذو العظمة والكبرياء، ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل، قال :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾. وقوله تعالى :﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ وهو إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش : من شأنه أن يجيب داعياً أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً أو يشفي سقيماً، وقال مجاهد : كل يوم هو يجيب داعياً ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً، وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض يحيي حياً ويميت ميتاً، ويربي صغيراً ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم، وروى ابن جرير عن منيب الأزدي قال :« تلا رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ فقلنا : يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال :» أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين « » وقال ابن عباس : إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء.
قال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان ﴾ قال : وعيد من الله تعالى للعباد، وليس بالله شغل وهو فارغ، وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه، وقال ابن جريج :﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ ﴾ أي سنقضي لكم، وقال البخاري : سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال : لأفرغنّ لك، وما به شغل يقول : لآخذنك على غرتك، وقوله تعالى :﴿ أَيُّهَ الثقلان ﴾ الثقلان : الإنس والجن كما جاء في الصحيح :« يسمعه كل شيء إلاّ الثقلين »، وفي رواية :« إلاّ الإنس والجن » وفي حديث الصور :« الثقلان الإنس والجن » ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾ أي لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب ﴿ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾ أي إلاّ بأمر الله، ﴿ يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر ﴾ [ القيامة : ١٠ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ ﴾ قال ابن عباس : الشواظ هو لهب النار، وعنه : الشواظ الدخان، وقال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع، وقال الضحاك :﴿ وَنُحَاسٌ ﴾ سيل من نار، وقوله تعالى :﴿ شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ﴾ قال ابن عباس : دخان النار، وقال ابن جرير : والعرب تسمي الدخان نحاساً. روى الطبراني عن الضحّاك أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال : هو اللهب الذي لا دخان معه، فسأله شاهداً على ذلك من اللغة، فأنشده بيت أمية بن أبي الصلت في حسان :
ألا من مبلغ حسانَ عني مُغَلْغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قيناً لدى القينات فَسْلا في الحِفاظ
يمانياً يظل يشد كيراً وينفخ دائباً لهب الشواظ
قال : صدقت، فما النحاس؟ قال : هو الدخان الذي لا لهب له، قال : فهل تعرفه العرب؟ قال : نعم أما سمعت نابغة بني ذيبان يقول :
يضيء كضوء سراج السلي ط لم يجعل الله فيه نحاساً
وقال مجاهد : النحاس الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم، والمعنى : لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بارسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا، ولهذا قال :﴿ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟.
يقول تعالى :﴿ فَإِذَا انشقت السمآء ﴾ يوم القيامة كما دلت عليه الآيات الواردة في معناها، كقوله تعالى :﴿ وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١٦ ]، وقوله :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ]، وقوله :﴿ إِذَا السمآء انشقت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [ الإنشقاق : ١-٢ ]، وقوله تعالى :﴿ فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان ﴾ أي تذوب كما يذوب الدُّرْدِي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. عن انَس بن مالك قال، قال رسول الله ﷺ :« يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم » قال الجوهري : الطش المطر الضعيف، وقال ابن عباس :﴿ وَرْدَةً كالدهان ﴾ كالأديم الأحمر. وعنه كالفرس الورد، وقال أبو صالح : كالبرذون الورد، ثم كانت بعد كالدهان، وقال الحسن البصري : تكون ألواناً، وقال السدي : تكون كلون البغلة الوردة، وتكون كالمهل كدردي الزيت، وقال مجاهد :﴿ كالدهان ﴾ كألوان الدها، وقال عطاء الخراساني : كلون دهون الورد في الصفرة، وقال قتادة : هي اليوم خضراء ويومئذٍِ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان، وقال أبو الجوزاء، في صفاء الدهن، وقال بان جريج : تصير السماء كالدهان الذائب، وذلك حين يصيبها حر جهنم، وقوله تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾، وهذه كقوله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥-٣٦ ] فهذا في حال، و « ثَمَّ » في حال، يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، قال الله تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢-٩٣ ]، ولهذا قال قتادة ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾، قال : قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قال ابن عباس : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول : لو عملتم كذا وكذا، فهذا قول ثان، وقال مجاهد في هذه الاية : لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم، وهذا قول ثالث، وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن ذنبوهم، بل يقادون إليها ويلقون إليها ويلقون فيها كما قال تعالى :﴿ يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ ﴾ أي بعلامات تظهر عليهم، وقال الحسن وقتادة : يعرفون باسوداد الوجوه، وزرقة العيون، ( قلت ) : وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
وقوله تعالى :﴿ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام ﴾ أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك، وقال ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور، وقال الضحّاك : يجمع بين ناصيته وقديمه في سلسلة من وراء ظهره، وقال السدي : يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره وقوله تعالى :﴿ هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون ﴾ أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، هل هي حاضرة تشاهدونها عياناً، يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً، وقوله تعالى :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ أي تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى :
2457
﴿ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ﴾ [ غافر : ٧١-٧٢ ]. وقوله تعالى :﴿ آنٍ ﴾ أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة قال ابن عباس : قد انتهى غليه واشتد حرّه، وقال محمد بن كعب القرظي : يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس، وهي كالتي يقول الله تعالى :﴿ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ﴾ [ غافر : ٧٢ ] فقوله ﴿ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ أي حميم حار جداً، ولما كان معاقبة العصاة المجرمين، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه، مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي، قال ممتناً بذلك على بريته :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟.
