تفسير سورة الحاقة

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
تفسير سورة الحاقة
وهي مكية.

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَاقَّةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨) ﴾
ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها، فقال تعالى :﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴾ وهي الصيحة التي أسكتتهم، والزلزلة التي أسكنتهم. هكذا قال قتادة : الطاغية الصيحة. وهو اختيار ابن جرير١.
وقال مجاهد : الطاغية الذنوب. وكذا قال الربيع بن أنس، وابن زيد : إنها الطغيان، وقرأ ابن زيد :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [ الشمس : ١١ ].
وقال السُّدِّي :﴿ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴾ قال : يعني : عاقر الناقة.
١ - (١) تفسير الطبري (٢٩/٣١)..
﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ﴾ أي : باردة. قال قتادة، والربيع، والسدي، والثوري :﴿ عاتية ﴾ أي : شديدة الهبوب. قال قتادة : عتت عليهم حتى نَقَّبت عن أفئدتهم.
وقال الضحاك :﴿ صرصر ﴾ باردة ﴿ عاتية ﴾ عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة. وقال علي وغيره : عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب.
﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي : سلطها عليهم ﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ أي : كوامل متتابعات مشائيم.
قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والثوري، وغير واحد :﴿ حسوما ﴾ متتابعات.
وعن عكرمة والربيع : مشائيم عليهم، كقوله :﴿ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ﴾ [ فصلت : ١٦ ] قال الربيع : وكان أولها الجمعة. وقال غيره الأربعاء. ويقال : إنها التي تسميها الناس الأعجاز ؛ وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى :﴿ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ وقيل : لأنها تكون في عجز الشتاء، ويقال : أيام العجوز ؛ لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سَرَبا فقتلها الريح في اليوم الثامن. حكاه البغوي١ والله أعلم.
قال ابن عباس :﴿ خاوية ﴾ خربة. وقال غيره : بالية، أي : جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان.
وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور " ٢.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي، حدثنا ابن فُضَيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم، فجعلتهم بين السماء والأرض. فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح٣ وما فيها قالوا : هذا عارض ممطرنا. فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة " ٤.
وقال الثوري عن ليث، عن مجاهد : الريح لها جناحان وذنب.
١ - (١) معالم التنزيل للبغوي (٢٠٨)..
٢ - (٢) صحيح البخاري برقم (١٠٣٥) وصحيح مسلم برقم (٩٠٠)..
٣ - (٣) في م: "فلما رأى أهل الحاضر من عاد الريح"..
٤ - (٤) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٢/٤٢١) وأبو الشيخ في العظمة برقم (٨٠٦) من طريق محمد بن فضيل عن مسلم، به. وقال الهيثمي في المجمع (٧/١١٣): "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف"..
﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ ؟ أي : هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أنه١ ممن ينتسب إليهم ؟ بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خَلفَا.
١ - (٥) في م: "أو"..
﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢) ﴾
الحاقةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ وَلِهَذَا عَظَّم تَعَالَى أمرَها فَقَالَ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ؟
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِهْلَاكَهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ وَهِيَ الصَّيْحَةُ الَّتِي أَسْكَتَتْهُمْ، وَالزَّلْزَلَةُ الَّتِي أَسْكَنَتْهُمْ. هَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: الطَّاغِيَةُ الصَّيْحَةُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ (١).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّاغِيَةُ الذُّنُوبُ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الطُّغْيَانُ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ١١].
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ قَالَ: يَعْنِي: عَاقِرَ النَّاقَةِ.
﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ أَيْ: بَارِدَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: ﴿عَاتِيَةٍ﴾ أَيْ: شَدِيدَةِ الْهُبُوبِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَتَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَقَّبت عَنْ أَفْئِدَتِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿صَرْصَرٍ﴾ بَارِدَةٍ ﴿عَاتِيَةٍ﴾ عَتَتْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ رَحْمَةٍ وَلَا بَرَكَةٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ: عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ أي: كوامل متتابعات مشائيم.
(١) تفسير الطبري (٢٩/٣١).
208
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ ﴿حُسُومًا﴾ مُتَتَابِعَاتٍ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ: مَشَائِيمَ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ١٦] قَالَ الرَّبِيعُ: وَكَانَ أَوَّلُهَا الْجُمْعَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ الْأَرْبِعَاءَ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْأَعْجَازَ؛ وَكَأَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي عَجُزِ الشِّتَاءِ، وَيُقَالُ: أَيَّامُ الْعَجُوزِ؛ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ قَوْمِ عَادٍ دَخَلَتْ سَرَبا فَقَتَلَهَا الرِّيحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. حَكَاهُ الْبَغْوَيُّ (١) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿خَاوِيَةٍ﴾ خَرِبَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَالِيَةٍ، أَيْ: جَعَلَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ بِأَحَدِهِمُ الْأَرْضَ فَيَخِرُّ مَيِّتًا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَيَنْشَدِخُ رَأْسُهُ وَتَبْقَى جُثَّتُهُ هَامِدَةً كَأَنَّهَا قَائِمَةُ النَّخْلَةِ إِذَا خَرَّتْ بِلَا أَغْصَانٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قَالَ: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور" (٢).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الضِّريس الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيل، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا إِلَّا مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ، فَمرّت بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمْلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَجَعَلَتْهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاضِرَةِ الرِّيحَ (٣) وَمَا فِيهَا قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ" (٤).
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الرِّيحُ لَهَا جَنَاحَانِ وَذَنَبٌ.
﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾ ؟ أَيْ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَقَايَاهُمْ أَنَّهُ (٥) مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ؟ بَلْ بَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ خَلفَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ﴾ قُرئ بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ: وَمِنْ عِنْدِهِ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ مِنْ كُفَّارِ الْقِبْطِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْبِهِينَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ. ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أَيْ بِالْفِعْلَةِ الْخَاطِئَةِ، وَهِيَ التَّكْذِيبُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ: ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أَيْ: بِالْمَعْصِيَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْخَطَايَا.
(١) معالم التنزيل للبغوي (٢٠٨).
(٢) صحيح البخاري برقم (١٠٣٥) وصحيح مسلم برقم (٩٠٠).
(٣) في م: "فلما رأى أهل الحاضر من عاد الريح".
(٤) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٢/٤٢١) وأبو الشيخ في العظمة برقم (٨٠٦) من طريق محمد بن فضيل عن مسلم، به. وقال الهيثمي في المجمع (٧/١١٣) :"فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(٥) في م: "أو".
209
وَلِهَذَا قَالَ: تَعَالَى ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ وَهَذَا جِنْسٌ، أَيْ: كُلّ كذّبَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ. كَمَا قَالَ: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: ١٤]. (١) وَمَنْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْجَمِيعِ، كَمَا قَالَ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٠٥]، ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٢٣]. ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٤١] وَإِنَّمَا جَاءَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ أَيْ: عَظِيمَةً شَدِيدَةً أَلِيمَةً.
قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿رَابِيَةً﴾ شَدِيدَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُهْلِكَةً.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ أَيْ: زَادَ عَلَى الْحَدِّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَارْتَفَعَ عَلَى الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: ﴿طَغَى الْمَاءُ﴾ كَثُرَ -وَذَلِكَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى قَوْمِهِ حِينَ كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، فَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وعَمّ أَهْلَ الْأَرْضَ بِالطُّوفَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ نُوحٍ وَذُرِّيَّتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَان، عَنْ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمْ تَنْزِلْ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ نُوحٍ أُذِنَ لِلْمَاءِ دُونَ الْخَزَّانِ، فَطَغَى الْمَاءُ عَلَى الْخَزَّانِ فَخَرَجَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ وَلَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، إِلَّا يَوْمَ عَادٍ، فَإِنَّهُ أُذِنَ لَهَا دُونَ الْخَزَّانِ فَخَرَجَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ (٢).
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى النَّاسِ: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ وَهِيَ السَّفِينَةُ الْجَارِيَةُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْجِنْسِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنْ جِنْسِهَا مَا تَرْكَبُونَ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ فِي الْبِحَارِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه﴾ [الزُّخْرُفِ: ١٢، ١٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: ٤١، ٤٢].
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ السَّفِينَةَ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أَيْ: وَتَفْهَمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَتَذْكُرَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَافِظَةٌ سَامِعَةٌ (٣) وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ عَقَلَتْ (٤) عَنِ اللَّهِ فَانْتَفَعَتْ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ سَمِعَتْهَا أُذُنٌ وَوَعَتْ. أَيْ: مَنْ لَهُ سَمْعٌ صَحِيحٌ وَعَقْلٌ رَجِيحٌ. وَهَذَا عام فيمن فهم، ووعى.
(١) في م، أ، هـ: "إن كل إلا".
(٢) تفسير الطبري (٢٩/٣٢).
(٣) في م: "سامعة حافظة".
(٤) في م: "تحفظت"، وفي أ: "حفظت".
210
وهذا جنس، أي : كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم. كما قال :﴿ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ١٤ ]. ١ ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع، كما قال :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٠٥ ]، ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ]. ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٤١ ] وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد ؛ ولهذا قال هاهنا :﴿ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ﴾ أي : عظيمة شديدة أليمة.
قال مجاهد :﴿ رابية ﴾ شديدة. وقال السدي : مهلكة.
١ - (١) في م، أ، هـ: "إن كل إلا"..
ثم قال الله تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ﴾ أي : زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود. وقال ابن عباس وغيره :﴿ طَغَى الْمَاءُ ﴾ كثر - وذلك بسبب دعوة نوح، عليه السلام، على قومه حين كذبوه وخالفوه، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن أبي سنان سعيد بن سنان، عن غير واحد، عن علي بن أبي طالب قال : لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان فخرج، فذلك قول الله :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك، إلا يوم عاد، فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله :﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ عتت على الخزان١.
ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ وهي السفينة الجارية على وجه الماء،
١ - (٢) تفسير الطبري (٢٩/٣٢)..
﴿ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً ﴾ عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي : وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه ﴾ [ الزخرف : ١٢، ١٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ [ يس : ٤١، ٤٢ ].
وقال قتادة : أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والأول أظهر ؛ ولهذا قال :﴿ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ أي : وتفهم هذه النعمة، وتذكرها أذن واعية.
قال ابن عباس : حافظة سامعة١ وقال قتادة :﴿ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ عقلت٢ عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله، وقال الضحاك :﴿ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ سمعتها أذن ووعت. أي : من له سمع صحيح وعقل رجيح. وهذا عام فيمن فهم، ووعى.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى، حدثنا علي بن حوشب، سمعت مكحولا يقول : لما نزل٣ على رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سألت ربي أن يجعلها أذُنَ عَلِيّ ". [ قال مكحول ]٤ فكان عَلِيّ يقول : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته.
وهكذا رواه ابن جرير، عن علي بن سهل، عن الوليد بن مسلم، عن علي بن حوشب، عن مكحول٥ به. وهو حديث مرسل.
