تفسير سورة التوبة

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة براءة١
١ قال في الكشف ١/٤٩٨: "سورة التوبة مدنية..." بالإجماع، سوى الآيتين في آخرها فإنها نزلت بمكة، كما في المحرر الوجيز ٣/٣ وزاد المسير ٣/٣٨٨، والبحر المحيط ٥/٦، ومصاعد النظر ٢/١٥١..
تفسير سورة براءة
قوله: ﴿بَرَآءَةٌ﴾، مبتدأ والخبر: ﴿إِلَى الذين﴾، وحَسُنَ الابتداء بِنَكِرَةٍ، لأنها موصوفة.
ويجوز أن تكون رفعت على إضمار مبتدأ، أي: هذه براءة.
2903
يقال: بَرِئْتُ من العهد براءةً، وبَرِئْتُ من المرض وبَرَأْتُ [أيضاً] بُرْءاً، وَبَرَئْتُ القلم بَرْياً، غير مهموز مفتوح وأَبْرَيْتُ الناقة: جعلت في أنفها بُرَةً وهي حلقة من حديد.
وسورة " براءة " من آخر ما نزل بالمدينة، ولذلك قلّ المنسوخ فيها.
2904
ويدل على ذلك أن ابن عباس قال لعثمان، رضي الله عنهما: ما حملكم على أن عمدتم إلى " الأنفال " وهي من المثاني، وإلى " براءة " وهي من المئين ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما: " بسم الله الرحمن الرحيم " ووضعتموهما في السبع الطُّوَل؟ فقال: كان رسول الله ﷺ، تنزل عليه السور ذوات العدد، فإذا نزلت عليه الآية قال: " اجعلوها في سورة كذا وكذا "، وكانت " الأنفال " من أول ما نزل بالمدينة، وكانت " براءة " من آخر ما نزل، وكانت قصتها تشبه قصتها، ولم يبين لنا رسول الله ﷺ، في ذلك شيئاً، فلذلك فرق بينهما ولم يكتب بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم ".
2905
ورُوي أن عثمان قال: ظننت أنها منها. وكانت تُدْعَيَانِ في زمن رسول الله ﷺ: القرينتَين، فلذلك جعلتهما في السبع الطُّوَلِ.
ففي قول عثمان هذا: دليل على أن تألييف القرآن عن الله، تعالى، وعن رسول الله ﷺ، كان، ويدل على أن ترتيب السورة على ما في المصحف إنما كان على اجتهاد من عثمان وأصحابه، ألا ترى إلى قول ابن عباس له: ما حملكم على كذا وكذا؟ يدل على أنهم هم رتبوا السورة، وأن تأليف السور إلى تمام كل سورة كان على تعليم النبي ﷺ إياهم ذلك.
وقد صح أن أبيَّ [بن] كعب، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبا زيد عم
2906
أنس، كانوا قد جمعوا القرآن على عهد النبي ﷺ.
قال الشعبي: وأبو الدرداء حفظ القرآن على عهد النبي ﷺ، ومُجَمَّع ببن جارية، بقيت [عليه] سورتان [أَ] وْ ثلاث. قال: ولم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان.
2907
وحفظ سالم مولى أبي حذيفة القرآن في عهد النبي ﷺ إلا شيئاً بقي عليه.
فهذا يدل على أنه كان مؤلفاً؛ لأن هؤلاء لم يحفظوه إلا وهو مؤلَّف مرتَّبٌ عن النبي ﷺ، عن جبريل، صلوات الله عليه، جل ذكره.
وقال أبي بن كعب: آخر ما نزل " براءة " وكان رسول الله ﷺ يأمر في أول كل سورة بـ: " بسم الله الرحمن الرحيم "، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء، فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال "، وكانت أولى بها لشبهها بها.
وقال رسول الله ﷺ: " أُعطيت السبع الطّول مكان التوراة وأعطيت المِئِينَ مكان الزَّبور، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وفُضِّلْتُ بالمفصّل ".
فهذا الترتيب يدل على أن التأليف/ كان معروفاً عند رسول الله [ ﷺ]، وبذلك
2908
أتى لفظه، عليه السلام.
ومعنى: ما رُوِيَ: أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يجمع القرآن، وأنه ضم إليه جماعة، أنه إنما (أمر) بجمعه في المصحف ليرسل به إلى الأمصار، لا أنه كان غير مؤلف ثم ألفه، هذا ما لا يجوز، لأن تأليفه من المعجز، لا يكون إلا عن الله تعالى.
وقد قيل: إنما أمر بجمعه على حرفٍ واحدٍ؛ لأنهم كانوا قد وقع بينهم الخلاف لاختلاف اللغات السبعة الي بها نزل القرآن، فأراد عثمان أن يختار حرفاً واحداً، هو أفصحها ليثبته في المصحف، وإنما خص عثمان زيد بن ثابت لجمعه دون غيره ممن هو أفضل منه؛ لأنه كان يكتب الوحي للنبي ﷺ.
واختلف في الحرف الذي كتب عليه المصحف فقيل: حرفُ زيد بن ثابت.
2909
وقيل: حرفُ أُبَي بن كعب؛ لأن قراءته كانت على [آخر] عَرْضةٍ عرضها النبي على جبريل عليهما السلام.
وعلى الأول أكثر الرواة.
ومعنى: حرف زيد، أي: روايته وطريقته.
" فَلْيَقْرَأْه بقراءة ابن أُمِّ عبد "، يعني: ابن مسعود. فإنه إنما أراد به ترتيل ابن مسعود، وذلك أنه كان يرتل القرآن إذا قرأه، فخصه النبي ﷺ بهذا الوصف لترتيله لا غير ذلك.
2910
قال الحسين بن علي الجعفي: فقراءة عبد الله هي قراءة الكوفيين؛ لأن عمر رضي الله عنهـ، بعث به إلى الكوفة ليعلمهم، فأخذت عنه قراءته قيل أن يجمع الناس عثمان على حرف واحد، ثم لم تزل في أصحابه ينقلها الناس عنهم.
وأصحابه منهم: علقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وزِرُّ
2911
ابن حُبَيْش، وأبو وائل، وأبو عمرو الشيباني وعبيدة، وغيرهم.
فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد، كان أول من قرأ به بالكوفة أبو عبد الرحمن السَّلّمِي: عبد الله بن حبيب، فأقرأ بجامع الكوفة أربعين سنة، إلى أن توفي، C، في إمارة الحجاج. وقد أخذ القرآن عن عثمان، وعن علي، وعن ابن
2912
مسعود، وزيد، وأُبي. وكان قر قرأ على علي، وقرأ عليه علي، وهو يمسك المصحف. وأقرأ هو الحسن والحسين. فلما مات أبو عبد الرحمن خلفه عاصم. وكان عاصم أخذ عن أبي عبد الرحمن، وعرض على زِرٍ.
وكان زر قد قرأ علي ابن مسعود.
ثم انتهت قراءة ابن مسعود إلى الأعمش. وقرأ حمزة على الأعمش بالكوفة، وقرأ أيضاً حمزة على ابن أبي ليلى، وعلى حُمران بن أعين، وقرأ
2913
حُمران على عُبَيد الله بن نُضَيْلَة، وقرأ عبيد الله على علقمة.
وقرأ علقمة على ابن مسعود، وقرأ ابن مسعود على النبي ﷺ.
وقرأ أيضاً حمران على أبي الأسود وقرأ أبو الأسود على علي.
وقد قال المبرد: إنما لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قبل " براءة "؛ لأن " بسم
2914
الله الرحمن الرحيم " خير، و " براءة " أولها وعيد [و] نقض للعهود.
وعن عاصم أنه قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " لم تكتب أول " براءة "؛ لأنها رحمة و " براءة " عذاب.
قوله: ﴿إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ﴾.
إنما ذلك، لأن عقد النبي على أمته كعقدهم لأنفسهم.
وهؤلاء الذين بَرِئَ الله تعالى، ورسوله ﷺ، إليهم من العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ، وأذن لهم في السياحة في الأرض أربعة أشهر، جنس من المشركين كان مدة العهد بينهم وبين رسول الله ﷺ، أقل من أربعة أشهر، وأُمهلوا بالسياحة تمام أربعة أشهر (ليرتاد كل واحد). والجنس الآخر كما عهده إلى غير أجل محدود/، فَقُصِرَ به على أربعة أشهر ليرتاد كل واحد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك، يقتل حيث وجد، إلا أن يُسلم.
فكان نزول " براءة " في بعض ما كان بين رسول الله ﷺ، وبين المشركين من
2915
العهود، و [في] كشف المنافقين الذين تخلفوا عن النبي ﷺ، في تبوك وغيرهم ممن سر خلاف ما أظهر.
وقيل: إنما أمهل أربعة أشهر، من كان بينه وبين رسول الله ﷺ، عهد، فأما من لم يكن له عهد، فإنما جعل أجله خمسين ليلة، عشرين من ذي الحجة والمحرم، ودلّ على ذلك قوله: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾ [التوبة: ٥].
قال ذلك ابن عباس.
وكان النداء بـ: " براءة " يوم النحر.
وقيل: يوم عرفة، وبه تتم خمسون ليلة.
ونزلت " براءة " أول شوال، ومن ذلك اليوم كان أجل أربعة أشهر لأهل العهد.
وقيل: أول شوال كان نزول " براءة " وذلك سنة تسع، ومن ذلك الوقت أول أربعة الأشهر للجميع. وهو قول الزهري.
2916
فكان أجل من كان له عهد أربعة أشهر من ذلك الوقت، ومن لم يكن له عهد انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك أربعة أشهر أيضاً.
وقال ابن عباس: إنما كان أول الآجال من يوم أُذِّنَ بـ: " براءة "، وذلك يوم النحر، فجعل لمن له عهداً أربعة أشهر من ذلك اليوم، وذلك إلى عشر من ربيع الآخر.
ولمن لم يسم له عهد آخر الأشهر الحرم خمسين يوماً، ثم لا عهد لهم بعد ذلك ولا ذمة، يقتلون حتى يدخلوا في الإسلام.
وكان علي هو الذي نادى بـ: " براءة "، وكان أبو بكر أميراً عليهم، فلم يحج المشركون بعد ذلك [العام]، وكانوا يحجون مع المسلمين قبل ذلك.
قال قتادة: كان النبي ﷺ، عاهد قريشاً زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر الله تعالى، نبيه عليه السلام، أن يُوفِّيَ بعهدهم إلى مدتهم، وأن يؤخروا من لا عهد له انسلاخ المحرم، ثم يقاتلون حتى يشهدوا [أن] لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وألا يقبل منهم إلا ذلك.
2917
وقال السدي: كان آخر عهد الجميع تمام أربعة أشهر لعشر خلون من ربيع الآخر، وهذا كله كان في موسم سنة تسع.
وقال الكلبي: إنما أمر النبي ﷺ، بالأربعة الأشهر لمن كان بينه وبينه عهد أربعة أشهر فما دون، فأما من كان عهده، أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر النبي ﷺ، أن يتم له عهده، فقال تعالى: ﴿فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾.
وذلك أن النبي ﷺ، فتح مكة سنة ثمان عَنْوةً، واستخلف على الحج سنة تسع أبا بكر. ونزلت " براءة " بعد خروج أبي بكر في شوال. وكانوا يحجون على رسومهم التي كانوا عليها، ولم يكن فرض الحج ولا أمر به، فأنفذ رسول الله ﷺ " براءة " مع علي رضي الله عنهـ، ليتلو الآيات على الناس وينادي بالناس: ألا يحج بعد ال عام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان فنادى بذلك علي، وأعانه على النداء أبو هريرة
2918
وغيره بمنىً وفي سائر أسواقهم.
فحج النبي ﷺ، في العام المقبل سنة عشر، ولم يحج معه مشرك، وهي حجة الوداع، وفي ذلك نزل: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨]، فلما نزل ذلك وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من الأطعمة والتجارات التي كان المشركون يقدمون بها، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله﴾ [التوبة: ٢٨]، الآية، ثم أحل [في] الآية التي تتبعها الجزية، ولم تكن قبل ذلك/، جعلها الله عوضاً مما يفوتهم من تجارتهم مع المشركين. وهو اختيار الطبري [ومما يدل على صحة ما اختار الطبري] من أنه أمر الله تعالى، نبيه عليه السلام، أن يتم لمن عهده [أربعة أشهر فما دن أربعة أشهر، ومن كان عهده أ: ثر أتم له عهده]، إلا أن يكون نقض عهده قبل
2919
انقضاء المدة، فأما الذين لم ينقضوا ولا تظاهروا عليه، فإن الله تعالى، أمر نبيه، عليه السلام، بإتمام العهد لهم، وأمره أن يؤخر الذين نقضوا العهد أربعة أشهر، وإن كان عهدهم أكثر مدة.
وهو قول الضحاك.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا [لَهُمْ]﴾ [التوبة: ٧].
فأمر الله تعالى، نبيه [عليه السلام]، بالاستقامة لهم على عهدهم، ما استقاموا. وأمر الله تعالى، أن يؤخر الذين نقضوا وظاهروا عليه أربعة أشهر.
وقد رُوي: أن علياً كان يقول في ندائه: ومن كان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد فعهده إلى مدته.
قوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾، الآية.
المعنى: فسيحوا يا أيها الذين لهم عهد وقد نقضوا قبل إتيان الأجل. وأما من له عهد أربعة أشهر فما دون، فقيل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر من يوم النحر، أي: تصرفوا مقبلين ومدبرين، ثم لا أمان لكم بعدها إلاّ بالإسلام.
وأشهُرُ [السياحة] على قول مجاهد، وغيره: من يوم النحر إلى عشر خلون
2920
من ربيع الآخر.
وعند الزهري: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وتسمى أيضاً أشهر السياحة، أي: سمح لهم فيها بالتصرف آمنين.
قوله: ﴿واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾.
أي: مُفيتيه أنفسكم، أين كنتم، وأين ذهبتم بعد الأربعة الأشهر وقبلها، لا منجي منه ولا ملجأ إلا الإيمان به، تعالى، وبرسوله عليه السلام.
﴿وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين﴾.
أي: مذلهم ومرثهم العار في الدنيا والآخرة.
قوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس﴾، الآية.
2921
و " الأذان " في اللغة: الإعلام.
و ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾: يوم عرفة؛ لأن علياً يوم عرفة قرأ على الناس أربعين آية من " براءة " بعثه بها النبي ﷺ، ثم قرأها عليهم في مِنًى لتبلغ جميعهم، فمن ثم قال قوم: ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾: النحر. وهو قول مالك.
ورُوِيَ أن النبي ﷺ، خطب يوم عرفة فقال: " أما بعد، فإن هذا يوم الحج الأكبر ". [وهو قول عمر، وابن الزبير، وعطاء، وغيرهم.
2922
وروي عن علي أنه قال: ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾]: يوم النحر. وهو قول مالك، واختلف عن ابن عباس. وهو قول ابن عمر، والسدي، والشعبي، وغيرهم.
وقال مجاهد ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾ معناه: حين الحج، وهو أيام الحج كلها، لا يوم بعينه.
وقال ابن جريج: ﴿الحج الأكبر﴾: أيام منى كلها.
واختار الطبري: أن يكون يوم النحر؛ لأن في ليلته يتم الحج، وليس من فاته يوم عرفة أو ليلته يفوته الحج، ومن فاته ليلة يوم النحر إلى الفجر فقد فاته الحج. وحق الإضافة أن تكون إلى المعنى الذي يكون في الشيء، فلما كان الحج في ليلة يوم النحر أضيف أسم الحج إلى يوم النحر.
ولما كان [من] لم تغب له الشمس يوم عرفة لم يحج، وإن كان قد وقف بعرفة طول نهاره، علم بأنه ليس بيوم الحج إذ لا يتم الحج
2923
به ألا ترى أنهم يقولون: يوم النحر من أجل أن [النحر فيه، ويقولون: يوم عرفة من أجل أن] الوقوف بعرفة فيه يكون، و: يوم الفطر من أجل أن الإفطار بعد الصوم فيه يكون، فكذلك يوم الحج يقال لليوم الذي فيه، أو في ليله يتم الحج ويحصل، وفي يومه تعمل أعمال الحج، من النحر، والوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق، وغير ذلك.
وسمي: ﴿الحج الأكبر﴾: لأنه كان/ في سنة اجتمع فيها المسلمون والمشركون.
وقيل: سمي بذلك؛ (لأنه) من النحر والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار والحِلاق وغير ذلك.
وسمي بذلك؛ لأنه كان يوم حج اجتمع فيه المسلمون والمشركون، ووافق عيد اليهود والنصارى.
وقال مجاهد ﴿الحج الأكبر﴾: القِرانُ في الحج، والأصغر: الإفرادُ.
2924
وأكثر الناس على أن الأكبر: الحجُّ، والأصغر: العُمْرة.
وقال الشعبي الحج الأصغر: العمرة في رمضان.
وقد ثبت أن النبي ﷺ، بعث علياً بأول سورة " براءة "، إثر أبي بكر عام حجَّ بالناس أبو بكر، وذلك سنة تسع، فنادى علي بـ: " براءة " في الموسم.
وقيل: يوم النحر نادى بها.
وقيل: يوم عرفة.
وقيل: فيهما جميعاً.
ثم حج النبي ﷺ، في سنة عشرة.
ومعنى ﴿برياء مِّنَ المشركين﴾، أي: من عهدهم بعد هذه الحَجَّةِ.
﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
أي: تبتم عن كفركم ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾، أدبرتم عن الإيمان، ﴿فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾، أي: لا تفيئون الله أنفسكم، ﴿وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾،
2925
أي: مؤلم، أي: أعلمهم، يا محمد بذلك.
﴿برياء مِّنَ المشركين﴾، وقف، إن جعلت ﴿وَرَسُولُهُ﴾: ابتداء أضمر خبره، أي: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ منهم.
وإن جعلته معطوفاً وقفت ﴿وَرَسُولِهِ﴾، وكذلك من نصب، وهي قراءة ابن أبي إسحاق.
﴿غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾، وقف حسن.
﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، ليس بوقف حسن؛ لأن بعده الاستثناء.
2926
ومن العلماء من يقول: ألاّ وقف من أول السورة يحسن؛ لأن الاستثناء مما قبل.
قال قتادة: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم النبي عليه السلام، زمن الحديبية، أمر أن يتم لهم مدتهم، وكان قد بقي منها أربعة أشهر من يوم النحر، وأمر أن يصبر على من لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ثم يقاتل [الجميع] حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
ومعنى ﴿إلى مُدَّتِهِمْ﴾: إن كانت أكثر من أربعة أشهر.
قوله: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾، الآية.
قوله: ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾، منصوب عند الأخفش على حذف: " على ".
وقد حكى سيبويه: ضُرب الظهر والبطن، أي: " على "، فنصب لما حذف
2927
" على ".
ونصبه على الظرف حسن، كما تقول: " قَعَدْتُ لّهُ كُلَّ مَذْهَبٍ ".
أي في كل مذهب.
والمعنى: فإذا انقضت الأشهر الحرم عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد، فنقضوا وظاهروا المشركين على المسلمين، أو كان عهدهم إلى غير أجل معلوم. ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾، من الأرض، في الحرم، وفي غيره، وفي الأشهر الحرم وفي غيرها. ﴿وَخُذُوهُمْ﴾، أي: أسروهم، والعرب تسمي " الأسير ": أخِيذاً، ﴿واحصروهم﴾، أي: امنعوهم من التصرف في بلاد المسلمين،
2928
وأصل " الحصر ": المنع (والحبس)، ﴿واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾، أي: طالبوهم في كل طريق. ﴿فَإِن تَابُواْ﴾، أي: رجعوا عن الشرك، و ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾، أي: أدوها بحدودها، ﴿وَءَاتَوُاْ الزكاة﴾، أي: أعطوا ما يجب عليهم في أموالهم/، ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ أي: دعوهم يتصرفون [في أمصاركم]، ويدخلون البيت الحرام ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ﴾، أي: ساتر ذنوب من رجع وأناب، ﴿رَّحِيمٌ﴾، أن يعاقبه
2929
على ذنوبه السابقة قبل توبته، [بعد التوبة].
روى أنس عن النبي ﷺ، أنه قال: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله تعالى، وعبادته، جلت عظمته، لا يشرك به فارقها والله عنه راضي ".
و ﴿الأشهر الحرم﴾، هنا: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وأريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده؛ لأن الأذان بـ: " براءة " كان يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أُجِّلوا الأشهر [الحرم] كلها، ولكنه لما كان المحرم متصلاً بالشهرين الآخرين الحرامين وكان لهما تالياً قيل: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾.
وقال السدي: ﴿الأشهر الحرم﴾ هنا هي: من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر.
وسميت " حُرُماً "؛ لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين، وأذاهم.
2930
وقال مجاهد: ﴿الأشهر الحرم﴾، هنا هي: الأربعة التي قال الله تعالى: ﴿ فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢].
وهو قول السدي.
ومثله قال ابن زيد، قال: أمر الله سبحانه أن يتركوا أربعة أشهر يسيحون ثم يتبرأ منهم، ثم أمر إ ذا انسلخت تلك الأشهر الحرم أن يقتلوا حيث وجدوا.
وسماها " حُرُماً "؛ لأنه حرم قتل المشركين فيها.
وقال الضحاك، والسدي: الآية منسوخة لا يحل قتل أسير صبرا، والذي نسخها هو قوله: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد: ٤]. وهو قول عطاء.
وقال قتادة: هذه الآية ناسخة لقوله: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾، ولا يجوز أن
2931
يمنّ على أسير ولا يُفادى، وقد روي مثله عن مجاهد.
وقال ابن زيد: وهو الصواب إن شاء الله، [إن] الآيتين محكمتان.
أمر هنا: أن يؤخذوا إما للقتل، وإما للمنّ، وإما للفداء، وأمر ثَمَّ، إما المن، وإما الفداء، فهما محكمتان، وقد فعل هذا كله رسول الله ﷺ: قتل الأساري، وفادى ببعض، ومنَّ على بعض، وذلك يوم بدر.
قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾، الآية.
والمعنى: وإن استأمنكم، يا محمد، أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الأربعة، ليسمع كلام الله، سبحانه، منك، فأَمِّنْه حتى يمسعه، ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾، أي: إن أسمع ولم يتعظ، فرده إلى حيث يأمن منك ومن
أصحابك، ويلحق بداره.
وإضافة الكلام إلى الله، جل ذكره، في هذا إضافة تخفيص من طريق القيام به، فهي إضافة صفة إلى موصوف، وليست بإضافة ملك إلى مالك، ، ولا بإضافة خلق إلى خالق، ولا بإضافة تشريف، بل هي إضافة على معنى: أن ذاته [غير] متعدية منه. فافهم.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾.
أي: يفعل ذلك بهم؛ لأنهم قوم جهلة لا يعلمون قدر ما دُعُوا إليه.
قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله﴾، الآية.
المعنى: أنّى يكون للمشركين عهد يوفى لهم به، فيتركون من أجله آمنين؟ إلا الذين أُعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم ﴿فاستقيموا لَهُمْ﴾، أيها المؤمنون على عهدهم، ما استقاموا لكم عليه.
قال الفراء: في ﴿كَيْفَ﴾، هنا معنى التعجب.
وهؤلاء القوم: بنو جذيمة بن الدُّئِل.
وقيل: هم قريش.
قال ابن زيد: فلم يستقيموا، فضرب لهم أجل أربعة أشهر، ثم أسلموا قبل تمام الأجل.
وقال قتادة: نقضوا ولم يستقيموا، أعانوا أحْلاَفَهُمْ من بني بكر، على حِلْفِ النبي ﷺ، خزاعة.
وقال [مجاهد]: هم قوم من خزاعة.
قوله: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ﴾، الآية.
﴿كَيْفَ﴾: في موضع نصب، وكذلك ﴿كَيْفَ يَكُونُ﴾ [التوبة: ٧].
والمعنى: كيف يكون لهؤلاء المشركين عهد، وهم/ قد نقضوا العهد، ومنهم من
2934
لا عهد له، وهم: ﴿وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾.
و ﴿كَيْفَ﴾ هذه، قد حذف الفعل بعدها لدلالة ما تقدم من الكلام عليه.
قال الأخفش المعنى: ﴿كَيْفَ﴾ لا تقتلونهم.
وقال أبو إسحاق، التقدير: كيف يكون لهم عهد، ﴿وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾، وحذف هذا الفعل؛ لأنه قد تقدم ما يدل عليه، ومثله قول الشاعر:
2935
وخَبَّرتُماني أَنَّهما المَوْتُ في القُوى فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبةٌ وَقَلِيبُ
والمعنى: فكيف يكون الموت في القُرى، وهاتا هضبة وقليبُ، لا ينجو فيهما منه أحد؟
و" الإلُّ ": القرابة و " الذِّمَّةُ ": العهد. قاله ابن عباس.
وقال قتادة " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةِ ": العهد.
وقال مجاهد " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةُ ": العهد.
2936
وقال ابن زيد: " الإلّ ": العهد، و " الذمة ": العهد، لكنهما كررا لما اختلف لفظهما.
وجمع " الإلّ " الذي هو القرابة: الآلٌ، بمنزلة " عدل وأعدل "، وفي الكثير: ألول ألالُ.
وقوله: ﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾.
أي: يعطونكم بألستنهم خلاف ما يضمرون في نفوسهم.
﴿وتأبى قُلُوبُهُمْ﴾.
أي: تأْبى أن تذعن بتصديق ما يبدوا بألسنتهم.
﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
2937
أي: خارجون عن أمر الله تعالى، بنقضهم وكفرهم.
قوله: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً﴾، إلى قوله: ﴿المعتدون﴾.
المعنى: إن الله تعالى أخبر عن المشركين، أنهم باعوا آيات الله سبحانه وعهده، (جلت عظمته)، بثمن يسير.
وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي ﷺ، بأكلة أطعمها لهم أبو سفيان بن حرب.
﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾.
أي: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام.
﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
أي: ساء عملهم.
﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾.
قد تقدم ذكره.
وقال النحاس: هذا لليهود، والأول للمشركين.
وقوله: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾، يعني اليهود، باعوا حجج الله تعالى، وآياته، سبحانه بطلب الرئاسة.
﴿وأولئك هُمُ المعتدون﴾.
أي: المتجاوزون إلى ما ليس لهم.
قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة﴾، إلى قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾.
المعنى: فإن تاب هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتلهم، ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة﴾، فهم إخوانكم في الدين، ﴿وَنُفَصِّلُ الأيات﴾، أي: نبين لهم الحجج، ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، ذلك.
قال قتادة المعنى: فإن تركوا اللات والعُزّى، وشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ﷺ ﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة﴾، فهم إخوانكم في الدين.
قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً، فلم يفرق بينهما. وقال: يرحم الله
2939
أبا بكر ما كان أفقهه.
وقوله: ﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم﴾.
أي: وإن نكث هؤلاء المشركون عهودهم من بعد ماعاهدوكم.
﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾.
أي: قدحوا فيه، وثلبوه وعابوه.
﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾.
أي: رؤوس أهل الكفر.
﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾.
من قرأ بـ: " فتح الهمزة " فمعناه: لا عهود لهم، وهو جمع " يمينٍ ".
2940
ومن كسر احتمل معنيين:
أحدهما أن يكون معناه: لا إسلام لهم، فيكون مصدر: آمن الرجل يؤمن: إذا أسلم.
ويحتمل أن يكون مصدر: آمنته من الأمن، فيكون المعنى: لا تُؤَمِّنُوهُمْ، ولكن اقتلوهم.
و ﴿أَئِمَّةَ﴾: جمع إمام، وهو: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ونظراؤهم الذين هَمُّوا بإخراجه.
وقال السدي: هم قريش.
2941
وقال حذيفة: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
وأصل " النكثِ ": النقنض.
﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾.
أي: / ينتهون عن الشرك ونقض العهود.
قوله: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾، الآية.
﴿أَلاَ﴾: تحضيض وتحريض.
﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾، ألف تقرير وتوبيخ.
ومعنى الآية: أنها تحضيض، على قتال المشركين الذين نقضوا عهود النبي ﷺ، وطعنوا في الدين، وعاونوا أعداء المسلمين عليهم، ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول﴾ من مكة: ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، أي: بدأوا بالقتال ببدر: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ أي: تخافونهم على
أنفسكم: ﴿فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾، أي: أن تخافوه في ترككم قتال عدوكم وعدوه، الذي هو [لا] يضر و [لا] ينفع.
