تفسير سورة المعارج

التفسير المنير
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

والعذاب واقع بهم: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ..
[الآيات: ١- ٧].
ثم وصف يوم القيامة وأهواله، والنار وعذابها، وأحوال المجرمين في ذلك اليوم الرهيب: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ.. [الآيات: ٨- ١٨].
وناسب ذلك الحديث الاستطرادي عن طبيعة الإنسان وصفاته التي أوجبت له النار، ومدارها الجزع عند الشدة، والبطر عند النعمة، والبخل والشح عند الحاجة والأزمة وعلاج الفقر: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً.. [الآيات: ١٩- ٢١].
واستثنت من ذلك المؤمنين المصلين الذين يتحلّون بمكارم الأخلاق، فيؤدون حقوق الله وحقوق العباد معا فيستحقون الخلود في الجنان: إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.. [الآيات: ٢٢- ٣٥].
ثم نددت السورة بالكفار، وهددتهم بالفناء والتبديل، وأوعدتهم بما يلاقونه يوم القيامة، ووصفت أحوالهم السيئة في الآخرة وقت البعث والنشور: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ.. [الآيات: ٣٦- ٧٠].
تهديد المشركين بعذاب القيامة وتأكيد وقوعه
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)
110
الإعراب:
سَأَلَ سائِلٌ قرئ بالهمز على الأصل، وقرئ بترك الهمزة بإبدال الهمزة ألفا على غير قياس.
كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ خَمْسِينَ: خبر كان، وأَلْفَ: منصوب على التمييز، وجملة كان مع اسمها وخبرها في موضع جر صفة يَوْمَ.
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ.. يَسْئَلُ وحَمِيمٌ: فعل وفاعل، وحَمِيماً: مفعول به، وقرئ يَسْئَلُ بالضم: فعل مبني للمجهول، تقديره: ولا يسأل حميم عن حميمه. ويُبَصَّرُونَهُمْ: أي يبصر الحميم حميمه، وأراد بالحميم الجمع، والضمير المرفوع في يُبَصَّرُونَهُمْ يعود على المؤمنين، والهاء والميم تعود على الكافرين. والمعنى: يبصّر المؤمنون الكافرين يوم القيامة، أي ينظرون إليهم في النار.
إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى لَظى بالرفع: خبر «إن»، ونَزَّاعَةً: خبر ثان، أو لَظى: خبر «إن»، ونَزَّاعَةً: بدل من لَظى، أو أن هاء إِنَّها ضمير القصة، ولَظى: مبتدأ، ونَزَّاعَةً: خبره، والجملة: خبر «إن». ويصح كون لَظى بالنصب بدلا من هاء إِنَّها، ونَزَّاعَةً بالرفع خبر «إن». ونصب نَزَّاعَةً على الحال المؤكدة، والعامل فيها معنى الجملة، مثل وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة ٢/ ٩١]، وتَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ: خبر ثالث، أو مستأنف.
البلاغة:
بَعِيداً وقَرِيباً بينهما طباق.
سَأَلَ سائِلٌ جناس اشتقاق، وكذا بين الْمَعارِجِ وتَعْرُجُ.
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ أي جبريل: عطف خاص على عام تنبيها على شرفه وفضله.
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ تشبيه مرسل مجمل، لحذف وجه الشبه.
111
لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ.. عموم بعد خصوص لبيان هول الموقف.
إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إلخ سجع مرصع.
المفردات اللغوية:
سَأَلَ سائِلٌ دعا داع به، بمعنى استدعاه، ولذلك عدي بالباء، أي يكون السؤال أحيانا بمعنى طلب الشيء واستدعائه، ويعدّى حينئذ بالباء، تقول: سألت بكذا، أي طلبته. والأصل في السؤال أن يكون بمعنى الاستخبار عن الشيء، ويعدّى حينئذ بعن أو بالباء، تقول: سألت عنه وسألت به وبحاله. والسائل استهزاء وتعنتا: النضر بن الحارث، فإنه قال: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣١] أو أبو جهل، فإنه قال: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء ٢٦/ ١٨٧] أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، استعجل بعذابهم.
لِلْكافِرينَ صفة أخرى لعذاب، أو صلة متعلقة ب واقِعٍ. لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مانع وواق، أي إنه واقع لا محالة. مِنَ اللَّهِ متصل بواقع. ذِي الْمَعارِجِ ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلام الطيب والعمل الصالح، أو مراتب الملائكة أو السموات، والظاهر:
ذي السموات، وقيل: ذي النعم والفضائل التي تكون درجات متفاضلة. تَعْرُجُ تصعد.
وَالرُّوحُ جبريل عليه السلام. إِلَيْهِ إلى مهبط أمره من السماء. فِي يَوْمٍ متعلق بقوله: تَعْرُجُ. كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ هذا لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها، بطريق التمثيل والتخييل، والمعنى: إنها بحيث لو قدر قطعها في زمان، لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا. وهذا في الآخرة بالنسبة للكافر، لما يرى فيه من الشدائد، وأما المؤمن فيكون عليه أخف من صلاة مكتوبة، كما جاء في الحديث النبوي الآتي بيانه.