وقد قال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا جعفر بن محمد بن عامر، حدثنا بشر٦ بن آدم، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد - يعني والد أبي أحمد الزبيري - حدثني صالح بن الهيثم، سمعت بريدة الأسلمي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي :" إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي، وحُقّ لك أن تعي ". قال : فنزلت هذه الآية ﴿ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾
ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف، عن بشر بن آدم، به٧ ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن داود الأعمى، عن بُرَيدة، به. ولا يصح أيضا.
١ - (٣) في م: "سامعة حافظة"..
٢ - (٤) في م: "تحفظت"، وفي أ: "حفظت"..
٣ - (١) في م، أ: "لما نزلت"..
٤ - (٢) زيادة من م، أ..
٥ - (٣) تفسير الطبري (٢٩/٣٥)..
٦ - (٤) في أ: "حدثنا بشير"..
٧ - (٥) تفسير الطبري (٢٩/٣٦) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الكنز برقم (٣٦٤٢٦) وقال ابن عساكر: "هذا إسناد لا يعرف والحديث شاذ"..
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ صُبْحٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَوْشَبٍ، سَمِعْتُ مَكْحُولًا يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ (١) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أذُنَ عَلِيّ". [قَالَ مَكْحُولٌ] (٢) فَكَانَ عَلِيّ يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَنَسِيتُهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مَكْحُولٍ (٣) بِهِ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ (٤) بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَبُو مُحَمَّدٍ -يَعْنِي وَالِدَ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ-حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ الْهَيْثَمِ، سَمِعْتُ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُدْنِيَكَ وَلَا أُقْصِيَكَ، وَأَنْ أُعْلِمَكَ وَأَنْ تَعِيَ، وحُقّ لَكَ أَنْ تَعِيَ". قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ آدَمَ، بِهِ (٥) ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ الْأَعْمَى، عَنْ بُرَيدة، بِهِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا.
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ نَفْخَةُ الْفَزَعِ، ثُمَّ يَعْقُبُهَا نَفْخَةُ الصَّعْقِ حِينَ يُصعق مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَعْدَهَا نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهِيَ هَذِهِ النَّفْخَةُ. وَقَدْ أَكَّدَهَا هَاهُنَا بِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْرَارٍ وَتَأْكِيدٍ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: هِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ. وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ أَيْ: فَمُدَّتْ مَدّ الْأَدِيمِ العُكَاظي، وتَبَدّلت الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ أَيْ: قَامَتِ الْقِيَامَةُ. ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ قَالَ سِماك، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَنْشَقُّ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ [النبأ: ١٩].
(١) في م، أ: "لما نزلت".
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) تفسير الطبري (٢٩/٣٥).
(٤) في أ: "حدثنا بشير".
(٥) تفسير الطبري (٢٩/٣٦) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الكنز برقم (٣٦٤٢٦) وقال ابن عساكر: "هذا إسناد لا يعرف والحديث شاذ".
211
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُنْخَرِقَةٌ، وَالْعَرْشُ بِحِذَائِهَا.
﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ الْمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ، أَيِ: الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى مَا لَمْ يَهِ مِنْهَا، أَيْ: حَافَّتِهَا. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطْرَافُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَبْوَابُهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ يَقُولُ: عَلَى مَا اسْتَدَقَّ مِنَ السَّمَاءِ، يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْعَرْشِ الْعَرْشَ الْعَظِيمَ، أَوِ: الْعَرْشَ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَميرة، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فِي ذِكْرِ حَمَلة الْعَرْشِ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ (١).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ يحيى بن سَعِيدٍ (٢) حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو السَّمْحِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قَبيل حُيَي بْنُ هَانِئٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: حَمَلَةُ الْعَرْشُ ثَمَانِيَةٌ، مَا بَيْنَ مُوق أَحَدِهِمْ إِلَى مُؤَخَّرِ عَيْنِهِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أذنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلة الْعَرْشِ: بُعْدُ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعُنُقِهِ بِخَفْقِ الطَّيْرِ سَبْعُمِائَةِ عَامٍ".
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ "السُّنَّةِ" مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ: أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ". هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ (٣).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ قَالَ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: ورُوي عَنِ الشَّعْبِيِّ [وَعِكْرِمَةَ] (٤) وَالضَّحَّاكِ. وَابْنِ جُرَيْج، مِثْلُ ذَلِكَ. وَكَذَا رَوَى السُّدِّي عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ. وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنْهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الكَرُوبيّون ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ، كُلُّ جِنْسٍ (٥) مِنْهُمْ بِقَدْرِ (٦) الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْمَلَائِكَةِ.
وَقَوْلُهُ: (٧) أَيْ تُعْرَضُونَ على عالم السر والنجوى الذي
(١) حديث الأوعال رواه أبو داود في السنن برقم (٤٧٢٣) وتقدم عند تفسير الآية: ٧ من سورة غافر.
(٢) في م: "حدثنا أبو سعيد عن ابن سعيد".
(٣) سنن أبي داود برقم (٤٧٢٧).
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) في م: "كل جزء".
(٦) في أ: "بعدة".
(٧) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
212
أي : فمدت مَدّ الأديم العُكَاظي، وتَبَدّلت الأرض غير الأرض،
﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ أي : قامت القيامة.
﴿ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ قال سِماك، عن شيخ من بني أسد، عن علي قال : تنشق السماء من المجرة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جريج : هي كقوله :﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴾ [ النبأ : ١٩ ].