قال السدي: هموا بإخراجه وأخرجوه.
﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وقف عند الأخفش.
وعند أبي حاتم، الوقف: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾.
قوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله﴾، الآية.
والمعنى: قاتلوا هؤلاء الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، فإنكم إن تقاتلوهم: ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾، أي: يقتلهم بأيديكم، ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾، أي: يذلهم
بالأسر: ﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾، أي: يعطكم الظفر عليهم، ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾، أي: بقتلهم وأسرهم.
و" الوقوم المؤمنون " (هنا) هم: خزاعة حلفاء رسول الله ﷺ، وذلك أن قريشاً نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله ﷺ، بمعونتهم بكراً على خزاعة. قاله مجاهد، والسدي.
وذلك أن النبي ﷺ حين قاضى المشركين يوم الحديبية، أدخل بني كعب بن خزاعة معه في القضية، [وأدخل المشركون بين بكر بن كنانة معهم في القضية]، ثم إن المشركين أغاروا مع بني بكر بن كنانة على بني كعب، قبل انقضاء مدة العهد، فغضب النبي ﷺ، لذلك فقال: " واله لأَنْتَصِرَنَّ لَهُمْ "، فنصره الله عليهم يوم الفتح، وشفى صدور بني كعب.
قوله: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾.
2944
أي: غيظ قلوب خزاعة على هؤلاء: بني بكر بن كنانة الذين نقضوا عهد النبي عليه السلام، وأعانوا المشركين على خزاعة، وهم مؤمنون، حلفاء النبي [ ﷺ].
﴿ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ﴾.
مستأنف فالابتداء به حسن، والمعنى: وسوف يتوب الله، وهو مثل: ﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾، ثم قال: ﴿وَيَمْحُ﴾ [الشورى: ٢٤] فاستأنف.
وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى، والأعرج:
" وَيَتُوبَ " بـ: " النصب ".
2945
على الصَّرْفِ.
فلا تقف على ماق بل: ﴿وَيَتُوبُ﴾ على هذه القراءة.
قوله: ﴿والله عَلِيمٌ﴾.
أي: عالم بسرائر عباده ﴿حَكِيمٌ﴾ في تصريفه عباده من حال كفر إلى حال إيمان، بتوفيقه، ومن حال إيمان إلى حال كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته.
قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ﴾، الآية.
﴿أَن تُتْرَكُواْ﴾: في موضع مفعولي " حسبت " عند سيبويه.
2946
وقال المبرد: ﴿أَن تُتْرَكُواْ﴾: مفعول أول، والثاني مفعول محذوف.
و ﴿أَمْ﴾ هنا: استفهام، والمعنى: أحسبتم أيها المؤمنون كذا وكذا؟.
ومعنى الآية: أنها خطاب للمسلمين الذين أمرهم الله بقتال المشركين الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، يقول تعالى: أحسبتم، أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة، وبغير اختيار، ليعلم الصادق منكم من الكاذب، علم مشاهدة. وقد كان علم ذلك، تعالى، قبل خلق العالم، ولكن المجازاة إنما تقع على المشاهدة، فيعلم المجاهدين الذين لم ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾، أي: بِطَانَةً من المشركين، يفشون إليهم من سرهم.
قال الطبري: إنما دخلت ﴿أَمْ﴾ في موضع الألف هنا؛ لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بين الاستفهامم الذي يبتدأ به، والاستفهام الذي يعترض.
في وسط الكلام.
2947
ومثله: ﴿الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ [فِيهِ] مِن رَّبِّ العالمين﴾ [السجدة: ١ - ٢]، ثم قال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ [السجدة: ٣]، بمعنى: أيقولون.
ومثله: ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ/ خَيْرٌ﴾ [الزخرف: ٥١ - ٥٢]، أي: أنا خير.
وهذه ﴿أَمْ﴾ هي التي تسمى " المنقطعة، ولا يقدر الكلام معها بـ: " أيهم " ولا بـ: " أيهما ".
﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أي: ذو خبر بعملكم إن اتخذتم بطانةً من المشركين تفشون إليهم سر المؤمنين.
ونظير هذه الآية: ﴿الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١ - ٢]، أي: يختبرون، ثم قال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾، إلى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾ [العنكبوت: ٣].
قوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾، إلى قوله: ﴿المهتدين﴾.
والمعنى: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله؛ لأنهم ليسوا ممن يذكر
2948
الله، والمساجد إما بنيت لذكر الله والصلاة، فليس لهم أن يعمروها.
﴿شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ﴾.
فيه ثلاثة تأويلات.
أحدهما: أن فيما يقولونه ويفعلونه دليل على كفرهم، كما يدل على إقرارهم، فكأنَّ ذلك منهم شهادتهم على أنفسهم. قاله الحسن.
والثاني: شهادتهم على رسولهم بالكفر؛ لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم. قاله الكلبي.
والثالث: ما ذكره في الكتاب، وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر؛ لأنهم يقال للرجل منهم: أيش أنت؟ فيقول: نصراني، يهودي، صابئ، مشرك.
﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾.
في الدنيا، أي: بطلت وذهبت، إذ لم تكن لله، تعالى، وكانت للشياطين.
﴿وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾.
2949
أي: ما كثون أبداً، لا أحياءً ولا أمواتاً.
ومن قرأ: ﴿مَسَاجِدَ الله﴾ بالتوحيد، عَنَى به: المسجد الحرام، ودليله قوله: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨]، وقوله: ﴿وَعِمَارَةَ المسجد الحرام﴾ [التوبة: ١٩].
ومن جمع، أراد: جميع المساجد، ودليله قوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله﴾ فجمع ولم يُخْتَلفْ فِيهِ.
والجمع: يستوعب المسجد الحرام وغيره، والتوحيد: يخص المسجد الحرام
2950
وحده، ولا يجوز لمن وَحَّدَ أن يريد به الجنس؛ لأنه مضاف، والمضاف موقت محدود.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله﴾.
أي: إنما يعمرها من صدق بالله ورسوله، وما أتت به الرسل.
﴿وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين﴾، (أي): فحقيق أن يكون من هذه صفته من المهتدين.
وكل " عسى " في القرآن من الله فهي واجبة.
ونزلت هذه الآية في قريش؛ لأنهم كانوا يفتخرون، فيقولون: نحن أهل الحَرَم وسقاة الحاجِّ، وعُمّار هذا البيت، فأنزل الله تعالى، صِفة من يجب أن يعمر مساجد الله، سبحانه.
قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾، إلى قوله: ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
2951
ألف ﴿أَجَعَلْتُمْ﴾: ألف تقرير وتوبيخ.
ومعنى ﴿كَمَنْ آمَنَ بالله﴾، أي: كإيمان من آمنم.
ومعنى الآية: إن المشركين من قريش افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم الله تعالى، أن الفخر إنما هو بالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله.
ورُويَ أن العباس بن عبد المطلب حين أُسر يوم بدر قال: لئن كنتم سيقتمونا بالإسلام، والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله، جل كره: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾، الآية، فذلك لا ينفعكم، أيها المشركون مع شرككم.
وقال السدي، وغيره: افتخر علي، والعباس، وشيبة، وفقال العباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حاج البيت الله، وقال شيبة: [أنا].
2952
أعمر مسجد الله. وقال علي: أنا هجرت مع رسول الله ﷺ، وجاهدت معه في سبيل الله تعالى، فأنزل الله تعالى، الآية: ﴿أَجَعَلْتُمْ﴾.
ورُوِيَ أن علياً قال للعباس وشيبة: ألا أنبئكم بمن هو أكر حسباً منا؟ قال: نعم، / قال: مَنْ ضرب خَرَاطِيمَكُم بالسيف حتى قادكم إلى الإسلام كَرْهاً، فشق ذلك عليهما، [فشكيا] إلى رسول الله ﷺ، فسكت رسول الله ﷺ، هُنَيْهة، إذ جاءه جبريل عليه السلام، بهذه الآية: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾، الآية.
وقال الضحاك: أقبل المسملون على العباس وأصحابه يوم بدر، وهم قد أسروا، يُعَبِّرونَهُمْ بالشرك، فافتخر العباس بالسقاية وعمارة المسجد الحرام، فانزل الله تعالى، الآية.
قوله: ﴿لاَ يَسْتَوُونَ﴾.
أي: لا يعتدل هؤلاء وهؤلاء عند الله.
2953
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾.
أي: لا يوفقهم لصالح الأعمال.
ثم قال تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ﴾.
أي: هؤلاء الذين هذه صفتهم، أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة مع الشرك، فهذا قضاء من الله تعالى، بين المفتخرين.
ثم أخبر أنهم ﴿هُمُ الفائزون﴾: أي: الناجون من النار، الفائزون بالجنة.
ثم قال تعالى مخبر [بما] يصيرون إليه: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾، لهم ﴿وَرِضْوَانٍ﴾، منه عنهم، ﴿وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾، أي: لا يزال أبداً، ﴿خَالِدِينَ﴾، أي: ماكثين، ﴿أَبَداً﴾، لا حد لذلك، ﴿إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، أي: عنده لهؤلاء الذين هذه صفتهم ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، أي: لا حد له من عظمه.
ومعنى ﴿يُبَشِّرُهُمْ﴾: يعلمهم بذلك في الدنيا.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ﴾، إلى قوله:
2954
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾.
ومعنى الآية: أن الله، جل ذكره، نهى المؤمنين أن يتخذوا آباءهم وإخوانهم الكفار أولياء، يفشون إليهم سر المؤمنين، ويطلعونهم على أسرار النبي عليه السلام، وَيُؤْثِرُون المُكث بين أظهرهم على الهجرة إلى دار السلام: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ﴾ أي: من يتخذهم أولياء وبطانة، ويؤثر المقام على الهجرة، ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾.
وهذا كله قبل فتح مكة. قاله مجاهد.
﴿وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾، وقف نافع.
ومثله ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ في سورة المائدة، فصح الوقف عليه؛ لأنه لا يجوز أن يتخذ اليهود والنصارى أولياء على كل حال.
وهنا إنما نُهُوا عن اتخاذ الآباء والإخوان أولياء إن هم استحبوا الكفر على
2955
الإيمان، فإن لم يفعلوا ذلك فاتخاذهم حسن، والوقف عليه يوجب ألا يتخذوا أولياء على كل حال كاليهود والنصارى.
﴿عَلَى الإيمان﴾، الوقف الحسن.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ﴾، الآية.
والمعنى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، للمتخلفين على الهجرة، المقيمين بدار الشرك، مع أهليهم وأموالهم ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ﴾، أي: المقام مع هؤلاء بمكة، ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله﴾، أي: من الهجرة إلى دار الإسلام، ومن الجهاد في سبيل الله، ﴿فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾، أي: بفتح مكة. قاله مجاهد.
والثاني: ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾: من عقوبة عاجلة أو آجلة. قاله ابن زيد.
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾.
2956
أي: لا يوفقهم للهدى.
قوله: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾، إلى قوله: ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
﴿حُنَيْنٍ﴾: مذكر، أسم واد بين مكة والطائف.
ومن العرب من يجعله أسماً للبقعة فلا يصرفه للتأنيث والتعريف.
وقيل: هو واد إلى جنب ذي المجاز.
لغة بني تميم: " كِثْرةَ "، بكسر الكاف، وجمعه: كثر، والفتح لغة أكثرهم، وجمعه: كثرات، وهما مصدران وجمعهما قبيح.
ومعنى الآية: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله﴾، أيها المؤمنون في أماكن حرب، ونصركم يوم حنين أيضاً.
2957
وهو يوم قاتل فيه النبي عليه السلام، هَوَازِن وثقيفاً، وخرج مع النبي ﷺ، في تلك العزوة/ إثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء، فأعجب القوم كثرهم، فانهزموا ونزل النبي ﷺ، عن بغلته الشهباء، وكان العباس أخذ بلجام [بغلة] النبي عليه السلام، فأمر النبي صلى الله عليه سلم، بالأذان في الناس فتراجع الأنصار، وكان المنادي ينادي: " يا معشر الأنصار، ويا معشر المهاجرين، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء الناس عُنُقاً واحداً، ثم أنزل الله تعالى، نصره، وأخذ النبي ﷺ، كفًّا من تراب، وقبضة من حصباء، فرمى بها وجوه القوم الكفار، وقال: " شَاهَتِ الوُجُوهُ "، فانهزموا. فأخذ رسول الله ﷺ، الغنائم، ورجع إلى الجِعِرَّانَة، فسم بها الغنائم، مغانم حنين، وزاد أُناساً منهم: أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، وسهيل بن عمرو، وغيرهم تألف بالزيادة قلوبهم، فتكلمت الأنصار،
2958
وقالت: " آثر قومه "، فبلغ ذلك النبي ﷺ، وهو في قبة له من آدمٍ، فقال: يا معشر الأنصار ما ها الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضُلاَّلاً فهداكم الله، وكنتم إذِلَّةً فأعزكم الله، وكنتم وكنتم. فتكلموا إليه، فقال النبي ﷺ، والذي نفسي بيده، لو سلكتم وادياً وسلك الناس وادياً، لسكلتُ وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار. ثم مدحهم بغير هذا، ثم قال: أما ترضون أن ينقلب النَّاس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم. فقالت الأنصار: رضينا عن الله عز جل، وعن رسوله ﷺ، والله ما قلنا ذلك إلا ظناً بالله ورسوله، فقال النبي ﷺ، الله ورسوله يُصدقانكم ويعذِرَانكم.
قال السدي: قال رجل من أصحاب النبي عليه السلام، يوم حنين، وقد كانوا إثنى عشر ألفاً: يا رسول الله لن نُغْلَبَ اليوم من قِلَّةٍ وأعجبته كثرة الناس، فَوُكِّلُوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول الله ﷺ، غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ بين [يدي] النبي ﷺ.
فنادى النبي ﷺ، بالأنصار: أين الأنصارُ الذين بايعوا تحت الشجرة؟ فتراجع الناس، فأنزل الله تعالى، الملائكة بالنَّسر، فهزم المشركون يومئذ، وغنموا.
وأصاب المسلمون ستة آلاف سبية، فجاء قومهم مسلمين، فقالوا: يا رسول
2959
الله، أنت خير الناس، وأبرُّ الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا، فقال النبي ﷺ: " إنّ عندي من ترون، وإنّ خَيْرَ القَوْلِ أَصْدَقُهُ، فاختاروا: إما ذراريكم ونسائكم، و [إمّا] أموالكم. فقالوا ما كنا نعدل بالأحْسَاب شيئاً، فأمر النبي ﷺ، من طابت نفسه [أن يرد ما عنده من الذراري ومن لم تَطِبْ نفسه] أن يجعله قرْضاً عند النبي ﷺ، حتى يعوضه مكانه. فَرَضُوا كلهم وسلموا بأن يردوا الذَّراري بطيب نفس.
ومعنى ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾، أي: بسعتها.
وقال الطبري: " الباء " بمعنى: " في ".
فأعلم الله تعالى، المؤمنين في هذه الآية أنه ليس بكثرهم يغلبون، [إنما يغلبون] بنصره.
وكانت غزوة حنين بعد فتح مكة، ولما خرج النبي ﷺ، إليها خرج معه أهل مكة مشاة وركباناً، يمشون يرجون الغنائم حتى خرج معه النساء والصبيان وهم على غير الإسلام/ وليس يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله [صلى الله] عليه وسلم.
2960
وفرق رسول الله ﷺ، الغنائم على الجميع، ووفَّر على أهل مكة اسْتِيلاَفاً لهم ليدخلوا في الإسلام، وزَوَى كثيراً من المقاسم عن أصحابه، فعند ذلك وجدت الأنصار في أنفسها، وقالوا: ما نرى فعل ذلك إلا وهو يريد المقام بين ظَهْرَانَيْهِم، فعاتبهم النبي ﷺ، [ على ذلك.
فنصر الله النبي ﷺ، وهو السَّكِينَةُ التي أنزلت على النبي ﷺ] وعلى المؤمنين، ﴿وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾، وهي الملائكة بالنصر: ﴿وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ﴾، أي: بالسيف، وسبي الأهل وأخذ الأموال: ﴿وذلك جَزَآءُ الكافرين﴾، أي: هذا الذي فعله بهم، هو جزاء من كفر بالله ورسوله.
وقيل: هو جزاء من بقي منهم.
2961
﴿ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ﴾.
أي: يتفضل على من يشاء بالتوبة من الكفر والإنابة إليه، يعني من بقي منهم، حتى ينقلهم إلى طاعته إذا شاء، ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾، إلى قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
ومعنى الآية: أن الله أمر المؤمنين أن يمنعوا المشركين من دخول المسجد الحرام.
وقوله: ﴿نَجَسٌ﴾.
قال قتادة: " النَّجَسُ " هنا: الجُنُب.
وأصل " النَّجَسِ ": القذر. وإذا ذكرت قبل " النجس ": " الرجس " كسرت " النون "، وأسكنت " الجيم "، فقلت: هو رِجْسٌ نِجْسٌ على الاتباع.
وعنى بذلك: الحرم كله أن يمنعوا من دخوله، وعلى ذلك قال عطاء: الحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ.
2962
وَبِظَاهِرِ هذه الآية يجب على المشرك إذا أسلم أن يغتسل، وقد أمر بذلك النبي ﷺ. وهو مذهب مالك، وابن حنبل، ولم يوجبه الشافعي واستحبه، قال: إلاَّ أن يكون يعلم أنه جنُبٌ فعليه أن يغتسل.
وقال الثوري، والشافعي: ثياب المشركين على الطهارة حتى تعلم النجاسة، واستحبا غسل الإزار والسراويل.
وقال مالك: إذا صلى في ثوب كان المشرك يلبسه، أعاد من الصلاة ما كان في وقته.
وأكثَرُهُمْ على أن لا بأس بالصلاة فيما نسجوا، وهو مذهب مالك.
وهذه الآية نَاسِخَةٌ، لما كان النبي عليه السلام، قد صالح عليه المشركين أن لا يَمْنَع أحد من البيت.
2963
قال مالك: يمنع المشركون كلهم من أهل الكتاب وغيرهم من دخول الحرم، ودخول كل المساجد. وهو قول عمر بن عبد العزيز، وقتادة.
وقال الشافعي: يمنع المشركون جميعاً من دخول الحرم، ولا يمنعون من دخول سائر المساجد.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام، ولا من غيره، ولا يمنعن من ذلك إلا المشركون أهل الأوثان.
وقول الله تعالى، في اليهود والنصارى: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله مِّن دُونِ الله]﴾ [التوبة: ٣١] الآية، يدلُّ على جوازهم تسميتهم مشركين، وقد نصّ الله على ذلك بقوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ في آخر الآية.
وقوله: ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾.
هو العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنهـ، بالناس، ونادى عليّ بـ: " براءة " في الموسم، / وذلك لتسع سنين مضين من الهجرة، وحجَّ النبي ﷺ حَجَّةَ الوَدَاعِ في العام المقبل سنة عشر من الهجرة.
2964
وقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾.
[أي]: إن خفتم، أيها المؤمنون، فقراً، بمنعنا المشركين أن يأتوكم إلى الحرم بالتجارات، ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾، فأغناهم الله بأخذ الجزية منهم بقوله: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾، إلى قوله: ﴿حتى يُعْطُواْ الجزية﴾.
وقيل: أغناهم بإدْرَارِ المطر عليهم.
قال ابن عباس: ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزن، عن منع المشركين من دخول الحرام، وقال لهم: من أين تأكلون، وقد انقطعت عنكم العير؟ فأنزل الله تعالى:
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ الآية.
﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾.
أي: عليم بما حدثتكم به نفوسكم من خوف العيلة، بمنعنا المشركين أن يأتوا إليكم، وبغير ذلك من مصالحكم، ﴿حَكِيمٌ﴾، في تدبيره.
2965
و " العَيْلَةُ " مصدر " عَالَ يَعِيلُ ": إذا افتقر.
وحُكِي: " عال يعول " [في] الفاقة.
وبمصحف عبد الله: " عائلة "، أي: خصلة شاقة، يقال: عالني الأمر، أي: شقَّ عليَّ واشتد.
ثم قال: تعالى آمراً للمؤمنين: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾، الآية، أي: قاتلوهم حتى يعطوكم الجزية، من أهل الكتاب كانوا أو من غيرهم.
و" الجِزْية " ك: " القِعْدة " و " الجِلسة "، وجمعها: جِزَى، ك: " الحَِىً "، فهو
2966
من " جَزَى فلان فلاناً ما عليه ": إذا قضاه.
وهي الخراجُ عن الرقاب.
ومعنى: ﴿عَن يَدٍ﴾، أي: عن يده إلى يد من يدفعه إليه.
وقيل: ﴿عَن يَدٍ﴾: عن إنعامٍ منكم عليهم إذا رضيتم بالجزية وأمَّنْتُمُوهُمْ في نفوسهم وأموالهم وَذَرَارِيهمْ.
وقيل: ﴿عَن يَدٍ﴾: نقداً لا نسيئة.
وقيل: يؤدونها بأيديهم لا يوجهون بها كما يفعل الجبار.
وأهل اللغة يقولون: عن قهر وقوة.
2967
﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
أي: أذلاء مقهورون.
فهذه الآية نزلت في حرب الروم، فغزا رسول الله ﷺ، بعد نزولها غزوة تبوك. قاله مجاهد.
قال عكرمة: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾: هم قائمون [وأنت جالس].
وقال ابن عباس: يمشون بها مُلَبَّين.
وهذه الآية ناسخة للعفو عن المشركين. قاله ابن عباس.
2968
هي ناسخة لقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
وأجمع علماء الأمصار على أخذ الجزية من المجوس.
وكان ملك يرى: أخذ الجزية من سائر أهل الشرك، وحكمهم عنده حكم المجوس، تؤخذ منهم الجزية، ولا ينكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم.
وتوضع الجزية عمن أسلم عند مالك ولم يبق من السنة إلا يوم واحد.
وتؤخذ الجزية من أهل الوَرِق: أربعون درهماً، ومن أهل الذهب: أربعة دنانير، وهي فرض عمر رضي الله عنهـ.
قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله﴾، إلى قوله: ﴿يُشْرِكُونَ﴾.
﴿عُزَيْرٌ﴾: مرفوع بإضمار مبتدأ، أي: صاحبنا عزير، ﴿ابن﴾: نعت له، فيكون حذف التنوين لكثرة الاستعمال.
2969
ويجوز أن يكون ﴿ابن﴾، خبراً [عن] ﴿عُزَيْرٌ﴾، ويكون حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وكلا الوجهين في قراءة من نَوَّن عُزَيْراً.
وقال أبو حاتم لو قال قائل: إن عزيراً اسم أعجمي لا يتصرف جاز.
وهو عند النحويين عربي مشتق، من: عزره يعزِرُهُ ومنه قوله: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: ٩].
﴿ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾.
2970
أي: لا بيان عندهم بما يقولون، ولا برهان، وإنما هو قول لا غير. ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ﴾.
أي: يُشَبِّهون قولهم بقولهم، وهم اليهود الذين قالوا:
﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾، [سبحانه وتعالى]، أي: يشبه قول هؤلاء النصارى في الكذب على الله، (تعالى)، قول من تقدمهم في " العُزَيْر " من اليهود.
وقيل: المعنى: إن من كان على/ عهد النبي ﷺ، من اليهود والنصارى قولهم يشبه قول أوّليهم.
﴿قَاتَلَهُمُ الله﴾.
أي: لعنهم الله.
2971
﴿أنى يُؤْفَكُونَ﴾.
أي: من أين يصرفون عن الحق.
﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله]﴾.
الأحبار: العلماء.
والرهبان: العباد، أصحاب الصوامع.
﴿أَرْبَاباً﴾: أي سادة، يطيعونهمه في المعاصي، فيحلون ما حرم الله تعالى، ويحرمون ما أحل الله، سبحانه، ولم يكونوا يَعْبِدُونَهُمْ، إنما كانوا يَطِيعونَهُم فيما لا يجوز، ولا يحل.
وقوله: ﴿والمسيح﴾.
2972
أي: واتّخذوا المسيح رَبّاً.
﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
[أي]: تنزيهاً له وتطهيراً من شركهم.
قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم﴾، إلى قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾، إنما دخلت ﴿إِلاَّ﴾؛ لأن في الكلام معنى النفي، وهو: ﴿يأبى﴾، لأن قولك: " أبيت الفعل " كقولك: " لم أفعل "، فلذلك دخلت ﴿إِلاَّ﴾، وهي لا تدخل إلا بعد نفي.
وقال الزجاج التقدير: ﴿ويأبى الله﴾ كل شيء ﴿إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾.
2973
وقال علي بن سليمان: إنما جاز دخول ﴿إِلاَّ﴾ ها هنا؛ لأن ﴿يأبى﴾ منع، فضارعت النفي.
ومعنى الآية: يريد أحبار هؤلاء ورهبانهم ﴿أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله﴾، ( تعالى)، ﴿ بأفواههم﴾، أي: يحاولون بتكذيبهم وصدهم الناس عن محمد ﷺ، أن يبطلوا القرآن الذي جعله الله ضياء لخلقه، وهو نور الله سبحانه، ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾، أي: يعلو دينه وتظهر كلمته.
قال السدي: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم، والله مُتِم نوره ولو كره الكافرون إتمامه.
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى﴾.
وهو الإسلام وشرائعه ﴿وَدِينِ الحق﴾، الإيمان، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾، أي:
2974
ليعلي الإسلام على الملل كلها، ﴿وَلَوْ كَرِهَ﴾، ذلك ﴿المشركون﴾.
قال أبو هريرة: ذلك عند خروج عيسى عليه السلام.
وقيل: المعنى ليعلمه شرائع الدين كلها، فيطلعه عليها.
فتكون " الهاء " للنبي ﷺ، وهو قول ابن عباس.
وفي القول الأول: " الهاء " تعود على: " الدِّينِ.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان﴾، إلى [قوله]: ﴿مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾.
قوله: ﴿والذين يَكْنِزُونَ﴾.
﴿والذين﴾: في موضع رفع عطف على الضمير في: " يأكلون "، فيكون التقدير:
2975
﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل﴾، ويأكلها معهم الذين يكنزون الذهب.
وقيل: ﴿الذين﴾: في موضع رفع بالابتداء.
ومعنى الآية: يا أيها الذين صدقوا بمحمد ﷺ، بما جاء به، إن كثيراً من أحبار اليهود والنصارى ورهبانهم، وهم: علماؤهم وعبادهم. وقيل: ﴿الأحبار﴾: القراء: ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل﴾، ويأكلها معهم ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب﴾، وذلك الرُّشى في الحكم، وفي تحريف كتاب الله تعالى، يكتبون بأيديهم كتباً، ويقولون: هذا من عبد الله، يأخذون بها ثمناً قليلاً، ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾، أي: يمنعون من أراد الدخول في الإسلام.
و" الكَنْزُ ": كل مَالٍ وجبت فيه الزكاة، فلم تُؤَدَّ زكاته.
وقوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾.
أي: لا يؤدون زكاتها.
2976
قال ابن عمر: كل ما مَالٍ أُدِّيتُ زكاته ليس بكنز، وإن كان مدفوناً، وكلُّ مالٍ لم تُؤدّ زكاته، فهو كنز يكوى [به] صاحبه، وإن لم يكن مدفوناً.
ورُوي عن علي رضي الله عنهـ: أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " / فإن زادت فهو " كنز "، أدّيت زكاته أو لم تُؤد.
قال ابن عباس: هي خاصة للمسلمين لمن لم يؤدِّ زكاته منهم، وهي عامة في أهل الكتاب، من أدى الزكاة ومن لم يؤدِّ؛ لأنهم لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا.
وقال عمر بن عبد العزيز: أراها مَنْسوخَةً بقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣].
2977
و " الكنْزُ " في كلام العرب: كل شيء جُمع بعضُه إلى بَعْضٍ.
قوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾.
ولم يقل: " يُنفقونهما "، إنما ذلك لأن الضمير رجع على الكنوز، والكنوز تشتمل على الذهب والفضة.
وقيل: إن الضمير يرجع على: " الأموال " التي تقدم ذكرها أنها تؤكل بالباطل.