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي لا استعجال ولا جزع فيه، ولا اضطراب قلب، والكلام متعلق ب سَأَلَ لأن السؤال كان استهزاء أو تعنتا، وذلك مما يضجره، والمعنى: قرب وقوع العذاب، فاصبر، فقد اقترب موعد الانتقام. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يرون العذاب أو يوم القيامة. بَعِيداً من الإمكان، غير واقع. وَنَراهُ قَرِيباً قريبا من الوقوع. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ ظرف لكلمة قَرِيباً أو متعلق بمحذوف تقديره: يقع. كَالْمُهْلِ هو مائع الزيت، أو دردي الزيت (ما يكون في قعر الإناء) أو هو مائع الفلزات (المعادن) المذابة، كذائب الفضة. كَالْعِهْنِ كالصوف المنفوش أو المندوف، أو كالصوف المصبوغ ألوانا. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قريب قريبه، لاشتغال كل واحد بحاله، فالحميم: القريب. يُبَصَّرُونَهُمْ أي ينظر المؤمنون إلى الكافرين في النار. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يتمنى الكافر أو المذنب. لَوْ يَفْتَدِي اى يفتدي. وَصاحِبَتِهِ
112
زوجته. وَفَصِيلَتِهِ عشيرته، لفصله منها. تُؤْوِيهِ تضمه ويأوي إليها. وهو دليل على اشتغال كل مجرم بنفسه، بحيث يتمنى أو يفتدي بأقرب الناس وأعلمهم بقلبه، فضلا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين أو الخلائق. ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يَفْتَدِي أي ثم لو ينجيه الافتداء، وثم للاستبعاد.
كَلَّا ردع للمجرم، ورد لما يودّه، فهي كلمة تفيد الزجر عما يطلب. إِنَّها لَظى أي إن النار هي النار الملتهبة أو جهنم لأنها تتلظى، أي تتلهب على الكفار. «الشوى» أعضاء الإنسان، أو جلدة الرأس، تنتزعها، ثم تعود إلى ما كانت عليه. تَدْعُوا تجذب وتحضر. مَنْ أَدْبَرَ عن الإيمان والحق. وَتَوَلَّى عن الطاعة. وَجَمَعَ المال. فَأَوْعى جعله في وعاء، وكنزه حرصا وتأميلا، ولم يؤدّ حق الله فيه.
سبب النزول: نزول الآيتين (١، ٢) :
أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ قال: هو النضر بن الحارث، قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدي في قوله: سَأَلَ سائِلٌ قال: نزلت بمكة في النضر بن الحارث، وقد قال:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ.. الآية. وكان عذابه يوم بدر.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: نزلت سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ فقال الناس: على من يقع العذاب؟ فأنزل الله: لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.
التفسير والبيان:
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ أي دعا داع وطالب بعذاب واقع بلا شك، يقع في الآخرة كائن للكافرين نازل بهم لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد إذا أراده الله. والسؤال للاستهزاء والتعنت. والسائل: هو
113
النضر بن الحارث بن كلدة أو غيره حين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ أي واقع من جهة الله سبحانه ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة قال ابن عباس: ذِي الْمَعارِجِ: أي ذي السموات وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها. وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.
والمراد: أن العذاب الذي طالب به الكفار واستعجلوه واقع بلا شك.
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي تصعد إلى الله عزّ وجلّ في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليهم السلام في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة من سنوات الدنيا لو أراد البشر الصعود إليها ولكن الملائكة الروحانيين تصعد إليها في زمن قليل. وليس المراد من الخمسين التحديد بعدد معين بل المقصود الكثرة المطلقة وأن صعود الملائكة في مكان بعيد المدى.
وقوله: إِلَيْهِ إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العزّ والكرامة وقوله: فِي يَوْمٍ في رأي الأكثرين متعلق بقوله:
تَعْرُجُ أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم بقصد وصف اليوم بالطول مطلقا.
والمراد باليوم في رأي آخر وهو قول ابن عباس والحسن البصري: هو يوم القيامة تهويلا وتخويفا للكفار والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. وسبب الربط بين سؤال العذاب وبين عروج الملائكة: المقارنة بين اليوم
114
في نظرهم وبين اليوم عند الله فهم يرون الدنيا طويلة الأمد وأما عند الله فالدنيا قصيرة إذا قيست باليوم عند الله.
والجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [٥] أن القيامة مواقف ومواطن فيها خمسون موطنا كل موطن ألف سنة.
