تفسير سورة سورة المعارج من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المعروف بـتفسير أبي السعود
.
لمؤلفه
أبو السعود
.
المتوفي سنة 982 هـ
سورة المعارج مكية وآيها أربع وأربعون.
ﰡ
﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ أي دَعَا داعٍ ﴿بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ أي استدعاهُ وطلبَهُ وهُو النَّضرُ بن الحرث حيثُ قالَ إنكاراً واستهزاءً إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وقيلَ أبُو جهلٍ حيثُ قالَ أسقطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماءِ وقيلَ هو الحرث بنِ النعمانِ الفهريُّ وذلكَ أنَّه لما بلغَهُ قولُ رسول الله ﷺ في عليَ رضيَ الله عنهُ من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ قالَ اللهمَّ إنْ كانَ ما يقولُ محمدٌ حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ فما لبثَ حَتَّى رماهُ الله تعالَى بحجرٍ فوقعَ على دماغه مخرج من أسفلِهِ فهلكَ من ساعتِهِ وقيلَ هُو الرسولُ ﷺ استعجلَ عذابَهُمْ وقُرِىءَ سَأَلَ وهو إمَّا من السؤالِ على لُغةِ قُريشٍ فالمَعْنَى ما مرَّ أو من السَّيلانِ ويؤيدُهُ أنَّهُ قُرِىءَ سالَ سيلٌ أي اندفعَ وادٍ بعذابٍ واقعٍ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققِ وقوعِهِ إمَّا في الدُّنيا وهو عذابُ يومِ بدرٍ فإنَّ النضرَ قُتِلَ يومئذٍ صَبْراً وقد مرَّ حالُ الفهريِّ وإمَّا في الآخرةِ فهو عذابُ النارِ والله أعلمُ
﴿للكافرين﴾ صفةٌ أُخرى لعذابٍ أي كائنٍ للكافرينَ أو صلةٌ لواقعٍ أو متعلقٌ بسألَ أي دَعَا للكافرينَ بعذابٍ واقعٍ وقولُهُ تعالَى ﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ صفةٌ أُخرى لعذابٍ أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفةِ أو بالعملِ أو من الضميرِ في الكافرين على تقديرِ كونِه صفةً لعذابٍ أو استئنافٌ
﴿مِنَ الله﴾ متعلقٌ بواقعٍ أو بدافعٌ أي ليسَ له دافعٌ من جهتِهِ تعالَى ﴿ذِي المعارج﴾ ذِي المصاعدِ التي يصعدُ فيها الملائكةُ بالأوامرِ والنَّواهِي أو هي عبارةٌ عن السمواتِ المترتبةِ بعضِهَا فوقَ بعضٍ
﴿تَعْرُجُ الملائكة والروح﴾ أي جبريلُ عليهِ السَّلامُ أفردَ بالذكرِ لتميزِهِ وفضلِهِ وقيلَ الروحُ خلقٌ هم حفظة على الملائكةِ كما أنَّ الملائكةَ حفظةٌ على الناسِ
﴿إِلَيْهِ﴾ إلى عرشِهِ تعالَى وإلى حيثُ تهبطُ منهُ أوامرُهُ تعالَى وقيلَ هو من قبيلِ قولِ إبراهيمَ
29
٧٠ سورة المعارج (٥ ٨)
عليهِ السَّلامُ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى أي إلى حيثُ أمرنِي بهِ