وقيل: الضمير يعود على: " الفضة "، وحذف العائد على الذهب لدلالة الكلام
2978
عليه، كأنه قال: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾ و " يُنفقونه "، ثم حذف كما قال:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ....
وقيل الضمير: " الذهب "، وضمير " الفضة " محذوف تقديره: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾
2979
و " يُنفقونها "، والعرب تقول: " هي الذهب [الحمراء] "، فتؤنث.
وقال معاوية: هذه الآية في أهل الكتاب خاصة.
وقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
أي: اجعل موضع البشارة لهم عذاباً أليماً، أي: مؤلماً، بمعنى مُوجع.
وليس ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، بتمام؛ لأن ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا﴾، منصوب بـ: ﴿أَلِيمٍ﴾.
و (الضمير في ﴿عَلَيْهَا﴾، فيه من الوجوه، ما في: ﴿يُنفِقُونَهَا﴾، وكذلك الضمير في ﴿بِهَا﴾.
2980
قال النبي ﷺ: " مَا مِن عَبْدٍ لا يُؤدّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا أُتِي بِهِ وبماله فأحمى عليه في نار جهنم، فتكوى بها جنباه وجبهته وظهره، حتى يحكم الله بين عباده ".
وقال ابن عباس: ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا﴾، قال حَيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، تقول: أنا مالك الذي بخلت به.
وقال النبي ﷺ: " مَن ترك بعده كنزاً مَثَلَ له يوم القيامة شُجاعاً أَقْرَع له زَبِيبَتَانِ، يتبعه فيقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلم يزل يتبعه حتى يُلْقِمَه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده ".
قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾، الآية.
قوله: ﴿كَآفَّةً﴾.
2981
مصدر مثل: " عفاه الله عافيةً "، ومثله: " عامَّةً " و " خاصَّةً "، ف: ﴿كَآفَّةً﴾ ك: " العافية " و " العاقبة "، ولا تدخل فيهما " الألف واللام "، كما لم تدخلا في " معاً " و " جميعاً ".
ومعنى الآية: إن الله قدر أنّ السنة اثنا عشر شهراً في كتابه الذي سبق فيه ما هو [كائن] إلى يوم القيامة، منها أربعة حرم، وهن: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، وكان القتال فيها حراماً حتَّى نزل في " براءة " قتال المشركين.
و ﴿ذلك الدين القيم﴾.
2982
أي: المستقيم، إنها اثنا عشر شهراً.
وقيل ﴿الدين﴾ هنا: الحساب، أي: الحسابُ المستقيم.
وقال ابن عباس معناه: ذلك القضاء القيم.
وقوله: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.
أي: لا تستحلوا ما حرم الله تعالى.
قال ابن عباس: ﴿فِيهِنَّ﴾ يعني كلهن.
قال ابن عباس: ﴿فِيهِنَّ﴾، يعني: كلهن.
وهو قول مقاتل بن حيان، والضحاك، جعلاً الضمير يعود على: ﴿اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾.
وليس قوله: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ إذا جعلناه الأربعة الأشهر بمبيح لنا أن نظلم أنفسنا في غير الأربعة الأشهر، ولو كان ذلك كذلك لكان قوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] دليلاً على إباحة قتلهم إذا لم يخشوا إملاقاً، ولكان قوله:
2983
﴿والفلك [التي] تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس﴾ [البقرة: ١٦٤] دليلاً على أنها لا تجري بما يضر الناس، وهي تجري بما ينفع وما يضر.
وأصل هذا: أن كلَّ نهي إنما يوجب الامتناع عما نهى عنه دون غيره، وكل أمر فهو نافسٍ لأضداده فإذا قلت: " قُمْ "، فقد أمرته بترك أضداد القيام من القعود والأضطجاع، وإذا قلت: " لا تَقُمْ "، فلم تنهه عن الاضطجاع ولا عن ألا تكاء ولا عن شيء من أضداده، فاعمله.
فالنهي عن الشيء لا يكون نهياً عن أضداد ذلك الشيء والأمر بالشيء أمر عن أضداد/ ذلك الشيء على مبينا، فافهمه.
وقال قتادة، وغيره: ﴿فِيهِنَّ﴾ في الأربعة الحرم، جعل الذنب فيهن أعظم منه في غيرهن.
وأكثر ما تستعمل العرب " الهاء " و " النون " فيما دون العشرة، و " الهاء "
2984
و " الألف " في ما جاوز العشرة.
فالظلم في جميعها لا يجوز، ولكن هو فيها أعظم وزراً لشرفها، فلذلك خصها بالذكر، تعالى، وهذا كقوله: ﴿والصلاة الوسطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] أفردها بعد أن ذكرها مجملة لشرفها، وليس إفرادها بالمحافظة يدل على ترك المحافظة فيما سواها، فكذا هذا.
وقال ابن إسحاق المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً، تعظيماً لها، فإنما نهو عن " النسئ " الذي المشركون يصنعونه.
2985
﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾.
أي: جميعاً.
ومعنى ﴿كَآفَّةً﴾، أي: يكف بعضهم بعضعاً عن التخلف كما يفعلون.
﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾.
أي: مع من اتقى أمره ونهيه وأطاعه.
ومن جعل ﴿فِيهِنَّ﴾ يعود على: " الاثنا عشر شهراً " وقف على: ﴿القيم﴾، ومن جعله يعود على: " الأربعة الحرم " وقف على: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾، وهو قول نافع والأخفش. والأول قول أبي حاتم ويعقوب.
قوله: ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر﴾، الآية.
روى أحمد بن صالح، وداود، وأبو الأزهر عن ورش: ﴿النسياء﴾،
2986
مشدداً غير مهموز.
وكذلك قال أحمد بن صالح عن قالون.
وقال الحلواني عن قالون: مهموز.
2987
وكذلك روى إسماعيل بن جعفر عن نافع.
وهو من " نسأتُ " و " أَنْسَأْتُه ": إذا أخرته.
ومن قرأ بغيْرِ همزٍ احتمل أن يكون على تخفيف الهمز.
واحتمل أن يكون من " نسيت " الشيء: تركته.
ومن قرأ ﴿يُضَلُّ﴾، بفتح الياء، فمعناه: أنهم يَضِلون بتأخير شهر الحج
2988
وتقديمهم غيره.
ومن قرأ ﴿يُضَلُّ﴾ بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله احتج بقوله: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ﴾، فأجراه عليه للمشاكلة.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء: ﴿يُضَلُّ﴾، بالضم، من: " أضَلَّ "، على معنى: أنهم يضلون به مَنْ قَبِلَ منهم ذلك.
و ﴿الذين﴾ في القراءتين المتقدمتين في موضع رفع.
2989
وفي هذه القراءة يجوز أن يكون في موضع رفع على أنهم يضلون به من قَبِل منهم.
ويجوز أن يكون في موضع نصب، على معنى: يُضل الله به الذين كفروا.
ومعنى الآية عند الطبري: ما النسيء إلا زيادة في الكفر، على معنى: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك من شهور الحرم، وتصييرهم الحرام حلالاً، والحلال حراماً، زيادة في كفر من فعل ذلك.
وذلك أنَّ أبا ثُمامة بن عوف، كان يحرم عليهم صفراً عاماً، ويحلله عاماً، فيحرم صفراً والمحرم عاماً، وهو قوله: ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾.
وذلك أنهم (كانوا) قد تمسكوا بتحريم الأربعة الأشهر الحرم من ملة إبراهيم، عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرّم لحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر، ويقاتلون في المحرم. (هذا قول أبي عبيد، قال: فيحرمون صفراً إذا
2990
قاتلوا في الحرم)، ويقولون: هذا أحدُ الصفرين.
وقد تأول قوم قول النبي ﷺ: " لا صَفَرَ " أنه إنما نفى هذا المعنى.
ثم كانوا يحتا/جون إلى صفر لقتال، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يتمادون على تحريمه، ثم كذلك يؤخرون من شهر إلى شهر حتى استدار المحرم عن السنة كلها، فأتى الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل؛ لأنهم كانوا ينتقلون إلى تحريم شهر، ويقيمون عليه مدة، (ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده، ويقيمون عليه مدة ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده ويقيمون عليه مدة)، حتى صاروا إلى المحرم، فأتى الإسلام وقد
2991
رجع إلشيء إلى حقه، فذلك قول النبي ﷺ: " إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ".
فقوله: ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾، هو أنه يحلون صفراً، ثم يحتاجون إلى تحريمه [فيحرمونه]، ويحلون ما قبله، ثم يحتاجون إلى تحليل صفر، فيحلونه، ويحرمون ما بعده، كذا يصنعون.
وقال مجاهد في قوله: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ [البقرة: ١٩٧]، أي: وقد استقر الحج الآن في ذي الحجة فلا جدال فيه.
وقال مجاهد: كانت العرب تحج عاميْن في ذي القعدة، وعاميْن في ذي الحجة، فلما حج النبي ﷺ، كان الحج تلك السنة في ذي الحجة، فهو معنى: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾، أي: استقر في ذي الحجة.
2992
وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: إن المعنى، أن رجلاً [كان] يأتي الموسم، فيحل لهم المحرم سنة ويحرم صفراً، ويحلل صفر العام المقبل، ويحرم المحرم.
قال ابن زيد: كان اسم الرجل: الْقَلَمَّس، قال شاعرهم:
ومنَّا الذي يُنْسي الشُّهورَ الْقَلَمَّسُ... ومعنى ﴿زِيَادَةٌ﴾، (أي): أزدادوا به كفراً إلى كفرهم.
2993
ومعنى: ﴿لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله﴾. أي: ليشابهوا به الذي حرم الله، ويوافقوه به في العدة، لا يزيدون ولا ينقصون، إنما يؤخرون، ويأخذون ذا.
وروى ابن أبي شيبة أن اسم الرجل: نسيء.
﴿زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ﴾.
أي: حبب ذلك إليهم.
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾.
أي: لا يوفقهم للهدى.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا﴾، إلى قوله: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
هذه الآية تحريضٌ من الله، تعالى، وحثَّ للمؤمنين على غزو الروم، وذلك غزوة تبوك. بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد خيبر، وحنين، أُمروا بالغزو في الصيف حين
2994
أحرقت الأرض، وطابت الثمار.
ومعنى ﴿انفروا﴾: اخرجوا غزاة.
ومعنى: ﴿اثاقلتم﴾، أي: تثاقلتم فلزمتم الأرض والمقام بمساكنكم.
﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾.
أي: بخفض الدَّعةِ في الدنيا عوضاً من نعيم الآخرة.
﴿فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
أي: ما الذي تستمعون به في الدنيا من عيشها في نعيم الآخرة إلا يسير.
قال النبي ﷺ: " مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجنَّة أفضلُ من الدُّنيا وما فيها ".
2995
ثم قال تعالى: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
يتوعدهم على ترك الغزو إلى الروم، ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾: أي عاجلاً في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم.
﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾.
(أي: ويستبدل الله، تعالى، نبيَّه عليه السلام قوماً غيركم)، ينفرون معه إذا استنفروا.
﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً﴾.
أي: لا تضروه، بترككم النفير، شيئاً، إذا لا حاجة به إ ليكم ولا إلى غيركم.
﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
على أهلاككم واستبدال قوم غيركم [بكم]، وعلى سائر الأشياء.
قال ابن عباس: استنفر النبي عليه السلام، حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه،
2996
فأمسك عنهم القطر، فكان ذلك العذاب الأليم.
ورُويَ عن ابن عباس أنه قال: نَسَخَتْهَا: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢].
وقال الحسن، / وعكرمة، وأكثر العلماء على أنهما محكمتان، لأن معنى ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ﴾، [أي]: إذا احتيج إليكم.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾، معناه: أنه لا بد أن يبقى بعض المؤمنين لئلا تخلى دار الإسلام. وقد قاله: الحسن، والضحاك.
2997
وقوله: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة﴾ [التوبة: ١٢٠]، الآية، نَسَخَتْهَا (أيضاً) التي بعدها: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢]،. وكذلك نسخت: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ﴾، الآية.
قوله: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ﴾، الآية.
﴿ثَانِيَ اثنين﴾: نصب على الحال.
وقال على بن سليمان: نصبه على المصدر، والمعنى: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾، فخرج ﴿ثَانِيَ اثنين﴾.
مثل: ﴿والله أَنبَتَكُمْ [مِّنَ الأرض [نَبَاتاً]﴾ [نوح: ١٧]....
2998
ومعنى الآية: أنها إعلام] من الله لأصحاب النبي عليه السلام، أن الله، تعالى، قد تكفل بنصره على أعدائه في كل وقت، وحين: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾ يعني: قريشاً، مفرداً مع صاحبه أبي بكر، ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾، يعني [النبي] عليه السلام، يقول لأبي بكر: ﴿لاَ تَحْزَنْ﴾، ذلك أن أبا بكر خاف من أن يعرف مكانه، فمكث النبي عليه السلام، وأبو في الغار ثلاثة أيام.
والغار بجبل يسمى: " ثوراً ".
وكان عامر بن فهيرة في غنم لأبي بكر بـ: " ثور " هذا، يروح بتلك الغنم على النبي ﷺ، بالغار، وكان أبو بكر قد أرسله بتلك الغنم إلى " ثور " قبل خروجه مع
2999
النبي ﷺ عدة.
قال أبو بكر رضي الله عنهـ: " بينا أنا مع النبي ﷺ، [ في الغار] وأقدام المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله ﷺ الله، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا، قال: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَينِ اللهُ ثَالِثُهُما ".
والمعنى: الله ثالثهما، بالحفظ والكلاءة والمنع منهما.
وفي فعل النبي ﷺ، هذا مع أبي بكر سُنَّةٌ لكل من خاف من أمر لا قوام له به، أن يفر منه، ولا يُعرّض نفسه إلى ما لا طافة له به، اتباعاً لفعل نبيه، عليه السلام، ولو شاء الله، عز جل، أن يسكنه معهم، ويُعمي أبصارهم عنه لفعل، ولو شاء لمشى بين أيديهم ولا يرونه، ولو شاء أن يهلكهم بما أرادوا أن يفعلوا لفعل، ولم يكن ذلك عليه عزيزاً،
3000
ولكن أراد [الله] تعالى، أن يبلغ الكتاب أجله، ولتستنَّ بفعله ﷺ، أمتهُ بعده.
وفي فعل النبي ﷺ، وأبي دليلٌ على فساد قول من قال: من خاف شيئاً سوى الله تعالى، لم يوقن بالقدر. فحذر أبي بكر من أن يراهم المشركون دليل على الحذر من قدر الله، تعالى، لم يوقن بالقدر. فقال ذلك، رضي الله عنهـ، إشفاقاً على رسول الله ﷺ، أن يُنَالَ بأذى أو يُفْتَنَ هو في دينه إن قدر عليه، فخف من ذلك، مع علمه أنّ الله تعالى، بالغ أمره فلي كل ما أراد. وقال الله حكاية عن موسى، عليه السلام.
﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾ [طه: ٦٧] ﴿قُلْنَا لاَ تَخَفْ﴾
[طه: ٦٨].
وقوله: ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾.
أي: [على] أبي بكر، والنبي عليه السلام، لم تفارقه السكينة قط.
3001
والسكينة: الطمأنينة من السكون.
وقد قيل: إنَّ " الهاء " تعود على النبي ﷺ.
والأول أحسن؛ لأن النبي عليه السلام، معصوم من ذلك، على أنه قد قال تعالى: ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾ [الفتح: ٢٦]، وذلك أن النبي عليه السلام، خاف على المؤمنين يوم حنين لما اضطربوا، فلما أيد الله تعالى، المؤمنين بنصره، سكن خوف النبي/ ﷺ، عليهم.
وقوله: ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾.
" الهاء " عائدة على النبي ﷺ.
3002
أي: قوّاه بالملائكة.
﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى﴾.
أي: قهر الشرك وأذله.
﴿وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا﴾.
أي: كذلك هي، ولم تزل كذلك.
وقرأ علقمة، والحسن، ويعقوب: " وكلمة الله " بالنصب، وهو بعيد من وجوه.
أحدهما: أن الرفع أبلغ؛ لأنها لم تزل كذلك، والنصب يدل على أنها جُعلت كذلك بعد أن لم تكن علياً.
3003
وَبَعيدٌ أيضاً: من أنه يلزم أن يقال: " وَكَلِمَتَهُ هي العُلْيَا "، لأنه لا يجوز في الكلام: " أَعْتَقَ زَيْدٌ غُلاَمَ أبي زَيْدٍ " والثاني هو الأول.
وزعم قول إن إظهار الضمير في هذا حسن؛ لأنّ فيه معنى التعظيم، ولأن المعنى لا يشكل، وليس بمنزلة زيد ونحوه الذي يشكل، قال: وهو مثل ما أنشد سيبويه:
3004
ومثل: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة: ١] ﴿وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: ٢].
﴿والله عَزِيزٌ﴾.
أي: عزيز في انتقامه من أهل الكفر، ﴿حَكِيمٌ﴾، في تدبيره.
قال نافع: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾، وقف، وهو بعيد، لأن ﴿إِذْ﴾، قد عمل فيها: ﴿نَصَرَهُ﴾.
﴿السفلى﴾، وقف حسن إن رفعت ﴿وَكَلِمَةُ الله﴾، وإن نصبت، كان الوقف: ﴿العليا﴾.
﴿وَجَعَلَ﴾ في هذا الموضع بمعنى: " صيَّر " ويلزم المعتزلة أن يجعلوها بمعنى " خَلقَ " وهم لا يفعلون ذلك. لأنهم يقولون: كفر الكافر ليس بخلق الله تعالى، ثم
3005
يقولون في قوله: ﴿جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ [الزخرف: ٣]، معناه: خلقناه، فيجعلون " جعل " بمعنى " خلق " في هذا الموضع، ويمتنعون منه في هذا الموضع الآخر.
و" جعل " يكون:
بمعنى " صَيّرَ ".
وبمعنى: " سَمَّى ".
وبمعنى " خَلََقَ ".
فإذا كانت بمعنى: " صَيَّرَ " تعدت إلى مفعولين وكذلك إذا كانت بمعنى: " سمّى " كقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً﴾.
وإذا كانت بمعنى: " خَلَقَ " تعدت إلى مفعول واحد، كقوله):
3006
﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١].
وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] هي بمعنى: " صيَّر " تعدت إلى مفعولين وهما: ﴿ابن﴾، و ﴿آيَةً﴾.
و ﴿كَلِمَةُ الله﴾، في هذا الموضع: لا إله إلا الله.
قوله تعالى: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾، إلى قوله: ﴿لَكَاذِبُونَ﴾.
المعنى في قول الحسن: ﴿انفروا﴾، شباناً وشيوخاً، وهو قول عكرمة، وأبي صالح.
ورُوي عن أبي طلحة: ﴿انفروا﴾، شباناً وكهولاً، وكذلك قال الضحاك، ومقاتل بن حيان.
وروى سفيان، عن منصور عن الحكم ﴿انفروا﴾: مشاغيل وغير مشاغيل.
3007
وعن أبي صالح أنَّ المعنى ﴿انفروا﴾، أغنياء وفقراء.
وعن ابن عباس وقتادة ﴿انفروا﴾، نشاطاً وغير نِشاط.
وقال الأوزاعي المعنى ﴿انفروا﴾، [ركباناً ومشاة.
وفيه قول سابع قاله ابن زيد أن المعنى ﴿انفروا﴾]: من كان ذا ضَيْعَةٍ ومن [كان] غير ذي ضَيْعة، ف " الثقيلُ " الذي له ضيعة يكره أن يتكر ضيعته، و " التَّخْفِيفُ ": الذي لا ضيعة عنده تمنعه من الخروج.
وفيه قول ثامن مرويٌّ عن الحسن أنَّ المعنى: في العُسْر واليسر.
وفيه قول تاسع قاله زيد بن أسلم: أنَّ المعنى " الثقيل ": الذي له عيال، و " الخفيف ": الذي لا عيال له.
3008
وقد قيل: إنّ هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ [كَآفَّةً]﴾، [التوبة: ١٢٢].
وقل: هي محكمة.
أمر الله أصحاب النبي عليه السلام بالخروج معه على كل حال.
﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾.
أي: ابذلوهما في الجهاد.
﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
أي: في معادكم وعاجلكم وآجلكم، فالعاجل: الغنيمة، والآجل: الأجر والرضى من الله، تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ﴾.
وذلك أن جماعة استأذنوا النبي ﷺ، إذ خرج إلى تبوك في التخلف/ والمُقام،
3009
فأذن لهم، فقال له الله، عز وجل، ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً﴾، أي: غنيمة حاضرة، ﴿وَسَفَراً﴾: قريباً، ﴿لاَّتَّبَعُوكَ﴾، ولم يتخلفوا عنك.
﴿ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾.
﴿ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾: الغاية التي يقصد إليها.
قال أبو عبيدة: ﴿الشقة﴾: المشقة].
فالمعنى: ولكن استنهضتهم إلى مكان بعيد، فشق ذلك عليهم، فسألوك في التخلف.
وقوله: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾.
أي: سيحلف هؤلاء لكم بالله، إنهمه لو قدروا لخرجوا معك، وذلك منهم كذب.
3010
﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾.
أي: يوجبون لها بالتخلف والكذب، والهلاك والغضب في الآخرة.
﴿والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
في أعتذارهم.
قوله: ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾، إلى قوله: ﴿بالمتقين﴾.
" النون " من: ﴿عَنكَ﴾، وحيث ما سكنت مع " الكاف " وأخواتها خرجت بغُنّة من الخياشيم.
والمعنى: ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾، يا محمد، ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم.
وقيل المعنى: إنه افتتاح كلام بمنزلة: " أصلحك الله " و " أعزك الله ".
وقال الطبري: هذا عِتابٌ من الله، تعالى لنبيه عليه السلام، في إذنه لمن أذن لهه من المنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، حتى يعلم الصادق منهم من الكاذب في
3011
قولهم: ﴿لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾، فيعلم من له عذر ومن لا عذر له، فيتبين لك الصادق من الكاذب، ويكون إذنك على علم بهم.
ثم أرخص الله، تعالى، له الإذن في سورة " النور " فقال: ﴿فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢].
قال بعضُ المفسرين: اثنين فعل رسول الله عليه السلام، لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، وأخذه من الأسارى الفداء.
ومن قال هو افتتاح كلام، وقف على: ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾.
ومن قال هو عتاب، لم يقف عليه.
3012
وقال محمد بن عرفة نفطويه: ذهب ناس إلى [أنّ] النبي ﷺ مُعاتبٌ بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي، كما قال: " لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لجَعَلْتُهَا عُمْرةً "؛ لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل، وقد قال له الله: ﴿تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ﴾ [الأحزاب: ٥١]، لأنه كان له أن يفعل ما شاء، فلما كان له أن يفعل ما شاء مما لم ينزل عليه فيه وحي، واستأذنه المتخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه، ﷺ، فأبان الله، تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا، للنفاق الذي في قلوبهم، وإنهم كاذبون في إظهار الطاعة له والمشاورة.
ف: ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾، عنده افتتاح كلام، أعلمه الله تعالى، به أنه لا حرج عليه فيما فعل من الإذن، وليس هو عفواً عن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه بترك. الإذن لهم، كما قال عليه السلام: " عَفَا اللهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ وَمَا وَجَتَا قَطُّ " ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك.
3013
قوله: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله﴾ الآية.
أجاز سيبويه في: ﴿أَن يُجَاهِدُواْ﴾، أن تكون ﴿أَن﴾: في موضع جر عكلى حذف الجار، قال: لأنَّ حذف حرف الجر جائزٌ مع ظهور " أن "، ألا ترى أنك لو جعلت مع " أنْ " والفعل: المصدر، لم يجز حذف الجر، لا يجوز: " لايستأذنك القوم/ الجهاد "، حتى تقول: " في الجهاد " ويجوز ذلك مع " أن ".
ومعنى ذلك أن الله تعالى، أعلم نبيه عليه السلام، بسيما المنافقين وأن من علاماتهم الاستئذان في التخلف لئلا يجاهدوا في سبيل الله، ومن علامات المؤمنين أنهم لا يستأذنون في ذلك.
وقيل العنى: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ في القعود عن الجهاد.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ [بالله] واليوم الآخر﴾.
أي: في القعود، يدل على ذلك قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن﴾، أي: في القعود.
وقوله: ﴿وارتابت قُلُوبُهُمْ﴾.
يعني المنافقين الذين يستأذنون في التخلف أي: وشكت قلوبهم في الله تعالى، وفي ثوابه وعقابه، سبحانه، فهم في شكهم ﴿يَتَرَدَّدُونَ﴾، أي: يتحيرون، لا يعرفون حقاً من باطل.
رُوي عن عكرمة، والحسن: أن قوله: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾، إلى: ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾، نسختها الآية التي في " النور ": ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ إلى: ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾.
والمعنى: ولو أراد هؤلاء الذين استأذنونك في التخلف الخروج معك،
3015
﴿لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾، أي: لتأهّبوا للسفر.
﴿ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم﴾.
أي: خروجهم.
﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾.
أي: فثقّل عليه الخروج، حتى استحسنوا القعود، وسألوا فيه.
﴿وَقِيلَ اقعدوا﴾.
أي: زيَّن لهم ذلك.
ف: ﴿اقعدوا مَعَ القاعدين﴾، أي: مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان.
والذين استأذنه هو: عبد الله بن أُبي بن سلول، ومن كان مثله.
والفاعل المحذوف من: " ﴿وَقِيلَ﴾، ذُكر أنه النبي ﷺ، لأنه هو سمح لهم في
3016
التخلف.
ويجوز أن يكون المعنى: وقال لهم أصحابهم هذا.
قوله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم﴾ الآية.
المعنى: لو خرج هؤلاء فيكم، ﴿مَّا زَادُوكُمْ﴾ بخروجهم ﴿إِلاَّ خَبَالاً﴾ أي: فساداً ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾، أي: ولأسرعوا بركائبهم للسير فيكم.
و" الإيضاع ": ضرب من الإسراع في الخيل والإبل.
وكتبت: ﴿ولأَوْضَعُواْ﴾ بألف زائدة.
3017
وكذلك: ﴿أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١].
وكذلك: ﴿لإِلَى الجحيم﴾ [الصافات: ٦٨].
والعلة في ذلك: أنّ الفتحة كانت تكتب قبل العربي الفاً، فكتبت هذه الحروف على ذلك الأصل، جعلوا للفتحة صورة فزادوا الألف التي بعد اللام، والألف الثانية هي صورة الهمزة.
ومعنى ﴿خِلاَلَكُمْ﴾، فيما بينكم، وهي الفُرَجُ تكون بين القوم في الصفوف.
3018
وقال أبو إسحاق معنى ﴿خِلاَلَكُمْ﴾: فيما يخل بكم، أي: يسرعوا فيما ينقصكم.
﴿يَبْغُونَكُمُ الفتنة﴾.
أي: يبغونها لكم، أي: يطلبون ما تفتنون به.
وقيل ﴿الفتنة﴾ هنا: الشرك.
قال ابن زيد: سلّى الله تعالى، نبيه ﷺ، بهذه الآية في تخلف المنافقين عنه، فأخبره أنهم ضررٌ لا نفع فيهم.
وقوله: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾.
أي: فيكم، يا أصحاب محمد، من يستمع حديثكم ليخبرهم بذلك، كأنهم
3019
عيون للمنافقين. كذلك قال: مجاهد والحسن وابن زيد.
وقال قتادة المعنى: وفيكم من يستمع كلامهم ويطيعهم، فلو صحبوكم أفسدوهم عليكمك.
﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾.
أي: ذو علم بمن يقبل من كلام المنافقين، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين، وبغير ذلك.
قوله: / ﴿لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ/ لَكَ الأمور﴾، إلى قوله: ﴿بالكافرين﴾.
المعنى: لقد التمس هؤلاء المنافقون لأصحابك، يا محمد، ﴿الفتنة﴾، أي:
3020
خبالهم وصدهم عن دينهم ﴿مِن قَبْلُ﴾، أي: من قبل أن ينزل عليك أمرهم وكشف سرهم واعتقادهم ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾، أي أجالوا فيك وفي إيطال ما جئت به الرأي ﴿حتى جَآءَ الحق﴾، أي: نصر الله: ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ الله﴾، أي دينه وهو الإسلام، ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾، لذلك.
