ﰡ
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)المعنى هذه الآيات، تلك الآيات. " المُبينُ " الذي وعدتم به في التوراة
كما قال: (الم ذلك الكتاب).
* * *
وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)
هذه الهاء تصلح لشيئين، أحدهما أن تكون للكتاب، المعنى إنا أنزلنا
الكتاب قرآناً عربياً.
ومعنى (قُرْآنًا) مجموع، ويجوز: أن يكون (إنا أنْزَلنَاهُ) أي أنزلنا خبَرَ يُوسُفُ وقِصتَهُ.
ويروى أن علماءَ إليهود قالوا. لِكُبَراءِ المُشْرِكين: سَلُوا محمداً لم انتقل
آلُ يعقوبَ من الشام إلى مصر، وعن قصة يُوسُفَ فقال اللَّه عزَّ وجلَّ:
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا).
ودليل هذا القول قولُه - عزَّ وجلَّ -: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧).
* * *
وقوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣)
(بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ).
أي بِوَحْيِنَا إلَيْكَ هذا القرآنَ.
القراءةُ نصبُ القرآنِ ويجوز الجر والرفْع جميعاً.
ولا أعلم أحداً قَرأ بهما.
فأمَّا الجر فعلى البدل من قوله: (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) فيكون المعنى نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن، ولا تَقْرأنَّ بها.
والرفع على ترجمة مَا أِوْحَيْنا إليك، كان قَائِلًا قال: ما هو؟
وما هذا فقيل هذا القرآن، ولا تقرأنَّ بها أيضاً.
(وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
أي من الغافلين عن فصة يوسف وإخوته، لأنه عليه السلام إنما عَلِمَ
ذلك بالوحي.
* * *
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤)
يجوز أن يكون موضع " إذْ " نَصْبا.
المعنى نَقصُّ عليك إذْ قال يوسف لأبيه
ويجوز أن يكون على معنى اذكر إذ قال يوسف لأبيه.
(يَا أَبَتِ إِنِّي).
في قوله: (يَا أَبَتِ إِنِّي) قراءتان: (يَا أَبَتِ إِنِّي)، (يَا أَبَتَ إِنِّي) - بالخفض
والنصب. وأجاز بعض أهل العربية يا أبةُ إنِّي.
فمن قرأ (يَا أَبَتِ إِنِّي) - بكسر التاء - فعلى الإضافة إلى نفسه وحذف
الياء، لأن ياء الإضافةِ تحذف في النداء، وقد ذكِرَ ذَلِكَ فيما سلف من
قد سمّي باسم لِمؤنَثٍ فِيه عَلَامَة التأنِيثِ، وُيوصَفُ بما فيه هاء التانبث.
فأما المذكر الذي يسمى بِمُؤنث فقولهم عين ونفس يراد به الرجل.
وأما الصِّفة فقولهم غلام يَفَعَة، ورَجُل رَبْعَة.
والتاء كثرت ولزمت في الأب عوضاً من تاء الِإضافة.
والوقف عليها يا أبَهْ وإن كانت في المصحف بالتاء.
وزعم الفراء أنك إذا كسرت وقفت بالتاء لا غير، وإذا فتحت وقفت بالتاء والهاء، وَلَا فرق بين الكسر والفتح.
وزعم قطرب أن الفتح على جهات:
إحْداها أنك أردت يا أبة ثم حذفت التنْوينَ، وعلى يَا أبَتاه وَعَلَى قول قولُ الطرماح.
يا دارُ أقْوَتْ بعد أَصرامِها... عاماً وما يُبْكِيكَ من عامِها
وهذا الذي قاله قطرب خطأ كله.
التنوين لا يحذف من المنادى
في حال النصب وأما قوله: يا دارَ أقوت، بنصب الدارِ - فلم يَرْوِه أحَد من
أصحابنا ولا أعْرفُ له وجهاً.
أنشد سيبويه والخليل وجميع البصريين يَا دَارُ أقْوتْ، بضَم الراء.
وأما يا أبتاه، فالنُّدبة ههنا - لا معنى لها.
ولكن الفَتْحَ يجوزُ على أنه أبْدَلَ من تَاء الإضافة ألفاً ثم حذف الألف
وبقيت الفتحة، كما تحذف بالإضافة.
وَأمَّا " يَا أبةُ إني " بالرفع فلا يجوز إلا على ضعف، لأن الهاء ههنا جعلت
بدلاً من ياء الإضافة.
(إني رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً).
القراءة بفتح العين وفتح جميع الحروف في أحَدَ عَشَر.
وقد روي بتسكين العين في القراءة: (أحَدَ عْشرَ كوكَباً "
قرأ بها بَعْضُ أهلِ المدينة وهي غير منكرة مَا كَانَ قبل العين حرف متحرك لكثرة الحركات في قوله أحَد عَشَر
فأمَّا اثنا عَشَرَ فلا يجوز فيها. الإسكان في العين.
وقد رويت لغة أخرى وهي، أحد اعْشرَ وهذه الرواية في الرداءة وتَرْكِ الاستعمال بمنزلة الحمدِ للَّهِ، لا يلتفت إليها.
فأمَّا التسكين في العين فقراءة صحيحة كثيرة ولكنَّ سيبويه والخليلَ
وجميعَ أصحابهم لا يجيزون إلا فتح العين، إلَّا أن قُطْرُباً قد روى إسكان
العين ورواه الفراء أيضاً، وقد قُرئ به.
فأمَّا ما لا اختلاف فيه ففتح العين.
و (كوكباً) منصوب على التمييز.
فكرر رأيتهم توكيداً، المعنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقَمَرَ لِي
سَاجِدين فكرر (رأيتهم) لَما طال الكلام.
فأمَّا قوله (سَاجِدِين) فحقيقته فِعْلُ كُلِّ ما يعقل، وجَمعُه وجمعُ
ضميرَه بالواو والنون في الرفع، والياء والنون في النصب والجر.
فإذا وصف غير الناس والملائكة بأنه يعبد ويتكلم فقد دخل في المُمَيزين وصار الِإخْبَارُ عنه كالإخبَارِ عنهم.
فمن ذلك قوله: (قَالَت نَمْلَةٌ يا أنها النمْل ادْخلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
وقوله: (بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)
وقال: (وَكل في فَلَكٍ يَسْبَحُون).
فَالوَاوُ والنونُ دَخَلَتَا لما وَصَفْنَا مِنْ دخولهم في التمييز، والألف والتاء
والنون لكل مؤنث ولكل مَوَاتٍ لا يَعقل غَيْرِ المميزين، فإذا جَعَلَ اللَّه عزَّ وجل غير المميزة كالمميزَةِ فكذلك تكون أفعالُها والأنْباء عنها.
* * *
وقوله: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
معناه يختارك ويصطفيك، وهو مشتق مِنْ جَبَيْتَ الشَيءَ إذَاحَصَّلْتَه
لنفسِكَ، ومنه جَبَيْتُ الماءَ في الحوض.
وموضع الكاف في قوله " كذَلِكَ "
نصبٌ، المعنى ومثل مارأيتَ تأويلَه، (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)
والأمَمِ، يعني الكتب وكلاهما جائز - واللَّه أعلم -.
(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ).
المعنى يتمها كما أتمها على أبويك، فقد فَسَّر لَهُ يَعْقوبُ الرؤيا.
والتأويل أنه لما قال له إني رأيت أحد عشر كوكباً والشَمْس والقَمَرَ رَأيْتُهمْ لي
سَاجِدين، فتأوَّلَ الأحَدَ عَشَرَ كوكباً أحَدَ عَشَرَ نفْساً لَهُمْ فَضْل وأنهم يُسْتضَاءُ بهمْ، لأنَّ الكَواكِب لَا شيءَ أضْوأ مِنْهَا وبها يُهْتَدَىَ.
قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (وبالنَّجْمِ هُمْ يَهتدُون).
فتأول الشمس والقَمَرَ أبَويه. فالقمرُ الأبُ والشمسُ
الأم والأخذ عَشرَ كَوْكَباً إخْوَتُه، فتأوَّل له أنه يكون نَبِيًّا، وأن إخوته يكونون أنبياء لأنه أعْلَمَهُ أن اللَّه يُتمُّ نعمتَه عَلَيْه وَعَلَى إخْوَته كما أتَمَّها على أبَويهِ إبراهيمَ وإسحاقَ، فإتمام النعمَةِ عَلَيْهِم أن يكونوا أنْبِيَاء إذ قال:
(كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ).
وقوله: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ).
الرؤيا فيها أربعُ لغاتٍ "
رُؤْيَا بالهمز، ورويا بالواو بلا همز، وهاتان يُقْرأُ بِهمَا ورُيَّاك بالإدغامِ، ورِيَّاك بكسر الراء - وَلاَ تَقْرأ بهَاتَيْنِ.
ويوسف فيه لغتان، يوسُفُ بضم السِّينِ ويوسف بكسر السِّينِ وكذلك
يُونُس، وُيونِس. وحَكَوْا يُونَسَ بفتح النُونِ، حكاها قطرب وهي شاذة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)
(آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)
وَقُرِئَتْ آية. ومعناه عِبْرَةُ، وقَدْ رُويت في غير هذا المصحف عِبْرة
للسائلين، وهذا معنى الآية.
ويجوز أن تكون " آية " بَصِيراً للسائلين الذين
وهو عنها غافل لم يقْرأ كتاباً ولم يأته إلا من جهة الوحي
جَوَاباً لهم: حين سألو.
* * *
وقوله: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨)
أي: إِنَّ أَبَانَا قَدَّمَ اثنين صَغِيريْن في المَحبَّةِ عَلَيْنا، ونحن عُصْبَة، أي جماعة نفعنا أكثر من نفع هذين.
(إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
هذا موضع ينبغي أن يُتَفَهَّمَ، إنما عَنَوْا أن أبَاهُمْ ضَالٌّ في محبَّة هذين
ولَوْ وَصَفُوه بالضلالة في الدين كانوا كُفَاراً.
والعُصْبةُ في كلام العرب العَشِيرةُ ونحوهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩)
(وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).
أي تَتُوبونَ من بعد قتله.
وقوله: (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا).
معناه - والله أعلم - أرضاً يَبْعدُ بها عن أَبِيه لأنَّه لن يَخْلُوَ مِن أَنْ يكونَ
في أرض.
قوله: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ).
يدل على أنَّهم تآمروا في أن يَطْرحُوه في أَرض لا يَقْدِرُ عليه فيها أبوه
و (أَرْضًا) منصوب على إسقاط (في) وإفْضَاءِ الفِعْل إليها.
لأن (أَرْضًا) لَيْسَتْ من الظروف المبْهِمة.