وهذا إنما يكون في حق الكافر أما في حق المؤمن فلا لقوله تعالى:
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٢٤] واتفقوا على أن ذلك المقيل والمستقر هو الجنة ولما
أخرجه الإمام أحمد وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«والذي نفسي بيده إنه ليخفّف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي لا تأبه يا محمد بسؤالهم العذاب استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي ولا تضجر واحلم على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به واستعجالهم العذاب استبعادا لوقوعه واصبر صبرا جميلا: لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله وهذا معنى الصبر الجميل.
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً أي إنهم يرون وقوع العذاب بعيدا وقيام الساعة في اعتقاد الكفرة مستحيل الوقوع ويرون أيضا يوم القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنة مستبعدا محالا ونحن نعلمه كائنا قريبا ممكنا غير متعذر لأن كل ما هو آت قريب.
ثم ذكر الله تعالى بعض أوصاف ومظاهر ذلك اليوم فقال:
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي إن يوم القيامة ذلك اليوم الذي تصير السماء فيه كعكر (درديّ)
115
الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص والفضة أي تكون السماء واهية غير متماسكة الأجزاء مبددة وتكون الجبال كالصوف المنفوش إذا طيّرته الريح ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله في ذلك اليوم وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره لما يرى من شدة الأهوال.
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ أي يبصر كل حميم حميمه ويراه ويعرّف عليه لا يخفى منهم أحد عن أحد دون أن يكلم بعضهم بعضا ويتمنى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحق به النار أن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة الذي نزل به بأعز ما يجده من المال أو بأعز الناس وأكرمهم لديه من أولاده وإخوته وزوجته وقبيلته وعشيرته الأقربين الذين ينتمي إليهم في النسب أو يضمونه عند الشدائد ويأوي إليهم وينصرونه بل يود المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعا من الثقلين وغيرهما من الخلائق ولا يقبل منه الفداء ولا ينجيه الافتداء من عذاب جهنم ولو جاء بأهل الأرض.
ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لقمان ٣١/ ٣٣] وقوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر ٣٥/ ١٨] وقوله سبحانه: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠١] وقوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس ٨٠/ ٣٤- ٣٧]. والخلاصة: أنه تعالى ذكر أربع صفات ليوم القيامة: تكون السماء فيه كالمهل وتكون الجبال فيه كالعهن ولا يسأل حميم حميما ويود المجرم الكافر الافتداء من عذاب ذلك اليوم بأعز الناس لديه وجميع من في الأرض.
116
ثم أكّد تعالى رفض قبول الفداء منه واستبعاده قائلا:
كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى أي لا يقبل الفداء من المجرم ولو افتدى بأهل الأرض وبمال الدنيا جميعا إنها جهنم الشديدة الحر مأواه كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل ٩٢/ ١٤] والتي تنزع اللحم عن العظم حتى لا تترك فيه شيئا وتنزع جلدة الرأس وجلد أطراف اليدين والرجلين ولحم الساقين ثم يعود كما كان وتنادي جهنم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا وتولى عنه وجمع المال فجعله في وعاء فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير ومنع حق الله فيه من الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة. قال الحسن البصري: يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا.
وكلمة كَلَّا ردع للمجرم عن تلك الأمنية وبيان امتناع قبول الفداء منه وضمير إِنَّها للنار ولم يجر لها ذكر لأن العذاب دلّ عليها ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة أي إن القصة. والدعاء على حقيقته كما روي عن ابن عباس أو هو مجاز حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين بالدعاء والطلب لهم فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- طلب كفار مكة تعجيل العذاب الموعود به استهزاء وتعنّتا والعذاب من الله صاحب معارج السماء أو معارج الملائكة واقع حتما بالكفار في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد.
٢- تصعد الملائكة وجبريل في المعارج التي جعلها الله لهم إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل برّه وكرامته فليس المراد من قوله إِلَيْهِ المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده وهو موضع العزّ والكرامة. وعروج
117
الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وهذا هو الرأي الأصح في تقديري وهو قول الأكثرين كما تقدم وقيل: المراد باليوم هو يوم القيامة الموصوف بأنه بمقدار خمسين ألف سنة تهويلا وتخويفا للكفار. قال ابن عباس: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار.
قال القرطبي عن قول ابن عباس: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله بدليل
حديث أبي سعيد الخدري المتقدم وحديث أبي هريرة فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والنسائي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل لم يؤدّ زكاة ماله إلا جعل شجاعا «١» من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس»
فهذا يدل على أنه يوم القيامة «٢».
وهذا كما تقدم بالنسبة للكافر وأما بالنسبة للمؤمن فيكون يوم الحساب في القيامة بمقدار ما بين الصلاتين كما ثبت في الحديث الصحيح.
٣- أمر الله نبيّه بالصبر الجميل على أذى قومه الذين يرون العذاب بالنار بعيدا أي غير كائن وهو في تقدير الله قريب الحصول لأن ما هو آت فهو قريب. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله.