ثم أخبر الله تعالى، عن المنافقين أن منهم من يقول للنبي ﷺ: ﴿ ائذن لِّي﴾، أي: ائذن لي يا محمد، في المُقام ولا أخرج معك، ﴿وَلاَ تَفْتِنِّي﴾، أي: لا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتهم، فإني بالنساء مغرمٌ، فآثم بذلك.
قال مجاهد: قال النبي ﷺ: " اغزوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم " فقال بعض المنافقين: ائذن لي، ولا تفتني بالنساء.
3021
وقال قتادة معنى: ﴿وَلاَ تَفْتِنِّي﴾، أي: لا تؤثمني، بالتخلف عنك بغير رأيك، ائذن لي في المُقام.
قال ابن عباس: قال الجد بن قيس للنبي ﷺ، لما حضّ على غزو الروم: قد علمت الأنصار أنى إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكني أعينك بمالي.
ففي الجد بن قيس نزلت الآية.
وقوله: ﴿أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ﴾.
أي: ألا في الإثم وقعوا، ومنه هربوا في زعمهم.
﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾.
3022
أي: مُحدقةٌ بهم، جامعةٌ لهم يوم القيامة.
﴿وَلاَ تَفْتِنِّي﴾: وقف حسن.
قوله: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾.
والمعنى: إن يصبك يا محمد، سرورٌ وفتح، ساء المنافقين ذلك، وإن يصبك نقص في جيشك أو ضر، أو هزيمة، يقول المنافقون: ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا [مِن قَبْلُ]﴾، أي: أخذنا الحذر بتخلفنا ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي: من قبل أن تصيبهم هذه المصيبة، ﴿وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ [فَرِحُونَ]﴾، أي: يُدْبروا عن محمد ﷺ، [ وهم]: فرحون بما أصابه.
ثم قال: ﴿قُل﴾، يا محمد، لهؤلاء المنافقين: ليس ﴿يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾، أي: في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا: ﴿هُوَ مَوْلاَنَا﴾ أي ناصرنا، ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم: ﴿هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾، أي إحدى الخلّتين اللتين هما أحسن من غيرهما، إما الظفر والأجر والغنيمة، وإما القتل والظفر بالشهادة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ﴾، أي: بعقوبة عاجلة، تهلككم: ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾، أي: يسلطنا عليكم فنقتلكم.
قال ابن جريج: ﴿بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ﴾: بالموت، ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾: بالقتل.
﴿فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾.
أي: فانتظروا إنا معكم منتظرون، أي: ننتظر ما الله فاعل بكم، وما إليه يصير كل فريق منا ومنكم.
قوله: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾، إلى قوله: ﴿وَهُمْ كافرون﴾.
3024
والمعنى: ﴿قُلْ﴾، يا محمد لهؤلاء المنافقين: أنفقوا أموالكم كيف شئتم، طائعين أو كارهين، فإنها لا تقبل منكم، إذ أنتم في شك من/ دينكم، خارجون عن الإيمان بذلك.
وخرج قوله: ﴿أَنفِقُواْ﴾، مخرج الأمر، ومعناه الخبر، وإنما تفعل العرب ذلك في الموضع الذي يحسن فيه " إنْ " التي للجزاء، [و] منه قوله تعالى: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠]، لفظه لفظ الأمر، ومعناه الجزاء، والجزاء خبر، ومنه قول كثير:
3025
لاَ أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ .................
أسيئ بِنَا أوْ أحْسِني، لاَ مَلُومَةً لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلَّيةً إِنْ تَقلَّتِ.
فالمعنى: إن تنفقوا طائعين أو كارهني فلن يقبل منكم.
وجاز أن يقع لفظ الأمر بمعنى الخبر، كما جاز أن يقع لفظ الخبر بمعنى الطلب والأمر، تقول: " غَفَرَ اللهُ لِزَيْدٍ " معناه: الطلب والدعاء، ولفظه لفظ الخبر، والمعنى: " اللهم اغفر لزيد ".
وهذه الآية نزلت في الجدّ قيس، لأنه لما عرض النبي عليه السلام [عليه] الخروج، سأل المقام، واعتذر بأنه لا يصبر إذا رأى النساء، وأنه يفتتن، ثم قال للنبي ﷺ: هذا مالي أعينك به.
ثم أخبر الله تعالى بالعلة التي من أجلها لم تقبل نفقاتهم، فقال: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ﴾، أي: بأن تقبل، ﴿إِلاَّ أَنَّهُمْ﴾، " أنّ " في
3026
موضع رفع، أي: ما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم.
وأجاز الزجاج، أن تكون " أَنَّ " في موضع نصب، على معنى: إلا لأنَّهم كفروا، ويكون الفاعل مضمراً في ﴿مَنَعَهُمْ﴾، والتقدير ومامنعهم الله من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا لأنهم كفروا.
ويجوز عند سبيويه، أن تكون في موضع جر، على تقدير حذف الخافض.
ومن قرأ: ﴿أَن تُقْبَلَ﴾ بـ: " الياء "، رده على معنى الإنفاق، لأنه والنفقات سواء.
3027
فالذي منعهم من القبول هو كفرهم بالله، تعالى، وبرسوله عليه السلام، وإتيانهم الصلاة وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا يرجون بها ثواباً، ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً، إنما يقيمونها مخافة على أنفسهم رياء، وأنهم لا ينفقون شيئاً من أموالهم ﴿إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾، إذ لا يرجون ثوابه.
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم﴾.
أي: لا تعجبك، يا محمد، أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله، يا محمد ليعذبهم بها في الآخرة.
وقوله: ﴿فِي الحياوة الدنيا﴾، يريد به التقديم. والمعنى: ولا تعجبك يا محمد، أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، هذا قول ابن عباس، وقتادة وغيرهما.
وقال الحسن: ليس في الكلام تقديم ولا تأخير، إنما المعنى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا﴾، أي: بما ألزمهم فيها من أخذ الزكاة والنفقة في
3028
سبيل الله، تعالى، وهو اختيار الطبري.
على معنى: أنهم يخرجونها تقيةً وخوفاً، ويقلقهم عزمها، ويحزنهم خروجها من أيديهم، فهي لهم عذابٌ.
وقال ابن زيد المعنى: ﴿لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا﴾، أي: بالمصائب فيها، فهي لهم إثم، والمصائب للمؤمنين أجر.
﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون﴾.
أي: تخرج وهم على كفرهم.
3029
قال أبو حاتم: ﴿وَلاَ أولادهم﴾، وقف كاف.
فمن قال: في الكلام تقديم وتأخير، لم يجز الوقف.
ومن قال: ليس فيه تقديم ولا تأخير، حسن الوقف على: ﴿وَلاَ أولادهم﴾.
و ﴿فِي الحياوة الدنيا﴾، ليس بتمام؛ لأن ﴿وَتَزْهَقَ﴾، معطوف عليه.
قوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾، إلى قوله: ﴿إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾.
والمعنى، / أن هؤلاء المنافقين يحلفون لكم، أيها المؤمنون، ﴿إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾، يعني في الدين والملة.
قال الله تعالى، مكذباً لهم: ﴿وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾، أي: ما هم من أهل ملتكم ودينكم، ﴿ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾، أي: يخافونكم، فيقولون بألسنتهم ما لا يعتقدن خوفاً منكم، لئلا تقتلوهم.
3030
ولو يجد هؤلاء المنافقون ﴿مَلْجَئاً﴾، أي: حصناً يتحصنون فيه منكم، ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾، وهي: الغيران في الجبل، ﴿أَوْ مُدَّخَلاً﴾: أي: سرباً في الأرض يدخلون فيها. ﴿لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ﴾، أي لأدبروا، هرباً منك: ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾، أي: يُسرعون في مشيهم. و " الجَمْحُ ": مَشي بين مشيين يقال: فرس جَمُوحٌ، إذا كان لا يرده في دفعه لجِامٌ، ولكنهم لا يقدرون على ذلك، لأن دورهم ودراريهم وعشيرتهم تمنعهم من ذلك، فصانعوا بالنفاق، ودافعوا به عن أنفسهم وأموالهم، يَدَّعونَ الإيمان ويبطنون الكفر.
3031
قال ابن عباس: " المَلْجَأُ " الحِرْزُ في الجبل.
وقال: ﴿أَوْ مُدَّخَلاً﴾ ذهاباً في الأرض، وهو النفق في الأرض يعني السِّربُ.
وواحد المغارات: " مغارة "، من: غار الرجل في الشيء: إذا دخل فيه.
وأجاز الأخفش: " مُغارات "، من: " أَغَارَ يُغِيرُ "، كما قال:
3032
وواحدها " مغارة " وجمعها " مغاور ".
وَقَأ عيسى بن عمر، والأعمش: " أوْ مُدَّخَّلاً " بتشديد " الدال " و " الخاء "، والأصل فيه: مُتَدَخَّل على وزن: مُتَفَعَّل، ومعناه: دخول بعد دخول.
وَقَرأَ الحسن، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن: ﴿مُدَّخَلاً﴾ من دخل.
وحكى أبو إسحاق: ﴿مُدَّخَلاً﴾ بالضم، من " أدخل.
3033
وفي حرف أُبيّ: " مُدَخَّلاً " بتخفيف " الدال " وتشديد " الخاء ".
ثم أخبر نبيه عليه السلام، أن من المنافقين من يلمزه في الصدقات، أي: يعيبه بها، ويطعن عليه فيها.
يقال: " لَمَزه يَلْمِزُهُ، ويَلْمُزُهُ "، لغتان.
والضَّمُّ: قراءة الأعرج، وقد رواها شبل عن ابن كثير.
3034
و " الهُمَزَة اللُّمَزَة ": العياب للناس.
وقيل: " الهُمَزَةُ ": الذي يشير بعينه، و " اللُّمَزَة ": الذي يعيب في السر.
وقوله: ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ﴾.
أي: إن أعطيتهم من الصدقات رضوا عنك، فإن لم تعطهم منها سخطوا، [فليس] عيبهم لك إلا ن أجل أنك منعتهم منها.
قال مجاهد: ﴿يَلْمِزُكَ﴾: يروزك، يسألك فيها.
وقال قتادة: ﴿يَلْمِزُكَ﴾، يطعن عليك.
قال ابن زيد: قال المنافقون: والله ما يعطيها محمد إلا من أحبَّ، ولا يؤثر بها إلا
3035
هواه، فنزلت الآية.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ﴾.
أي: ولو أن هؤلاء المنافقين، الذين يلمزونك في الصدقات، رضوا ما أعطاهم الله ورسوله، ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله﴾، أي: كافينا الله، ﴿سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾، أي: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقات وغيرها، ﴿إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾، في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقات.
قوله: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا﴾، الآية.
﴿فَرِيضَةً﴾: نصب على المصدر.
3036
ومعنى الآية في قول عكرمة: أنها ناسخة لكل صدقة في القرآن.
فقوله: ﴿لِلْفُقَرَآءِ والمساكين﴾.
قال مجاهد، وعكرمة، والزُّهري، وجابر بن زيد: / " الفقير ": الذي لا يسأل و " المسكين ": الذي يسأل.
وقال ابن عباس: " المسكين ": الطواف، و " الفقير ": فقير المسلمين.
وقال قتادة " الفقير ": المحتاج الذي به زمانه، و " المسكين ": الصحيح المحتاج.
3037
وقال الضحاك " الفقراء ": فقراء المجاهدين، و " المساكين ": [الذين] لم يهاجروا.
وذكر ابن وهب، عنه، أنّ " الفقراء ": من المهاجرين، و " المساكين "): من الأعراب. قال: وكان ابن عباس يقول: " الفقراء " من المسلمين، و " المساكين " من أهل الذمة.
وقال الشافعي " الفقراء ": الذين لا مال لهم ولا حرفة تغنيهم، و " المساكين " الذين لهم مال، أوْ حرفة لا تغنيهم.
وقال أبو ثور " الفقير ": الذي لا شيء له، و " المسكين ": الذي لا يكسب من كسبه ما يقوته.
وقال عبيد الله بن الحسن " المسكين " الذي يخشع ويستكين، بأن لم يسأل و " الفقير "، الذي يتحمل، ويقبل الشيء سراً، ولا يخشع.
3038
وقال محمد بن مَسْلمة " الفقير ": " الذي له مسكن يسكنه والخادم إلى ما هو أسفل من ذلك، و " المساكين ": الذي لا مال له.
وقال أهل اللغة: " المسكين ": الذي لا شيء له، و " الفقير ": الذي له شيء يكفيه.
قال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا، بل مسكين.
وقال عكرمة " الفقراء ": من اليهود والنصارى، و " المساكين ": من المسلمين.
واختار الطبري، وغيره أن يكون " الفقير ": الذي يعطى بفقره فقط، و " المسكين ": الذي يكون عليه مع فقره خضوع وذل السؤال.
وأنشد أهل اللغة قول الراعي:
الحَمْدُ للهِ مُمْسَانَا ومُصْبَحَنَا .................
3039
فجعل للفقير حَلُوبَةً، مقدار ما يكفي العيال.
ف: " المسكين " أشد حاجة من: الفقير " فكل مسكين فقير، وليس كل فقير مسكيناً.
ف: " الفقير ": الذي لا غنى له فوق قوت يومه، وهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُول، كأنَّه مفقور الظهر، وهو الذي نزعت فَقْره [من فِقَر] ظهره، فانقطع ظهره من شدة الفقر، وهذا الاشتقاق يدل على أنّ " الفقير " أشدُّ حاجةً من " المسكين " وقد ق تعالى:
﴿فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر﴾ [الكهف: ٧٩]، فسماهم: مساكين، ولهم سفينة، ولا حجة في
3040
قراءة من قرأ: " مَسَّاكِينَ "، بالتشديد؛ لأن الجماعة على التخفيف.
وقوله: ﴿والعاملين عَلَيْهَا﴾.
هم السعادة في قبضها من أهلها، يُعْطَوْنَ عليها، أغنياء كانوا أو فقراء.
وذلك عند مالك إلى الإمام، يجتهد فيما يعطيهم، وليس لهم فريضةٌ مسماة.
وأما ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾، فقال ابن عباس: هم قوم كانوا يأتون رسول الله ﷺ، قد أسلموا، فكان النبي عليه السلام، يَرْضَخُ لهم من الصدقات، فإذا أصابوا خيراً، قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه.
وقال الزُّهري: ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾: من أسلم من يهود أو نصراني، غنياً كان أو فقيراً.
وقال الحسن: أما ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾، فليس اليوم.
3041
وكذا رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ.
وقال الشعبي: كانت " المؤلفة "، على عهد النبي ﷺ، فلما وَلِيَ أبو بكر انقطع ذلك.
وهو قول مالك، قال: يرجع سهم المؤلف إلى أهل السهام الباقية.
واقل الشافعي " المؤلفة ": من دخل في الإسلام.
وقال ابن حنبل/ وغيره: ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾، في كل زمان.
وهو اختيار الطبري.
و" اللام " في قوله: ﴿لِلْفُقَرَآءِ﴾، وما بعد ذلك، بمعنى: " في "، ولو حملت على ظاهرها لوجب أن يعطوا الصدقات، يفعلون فيها ما يشاؤون. وقوله: ﴿وَفِي الرقاب﴾، يدل على أنَّ " اللام " بمعنى " في ".
والمعنى إنما توضع الصدقات في هؤلاء على ما يستحقون، فيأخذونها لأنفسهم، ف " اللام " توجب استحقاقها كلها لهم يعملون فيها ما يشاؤون.
3042
وقوله: ﴿وَفِي الرقاب﴾.
قال ابن عباس: تعتق منها الرقبة.
قال: لا بأس أن يُعطى الرجل من زكاته في الحج، وأن يعتق منها الرقبة.
وممن قال يعتق من الزكاة الرقاب: الحسن البصري، ومالك، وابن حنبل، وغيرهم.
وكره مالك أن يعان بها المكاتبون.
وقال الحسن، والزهري، وابن زيد، والشافعي: معنى ﴿وَفِي الرقاب﴾، يعني المكاتبين.
والمعنى على هذا: وفي فك الرقاب، ورُوِيَ ذلك عن أبي موسى الأشعري.
3043
وولاء من أعتق من الزكاة لجميع المسلمين عند مالك.
وقال الحسن، وابن حنبل، وإسحاق: يجعل ما يتركه المعتّق في الرقاب.
وقال أبو عبيد: الولاء للمعتق.
وقوله: ﴿والغارمين﴾.
قال مجاهد الغارَمُ: من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب ماله.
وقيل: هم المستدينون في غير سرف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
وقال الزهري: ﴿والغارمين﴾، أصحاب الدين.
(وقال قتادة: الغارمون)، قوم غرَّقتهم الديون في غير تبذير ولا فساد.
3044
وأجاز الحسن أن يحتسبَ الرجل من زكاته بالدين، يكون له على المعسر. وهو قول عطاء.
وأجازه الليث إذا حَلَّ الأجَلُ، وكن الذي عليه الدَّيْنُ مُسْتَوْجِباً للصدقة.
وقوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ الله﴾.
المعنى: وفي نصر دين الله يعطى الغازي منها وإن كان غنياً.
هذا قول مالك، والشافعي.
وقوله: ﴿وابن السبيل﴾.
هو الضيف والمسافر، والمنقطع بهما.
وقال مالك: الحاج المنقطع به هو ابن السبيل، يعطى من الزكاة.
3045
وأكثر الناس على أن المتصدق بزكاته يجزيه أن يضعها في أي الأصناف المذكورين شاء. هو قول: ابن عباس، والحسن، والنخعي، وعطاء، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة.
قال مالك: تجعل في أي الأصناف كانت فيه الحاجة.
قال مالك: من له دارٌ وخادمٌ ليس في ثمنها زيادة تكفيه لو باعهما واشترى ما هو دون منهما، فإنه يأخذ من الزكاة، فإن فضل له ما يعينه على عيشه ويكفيه إذا باعهما، واشترى غيرهما لم يأخذ من الزكاة. وهو قول الحسن، والنخعي، والثوري وأصحاب الرأي.
وقال الشافعي: إنه قد يكون للرجل الجملة من الدنانير والدراهم، وَعَلَيْهِ عِيَالٌ، وهو محتاج إلى أكثر منها، فله أن يأخذ من الزكاة.
3046
[وقال أبو حنيفة: من معه عشرون ديناراً أو مائتا درهمٍ، فليس له أن يأخذ من الزكاة].
وقيل: من له خمسون درهماً فلا يحل له أن/ يأخذ من الزكاة. وهو قول ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ.
وفيه حديث عن النبي ﷺ، أنه قال: " مَنْ سَأَلَ، وَلَهُ مَالٌ يُغْنِيهِ، جاءت - يعني مسألته - في وجهه يوم القيامة خُمُوشاَ أو كُدُوحاً "، قالوا: يا رسول الله، وماذا غناه؟ قال: " خمسون درهماً أو حسابها من الذهب ".
وقيل: لا يأخذ من يملك أربعين درهماً من الزكامة.
ورُوِيَ عن الني ﷺ، أنه قال: " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أربعون درهماً، فقد سأل إِلحاَفاً "
3047
" والأوقية: أربعون درهماً ".
وقد رُوِيَ هذا عن مالك، والأول أشهر عنه. وهو [قول] أبي عبيد.
قال مالك: إذا كان الإمام يعدل فلا يسع أحداً أن يفرق زكاة ماله النَّاضِّ، ولا غيره، ولكن يدفعه إلى الإمام.
ويبعث الإمام في زكاة الماشية، وما أنبتت الأرض، ولا يبعث في زكاة العين، ولكن إن كان عدلاً سألهم ذلك، كما فعب أبو بكر رضي الله عنهـ، ويصدق الناس في ذلك.
3048
قوله: ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾، إلى قوله: ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.
روى الأعمش عن أبي بكر: " قُلْ أُذْنٌ خَيْرٌ لَّكُمْ "، بالتنوين والرفع فيهما، وهي قراءة الحسن.
ومعنى ذلك: قُلْ هو أذن خَيْرٍ لا أذن شّرٍٍّ، وذلك أنهم قالوا: هو يسمع من كل أحد، ويسمع ما يقال له ويصدقه.
فقوله: ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾، أي: أذنٌ سامعة تسمع من كل أحد.
وأصله من " أَذِنَ " إذا تَسمَّعَ.
ومنه الخبر عن النبي ﷺ: " مَا أُذِنَ لِشَيء كَأَذِنه لِنَبِيٍ يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ ".
3049
ويُرْوَى " أنَّ هذه الآية نزلت في نبتل بن الحارث، ونفر معه من المنافقين، كان نَبْتَلُ يأتي النبي ﷺ، يتحدث إليه فيستمع النبي ﷺ منه، فنيقل حديثه إلى المنافقين، ويقول: إنما محمد أُذُنٌ، من حَدَّثهُ سمِعَ وصدَّقَه.
وهو الذي قال النبي ﷺ، فيه: " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ابن الحارث ".
وكان جسيماً، ثائر شعر الرأس، أسفع الخدين، أحمر العينين.
ومعنى قراءة من نوَّن، قل: أذن يسمع ما تقولون ويصدقكم في قولكم خير لكم من أن يكذبكم في قولكم، فالتقدير: إن كان الأمر كما تقولون فهو خير لكم يقبل اعتذاركم.
وقوله: ﴿يُؤْمِنُ بالله﴾.
أي: يُصدق بالله، ويصدق المؤمنين، أي: لا يقبل إلا من المؤمنين. فأكذبهم الله فيما قالوا عنه: إنه يقبل من كل أحد، فأخبرهم أنه إنما يصدق المؤمنين لا
3050
الكافرون والمافقين.
والعرب تقول: " آمنتُ له، وآمنْتُه " بمعنى، أي: صدَّقته، كما قال: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]، بمعنى: ردفكم وكما قال: ﴿لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤]، أي: ربَّهم يرهبون.
و (اللام) عند الكوفيين زائدة، وعند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل. يعني: و ﴿رَدِفَ لَكُم﴾، و ﴿يَرْهَبُونَ﴾.
قال ابن عباس: ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾، أي: يسمع من كلِّ أحد.
3051
قال قتادة: كانوا يقولون: محمد أُذُن، لا يُحدَّث بشيء إلا صدَّقه.
وقوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾.
أي: وهو رحمة.
ومن قرأ: بالخفض، فعلى معنى: هو أُذُن خير وَأُذُن رحمة لمن اتبعه.
﴿والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله﴾.
أي: يعيبونه، ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أي: مؤلم.
ثم قال تعالى حكاية عنهم: ﴿يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾، أي: ليرضيوكم إذا بلغهم/ عنكم أنّكم سمعتم بأذاهم للنبي، فحَلَفُوا أنهم ما فعلوا ذلك، وأنهم لعلى دينكم.
﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾.
التقدير عند سبيويه: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف الأول لدلالة الكلام عليه.
3052
والتقدير عند المبرد: أنَّه لا حذف في الكلام، وأنَّ فيه تقديماً وتأخيراً، والمعنى عنده: والله أحق أن يرضوه ور [سوله].
وقد رُدّ هذا القول؛ لأن التقديم والتأخير إنما يلزم إذا لم يكن استعمال اللفظ على ظاهره، فإذا حَسُنَ استعمال اللفظ على سياقه لم يقدر به غير ترتيبه.
وقد رُدَّ أيضاً قول سيبويه بأن قيلأ: الإضمار إنما يلزم إذ لم يجز استعمال اللفظ بظاهره من سياقه، أو من تقدير فيه، فأما إذا جاز استعماله بغير زيادة على وجه ما، لم يجز تقدير إضمار وحذف.
وقوله: ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.
أي: مصدقين فما زعموا.
ذكر بعض المفسرين: أنّ رجلاً من المنافقين، انتقص النبي ﷺ، فسمعه ابن امرأته، فمضى إلى النبي عليه السلام، فأخبره، فوجه النبي ﷺ، إلى المنافق، فأتاه، فقال: ما حملك على ما قلت؟ فأقبل المنافق يحلف بالله ما قال ذلك، وجعل ابن امرأته يقول:
3053
اللهم صِدّق الصادق، وكِذّب الكاذب، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ [بالله] لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾، الآية.
قوله: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ﴾ إلى قوله: ﴿تَحْذَرُونَ﴾.
قوله: ﴿فَأَنَّ لَهُ﴾.
" أنّ " بدل من الأولى عند الخليل وسيبويه.
وقال المبرد والجَرْمِي: " أنَّ " الثانية مكررة للتوكيد.
3054
وقال الأخفش: " أنّ " في موضع رفع الابتداء، والمعنى: فوجوب النار له.
وأنكر ذلك أبو العباس؛ لأنَّ " أنَّ " المشددة المفتوحة لا يبتدأ بها، ويضمر الخبر.
وقال علي بن سليمان: " أَنَّ " في موضع رفع على إضمار مبتدأ، والمعنى: فالواجب أن له النار.
وكلهم أجاز كسر " أَنَّ "، واستحسنه سيبويه.
ومعنى الآية: ألا يعلم هؤلاء المنافقون ﴿أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله﴾، أي: يجانبه ويعاديه وحقيقته: أنه يقال: حادَّ فلانٌ فلاناً، أي: صار في حد غيره حده،
3055
﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً (فِيهَا)﴾، أي: لابثاً أبداً، ﴿ذلك الخزي العظيم﴾، أي: الهوان والذل.
ثم قال تعالى إخباراً عما يُسِرُّ المنافقون: ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ﴾، الآية.
المعنى: يَخْشى المنافقون، أن ينزّل الله تعالى، سورة يخبر فيها بما في قلوبهم. وكانوا يقولون القول القبيح في النبي ﷺ، وأصحابه بينهم، ويقولون: عسى الله ألاّ يفشي سِرَِّنا علينا.
ورُوي أنهم كانوا سبعين رجلاً، أنزل الله تعالى، أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه؛ لأن أبناءهم كانوا مسلمين.
قوله: ﴿قُلِ استهزءوا إِنَّ الله﴾.
هذا تهديد من الله تعالى، لهم.
﴿إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾.
أي: مظهر سركم الذي تخافون أن يظهر.
3056
قال قتادة: كنا نسمي هذه السورة: " الفاضحة "؛ لأنها فضحت المنافقين.
قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾، إلى قوله: ﴿مُجْرِمِينَ﴾.
المعنى: ولئن سألتهم، يا محمد، عما قالوه من الباطل، ليقولن: إنما قلنا ذلك لعباً وخوضاً وهزؤاً، ﴿قُلْ﴾، يا محمد، لهم: ﴿أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾، هذا توبيخ وتقريع لهم.
قال الفراء: أنزلت في ثلاثة نفر، استهزأ رجلان منهم برسول الله ﷺ، و/القرآن، وضحك إليهما الثالث، فنزلت: ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ﴾، يعني: الضاحك، ﴿نُعَذِّبْ طَآئِفَةً﴾، يعني المستهزئين. ف " الطائفة " تقع للواحد والاثنين.
وذكر أبو الحسن الدَّارَقُطِني في كتاب الرواة عن مالك أنّ اسماعيل بن
3057
داود المخراقي روى عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أنه قال: رأيت عبد الله بن أُبي يشتد قدام رسول الله ﷺ، والحجارة تنكيه وهو يقول: يا محمد، إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي ﷺ يقول: ﴿أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، أي: كفرتم بقولكم في رسول الله ﷺ، فهذا متصل بقوله: ﴿قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾.
﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ﴾، وهو الوقف عند نافع.
﴿نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾، وقف.
وَيُرْوَى أنَّ هذه الآية نزلت في رهط من المنافقين، كانوا يرجفون في غزوة النبي ﷺ، إلى تبوك ويُخَوّفون المسلمين من الروم، فسألهم النبي عليه السلام عن قولهم، فقالوا: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾.
وقال قتادة: نزلت في أُنَاس من المنافقين، قالوا في غزوة تبوك: أيرجو هذا
3058
الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلع الله تعالى، نبيه عليه السلام، على ذلك، فأتاهم النبي فقال: قلتم كذا كذا. فقالوا: يا نبي الله: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾.
وقال ابن جبير: قال ناس من المنافقين في غزوة تبوك: لئن كان ما يقول حقاً لنحن شرٌّ من الحمير، فأعلم الله تعالى، نبيه عليه السلام، بذلك، فقال لهم: ما كنتم تقولون، فقالوا: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً﴾ " الطائفة " التي عفا عنها هاهنا، رجل منهم كان قد أنكر ما سمع، يُسمّى: مَخشِي بن حُمَيّر الأَشْجَعِي.