﴿فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ مما يعدُّه الناسُ وهو بيانٌ لغايةِ ارتفاعِ تلكَ المعارجِ وبُعدِ مَداها على منهاجِ التمثيلِ والتخييلِ والمَعْنَى أنَّها من الارتفاعِ بحيثُ لو قُدِّرَ قطعُها في زمانٍ لكانَ ذلكَ الزمانُ مقدارَ خمسينَ ألفَ سنةٍ من سِني الدُّنيا وقيلَ معناهُ تعرُجُ الملائكةُ والروحُ إلى عرشِهِ تعالَى فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ كمقدارِ خمسينَ ألفَ سنةٍ أي يقطعونَ في يومٍ ما يقطعُهُ الإنسانُ في خمسينَ ألفَ سنةٍ لو فُرضَ ذلكَ وقيلَ في يومٍ متعلقٌ بواقعٍ وقيل بسال على تقديرِ كونِه من السَّيلانِ فالمرادُ به يومُ القيامةِ واستطالتُهُ إمَّا لأنَّه كذلكَ في الحقيقةِ أو لشدتِهِ على الكفارِ أوْ لكثرةِ ما فيهِ من الحالاتِ والمحاسباتِ وأيَّاً ما كانَ فذلكَ في حقِّ الكافرِ وأمَّا في حقِّ المؤمنِ فلاَ لِمَا رَوَى أبو سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنهُ أنَّه قيلَ لرسولِ الله ﷺ ما أطولَ هذا اليومَ فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسِي بيدِهِ أنَّهُ ليخِفُّ على المؤمنِ حتى إنَّهُ يكونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيها في الدُّنيا وقولُه تعالَى
30
﴿فاصبر صَبْراً جَمِيلاً﴾ متعلقٌ بسألَ لأنَّ السؤالَ كانَ عن استهزاءٍ وتعنتٍ وتكذيبٍ بالوحيِ وذلكَ ممَّا يُضجره عليه الصلاة والسلام أو كانَ عن تضجرٍ واستبطاءٍ للنصرِ أو بسألَ سائلٌ أو سالَ سيلٌ فمعناهُ جاءَ العذابُ لقُربِ وقوعِهِ فقد شارفتَ الانتقامَ
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ﴾ أيِ العذابَ الواقعَ أو يومَ القيامةِ على تقديرِ تعلقِ في يومٍ بواقعٍ ﴿بَعِيداً﴾ أي يستبعدونَهُ بطريقِ الإحالةِ فلذلكَ يسألونَ بهِ
﴿وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾ هيناً في قُدرتِنَا غيرَ بعيدٍ علينا ولا متعذرٍ على أنَّ البُعدَ والقُربَ معتبرانِ بالنسبةِ إلى الإمكانِ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ وقولُه تعالَى
﴿يوم تكون السماء كالمهل﴾ متعلقٌ بقريباً أيْ يمكنُ ولا يعتذر في ذلكَ اليومِ أو بمضمرٍ دلَّ عليهِ واقعٍ أو بمضمرٍ مؤخرٍ أي يوم تكون السماء كالمهل الخ يكونُ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يُوصفُ أو بدلٌ منْ في يومٍ على تقديرِ تعلقِهِ بواقعٍ هذا ما قالُوا ولعلَّ الأقربَ أنَّ قولَهُ تعالَى سأل سائلٌ حكايةٌ لسؤالِهِم المعهودِ على طريقةِ قوله تعالى يسألونك عَنِ الساعة وقولِهِ تعالَى وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد ونحوهِما إذْ هُو المعهودُ بالوقوعِ على الكافرينَ لا ما دَعَا بهِ النضرُ او ابو جهل الفهريُّ فالسؤالُ بمعناهُ والباءُ بمَعْنَى عنْ كَما في قولِهِ تعالَى فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وقولُه تعالَى لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ الخ استئنافٌ مسوف لبيان وقوع المسؤل عنهُ لا محالةَ وقولُه تعالَى فاصبر صَبْراً جَمِيلاً مترتبٌ عليهِ وقولُه تعالَى إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ كما ذُكِرَ وقولُهُ تعالَى يَوْمَ تَكُونُ الخ متعلقٌ بليسَ له دافعٌ أو بما يدلُّ هو عليهِ أي يقعُ يومَ تكونُ السماء