2458
قال عطاء الخُراساني : نزلت هذه الآية ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ في أبي بكر الصديق، وقال عطية بن قيس : نزلت في الذي قال : أحرقوني بالنار لعلي أضل الله، قال تاب يوماً وليلة، بعد أن تكلم بهذا فقبل الله منه وأدخله الجنة، والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول الله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة ﴿ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى ﴾ [ النازعات : ٤٠ ] ولم يطع ولا آثر الحياة الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما روى البخاري رحمه الله : عن عبد الله بن قيس، « أن رسول الله ﷺ قال :» جنتان من قضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظر إلى ربهم عزّ وجلّ إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن «، وقال حماد : ولا أعمله إلا قد رفعه في قوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾، ويقوله :﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٩٢ ]، جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. وقال عطاء بن يسار، أخبرني أبو الدرداء » أن رسول الله ﷺ قرأ يوماً هذه الآية ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ فقال :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ فقلت : وإزن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال :« وإن... رغم أنف أبي الدرداء » «، وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ثم نعت هاتين الجنتين فقال :﴿ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ ﴾ أي أغصال نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة، ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟ هكذا قال عطاء وجماعة : أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضاً، وقال عكرمة ﴿ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ ﴾ يقول : ظل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر :
ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما
وعن ابن عباس ﴿ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ ﴾ : ذواتا ألوان، ومعنى هذا القول أن فيهما فنوناً من الملاذ واختاره ابن جرير، وقال عطاء : كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس :﴿ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ ﴾ واسعتا الفناء، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها والله أعلم، عن أسماء بنت أبي بكر قالت :»
سمعت رسول الله ﷺ وذكر سدرة المنتهى فقال :« يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو قال يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال » «
2459
﴿ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴾ أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان. قال الحسن البصري : إحداهما يقا للها تسنيم، والأخرى السلسبيل، وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، ولهذا قال بعد هذا :﴿ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴾ أي من جميع أنواع الثمار، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ قال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة، وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل.
2460
يقول تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ ﴾، يعني أهل الجنة، والمراد بالاتكاء هاهنا الاضطجاع، ويقال : الجلوس على صفة التربيع ﴿ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ وهو ما غلظ من الديباج، وقيل : هو الديباج المزيّن بالذهب، فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، قال ابن مسعود : هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟ قال مالك بن دينار : بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور، وقال الثوري : بطائنها من إستبرق وظواهرها، من نور جامد، وقال القاسم بن محمد : بطائنها من إستبرق وظواهرها من الرحمة ﴿ وَجَنَى الجنتين دَانٍ ﴾ أي ثمرهما قريب إليهم متى شاءوا تناولوه، على أي صفة كانوا كما قال تعالى :﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ٢٣ ]، وقال :﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾ [ الإنسان : ١٤ ] اي لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط إليه من أغصانها ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك ﴿ فِيهِنَّ ﴾ أي في الفرش ﴿ قَاصِرَاتُ الطرف ﴾ أي غضيضات غير أزواجهن، فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن، أحب إليّ منك، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك، ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ أي بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن، وهذه أيضاً من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة، سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة؟ قال : نعم، وينكحون، للجن جنيات وللإنس إنسيات، وذلك قوله :﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، ثم قال ينعتهن للخطاب ﴿ كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان ﴾ قال مجاهد والحسن : في صفاء الياقوت وبياض المرجان، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال :« » إن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها « وذلك قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان ﴾ فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه ». وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اليه عليه وسلم قال :« للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب » وعن محمد بن سيرين قال : إما تفاخروا وإما تذاكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء، فقال أبو هريرة : أولم يقل أبو القاسم ﷺ :« إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء، لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب؟ » وروى الإمام احمد، عن أنَس أن رسول الله ﷺ قال :
2461
« لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قده يعني سوطه من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولطاب ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ».