وقيل: إنَّه أقر على نفسه وصاحبيه بما قالوا نادماً تائباً، فهو " الطائفة " المعفو عنها.
فالمعنى: ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ﴾، بإنكار ما أنكر عليكم من قول الكفر
3059
﴿نُعَذِّبْ طَآئِفَةً﴾ بقولهم ورضاهم بالكفر، واستهزائهم بالله سبحانه، ورسوله ﷺ، وآياته.
وقيل: المعنى: إن تتب طائفة منكم، يعف الله تعالى، عنها، تعذب طائفة بترك التوبة.
قال أبو أسحاق: كانت الطائفتان ثلاثة نفر، استهزأ اثنان، وضحك واحد.
﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾.
أي: باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله، سبحانه، والطعن على رسوله عليه السلام.
قوله: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ إلى قوله: ﴿هُمُ الخاسرون﴾.
هذا الكلام متصل بقوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾ [التوبة: ٥٦]، أي: ليسوا من المؤمنين، ولكن ﴿بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾، أي: متشابهون في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض أيديهم عن الجهاد..
﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾.
3060
أي: تركوا الله فتركهم، أي تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه.
﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
أي: هم الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله، عليه السلام.
وعدهم الله: ﴿نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، أبداً، أي: ماكثين، لا يحيون ولا يموتون.
﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾.
أي: كافيتهم عقاباً على كفرهم.
﴿وَلَعَنَهُمُ الله﴾.
أي: أبعدهم من رحمته.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾.
أي: للفريقين من أهل الكفر والنفاق ﴿عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾، أي: دائم لا ينقطع ولا يزول.
﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾، وقف عند نافع.
3061
وقوله: ﴿كالذين﴾.
في موضع نصب نعت/ لمصدر محذوف، والمعنى: وعد الله هؤلاء بكذا وعداً، كما وعد الذين من قبلهم.
فعلى هذا لا يوقف على ما قبل " الكاف ".
ومثله: ﴿كالذي خاضوا﴾، [أي: خوضاً كما الذي خاضوا].
والمعنى عند الطبري: قل لهم، يا محمد، ﴿أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾، ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ﴾، فعلوا كفعلكم، فأهلكهم الله، وأعد لهم العقوبة والنكال في
3062
الآخرة، فقد ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ [قُوَّةً]﴾، أي: بطشاً، وأكثر منكم أموالاً، ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ﴾، أي: بنصيبهم من دنياهم، كما استمتعتم، أيها المنافقون، ﴿بِخَلاَقِكُمْ﴾، أي: بنصيبكم من دنياكم، ﴿وَخُضْتُمْ﴾ مثل خوضهم.
وهذا يدل على أن " الكاف " في موضع نصب، نعت لمصدر " يستهزءون ".
وقد قال النبي ﷺ، في هذا المعنى: " لتأخُذنَّ كما أخذت الأُمم من قبلكم، ذراعاً بذراع، وشبراً بشبر، وباعاً بباع، حتى لو أنَّ أحداً دخل جُحْرَ [ضَبٍّ] لَدَخَلْتُمُوه "، رواه عنه أبو هريرة:
ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ﴾، الآية.
قال أبو هريرة: " الخَلاَق ": الدِّينُ.
3063
﴿أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾.
يعني الذين قالوا: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾، ركبوا فعل من سبقهم من الأمم الهالكين.
ومعنى: ﴿حَبِطَتْ﴾: بطلبت ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون﴾.
أي: المغبونون صفقتهم، لبيعهم نعيم الأبد بعرض الدنيا اليسير منه.
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾، الآية.
والمعنى: ألم يأْت هؤلاء المنافقين خبر من كان قبلهم، من قولم نوح، وعاد، وثمود وشبههم، الذين خالفوا أمر الله تعالى، وعصوه، جلت عظمته، فأهلكم ودمرهم، فيتعظون بذلك، وينتهون ويتفكرون ما في خبر قوم نوح، إذا غرقوا بالطوفان، وعاد وهم قوم هود، إذ هلكوا بريح صرصر عاتية، وخبر ثمود، وهو قوم صالح، إذ هلكوا بالرجفة، وخبر قوم إبراهيم، إذ سلبوا النعمة وأهلك نمرود ملكهم، وخبر أصحاب مدين، وهم قوم شعيب، إذ أهلكوا بعذاب يوم الظُلَّة.
ويُروى: أن شعيباً اسمه مدين، على اسم المدينة، فكان قوله: ﴿وأصحاب مَدْيَنَ﴾، معناه: وأصحاب شعيب.
وقوله تعالى في موضع آخر: ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ [الأعراف: ٨٥].
3064
يدل على أن مدين مدينة.
وخبر المؤتفكات، في مدائن قوم لوط، إذ صيَّر أعلاها أسفلها، وإنما سموا مؤتفكات؛ لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي: انقلبت بهم، وهي مأخوذة من " الإفْكِ " وهو الكذب، لأنه مقلوب على الصدق، وكانت قرى ثلاثة، ولذلك جُمِعَت.
﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات﴾.
أي: أتى كل أمة رسولها، فجمع الرسل، لأن كل أمة رسولها.
﴿بالبينات﴾.
أي: بالآيات الظاهرات، والحجج النيّرات، فكذبوا وردوا وكفروا.
﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾.
أي: فما كان الله ليضع عقوبته في غير مستحقيها.
﴿ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
إذ عصوا الله تعالى، وكذبوا برسوله حتى أسخطوا ربهم، سبحانه، واستوجبوا
3065
العقوبة، فظلموا بذلك أنفسهم.
قوله: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾، إلى قوله: ﴿الفوز العظيم﴾.
المعنى: ﴿والمؤمنون والمؤمنات﴾، أي المصدقون بالله، تعالى ورسوله عليه السلام ﴿(يَأْمُرُونَ) بالمعروف﴾، أي: يأمرون الناس بالإيمان بالله تعالى، ورسوله عليه السلام.
وينهونهم عن الكفر، والمنافقون [هُمْ] / بضد ذلك ينهون عن الإيمان، ويأمرون بالمنكر، وهو الكفر بالله، تعالى، وبرسوله عليه السلام.
قال أبو العالية: كل ما ذكر الله تعالى، في القرآن من " الأمر بالمعروف " هو دعاء لمن أشرك إلى الإسلام، وما ذكره من " النهي عن المنكر " فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين.
﴿وَيُقِيمُونَ الصلاة﴾.
يعني: الصلوات الخمس، في أوقاتها وبحدوها.
﴿وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾.
3066
يعني: المفروضة في وقتها.
﴿وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾.
يعني فيما أمرهم به، ونهاهم عنه.
﴿أولئك سَيَرْحَمُهُمُ [الله]﴾.
أي: يتعطف عليهم، فينجيهم من عذابه، ويدخلهم جناته.
ثم قال تعالى: ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾.
والمعنى: وعد الله النساء والرجال من المؤمنين بساتين. ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ (أبداً).
أما ماكثين لا يزول نعيمهم ولا ينقطع، ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾، أي: منازل يسكنونها.
قال الحسن: سألت أبا هريرة وعمران بن حصين عن:
3067
﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، فقالا: على الخبير سقَطْتَ، سألنا رسول الله ﷺ عن ذلك قال: " قصر في الجنة من لؤلؤة، فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة، خضراءَ، في كل بيت سبعون سريراً ".
ومعنى ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ عند ابن عباس، أي: " معدن الرجل " الذي يكون فيه.
وقيل المعنى: جنات إقامة وخلود.
والعرب تقول: " عَدَنَ فلانٌ بِمَوْضِعِ كَذَا "، إذا أقام به.
ورُي عن النبي ﷺ، أنه قال: " لا يدخلها إلا النبيّون والصديقون والشهداء ".
وقال كعب: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، هي الكروم والأعناب، السريانية. يعني أن
3068
لغة العرب وافقت السريانية في هذا الكلام.
وقال ابن مسعود: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، هي اسم لبُطْنَان الجنة، يعني وسطها.
وقال الحسن: هو اسم لقصر في الجنة من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صِدّيقٌ، أو شهيدا أو حَكَمٌ عَدْلٌ.
وروى أبو الدرداء أن النبي ﷺ، قال: " إن الله تعالى، يفتح الذكر لثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى [منهن]، ينظر في الكتاب الذي لا ينظره غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنات عدن، وهي داره التي لم يرها غيره، ولم تخطر على قلب بشر ".
وقال الضحاك: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، مدينة في الجنة، فيها الرسل، والأنبياء، والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها.
وقال عطاء ﴿عَدْنٍ﴾: نهر في الجنة جنَّاته على حافتيه.
ثم قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾.
3069
[أي: أكبر] من ذلك لكه، رضوان الله تعالى، عن أهل الجنة.
قال أبو سعيد الخدري: قال النبي ﷺ: " إنَّ الله تعالى، يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبّيك ربَّنا وسَعْدَيكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، لقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. فيقولون: يا ربّ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك، فيقول: أُحِلُّ لكم رضواني فلا أسْخَطُ عليكم أبداً ".
ومن أجل تفضيل الرضوان على ما قبله مما وعدوا به، انقطع الكلام، وابتدأ بالرضوان، فرفع.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك هُوَ الفوز العظيم﴾.
أي: هذه الأشياء التي/ وعدوا بها، وهي الظفر الجسيم.
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، وقف.
﴿أَكْبَرُ﴾، وقف.
قوله: ﴿يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار﴾، إلى قوله: ﴿مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
3070
المعنى: جاهدهم بالسيف.
قال ابن مسعود: الجهاد يكون باليد، واللسان، والقلب، فإن لم يستطع فليكفهِّر في وجهه.
وقال ابن عباس: أمر النبي ﷺ، بجهادهم، باللسان للمنافقين، وبالسيف للكفار.
وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، وأغلظ على المافقين بالكلام.
وقال الحسن المعنى: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم.
وهو قول قتادة.
3071
وقيل: معنى جاهد المنافقين: إقامة الحجة عليهم.
ثم قال حكاية عنهم: ﴿يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ﴾، وذلك أن رجلاً من المنافقين، يسمّى: الجُلاَس بن سُوَيْد بن الصامت، قال: إن كان ما جاء به محمد حقاً، لَنَحْنُ شَرٌّ من الحَمِيرِ، فقال له ابن امرأته، واسمه عمير بن سعد،: والله، إنَّ محمداً ﷺ لَصَادِقٌ، ولأنت شر من الحمار، والله، لأخبرنّ رسول الله ﷺ، بما قلت وإلا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤخذ بخطيئتك، فأعلم الله النبي عليه السلام بذلك، فدعا النبي ﷺ، الرجل، فحلف ما قال، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ﴾ الآية.
قال ابن إسحاق: بلغني أنه لما نزل فيه القرآن، تاب وحسنت توبته.
وقيل: إنه سمعه يقول ذلك، عاصم بن عدي الأنصاري، وهو الذي أخبر النبي عليه السلام، بذلك، فاحضر للنبي ﷺ الجُلاَس وعامراً، فحلف الجُلاَس بالله ما قال ذلك، فقال عامر: والله، لقد قاله، ورفع عامر يديه، وقال: اللهم أنزل على
3072
عبدك ونبيّك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، فقال النبي ﷺ: آمين، فأنزل الله تصديق عامر، فقال الجُلاَس: قد عرض الله علي التوبة، والله، لقد قلته وصدق عامر، وتاب الجُلاَس وحسنت توبته.
وَيُرْوَى أن عامراً، قال للنبي ﷺ: إنه ليريد قتلك، وفيه نزل: ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾، أي: هموا بقتلك ولا ينالونه.
وقال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، رأى رجلاً من غفار، تَقَاتَلَ مع رجل من جُهينة، وكانت جُهينة حُلفاء الأنصار، فَعلا الغفاريُّ الجُهَنيَّ، فقال عبد الله للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مَثَلُنَا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: سَمَنْ كلبك يأكلك، ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل﴾ [المنافقون: ٨]، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي ﷺ فأرسل إليه النبي عليه السلام فسأله، فحلف ما قاله، فأنزل الله تعالى، ﴿ يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ﴾.
وقوله: ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾.
قيل: هو الجُلاَس بن سويد [هَمَّ] بقتل ابن امرأته خوفاً أن يفشي عليه ما سمع منه.
3073
وقال مجاهد: هَمَّ رجل من قريش يقال له الأسود، بقتل النبي، عليه السلام.
وقيل: هو عبد الله بن أبيّ بن سلول، هم بإخراج النبي عليه السلام، من المدينة/ وهو ما حكاه الله تعالى، عنه: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل﴾.
وقل: هو الجُلاَس، همّ بقتل النبي ﷺ.
وقوله: ﴿وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾.
والمعنى: أنهم ليس ينقمون شيئاً.
قال الطبري، وغيره: كان المنافق الذي قال كلمة الكفر، حلف أنَّه ما قال، قُتِل له مولىً، فأعطاه رسول الله ﷺ، ديته، فأغناهُ بها، فقال الله تعالى، ما أنكروا على رسول
3074
الله ﷺ، شيئاً: ﴿إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾.
وهو الجُلاَس.
وقال قتادة: كانت لعبد الله بن أُبيّ دية، فأخرجها رسول الله ﷺ [ له].
قوله: ﴿فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ﴾.
أي: إن تاب هؤلاء القائلون لكمة الكفر يكُ ذلك خيراً لهم من النفاق.
﴿وَإِن يَتَوَلَّوْا﴾.
أي: يدبروا عن التوبة.
﴿يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا﴾.
أي: بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
﴿وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
يمنعهم من العقاب، ولا نصير ينصرهم من عذاب الله تعالى.
3075
﴿بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾، وقف.
﴿مِن فَضْلِهِ﴾، وقف.
﴿خَيْراً لَّهُمْ﴾، وقف.
قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ﴾ إلى قوله: ﴿الغيوب﴾.
والمعنى: ومن هؤلاء المنافقين ﴿مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ لئن رزقه الله تعالى، ووسَّع عليه، لَيَصَّدَّقَنَّ، وليعْمَلَنَّ، بما يعمل أهل الصلاح فلما أغناهم الله، سبحانه ﴿مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ﴾، وأدبروا عن عهدهم، ﴿وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾، ﴿فَأَعْقَبَهُمْ﴾ الله عزو جل، بذنوبهم ﴿نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾، أي: يموتون.
وفعل ذلك بهم عقوبة لبخلهم، ونقضهم ما عاهدوا الله عليه.
" وهذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب، قال للنبي ﷺ: ادع الله أن يرزقني مالاً أتصدق به، فقال له النبي عليه السلام: " ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تُطِيقُهُ "، ثم عاود ثانية، فقال له النبي ﷺ: " أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضةً لَسَارَتْ "، فقال: والذي بعثك
3076
بالحق لئن دعوت الله يرزقني لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له النبي ﷺ، فاتَّخذَ غَنماً، فَنَمَتْ كما تَنْمِي الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر في جماعة، والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فَتَنَحَّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تَنْمِي حتى ترك الجمعة. وطفِق يلقى الركبان يوم يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فسأل النبي عليه السلام عنه فأُخْبر بخبره، بكثرة غنمه وبما صار إليه، فقال النبي ﷺ، " يا ويح ثَعْلَبَ " ثلاث مرات، فنزلت ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ ".
ونزلت فرائض الصدقة، فبعث النبي ﷺ، رجلين على الصدقة، رجُلاً من جُهَينة، والآخر من بني سليم، وأمرهما أن يَمُرَّا بثعلبة، (وبرجل آخر من بني سليم، يأخذان منهما صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة)، فقال: ما هذه الأجرة، وما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا، وعودا. فانطلقا، وسمع بهما السُّلمي، فعمد إلى خِيَارٍ إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد [أن] نأخذ منك هذا. قال: بل فخذوه فإن نفسي بذلك/ طيبة، فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما
3077
رجعا حتى [مرّا] بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، وكان النبي ﷺ، كتب لهما كتاباً في حدود الصدقة، وما يأخذانه من الناس، فأعطياه الكتاب، فنظر إليه، فقال: ما هذه إلا أُخت الجزية، انطلقا عني حتى أرى رأيي. فأتيا النبي ﷺ، فلما رآهما قال: " يا ويح ثعلبة " قبل أن يكلمهما، ودعا للسُّلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع السلمي، وبالذي صنع ثعلبة، فانزل الله تعالى، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ الآية، وعند رسول الله - ﷺ - رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله تعالى، فيك كذا وكذا، فخرج حتى أتى النبي عليه السلام فسأله أن يقبلَ منه صدقته فقال: " إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك "، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له النبي عليه السلام: " قد أمرتك فلم تطعني "، فرجع ثعلبة إلى منزله، وقُبض رسول الله ﷺ، ولم يَقْبِضْ منه شيئاً.
ثم أتى إلى أبي بكر فلم يَقْبِضَ منه شيئاً [ثم أتى إلى عمر بعد أبي بكر فلم يقبض منه شيئاً. ثم أتى إلى عثمان بعد عمر فلم يقبض منه شيئاً]. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنهـ.
3078
وقيل: إن إنما نوى العهد في نفسه فلم يف به، ودَلَّ على ذلك قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾.
وعلامة المنافق: نقض العهد، وخلف الوعد، وكذب القول].
قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ﴾.
أي: [ألم] يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله تعالى، ورسوله عليه السلام، ويظهرون الإيمان، أن الله تعالى، يعلم ما يسرون من ذلك وما يظهرون فيحذروا عقوبته، وألم يعلموا أنَّ الله علام الغيوب.
قوله: ﴿الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿الفاسقين﴾.
3079
والمعنى: الذين يعيبون الذين تطوعوا بصدقاتهم على أهل المسكنة والحاجة فيقولون لهم: إنما تصدقون رياءً وسمعةً، ولم تريدوا وجه الله تعالى.
﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾.
أي: من المؤمنين، ومن ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ﴾، عطفه على ﴿المطوعين﴾، لأنَّ الاسم لمي يتم، إذ قوله: ﴿فَيَسْخَرُونَ﴾ في الصلة عطف على ﴿يَلْمِزُونَ﴾.
و" الجُهْدُ و " الجَهْدُ " عند البصريين [بمعنى]، لغتان.
وقال بعض الكوفيين: الجُهدُ، بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة.
3080
والسُّخْريُّ من الله: الجزاء على فعلهم.
قال ابن عباس: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي ﷺ، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: و [الله] ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً، وقالوا: إن كان الله ورسوله لَغَنِيَّيْن عن هذا الصاع. فأنزل الله تعالى: ﴿ الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾، يعني: عبد الرحمن بن عوف، ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾، يعني: الأنصاري الذي أتى بصاع من شعير.
وقال ابن عباس: " جاء عبد الرحمن بمائة أوقية من ذهب، وترك لنفسه مائة، وقال: مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأُقرضُها الله، وأما أربعة آلاف فلي، فقال له النبي ﷺ: " بارك الله [لك] فيما أمسكت وما أعطيت " فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن بن عوف عطيته إلا رياء، وهم كاذبون، فأنزل الله تعالى، عذره ".
وقال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف صدقته، وجاء رجل من الأنصار، يكنى بأبي عقيل، بصاع من تمر لم يكن له غيره، فقال: يا رسول الله، آجرت نفسي
3081
بصاعين، فانطلقت بصاع إلى أهلي/ وجئت بصاع من تمر، فلمزهُ المنافقون، وقالوا: إن الله غنيٌّ عن طياع هذا، فنزل فيه: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾.
قال ابن زيد: أمر النبي ﷺ [ المسلمين] أن يتصدَّقوا، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: فأَلْفَى مالي ذلك كثيراً، فأخذت نصفه، فجئت أحمل مالاً كثيراً، فقال له رجل من المنافقين: تُرائي يا عمر، فقال: نعم أُرائي الله ورسوله، وأما غيرهما فلا، وأتى رجل من الأنصار لم يكن عنده شيء، فآجر نفسه بصاعين، فترك صاعاً لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: [إنّ] الله ورسوله عن صاعك لَغَنِيَّانِ، فأنزل الله تعالى، عُذْرهما في قوله: ﴿الذين يَلْمِزُونَ﴾.
ثم قال لنبيه عليه السلام، استغفر لهؤلاء المنافقين، أي: ادع الله لهم بالمغفرة أو لا تدع لهم بذلك، فلفظه لفظ الأمر ومعناه الجزاء، والجزاء خبر.
3082
والمعنى: إن استغفرت لهم، أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم.
قال الضحاك: قال النبي ﷺ، حين نزلت هذه الآية: " لأزيدنَّ على السبعين "، فنزلت:
﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ [لَمْ] تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ [المنافقون: ٦]، فهي عنده منسوخة بهذه.
وقيل: إنها ليست بمنسوخة، وإنما هي على التهدد، وما كان النبي عليه السلام ليستغفر لمنافق؛ لأن المنافق كافر بنص الكتاب.
وهذا الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على أصحاب محمد لانفضوا من حوله، وهو القائل: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل﴾ [المنافقون: ٨].
" رُوي أن عبد الله هذا لما حضرته الوفاة أرسل إلى النبي ﷺ، يسأله أحد ثوبَيْه
3083
فأرسل إليه النبي ﷺ، أحد ثوبيه، فقال: إنما أريد الذي على جلدك من ثيابك، فبعث إليه به، فقيل للنبي ﷺ، في ذلك، فقال: " إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً إذا كُفِّن فيه، وإني آمل أن يدخل في الإسلام خلق كثير بهذا السبب ".
فَرُوِيَ أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب النبي، عليه السلام.
وكان عبد الله هذا رأس المنافقين وسيِّدَهُم.
قوله: ﴿فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾، إلى قوله: ﴿مَعَ الخالفين﴾.
﴿خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾: مفعول من أجله، أو مصدر مطلق.
3084
والمعنى: فرح الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله عليه السلام، بجلوسهم في منازلهم، على الخلاف منهم لرسول الله عليه السلام، لأنه أمرهم بالخروج معه فتخلفوا عنه، وفرحوا بتخلفهم، وكرهوا الخروج في الحر.
وذلك أن النبي ﷺ، استنفرهم في غزوة تبوك في حر شديد، فقال بعضهم لبعض: ﴿لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر﴾، قال الله تعالى، لنبيه عليه السلام ﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً﴾، لمن خالف أمر الله، وعصى رسوله، عليه السلام من هذا الحر الذي تتواصون به بينكم أن لا تنفروا فيه، فالذي هو أشد حراً، يجب أن يتقي ﴿لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾، عن الله عز جل، وَعْظَه.
وكان عدة من تخلف عن الخروج مع النبي عليه السلام، في غزوة تبوك من المنافقين نيفاً وثمانين رجلاً.
3085
ثم قال تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً﴾.
أي: [في] هذه الدنيا الفانية، / ﴿وَلْيَبْكُواْ/ كَثِيراً﴾، في جهنم ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾، من التخلف عن رسول الله ﷺ، ومعصيته.
قال النبي عليه السلام: " والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لَضَحِكْتُمْ قليلاً، ولبكتيم كثيراً ".
وروي أن النبي ﷺ نودي عند ذلك، أو قيل له: لا تُقَنِّط عبادي.
قال ابن عباس: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا، استأنفوا بكاء لا ينقطع عنهم أبداً.
3086
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ﴾.
أي: إن ردَّك الله من غزوتك إلى المنافقين، فاستأذنوك للخروج معك في غزوة أخرى، ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، أي: في غزوة تبوك، ﴿فاقعدوا مَعَ الخالفين﴾، [أي: مع الذين] قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله ﷺ، لأنكم منهم.
قال ابن عباس: تخلف عن رسول الله ﷺ، رجال في غزوة تبوك فأدركتهم أنفسهم، فقالوا: والله ما صنعنا شيئاً، فانطلق منهم ثلاثة نفرة، فلحقوا رسول الله ﷺ فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله، تعالى، ﴿ فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾، الآية. فقال النبي عليه السلام: " هلك الذين تخلفوا "، فأنزل الله تعالى، عذرهم لما تابوا فقال: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار﴾، إلى قوله: ﴿إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ [التوبة: ١١٧ - ١١٨].
وقال قتادة ﴿مَعَ الخالفين﴾، مع النساء.
3087
وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين.
وقال ابن عباس " الخالفون ": الرجال.
ومعناه: اقعدوا مع مرضى الرجال وأهل الزَّمَانة والضعفاء.
وقيل: " الخالفون ": الرجال الضعفاء والنساء، وغلَّب المذكر على الأصول العربية.
3088
وقال الطبري: ﴿مَعَ الخالفين﴾ مع أهل الفساد، من قولهم: " خَلَفَ الرَّجُل على أهله يَخْلُفُ خُلُوفاً "، إذا فسد، ومن قولهم: هو خلف سوءٍ "، ومن قولهم: " خَلَفَ فَمُ الصَّائِمِ "، إذا تغير ريحه، ومن قولهم: " خَلَفَ اللَّبَنِ يخلُفُ " إذا حَمُضَ.
قوله: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾، إلى قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾.
هذه الآية نَهْيٌّ للنبي ﷺ، عن الصلاة على هؤلاء المتخلفين عنه.
﴿وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾.
أي: لا تتولَّ دفنه.
﴿إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾.
أي: جحدوا توحيد الله تعالى، ورسالة رسوله عليه السلام.
﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
أي: ولم يتوبوا من ذلك، بل ماتوا وهم خارجون عن الإسلام.
وَيُرْوَى: أن هذه الآية نزلت في أمر عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وذلك أنَّ ابنه أتى
3089
النبي ﷺ، فقال أعْطِنِي قَمِيصَك أُكَفِنّه فيه، وصَلِّ عليه، واستغفر له، فأعطاه قيمصه، وقال: إذا فرغتم فآذوني، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ [فقال النبي ﷺ: بل خَيّرني فقال: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ﴾، فصلى] النبي ﷺ. فنزل ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم﴾ الآية، فترك الصلاة عليهم.
وقال أنس: أراد النبي عليه السلام، أن يصلي على عبد الله بن أبي بن سلول، فأخذ جبريل، عليه السلام، بثوبه، وقيل: بردائه، وقال: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾.
ثم قال الله/ تعالى، لنبيه، عليه السلام: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم﴾.
أي: لا يعجبك ذلك، فتصلي عليهم.
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا﴾.
أي: بالغموم والهموم فيها، ويفارق روحه جسده، وهو في حسرة عليها،
3090
فتكون حسرة عليه في الدنيا، ووَبَالاً في الآخرة.
﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون﴾.
أي: جاحدون.
﴿وأولادهم﴾ وقف عن أبي حاتم، على أنَّ عذابهم بها في الدنيا.
وغيره يقول: ﴿الدنيا﴾، يراد بها التقديم، والمعنى: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا، فعلى هذا [لا] تقف على: ﴿أولادهم﴾ وقد شرح هذا فيما تقدم بأكثر من هذا.
ثم أخبر الله تعالى، عنهم بحالهم فقال: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ﴾.
أي: إذا أنزل الله تعالى، عليك، يا محمد، سورة يأمرهم فيها: بالإيمان بالله، تعالى، وبالجهاد معك.
﴿استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ﴾.
أي: [ذوو] الغنى منهم في التخلف عنك، والقعود بعدك مع الضعفاء
3091
والمرضى، ومن لا يقدر على الخروج وهم القاعدون.
﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾.
أي: مع النساء اللواتي لا فرض عليهن في الجهاد، جمع خَالِفة.
﴿وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ﴾.
أي: ختم.
وقد يقال للرجل: " خالفة " إذا كان غير نجيب.
وقد يجمع " فاعل " صفةً على " فواعل " في الشعر، قالوا: " فَارِسٌ " و " فَوَارِس " و " هَالِكٌ " و " هوالك ".
وأصل " فواعل " أن يكون جمع: " فاعلة ".
قوله: ﴿لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾، إلى قوله: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
3092
المعنى: هؤلاء لهم خيرات الآخرة ونعيمها.
وواحد ﴿الخيرات﴾، " خَيْرَةٌ " مخففة، و " خيرات " كل شيء، أفضله.
﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾.
أي: الباقون في النعيم، المخلدون فيه.