* * *
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠)
الغَيابَةُ كل مَا غَابَ أَو غَيبَ عَنْكَ شيئاً، قال المنخل:
والجب البئر التي ليست بمطويَّةٍ، وسُمّيتْ جُبًّا من أنها قُطِعَتْ قَطْعاً.
ولم يحدث فيها غير القطع، مِنْ طيٍّ وما أشْبَههَ.
وروَوْا أن اسم الذي أشارَ عَليهم بِألَّا يَقْتلوهُ يَهُوذَا، وَكانَ مِنْ
أَشَدهم.
(يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ).
هذا أكثر القراءة - بالياء - وقرأ الحسن تلتقطه بالتاء، وأجاز ذلك جميع
النحويين، وزعموا أن ذلك إنما جاز لأن بعض السيارة سيَّارةٌ، فكأنَّه قال:
تلتقطه سَيَّارةُ بعض السَّيَّارَةِ.
وأنشدوا:
وتشرق بالقول الذي قد أذعَتَهُ... كما شرِقتْ صدرُ القناة من الدم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١)
(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ).
قرئت على أربعة أوجُهٍ (١)، على إشْمَامِ الميم الضَّمَّ - تأمنُنا، وعلى
الِإدغام وترك الإشمام، (تَأْمَنَّا)، وقرئت (تأمَنُنَا) بنونَين وضمة بينهُمَا.
وقرأ يحيى ابن وَثَّابِ تِيْمَنَّا.
وقراءة يحيى تخالف المصحفَ، وهي في العَرَبيةِ جَائزةٌ
بكسر التاَء في كل ما ماضيه على فَعِلَ نحو أَمِنَ - يا هذا - والإِدغام لأن
الحرفين من جنس واحدٍ
قوله تعالى: ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾: حالٌ وتقدَّم نظيرُه. وقرأ العامَّة «تأمَنَّا» بالإِخفاء، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين، لا أنَّ النونَ تُسَكَّن رَأْساً، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً. قال الداني: «وهو قولُ عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس».
وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا: وتكون الإِشارة إلى الضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا مِنْ جُمْلتها، ومنها إشراب الكسرةِ شيئاً مِن الضم نحو: ﴿قِيلَ﴾ [البقرة: ١١] و ﴿وَغِيضَ﴾ [هود: ٤٤] وبابه، وقد تقدم أولَ البقرة. ومنها إشمامُ أحدِ حرفين شيئاً من الآخر كإشمام الصاد زاياً في ﴿الصراط﴾ [الفاتحة: ٥]: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ [النساء: ٧٨] وبابهما، وقد تقدم ذلك أيضاً في الفاتحة والنساء. فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة. ومنها الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى.
وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ. وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب. اتفق الجمهورُ على الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز «لا تَأْمُنَّا» بضم الميم، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ إدغامها بعد سَلْب الميمِ حركَتها، وخطُّ المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها.
وقرأ أبو رزين وابن وثاب «لا تِيْمَنَّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ سَهَّل الهمزةَ. قال الشيخ: «ومجيئُه بعد» مالك «والمعنى يُرْشد إلى أنه نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم» ما أَحْسَنَنا «في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ بالنفي». قلت: وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه. وقوله «لالتبس بالنفي» صحيح.
اهـ (الدر المصون).
مفتوحةٌ فلا تُغَيَّر، والإِظهار في " تأمَنُنا " جيِّدٌ، لأن النونين من كلمتين.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢)
(غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)
بالياء، وقُرئت (نرتع ونلعب) بالنون، وَقُرئَتْ يُرْتَع ويُلْعَب - بضم الياء -
وقرئت نَرْتَع ونَلْعَبْ. فجَزْمُ هذه القراءاتِ. كُلِّها على جواب الأمر (١).
المعنى أَرْسلْهُ إنْ ترْسله يرتِعْ، وكذلك يُرْتَع، وكذلِك يَرْتَع وَيلْعَبْ - بكسر العين -.
وكسر العين من الرعْي، المعنى يَرْتَعِي ويلْعَبْ، كأنهم قالوا يرعى ماشيَتهُ
وَيلْعبْ، فيجتمع النفْعُ والسرورُ، وَيرْتَعُ من الرتْعَة، أي يتسع في
الخصب، وكل مُخْصِبٍ فَهُوَ رَاتِع.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)
(وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ).
وقرئت غَيَابَاتِ الْجُبِّ، وقد فسرنا الْجُبَّ.
وجاء في التفسير أَنها بئر بَيْتِ المَقْدِسِ.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
هذا جائز أن يكون من صلة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وهم لا يشعرون.
وجائز أن يكون من صلة " وأوحينا "
المعنى: وأوحينا إليه وهم لَا يشعرون - أي أنبأناه بالوحي
وهم لا يشعرون أنه نبيٌّ قد أُوحي إليه.
* * *
(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦)
(عِشَاءً) منصوب على الظرف.
(إنا ذَهَبْنَا نَسْتَبقُ).
وقِيلَ نَنْتَضِلْ
قوله تعالى: ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾: فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها: قراءةُ نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين. الثانية: قراءةُ البزي عن ابن كثير «نَرْتَع ونلعب» بالنونِ وكسرِ العين. الثالثة: قراءةُ قنبل، وقد اخْتُلِفَ عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلاً وَوَقْفاً وحَذْفُها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان. الخامسة: قراءة أبي عمرو وابن عامر «نرتَعْ ونلعبْ» بالنون وسكون العين والباء. السادسة: قراءة الكوفيين: «يرتعْ ويلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباء.
وقرأ جعفر بن محمد «نرتع» بالنون «ويلعب» بالياء، ورُوِيَتْ عن ابن كثير. وقرأ العلاء بن سيابة «يَرْتَع ويلعبُ» بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء. وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن «نُرْتَعْ» بضم النون وسكون العين والباء. وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما. والنخعي ويعقوب «نرتع» بالنون و «يلعب» بالياء. والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل.
وقرأ زيد بن علي «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء مِنْ تحت مبنيّين للمفعول. وقرىء «نرتعي ونلعبُ» بثبوت الياء ورفع الباء. وقرأ ابن أبي عبلة «نَرْعي ونلعب» فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ.
فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه دونهم، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة، وجعله مأخوذاً [مِنْ] يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي. ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد أنه جَزَمَهَ بحذف الحركة وجعله مأخوذاً مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال:
٢٧٤٧.................... وإذا يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ
ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزوماً، ومَنْ رفعها جعله مرفوعاً على الاستئناف أي: وهو يلعب، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في «يلعب» دون «نرتع» فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار. ومَنْ قَرَأَ: «نُرْتِع» رباعياً جعل مفعوله محذوفاً، أي: نُرْعي مواشِينَا، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر/ المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد، والأصل: نرتع فيه ونلعب فيه، ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار: نرتعه ونلعبه، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعاً واستتر في رافعه، فهو في الاتساع كقوله:
٢٧٤٨ ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً.......................
ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن، وتكون حالاً مقدرة. وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتعي» مع جزم «نلعب» وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها، وقال ابن عطية: «هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر» وقيل: هي لغةُ مَنْ يجزم بالحركة المقدرة وأنشد:
٢٧٤٩ ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي....................
وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً.
و «نَرْتع» يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى، ويكون على حَذْف مضاف: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء قال:
٢٧٥٠ تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا... رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ: رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى: «القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة» وقال الشاعر:
٢٧٥١ أكفراً بعد رَدِّ الموت عني... وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا.
اهـ (الدر المصون).
(فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)
أي بمصدِّق لَنَا.
(وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ).
ليس يريدون أنَّ يَعْقُوبَ - عليه السلام - لا يُصَدِّق من يَعْلَم أنه صادق، هذا مُحال، لاَ يُوصَفُ الأنْبِياءُ بذلك، ولكن المعنى: لو كنا عندك من أهل الثقَةِ والصدْق لاتهَمتَنا فِي يُوسُفَ لمحبَّتِكَ إيَّاهُ، وظننت أنا قد كَذَبْنَاكَ.
* * *
وقوله: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨)
يروى أنهم - رحمة " اللَّه عَلَيْهِم - لمَّا طَرَحُوا يُوسُفَ عليه السلام في
الْجُبِّ أخَذوا قميصَه وذَبَحوا جَدْياً فلطخوا القميصَ بدم الجَدْي.
وقيل سخْلَة.
والمعنى واحد، فلما رأى يعقوب - ﷺ - القميصَ قال: كَذَبْتُم، لو أكله الذئبُ لخرقَ قمِيصَهُ.
وقيل إنه قال إِنْ كَان هَذا الذئبُ لحلِيماً، أشْفقَ على القميص
فلم يمزقْهُ، وأَكَل ابني فالدَّمُ دمٌ كذِب، أَيْ ذُو كذِبٍ، والمعنى دم مكذوب
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا).
أي بل زَيَّنَتْ أنفسُكم أَمْراً في قِصةِ يوسُفَ
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
معناه صبر لا جَزَع فيه ولَا شَكْوى إلى النَّاسِ.
وصبر جميل مرفوع على ضرِبَيْنِ:
المعنى فشأني صَبْر جَميل، والذي أعتقده صبرٌ جميل، ويجوز أن
يكون عَلَى " فصَبْرِي صبر جَميلٌ "
وهذا لفظ قُطْربُ: فَصَبْري صَبرٌ جَميل.
والأول مذهب الخليل وجميع أصحابه.
ويجوز في غير القرآن فصَبْراً جميلاً.
وأنشدوا في الرفع:
صبرٌ جُمَيْلٌ فكِلانا مُبْتَلى
وصبراً جميلاً منصوب على مثل (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا).
* * *
وقوله: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩)
الوارد الذي يرد الماء ليسقي للقوم.
(فَأَدْلَى دَلْوَهُ).
يقال: أَدْلَيْتَ الدلْوَ إذَا أرْسلتَها لتملأها، وَدَلَوْتَها إذَا أخرجْتَها.
(قَالَ يَا بُشْرَايَ) (١).
بألف وياء مفتوحة، وقرئت يا بُشْرَيَّ، وقد فسرناها في قوله: (فَمَنْ تَبعَ
هُدَايَ)، وتفسيرها أن ياء الإضافة تغيِّر ما قبلها ولا يُبَينُ معها
الإعراب، فإذا كان قبلها ألف فالاختيار أَلَّا تغير الألف، وبعض العرب يبدل الألف معها ياء، فيكون بدَلَها بمنزلة تغيير الحروف قبلها.
وقرئت: (يا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ)، بغير ياء.
ومعنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب ولا تعقل إنما هو على تنبيه
المخاطبين، وتوكيد القصةِ.
إذا قلتَ يا عجَباهُ فكأنك قلت: اعجبوا ويا أيها
العجبُ هذا مِنْ حِينكَ.