وقال ابن عباس : منخرقة، والعرش بحذائها.
﴿ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ﴾ الملك : اسم جنس، أي : الملائكة على أرجاء السماء.
قال ابن عباس : على ما لم يَهِ منها، أي : حافتها. وكذا قال سعيد بن جبير، والأوزاعي. وقال الضحاك : أطرافها. وقال الحسن البصري : أبوابها. وقال الربيع بن أنس في قوله :﴿ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ﴾ يقول : على ما استدق من السماء، ينظرون إلى أهل الأرض.
وقوله :﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ أي : يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة. ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو : العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب. وفي حديث عبد الله بن عَميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، في ذكر حَمَلة العرش أنهم ثمانية أوعال١.
وقال ابن أبى حاتم : حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد ٢ حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو السمح البصري، حدثنا أبو قَبيل حُيَي بن هانئ : أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : حملة العرش ثمانية، ما بين مُوق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : كتب إليّ أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري : حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أذنَ لي أن أحدثكم عن ملك من حَمَلة العرش : بُعْدُ ما بين شحمة أذنه وعنقه بخفق الطير سبعمائة عام ".
وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات. وقد رواه أبو داود في كتاب " السنة " من سننه : حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش : أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ". هذا لفظ أبي داود٣.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ قال : ثمانية صفوف من الملائكة. قال : ورُوي عن الشعبي [ وعكرمة ]٤ والضحاك. وابن جُرَيْج، مثل ذلك. وكذا روى السُّدِّي عن أبي مالك، عن ابن عباس : ثمانية صفوف. وكذا روى العوفي، عنه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس : الكَرُوبيّون ثمانية أجزاء، كل جنس٥ منهم بقدر٦ الإنس والجن والشياطين والملائكة.
١ - (١) حديث الأوعال رواه أبو داود في السنن برقم (٤٧٢٣) وتقدم عند تفسير الآية: ٧ من سورة غافر..
٢ - (٢) في م: "حدثنا أبو سعيد عن ابن سعيد"..
٣ - (٣) سنن أبي داود برقم (٤٧٢٧)..
٤ - (٤) زيادة من م، أ..
٥ - (٥) في م: "كل جزء"..
٦ - (٦) في أ: "بعدة"..
وقوله :١ أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر ؛ ولهذا قال :﴿ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾
وقد قال ابن أبي الدنيا : أخبرنا إسحاق بن إسماعيل، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن بُرْقان، عن ثابت بن الحجاج قال : قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وَتَزَيَّنُوا للعرض الأكبر :﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ ٢.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع، حدثنا علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذيرُ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ".
ورواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، به٣ وقد رواه الترمذي عن أبي كُرَيْب عن وكيع عن علي بن علي، عن الحسن، عن أبي هريرة، به٤.
وقد روى ابنُ جرير عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، بن سليم بن حيان، عن مروان الأصغر، عن أبي وائل، عن عبد الله قال : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : عرضتان، معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي. ورواه سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة مرسلا مثله٥.
١ - (٧) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
٢ - (١) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا برقم ٢ وذكره المؤلف في مسند عمر (٢/٦١٨) وقال: "أثر مشهور وفيه انقطاع، وثابت بن الحجاج هذا جزري تابعي صغير لم يدرك، ولم يرو عنه سوى جعفر بن برقان، وله عند أبي داود في السنن حديثان"..
٣ - (٢) المسند (١٤/٤١٤) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٧٧) وقال البوصيري في الزوائد (٣/٣١٥): "هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، الحسن لم يسمح من أبي موسي. قاله علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة"..
٤ - (٣) سنن الترمذي برقم (٢٤٢٥)..
٥ - (٤) تفسير الطبري (٢٩/٣٨)..
لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمْ، بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالظَّوَاهِرِ وَالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقان، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنوا، فَإِنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ (١).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَفَاعَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فجدالٌ ومعاذيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيع، بِهِ (٢) وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْب عَنْ وَكِيعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الحسن، عن أبي هريرة، بِهِ (٣).
وَقَدْ رَوَى ابنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدِ بن موسى، عن يزيد، بن سليم بْنِ حَيَّانَ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْغَرِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ: عَرْضَتَانِ، مَعَاذِيرُ وَخُصُومَاتٌ، وَالْعَرْضَةُ الثَّالِثَةُ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَروبة، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا مِثْلَهُ (٤).
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ سَعَادَةِ مَنْ أَوُتِيَ كِتَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَمِينِهِ، وَفَرَحِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ يَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ أَيْ: خُذُوا اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ وَحَسَنَاتٌ مَحْضَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ بَدل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ أَيْ: هَا اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ، وَ "ؤُمْ" زَائِدَةٌ. كَذَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى: هَاكُمْ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبَى حَاتِمٍ حَدَّثَنَا: بِشْرُ بْنُ مَطَرٍ (٥) الْوَاسِطِيُّ، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا
(١) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا برقم (٢) وذكره المؤلف في مسند عمر (٢/٦١٨) وقال: "أثر مشهور وفيه انقطاع، وثابت بن الحجاج هذا جزري تابعي صغير لم يدرك، ولم يرو عنه سوى جعفر بن برقان، وله عند أبي داود في السنن حديثان".
(٢) المسند (١٤/٤١٤) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٧٧) وقال البوصيري في الزوائد (٣/٣١٥) :"هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، الحسن لم يسمح من أبي موسي. قاله علي لن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة".
(٣) سنن الترمذي برقم (٢٤٢٥).