وأصل " الفلاح ": البقاء في الخير، وقولهم: " حَيَّ على الفَلاَحِ " أي: تعالوا إلى الفوز، يقال: " أفْلَحَ الرَّجُلُ "، إذا فاز وأصاب خيراً.
﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾.
أي: بساتين.
﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
أي: لابثين فيها أبداً.
﴿ذلك الفوز العظيم﴾.
أي: النجاء العظيم، والحظ الجزيل.
3093
ثم قال تعالى: ﴿وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾.
والمعنى: ﴿وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾، في التخلف، ﴿وَقَعَدَ﴾ عن الإتيان إلى رسول الله ﷺ، فيعتذروا أو يجاهدوا، و ﴿الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾، واعتذروا بالباطل بينهم، لا عند رسول الله عليه السلام.
﴿سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾.
أي: جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه عليه السلام.
﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
أي: مؤلم، أي: موجع.
وقوله: ﴿المعذرون﴾، ليس من " عذَّر "، يقال: " عَذَّرَ الرَّجُلُ في الأمْرِ " إذا لم يبالغ فيه، ولم يُحكمه، ولم تكن هذه صفة هؤلاء، بل كانوا أهل اجتهاد في طلب ما ينهضهم مع النبي ﷺ فوَصْفُهم بأنُّهم قد اعتَذَروا أو أعْذَروا، أولى من وصفهم بأنهم قد عَذَّروا فإنما هم المُعْتَذِرون، ثم أدغم.
3094
وقد قرأ ابن عباس: " المُعْذِرُونَ " من: " أعذر ".
ويجوز: " المُعذِّرُون " بضم العين لالتقاء الساكنين، (يتبع الضم الضم. ويجوز: " المُعِذِّرُون " بكسر العين لالتقاء الساكنين).
وقد قيل: إنّ " المُعَذِّرَ " من " عذَّر " إذا قَصر في الأمر فيهم مذمومون على هذا المعنى.
3095
وعلى المعنى الآخر إذا حملته على معنى " المُعْتَذِرينَ " غير مذمومين، إذا أتوا بعذر واضح.
ويجوز أن يكونوا مذمومين إذا أتوا بعذر غير واضح، يقال " اعْتَذَرَ الرَّجُلُ ": إذا أتى بعذر واضح، و " اعْتَذَرَ ": إذا لم يأت بعذر، قال تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ﴾، فهؤلاء اعتذروا بالباطل، فهم الذين يعتذرون ولا عذر لهم.
ومنع المبرد أن يكون أصله: " المُعْتَذِرِين " ثم أدغم لأنه يقع اللبس.
وذكر إسماعيل القاضي: أنَّ سياق الكلام يدل على أنَّه لا عذر لهم وأنهم مذمومون، لأنهم جاء/ وا ﴿لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾، ولو كانوا من الضعفاء والمرضى، والذين
3096
لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا إلى أن يستأذنوا.
وقول العرب: " مَنْ عَذِيرِي مِنْ فُلاَنٍ "، معناه: قد أتى فلانٌ أمراً عظيماً يستحق عليه العقوبة، ولم يعلم الناس به، فمن يَعْذِرُني إن عاقَبْتُه.
قال مجاهد: هم نفر من بني غِفار، جاءوا فاعتذروا، فلم يعذرهم الله تعالى.
وكذلك قال قتادة.
فهذا يدل على أنهم كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحق، فلا يوصفون بالإعْذَارِ.
وقرأ ابن عباس: " المُعْذِرُون " بإسكان العين، وكان يقول: لعن الله المعتذرين، يذهب إلى أن " المعتذرين " بإسكان العين، ليس لهم عذر صحيح.
و ﴿المعذرون﴾ بالتشديد: المفرطون المقصرون ولا عذر لهم.
3097
قوله: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى﴾ إلى قوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾.
ومعنى الآية: أنه بيانٌ من الله، تعالى، أنَّه لا حرج على الزَّمْنَى والمرضى، ومن لا يجد ما ينفق في التخلف عن الغزو، ﴿إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، يعني في مغيبهم عن الجهاد.
﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ﴾.
أي: ليس على من أحد فنصح لله ورسوله عليه السلام، سبيل.
قال ابن عباس: لما أمر النبي عليه السلام، بالخروج إلى الغزو، وجاءه عصابة من أصحابه يقال: كانوا سبعة، فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء، فأنزل الله عذرهم في كتابه.
﴿للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. وقف.
و ﴿مِن سَبِيلٍ﴾، وقف.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا﴾ الآية.
نزلت هذه الآية في بني مُقَرِنٍ من مُزَيْنَةَ، أتو النبي عليه السلام، ليحملهم ويغزو معهم فقال: ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع، إذا لم يجدوا ما ينفقون في غزوهم.
وقيل: منهم العِرباض بن سارية.
قال إبراهيم بن أدهم في الآية: ليس يعني الدواب، ولكن النعال.
قوله: ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ﴾، إلى قوله: ﴿يَكْسِبُونَ﴾.
والمعنى: إنما السبيل بالعقوبة على من استأذن في التخلف عن الغزو، وهو غني،
3099
ورضي بأن يخلف مع النساء اللواتي من خوالف للرجال في البيوت.
﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ﴾.
أي: ختم عليها.
﴿فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
سوء عاقبة تخلفهم، يعني: عن النبي ﷺ.
ثم قال تعالى إخباراً عما يفعلون: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾.
أي: يعتذر هؤلاء المتخلفون بالأباطيل والكذب.
﴿قُل﴾ لهم، يا محمد، ﴿لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ [لَكُمْ]﴾. أي: لن نُصدِّقكم قد أخبرنا الله بأخباركم.
﴿وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾.
أي: فما بعد، هل تتوبون أم لا.
﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾.
3100
أي: يعلم السر والعلانية، فيخبركم بأعمالكم فيجازيكم عليها.
رُوِيَ أن النبي ﷺ، قال: " لو أن رجلاً عبد الله في صخرة لا باب لها، ولا كوة بها لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان ".
فالله تعالى، يطلع قلوب المؤمنين على ما [في] قلوب إخوانهم من الخير والشر، فيحبون أهل الخير ويبغضون أهل الشر.
ثم أخبرهم بما يفعلون إذا رجع المؤمنون من غزوهم فقال: ﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ﴾، أي: يحلفون لكم إذا رجعتم إليهم من غزوكم، ﴿لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾، لتتركوا تأنيبهم وتعييرهم بتخلفهم، ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾، أي: فاتركوهم، ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾، أي: مصيرهم إليها جزاء/ بكسبهم.
قيل: إنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلاً.
قوله: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
والمعنى: يحلف أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون لكم ﴿لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾، وأنتم لا
3101
تعلمون صدقهم من كذبهم، ﴿فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾؛ لأنه يعلم سرائرهم وصدقهم وكذبهم.
ثم قال تعالى: ﴿الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ﴾.
" أن ": في موضع نصب، على تقدير: " وأجدر بأن لا ".
تقول: " هو جدير بأن يفعل "، و " خليق بأن يفعل "، وإن شئت حذفت " الباء "، ولا يحسن حذف " الباء " إلا من " أنْ "، لو قلت: هو جدير بالفعل، لم يكن بُدُّ من " الباء ".
والمعنى: الأعراب أشَدُّ جحوداً لتوحيد الله سبحانه ونفاقاً على رسوله عليه السلام، من أهل الحضر والأمصار، وذلك لجفائهم، وقسوة قلوبهم.
﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ﴾.
أي: وأخلق أن يجهلوا العلم والسنن.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾.
3102
والمعنى: ومن الأعراب من يَعُدُّ ما ينفق فيما ندبه الله، تعالى، إليه ﴿مَغْرَماً﴾ لا ثواب له فيه، ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر﴾ أي: ينتظر بكم ما تدور به الأيام والليالي من المكروه والسوء، ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾، أي: عليهم يرجع المكرو والسوء.
وهذا كله في منافقين من الأعراب، قاله: ابن زيد.
وقوله: ﴿دَآئِرَةُ السوء﴾.
ومن قرأ بالضم، فمعناه: دائرة العذاب، و ﴿دَآئِرَةُ السوء﴾: البلاء.
قال الفراء: ولا يجوز على هذا " هذا امرؤُ سوء "، كما لا يجوز " هذا امرؤ عذاب ".
وقال المبرد " السَّوء " بالفتح: الرداءة.
3103
قال سيبويه: " مَرَرْتُ بِرَجُلِ صِدْقِ "، معناه: مررت برجل صالح وليس هو من صِدْق اللسان، وكذلك تقول: " مررت برجل سوء، أي: برجل فسادٍ، وليس هو من: سُوءتُهُ (سَوْءاً.
وقال الفراء: " السَّوْء " بالفتح، مصدر من: سُوْءتُهُ سَوْءاً ومَسَاءَة) وسَوَائِيةً وَمَسَائِية.
وقال اليزيدي في الضم، يعني: دائرة الشر، فكأن السُّوءَ الاسم، والسَّوء المصدر، فافهم.
قوله: ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾، الآية.
المعنى: ومن الأعراب من يصدق بالله وبالبعث والثواب والعقاب، وينوي بما ينفق من صدقه، والتقرب إليه، ﴿وَصَلَوَاتِ الرسول﴾، أي: دُعَاءَه واستغفاره له.
3104
قال مجاهد: هم بنو مُقرِّن، مُزَينة، وهم الذين نزل فيهم: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ [التوبة: ٩٢]، الآية.
﴿ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾.
أي: ألا إنَّ صلوات الرسول عليه السلام، أي: استغفاره ودعاءه، قربةٌ لهم عند الله تعالى.
وقيل المعنى: ألا إنَّ نفقتهم قُربةٌ لهم عند الله تعالى.
و ﴿قُرْبَةٌ﴾، و ﴿قُرْبَةٌ﴾ لغتان، ك: " جُمُعة " و " جُمُعَة " ويجوز في الجمع فتح
3105
الراء وضمها وإسكانها، ويجوز " قُرَبٌ ".
ثم قال تعالى: ﴿سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ﴾.
أي: يدخلهم فيمن رحمه.
قوله: ﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار﴾، الآية.
المعنى: والذين سبقوا إلى الإيمان، ﴿مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾، أي: سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله: ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾، أي: أجزل لهم في الثواب.
قال الشافعي/: ﴿والسابقون الأولون﴾: من أدرك بيعة الرضوان.
ورُوي عنه: من أدرك بيعة الشجرة. و " المهاجرون الأولون " من (هاجر
3106
قبل البيعة.
وقال أبو موسى الأشعري ﴿والسابقون الأولون﴾: المهاجرون الأولون من) صلى القبلتين.
وهو قول ابن المسيب، والحسن، وقتادة، وابن سيرين.
ورُوي عن عمر: أنه قرأ: " والأنصار " بالرفع، عطف على: السابقين، وبذلك قرأ الحسن، وهي قراءة يعقوب الحضرمي.
3107
وعم عمر رضي الله عنهـ، أنه قرأ: " الذين اتَّبَعُوهم " بغير واو، فرد عليه زيد بـ " الواو " فسأل عمر أبيّنا، فقال له: " بالواو " فرجع عمر إلى زيادة " الواو ". وهم إجماع من القراء والمصاحف.
ومن قرأ: ﴿مِن تَحْتِهَا﴾، بزيادة ﴿مِن﴾ فمن أجل أنها في مصاحف أهل مكة كذلك، وفي سائر المصاحف بغير ﴿مِن﴾.
3108
وهذا باب في خطوط المصاحف في الحروف التي اختلف فيها القراء
من ذلك:
قوله في سورة البقرة: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ [البقرة: ١١٦]، هي في مصاحف أهل الشام بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بـ: " الواو ".
وفيها: ﴿ووصى﴾ [البقرة: ١٣٢]، هي في مصاحف المدينة والشام بـ: " ألف " وفي سائر المصاحف بـ: " الواو " بغير ألف.
وفي آل عمران: ﴿سارعوا﴾ [آل عمران: ١٣٣]، في مصاحف أهل المدينة، وأهل الشام بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بـ " الواو ".
3109
وفي آل عمران أيضاً: ﴿جَآءُوا بالبينات والزبر﴾ [آل عمران: ١٨٤]، بزيادة " باء " [في] ﴿والزبر﴾، وفي سائر المصاحف بغير " باء " في ﴿والزبر﴾، وكلهم حذفها من " وَبِالْكِتَبِ ".
وقد قرأ هشام بن عمار: " وبِالْكِتَبِ " بالباء، ولا أصل لهذه " الباء " في مصاحف أهل الشام ولا غيرهم.
وفي النساء: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [النساء: ٦٦]، بألف في مصاحف أهل الشام، وبغير " ألف " في سائر المصاحف.
3110
وفي المائدة في مصحف أهل مكة والمدينة والشام: ﴿وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ﴾ [المائدة: ٥٣] بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بالواو.
وفي المائدة أيضاً: ﴿مَن يَرْتَدَّ﴾ [المائدة: ٥٤]، بـ: " دالَيْن "، وفي مصاحف المدينة والشام، وفي باقي المصاحف بـ: " دال " واحدة.
وفي سورة الأعراف، في مصاحف أهل الشام: ﴿مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ [الأعراف: ٤٣] بغير " واو "، وفي سائر المصاحف: ﴿وَمَا﴾ بـ: " الواو ".
3111
وفيها: في قصة صالح:
﴿وقَالَ الملأ﴾ [الأعراف: ٧٥]، بزيادة و [او]، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: ﴿قَالَ﴾ بغر " واو ".
وفي براءة ﴿مِن تَحْتِهَا﴾ [التوبة: ٨٩]، بزيادة " من " في مصاحف مكة، وفي سائر المصاحف، بغير " مِن ".
وفيها: ﴿الذين اتخذوا﴾ [التوبة: ١٠٧]، بغير " واو "، في مصحف أهل الشام، وأهل المدينة، وفي سائر المصاحف: ﴿والذين﴾، بزيادة " واو ".
وفي سورة بني إسرائيل ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٩٣] بـ: " ألف "، في مصاحف أهل مكة
3112
والشام، [و] في سائر المصاحف: ﴿قُلْ﴾، بغير ألف.
وفي الكهف: ﴿خَيْراً مِّنْهُمَا﴾ [الكهف: ٣٦]، بزيادة " ميم "، في مصحف أهل المدينة ومكة والشام، وفي سائر المصاحف: ﴿مِّنْهَا﴾ بغير " ميم ".
وفيها: ﴿مَا مَكَّنِّي﴾ [الكهف: ٩٥]، بنونين، في مصحف أهل مكة خاصة، وفي سائر المصاحف بـ " نون " واحدة.
3113
وفي سورة الأنبياء: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ﴾ [الأنبياء: ٤]، ﴿قَالَ رَبِّ احكم﴾ [الأنبياء: ١١٢]، بألف فيهما، في مصحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: ﴿قُل﴾، بغير ألف.
وفيها: ﴿لَمْ يَرَ الذين كفروا﴾ [الأنبياء: ٣٠]، بغير " واو "، في مصحف أهل مكة، وفي/ سائر المصاحف: ﴿أَوَلَمْ﴾ بواو.
وفي سورة المؤمنين: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [الأنبياء: ٨٥]، في الأول. [و] في الثاني والثالث:
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾، بالألف، في مصحف أهل البصرة، وفي سائر المصاحف: ﴿لِلَّهِ﴾، من غير " ألف " في الثلاثة.
3114
وفي سورة الشعراء: ﴿وَتَوكَّلْ﴾ [الشعراء: ٢١٧] بالفاء، في مصحف أهل المدينة، [و] الشام، وفي سائر المصاحف، ﴿وَتَوكَّلْ﴾ بالواو.
وفي النمل: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ [النمل: ٢١]، بنونين، في مصحف أهل مكة، وفي/ سائر المصاحف، بنون واحدة.
وفي القصص: ﴿وَقَالَ موسى ربي أَعْلَمُ﴾ [القصص: ٣٧]، بغير " واو "، في مصحف أهل
3115
مكة، في سائر المصاحف: ﴿وَقَالَ﴾، بالواو.
وفي غافر: ﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ﴾ [غافر: ٢١] بالكاف، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: (منهم)، بالهاء.
وفيها: ﴿وَأَن يُظْهِرَ﴾ [غافر: ٢٦]، بغير ألف قبل الواو، في مصاحف أهل المدينة والبصرة والشام، وفي مصاحف الكوفة: ﴿أَوْ أَن﴾، بزيادة ألف.
وفي عَسِق في مصاحف أهل المدينة والشام: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]، بغير فاء، وفي سائر المصاحف: ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾، بالفاء.
3116
وفي الزخرف: ﴿تَشْتَهِيهِ﴾ [الزخرف: ٧١]، بالهاء، في مصاحف أهل المدينة والشام والكوفة، وفي سائر المصاحف: ﴿تَشْتَهِيهِ﴾، بغير " هاء ".
وقد قيل: " إنَّها غير مثبتة في مصاحف أهل الكوفة، وذلك قرأوا.
وفي الأحقاف: ﴿إِحْسَاناً﴾ [الأحقاف: ١٥]، بألف في مصاحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: ﴿إِحْسَاناً﴾، بغير ألف، أعني قبل الحاء.
وفي سورة الرحمن في آخرها: ﴿ذِي الجلال﴾ [الرحمن: ٧٨]، بالواو، في مصاحف أهل الشام،
3117
وفي سائر المصاحف: ﴿ذِي﴾، بالياء.
وفي سورة الحديد: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [الحديد: ١٠]، بغير ألف، [في مصاحف أهل الشام، وفي سائر المصاحف: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله﴾ بأللإ.
وفيها: ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد﴾، بغير (هو)، في مصاحف أهل المدينة [و] الشام، وفي سائر المصاحف: ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغني﴾، بزيادة (هو).
وفي سورة الشمس وضحيها: ﴿وَلاَ يَخَافُ﴾ [الشمس: ١٥]، بالفاء، في مصاحف أهل
3118
المدينة والشام، وفي سائر المصاحف: بالواو: " ولا يخاف ".
وذكر أبو حاتم في هذه الحروف أنّ في مصاحف المدينة، خاصة: ﴿وَقَالَ الملك ائتوني﴾ [يوسف: ٥٤]، بغير ياء قبل التاْء.
وفي الحج والملائكة ﴿وَلُؤْلُؤاً﴾ [الحج: ٢٣]، بألف، في مصاحف المدينة، وبعض مصاحف الكوفة.
3119
وفي الزخرف: ﴿ياعباد﴾ [الزخرف: ٦٨]، [بياء]، لا حذف في مصاحف المدينة [و] الكوفة.
و ﴿قَوَارِيرَاْ﴾ [الإنسان: ١٥] الثاني بألف في مصاحف المدينة.
وفي: (قل أوحى): ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو﴾ [الجن: ٢٠]، بغير ألف في مصاحف الكوفة.
وفي النساء: ﴿فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ﴾ [النساء: ١٧١] على التوحيد، في مصاحف البصرة،
ولم يقرأ به أحد.
3120
قال وفي يَس: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ﴾ [يس: ٣٥] بغير " هاء "، مصاحف أهل الكوفة.
ومثله: ﴿إِحْسَاناً﴾ [الأحقاف: ١٥]، بـ: " ألف "، في الأحقاف.
ومثله: ﴿لَّئِنْ أَنجَانَا﴾ [الأنعام: ٦٣]، في الأنعام.
وقال: في مصاحف أهل الشام خاصة في الأنعام: ﴿وَلَلدَّارُ الآخرة﴾ [الأنعام: ٣٢]، " الآخرة " بلام واحدة.
3121
ومثله في: الأعراف: " تحتها " في موضع: ﴿مِن تَحْتِهِمُ﴾ [الأعراف: ٤٣]، ولم يقرأ به أحد.
ومثله: ﴿(وَإِذْ) أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾ [الأعراف: ١٤١]، بألف فيهما.
ومثله: ﴿كِيدُونِ﴾ [الأعراف: ١٩٥] بالياء في الأعراف.
3122
ومثله: " ما كان للنبي أن يكون له أسى، بلامين في الأنفال، ولم يقرأ به أحد.
ومثله: (ينشركم) بالشين، في يونس.
3123
وهذا باب آخر نذكر فيه سبب اختلاف القراء واختلاف هذه المصاحف
فكان سبب هذا الاختلاف، أن النبي ﷺ، قال: " نزل هذا القرآن على سبعة أحرُفٍ "، فكان من/ قرأ عليه من أصحابه بأي حرف قرأ تركه، ودلّ علكى ذلك حديث عمر مع هشام بن حكيم، إذ سمعه عمر يقرأ القرآن على كغير ما قرأ هو على النبي عليه السلام، فلما توجها إلى النبي صلى الله عيه وسلم، وتحاكما لديه، قرأ عليه، أجاز قراءة كل واحد منهما، وقال: " هكذا " أُنْزِلَ ". وكان اختلافها في أحرفٍ من سورة الفرقان.
فدل على أنه ﷺ، كان يترك كل واحد يقرأ على لُغَتِهِ، فإذا صح أنه كان يقرأ كل واحد على لغته، وصح عنه ﷺ، أنه كان يرسل أصحابه إلى البلدان، يعلمونهم القرآن والفقه في الدين، وأنه وجّه معاذ بن جبل إلى اليمن وكان قد خَلَفَه قبل ذلك، وأبا موسى الأشعري بمكة [حين] توجه إلى حنين لحر هَوَازِن ليعَلِّمَا من كان بها القرآن والعلم.
3124
وبعث إلى الطائف مثل ذلك عثمان بن أبي العاص الثقفي.
ثم توفي النبي ﷺ، وفتحت البلدان، فمضى على سيرته وزيراه: أبو بكر وعمر.
فوجه عمر ابن مسعود إلى الكوفة مُعَلِّماً لهم، ووجه أبا (موسى) إلى البصرة مثل ذلك. وكان بالشام معاذ بن جبل، وأبو الدرداء. وكان بالمدينة جماعة من أصحاب النبي ﷺ، من أهل حفظ القرآن منهم: أُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، فكان كل واحد يقرئ في موضعه بحرفٍ من السبعة التي أمر الله تعالى، بها نبيه عليه السلام.
3125
فلما انتشر ذلك في البلدان، وتعلم الناس، وسافروا من كل بلد وتلاقوا في الغزوات، واجتمعوا في الموسم، قرأ كل قوم كما عُلِّمُوا، فأنكر بعضهم على بعض، الزيادة والنقص، والرفع والنصب، وكذَّبَ بعضهم بعضاً، وعظم الأمر فيهم، وذلك في أيام عثمان.
فتكلم بعض أصحاب النبي عليه السلام إلى عثمان أن يكتب للناس مصحفاً يجمعهم عليه، وكان ممن كلمه في ذلك حُذَيْفة [بن] اليمان، وقد كان أراد أن يكلم عمر في مثل ذلك، حتى مات عمر رضي الله عنهـ، وكان حذيفة قدم من غزوة شهدها بإرمينية، فرأى اختلاف الناس في القرآن، فلما قدم المدينة لم يدخل (بيته) حتى أتى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، أدْرِك الناس، فقال عثمان: وما ذلك؟ فقال: غزوة إرمينية يحضرها أهل العراق، وأهل الشام، فإذا أهل المدينة يقرأون بقراءة: أُبَيّ بن كعب، فيكفرهم أهل العراق، و (أهل العراق) يقرأون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم
3126
يسمع أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام.
فجعل عثمان زيداً يكتب مصحفاً وأدخل معه رجلاً فصيحاً، وهو أبان بن سعيد بن العاص، وقال لهما: إذا اجتمعتما فاكتبا، وإذا اختلفتما فارفعا إليّ ما تختلفان فيه.
قال أنس بن مالك: اجتمع لغزوة أَذْرَبِيجان وإرمينية أهل الشام والعراق،
3127
فتذاكرا القرآن فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة بن اليمان في ذلك إلىعثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن، حتى أني والله خشيت أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف.
فَفَزع لذلك عثمان رضي الله عنهـ، فزعاً شديداً، وأرسل إلى حفصة فاستخرج المصحف الذي كان أبو بكر، رضي الله عنهـ، أمر زيداً بجمعه، فنسخه منه مصاحف فبعث بها إلى البلدان.
وكان عثمان قد انسخ من المصحف الذي عند حفصة، بحضرة زيد بن ثابت وأبان بن سعيد بن العاص.
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، وقال: ما اختلفم فيه فاكتبوه بلسان قريش.
قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في ﴿التابوت﴾ [البقرة: ٢٤٨]، فقال القرشيون:
3128
﴿التابوت﴾، وقال زيد: " التَّابُوه ".
فرفع/ اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش.
فلما كتب عثمان النسخة، جعلها أربع نسخ، فأنفذ مُصْحفاص إلى: الشام، ومصحفاً إلى العراق، ومصحفاً إلى اليمن، واحْتَبس مُصحفاً.
وقيل: بل وجه واحداً إلى الشام، وآخر إلى الحجاز، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى البصرة.
وقيل: بل كتب سبعة مصاحف، فبعث مصحفاً إلى مكة، ومصحفاً إلى الكوفة، ومصحفاً إلى البصرة، ومصحفاً إلى الشام، ومصحفاً إلى اليمن، ومصحفاً إلى البحرين، واحتبس مصحفاً.
فأما مصحف اليمن والبحرين فليس يعرف لهما خبر.
ولم يمت النبي ﷺ، إلاَّ والقُرْآنُ مُؤَلَّفٌ في الصُّدُور، إلا أنه لم يكتب في مصحف.
وأول من جمعه أبو بكر رضي الله عنهـ في المصحف، ومات وتركه عند عمر،
3129
ومات عمر وتركه [عند] حفصة ابنته. قال ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ، وذكره السدي.
وروى الزهري عن عبيد بن السّبَّاق أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إلي أبو بكر، فأتيته، فإذا عنده عمر رضي الله عنهـ، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل اسْتَحَرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخْشَى أن يَسْتَحشرَّ القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإنّي أرى أنْ تأْمر بجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت فيكف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ، فقال عمر: هو والله خير، قال أبو بكر: فلم [يزل] عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: قال لي أبو بكر: إنَّك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ، فَتَتَبَّعْ القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال لكان أثقل عليّ من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال أبو بكر:
3130
هو والله خير. فلم يزل يراجعي في ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهـ، حتى شرح الله صدري للذي شرح إليه صدرهما، فتتبعث القرآن من الرِّقَاع والعُسُبِ، ومن صدور الرجال، فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]، إلى آخرها، وكانت الصحف عند أبي بكر حتى مات، ثم كانت عند عمر حتى مات، ثم كانت عند حفصة، ثم نسخ عثمان من عند حفصة المصاحف، ووجه إلى كل أُفقٍ مصحفاً، وأمر بما سوى ذلك أن يُحَرَّق.
ومعنى قول النبي ﷺ: " أُنْزِل القرآن على سبعة أَحْرُف "، أي: على سبع لغات متفرقة في القرآن، (لا أن كُلَّ حرف من القرآن) يقرأ على سبع لغات.
قال الشيخ أبو بكر، رضي الله عنهـ، وَجْهُ هذه الزيادة والنقص في المصحاف، أنها كتبت على قراءة من كان وجه إلى كل بلد من الصحابة، ويدل على ذلك أنَّ القراء
3131
يُسْنِدُونَ قراءتهم إلى إمام مِصْرهم من الصحابة، وقد كانت هذه الحروف يقرأ بها على عهد رسول الله ﷺ، وتنقص، ولولا ذلك ما أثبتت في بعض المصاحف وحذفت من بعض ولا يجوز/ أن يُتَوَهَّم أنها وهم من الكابت؛ لأن الله قد حفظه، ويدل على ذلك أن علياً لما صارت إليه الخلافة لم يغير منها شيئاً بل استحسن فعل عثمان، وقد كانوا يكرهون النقط في المصاحف خوف الزيادة، فكيف يزيدون الحروف وتجوز عليهم الزيادة.
وكره النخعي الفصل بين السور، والتَّعْشِيرِ، بالحمرة.
وقال يحيى بن كثير: كان القرآن مُجَرَّداً، فأول ما أُحْدِثَ فيه العَجْمُ: نقط التاء والثاء، فلم ينكره أحد، ثم أحدثوا نَقْطاً على منتهى الآي، ثم أحدثوا التعشير، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
وقال قتادة: وددت أنَّ الأيدي قُطِعت في هذه النقط.