30
٧٠ سورة المعارج (٩ ١٥)
كالمهلِ وهو ما أُذيبَ على مَهَلٍ من الفلزاتِ وقيلَ دُرْدِيُّ الزيتِ
31
﴿وَتَكُونُ الجبال كالعهن﴾ كالصوفِ المصبوغِ ألواناً لاختلافِ ألوانِ الجبالِ منها جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ فإذا بُسَّتْ وطيّرتْ في الجوِّ أشبهتِ العهنَ المنفوشَ إذَا طيرته الريحُ
﴿ولا يسأل حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ أي لا يسألُ قريبٌ قريباً عن أحوالِهِ ولا يُكلمه لابتلاءِ كلَ منهُم بما يشغلُهُ عن ذلكَ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ أيْ لا يُطلبُ منْ حميمٍ حميمٌ أولا يسألُ منْهُ حالةٌ
﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ أي يُبصِرُ الأحماءُ الأحماءَ فلا يخفَونَ عليهم وما يمنعُهُم من التساؤلِ إلا تشاغلُهُم بحالِ أنفسِهِم وقيلَ ما يُغني عنهُ من مشاهدةِ الحالِ كبياضِ الوجهِ وسوادِهِ والأولُ أدخلُ في التَّهويلِ وجمعَ الضميرينِ لعمومِ الحميمِ وقُرِىءَ يُبْصِرُونَهُمْ والجملةُ استئنافٌ ﴿يَوَدُّ المجرم﴾ أي يتمنَّى الكافرُ وقيلَ كلُّ مذنبٍ وقولُهُ تعالَى ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ﴾ أي العذابَ الذي ابتلُوا بهِ يومئذٍ ﴿بِبَنِيهِ﴾
﴿وصاحبته وَأَخِيهِ﴾ حكايةٌ لودادتِهم ولوُ في مَعْنَى التمنِّي وقيلَ هي بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا ليودُّ والتقديرُ يودُّ افتداءَهُ ببنيهِ الخ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ أنَّ اشتغالَ كلِّ مجرمٍ بنفسِهِ بلغَ إلى حيثُ يتمنَّى أن يفتدي بأقربِ الناسِ إليهِ وأعلقِهِم بقلبِهِ فضلاً أن يهتمَّ بحالِهِ ويسألَ عَنْهَا وقُرِىءَ يومَئذٍ بالفتحِ على البناءِ للإضافةِ إلى غيرِ متمكنٍ وبتنوينِ عذابٍ ونصبِ يومئذٍ وانتصابُهُ بعذابٍ لأنَّه في مَعْنَى تعذيبٍ
﴿وَفَصِيلَتِهِ﴾ أي عشيرتِهِ التي فصل عنهم ﴿التي تؤويه﴾ اي تضمه في النسبِ أو عندَ الشدائدِ
﴿وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً﴾ من الثقلينِ والخلائقِ ومَنْ للتغليبِ ﴿ثُمَّ يُنجِيهِ﴾ عطفٌ على يفتدي اي يودُّ لو يفتدِي ثم لو ينجِيهِ الافتداءُ وثمَّ لاستبعادِ الإنجاءِ يعني يتمنَّى لو كانَ هؤلاءِ جميعاً تحتَ يدِه وبذلَهُم في فداءِ نفسِهِ ثمَّ ينجيهِ ذلكَ وهيهاتَ
﴿كَلاَّ﴾ ردعٌ للمجرمِ عن الودادةِ وتصريحٌ بامتناعِ إنجاءِ الافتداءِ وضميرُ
﴿أَنَّهَا﴾ إما للنارِ المدلولِ عليها بذكرِ العذاب او مبهم ترجم عند
31
٧٠ سورة المعارج (١٦ ٢٤)
الخبر الذي هو قوله تعالَى
﴿لظى﴾ وهي علمٌ للنارِ منقولٌ منَ اللَّظى بمَعْنَى اللهبِ
32
﴿نَزَّاعَةً للشوى﴾ نُصب على الاختصاصِ أو حالٌ مؤكدةٌ والشَّوى الأطرافُ أو جمعُ شواةٍ وهي جلدةُ الرأسِ وقُرِىءَ نزاعةٌ بالرفعِ على أنه خبرُ ثاني لأنَّ أو هُو الخبرُ ولَظَى بدلٌ منَ الضميرِ أو الضميرُ للقصةِ ولَظَى مبتدأ ونزاعة خبره