٤- ذكرت الآيات أوصافا أربعة: هي صيرورة السماء كدرديّ الزيت وعكره أو كالمذاب من المعادن من الرصاص والنّحاس والفضة وجعل الجبال كالصوف المنفوش أو المصبوغ ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه مع أن الرجل يرى أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم ويتمنى الكافر أن يفتدي من عذاب جهنم بأعزّ من كان عليه
(١) الشجاع: الحية الذكر.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٨٢ وما بعدها.
118
في الدنيا من أقاربه فلا يقدر ويودّ لو فدي بهم لافتدى ثم يخلّصه (ينجيه) ذلك الفداء.
٥- كلا كما قال تعالى للزجر والردع ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء إن له جهنم تتلظى نيرانها وتنزع جلدة الرأس واللحم عن العظم في الأطراف والجسد وتطلب إليها كل من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان وجمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى فكان جموعا منوعا لأنه لم يؤدّ الزكاة والحقوق الواجبة فيه وتشاغل به عن دينه وزهى باقتنائه وتكبر.
الخصال العشر التي تعالج طبع الإنسان
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١٩ الى ٣٥]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥)
الإعراب:
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً العامل في إِذا الأولى: «هلوع» وفي إِذا الثانية: «منوع». وهَلُوعاً حال من ضمير
119
خُلِقَ وهذه الحال تسمى الحال المقدّرة لأن الهلع إنما يحدث بعد خلقه لا في حال خلقه.
وجَزُوعاً ومَنُوعاً: خبر كان مقدرة وتقديره: يكون جزوعا ويكون منوعا.
البلاغة:
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً بينهما مقابلة.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْإِنْسانَ أريد بالإنسان الناس فلذلك استثني منه إِلَّا الْمُصَلِّينَ.
هَلُوعاً سريع الحزن والجزع شديد الحرص قليل الصبر قال الزمخشري: الهلع: سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير. الشَّرُّ أي الضّر. جَزُوعاً كثير الجزع والمراد أنه يئوس قنوط والجزع: حزن يصرف الإنسان عن مهامّه. الْخَيْرُ السعة أو المال والغنى. مَنُوعاً كثير المنع يبالغ في الإمساك. وهذه الأوصاف الثلاثة (الهلع والجزع والمنع) طبائع جبل الإنسان عليها.
إِلَّا الْمُصَلِّينَ أي المؤمنين استثناء من الموصوفين بالصفات المذكورة. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ مواظبون لا يشغلهم عنها شاغل. حَقٌّ مَعْلُومٌ نصيب معين واجب كالزكاة والنذور. لِلسَّائِلِ الفقير الذي يستجدي. وَالْمَحْرُومِ الفقير المتعفف الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم. يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ يصدقون بيوم الجزاء تصديقا قلبيا وعمليا فيجتهد في العبادة وينفق من ماله طمعا في المثوبة الأخروية. مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم. إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ غير مأمون النزول وهي جملة اعتراضية تدلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في طاعته. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ محافظون عليها من الحرام. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء الرقيقات حينما كان الرّق قائما موجودا.
العادُونَ المتجاوزون الحلال إلى الحرام أو الحدود المسموح بها شرعا. لِأَماناتِهِمْ ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا وقرئ: «لأمانتهم». وَعَهْدِهِمْ ما عاهدوا عليه والتزموا الوفاء به. راعُونَ حافظون. بِشَهاداتِهِمْ جمعت لاختلاف أنواعها وقرئ:
«بشهادتهم». قائِمُونَ يؤدون الشهادة ولا يكتمونها. يُحافِظُونَ يؤدونها في أوقاتها مراعين شرائطها وفرائضها وسننها. وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بهم أولا وآخرا للدلالة على فضلها.
مُكْرَمُونَ بثواب الله.
120
المناسبة:
بعد بيان أوصاف يوم القيامة الرهيبة، نبّه الله تعالى إلى طبائع البشر واتصافهم بالهلع والجزع والمنع التي تجمع أصول الأخلاق الذميمة، ثم استثنى المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال، ويتصفون بصفات عشر لعلاج أمراض النفس البشرية، وليكونوا قدوة للإنسانية ومثلا أعلى يحتذي به.
التفسير والبيان:
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً أي إن الإنسان جبل على الضجر أو الهلع: وهو شدة الحرص، وقلة الصبر، فلا يصبر على بلاء، ولا يشكر على نعماء، وفسّر ذلك بأنه إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك من الضّر، فهو كثير الجزع أو الحزن والشكوى، وإذا أصابه الخير من الغنى والسعة أو المنصب والجاه أو القوة والصحة ونحو ذلك من النعم، فهو كثير المنع والإمساك والبخل على غيره.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شرّ ما في رجل: شحّ هالع، وجبن خالع».