(٤) تفسير الطبري (٢٩/٣٨).
(٥) في أ: "بشر بن مطير".
213
عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: الْمُؤْمِنُ يُعْطَى كِتَابَهُ [بِيَمِينِهِ] (١) فِي سِتْرٍ مِنَ اللَّهِ، فَيَقْرَأُ سَيِّئَاتِهِ، فَكُلَّمَا قَرَأَ سَيِّئَةً تَغَيَّرَ لَوْنُهُ حَتَّى يَمُرَّ بِحَسَنَاتِهِ فَيَقْرَؤُهَا، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ لَوْنُهُ. ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِذَا سَيِّئَاتُهُ قَدْ بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ (٢) أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ -غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ-قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقِفُ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُبْدِي سَيِّئَاتِهِ فِي ظَهْرِ صَحِيفَتِهِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ عَمِلْتَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ لَهُ إِنِّي لَمْ أَفْضَحْكَ بِهِ، وَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ. فَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ حِينَ نَجَا مِنْ فَضْحه يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ حديثُ ابْنِ عُمَرَ حِينَ سُئِلَ عَنِ النجوى، فقال: سمعت النبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُدْنِي اللهُ العبدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيُقَرِّره بِذُنُوبِهِ كُلِّهَا، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. ثُمَّ يُعطَى كتابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادِ: ﴿هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هُودٍ: ١٨] (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ أَيْ: قَدْ كُنْتُ مُوقِنًا فِي الدُّنْيَا أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَمَا قَالَ: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٤٦].
قَالَ اللَّهُ: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ أَيْ: مُرْضِيَّةٍ، ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ أَيْ: رَفِيعَةٌ قُصُورُهَا، حِسَانٌ حُورُهَا، نَعِيمَةٌ دُورُهَا، دَائِمٌ حُبُورُهَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُتْبَةَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ السَّكُوني، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ قَالَ: سمعتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: سَأَلَ رجلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يَتَزَاوَرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّهُ لَيَهْبِطُ أَهْلُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا إِلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، فَيُحَيُّونَهُمْ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الدَّرَجَةِ السُّفْلَى يَصْعَدُونَ إِلَى الْأَعْلَيْنَ، تَقْصُرُ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ" (٤)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (٥).
وَقَوْلُهُ: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: أَيْ قَرِيبَةٌ، يَتَنَاوَلُهَا أَحَدُهُمْ، وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرِهِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: [حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّبُرِيُّ] (٦) عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سفيان الثوري،
(١) زيادة من م.
(٢) في أ: "موسى بن أبي عبيدة".
(٣) انظر: تفسير الآية: ١٨ من سورة هود وتخريجه هناك.
(٤) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (٤٢١) من طريق جعفر بن الزبير وبشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعًا بنحوه، وجعفر بن الزبير وبشر بن نمير متروكان واتهما بالوضع.
(٥) صحيح البخاري برقم (٢٧٩٠) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٦) زيادة من المعجم الكبير للطبراني (٦/٢٧٢).
214
وقوله :﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ أي : قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال :﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ].
قال الله :﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ أي : مرضية،
﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ أي : رفيعة قصورها، حسان حورها، نعيمة دورها، دائم حبورها.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أبو عُتْبَةَ الحسن بن علي بن مسلم السَّكُوني، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام الأسود قال : سمعتُ أبا أمامة قال : سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يتزاور أهل الجنة ؟ قال :" نعم، إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى، فيحيونهم ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين، تقصر بهم أعمالهم " ١
وقد ثبت في الصحيح :" إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " ٢.
١ - (٤) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (٤٢١) من طريق جعفر بن الزبير وبشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعًا بنحوه، وجعفر بن الزبير وبشر بن نمير متروكان واتهما بالوضع..
٢ - (٥) صحيح البخاري برقم (٢٧٩٠) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
وقوله :﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ قال البراء بن عازب : أي قريبة، يتناولها أحدهم، وهو نائم على سريره. وكذا قال غير واحد.
قال الطبراني :[ حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ]١ عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عطاء بن يسار، عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز :( بسم الله الرحمن الرحيم ) هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية " ٢.
وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد، بن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يعطى المؤمن جَوَازا على الصراط :( بسم الله الرحمن الرحيم )، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية " ٣.
١ - (٦) زيادة من المعجم الكبير للطبراني (٦/٢٧٢)..
٢ - (١) المعجم الكبير للطبراني (٦/٢٧٢) وعبد الرحمن بن زياد ضعيف، ورواه ابن عدى في الكامل (١/٣٤٤) من طريق إسحاق الدبري، به. وقال: "حدث عن عبد الرزاق بحديث منكر" ثم ذكر هذا الحديث..
٣ - (٢) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (٢/٤٤٦) من طريق أبي بكر - محمد بن خشام - عن العباس البلخي، عن سعدان بن سعيد الحكمي عن سليمان التيمي به. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الطريق الأول - أي طريق عبد الرزاق - ففيه عبد الرحمن بن زياد قال أحمد بن حنبل: نحن لا نروي عن عبد الرحمن. وقال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الثقات ويدلس. وأما الطريق الثاني، فقال الدارقطني: تفرد به سعدان عن التيمي. قال ابن الجوزي: سعدان مجهول، وكذلك محمد بن خشام"..
وقوله :﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ أي : يقال لهم ذلك ؛ تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا. وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اعملوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخلَه عملُه الجنةَ ". قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :" ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدني الله برحمة منه وفضل " ١.