﴿تدعو﴾ اي تجذب وتحضر وقل تدعُو وتقولُ لهم إليَّ إليَّ يا كافرُ يا منافقُ وقيل تدعُو المنافقينَ والكافرينَ بلسانٍ فصيحٍ ثم تلتقطُهُم التقاطَ الحبِّ وقيلَ تدعُو تُهلكُ وقيلَ تدعُو زبانيتَهَا ﴿مَنْ أَدْبَرَ﴾ أي عنِ الحقِّ ﴿وتولى﴾ أعرضَ عن الطاعةِ
﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾ أي جمعَ المالَ فجعلَهُ في وعاءٍ وكنزَهُ ولم يؤدِ زكاتَهُ وحقوقَهُ وتشاغلَ بهِ عن الدينِ وزَهَى باقتنائِهِ حرصاً وتأميلاً
﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً﴾ الهَلَعَ سرعةُ الجزعِ عند مسِّ المكروهِ وسرعةُ المنعِ عند مسِّ الخيرِ وقد فسَّرهُ أحسنَ تفسيرٍ قولُهُ تعالَى
﴿إِذَا مَسَّهُ الشر﴾ أي الفقرُ والمرضُ ونحوهُما ﴿جَزُوعاً﴾ أي مبالغاً في الجزعِ مُكثراً منْهُ
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الخير﴾ أي السَّعةُ والصحةُ ﴿مَنُوعاً﴾ مبالغاً في المنعِ والإمساكِ والأوصافُ الثلاثةُ أحوالٌ مقدرةٌ أو محققةٌ لأنها طبائعُ جُبلَ الإنسانُ علَيها وإذَا الأولى ظرفٌ لجزوعَا والثانيةُ لمنوعَا
﴿إِلاَّ المصلين﴾ استثناءٌ للمتصفينَ بالنعوتِ الجليلةِ الآتيةِ من المطبوعينَ على القبائحِ الماضيةِ لأنباءِ نعوتِهِم عن الاستغراقِ في طاعةِ الحقِّ والإشفاقِ على الخلقِ والإيمانِ بالجزاءِ والخوفِ من العقوبةِ وكسرِ الشهوةِ وإيثارِ الآجلِ على العاجلِ على خلافِ القبائحِ المذكورةِ الناشئةِ من الانهماكِ في حب العاجل وقصرِ النظرِ عليهِ
﴿الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ لا يشغَلهم عنها شاغلٌ
﴿والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾ أي نصيبٌ معينٌ يستوجبونه
32
٧٠ سورة المعارج (٢٥ ٣٤)
على أنفسهم تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقا على النَّاسِ من الزكاةِ المفروضةِ والصدقات الموظفة
33
﴿للسائل﴾ الذي يسألَهُ ﴿والمحروم﴾ الذي لا يسألَهُ فيظُنُّ أنه غنيُّ فيحرمُ
﴿والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين﴾ أي بأعمالِهِم حيثُ يتعبونَ أنفسَهُم في الطاعاتِ البدنيةِ والماليةِ طمعاً في المثوبةِ الأخرويةِ بحيثُ يُستدلُّ بذلكَ على تصديقِهِم بيومِ الجزاءِ
﴿والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ خائفونَ على انفسهم مع مالهم منَ الأعمالِ الفاضلةِ استقصاراً لها واستعظاماً لجنابِهِ عزَّ وجلَّ كقوله تعالَى والذين يؤتون ما آتوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون وقولِهِ تعالَى
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ اعتراضٌ مؤذنٌ بأنه لا ينبغي لأحدٍ أنْ يأمنَ عذابَهُ تعالَى وإنْ بالغَ في الطاعةِ
﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون﴾ ﴿إِلاَّ على أزواجِهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ سلفَ تفسيرُهُ في سورةِ المؤمنينَ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ سلفَ تفسيرُهُ في سورةِ المؤمنينَ.