وقوله تعالى :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ أي ليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة كما قال تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ]. روى البغوي، عن أنَس بن مالك قال، « قرأ رسول الله ﷺ :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ وقال :» هل تدرون ما قال ربكم؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :» يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة « » ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؟.
2462
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما، في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن قال الله تعالى :﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ وقد تقدم في الحديث :« جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما » فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين. وقال ابو موسى : جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين.
وقال ابن عباس :﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ من دونهما في الدرجة وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل؛ ﴿ مُدْهَآمَّتَانِ ﴾ أي سوداوان من شدة الري من الماء، قال أبن عباس ﴿ مُدْهَآمَّتَانِ ﴾ قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء، وعنه ﴿ مُدْهَآمَّتَانِ ﴾ قال : خضروان. وقال محمد بن كعب : ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة : خضروان من الري ناعمتان، ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض، وقال هناك :﴿ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴾ [ الرحمن : ٥٠ ] وقال هاهنا :﴿ نَضَّاخَتَانِ ﴾ قال ابن عباس : أي فياضتان والجري أقوى من النضخ، وقال الضحّاك ﴿ نَضَّاخَتَانِ ﴾ أي ممتلئتان ولا تنقطعان، وقال هناك :﴿ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴾ [ الرحمن : ٥٢ ] وقال ههنا ﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على ﴿ فَاكِهَةٌ ﴾ وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم، ولهذا ليس قوله :﴿ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾، من باب عطف الخاص على العام، كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما، عن عمر بن الخطاب قال :« جاء أناس من اليهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا : يا محمد أفي الجنة فاكهة؟ قال :» نعم فيها فاكهة ونخل ورمان «، قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال :» نعم، وأضعاف «، قالوا : فيقضون الحوائج؟ قال :» لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب ما في بطونهم من أذى « » وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال :« نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم ومنها حللهم، وورقها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وتمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم » وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال :« نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب »، ثم قال :﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ قيل : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة، وقيل :﴿ خَيْرَاتٌ ﴾ جمع خيرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه قاله الجمهور، وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء الله أن الحور العين يغنين :« نحن الخيِّرات الحسان. خلقنا لأزواج كرام » ولهذا قرأ بعضهم :﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ ﴾ بالتشديد ﴿ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، ثم قال :﴿ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام ﴾، وهناك قال :
2463
﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف ﴾ [ الرحمن : ٥٦ ] ولا شك أن التي قد صرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصِرت وإن كان الجميع مخدرات، قال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود قال : إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، تدخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهدية، لم تكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات، ولا بخرات، ولا زفرات، حور عين كأنها بيض مكنون.
وقوله تعالى :﴿ فِي الخيام ﴾ قال البخاري، عن عبد الله بن قيس أن رسول الله ﷺ قال :« إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون »، ورواه مسلم بلفظ :« إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً » وقال ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء قال : لؤلؤة واحدة فيها سبعون باباً من در. وعن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام ﴾ قال : خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربع فراسخ في أربع فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وقال عبد الله بن وهب، عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال :« أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء » وقوله تعالى :﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في صوف الأوائل بقوله :﴿ كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ٥٨-٥٩ ]، وقوله تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾ قال ابن عباس : الرفرف المحابس، وكذا قال مجاهد وعكرمة هي المجالس، وقال عاصم الجحدري :﴿ مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ ﴾ يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري، وقال سعيد بن جبير : الرفرف رياض الجنة، وقوله تعالى :﴿ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾ قال ابن عباس والسدي : العبقري الزرابي، وقال سعيد بن جبير : هي عتاق الزرابي يعني جيادها، وقال مجاهد : العبقري الديباج.
وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى :﴿ حِسَانٍ ﴾ فقال : هي بسط أهل الجنة لا أباً لكم فاطلبوها، وقال أبو العالية : العبقري الطنافس المحملة إلى الرقة ما هي، وقال القيسي : كل ثوب موشّى عند العرب عبقري، وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة، فإنه قد قال هناك :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ [ الرحمن : ٥٤ ]، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ] فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيرتين، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين.
2464
ثم قال :﴿ تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام ﴾ أي هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وقال ابن عباس ﴿ ذِي الجلال والإكرام ﴾ : ذي العظمة والكبرياء. « أجلّوا الله يغفر لكم » وفي الحديث الآخر :« أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام » وفي رواية :« أَلِظُّوا بذي الجلال والإكرام » وقال الجوهري : ألظ فلان بفلان إذا لزمه، وقول ابن مسعود : ألظوا بياذا الجلال والإكرام : أي الزموا، يقال : الإلظاظ هو الإلحاح، وفي « صحيح مسلم »، عن عائشة قالت :« كان رسول الله صل الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول :» اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام « ».
2465
Icon