وكذلك إِذَا قال يا بُشراي فكأنَّه قال: أبشروا، وكأنه
قال يا أيتها البشرى هذا من إِبَّانِكِ وأوَانِكِ.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً).
لَمَّا وجدُوهُ أحبوا أَنْ لَا يُعْلَم بأنه مَوجُودٌ، وأَن يُوهِمُوا أنه بضاعة دفعها
قوله: ﴿يابشراى﴾ قرأ الكوفيون بحذف ياء الإِضافة، وأمال ألفَ فعلى الأخوان، وأمالها ورش بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشهرَ عنه عدمُ الإِمالة، وليس ذلك مِنْ أصله على ما قُرِّر في علم القراءات. وقرأ الباقون «يا بشراي» مضافة لياء المتكلم، ونداء البشرى على حدِّ قولِه: ﴿ياحسرتا على﴾ [الزمر: ٥٦] ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠] كأنه يقول: يا بشرى هذا وقتُ أوانِ أن تُنادَيْ ويُصاحَ بكِ. ومَنْ زعم أنَّ «بشرى» اسم رجل كالسدِّي فقد أَبْعَدَ.
وقرأ ورش عن نافع «يا بُشْراْيْ» بسكون الياء، وهو جمعٌ بين ساكنين في الوصل، وهذا كما تقدم في ﴿وَمَحْيَايَ﴾ [الأنعام: ١٦٢]، فعليك بالالتفات إليه. وقال الزمخشري: «وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حَدِّه إلا أن يَقْصِدَ الوقف».
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن: «يا بُشْرَيَّ» بقلبِ الألفِ ياءً وإدغامها في ياء الإِضافة وهي لغة هُذَلِيَّة تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة عند قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ﴾ [البقرة: ٣٨]. وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن يا بُشْرَيَّ بالياء مكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإِضافة وهي لغة للعرب مشهورة، سمعت أهلَ السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومَوْلَيَّ».
اهـ (الدر المصون).
بضاعةً.
* * *
وقوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
قيل بخس: ظلم، لأن الإنسانَ الموجود لا يحل بيعُه، وقيل: بخس
نقصان، وأكثر التفسير على أن بخساً ظلماً.
وجاء في التفسير أنه بيع بعشرين درهماً، وقيلَ باثنَيْن وَعِشرينَ دِرْهماً
أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وقيل بأربعين درهماً، ورُوِيَ كُل ذَلكَ.
وقوله (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
(فيه) ليست بصلة الزاهدين، المعنى: وكانوا من الزاهدينَ ثم بيَّن في
أي شيء زهدوا.
فكأنَّه قال: زهدوا فيه، وهذا في الظروف جائز.
فأما المفعولات فلا يجوز فيها، لا يجوز كنت زيداً من الضاربين، لأن زيداً من
صلةِ الضاربين فلا يتقدم الموصول صلته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١)
مصر مفتوحة في موضع الجر إلا أنَّها لا تَنْصَرِفُ، لأنها اسم والمدينة
بعينها، وهي معرفة
(لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا).
(مَثْوَاهُ) مُقَامُه. المعنى أحسني إليه في طول مُقامِه عنْدَنَا.
ويروى أنَّ أَفْرَسَ الناس ثلاثة، وأن أجودهم فراسة العزيز في فراسته في
(يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)
وأبو بكر في تَوْليتهِ عمرَ الخلافة بعدَهُ.
وقوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ)
أي ومثل الذي وصفنا مَكنا ليوسف في الأرضِ.
(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
جائز أن يكون تأويل الرؤيَا، وأن يَكُونَ تأويل أحاديثِ الأنْبِيَاءِ.
* * *
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
الأشُدُّ من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين، آتيناه حُكْماً وعِلْماً.
أي جَعَلْنَاه حَكيماً عَالِماً، ولَيْس كل عالمٍ حَكِيماً.
الحكيم العالِمُ المستعملُ علمَه، الممتنع من استعمال ما يُجَهَّلُ فيه.
وأصل أَحْكَمْتُ افي اللغَةِ مَنَعْتُ، ومن هذا حَكَمَةُ الذَائةِ، لأن الفارس
يمنع بها الدائةَ من إرَادَتِها.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
أي ومثل مَا وَصَفْنَا من تعليم يوسفَ نَجْزي المُحْسِنينَ.
* * *
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
المعنى أنها رَاوَدْته عما أرادَتْه مما يريد النساء من الرجَالِ، فَعُلِمَ بِتَرْكِهِ
ذكرَ الفَاحِشَةِ نفسها ما راودته عليه (١).
(وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ).
المعنى هَلُمَّ لَكَ، أي أَقْبل إلى مَا أَدعوكَ إليهِ.
قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾: أي: طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ، والمُراوَدَةُ المصدر، والرِّيادة: طَلَبُ النِّكاح، ومشى رُوَيْداً، أي: ترفَّق في مِشْيتِه، والرَّوْدُ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها، ورادَتِ المرأةُ في مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه، والإرادةُ منقولةٌ مِنْ راد يرود إذا سعى في طلب حاجة، وقد تقدَّم ذلك في البقرة، وتعدى هنا ب «عن» لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ، أي: خادَعَتْه عن نفسه، والمفاعلةُ هنا من الواحد نحو: داوَيْتُ المريض، ويحتمل أن تكون على بابها، فإنَّ كلاً منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها التركَ. والتشديد في «غَلَّقَتْ» للتكثير لتعدُّد المجال.
اهـ (الدر المصون).
هيتَ - بفتح التاء - ورُوِيتْ عنْ علي صلوات اللَّه عليه: هِيتِ لَكَ فأمَّا الفتحُ مع فتح التاء والهاء، فهو أكثر كلام العرب.
قال الشاعر:.
أبلغ أمير المؤمنين... أخا العِراقِ إذا أَتَيْتَا
أنَّ العِراقَْ وأهْلَهُ... عُنُق إليكَ فهيْتَ هَيْتا
أي فأقبل وتعالَ.
وحكى قطرب أنه أنشده بعض أهل الحجاز لطرفة بن العبد:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما... قال داع من العشيرةِ هَيْت
هم يُجيبونَ ذَا هَلُمَّ سرَاعاً... كالأبَابِيلِ لا يُغَادَرُ بَيْتُ
رُوَيتْ عن ابن عباسٍ هِئْتُ لَكَ مهموزةً مكسورة الهاء، من الهَيْئةِ
كأنها قالت تَهَيأتُ لك، فأما الفتح في (هيْتَ) فلأنها بمنزلة الأصوات، ليس
منها فعل يتصَرَّفُ ففُتحت التاءُ لسكونها وسكون الياء، وأختير الفتح لأن قبل التاء ياء كما قالوا: كيْفَ وأيْنَ، ومن قال هيتِ لك - بكسر التاء، فلأن أصل التقاء السَّاكنين حركة الكسر، ومن قال: هَيتُ ضمها لأنها في معنى الغاياتِ، كأنها قالت: دُعائي لك، ولما حذفت الإضافةُ وتضمنتْ معناها بُنيتْ على الضم كما بُنيتْ حَيْثُ ومُنْذُ يا هذا.
وَقِراءةُ عَلِيٍّ " هِئْتُ لك " بمنزلة هيتَ
والحجة فيها كالحجة فيها مفتوحة (١).
قوله: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ أم معرَّبةٌ، فقيل: معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك، قاله السدي. وقيل: من السريانية، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ، أي: تعالَه فأعربه القرآن، قاله أبو زيد الأنصاري. وقيل: هل لغة حَوْرانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنها عربية، قال مجاهد: «هي كلمة حَثٍّ وإقبال، ثم هي في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها، وفي بعضها اسميتُها، وفي بعضها يجوز الأمران، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها:
فقرأ نافع وابن ذكوان» هِيْتَ «بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة. وقرأ» هَيْتُ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضمومة ابنُ كثير. وقرأ» هِئْتَ «بكسر الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحةٍ أو مضمومةٍ هشامٌ. وقرأ» هَيْتَ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون، فهذه خمس قراءات في السبع.
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة. وقرأ ابن عباس أيضاً» هُيِيْتُ «بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ. وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة. فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات. فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس» هُيِيْتُ «بزنة حُيِيْتُ. وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم بالهمز: فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتح تخفيفاً نحو: أيْنَ وكَيْفَ، ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً ب» حيث «، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء الساكنين كجَيْرِ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان.
ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس» هُيِيْتُ «بزنة» حُيِيْت «فإنها فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ، ويحتمل الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان، أحدهما: أن يكون بمعنى حَسُنَ هَيْئَةً.
والثاني: أن يكونَ بمعنى تهيَّأ، يُقال: هِئْتُ، أي: حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ. وجوَّز أبو البقاء أن تكون «هِئْتُ» هذه مِنْ: هاءَ يَهاء، كشاء يشاء.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء، فقال الفارسي: «يشبه أن [يكون] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله:» وراوَدَتْه «و ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢] وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بن أبي طالب:» يجب أن يكون اللفظُ «هِئْتِ لي» ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ «وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه لم يَزَلْ/ يَفِرُّ منها ويتباعد عنها، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه، فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها؟
وقد أجاب بعضهُم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى: تهيَّأ لي أمرُك، لأنها لم تكنْ تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هيئتك.
و» لك «متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت: القول لك أو الخطاب لك، كهي في» سقياً لك ورعياً لك «. قلت: واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل، إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ.
وقال أبو البقاء:» والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء، أو تكونَ لغةً في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه السلام، وهو فاسدٌ لوجهين، أحدهما: أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له. والثاني: أنه قال لك، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي «. قلت: قد تقدَّم جوابُه. وقوله:» إن الهمزة بدلٌ من الياء «هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو: بير وذيب، ولا يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو: مِيل ودِيك، وأيضاً فإن غيرَه جعل الياءَ الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من الهمزة، قالوا: فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام. واعلم أنَّ القراءةَ التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ عنه، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح» حِرْز الأماني «. اهـ (الدر المصون).
مصدر، المعنى أعوذُ باللَّهِ أَنْ أَفْعَلَ هَذا، تَقُولُ: عُذْتُ عِياذاً ومَعَاذاً.
(إِنَّهُ رَبِّي).
أي إن العزيز صَاحبي (أحْسَن مَثوايَ)، أي تَولَّانِي في طُولِ مَقَامِي
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
أي: إِن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا ظالم.