ثم استثنى الله تعالى من اتصف بالصفات العشر التالية، وهي:
١- ٢: أداء الصلاة والمواظبة عليها: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي إن الناس يتصفون بصفات الذّم إلا الموفقين المهديين إلى الخير، وهم الذين يؤدون صلاتهم، ويحافظون على أوقاتها وواجباتها، فلا يتركونها في شيء من الأوقات، ولا يشغلهم عنها شاغل، ولا يخلون بشيء من فرائضها وسننها، ويتمثلون حقيقتها من الصلة بالله والسكون والخشوع، فهؤلاء ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع، وإنما بإيمانهم وكون دين الحق في نفوسهم على صفات محمودة وخلال مرضية.
121
وهذا دليل على وجوب المواظبة على العبادة، كما
جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وفي لفظ «ما داوم عليه صاحبه»
قالت: وكان رسول الله إذا عمل عملا داوم عليه، أو أثبته. فيكون المراد بالآية الذين يداومون على الصلوات في أوقاتها، وأما الاهتمام بشأنها فيحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء، وستر العورة، وطلب القبلة وغيرها، وتعلق القلب بها إذا دخل وقتها، ورعاية أمور مقارنة للصلاة، كالخشوع، والاحتراز عن الرياء، والإتيان بالنوافل والمكملات. ورعاية أمور لاحقة بالصلاة، كالاحتراز عن اللغو وما يضادّ الطاعة لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فارتكاب المعصية بعد الصلاة دليل على عدم قبول تلك الصلاة.
٣- أداء الزكاة والواجبات المالية: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي والذين في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات والبائسين، سواء سألوا الناس أو تعففوا، وذلك يشمل الزكوات المفروضة وكل ما يلزم الإنسان نفسه به، من نذر، أو صدقة دائمة، أو إغاثة مستمرة. وهذا دليل على وجوب العبادة المالية ذات الأهداف الاجتماعية، بعد وجوب العبادات البدنية ذات المغزى الأخلاقي المربي للنفس، والغاية الدينية السامية، فيكون المراد بالحق: الزكاة المفروضة، بدليل وصفه بأنه معلوم، واقترانه بإدامة الصلاة.
وقيل: هو ما سوى الزكاة، وإنه على طريق الندب والاستحباب.
٤- التصديق بيوم الجزاء: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي والذين يوقنون بيوم القيامة أو بالمعاد والحساب والجزاء، لا يشكون فيه ولا يجحدونه، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب. وهذا دليل على أن العمل له غاية تدفع إلى تصحيح الاعتقاد والقول والفعل.
٥- الخوف من عذاب الله: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ
122
عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
أي والذين هم خائفون وجلون من عذاب الله إذا تركوا الواجبات، واقترفوا المحظورات، فإن العذاب واقع حتما، ولا ينبغي لأحد أن يأمنه، وعلى كل واحد أن يخافه، إلا بأمان من الله تعالى.
ونظير الآية: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال ٨/ ٢].
وقوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٦٠].
وهذا دليل على أن الخوف من العقاب باعث على الطاعة وزاجر عن المعصية، وأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله، وإن بالغ في الطاعة.
٦- العفة والبعد عن الفاحشة: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي والذين يكفون فروجهم عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه، وهو الزوجة وملك اليمين الذي هو الإماء، فلا لوم في الاستمتاع المشروع بهما، أما من قصد غير ذلك فهم المتجاوزون الحدود، المعتدون الذين يلحقون الضرر بأنفسهم وبأمتهم.
وهذا دليل على حرمة كل ما عدا الزواج ونحوه من الاستمتاع بالإماء، حينما كان الرق قائما في العالم.
٧- ٨: أداء الأمانات والوفاء بالعهود: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي الذين يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها إلى أهلها، ويوفّون بالمعاهدات، ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم، فإذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا. وهذه صفات المؤمنين، وضدها صفات المنافقين، كما
ورد في الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب،
123
وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»
وفي رواية: «إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
٩- أداء الشهادة بحق: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أي الذين يؤدون الشهادة عند القضاة بحق، ويحافظون عليها دون زيادة ولا نقصان، ودون مجاملة لقريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها.
١٠- الحفاظ على الصلاة الكاملة: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أي والذين يحافظون على مواقيت الصلاة وأركانها وواجباتها ومستحباتها، لا يخلّون بشيء منها، ولا يشتغلون بشاغل عنها، ولا يفعلون بعدها ما يتناقض أو يتعارض معها، فيبطل ثوابها ويحبط أجرها، فيدخلون في صلاتهم بحماس ورغبة، ويفرغون قلوبهم من شواغل الدنيا، ويفكرون فيما يقرءون أو يرددون من الأذكار، وتحضر قلوبهم مع الله، ويفهمون أي القرآن الكريم.
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أي أولئك الموصوفون بالصفات السابقة، مستقرون في جنات الخلود، مكرمون بأنواع الكرامات، وألوان الملاذ والمسارّ، كما جاء في الحديث الذي رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد: «في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- كل إنسان مخلوق بطبائع معينة أساسها الحرص والجزع، ويجمعها صفة الهلع: وهو في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشة، فلا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي، فإذا مسّه الخير لم يشكر، وإذا مسّه الضر لم يصبر.