١ - (٣) صحيح البخاري برقم (٥٦٧٣) وصحيح مسلم برقم (٢٨١٦) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أنْعُمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بِجَوَازٍ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، أَدْخِلُوهُ جَنَّةً عَالِيَةً، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ" (١).
وَكَذَا رَوَاهُ الضِّيَاءُ فِي صِفَةِ الجنة من طريق سعدان بن سعيد، بن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ سَلْمَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُعْطَى الْمُؤْمِنُ جَوَازا عَلَى الصِّرَاطِ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِفُلَانٍ، أَدْخِلُوهُ جَنَّةً عَالِيَةً، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ؛ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ، وَامْتِنَانًا وَإِنْعَامًا وَإِحْسَانًا. وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اعْمَلُوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يدخلَه عملُه الجنةَ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدني اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ" (٣).
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) ﴾
(١) المعجم الكبير للطبراني (٦/٢٧٢) وعبد الرحمن بن زياد ضعيف، ورواه ابن عدى في الكامل (١/٣٤٤) من طريق إسحاق الدبري، به. وقال: "حدث عن عبد الرزاق بحديث منكر" ثم ذكر هذا الحديث.
(٢) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (٢/٤٤٦) من طريق أبي بكر -محمد بن خشام- عن العباس البلخي، عن سعدان بن سعيد الحكمي عن سليمان التيمي به. وقال ابن الجوززي: "هذا حديث لا يصح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما الطريق الأول -أي طريق عبد الرزاق- ففيه عبد الرحمن بن زياد قال أحمد بن حنبل: نحن لا نروى عن عبد الرحمن. وقال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الثقات ويدلس. وأما الطريق الثاني، فقال الدارقطني: تفرد به سعدان عن التيمي. قال ابن الجوزي: سعدان مجهول، وكذلك محمد بن خشام".
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٦٧٣) وصحيح مسلم برقم (٢٨١٦) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العَرَصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم، فيقول :﴿ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴾
قال الضحاك : يعني موته لا حياة بعدها. وكذا قال محمد بن كعب، والربيع، والسدي.
وقال قتادة : تمنى١ الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه.
١ - (١) في م: "يعني"..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العَرَصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم، فيقول :﴿ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴾
قال الضحاك : يعني موته لا حياة بعدها. وكذا قال محمد بن كعب، والربيع، والسدي.
وقال قتادة : تمنى١ الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه.
١ - (١) في م: "يعني"..

﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ أي : لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذابَ الله وبَأسه، بل خَلَص الأمر إليَّ وحدي، فلا معين لي ولا مجير.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨:﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ أي : لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذابَ الله وبَأسه، بل خَلَص الأمر إليَّ وحدي، فلا معين لي ولا مجير.
فعندها يقول الله، عز وجل :﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ أي : يأمر الزبانية أن تأخذه عنْفًا من المحشر، فَتَغُله، أي : تضع الأغلال في عنقه، ثم تُورده إلى جهنم فتصليه إياها، أي : تغمره فيها.
قال ابن أبي حاتم حدثنا : أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن المِنْهَال بن عمرو قال : إذا قال الله، عز وجل ﴿ خذوه ﴾ ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول هكذا، فيلقي سبعين ألفا في النار.
وروى ابن أبي الدنيا في " الأهوال " : أنه يبتدره أربعمائة ألف، ولا يبقى شيء إلا دَقَه، فيقول : ما لي ولك ؟ فيقول : إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك.
وقال الفضيل - هو ابن عياض - : إذا قال الرب، عز وجل :﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾ ابتدره سبعون ألفا ملك، أيهم يجعل الغل في عنقه.
﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ أي : اغمروه فيها.
وقوله :﴿ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾ قال كعب الأحبار : كل حلقة منها قدر حديد الدنيا.
وقال العَوفي عن ابن عباس، وابن جرير : بذراع الملك. وقال ابن جريج، قال ابن عباس :﴿ فاسلكوه ﴾ تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى.
وقال العوفي، عن ابن عباس : يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أن رَصَاصة مثل هذه - وأشار إلى [ مثل ]١ جُمْجُمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة، لسارت أربعين خريفًا الليلَ والنهارَ، قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها ".
وأخرجه الترمذي، عن سُوَيْد بن نصر٢ عن عبد الله بن المبارك، به٣ قال : هذا حديث حسن.
١ - (١) زيادة من المسند والترمذي..
٢ - (٢) في أ: "سويد بن سعيد"..
٣ - (٣) المسند (٢/١٩٧) وسنن الترمذي برقم (٢٥٨٨)..
وقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ أي : لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم ؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد بعضهم على بعض حقّ الإحسان والمعاونة على البر والتقوى ؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" الصلاة، وما ملكت أيمانكم " ١.
١ - (٤) جاء من حديث أنس، وعلي وأم سلمة، وسفينة، رضي الله عنهم، وحديث علي، رضي الله عنه: "كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم..." فذكره، رواه الإمام أحمد في المسند (١/٧٨) وأبو داود في السنن برقم (٥١٥٤)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:وقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ أي : لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم ؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد بعضهم على بعض حقّ الإحسان والمعاونة على البر والتقوى ؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" الصلاة، وما ملكت أيمانكم " ١.
١ - (٤) جاء من حديث أنس، وعلي وأم سلمة، وسفينة، رضي الله عنهم، وحديث علي، رضي الله عنه: "كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم..." فذكره، رواه الإمام أحمد في المسند (١/٧٨) وأبو داود في السنن برقم (٥١٥٤)..

﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ (٣٧) ﴾
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ كِتَابَهُ فِي العَرَصات بِشَمَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُ غَايَةَ النَّدَمِ، فَيَقُولُ: ﴿فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾
قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَوْتَةً لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا. وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى (١) الْمَوْتَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِنْهُ.
﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مَالِي وَلَا جَاهِي عذابَ اللَّهِ وبَأسه، بَلْ خَلَص الْأَمْرُ إليَّ وَحْدِي، فَلَا مُعِينَ لِي وَلَا مُجِيرَ. فَعِنْدَهَا يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾
(١) في م: "يعني".
215
أَيْ: يَأْمُرُ الزَّبَانِيَةَ أَنْ تَأْخُذَهُ عنْفًا مِنَ الْمَحْشَرِ، فَتَغُله، أَيْ: تَضَعُ الْأَغْلَالَ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ تُورده إِلَى جَهَنَّمَ فَتُصِلِيهِ إِيَّاهَا، أَيْ: تَغْمُرُهُ فِيهَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا: أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِذَا قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ ﴿خُذُوهُ﴾ ابْتَدَرَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِنَّ الْمَلَكَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ هَكَذَا، فَيُلْقِي سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النَّارِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي "الْأَهْوَالِ": أَنَّهُ يَبْتَدِرُهُ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ إِلَّا دَقَه، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ الرَّبَّ عَلَيْكَ غَضْبَانُ، فَكُلُّ شَيْءٍ غَضْبَانٌ عَلَيْكَ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ -هُوَ ابْنُ عِيَاضٍ-: إِذَا قَالَ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ ابْتَدَرَهُ سَبْعُونَ ألفا مَلَكٍ، أَيُّهُمْ يَجْعَلُ الْغُلَّ فِي عُنُقِهِ.
﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ أَيِ: اغْمُرُوهُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارُ: كُلُّ حَلْقَةٍ مِنْهَا قَدْرُ حَدِيدِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ العَوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ: بِذِرَاعِ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾ تَدَخُلُ فِي اسْتِهِ ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ يُنْظَمُونَ فِيهَا كَمَا يُنَظَمُ الْجَرَادُ فِي الْعُودِ حِينَ يُشْوَى.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُسْلَكُ فِي دُبُرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَنْخِرَيْهِ، حَتَّى لَا يَقُومَ عَلَى رِجْلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهُ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ رَصَاصة مِثْلَ هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى [مِثْلِ] (١) جُمْجُمة-أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ، لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا الليلَ والنهارَ، قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ قَعْرَهَا أَوْ أَصْلَهَا".
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُوَيْد بْنِ نَصْرٍ (٢) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ (٣) قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ أَيْ: لَا يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَا يَنْفَعُ خَلْقَهُ وَيُؤَدِّي حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلِلْعِبَادِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَقُّ الْإِحْسَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَقُبِضَ النَّبَيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: "الصَّلَاةَ، وما ملكت أيمانكم" (٤).
(١) زيادة من المسند والترمذي.
(٢) في أ: "سويد بن سعيد".
(٣) المسند (٢/١٩٧) وسنن الترمذي برقم (٢٥٨٨).
(٤) جاء من حديث أنس، وعلي وأم سلمة، وسفينة، رضي الله عنهم، وحديث علي، رضي الله عنه: "كان آخر كلام النبي ﷺ... " فذكره، رواه الإمام أحمد في المسند (١/٧٨) وأبو داود في السنن برقم (٥١٥٤).
216
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٥:وقوله :﴿ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ﴾ أي : ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله، لا حميم - وهو القريب - ولا شفيع يطاع، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين.
قال قتادة : هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع، والضحاك : هو شجرة في جهنم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا منصور بن مزاحم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال : ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم.
وقال شَبِيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : الغسلين : الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه : الغسلين : صديد أهل النار.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٥:وقوله :﴿ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ﴾ أي : ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله، لا حميم - وهو القريب - ولا شفيع يطاع، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين.
قال قتادة : هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع، والضحاك : هو شجرة في جهنم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا منصور بن مزاحم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال : ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم.
وقال شَبِيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : الغسلين : الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه : الغسلين : صديد أهل النار.

وقوله: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ مَنْ يُنْقِذُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لَا حَمِيمٌ -وَهُوَ الْقَرِيبُ-وَلَا شَفِيعٌ يُطَاعُ، وَلَا طَعَامٌ له هاهنا إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شَرُّ طَعَامِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ شَجَرَةٌ فِي جَهَنَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ خُصَيف، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا الْغِسْلِينُ، وَلَكِنِّي أَظُنُّهُ الزَّقُّومَ.
وَقَالَ شَبِيب بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْغِسْلِينُ: الدَّمُ وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ لُحُومِهِمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ: الْغِسْلِينُ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ.
﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُقسمًا لِخَلْقِهِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا غَابَ عَنْهُمْ مِمَّا لَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ كلامُه وَوَحْيُهُ وتنزيلُه عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَقَالَ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا، أَضَافَهُ إِلَيْهِ عَلَى مَعْنَى التَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَلِّغَ عَنِ الْمُرْسِلِ؛ وَلِهَذَا أَضَافَهُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ إِلَى الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ وَهَذَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ﴾ يَعْنِي: أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ أَيْ: بِمُتَّهَمٍ ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [التَّكْوِيرِ: ١٩ -٢٥]، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ﴾، فَأَضَافَهُ تَارَةً إِلَى قَوْلٍ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ، وَتَارَةً إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ مَا اسْتَأْمَنَهُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا شُرَيح بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ. قَالَ: فَقَرَأَ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ﴾ قَالَ: فَقُلْتُ: كَاهِنٌ. قَالَ فَقَرَأَ: ﴿وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم : إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال :﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ يعني : محمدًا، أضافه إليه على معنى التبليغ ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ وهذا جبريل، عليه السلام.