[ويجوز أن يكون «إِنه ربي» يعني الله عز وجل «أحسن مثواي» أي: تولَّاني في طول مُقامي.] (٢)
* * *
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
أكثَرُ المفسِّرِين أنه هَمَّ بها حتى رأى صورة يعقوب عليه السلام، وهو
يقول له: يا يوسف أَتَهُمُّ بِفِعْلِ السفَهاءِ وأنت مكتوب فِي ديوانِ الأنبياء، وقيل إنه رأى في البيت مكتوباً: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (٣٢).
وهذا مذهب أهل التَفْسِير، ولسنا نشكُّ
أنه قد رأى برهاناً قطعه عَما هَمَّ به (٢).
وقال قوم: المعنى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ).
وذَهَبُوا إلى أن المعنى لَوْلاَ أن رَأَى برهان رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا.
والذي عليه المفسرون أنه هَمَّ بها وأنه جَلَسَ منها مجلس الرجُلِ من
المرأة إلا أَن اللَّه تفضل بأن أراه البُرهانَ، أَلَا تَراه قال:
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).
والمعنى لَوْلاَ أنْ رأى بُرْهَان رَبِّهِ لأمْضَى ما هَمَّ بِه.
وليس في الكلام بكثير أتى تقول: ضربتك لولا زيد، ولا هممت بك
لولا زيد، إنما الكلام لولا زيد لهَمَمْتُ بك. و (لولا) تجابُ باللامِ، فلو
(٢) قال الإمام فخر الدين الرازي:
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى:
في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا؟ وفي هذه المسألة قولان: الأول: أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة.
قال الواحدي في كتاب «البسيط» قال المفسرون: الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه، ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب، وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢] قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك: ﴿وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى﴾ [يوسف: ٥٣] ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه، فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب.
والقول الثاني: أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل، والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول وعنه نذب.
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة، ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوهاً:
فالحجة الأولى: أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب، وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب، وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال.
إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة.
ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة: ﴿كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء﴾ [يوسف: ٢٤] وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه، ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء.
وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر، وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه، إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم، فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه، فإن ذلك يستنكر جداً فكذا ههنا والله أعلم.
الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية.
الرابع: أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية.
واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب.
أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام: ﴿هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى﴾ [يوسف: ٢٦] وقوله عليه السلام: ﴿رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣] وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم﴾ [يوسف: ٣٢] وأيضاً قالت: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ﴾ [يوسف: ٥١] وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك، فهو قوله: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى لِذَنبِكِ﴾ [يوسف: ٢٨، ٢٩] وأما الشهود فقوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين﴾ [يوسف: ٢٦] وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله: ﴿كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات: أولها: قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء﴾ واللام للتأكيد والمبالغة.
والثاني: قوله: ﴿والفحشاء﴾ أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء.
والثالث: قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ مع أنه تعالى قال: ﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣] والرابع: قوله: ﴿المخلصين﴾ وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص.
ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه، وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته، فلأنه قال: ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين﴾ [ص: ٨٢، ٨٣] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى، وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى.. بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده.. طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين:
المقام الأول: أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها.
والدليل عليه: أنه تعالى قال: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ﴾ وجواب ﴿لَوْلاَ﴾ ههنا مقدم، وهو كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك، وطعن الزَّجَّاج في هذا الجواب من وجهين: الأول: أن تقديم جواب ﴿لَوْلاَ﴾ شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح.
الثاني: أن ﴿لَوْلاَ﴾ يجاب جوابها باللام، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال: ولقد همت ولهم بها لولا.
وذكر غير الزَّجَّاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله: ﴿لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ﴾ فائدة.
واعلم أن ما ذكره الزَّجَّاج بعيد، لأنا نسلم أن تأخير جواب ﴿لَوْلاَ﴾ حسن جائز، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال: إنهم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام.
وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة، وأيضاً ذكر جواب ﴿لَوْلاَ﴾ باللام جائز.
أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزَّجَّاج في هذين السؤالين، وهو قوله تعالى: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠].
وأما السؤال الثالث: وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: ﴿لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ﴾ فائدة.
فنقول: بل فيه أعظم الفوائد، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: إن الذي يدل على أن جواب ﴿لَوْلاَ﴾ ما ذكرناه أن ﴿لَوْلاَ﴾ تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له، فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً، وترك الجواب كثير في القرآن، لأنا نقول: لا نزاع أنه كثير في القرآن، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً.
وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه، وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في
بعد (١).
وقوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ).
أي كذلك أرَيْنَاهُ البُرهَانَ لنَصْرِفَ عنه السُّوءَ والفَحْشَاءَ، فالسوءُ - خيانة
صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة.
(إِنَهُ مِن عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ).
أي الذين أخلصوا، أخْلَصَهُمُ اللَّهُ مِن الأسْوَاءِ والفواحش، مثل
المُصْطَفَيْنَ.
وَقُرِئتْ مِنَ المخْلِصِينَ بكسر اللام، أي الذين أخْلَصوا دينَهُمْ للَّهِ
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥)
أي استبقا إلى الباب، يعني به يوسف وامرأة العزيز.
(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ).
والقدُّ القطع، أي خَرقَتْه خَرْقاً انقَدَّ مِنْه.
(وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ).
أي صادفا سيدها لدى الباب فحصرها في ذلك الوقت كيدٌ لَمَّا فَاجأَتْ
سَيِّدَهَا.
(قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ).
أي ما جزاؤه إلا السِّجْن.
(أوْ عَذَابٌ ألِيمٌ).
أي عذاب مُوجع.
قال يوسف:
(هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦)
قوله تعالى: ﴿لولا أَن رَّأَى﴾: جوابُ لولا: إمَّا متقدِّمٌ عليها وهو قوله: «وَهَمَّ بها» عند مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ أدواتِ الشرط عليها، وإمَّا محذوفٌ لدلالة هذا عليه عند مَنْ لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبينِ ومَنْ عُزِيا إليه غيرَ مرة كقولهم: «أنت ظالمٌ إن فعلْتَ»، أي: إنْ فَعَلْتَ فأنت ظالمٌ، ولا تقول: إنَّ «أنت ظالمٌ» هو الجوابُ بل دالٌّ عليه، وعلى هذا فالوقفُ عند قوله: «برهان ربه» والمعنى: لولا رؤيتُه برهانَ ربه لهمَّ بها لكنه امتنع هَمُّه بها لوجودِ رؤيةِ برهان ربه، فلم يَحْصُل منه هَمٌّ ألبتَّةَ كقولك: «لولا زيدٌ لأكرمتك» فالمعنى أن الإِكرام ممتنعٌ لوجود زيد، بهذا يُتَخَلَّص من الأشكال الذي يورَدُ وهو: كيف يليق بنبيٍّ أن يَهُمَّ بامرأة؟.
قال الزمخشري: فإن قلت: قوله «وهمَّ بها» داخلٌ تحت القَسَم في قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ أم خارجٌ عنه؟ قلت: الأمران جائزان، ومِنْ حَقِّ القارىء إذا قَصَدَ خروجَه من حكم القَسَم وجَعَلَه كلاماً برأسه أن يَقِفَ على قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ ويبتدىء قولَه: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رأى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرق بين الهَمَّيْن. فإن قُلْتَ: لِمَ جَعَلْتَ جَوابَ «لولا» محذوفاً يدلُّ عليه «وهَمَّ بها» وهَلاَّ جَعَلْتَه هو الجوابَ مقدَّماً. قلت. لأنَّ «لولا» لا يتقدَّم عليها جوابُها مِنْ قِبَلِ أنه في حكم الشرط، وللشرط صدرُ الكلام وهو [مع] ما في حَيِّزه من الجملتين مثلُ كلمةٍ واحدة، ولا يجوز تقديمُ بعضِ الكلمة على بعض، وأمَّا حَذْفُ بعضها إذا دَلَّ عليه الدليل فهو جائز «.
قلت: قوله» وأمَّا حَذْفُ بعضها «إلى آخره جواب عن سؤالٍ مقدرٍ وهو: فإذا كان جوابُ الشرط مع الجملتين بمنزلةِ كلمةٍ فينبغي أنْ لا يُحْذَفَ منهما شيءٌ، لأن الكلمةَ لا يُحذف منها شيءٌ. فأجاب بأنه يجوز إذا دلَّ دليلٌ على ذلك. وهو كما قال.
ثم قال:» فإن قلت: لِمَ جَعَلْتَ «لولا» متعلقةً ب «هَمَّ بها» وحدَه، ولم تَجْعَلْها متعلقةً بجملةِ قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾؟ لأنَّ الهمَّ لا يتعلَّق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بد من تقدير المخالطة، والمخالطةُ لا تكون إلا بين اثنين معاً، فكأنه قيل: / ولقد هَمَّا بالمخالطة لولا أنْ مَنَعَ مَانعُ أحدِهما. قلت: نِعْم ما قلت، ولكن اللَّه سبحانه قد جاء بالهمَّين على سبيل التفصيل حيث قال: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾.
قلت: والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة، أعني كون قوله: «لولا» متعلقةً ب «همَّ بها» فإنه قال: «ولو كان الكلامُ» ولهمَّ بها «لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام»؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ «وهمَّ بها» جواباً ل «لولا»؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت، وعلى تقدير أنه كان مقترناً باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها.
وجواب ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما تقدَّم. وأمَّا قولُه: «ولو كان الكلام» ولهمَّ بها «فغيرُ لازمٍ»؛ لأنه متى كان جوابُ «لو» و «لولا» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللامُ وعَدَمُها، وإن كان الإِتيان باللامِ وهو الأكثر.
وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضاً في هذا المعنى فقال: «قولُ مَنْ قال: إنَّ الكلام قد تَمَّ في قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ﴾ وإنَّ جوابَ» لولا «في قوله:» وهمَّ بها «، وإن المعنى: لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها، فلم يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام» قال: «وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف» أمَّا قولُه: «يردُّه لسان العرب» فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ قولِه: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠] فقوله إن كادَتْ: إمَّا أن يكون جواباً عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا أن يكونَ دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب. هذا معنى ما ردَّ به عليه الشيخ. قلت: وكأن ابن عطية إنما يعني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد.
اهـ (الدر المصون).
(وَشهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أهْلِهَا).
قيل إنه رجل حكيم، وقيل إنَّه طِفْل
(إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
أي إن كان هو المقبل عليها وهي الدافعة له عن نفسها فيجب أن تكون
خرقت قميصه من قُبُل، وإن كان هو المتباعدَ مِنْهَا، وهي التابعة له في
استباقهما فيجب أن يكون قَدُّ القَميصِ من دبُرٍ.
والقراءة من قُبُل ومن دُبُرٍ، ومن قبْل ومن دُبْرٍ.
ويجوز من قُبُل بغير تنوين، ومن دُبُر، على الغاية، أيْ مِنْ قُبْله.