124
٢- إن شأن المؤمنين المصلين البعد عن الصفات الذميمة المبنية على الهلع، فصلاتهم الصحيحة الكاملة تربي فيهم الأخلاق الكريمة، وتمنعهم عن الأوصاف السيئة.
فتراهم يؤدون الصلاة المكتوبة على وجهها الصحيح، وفي مواقيتها المطلوبة شرعا، ويداومون عليها دون انقطاع ولا تضييع، ويؤدون الزكاة المفروضة للفقراء والمساكين، ويؤمنون بيوم الجزاء وهو يوم القيامة، ويخافون من عذاب ربّهم، فهو العذاب الشديد الذي لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.
ويحافظون على فروجهم من الزنى أو الفاحشة، ولا يستمتعون بالنساء إلا من طريقين فقط، هما: الزواج والتسرّي بالإماء، ومن قصد غير ذلك فهو من المعتدين المتجاوزين حدود الله تعالى.
ويرعون الأمانات، ويوفون بالمواثيق والمعاهدات، ويؤدون الشهادات عند الحكام بحق وصدق على من كانت عليه من قريب أو بعيد، ولا يكتمونها ولا يغيرونها.
ويحافظون على كيفية الصلاة المقررة شرعا، من وضوء وإتمام ركوع وسجود، وسكون وخشوع، دون اشتغال عنها بشيء من الشواغل، لا قبل الدخول فيها، ولا في أثنائها، ولا بعد الفراغ منها بالاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي.
وجزاء هؤلاء المتصفين بالصفات المذكورة، والذي وعد به الله عزّ وجلّ هو الظفر بالجنات، والإكرام فيها بأنواع المكرمات.
125
أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٤]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)
الإعراب:
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ما: في موضع رفع مبتدأ، وخبره: لِ الَّذِينَ وكَفَرُوا: صلة «الذين»، وقِبَلَكَ: ظرف مكان في موضع الحال من ضمير كَفَرُوا أو من المجرور: لِ الَّذِينَ أي كائنين قبلك.
ومُهْطِعِينَ: حال بعد حال، وعِزِينَ: حال من ضمير مُهْطِعِينَ أو (الذين).
وعَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ: من صلة عِزِينَ. وعِزِينَ جمع عزة، وأصلها عزوة أو عزهة مثل سنة، ثم حذفت اللام، وجمعت بالواو والنون عوضا عن المحذوف، مثل سنون.
إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ عَلى: في موضع نصب، متعلق ب (قادرون) ونُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ: تقديره نبدّلهم بخير منهم، فحذف المفعول الأول، وحرف الجر من الثاني.
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً يَوْمَ: بدل من قوله: يَوْمَهُمُ في قوله تعالى: حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ أي حتى يلاقوا يوم يخرجون. وسِراعاً: حال من واو يَخْرُجُونَ.
وكذلك قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ حال من ضمير يَخْرُجُونَ.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من واو يُوفِضُونَ وكذلك تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
126
ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ تقديره: ذلك اليوم الذي كانوا يوعدونه، فحذف المفعول العائد إلى الاسم الموصول وهو الَّذِي تخفيفا، مثل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١] أي بعثه. وذلِكَ: مبتدأ وما بعده الخبر.
البلاغة:
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ.. استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ.
كَلَّا، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ كناية عن المني، مع نزاهة التعبير، وحسن التذكير.
كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ تشبيه مرسل مجمل، وفي التشبيه تهكم بهم، وتعريض بسخف عقولهم، وتجهيل لهم بعبادة غير الله.
المفردات اللغوية:
قِبَلَكَ حولك وناحيتك أو نحوك. مُهْطِعِينَ مسرعين مديمي النظر نحوك.
عِزِينَ جماعات متفرقين حلقات، جمع عزة، وأصلها عزوة من العزو، كأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى وتستقل برأي خاص، وعزين من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضا من المحذوف، مثل عضين. أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ إنكار لقولهم: لو صح ما يقوله محمد لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا. كَلَّا ردع لهم عن الطمع في الجنة.
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي خلقناهم وغيرهم من نطف مهينة، فمن لم يستكمل نفسه بالإيمان والطاعة ولم يتخلق بأخلاق الملائكة، لم يتأهل لدخول الجنة.
فَلا أُقْسِمُ أي أقسم، ولا: زائدة. بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ أي للشمس والقمر وسائر الكواكب. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم، أو نأتي بدلهم.
بِمَسْبُوقِينَ بعاجزين أو بمغلوبين. فَذَرْهُمْ اتركهم. يَخُوضُوا يتحدثوا في باطلهم.
وَيَلْعَبُوا في دنياهم. حَتَّى يُلاقُوا يلقوا. الَّذِي يُوعَدُونَ فيه العذاب.
الْأَجْداثِ القبور، جمع جدث. سِراعاً مسرعين إلى المحشر، جمع سريع.