ثم قال :﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ ﴾ يعني : أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾ أي : بمتهم ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾ [ التكوير : ١٩ - ٢٥ ]، وهكذا قال هاهنا :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾،

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم : إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال :﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ يعني : محمدًا، أضافه إليه على معنى التبليغ ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ وهذا جبريل، عليه السلام.
ثم قال :﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ ﴾ يعني : أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾ أي : بمتهم ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾ [ التكوير : ١٩ - ٢٥ ]، وهكذا قال هاهنا :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾،

﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري ؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه ؛ ولهذا قال :﴿ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال : قال عمر بن الخطاب : خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال : فقلت : هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال : فقرأ :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ﴾ قال : فقلت : كاهن. قال فقرأ :﴿ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ إلى آخر السورة. قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع١.
فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة، ولله الحمد٢.
١ - (١) المسند (١/١٧)..
٢ - (٢) في أ: "ولله الحمد والمنة"..
ن٤١
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري ؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه ؛ ولهذا قال :﴿ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال : قال عمر بن الخطاب : خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال : فقلت : هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال : فقرأ :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ﴾ قال : فقلت : كاهن. قال فقرأ :﴿ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ إلى آخر السورة. قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع١.
فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة، ولله الحمد٢.
١ - (١) المسند (١/١٧)..
٢ - (٢) في أ: "ولله الحمد والمنة"..

إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ (١).
فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُؤَثِّرَةً فِي هِدَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كَمَا أَوْرَدْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِهِ فِي سِيرَتِهِ الْمُفْرَدَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (٢).
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (٤٤) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا﴾ أَيْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُونَ مُفْتَرِيًا عَلَيْنَا، فَزَادَ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا، أَوْ قَالَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ فَنَسَبَهُ إِلَيْنَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَعَاجَلْنَاهُ بِالْعُقُوبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ ﴿لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ فِي الْبَطْشِ، وَقِيلَ: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِيَمِينِهِ.
﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ، وَهُوَ العِرْقُ الَّذِي الْقَلْبُ مُعَلَّقٌ فِيهِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَكَمُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُسْلِمٌ البَطِين، وَأَبُو صَخْرٍ حُميد بْنُ زِيَادٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ الْقَلْبُ ومَرَاقَّه وَمَا يَلِيهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ أَيْ: فَمَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إِذَا أَرَدْنَا بِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَا (٣) بَلْ هُوَ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، مُقَرِّرٌ لَهُ مَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ، وَمُؤَيِّدٌ لَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ (٤) وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٤].
ثُمَّ قَالَ (٥) ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ﴾ أَيْ: مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ، سَيُوجَدُ مِنْكُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّ التَّكْذِيبَ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمَ القيامة وحكاه عن قتادة بمثله.
(١) المسند (١/١٧).
(٢) في أ: "ولله الحمد والمنة".
(٣) في م: "في ذلك".
(٤) في م: "القاهرات".
(٥) في م: "كما قال"
218
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ يَقُولُ: لَنَدَامَةٌ. وَيُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ بِهِ لَحَسْرَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٢٠٠، ٢٠١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [سبأ: ٥٤] ولهذا قال ها هنا: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ أَيِ: الْخَبَرُ الصِّدْقُ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ أَيِ: الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. [آخِرُ تفسير سورة "الحاقة"، ولله الحمد (١) ] (٢)
(١) في أ: "ولله الحمد والمنة والثناء والحمد الجميل".
(٢) زيادة من م، أ.
219
قيل : معناه لانتقمنا منه باليمين ؛ لأنها أشد في البطش، وقيل : لأخذنا منه بيمينه.
﴿ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ قال ابن عباس : وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والحكم، وقتادة، والضحاك، ومسلم البَطِين، وأبو صخر حُميد بن زياد.
وقال محمد بن كعب : هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.
وقوله :﴿ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ أي : فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك. والمعنى في هذا١ بل هو صادق بار راشد ؛ لأن الله، عز وجل، مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات٢ والدلالات القاطعات.
١ - (٣) في م: "في ذلك"..
٢ - (٤) في م: "القاهرات"..
ثم قال :﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ يعني : القرآن كما قال :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ].
ثم قال١ ﴿ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ﴾ أي : مع هذا البيان والوضوح، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن.
١ - (٥) في م: "كما قال".
ثم قال :﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ قال ابن جرير : وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة وحكاه عن قتادة بمثله.
وروى ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن أبي مالك :﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ يقول : لندامة. ويحتمل عود الضمير على القرآن، أي : وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين، كما قال :﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [ الشعراء : ٢٠٠، ٢٠١ ]، وقال تعالى :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [ سبأ : ٥٤ ] ولهذا قال ها هنا :﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾
أي : الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب.
ثم قال :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ أي : الذي أنزل هذا القرآن العظيم. [ آخر تفسير سورة " الحاقة "، ولله الحمد١ ] ٢
١ - (١) في أ: "ولله الحمد والمنة والثناء والحمد الجميل"..
٢ - (٢) زيادة من م، أ..
Icon