أما الفتح فبعيدٌ في قوله: من قُبْلَ ومن دُبْرَ. لأن الذي يفتح يجعله مبنياً على الفتح فيشبهه بما لا ينصرف فيجعله.
ممتنعاً من الصرف لأنه معرفة ومُزَالٌ عن بابه، وهذا الوجه يجيزه البصريون.
فأمَّا قُبْلُ وقُبُلُ فالتسكين في الباء جائز، وقد روي عن ابن أبي
إسحاق الفتح والضم جميعاً، والفتح أكثر في الرواية عنه، ولا أعلم
أحداً من البصريين ذكر الفتح غَيرَه.
* * *
(فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)
أي إن قولَكِ: (ما جزاءُ مَنْ أَرَادَ بأَهلِكَ سُوءًا)... من كَيْدِكُنَّ.
قولان:
قال محمد بن يزيد: " كان " لقوتها وأنها عبارة عن الأفعال لم تغيرها إِنِ
الجزاء الخَفِيفَةُ.
والقول الثاني أَن " كان " عبارة عَنِ الأفعَالِ - وأن كان في معنى
الاستقبال ههنا - عَبَّرتْ عن فعل ماض، المعنى إن يكن قَمِيصُهُ قُذ، أيْ إنْ
يُعْلَمْ قَمِيصُه قُدَّ مِنْ قُبل فالْعِلْمُ مَا وقع بعد، فكذلك الكون لا يكون لأنه مؤدٍّ عن العلم.
* * *
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩)
معناه يا يوسف اكتم هذا الأمر ولا تذكره.
(وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ).
ويرْوى أنهُ كان قَليلَ الغَيْرَةِ.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ).
(بَدَا) فعل استغْنى عَنْ فَاعِل.
العربُ تقولُ: قد بَدا لي بَدَاء أي تغير رأي عما كان عليه.
وأكثر العرب تقول: قد بدا لي، ولم يذكر بَدَاءً، لكثرته
لأنه في الكلام دَلِيلاً على تغير رأيه، فَتُرِكَ الفاعلُ وهُوَ مُرَاد.
ثم بين ما البَدَاءُ فقال لَيَسْجُننه حَتى حينٍ، كأنَّهم قالوا: لَيَسْجُنَنهُ، والرأي الذي كاد لهم قبل:
قيل إن العزيز أمره بالإعراض فقط ثم تغير رأيه عن ذلك.
* * *
وقوله: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٠)
يقال نِسوة ونُسْوة - بالضم والكَسْرِ -
وقيل: (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ).
فتى.
(قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) (١).
أي بلغ حُبُّه إلى شِغَافَ قَلْبها، وفي الشغاف ثلاثة أقوال:
قال بعضهم الشغَاف غلاف القلب.
وقيل: هو داء يكون في الجوف في الشراسيف.
وأنشدوا:
وقد حال هَمُّ دون ذلك دَاخِلُ... دخولَ الشغَافِ تبتَغِيه الأصَابعُ
وقد قُرِئَتْ شَعَفَها بالعين، ومعنى شعَفها ذهب بها كل مذهب مشتق من
شَعَفَاتِ الجبال، أي رُؤوس الجبال، فإذا قلت فلان مشعُوف بكذا، فمعناه أنه قد ذهب به الحبِّ أقصى المذاهب.
* * *
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١)
إن قال قائل: لم سُمِّيَ قولُهنَّ مكراً؟
فالجواب فيه أنها قد أطلعتهن، فاسْتَكْتَمَتْهُنَّ فمكرنَ بها وأَفْشَيْنَ سِرها، فلما سمعت بما فَعَلْنَ أرادت أَنْ يُوقَعْني فيما وقعت فبه فأرسلت إليهن.
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً).
(اعْتَدَتْ) أفعلت من العَتَادِ، وكل ما اتخَذْتَه عُدةً للشيء فهو عَتَادَ ومعنى
(مُتَّكَأً) ما يُتكأ عليه لطعام أو شَرَاب أو حديث.
قوله: ﴿قَدْ شَغَفَهَا﴾ هذه الجملةُ يجوز أن [تكون] خبراً ثانياً، وأن تكونَ مستأنفة، وأن تكونَ حالاً: إمَّا من فاعل «تُراوِدُ» وإمَّا مِنْ مفعوله. و «حبَّاً» تمييزٌ، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: قد شَغَفها حبُّه. والعامَّة على «شَغَفها» بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى خَرَقَ شِغاف قلبها، وهو مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف: حجاب القلب جُليْدَة رقيقة. وقيل: سويداء القلب. وقيل: داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل: جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان القلب ليسَتْ محيطةً به، ومعنى شَغَفَ قلبَه، أي: خرق حجابَه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحبِّ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه. والمَشْغوف: مَنْ وصل الحبُّ لقلبه، قال الأعشى:
٢٧٦٨ تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً... مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما صنعا
وقال النابغة الذبياني:
٢٧٦٩ وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ... مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ
وقرأ ثابت البناني بكسر الغين. قيل: وهي لغة تميم.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً. واختلف الناس في ذلك فقيل: هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران، قاله الزمخشري، وأنشد:
٢٧٧٠........................... كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي
والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه، «كما شَغَفَ»، أي: كما أَحْرق وبالغ المهنوءة، أي: المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران، ولا ينشدونه بالمهملة.
وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة: «مِنْ قولك: فلان مَشْعوفٌ بكذا، أي: مغرى به، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب. وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد:» الشَّغَف يعني بالمعجمة في الحب، والشَّعَفُ في البغض «. وقال الشعبي:» الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ، والشَّعَفُ الجنون، والمَشْعوف: المجنون «.
اهـ (الدر المصون).
يعالجن بالسكين ما يأكلْنَ، وقال بعضهم مُتْكَأً، وقالوا واحدته مُتْكَة
وهي الأتْرُجُّ. والقراءة الجيدة (مُتْكَأً) بالهمز، يقال: تِكئَ الرجلُ - يتْكَأُ، تُكَأً، والتكَا أصله من وكَأت، وإنما متكأ مفتعل، وأصله موتكأ مثل مُوتَزن منَ الوزن (١).
(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ).
إن شئت ضممت التاء، وإن شئت كسرتَ، والكسر الأصل لسكون التاء
والخاء، ومن ضم التاء فلثقل الضمة بعد الكسرة.
وأعتدت لهن الطعام وجعلت في أيديهن السكاكين، وأمرته بالخروج عليهن في هيئته، ولم يكن يتهيأ له أن لا يخرج؛ لأنه بمنزلة العبد لها.
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ).
أردن أن يقطعن الطعام الذي في أيديهن فَدَهِشْنَ لَمَّا رأينَه فَخَدشْنَ
أيديَهُن.
ولم يقطعن الأيدي حتى تَبيَن منهنَّ.
وهذا مسْتعمل فى الكلام.
يقول الرجل: قد لطعت يدِي. يعني أنك قد خدشتها.
ومعنى (أَكْبَرْنَهُ) أعظمنه.
ويقال: (أَكْبَرْنَهُ) حِضْنَ.
وقد رُوِيتْ عن مجاهد.
وليس ذلك بمعروف في اللغة.
وقد أنشدوا بيتاً في هذا وهو قوله:
يَأْتي النساءَ على أَطْهارِهِنّ ولا... يَأْتي النساءَ إِذا أَكْبَرْنَ إِكْباراً
قوله: ﴿مُتَّكَئاً﴾ العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ، أي: هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ. والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها. وقيل: المتكأ: مكان الاتِّكاء. وقيل: طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد. قال القتبيُّ:» يُقال: اتَّكَأْنا عند فلانٍ، أي: أَكَلْنا «.
قال الزمخشري:» مِنْ قولك: اتَّكَأْنا عند فلان: طَعِمنا، على سبيل الكناية؛ لأنه مِنْ «دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك»: اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها. قال جميل:
٢٧٧١ فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا... وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ «
انتهى. قلت: فقوله:» وشَرِبْنا «مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا.
وقرأ أبو جعفر والزهري» مُتَّكَا «مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ، فصار بزنة مُتَّقَى. والثاني: أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء، فالمعنى: أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه: إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا بالقطع بالسكين، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح.
وقرأ الحسن وابن هرمز» مُتَّكاءً «بالتشديد والمدِّ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله:
٢٧٧٢........................... ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ
وقوله:
٢٧٧٣ يَنْباع مِنْ ذفرى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ............................
وقوله:
٢٧٧٤ أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ... الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ
أي: بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة.
وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة/ والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب» مُتْكَاً «بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ، إلا أنهما فتحا الميم. والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان، وأنشدوا:
٢٧٧٥ فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها... تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ
وقيل: بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه، ونشدوا:
٢٧٧٦ نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً... وترى المُتْكَ بيننا مُسْتعارا
قيل: وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرى وافَقَتْ هذه. وقيل: بالضم العسلُ الخالص عند الخليل، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي. ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال: وهو الشرابُ الخالص.
وقال المفضل: هو بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كِنْدة.
وقوله: ﴿لَهُنَّ مُتَّكَئاً﴾: إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً، ويَدُلُّ له قوله: ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً﴾، وإمَّا أن يريدَ الجنس.
اهـ (الدر المصون).
والهاء في (أَكْبَرْنَهُ) تنفي هذا؛ لأنه لا يجوز أن يقول: النساء قد حِضْنَهُ يا هذا؛ لأن حضن لا يتعدى إلى مفعول.
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ).
وحاشا للَّهِ، يقرأان - بحذف الألف وإثباتها - ومعناه الاستثناء.
المعنى فيما فسَّره أهل التفسير: وقلْنَ: معاذ اللَّه ما هذا بشراً.
وأما على مذهب المحققين من أهل اللغة، فحاشا مشتقة من قولك:
كنْت في حشا فُلانٍ، أي في ناحية فلانٍ، فالمعنى في " حَاش للَّهِ، بَرأَهُ اللَّه
من هذا. من التَّنَحِّي، المعنى قد نحَّى الله هذا مِنْ هَذَا، إذا قلت حاشا لزيد
من هذا فمعناه قد تنحَّى زيد من هذا، وتباعد منه، كما أنك تقول قَدْ تَنحَّى
من الناحية، وكذلك قد تحاشى، من هذا الفِعْلِ (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا هَذَا بَشَرًا).
هذه القراءة المعروفة، وقد رُوَيتْ: ما هذا بِشِرى، أي ما هذا بعد
مُشْتَرى.
وهذه القراءة ليست بشيء، لأن مثل بِشِريٍّ " يكتب في المصحف
بالياء (٢).