﴿فَمَنِ ابتغى﴾ أي طلبَ لنفسِهِ ﴿وَرَاء ذلك﴾ وراءَ ما ذُكِرَ من الأزواجِ والمملوكاتِ ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ المبتغونَ ﴿هُمُ العادون﴾ المتعدون لحدود الله تعالى
﴿والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون﴾ لا يُخلُّونَ بشيءٍ من حقوقِهَا
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ﴾ أي مقيمونَ لها بالعدلِ إحياءً لحقوقِ الناسِ وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها في الأماناتِ لإبانةِ فضلِهَا وقُرِىءَ لأمانتِهِم وبشهادَتِهِم على إرادةِ الجنسِ
﴿وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أي يراعونَ شرائطَهَا
33
٧٠ سورة (٣٥ ٣٩)
ويكملونَ فرائضَهَا وسنَنَهَا ومستحباتِهَا وآدابِهَا وتكريرُ ذكرِ الصَّلاةِ ووصفِهِم بهَا أولاً وآخراً باعتبارينِ للدلالةِ على فضلِهَا وإنافتِهَا على سائرِ الطاعاتِ وتكريرُ الموصولاتِ لتنزيلِ اختلافِ الصفاتِ منزلةَ اختلافِ الذواتِ كما في قول من قالَ إِلَى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام وليثِ الكتائبِ في المُزْدَحَمْ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ نعتٌ جليلٌ على حِياله له شأنٌ خطيرٌ مستتبِعٌ لأحكامِ جَمةٍ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يجعلُ شيءٌ منها تتمةً للآخرِ
34
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الموصوفينَ بما ذُكر من الصِّفاتِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِم للإيذانِ بعلوِّ شأنِهِم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضل وهو مبتدأ خبره ﴿فِي جنات﴾ أي مستقرونَ فى جنات لايقادر قَدرُهَا ولا يُدرَكُ كُنْهُهَا وقوله تعالَى ﴿مُّكْرَمُونَ﴾ خبرٌ آخرُ أو هو الخبر وفي جناتٍ متعلقٌ بهِ قُدِّم عليهِ لمراعاةِ الفواصلِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في الخبرِ أي مكرمونَ كائنينَ في جنَّاتٍ
﴿فَمَالِ الذين كَفَرُواْ قَبْلِكَ﴾ حولَكَ ﴿مُهْطِعِينَ﴾ مُسرعينَ نحوكَ مادِّي أعناقِهِم إليكَ مقبلينَ بأبصارِهِم عليكَ
﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ﴾ أي فِرَقاً شتَّى جمعُ عِزَةٍ وأصلُهَا عِزْوَةٌ من العزو كأن كلَّ فرقةٍ تعتزِي إلى غيرِ من تعتزِي إليهِ الأُخرى كانَ المُشركونَ يحلّقونَ حول رسول الله ﷺ حلقا حلقا وفرقا وفرقا ويستهزؤن بكلامِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويقولونَ إنْ دخلَ هؤلاءِ الجنَّةَ كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلَهُم فنزلتْ
﴿أيطمع كل امرئ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ بلا إيمانٍ
﴿كَلاَّ﴾ ردعٌ لهم عن ذلكَ الطمعِ الفارغِ