نُصُبٍ والنّصب جمع أنصاب، والنصب: كل شيء منصوب كالعلم أو الراية، والمراد هنا:
ما ينصب للعبادة، وقرئ: نصب بالسكون. يُوفِضُونَ يسرعون. خاشِعَةً ذليلة كسيرة.
تَرْهَقُهُمْ تغشاهم. ذلِكَ الْيَوْمُ أي يوم القيامة.
127
سبب النزول: نزول الآية (٣٨) :
أَيَطْمَعُ: قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم يستمعون كلامه، ولا ينتفعون به، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة، لندخلنها قبلهم، وليكوننّ لنا فيها أكثر مما لهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ «١».
المناسبة:
بعد أن وعد الله تعالى المتصفين بصفات عشر بالجنات والإكرام، ذكر أحوال الكفار في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيسرعون إلى الكفر، لذا توعدهم الله بالإبادة والهلاك، وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث، وأما في الآخرة فيخرجون من قبورهم مسرعين إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، وتكون أبصارهم ذليلة، وتغشاهم المذلة بسبب تكذيبهم بيوم القيامة.
التفسير والبيان:
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ أي ما بال هؤلاء الكفار حواليك أيها النبي مسرعين إلى الكفر والتكذيب والاستهزاء بك، وتراهم عن يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن شماله جماعات متفرقة، شاردين فرقا فرقا، وشيعا شيعا، فارين منه، متفرقين عنه، كما قال تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدّثر ٧٤/ ٤٩- ٥١].
وقيل: مهطعين: مادّي أعناقهم، مديمي النظر إليك.
ثم تهكم الله تعالى بتمنياتهم الجنة وأيأسهم من دخول الجنات، فقال:
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٢٥٠
128
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟ أي أيطمع هؤلاء المشركون، وحالتهم هذه من الكفر والتكذيب والفرار من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونفرتهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟! كلا، بل مأواهم جهنم، كما قال تعالى:
كَلَّا، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي كلا، لا أمل في دخولهم الجنة، فإنا خلقناهم من المني الضعيف، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات ٧٧/ ٢٠]. وهذا تقرير لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا حدوثه واستبعدوا وجوده، بدليل الخلق الأول أو البداءة التي يعترفون بها، فتكون الإعادة في تقدير البشر أهون منها، أما بالنسبة لله عز وجل فالبدء والإعادة سواء. وبما أنهم خلقوا من الشيء الضعيف، فهم ضعاف لا ينبغي منهم هذا التكبر.
أخرج أحمد وابن ماجه وابن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ.. إلى قوله: كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ثم بزق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على كفّه، ووضع عليها أصبعه، وقال: «يقول الله: ابن آدم، أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سوّيتك وعدّلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي أتى أوان الصدقة».
ثم أنذرهم الله تعالى بالهلاك إن داموا على الكفر، وهددهم بإيجاد آخرين مكانهم لكي يؤمنوا، فقال:
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي فأقسم بمشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها كل يوم من أيام السنة، على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله ممن عصره، ونهلك
129
هؤلاء، ولن يعجزنا شيء، وما نحن بمغلوبين إن أردنا ذلك، بل نفعل ما أردنا، لكن اقتضت مشيئتنا وحكمتنا تأخير عقابهم.
وهذا دليل على كمال قدرته تعالى على الإيجاد والإعدام مؤكدا بالقسم، وأنه لا يعجزه شيء من الممكنات. وهو تهكم بهم وتنبيه على تناقض كلامهم، حيث إنهم ينكرون البعث، ثم يطمعون في دخول الجنة، وهم يعترفون بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم مما يعلمون، ثم لا يؤمنون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية.
ثم أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث زيادة في التهديد، فقال:
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي اتركهم يا محمد يتحدثون في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، ويعاندوا في تكذيبهم وكفرهم وإنكارهم يوم البعث، حتى يلقوا يوم القيامة وما فيه من أهوال، ويذوقوا وباله، ويجازوا بما عملوا.
ومن أحوالهم في هذا اليوم:
- يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ أي اذكر يوم يقومون من القبور بدعوة الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب، مسرعين، متسابقين، كأنهم في إسراعهم إلى الموقف، كما كانوا في الدنيا يهرولون أو يسرعون إلى شيء منصوب، علم أو راية، والمراد بالنصب هنا: كل ما ينصب فيعبد من دون الله سبحانه. وقوله: يُوفِضُونَ: يسرعون ويتسابقون إليه.
- خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي وتكون أبصارهم ذليلة كسيرة، وتغشاهم المذلة الشديدة، لهول العذاب الذي
130
يواجههم، وفي مقابلة استكبارهم عن الطاعة في الدنيا، ذلك اليوم المشتمل على الأهوال العظام هو اليوم الذي أوعدهم الله به، وأنذرهم بملاقاته، وكانوا يكذبون به، وليتهم آمنوا به، فنجوا من العذاب.