وقولها: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
" مَلَك " مطابق في اللفظ لِبَشرٍ.
وسيبويه، والخليل وجميع النحويين القدماء يزعمون أَن بشراً منصوب
قوله: ﴿حَاشَ للَّهِ﴾» حاشى «عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه، وحَكَوا عن العرب» غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ «بالنصب، وأنشدوا:
٢٧٨٠ حشى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ... بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب» رَهْط «. و» حشى «لغةٌ في حاشى كما سيأتي. وقال الزمخشري:» حاشى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال:
٢٧٨١ حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ... ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم
وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة، فمعنى حاشى اللَّهِ: براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه، وهي قراءة ابن مسعود «. قال الشيخ:» وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرقَ بين قولك: «قام القومُ إلا زيداً» و «قام القوم حاشى زيدٍ»، ولَمَّا مَثَّل بقوله: «أساء القومُ حاشى زيدٍ» وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله: حاشا أبي ثوبان، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين، وهما:
٢٧٨٢ حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا... ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ
عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به... ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
قلت: قوله «إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء» ليس «و» لا يكون «و» غير «لم يذكروا معانيهَا، إذ مرادُهم مساواتُها ل» إلا «في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات.
وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله:
٢٧٨٣............................ ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ
وقول الآخر:
٢٧٨٤ فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به.............................
فتعيَّن أن تكونَ فعلاً، فاعلُه ضمير يوسف أي: حاشى يوسف، و» للَّه «جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ تفيد العلةَ أي: حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يرمى بما رَمَتْه به، أي: جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل: تنزيهاً للَّه وبراءةً له، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف، ألا تراهم قالوا: مِنْ عن يمينه فجعلوا» عن «اسماً ولم يُعْربوه، وقالوا» مِنْ عليه «فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر، بل أَبْقَوا» عن «على بنائه، وقلبوا ألف» على «مع المضمر، مراعاةً لأصلها، كذا أجاب الزمخشري، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب. وفيه نظر.
أمَّا قوله:» مراعاة لأصله «فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف، ولهم في ذلك مذهبان: الإِعرابُ والحكاية، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ. وأمَّا استشهادُه ب» عن «و» على «فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ» عن «حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها.
وأمَّا قَلْبُ ألفِ «على» مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق ك «لدى».
والأَوْلى أن يقال: الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال «حاشاً للَّه» منصوباً، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها.
وقيل في الجواب عن ذلك: بل بُنيت «حاشا» في حال اسميتها لشبهها ب «حاشا» في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى، كما بُنِيَتْ «عن» و «على» لما ذكرنا.
وقال بعضُهم: إنَّ اللامَ زائدةٌ. وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ. واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها. قال النابغة الذبياني:
٢٧٨٥ ولا أرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ... ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ
قالوا: وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا: «سَوَّفْتُ بزيد» و «لَوْلَيْت له»، أي: قلت له: سوف أفعلُ. وقلت له: لو كان ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتمل.
وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال: «لا تَخْلو» حاش «في قوله:» حاش للَّه «من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء، أو تكون فعلاً على فاعَل، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية، والمعنى: أنه صار في حَشَاً، أي في ناحية، وفاعل» حاش «» يوسف «والتقدير: بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه، أي: لخوفِه».
قوله: «حرفُ الجر لا يدخل على مثله» مُسَلَّم، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه. وقوله: «لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً» ممنوع، ويدلُّ له قولهم «مُنْ» في «منذ» إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ. قالوا: ويدلُّ على أنَّ أصلَها «منذ» بالنون تصغيرُها على «مُنَيْذ» وهذا مقرَّر في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى» بألفين: ألفٍ بعد الحاء، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه. والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً.
فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها. وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها، كالفارسي.
قال الفارسي: «وأمَّا حذفُ الألف فعلى» لم يَكُ «و» لا أَدْرِ «و» أصاب الناسَ جُهْدٌ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة «، و [قوله]:
٢٧٨٦ وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني/... في شعر رؤبة، يريد: لم يكن، ولا أدري، ولو ترى، ووصَّاني. وقال أبو عبيد:» رأيتُها في الذي يقال: إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه: «حاش للَّه» بغير ألف، والأخرى «مثلُها». وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك، قالوا: فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال: «ومِنْ العرب من يقول:» حشى زيد «أراد حشى لزيد». فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم.
وقرأ الأعمش في طائفة «حشى للَّه» بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب، وعليه قوله:
٢٧٨٧ حشى رَهْطِ النبيِّ...................................
البيت. وقرأ أُبَي وعبد اللَّه «حاشى اللَّهِ» بجرِّ الجلالة، وفيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [نحو: «سبحان اللَّه» وهو اختيارُ الزمخشري. الثاني: أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده، وإليه ذهب الفارسي،] وفي جَعْلِهِ «حاشى» حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ، إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ «قام القومُ حاشى زيد».
واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه، وجعله في ذلك كخلا وعدا، عند مَنْ أثبت حرفيَّة «عدا»، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية، كما فعلوا ذلك في «على» فقالوا: يكون حرف جر في «عليك»، واسماً في قوله: «مِنْ عليه»، وفعلاً في قوله:
٢٧٨٨ عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا..................................
وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان، ملخصُه أن «على» حالَ كونها فعلاً غير «على» حال كونها غيرَ فعل، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ. وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول: لو كانت «حاشى» في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها.
وقرأ الحسن «حاشْ» بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقف. ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: «حاشى الإِله» قال: «محذوفاً مِنْ حاشى» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب «اللوامح» فإنه قال: «بحذف الألف» ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده، فأما «الإِله» فإنه فكَّه عن الإِدغامِ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول، ومعناه المعبود، وحُذِفت الألف من «حاشى» للتخفيف «
قال الشيخ:» وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ «اللوامح» من أنَّ الألف في «حاشى» في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ: «حاشى الإِله» ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في «يَخْشى الإِله»، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف «.
قلت: الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به. وقول صاحب «اللوامح»: «وهذا
لغة أهل الحجاز، وهي اللغَةُ القُدْمَى الجيدَةُ.
وزعم بعضهم أن الرفْعَ في قولك: (مَا هَذَا بَشَرًا) أقْوى الوجهين، وهذا غلط، لأن كتاب اللَّه ولغة رسول اللَّه أقْوى الأشياء وأقوى اللغات.
ولغة بني تميم: ما هذا بشر.
ولا تجوز القراءة بها إلَّا بروايةٍ صَحيحةٍ.
والدليل على ذلك إجماعهم على: (مَا هُنَّ أمَّهَاتِهِمْ)
وما قرأ أحَد ما هُنَّ أُمَّهَاتُهمْ.
* * *
وقوله: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ).
القراءة الجيدة تخفيف لَيَكُونًا. والوقوف عليها بالألف، لأن النون
الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف، تقول: اضْرباً زيداً، فإذا وقفت قلت:
اضربَا، كما أبدلت في: رأيتُ زيداً الألف من التنوين، وقد قرئت: ولتكونَنَّ - بتشديد النُّونِ، وأكرهها لخلاف المصحف، لأنَّ الشديدة لا يُبْدَلُ منها شيء.
(مِنَ الصَّاغِرِينَ). مِنَ المذَلِّيِنَ.
* * *
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣)
والسَّجْن جميعاً - بكسر السين وفتحها - فمن فتح فعلى المصدر.
المعنى أَنْ أُسْجَنَ أَحبُّ إليَّ، ومن كسرَ فعَلَى اسم المكَانِ، فيكون المعنى:
نُزولُ السجنِ أَحبُّ إليَّ مِمًا يَدْعُونَنِي إليْهِ، أي من ركوب المعصية.
(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ).
أي إلا تعْصِمْني أَصْبُ إليْهِنَّ، أَي أَمِلْ إلَيْهن. يقال: صبا إلى اللَّهْوِ
يصبو صُبُوًّا، وصِبِيًّا، وَصَبًّا، إذا مالَ إلَيْه (١).
قوله: ﴿أَصْبُ﴾ قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبو أي: رَقَّ شَوْقُه. والصَّبْوة: المَيْلُ إلى الهوى، ومنه «الصَّبا» لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي: تميل، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال: صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً، وصَبِيَ يصبى صَبَاً، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب.
وقرأت فرقة «أَصَبُّ» بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ، والصَّبابَةُ: رِقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء
اهـ (الدر المصون).
العزيز وحدها، ألا أنه أراد كيْدَها وكيدَ جميع النساء، وجَائز أن يكون كيدَها وكيدَ النِسْوَةِ اللاتِي رَأَيْنَ يوسُف حِينَ أرَتهُن إيَّاهُ.
* * *
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
ولم يقل فحبس لأن في قوله: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ) دليلاً أنه حُبسَ.
و" فَتَيان، جَائز أَنْ يكونَا حَدَثَيْنِ أوْ شَيْخَيْن، لأنهم كانوا يُسَمونَ المملوك فَتًى.
(قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا).
ولم يقل إني أراني في النوم أعْصِرُ خَمراً، لأن الحال تدُلُّ على أنه ليس
يرى نفسه في اليقظة يَعْصِرُ خَمراً.
وقال أهل اللغة: الخمرُ في لُغَةِ عُمَان اسم للْعِنَبِ، فكأنَّه قال: أراني أعصر عِنَباً، ويجوز أن يكونَ عَنَى الخمْرَ بعينها، لأنه يُقَالُ للذِي يَصْنَعُ من التَمْرِ الدبْس هذا يَعْمَلُ دِبْساً، وإنَّمَا يعْمَلُ التمرَ حتَى يصيرَ دِبْساً، وكذلك كل شيء نُقِلَ مِنْ شيء.
وكذلك قوله أعصِرُ خمراً، أي أعصِرُ عِنَبَ الخمْرِ أي العِنَبَ الَّذِي يكونُ عَصِيرُه خمراً.
(وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ).
أي تأويل ما رأينا.
وقولهما (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) يدل على أنهما رأيا ذلك في النوم، لأنه لا تأويل
لرُؤية اليقظة غير ما يراه الإِنسان.
(إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
وقيل من المحسنين، أي ممن يُحسِنُ التأويل. وهذا دليل أنَّ أمر الرؤيا
صحيح، وأنها لم تزل في الأمم الخالية، ومن دفع أمر الرؤيا وَأنَّه منها ما
يصح فليس بمسلم لأنه يدفع القرآن والأثر عن رسول الله - ﷺ - لأنه روي عن رسول الله أن الرؤيا جزء من أربعين جزءاً من النبوة.
وتأويله أن الأنبياء يُخْبِرُونَ بما سَيَكُون.
والرؤيا الصادقة تدل على ما سيكونُ.