﴿إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ﴾ قيلَ هو تعليلٌ للردعِ والمَعْنَى إنا خلقناهُم من أجلِ ما يعلمونَ كما في قولِ الأَعْشَى أَأَزْمَعْتَ مِنْ آل ليلى ابتكاراوشطت عَلَى ذِي هَوَى أنْ تزارا وهو تكميا النفسِ بالإيمانِ والطاعةِ فمنْ لَمْ يستكملْهَا بذلكَ فهو بمعزلٍ من أنْ يُبوأ مبوأَ الكاملينَ فمن أينَ لهُم أنْ يطمعُوا في دخولِ الجنةِ وهم مكبونَ على الكفرِ والفسوقِ وإنكارِ البعثِ وقيل معناهُ إنَّا خلقناهُم مما يعلمونَ من نطفةٍ مذِرةٍ فمن أينَ يتشرفونَ ويدّعُونَ التقدمَ ويقولونَ لندخلنَّ الجنةَ قبلَهُم وقيلَ إنهم مخلوقونَ من نطفةٍ قدرة لا تناسبُ عالمَ القدسِ فمتَى لم تستكملِ الإيمانَ والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملكيةِ لم تستعدَّ لدخولِهَا ولا يَخْفَى ما في الكلِّ من التمحلِ والأقربُ أنَّه كلامٌ مستأنفٌ قد سبقَ تمهيداً لما بعدَهُ من بيانِ قدرتَه تعالَى على أنَّ يُهلكهم لكُفرِهِم بالبعث والجزاء
34
٧٠ سورة المعارج (٤٠ ٤٤)
واستهزائه برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما نزلَ عليهِ منَ الوحيِ وادعائِهِم دخولَ الجنةِ بطريق السخرية وينشء بدلَهُم قوماً آخرينَ فإن قدرَتَهُ تعالَى على ما يعلمونَ من النشأةِ الأُولى حجةٌ بينةٌ على قدرتِهِ تعالَى على ذَلكَ كما يُفصح عنهُ الفاءُ الفصيحةٌ في قوله تعالى
35
﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق والمغارب﴾ والمَعْنَى إِذا كانَ الأمرُ كَما ذكر من إنا خلقناهم مما يعلمون فأقسمُ بربِّ المشارقِ والمغاربِ ﴿إِنَّا لقادرون﴾
﴿على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ﴾ أيْ نُهلكهُم بالمرةِ حسبَما تقتضيهِ جناياتُهُم ونأتي بدلَهُم بخلقٍ آخرينَ ليسُوا على صفتِهِم ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ بمغلوبينَ إنْ أرَدْنَا ذلكَ لكنْ مشيئتُنا المبنيةُ على الحِكَمِ البالغةِ اقتضتْ تأخيرَ عقوباتِهِم
﴿فَذَرْهُمْ﴾ فخلِّهِم وشأنَهُم ﴿يَخُوضُواْ﴾ في باطِلِهِم الذي من جُمْلَتِهِ ما حُكِيَ عنهُم ﴿وَيَلْعَبُواْ﴾ في دُنياهُم ﴿حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ﴾ وهو يومُ البعثِ عند النفخةِ الثانيةِ لا يومُ النفخةِ الأُولى كما توهمَ فإنَّ قولَهُ تعالَى
﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث﴾ بدلٌ منْ يومِهِم وقُرِىءَ يُخرجونَ على البناءِ للمفعولِ من الإخراجِ ﴿سِرَاعاً﴾ حالٌ من مرفوعِ يخرجونَ أي مسرعينَ ﴿كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ﴾ وهو كلُّ ما نُصِبَ فعبدَ من دونِ الله تعالَى وقُرِىءَ بسكونِ الصَّادِ وبفتحِ النونِ وسكونِ الصادِ أيضاً ﴿يُوفِضُونَ﴾ يُسرعونَ
﴿خاشعة أبصارهم﴾ وصفتْ أبصارُهُم بالخشوعِ معَ أنه وصفُ الكلِّ لغايةِ ظهورِ آثارِهِ فيها
﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ تغشاهُم ذِلةٌ شديدةٌ
﴿ذلك﴾ الذي ذُكِرَ ما سيقعُ فيهِ من الأحوالِ الهائلةِ
﴿اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ في الدنيا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ سألَ سائلٌ أعطاهُ الله تعالى ثوابَ الذينَ هُم لأماناتِهِم وعهدهم راعون
35
٧١ سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (١ ٤)
سورة نوحٍ عليه السَّلامُ مكية وآياتها ثمان وعشرون
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
36