وعبر عن ذلك اليوم بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون آتيا لا محالة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أنكر الله تعالى على الكفار حول النبي صلّى الله عليه وسلّم مسارعتهم إلى الكفر والتكذيب برسالته والاستهزاء به، فما بالهم يسرعون إليه ويجلسون حواليه، ولا يعملون بأوامره، وتراهم عن يمينه وشماله حلقا حلقا، وجماعات متفرقين.
٢- ثم أنكر عليهم تناقضهم وتعارض أقوالهم ومواقفهم، فهم يكذّبون برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويستهزئون بأصحابه، وينكرون البعث، ثم يقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه!! فرد الله عليهم بقوله: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ أي إنهم منكرون للبعث، فكيف يطمعون في دخول الجنة؟
٣- أيأسهم الله تعالى من دخول الجنة، فأخبر بأنهم لا يدخلونها، لاستكبارهم، فهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فلا يليق بهم هذا التكبر، وليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب الجنة بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى.
روي أن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف «١» خزّ، وجبّة خزّ، فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها
(١) المطرف: واحد المطارف: وهي أردية من خز مربعة لها أعلام.
131
الله؟ فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أولك نطفة مذرة «١»، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فمضى المهلب وترك مشيته.
٤- أقسم الله لإثبات البعث والرد على المشركين المنكرين له بمشارق الشمس ومغاربها على أنه قادر على إهلاكهم والذهاب بهم، والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال، لا يفوته شيء، ولا يعجزه أمر يريده. ولم يقع التبديل، وإنما هدد تعالى القوم بذلك ليؤمنوا.
٥- أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بعذاب القيامة، آمرا نبيه عليه السلام أن يتركهم يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، على جهة الوعيد، وأن يشتغل بما أمر به، ولا يهمه شركهم، فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا.
٦- وصف الله حال المشركين يوم البعث بأنهم حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي يخرجون مسرعين من القبور، كأنهم كما كانوا في الدنيا يسرعون ويتسابقون إلى النّصب: أي ما نصب فعبد من دون الله.
ووصفهم أيضا بأن أبصارهم تكون ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله، وتغشاهم مذلة وهوان.
٧- إن هذا اليوم وهو يوم القيامة الذي يكون فيه الكفار على تلك الأوصاف هو اليوم الذي كانوا يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب، ووعد الله آت لا محالة.
(١) مذرة: الفساد. [.....]
132

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة نوح عليه السلام
مكيّة، وهي ثمان وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة نوح باسم نبي الله عليه السلام وقصته مع قومه من بداية دعوته إلى الطوفان، كما جاء في مطلع السورة: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً...
مناسبتها لما قبلها:
هناك وجهان لاتصال هذه السورة بما قبلها:
١- تشابه مطلع السورتين في ذكر العذاب الذي وعد به الكفار: قوم محمد صلّى الله عليه وسلّم في سورة المعارج، وقوم نوح عليه السلام في هذه السورة.
٢- لما قال تعالى في أواخر المعارج: إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [٤١] عقبه بقصة نوح المشتملة على إغراق قومه إلا من آمن، وتبديلهم بمن هم خير منهم، فوقعت موقع الاستدلال وإثبات خبر القدرة على التبديل، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستدلال على ما ختم به تَبارَكَ.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بغرس أصول العقيدة،
133
وتبيان عناصر الإيمان، من عبادة الله وطاعته، وإبطال عبادة الأصنام والأوثان، والاستدلال على وجود الله ووحدانيته وقدرته.
افتتحت السورة ببيان إرسال الله تعالى نوحا إلى قومه، وقيامه بإنذارهم ومطالبتهم بالإقلاع عن ذنوبهم، ليغفر الله لهم، وليمدهم بالأموال والبنين، وليجعل لهم جنات، يفجر فيها الأنهار، ولكنهم أبوا دعوته، وأمعنوا في الضلال والعصيان: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً.. [الآيات ١- ١٤].
ثم أمرهم تعالى للاستدلال على وجوده ووحدانيته وقدرته والإقبال على طاعته وتعرف نعمه بالنظر في خلق السموات والأرض، والتأمل في خلق الإنسان، وفيما أنعم به على الناس من تذليل الأرض وتسخيرها للنفع، وإيداع لكنوز والمعادن فيها، والتنقل في نواحيها، وسلوك السبل الواسعة فيها: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.. [الآيات ١٥- ٢٠].
وختمت السورة ببيان كفر قومه وإصرارهم على عبادة الأصنام، وعقابهم في الدنيا والآخرة، ودعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار بعد جهاد طويل في الدعوة دام تسع مائة وخمسين سنة، دون أن يقلعوا عن الشرك، ولم ينتفعوا بالإنذار والتذكير: قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي..
[الآيات ٢١- ٢٨].
134
Icon