* * *
(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧)
وليس هذا جواب ما سألا عنه، إنما سألا أن يخبر هما بتأوِيلِ مَا رَأياه
فأحب يوسف عليه السلام أن يدعُوهما إلى الِإيمان وأن يعلمهما أنه نَبي، وأن
يدلهما على نبوته بآية معجزة، فأعلمهما أنه يخبرهما بِكلِّ طَعَام يؤتيان به قبل
أن يرياه، ثم أعْلَمَهُما أن كل ذلك مما عرفه الله إياه فقال:
(ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).
أي لست أخبركما عَلَى جِهَةِ التَكَهُّنِ، والتنَجُّمِ، إنما أخبركما بِوَحي
منَ اللَّهِ وعِلْمٍ، ثم أعْلَمَهمَا أن هذا لا يكون إلا لمؤمِنٍ بِنَبِي فقال:
(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٣٨)
أي اتباعا الِإيمان بتوفيق اللَّه لنا بفضله علينا (وعلى الناس) بأن دلهم
على دينه المؤدِّي إلى صلاحهم.
ثم قال لهما:
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)
فَدَعَاهم إلى توحيد اللَّه بعد أنْ علمهما أنه يخبرهما بالغيب، ثم قال
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)
أي أنتم جعلتم هذه الأسماء آلهةً.
ثم أخبرهم بتأويل الرؤيا بعد أن دعاهم إلى الإيمان.
فأما تكرير قوله هم فعلى جهة التوكيد.
* * *
وقوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١)
فكان هذا صاحبَ شَراب الملك، فأعلمه أن تأويل ما رأى هو هذا.
ويجوز فيُسْقِي، والأجود فيَسْقِي، تقول سقيته بمنزلة ناولته فشرب.
وأسقيته جعلْتُ له سَقْياً، تقول أسقيته من كذا وكذا أي جعلت له سقياً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
لَمَّا تأول لهما الرؤيا قال الذي أنْبَأهُ بأنَّه يُصْلَبُ أنه لم يَرَ شَيئاً فأعلَمه
أنَّ ذلك واقع به وإنْ لَمْ يَرَ، كما أعْلَمَهُمَا بخبر ما يَأتِيَهما من الطعام.
* * *
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
أي عند الملك صاحبك.
(فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ).
(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
اختلفوا في البِضَعْ فَقَال بعضهم: البضع ما بين الثلاث إلى الخمس.
وقال قطرب إلى السبع.
وقال الأصمعي وهو القول الصحيح: البضْعُ ما بين
الثلاث إلى التَسْع، واشتقاق البضْع والبَضْعَةِ مِنْ قَطَعْتَ الشيءَ
فمعناه القِطعَة ممن العَدَدِ، فَجُعِلَ لِمَا دُون العَشَرةِ من الثلاث إلى التًسع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣)
(سَبْعٌ عِجَافٌ).
العجَاف التي قد بلغت في الهُزَالِ الغايةَ والنهايَةَ.
(يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ).
الملأ الذين يرجع إليهم في الأمور، ويقتدي بآرائهم.
(إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
هذه اللام أدخلت على المفعول لِتُبيُنَ المعنى إن كنتم تعبرون، وعابرين
ثم بين باللام فقال للرؤيا.
ومعنى عبَّرت الرؤيا وعَبَرْتُها خبرت بآخر ما يؤول إليه أمرها.
واشتققته من عَبْرِ النهْرِ، وهو شَاطِئ النهْرِ، فتأويل عبرت النَهْرَ، أي بلغتُ إلى عِبْرِه، أي شاطئه، وهو آخر عَرْضِهِ.
* * *
(قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤)
والضغث في اللغة الحُزْمةُ والباقَةُ من الشيء، كالبقل وما أشبهه، فقالوا
له: رُؤْياكَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، أي حُزَم أخلاطٍ ليست برؤيا بينةٍ.
أي ليس للرؤية المختلطة عندنا تأويل.
* * *
(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)
أي بعد حين، وقرأ ابن عباس: واذَّكرَ بَعْدَ أمَهٍ، والأمهُ النسيَانُ، يقال
أمِهَ يَأمَهُ أمَهاً. هذا الصحيح بفتح الميم، وروى بعضهم عن أبي عبيدة: أمْهُ
بسكون الميم، وليس ذلك بصحيح عنه، لأن المصدَرَ أنه يأمَهُ أمَهٌ لا غير.
وقرأ الحسَنُ: أنا آتيكم بتأويله، وأكرهها، لخلاف المصحف.
(وَادَّكَرَ) أصله واذْتَكَرَ، ولكن التاء أبدل منها الذال وأدغمت الذالُ في
الدال.
ويجوز واذَّكر بالذال، والأجود الدال (١).
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)
أراد يا يوسف، والندَاء يجوز في المعرفة حذف يا منه، فتقول: يا زيد.
أقبل، وزيدُ أقبل.
قال الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس... إذا مَا خِفْتَ مِن أمْر تَبَالا
أرادَ يَا مُحَمدُ.
والصًذيق المبالغ في الصِّدْقة، والتصديق.
وقوله: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).
أي لعلهم يعلمون تأويل رؤيا الملك، ويجوز أن يكون: لعلهم يعلمون
قوله تعالى: ﴿وادكر﴾: فيه وجهان، أظهرهما: أنها جملةٌ حاليةٌ: إمَّا مِن الموصول، وإمَّا مِنْ عائده وهو فاعل «نجا». والثاني: أنها عطفٌ على «نجا» فلا مَحَلَّ لها لنسَقِها على ما لا محلًّ له.
والعامَّةُ على «ادَّكَرَ» بدالٍ مهملة مشددة وأصلها: اذْتَكَرَ افتعل مِنْ الذِّكر، فوقعت تاءُ الافتعال بعد الذال فأُبْدِلت دالاً فاجتمع متقاربان فأُبْدِلَ الأول مِنْ جنس الثاني وأُدغم. وقرأ الحسن البصري بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التاءَ ذالاً مِنْ جنس الأولى وأدغم، وكذا الحكم في ﴿مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٥] كما سيأتي في سورته إنْ شاء اللَّه تعالى.
والعامَّةُ على «أُمَّة» بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة، وهي المدة الطويلة. وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة، وفسَّروها بالنعمة، أي: بعد نعمةٍ أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل، وأنشد الزمخشري لعديّ:
٢٧٩٨ ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْ... مَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ
وأنشد غيره:
٢٧٩٩ ألا لا أرى ذا إمَّةٍ أصبحَتْ به... فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء «أَمَهٍ» بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ، وهو النسيان، يقال: أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهاً وأمْهاً بفتح الميم وسكونها، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ.
وقرأ مجاهد وعكرمة وشُبَيْل بن عَزْرَة: «بعد أَمْهٍ» بسكون الميم، وقد تقدَّم أنه مصدرٌ لأَمِه على غير قياس. قال الزمخشري: «ومَنْ قرأ بسكون الميم فقد خُطِّئ». قال الشيخ: «وهذا على عادتِه في نسبته الخطأ إلى القراء» قلت: لم يَنْسِبْ هو إليهم خطأً؛ وإنما حكى أنَّ بعضَهم خطَّأ هذا القارئ فإنه قال: «خُطِّئ» بلفظِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، ولم يقل فقد أخطأ، على أنه إذا صَحَّ أنَّ مَنْ ذكره قرأ بذلك فلا سبيلَ إلى الخطأ إليه ألبتَّةََ. و «بعد» منصوب ب «ادَّكر».
اهـ (الدر المصون).
* * *
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)
أي تَدْأبُونَ دَأباً، ودَلَّ على تَدْأبُونَ (تَزْرَعُونَ).
والدَّأبُ الملازمَةُ للشيء والعادةُ.
وقوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
(وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
وقُرئت: وفيه يُعْصَرَونَ، فمن قال وفيه يَعْصِرونَ بالياء أيْ يأتي العام بعد
أرْبَعَ عشرةَ سنةً الذي فيه، يُغَاث الناس فيَعصِرونَ فيه الزيْتَ والعِنبَ.
ومن قرأ يُعْصَرونَ أرَادَ يُمْطَرُونَ، من قوله: (وَأنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَخاجاً "، وَمَنْ
قرأ: وَفِيه تَعْصِرون، فإن شاء كان على تأويل يَعْصِرُونَ، وأن شاء كان على
تأويل وفيه تَنْجوْنَ من البلاء، وتعتصمون بالخِصْب.
قال عَدِي بنُ زَيْدٍ:
لو بغير الماء حلقي شَرِق... كنت كالغضانِ بالماء اعتصَارِي
ويقال: فلان في عَصَرٍ وفي عُصْرٍ، إذا كان في حِصْنٍ لا يُقْدَرُ عليه.
* * *
وقوله سبحانه: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)
لما أعْلِمَ بمكانه من العلم بالتأويل طَلَبَه
(قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ).
أي إلى صاحبك، ورب الشيء صاحبُه
قوله: ﴿يَعْصِرُونَ﴾ قرأ الأخوان» تَعْصِرون «بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به. و» يَعْصِرون «يحتمل أوجهاً، أظهرُها: أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو نحو ذلك. والثاني: أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه. والثالث: أنه من العُصْرة وهي النجاة، والعَصَر: المَنْجى. وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه عنه:
٢٨٠٠ صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ... ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ
ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه ﴿فِيهِ يُغَاثُ الناس﴾ يُقال: عَصَره يَعْصِرُه، أي: أنجاه.
وقرأ جعفر بن محمد والأعرج:» يُعْصَرون «بالياء من تحت، وعيسى البصرة بالتاء من فوق، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول. وفي هاتين القراءتين تأويلان، أحدهما: أنها مِنْ عَصَره، إذا أنجاه، قال الزمخشري:» وهو مطابِقٌ للإِغاثة «. والثاني: قاله قطرب أنها من الإِعصار، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات﴾ [النبأ: ١٤]. قال الزمخشري:» وقرىء «يُعْصَرون»: يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة، وفيه وجهان: إمَّا أن يُضَمَّن أَعْصَرت معنى مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه، وإمَّا أن يقال: الأصل: أُعْصِرَتْ عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [إلى ضميرهم، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين «].
وقرأ زيد بن علي:» تِعِصِّرون «بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة، وأصلها تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العينَ للصاد، ثم أتبع التاء للعين، وتقدَّم تحريره في ﴿أَمَّن لاَّ يهدي﴾ [يونس: ٣٥].
ونقل النقاش قراءةَ» يُعَصِّرون «بضم الياء وفتح العين وكسر الصادِ مشددةً مِنْ» عَصَّر «للتكثير. وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المتقدمة تحتملان أن يكونا مِن العَصْر للنبات أو الضرع، أو النجاة كقول الآخر:
٢٨٠١ لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ... كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
أي: نجاتي. اهـ (الدر المصون).