فليس يجوز على هذا الاحتياط أن تقع هذه الحروف إلا بنصّ وَمَعْرِفَةٍ، ولم تقع على وهم من الكاتب.
3132
وقد ذكر أبو بكر عن بعض العلماء أنه قال: إنَّ إصحاب رسول الله ﷺ، لما جمعوا القرآن ونسخوه من عند حفصة في نسخ، عمدوا إلى كل حَرْفٍ سمعوا رسول الله ﷺ، قِرأه على وجهين، فأثبتوا في مصاحف وجهاً، وفي مصاحف وجهاً آخر. لتحصل الوجهان للمسلمين، ولا يسقط عنهم وجه قراءته، فحصل على هذا الاختلاف في المصاحف على هذا الوجه، وهو داخل في السبعة، وهذا إن شاء الله هو الحق والصواب.
فأما اختلافهم في الحركاتت والمْدَ والْقَصْر والهمز وشِبْهه من إبدال حرف مكان آخر بصورته، فإن السبب في ذلك أن المصاحف التي وجهت إلى الأمصار لم تضبط ولا نقطت، وإنما كانت حروفاً أشخاصاً. فلما خلت الحروف من النقط والضبط صارت التاء (التي) هي غير منقوطة محتملة لأن تكون: ياءً أو باءً أو تاءً، واشتركت الصور في الحروف. ألا ترى أنك لو كتبت " لم يقم "، ولم تنقط الحرف الأول جاز أن يكون تاء، وباء، ونوناً، فقرأ أهل كل مصر على ما كانوا تعلموا من إمامهم الصحابي قبل إتيان المصاحف إليهم، فقرأ أهل البصرة على ما كان علمهم أبو موسى الأشعري، وأهل الكوفة على ما علمهم علي، وابن مسعود، وأهل الحرمين على ما تعلموا من أُبيّ، وزيد، وأهل الشام على ما تعلموا من معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، ووافقوا بقراءتهم خط المصحف الذي وجه إليهم، فقرأ هؤلاء بنصبٍ وهؤلاء برفعٍ،
3133
وهؤلاء بِهَمْزٍ، وهؤلاء بِيَاءٍ، وهؤلاء بِتَاءٍ والصور واحدة، كل قوم قرأوا على ما كانوا تعلموا قبل وصول المصحف إليهم، فوافقوا بقراءتهم المصحف الذي وجه إليهم من زيادة أو نقص. فهذا سبب الاختلاف.
وقد كان جَمَعَ القرآن على عهد النبي ﷺ، ستة نفرٍ من الأنصار: معاذ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، وسعد، بن عبيد. وجمعة مُجَمَّعُ بن جارية، إلا سورتين، ولم يجمعه من الأئمة إلا عثمان.
وذكر أنس والشعبي أنه لم يجمعه على عهد النبي عليه السلام، أحدٌ. والدليل على ذلك أن عثمان لم يتكل فيه على أحدٍ حتى جمع إليه جماعة، وأن زيد بن ثاتب قال: جمعته من صدور الرجال، ومن كذا وكذا، فهذا يدل على أنه لم يكن يحفظه.
3134
وإنما اختار عثمان زيد/اً، لأنه كان يكتب الوحي؛ ولأن قراءته كانت على العرضة الآخرة، ولأنه وهو الذي اختار أبو بكر لجمعه.
قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب منافقون﴾، إلى قوله: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
ومعنى الآية: ومن القوم الذين حولكم، أي: حول المدينة ﴿منافقون﴾، أي: قوم منافقون.
﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾.
أي: دربوا عليه وخَبُثُوْا.
وقيل: معناه: عتوا، على النفاق. من قولهم: " شَيْطانٌ مَارِدٌ " أي: عاتٍ.
3135
﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾.
أي: من أهلها مثلهم.
وقيل: المعنى: ومن أهل المدينة قوم ﴿مَرَدُواْ﴾. فلا يكن في الكلام على هذا تقديم ولا تأخير. وعلى القول الأول يكون فيه تقديم وتأخير.
قال ابن زيد ﴿مَرَدُواْ﴾: أقاموا عليه، ولم يتوبوا.
وقال ابن إسحاق ﴿مَرَدُواْ﴾، عليه، أي: لجوا فيه وأبوا غيره.
﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ﴾.
أي: لا تعلمهم يا محمد، بصفتههم.
﴿نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾.
قيل: هما فضيحتهم في الدنيا وإظهار سرائرهم، ثم عذاب القبر، ثم يردن إلى عذاب الآخرة. قاله ابن عباس: وذكر: أنَّ النبي ﷺ أخرج قوماً من المسجد يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق، لناس منهم، فهذا عذابهم الأول، والثاني: عذاب القبر.
وقال مجاهد هما: عذاب السيف بالقتل وعذاب الجوع.
والآخر: عذاب القبر، ثم عذاب الآخرة.
وقال ابن زيد: العذاب الأول، عذابهم بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والآخر: عذاب النار.
وقيل الأول: أخذ الزكاة من أموالهم، وإجراء الحدود عليهم، وهو غير راضين، والآخرة: عذاب القبر.
3136
ثم قال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً﴾.
والمعنى: ومنهم آخرون: أي: من أهل المدينة منافقون آخرون، ﴿اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾، أي: أقروا بها: ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً﴾، هو إقرارهم وتوبتهم، ﴿وَآخَرَ سَيِّئاً﴾، هو تخلفهم عن النبي ﷺ في غزوة تبوك.
والواو [في] قوله: ﴿وَآخَرَ﴾، بمعنى: " مع " عند البصريين، كما تقول:
3137
" استوى الماء والخشبة ".
وقال قوم: هي بمعنى: " الباء "، وقدروا " الواو " في " الخشبة " بمعنى: بالخشبة.
وأنكر الكوفيون أن يكون هذا بمنزلة " استوى الماء والخشبة "؛ لأن هذا لا يجوز فيه تقديم الخشبة على الماء، وإنما هو عندهم بمنزلة " خلطت الماء واللبن "، أي: باللبن، فكل واحد منهما يجوز أن يتقدم، مثل الآية.
قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية في عشرة أنفس تخلفوا عن النبي ﷺ، في غزوة تبوك، فلما رجع النبي عليه السلام أوثق سبعَةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي عليه السلام إلى رجع في المسجد عليهم. فلما رآهم قال: من هؤلاء؟
قال: أبو لُبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك، يا رسول الله، حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال رسول الله ﷺ: " فأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ". فلما بلغهم ذلك قالوا: / ونحن والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا. فأنزل الله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ الآية.
3138
فأطلقهم النبي عليه السلام، و ﴿عَسَى﴾ من الله واجبة ".
وقيل: كانوا ستةً، والذين أوثقوا أنفسهم ثلاثة: أبو لبابة ورجلان معه.
وقال زيد بن أسلم: الذين ربطوأ أنفسهم ثمانية.
وقال قتادة: كانوا سبعه، وفيهم نزل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
وقال مجاهدة هو أبو لبابة وحده، اعترف بذنبه الذي كان في بني قريظة، إذ أشار لهم إلى حَلقِه، يريد أن رسول الله - ﷺ -، ذابحكم إن نزلتم على حكم الله، سبحانه.
وقال الزهري: نزلت في أبي لبابة إذ تخلف عن غزوة تبوك، يربط نفسه، حتى أنزل الله، - عز وجل -، توبته، ومكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرَّ مغشيّاً عليه، فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله - ﷺ -، هو الذي يحلني، فجاء رسول الله - ﷺ -، فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول
3139
الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقةً إلى الله ورسوله، قال له النبي - ﷺ -: "يجزيك يا أبا لُبابة الثلث".
والعمل الصالح الذي عملوه، قيل: هو توبتهم.
وقيل: حضورهم بدراً مع النبي - ﷺ -.
(مُنَافِقُونَ)، وقف، إن جعلت (مَرَدُوا)، نعتاً لأهل المدينة"، فإن جعلته نعتاً للمنافقين لم تقف دونه؛ لأنه ينوي به التقديم.
وقيل: كانوا ثلاثة، أبو لُبابة، ووداعة بن ثعلبة، وأوس بن خدام من الأنصار. لما رجع رسول الله - ﷺ -، أوثقوا أنفسهم في سواري المسجد، وكان رسول الله
3140
--، إذا ابتدأ سفراً أو رجع منه ابتدأ بالمسجد، فصلى فى ركعتين، فدخل فرأى فيه قوما موثقين، فسأل عنهم، فأخبر بخبرهم، وأنهم أقسموا ألا يحلوا أنفسهم حتى يحلهم رسول الله --، فقال رسول الله --: "وأنا أقسم لا أطلق عنهم حتى أومر، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، فلما نزل فيهم القرآن حلهم النبي --.
قوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾، إلى قوله: ﴿التواب الرحيم﴾.
قوله: ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾، هو خطاب للنبي عليه السلام.
أي: فإنك تطهرهم بها وتزكيهم، وهذا قول الزجاج.
وقيل: هما للصدقة، لا للمخاطبة، وهما في موضع النعت للصدقة، وهو قول الأخفش، قال: ويكون ﴿بِهَا﴾ توكيداً.
ف: " التاء " على القول الأول للمخاطبة، وفي ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ ضمير النبي ﷺ. وهي على القول الثاني: الثانية للصدقة لا للمخاطبة، وفي
3141
﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ ضمير الصدقة.
وقيل: هما للنبي عليه السلام، وهما في موضع الحال منه.
وقيل: ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ للصدقة، صفة [لها]، ﴿وَتُزَكِّيهِمْ﴾ للنبي عليه السلام، حال منه.
وأجاز بعض النحويين، في ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ الجزم؛ لأنه جواب الأمر.
وحجة من قرأ: ﴿صلاتك﴾ بالجمع هنا، وفي " هود "، وفي " المؤمنين "
3142
إجماعهم على الجمع في: ﴿وَصَلَوَاتِ الرسول﴾ [التوبة: ٩٩] ولا فرق بينها والتي في سورة المؤمنين يراد بها الصلوات الخمس، فالجمع أولى به؛ ولأنها مكتوبة في المصحف بالواو، فدل ذلك على الجمع، وعلى أن الألف التي بعد الواو اختصرت/ من الكتاب.
وقد كتبوا ما عدا هذه الثلاثة بالألف، فدلت الواو في هذه الثلاثة على أنه جمع، وحذفت الألف بعد الواو كما حذفت من درجات وبينات.
ومن قرأ بالتوحيد، احتج بالإجماع في: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي﴾ [الأنعام: ١٦٢]، بالتوحيد، وإجماعهم على التوحيد في " الأنعام "، و ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ [المعارج: ١].
وأيضاً فإن قوله: إنَّ صَلاَتَكَ أعم من: إن صلواتك؛ لأن الجمع إنما هو لما دون العشرة، فكأنه: " إنّ دعواتك "، والتوحيد بمعنى: " إنَّ دعاءك "، والدعاء أعم من "
3143
الدعوات " وأكثر؛ لأن المصدر أعم من الجمع الذي لما دون العشرة.
ومعنى الآية: خذ يا محمد من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم [﴿صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ من دنس ذنوبهم، ﴿وَتُزَكِّيهِمْ﴾، أي: تنميهم]، وترفعهم بها، ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾، أي: ادع لها بالمغفرة، ﴿إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ﴾، أي: إن دعاءك طمأنينة لهم، بأن الله قد عفا عنهم، ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، أي: سميع لدعائك إذا دعوت، ولغير ذلك.
قال ابن عباس: أتى أبو لُبابة وأصحابه حين أطلقوا، وتيب عليهم، بأموالهم إلى النبي ﷺ، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله، تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾، الآية.
وقد قيل: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾: منسخٌ بقوله: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ [التوبة: ٨٤].
وقيل: إنَّها محكمة.
3144
والمعنى: وادع لهم إذ جاءوك بالصدقات، وعلى هذا أكثر العلماء.
وقال قتادة: ﴿سَكَنٌ لَّهُمْ﴾، وقَارٌ لهم.
وقال زيد بن أسلم: قالوا: يا رسول الله، خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها، فأبى النبي ﷺ، أن يأخذ.
فأنزل الله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾، الآية.
قال سعيد بن جبير: كان الثلاثة إذا (اشتكى أحدهم).
اشتكى الآخران مثله، وكان قد عَمِيَ، فلم يزل الآخر يدعو حتى عَمِيَ.
وقال ابن عباس: ﴿سَكَنٌ لَّهُمْ﴾: رحمه لهم.
وقيل: إنَّ هذا إنَّما هو في الزكاة، أمر أن يأخذ زكاة أموالهم التي عليهم.
3145
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾.
أخبر الله تعالى، في هذه الآية بقَبول توبة من تاب من المناقين وغيرهم، وأخذ الصدقات من أموالهم.
فالمعنى: ألم يعلم هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد، ثم ندموما وربطوا أنفسهم بالسواري وقالوا: لا نطلق أنفسها حتى يكون النبي صلى الله عليه سولم، هو الذي يطلقنا، أن ذلك (ليس) إلى النبي صلى الله عليه [وسلم]، ولا إلى غيره، وإنما هو إلى الله سبحانه، هو يقبل توبتهم، وتوبة غيرهم، ويأخذ صدقة من تصدق، بصدقةٍ، ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم.
قال ابن زيد: قال المنافقون لما تاب الله على هؤلاء: كانوا بالأمس، لا يُكلَّمون ولا يُجَالَسُون، فما لهم اليوم يُكلَّمون ويُجالَسُون؟ فأنزل الله تعالى، ألم يعلم هؤلاء الذين لم يتوبوا وتكلموا في هؤلاء الذين تُبت عليهم ﴿وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾، الآية.
قال ابن عباس: ﴿وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾، يعني إن استقاموا على/التوبة.
روى أبو هريرة عن النبي ﷺ، أنه قال: " إن الله يقْبلُ، الصدقة ويأخذها بيمينه، فيرُبِّيها لأحدكم كما يُربِّى أحدكم مهرة، حتى إنَّ اللقمة لَتَصير مثل أحد.
3146
وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ و ﴿يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات﴾ ".
وقال ابن مسعود: ما تصدق رجل بصدقة إلاّ وقعت في يد الله قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، ثم تلا: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة﴾.
وقوله: ﴿وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون﴾، إلى قوله: ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
والمعنى: ﴿وَقُلِ﴾ يا محمد، لهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم: ﴿اعملوا﴾، أي: اعملوا بما يرضي الله، ﴿فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ﴾، وسيراه رسوله والمؤمنون، في الدنيا، ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾، أي: تردون يوم القيامة، إلى الله الذي يعلم السر والعلانية، ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، أي يخبركم بعملكم، ويجازيكم عليه جزاء المسحنين أو جزاء المسيء.
3147
وقال مجاهد: الآية وعيد من الله.
و ﴿فَسَيَرَى الله﴾، من رؤية العين.
ثم قال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾.
هذه معطوف على ما قبله. والمعنى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب منافقون وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾ قوم ﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾، ومنهم ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾، ومنهم ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾. فالتقدير: من هؤلاء المتخلفين عنكم، ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾، وقضائه فيهم.
﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾.
وهم قوم تخلفوا ولم يعتذروا إلى النبي ﷺ، وندموا على ما صنعوا، فتاب الله عليهم، إذ علم صحة توبتهم وندمهم، فقال: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار﴾، إلى قوله: ﴿هُوَ التواب الرحيم﴾ [التوبة: ١١٧ - ١١٨].
قال ابن عباس: لما نزل: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾، يعني: أبا لُبابة وصاحبيه، يعني: الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم، ولم يظهروا التوبة، فلم يذكروا بشيءٍ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأنزل الله، تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾، الآية، فيهم فجعل الناس
3148
يقولون: هلكوا، إذ لم ينزل فيهم عُذْرٌ. وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، فصاروا مرجئين، لا يقطع لهم بشيء، حتى نزل: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين﴾، إلى قوله: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، ثم قال تعالى: ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ يعني: الثلاثة الذين أُرْجُوْا، إلى قوله: ﴿هُوَ التواب الرحيم﴾.
وقال عكرمة: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾: هم الثلاثة الذين خُلَّفُوْا.
والثلاثة في قول مجاهد: هلال بن أمية، ومُرارةَ بن الربيع، وكعب بن مالك، الثلاثة من الأوس.
وقال الضحاك: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾، هم الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن التوبة، يعني: توبة أبي لُبابة وصاحبيه، فضاقت عليهم الأرض، وكان أصحاب محمد ﷺ، فيهم فئتين، فئة تقول: هلكوا، وفئة تقول: عسى الله أن يعفوا عنهم، فأنزل الله/ تعالى: ﴿ وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾، وأرجأ رسول الله ﷺ، أمرهم
3149
حتى نزلت توبتهم.
وقوله: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾.
ومعناه: إما يحجزهم عن التوبة، فيعذبهم، وإما يوفقهم فيتوب عليهم.
﴿حَكِيمٌ﴾، وقف، على قراءة من قرأ: ﴿الذين﴾، بغير واو. وغير وقف على قراءة من قرأ: ﴿الذين اتخذوا﴾ بالواو.
قوله: ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً﴾، الآية.
من قرأ: ﴿الذين﴾ بالواو، فهو في موضع رفع، والخبر محذوف، والمعنى:
3150
ومنهم الذين، مردود على: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ [التوبة: ١٠١].
وقيل: هو مردود على ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي﴾، (والَّذِينَ اتَّخّذُوا مَسْجِداً).
ومن قرأ ﴿الذين اتخذوا﴾ بغير واو، فهو في موضع بالابتداء، وفي الخبر تقديران:
قال الكسائؤ الخبر: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ﴾، أي: لا تقم في مسجدهم.
وقيل الخبر: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ﴾، وهذا أحسن.
﴿ضِرَاراً﴾ مصدر، وإن شئت مفعولاً من أجله.
ومعنى الآية: إنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين كلهم ينتمون إلى الأنصار،
3151
ويعتدون إلى بني عوف، يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، بنوا مسجداً ضراراً بمسجد " قُباء "، وأتوا النبي ﷺ، قبل خروجه إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجداً لذِي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأْتينا فتصلي لنا فيه، فقال النبي ﷺ: إني على جَنَاحِ سَفَرٍ وشُغْل، ولو قد قدمنا، إن شاء الله، أتيناكم فصلينا لكم فيه. فلما نزل النبي ﷺ، راجعاً [من سفره]، بقرب المدينة، بلغه الخبر، فأرسل قوماً لهدمه، فَهُدم وأُحْرِق.
ومعنى ﴿ضِرَاراً﴾ أي: ضِرِاراً لمسجد رسول الله ﷺ، وكفراً بـ الله، لمخادعتهم النبي عليه السلام.
3152
﴿وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين﴾.
يريدون أن يتفرق جماعة المسلمين في صلواتهم.
﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن [قَبْلُ]﴾.
أي: إعداداً له، وهو أبو عام الذي كان حَزَّبَ الأحزاب لقتال رسول الله ﷺ، فلما خذله الله تعالى، لحق بالروم، يطلب النصر من ملكهم على رسول الله ﷺ، وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار، وأمرهم ببناء المسجد الذي بنوه ليصلي فهم فيه، إذا رجع.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى﴾.
أي: يحلف من بناه ما أردنا بذلك إلا الخير، والرفق بالمسلمين في المطر، والتوسعة على الضعفاء، ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، في وقلهم ذلك، بل بنوه لتفريق المؤمنين.
قال ابن عباس: وجه أبو عامر إلى ناس من الأنصار أن يبنوا مسجداً، ويستعدوا ما يستطيعون من قوة ومن سلاح، وقال لهم: إني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتى بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه.
3153
وكان أبو عامر من الروم أصله، وكان يقول: إنه راهب، فبنوا المسجد له، ليأتي ويصلي فيه، وليكون اجتماعهم للطعن على رسول الله ﷺ، وأصحابه فيه. فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي ﷺ، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنان، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة.
فأنزل الله/ تعالى: ﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ/ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾.
قال قتادة: لما دعوا رسول الله ﷺ ليصلي في مسجدهم دعا بقميصه ليأتي إليهم، فأطلعه الله على أمرهم.
قال الضحاك: بنوا مسجد الضرار بقُباء، وكذلك قال قتادة.
قال ابن عباس: لما بنى النبي عليه [السلام] مسجد قُباء، بنى [قوم] من الأنصار مسجداً للضِّرار، ليضاهوا به النبي عليه السلام والمؤمنين في مسجدهم.
قوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾، وقف في قراءة من قرا: ﴿الذين﴾ بغير واو إن قدرت أنَّ
3154
الخبر: ومنهم الذين.
وإن قدرت أن يكون ﴿لاَ يَزَالُ﴾ الخبر، أو ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾، لم يجز الوقف على: ﴿مِن قَبْلُ﴾.
و ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾ وقف، وكذلك يقدر جميع هذه الآية.
قوله: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ﴾، الآية.
والمعنى: لا تقم، يا محمد، في المسجد الذي بناه المنافقون، ضِراراً وتفريقاً بين المؤمنين، أبداً.
ثم أقسم، فقال: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى﴾، أي: ابتدئ أساسه وبناؤه على طاعة الله تعالى، ورضوانه ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾، ابتدئ بنيانه، ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾، أي: أولى أن تقوم فيه، مصلياً لله، تعالى.
3155
و ﴿مِنْ﴾ هاهنا، بمعنى: منذ.
وقيل: [المعنى]، من تأسيس أول يوم.
ومعنى ﴿أَوَّلِ يَوْمٍ﴾: أول الأيام: كما تقول: أتيت على كل رجل، أي: على كل الرجال.
قال ابن عمر، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري وابن
3156
المسيب، وخارجة بن ثابت، وابن جريج: هو مسجد رسول الله ﷺ، الذي فيه اليوم قبره.
وقال ابن عباس، وابن زيد، وعروة بن الزبير، وأبو زيد: هو مسجد قُباء. وقاله ابن جبير، وقتادة.
وروي عن النبي ﷺ، أنه قال: " هو مسجدي هذا ".
3157
وقوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ﴾.
" الهاء " لمسجد النبي ﷺ وقال الشعبي: هي لمسجد قُباء. وكذلك قال شَهْرَ بْنُ حَوْشَب.
فعلى هذا يجوز أن يكون الضميران مختلفين، وأن يكونا متفقين.
وقوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾.
مدحوا، لأنهم كانوا يستنجون بالماء من الغائط والبول، لا خلاف في هذا التفسير بين أهل التفسير.
3158
قال قتادة: " لما نزلت هذه الآية، قال النبي ﷺ، لأهل قُباء: إنّ الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما تصنعون؟ قالوا: إنا نغسل عنّا أَثر الغائط والبول ".
قوله: ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ وقف، إن جعلت الضمير مخالفاً للضمير الأول: فإن جعلته مثله وقفت على: ﴿يَتَطَهَّرُواْ﴾.
قوله: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ﴾، الآية.
قرأ نصر بن علي: " أَسَسُ بُنْينِه "، بتخفيف السين ورفعه، وخفض البنيان.
3159
وحكى أبو حاتم عن بعض القراء: " أفمن أساس بُنْيَنِهِ "، برفع أساس، وخفض البنيان.
و" أسَسُ " و " أُسُّ " سواء ك: عَرَبٍ وعُرْب. و " أساسٌ " واحد، وجمعه: أُسُس.
وحكى أبو حاتم، أيضاً، قراءة أخرى: " أفمن أسس بنيانه " برفع " آساس " ومده، وخفض البنيان، وهو جمع " أُسّ " ك: " خُفٍ " و " أَخَفَافٍ " والكثير " إسَاسٌ " ك " خِفَاف ".
و ﴿جُرُفٍ﴾، و ﴿جُرُفٍ﴾ لغتان، وهو شفير ما ينفى من جُوُف
3160
الوادي إذا أخذه السيل.
قال أبو حاتم: أصل ﴿هَارٍ﴾: هاورُ، ثم قل، ك: شاكي السلاك وشائك السلاح.
وحكى الكسائي: " تَهَوّر " و " تَهَيَّر ". والهائر المتقدم. وحكى: هَارَيَهُورُ ويَهيرُ ويهار.
ومعنى الآية: أنها مثل. والمعنى: / أيُّ هذين الفريقين خير؟ وأي هذين
3161
البناءين خير وأثبت؟ من ابتدأ أساس نبيانه على طاعة الله، أم من ابتدأ على ضلال وخطأ من دينه؟
قوله: ﴿فانهار [بِهِ]﴾.
يحسن أن تكون الألف من " واو " أو " ياء " على ما تقدم.
قال ابن عباس: [﴿بِهِ فانهار﴾]، يعني قواعده ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾.
وذُكر أنه حفرت بقعة منها، فرئي الدخان.
قال ابن جريج: (فلما فرغوةا من بناء المسجد، صلوا فيه ثلاثة أيام، وأنهار اليوم الرابع ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾. قال ابن جريج: ذكر لنا أنَّ رجلاً حفر فيه، فأبصر
3162
الدخان يخرج منه.
وقال جابر: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله ﷺ.
قوله: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾.
والمعنى: ولا يزال مسجدهم الذي بنوه، شكَّا في قلوبهم ونفاقاً، ﴿إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾، أي: إلا أن تصدع قلوبهم فيموتوا.
قال ابن عباس: ومجاهد: ﴿إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾، إلا أن يموتوا.
وقال السدي ﴿رِيبَةً﴾: كفراً.
وفي حرف عبد الله: (ولو قطعت قلوبهم).
وقيل المعنى: إلا أن يتوبوا عما فعلوا، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه.
قوله: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾، إلى قوله: ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾.
قوله: ﴿أَنفُسَهُمْ﴾: استغنى بأقل الجمع عن الكثير، والمراد الكثير، ولفظه لفظ القليل، وقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧] فهذا لفظه ومعناه سواء لأكثر العدد.
ومن قرأ: ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾، فبدأ بالمعفول.
قيل: الفاعل بمعناه فيُقْتل بعضهم، ويقتل بعضهم الباقي المشركين. والعرب تقول: نحن قتلناكم يوم كذا، أي: قتلنا منكم.
3164
قوله: ﴿وَعْداً﴾، مصدر مؤكد، و ﴿حَقّاً﴾ نعن له.
والمعنى: وعدهم الله الجنة وعداً حقاً عليه.
قال ابن عباس: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ [وَأَمْوَالَهُمْ] بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾، قال: ثامنهم والله، وأعلى لهم.
" ورُوي أن عبد الله بن رواحة قال للنبي ﷺ: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال النبي عليه السلام: اشترط لربي: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي: أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. فقالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل ".
فنزلت: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ﴾، الآية.
3165
ثم مدحهم الله، تعالى، فقال: ﴿التائبون العابدون﴾، أي: هم التائبون.
وقال الزجاج: هو بدل. والمعنى: يقاتل التائبون.
وقال: والأحسن أن يرتفعوا بالابتداء والخبر محذوف، أي: لهم الجنة.
وفي قراءة عبد الله: ﴿التائبون العابدون﴾، على النعت للمؤمنين، في موضع خفض، أو في موضع نصب على المدح.
وقيل: ﴿التائبون﴾ مبتدأ، وما بعدها إلى " الساجدين " عطف عليه، و ﴿الآمرون﴾ خبر الابتداء، أي: مرهم بهذه الصفة، فهم {الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر
3166
والحافظون لِحُدُودِ الله}.
ومعنى ﴿التائبون﴾: الراجعون مما يكرهه الله تعالى، إلى ما يحبه.
وقال الحسن: ﴿التائبون﴾، أي: عن الشرك، ﴿العابدون﴾، الله وحده في أحايينهم كلها، أي: في أعمارهم.
ومعنى ﴿الحامدون﴾، الذين يحمدون الله على ما ابتلاهم به من خير وشر.
وقيل المعنى: الذين حمدوا الله على الإسلام.
ومعنى ﴿السائحون﴾: الصائمون روي ذلك عن النبي ﷺ.
وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والضحاك.
3167
وأصل السياحة: الذهاب في الأرض.
﴿الراكعون الساجدون﴾، يعني: في الصلاة المفروضة.
﴿الآمرون بالمعروف﴾، أي: بالإيمان بالله، تعالى، وبرسوله عليه السلام.
﴿والناهون عَنِ المنكر﴾، عن الشرك ﴿والحافظون لِحُدُودِ الله﴾، أي: العاملون بأمر الله تعالى، ونهيه سبحانه.
3168
﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾.
أي: بشر من آمن، وفعل هذه الصفات من التوبة والعبادة وغيرهما، وإن لم يغزوا.
وقال الحسن في هذه الآية: ﴿العابدون﴾: الذين عبدوا الله تعالى، في أحايينهم كلها، أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين، ولكن كما قال العبد الصالح: ﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣١].
قال: و ﴿السائحون﴾ الصائمون. وقال: ﴿الآمرون بالمعروف﴾، أما والله، ما أمروا بالمعروف، حتى أمروا به أنفسهم، ولا نهوا عن المنكر، حتى نهوا عنه أنفسهم، ﴿والحافظون لِحُدُودِ الله﴾، قال: هم القائمون على فرائض الله.
قوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾، إلى قوله: ﴿حَلِيمٌ﴾.
والمعنى: ما ينبغي للنبي ﷺ، والمؤمنين: ﴿أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى﴾ منهم، ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم﴾، أي: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله سبحانه، وقد قضى القرآن (أنّ) من مات على الشرك، أنَّه من أهل النار.
وهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب، أراد النبي عليه السلام، أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله، تعالى، عن ذلك.
3169
وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبيه، أنه قال: " لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة، دخل عليه النبي ﷺ، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أمية: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيءٍ تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب، فقال النبي ﷺ: لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك. فنزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ "، الآية، ونزلت: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦]، الآية.
الزهري عن ابن المسَيَّب قال: لما أحتضر أبو طالب أتاه النبي عليه السلام، وعنده عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل بن هشام، فقال له رسول الله ﷺ، أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقاً، وأحسنهم يداً، لأنت أعظم من والدي، فقل كلمة تجب لي يوم القيامة بها الشفاعة لك، قل: لا إله إلا الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
3170
فسكت، فأعادها عليه رسول الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ومات.
فقال النبي ﷺ: والله لأستغفرنَّ له ما لم أُنه عن ذلك، فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾، الآية.
وقال مجاهد قال المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافراً؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ﴾، الآية.
وقال عمرو بن دينار: قال النبي عليه السلام، استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني الله عنه.
فقال أصحابه: فلنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي عليه السلام، لعَمِّه، فأنزل الله، تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا﴾، إلى: ﴿حَلِيمٌ﴾.
وقيل: نزلت في أُمِّ رسول الله عليه السلام أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك.
رُوي أن النبي ﷺ، لما قدم مكة، وقف على قبر أُمه حتى سَخِنَت عليه الشمس، رجاء أن يُؤْذن له فيستغفر لها/، حتى نزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ﴾، الآية قال ذلك ابن
3171
عباس، وغيره.
ولم يختلف أهل العلم في الدعاء للأبوين ما دام حيين، على أيّ دين كانا، يدعى لهما بالتوفيق والهداية، فإذا ماتا على ك فرهما لم يستغفر لهما.
رُوي أن الآية نزلت في أبوي النبي عليه السلام، وذلك أنه ﷺ، سأل جبريل، عليه السلام، عن قبر أبويه، فأرشده إليهما، فذهب إليهما، فكان يدعو لهما، وعلي رضي الله عنهـ، يُؤَمِّنُ، فنهي عن ذلك، وأُعلم أنّ إبراهيم، صلوات الله عليه، إنما أستغفر لأبيه؛ لأن أباه وعده أن يُسْلِمَ، ويترك عبادة الأصنام، فكان إبراهيم يستغفر له طمعاً أن يؤْمن، فلما مات على كفره، تبرأ منه.
و" المَوْعِدَةُ " التي وعد إبراهيم أبوه هو أنه وعده أن يؤمن.
وقيل: بل هي كانت من إبراهيم لأبيه وعده أن يستغفر له، حكى الله عنه أنه قال: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ [مريم: ٤٧]، فلزمه إتمام وعده.
3172
وقوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ﴾.
فنهى الله، تعالى، عن الاستغفار له تبرؤاً منه.
وقيل: لما مات على كفره تبرأ منه.
[فدل قوله: ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾] على هذا المعنى، أنه (إنما) استغفر له وهو حي لوعد وعده، أنه يؤمن، فلما رآه لا يؤمن، وأنه متماد على الكفر تبرأ منه.
وقيل: لما مات على كفره، (ولم يؤمن)، تبرأ منه، وترك الاستغفار له، قال ذلك ابن عباس، وغيره.
وقال ابن جبير: إنما تبرأ منه في الآخرة، وذلك إنَّ إبراهيم عليه السلام يسأل في والده يوم القيامة ثلاث مرات، فإذا كانت الثالثة، أخذ بيده، فليتفت إليه، فيتبرأ منه.
و" الأَوَّاهُ " الدَّعَّاء.
3173
وقيل: الرحيم. قال ذلك قتادة، والحسن، وروي ذلك عن ابن مسعود.
وعن ابن عباس: أنَّه: الموفق، بلسان الحبشة، (وكذلك قال مجاهد وعطاء.
وعن ابن عباس أيضاً: " الأوّاه " بلسان الحبشة)، المؤمن التواب.
وقال كعب: " الأوَّاهُ " الذي إذا ذكر النار تأوّه.
وعن ابن جبير: أنه المُسبِّحُ، الكثير الذكر لله تعالى.
وروي ذلك عن النبي ﷺ.
وروي عن النبي، أنه قال لرجل: " يرحمك الله إن كنت لأواهاً " يعني
3174
تلاءً للقرآن.
وقال كعب " الأوَّاه " الكثير التَّأوُّهِ.
وعن مجاهد أيضاً: أنه الفقيه..
وروى شَدَّاد بن الهادي، قال رجل لرسول الله ﷺ،: ما لأواه فقال: المتضرع.
وفي حديث آخر: الخاشع المتضرع.
ومعنى ﴿حَلِيمٌ﴾، أي: حليم عمن ظلمه.
وعن النبي ﷺ، أيضاً " الأوّاه "، الدَّعّاء.
3175
وقال ابن مسعود.
وأصل " التأوه ": الترجُّع والتوجع بحزنه.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾، إلى قوله: ﴿مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
المعنى: ما كان الله ليضلكم بالاستغفار للمشركين، بعد إذ هداكم للإيمان، حتى يتقدم إليكم بالنهي عن ذلك، وبيِّنه لكم فتتقوه ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي: ذو علم بجميع الأشياء.
﴿إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾.
أي: له سلطان ذلك، لا رادّ لأمره، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، كل عبيده، وفي قبضته، فلا تجزعوا من قتال أعدائكم.
وهذا حض من الله على ما تقدم من ذكر القتال.
﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
أي: ليس لكم من ينصركم من عذاب الله إن خالفتم/ أمره فأراد بكم سوءاً.
قوله: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار﴾، إلى قوله: ﴿هُوَ التواب الرحيم﴾.
قوله: ﴿مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾، رفع القلوب عند سيبويه بـ: ﴿يَزِيغُ﴾، و ﴿كَادَ﴾، فيها إضمار الحديث.
ويجوز أن ترفع القلوب بـ: ﴿كَادَ﴾، ويكون التقدير: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ.
وقال أبو حاتم: من قرأ: ﴿يَزِيغُ﴾ بالياء، لا يجوز أن يرفع القلوب بـ: ﴿كَادَ﴾، وهو جائز عند غيره على تذكير الجمع.
والمعنى: لقد رزق الله رسوله الإبانة إلى أمره، ورزق المهاجرين وذراريهم
3177
وعشيرتهم الإنابة إلى أمره، ورزق الأنصار ذلك، ﴿الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة﴾ وهي غزوة تبوك، خرجوا في حر شديد، فاشتد عليهم العطش، فكانوا ينحرون إبلهم، ويعصرون كروشها، ويشربون ماءها، فهي العسرة التي لحقتهم، قال ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنهـ، فسأل أبو بكر النبي عليه السلام، أن يدعو، فدعا، فأمطروا فشربوا وملأوا ما معهم. قال عمر: ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وكانوا أيضاً في قلة من الظَّهر وقلة من مال.
قال مجاهد: أصابهم جَهْد شديد، حتى إنَّ الرجلين يشقان التمرة بينهما.
وقوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾.
أي: ليثبتوا على التوبة، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله﴾ [النساء: ١٣٦]، أي: اثبتوا على الإيمان.
3178
وقيل: المعنى: ثم فسخ عليهم، ولم يعجل عقابهم ليتوبوا.
وقيل المعنى: ثم وفقهم الله للتوبة.
يقال: " تاب الله عليه "، أي: دعاه إلى التوبة، و " تاب عليه "، أي: وفقه للتوبة، و " تاب عليه " قَبِل توبته.
وقوله: ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٦].
أي: وإما يوفقهم للتوبة.
وأصل التوبة في اللغة، الرجوع عما كان عليه.
وهي تكون بثلاث شرائط: الندم على ما كان منه، والإقلام عن المعصية، وترك الإصرار.
﴿والأنصار﴾ وقف.
ثم قال: ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾.
أي: وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، فلم يفعلوا فعل أبي لُبابة وأصحابه، إذ ربطوا أنفسهم في السواري، وقالوا: لا نَطْعم ولا نَحُل حتى يكون رسول الله ﷺ، هو
3179
يحلنا بتوبة من الله والثلاثة الآخرون الذين أرجأ أمرهم المؤمنون، فقال قوم: هلكوا، وقال قوم: عسى الله أن يتوب عليهم.
قال عكرمة وقتادة: خُلِّفُوا عن التوبة.
وقرأ عكرمة: " خَلَفُوا " أي: أقاموا بِعَقِبِ رسول الله ﷺ.
3180
قال محمد بن عرفة نفطوية: خلفوا عن أن يكونوا منافقين، ويعتذروا فيعذبوا؛ لأنهم صدقوا، ولم يأتوا بعذر كذب.
وقرأ جعفر بن محمد: " خَالَفُوا ".
قوله: ﴿حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾.
أي: بسعتها، غمًّا منهم وندماً على تخلفهم عن رسول الله ﷺ ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾.
أي: بما نالهم من الكرب ﴿وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ﴾، أي: أيقنوا أنه لا ملجأ من الله، أي: لا مهرب، ولا مستغاث منه، ﴿إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾، أي: لينيبوا إليه،
3181
ويرجعوا إلى طاعته، ﴿إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ أي: هو الوهّاب لعباده الإنابة إليه، ﴿الرحيم﴾، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة على ما سلف منهم قبل/ التوبة.
والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلا ل بن أمية، ومُرارة بن ربيعة، كلهم من الأنصار.
وفي رواية: مُرارة بن الربيع.
وفي أخرى: مُرارة بن ربْعي.
وقال ابن جبير: ربيعة بن مرارة، وهلال بن أمية، وكعب بن مالك.
وكان قد تخلف عن رسول الله عليه السلام، في غزوة تبوك بضع
3182
وثمانون رجلاً، فلما رجع أتاه قوم، منهم الثلاثة الذين ذكروا في الآية، فصدقوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم، وأتاه الباقون، فكذبوا وحلفوا واعتذروا، فوكل أمرهم إلى الله تعالى، وقال لأولئك الذين صدقوا: قُوما حتى يقضي الله فيكم، فنزل القرآن بتوبتهم، فقال: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾، الآية [التوبة: ١٠٢]، وقال: ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾، الآية.
قال كعب بن مالك: أتى، المخلفون فاعتذروا، فقبل منهم النبي ﷺ، ووكل سرائرهم إلى الله، تعالى، وجئت إليه فرأيته يبتسم تبسم المُغْضَب، ثم قال تعالى، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، وكنت لما سمعت بقدوم رسول الله ﷺ، حضرني بَثِّي على التخلف، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بما أخرج من سخطه غداً؟ فلما قدم النبي عليه السلام، زال عني الباطل حين عرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فلما جلست بين يديه، قال لي: ما خَلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: فقلت: يا رسول الله والله إنِّي لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سَخَطِه بعذر، لقد
3183
أُعطيت جدلاً.
ولكني والله لقد علمت أني لئن حدثتك اليوم بحديثٍ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنَّ الله أن يسخط علي، ولئن حدثتك حديث صدق، وتجد علي فيه، إني لأرجو عفو الله، والله ما كان لي عذر، ولله ما كنت قَطُّ أقوى ولا أيْسَر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله ﷺ: أمَّا هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك. فقمت، وفعل رجلان مثل ما فعلت، وكانا قد شهدا بدراً، فكا لي فيهم أُسوة. وأخذ الناس يقولون: ألا اعتذرت كما اعتذر غيرك، ثم تستغفر لك رسول الله ﷺ، فلم يزالوا بي (حتى) كدت أرجع إلى النبي ﷺ، فأُكذِّب نفسي. ثم نهى رسول الله ﷺ، عن كلامنا الثلاثة من بين من تخلف عنه. فاجتنبنا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرت إلى نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف.
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمَّا صاحباي فاستكَنَّا وقعدا في بيوتهما يبكيان،
3184
وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجلَدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوفُ الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ﷺ، وهو في مجلسه، فأسلم عليه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شتيه برد السلام؟ ثم أفكر في غيكره، ثم أبكي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عنِّي، ثم أمرني رسول الله ﷺ، باعتزال أهلي عند تمام أربعين ليلة في حديث طويل.
فلم يزل حتى نزلت توبته بعد خمسين ليلة مع توبة صاحبيه.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾.
والمعنى: يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله، ﴿اتقوا الله﴾، أن تخالفوه، ﴿وَكُونُواْ﴾، في الآخرة ﴿مَعَ الصادقين﴾ /، أي: مع النبي عليه السلام، وأصحابه.
3185
كذلك، قال زيد بن أسلم، والضحاك، وابن جبير.
قال الضحاك: ﴿مَعَ الصادقين﴾، مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
وقال ابن جريج: مع المهاجرين الصادقين.
وتأويل ذلك عند ابن مسعود: أن يَصْدُقوا في قولهم، وأنَّه نهي عن الكذب.
وكان يقرأ: " وكونوا مع الصادقين ".
3186
قوله: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله﴾.
يعني: في غزوة تبوك. أي لا ينبغي لهم ذلك، ولا ينبغي لهم [أن ﴿يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ] عَن نَّفْسِهِ﴾ في الجهاد. وإنما لم يكن لهم ذلك؛ لأنهم ﴿لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾، في سفرهم، أي: عطش، ﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾، أي: تعب: ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾، أي مجاعة ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾، تعالى: أي: في إقامة دين الله سبحانه ﴿وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار﴾، أي: لا يطئون أرضاً ﴿يَغِيظُ الكفار﴾، وطؤهم [إياها] ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾، أي: في أنفسهم وأموالهم وأولادهم، ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾، بذلك كله ثواب عمل صالح، ﴿إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾، أي: يجازيهم على أعمالهم.
وهذه الآية مخصوصة للنبي عليه السلام، لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا من عذر. فأما الآن فبعض الناس يحمل عن بعض. قاله قتادة.
3187
وقال ابن زيد: كانت إذا كان المسلمون قِلة فرضاً، فلما كثروا نسخها: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾، فأباح التخلف لمن شاء.
وقال الطبري معنى الآية: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين تخلفوا، أن يفعلوا ذلك، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه.
و" النَّيل " مصدر: " نالني [ينالني] نَيْلاً "، فأنا " مَنِيلٌ ".
وليس هو من " التَّنَاولِ "، لأن " التناول " من " النَّوَالِ " يقال منه: " نُلْتُ، أَنُولُ "، من العطية.
3188
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾.
أي: في سبيل الله وإظهار دينه ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾، أي: كتب لهم أجر عملهم ﴿لِيَجْزِيَهُمُ الله﴾، أي: فعل ذلك ليجزيهم أحسن عملهم، أي: يجزيهم جزاء كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ إلى قوله: ﴿مَعَ المتقين﴾.
المعنى: لم يكن لهم ليفعلوا ذلك، فظاهره خبر ومعناه نهي، أي: ما كان لهم أن يفعلوا ذلك، أي: لا يفعلوه، وذلك أن رسول الله ﷺ، بعث قوماً، ليعلموا الناس الإسلام، فلما نزل قوله: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله﴾، الآية، رجع أولئك من البوادي إلى النبي عليه السلام، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه.
فأنزل الله، تعالى، عذرهم: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾، وكره انصرافهم من البادية إلى المدينة، قال ذلك مجاهد.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾، هَلاَّ أتى للخروج من
3189
هؤلاء الذين يعلمون الناس ﴿مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾، ويبقى الباقون ليتفقه أهل البوادي في الدين ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ﴾، أي: يخبرونهم بما تعلموا ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، مخالفة أمر الله، سبحانه.
وقال ابن عباس المعنى: ما كان المؤمنون لينفروا في غزوهم جميعاً، ويتركوا نبيهم عليه السلام، ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾، يعني: السرايا، فلما رجعت السرايا، ونزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون من النبي عليه السلام، قالوا للسرايا: إن الله تعالى، قد أنزل على نبيكم عليه السلام، قرآنا بعدكم/ وقد تعلمناه. فتمكث السرايا يتعلمون مما أنزل بعدهم، ويمضي الآخرون الذين كانوا مقيمين للسرايا، فذلك قوله:
3190
﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾.
فمعنى الكلام: فهلاَّ نفر من كل فرقة طائفة لتيفقه المتخلفون في الدين ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ﴾، أي: ليعلم القاعدون القادمين من السرايا ما تعلموا في مغيبهم، وهو قول قتادة.
وقال: هذا في الجيوش أمره الله [أن] لا يُعَرُّوا نبيهم عليه السلام، وأن تقيم طائفة مع رسول الله ﷺ، تتفقه في الدين وتنطلق طائفة تدعو قومها إلى الله سبحانه، فإذا رجعوا علمهم المقيمون ما نزل بعدهم.
ومثل ذلك قال الضحاك.
وعن ابن عباس أيضاً: أنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا النبي عليه السلام، [على مُضر]
3191
بالسنين أجدبت بلادهم، فكانت القبيلة منهم تُقبل بأسرها إلى المدينة يعتلون في إقبالهم بالإسلام وليس كذلك، إنما بهم الجَهْد الذي نزل بهم، فأخبر الله، تعالى، نبيه عليه السلام، أنهم ليسوا من المؤمنين، وأنهم لو كانوا مؤمنين ما أتوا بأجمعهم، ولكن يأتي بعضهم يتفقه في الدين، ويعود فينذر من بقي لعله يحذر ما حرم الله سبحانه، فإتيانهم بجماعتهم يدل على أنهم إنما أتوا من أجل الجَهْد لا من أجل الإيمان.
وقال عكرمة: إنما هو تكذيب للمنافقين، وذلك أنه لما نزل: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله﴾، الآية، قال المنافقون: هلك من تخلف، فألحقوا من عذره الله في التخلف بمن لم يعذره الله سبحانه، فأنزل الله تعالى، عذراً ثانياً لمن تخلف من الأعراب بعذر، فقال ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾.
وقال الحسن: المعنى: لتتفقه الطائفة الغائبة، بما يؤيدهم الله تعالى، من
3192
الظهور على المشركين، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
أي: يخبر الغائبون في الجهاد الحاضرين، بما فتح الله تعالى، عليهم فيزداد إيمانهم، وهو اختيار الطبري. قال: تتفقه الطائفة النافرة بما ترى من نصر الله تعالى، ﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ﴾ أي: يخبرونهم بما فتح الله سبحانه عليهم فيحذرونهم أن ينزل بهم بأس الله، سبحانه.
ف: " قومهم " على هذا القول: من بقي من أهليهم مشركين، يحذرونهم ليؤمنوا، وهو قول الحسن.
وهذا الآي دليل على جواز قبول خبر الواحد.
وقد رُوي: أنها نزلت في أعرابٍ قدموا على رسول الله ﷺ، المدينة فَعَلَوْا الأسعار، وملأوا الطرق بالعَذِرَة فنزلت: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾.
3193
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار﴾.
والمعنى: أنَّها تحضيض من الله، تعالى، للمؤمنين، أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم. والمراد به يومئذ: الروم، لأنهم كانوا سكاناً بالشأم، والشأم أقرب إلى المدينة من العراق. والفرض على أهل [كل] بلد أن يقاتلوا من يليهم دون الأبعد منهم، إلا أن يضطروا إلى ذلك، فيقاتلون الأبعد دون الأقرب.
وقد سئل ابن عمر عن قتال الروم والدَّيْلَم.
فقال: الروم أولى.
وكذلك قال الحسن.
3194
ثم قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾[ ١٢٣ ].
والمعنى : أنها تحضيض١ من الله عز وجل، للمؤمنين، أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم. والمراد به يومئذ : الروم، أنهم كانوا سكانا بالشأم، والشأم أقرب إلى المدينة من العراق. والفرض على أهل [ كل ]٢ بلد أن يقاتلوا من يليهم دون الأبعد منهم، إلا أن يضطروا إلى ذلك، فيقاتلون الأبعد دون الأقرب٣.
وقد سئل ابن عمر عن قتال الروم والديلم٤.
فقال : الروم أولى٥.
وكذلك قال الحسن٦.
قوله :﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾[ ١٢٣ ].
أي : وأيقنوا أن الله عز وجل، معكم عند قتالكم لهم ما اتقيتموه٧.
١ حضضه تحضيضا: حرضه..
٢ زيادة من "ر"..
٣ جامع البيان ١٤/٥٧٤، ٥٧٥ باختصار وينظر مزيد بيان في تفسير ابن كثير ٢/٤٠١، ٤٠٢..
٤ الديلم من عشائر العراق من زبيد.... ، وهي غربي الفرات، وتنقسم إلى أفخاذ انظر: معجم قبائل العرب ٤/١٨٩، ١٩٠..
٥ جامع البيان ١٤/٥٧٥، وتفسير الماوردي ٢/٤١٥، وأحكام القرآن لابن العربي ٢/١٠٣٢، وصححه لأوجه ذكرها، وزاد المسير ٣/٥١٨، والدر المنثور ٤/٣٢٤. وتنظر: حكمة البدء من الأقرب إلى الأبعد فالأبعد في تفسير الرازي ٨/٢٣٤، ٢٣٥، وقيله يمكن أن تؤسس عليه فهوم ناجعة تنفع في البناء الحضاري..
٦ المحرر الوجيز ٣/٩٧، بلفظ: "... ، وقال الحسن: هم الروم والديلم. يعني في زمنه ذلك. ونقله عنه أبو حيان في البحر ٥/١١٧، وينظر: جامع البيان ١٤/٥٧٥، ٥٧٦ن والدر المنثور ٤/٣٢٤.
وهناك أوال أخرى تنظر: في تفسير ابن أبي حاتم ٦/١٩١٣، ١٩١٤، وتفسير الماوردي ٢/٤١٦، وزاد المسير ٣/٥١٨، والبحر المحيط ٥/١١٧، والدر المنثور ٤/٣٢٤..

٧ انظر: تفسير الرازي ٨/٢٣٦، وتفسير ابن كثير ٢/٤٠٢. وكلامه نفيس، فتأمله..
قوله: ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾.
أي: وأيقنوا أن الله تعالى، معكم عند قتالكم لهم ما اتقيتموه.
قوله: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ﴾، إلى قوله: ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾.
والمعنى: وإذا ما أنزل الله تعالى، سورة من القرآن، فمن المنافقين من يقول: أيكم أيها الناس، زادته، / هذه السورة إيماناً؟
أي: تصديقاً بالله وآياته، قال الله تعالى، عن نفسه، ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.
أي: وأما الذين آمنوا من الذين قيل لهم ذلك، ﴿فَزَادَتْهُمْ﴾، السورة ﴿إِيمَاناً﴾، وهم يفرحون بما أعطاهم الله تعالى، من الإيمان واليقين.
ومعنى زيادة الإيمان هنا: أنهم قبل نزول السورة لم يكن لزمهم فرض ما في السورة التي نزلت. فلما نزلت قبلوها والتزموا ما فيها من فرض، فذلك زيادة في إيمانهم الأول.
وقال الربيع: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾، أي: خشية.
3195
﴿وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾.
أي: شك في دين الله، سبحانه ﴿فَزَادَتْهُمْ﴾ السورة إذا نزلت، ﴿رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾، أي: كفراً إلى كفرهم، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله، سبحانه، ولم يؤمنوا بها، فازدادوا كفراً على كفرهم المتقدم، ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾، أي: بالله، سبحانه، وآياته، جلت عظمته.
قوله: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾.
من قرأ بالياء، فهو توبيخ لهم، والمعنى: أو لا يرى هؤلاء المنافقون ذلك؟
ومن قرأ بالتاء، فمعناه: أو لا ترون، أيها المؤمنون، ما ينزل بهم في كل عام؟
ومعنى ﴿يُفْتَنُونَ﴾، يختبرون في بعض الأعوام مرة، وفي بعضها مرتين، ﴿ثُمَّ﴾، هم مع البلاء الذي يحل بهم ﴿لاَ يَتُوبُونَ﴾ من نفاقهم وكفرهم، ولا يذكرون ما يرون
3196
من الحجج لله، تعالى، فيتعظون بها.
و" الاختبار " هنا، قيل: بالجوع والجدب.
وقال قتادة، والحسن: يختبرون بالغزو والجهاد.
وقيل: إنه هو ما كان يُشيعَ المشركون من الأكاذيب على رسول الله ﷺ، وأصحابه، فيفتتن بذلك من في قبله مرض.
وقال حذيفة: كنا نسمع كذبة أو كذبتين، فيفتتن بها فئام من الناس.
3197
يريد حذيفة أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل إسلامهم.
قوله: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾ الآية.
والمعنى: وإذا ما أنزل الله تعالى، سورة، وهم جلوس عند النبي عليه السلام، فكان فيها إظهار سرهم ﴿نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾، هل رآكم أحد إذ قلتم وتناجيتم، ثم قاموا فانصروا ولم يسمعوا قراءته.
وقيل: المعنى: إذا ما أُنزلت سورة فيها أسرارهم، ﴿نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ﴾، أحد إن قمتم، فإن قالوا: نعم، قاموا ولم يسمعوا القرآن.
﴿صَرَفَ الله قُلُوبَهُم﴾، أي: عن الخير والتوفيق، ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾، أي: لا يفقهون عن الله، تعالى، مواعظة، استنكاراً ونفاقاً.
وقد كره ابن عباس: أن يقال: " انصرفنا من الصلاة "، قال: لا يقال ذلك، فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: " قد قضينا الصلاة ".
وقيل عنه: ولكن قولوا: " قد صلينا ".
ومعنى: ﴿نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾: [قال بعضهم إلى بعض]، ولذلك قال: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾، ولو كان من نظر العين لم يؤت بـ: " هل " بعده.
وقيل: النظر هنا، إنما النظر الذي يجلب الاستفهام، كقولك: " قد تناظروا أيهم أعلم "، و " أجتمعوا أيهم أفقه "، أي: لينظر أيهم أفقه.
قوله: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾، إلى آخر السورة.
المعنى: لقد جاءكم، / أيها المؤمنون وأيها العرب، ﴿رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾، أي: تعرفونه، لا من غيركم فتتهموه في النصيحة لكم.
3199
وقيل معنى ﴿أَنفُسِكُمْ﴾ بشر مثلكم.
﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾.
أي: ما عنتكم، أي: ما أدخل عليكم المشقة.
وأصل " النعت ": الهلاك.
3200
وقيل معنى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾، أي: عزيز عليه أن تدخلوا النار، ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾، أن تدخلوا الجنة.
وقيل معنى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾، أي: حريص على هدى ضُلاَّلِكُم وتوبتهم.
وقال قتادة: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي: عزيز عليه عَنَت مؤمنيكم.
وقال ابن عباس ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾: ما ضللتم.
وقال قتادة: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾، أي: حريص على هُدَى ضُلاَّلِكُم.
وهذا مخاطبة لأهل مكة.
3201
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾.
أي: إن تولى هؤلاء يا محمد، عن الإيمان، ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ الله﴾، أي: يكفيني الله، ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾.
قال أبيُّ بن كعب: آخر آية نزلت:
﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ﴾، إلى آخر السورة.
﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾، وقف تام عند الأخفش، لأن هذا مخاطبة لأهل مكة، وقوله: ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ (رَّحِيمٌ)﴾، لكل المؤمنين.
3202
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
السفر الثالث
من سورة يونس إلى سورة مريم وبالله التوفيق ولا رب سواه]
3203
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الِعيَالَ فَلَمْ يُتْركْ لَهُ سَبَدُ