ويجوز اللائي قطعْن، أي اسألْه أن يستعمِل صحةَ بَراءَتِي مما قُرِفْتُ به.
وُيرْوَى أنَّ النبي - ﷺ - قال: لو كنت في مكان يوسف ثم جاءني الرسول لبادرت إليه أنه - ﷺ - استحسن حزم يوسف وصَبْرَه حين دعاه الملكُ فلم يبادِرْ إليه حتى يعلَمَ أنه قد استقر عند الملك صحةُ بَراءَتِه.
* * *
(قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
لم يفرد يوسفُ عليه السلام امرأة العزيز بالذكر، حُسْنُ عِشْرَةٍ منه
وَأدَبٍ. فخلطها بالنسْوةِ.
وقوله: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).
قُرِئَتْ " حَاشَ للَّهِ " و " حَاشا لِلَّهِ" وقرأ الحسنُ: حَاشْ للَّهِ بتسكين الشين.
ولا اختلاف بين النحويين أن الِإسْكَانَ غير جائزٍ، لأن الجَمْعَ بين ساكنين لا
يجوز ولا هُوَ مِنْ كَلام العَرَب.
(مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).
فأعلم النسوةُ الملكَ ببراءة يوسفَ، وقالت - امرأة العزيز:
(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ).
أي بَرَزَ وتبيَّن، واشتقَاقَه في اللغة من الحِصَّةِ، أي بانت حصَّةُ الحق
وجهتُه من جهة الباطل.
* * *
(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢)
هذا قول يُوسفَ عليه السلام، المعنى إني أردت التبيين للمَلِكِ أمْرَ
أمرأته والنسوة، ليعلم أني لم أخنه بالغيب.
و" ذلك " مرفوع بالابتداء، وإن شئت عَلَى خَبرِ الابْتِداء.
كأنَّه قال: أمْري ذَلِكَ.
حين هممت، فقال:
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
موضع ما نصب على الاستثناء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)
(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي).
جزم جواب الأمر، ومعنى أَسْتَخْلِصْهُ: أي أجْعَلْه خالصاً لي، لا يشركني
فيه أحد.
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)
أي عرفنا أمانتك وبراءتك مما قرفت به.
* * *
(قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
أي على أموالها
(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
أي أحْفظها وأعلمُ وُجُوهَ مُتصَرفَاتها، وإنماسأله أن يجعله على خزائن
الأرض لأن الأنبياء بُعِثُوا في قامة الحق والعدْلِ ووضع الأشياء مواضعَها، فعلم يوسف عليه السلام أنه لا أحد أقوَمُ بذلك منه، ولا أوضَعُ له في مواضعها..
فسأل ذلك إرادة للصلاح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩)
وهذا - واللَّه أعلم - قد كان قبله كلام جرَّ إليه ما يُوجب طلبَ أخيهم
منهم، - لأنه لا يقول ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ من غَير أن يجريَ مَا يُوجِبُ
هذا القول. فكأنَّه - واللَّهُ أعلم - سألهم عن أخبارهمْ وأمْرِهِم وعدَدِهم، فاجْتَرَأ لقول هذه المسألة.
لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.
* * *
وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠)
القراءة بكسر التُون، ويجوز الفتح بفتح النون لأنها نون جماعة كما
قال: (فَبِمَ تُبَشرُونَ) بفتح النون، وتكون (وَلَا تَقْرَبُونِ) لفظه لفظ الخبر
ومعناه معنى الأمر.
* * *
(قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١)
(وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) توكيد.
* * *
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ).
ولفِتْيَيهِ، قُرِئَتَا جميعاً، والفتيان والفتية المماليك في هذا الموضع.
(اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
وفي هذا وجهان، أي إذا رأوا بضاعتهم مردودة عليهم، علموا أن ما
كيلَ لهم مِنَ الطعام لم يؤخذ منهم ثمنُه، وأن وضع البضاعة في الرحال لم
يكن إلا عن أمْر يُوسُفَ، ويجوز أن يكون (لعلهم يَرْجِعُونَ) يَرُّدون البضاعة.
لأنها ثمن ما اكتالوه. ولأنهم لا يأخذون شيئاً ألا بثمنه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣)
(فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
أي إن أرسلته معنا اكتلنا، وإلا فقد مُنِعْنَا الكيلَ.
* * *
(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
فقد ضمنتم لي حفظ يوسف وكذلكم ضمانكم هذا عندي.
(فَاللَّهُ خَيْرٌ حِفْظاً).
وتقرأ (حَافِظًا). وحفظاً منصوب على التمييز، و (حَافِظًا) منصوب
على الحال، ويجوز أن يكون حافظاً على التمييز أيضاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)
(وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ).
وتقرأ رِدَّتْ بكسر الراء، والأصل رُدِدَتْ، فأدغمت الدال الأولى في
الثانية وبقيت الراء مضمومةً.
ومن كسر الراء جعل كسرتها منقوله من الدال.
كما فعل ذلك في قِيلَ وبيع لتدل أن أصلَ - الدال الكسر.
وقد حكى قطرب أنه يقال في ضُرِبَ زيد؛ ضُرْبَ زَيْدٌ وضِرْبَ زيدٌ -
بكسر الضاد. أسكن الراء، ونقل كسرتها إلى الضاد.
وعلى هذه اللغة يجوز في كَبِدٍ كِبْد.
* * *
(قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي).
أي ما نريد، وما في موضع نصب، المعنى أي شيء نريد وقد رُدَّتْ
علينا بضاعتنا، ويجوز أن يكون (ما) نفياً، كأنَّهم قالوا ما نبغي شيئاً.
(هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا).
(وَنَمِيرُ أهْلَنَا).
يقال: مِرْتُهم أميرهم ميراً إذا أتيتهم بالمير.
(وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).
لأنه كان يكال لكل رجل وقْرُ بَعير.
(ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ).
* * *
(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
(إلا أنْ يُحَاطَ بِكُمْ).
فموضع أن نصب، والمعنى لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا لإحَاطَةٍ بِكُمْ، أي لا لتمتنعوا
من الإتيان به إلا لهذا، وهذا يسمى مفعولاً له، وإلا ههنا تأتي بمعنى تحقيق
الجزاء، تقول: ما تأتي - إلا لأخْذِ - الدرَاهِم وإلا أن نأخذ الدراهم، ومعنى الإحاطة بهم، أنه يحال بينهم وبينه فلا يقدروا على الإتيان به.
* * *
(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
قد خاف عليهم العين، وأمر العين صحيح - واللَّه أعلم - وقد روي عن
النبي - ﷺ - أنه عَوّذَ الحسَنَ والحسيْنَ فقال في دعوته: وأعيذكما من كل عين لامَّة.
* * *
وقوله: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦٨)
أي إلا خوف العين، وتأويل (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)
قُدَّرَ أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين.
وجائز أن يكون: لايغني مع قضاء الله شيء.
(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ).
أي لذو علم لتعليمنا إياه، ونصب حاجة استثناء ليس من الأول، المعنى
لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)
(آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ)
أي ضَمَّ إليه أخاه.
(فَلَا تَبْتَئِسْ): أي لا تحزن ولا تستكن
ْأي أعلم معلم، يقال آذنته بالشيء فهو مُؤذَن به أي أعلمته وأذنت أكثرت الإعلام بالشيء.
(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
المعنى: يا أيها الأصحاب للعير، ولكن قال: أيتها العير، وهو يريد أهل
العير، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهل القرية وأَنَّثَ " أيَّا " لأنه جعلها للعير.
* * *
وقوله: (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
وقرئت " صَوَاعَ الملك "، وقرئت " صَاعَ الملكِ "، قرأ أبو هريرة صاغ
الملك، وقرئت صوغ الملك - بالغين معجمة.
(وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ).
أي حمل بعير من الطعام
(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)
أي كفيل.
الضواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وكذلك الصاعُ يذكر
ْويؤنث، وجاء في التفسير أنه إناء مستطيل يشبه المكوك، كان يشرب به
الملكُ، وهو السقاية. وقيل إنه كان مصنوعاً من فضة مموَّهاً بذهب.
وقيل إنه كان من مِسٍّ، وقيل إنه كان يشبه الطاسَ.
* * *
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣)
معنى تَاللَّهِ: واللَّه، إلا أن التاء لا يقسسم بها إلا في (اللَّه) لا يجوز
تالرحمن ولا تَرَبِّي لأفعلنَّ، والتاء بدل من الواو كما قالوا في وراثٍ تُراث،
ولا يرعون زرع أحَدٍ
وجعلوا على أفواه إبلهم الأكفةَ لئلا تعبث في زرع، وقالوا:
(وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ).
لأنهم قد كانوا فيما روي ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، أي
فمن رَدَّ مَا وَجَده كيف يكون سارقاً.
* * *
(قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)
أي مِثْلُ هذا الجزاءِ نجزي الظالمين، وكان جزاء السارق عندهم أن
يُستَعْبَدَ بسَرقَتِهِ، يَصيرُ عَبْداً لأنه سرق.
فأمَّا رفعُ (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) فمن جهتين:
أحدهما أن هو جزاؤه ابتداء، ويكون من وجد في رحله الخبر، ويكون المعنى جزاء السَّرق الإنسانُ الموجود في رحله السَّرَقُ.
ويكون قوله (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) زيادةً فى الإبانة.
كما تقول: جزاء السارق القطع فهو جزاؤه. فهذا جزاؤه، زيادةٌ في الإبانة.
ويجوز أن يكون يرتفع بالابتداء، ويكون (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ).
هذه الجملة خبر الجزاء، والعائد عليه من الجملة " جَزَاؤُهُ " الذي بعد
قوله " فهو "، كأنَّه قيل: قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، أيْ فهو
الجزاء، ولكن الإظهار كان أحسن ههنا لئلا يقع في الكلام لبس، ولئلا
يتوهم أن (هو) إذا عادت ثانية فليست براجعة على الجزاء، والعرب إذا
أقحمت أمر الشيء جعلت العائد عليه إعادة لفظه بعينه.
أنشد جميع النحويين:
ولم يقل: لا أرى الموت يسبقه شيء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
(ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ).
رجع بالتأنيث على السقاية، ويجوز أن يكون أنث الصواع.
(كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ).
أي في سيرة الملك، وما يدين به الملك، لأن السارق في دين الملك
كان يغرم مِثْلَي مَا سَرِقَ، وكان عند آل يعقوبَ وفي مَذْهَبِهِم أنْ يَصِيرَ السارقُ عَبْداً يَسْتَرِقَهُ صاحب الشيء المسروق.
(إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
موضع (أَنْ) نصب، لما سقطت الباء أفضى الفعل فنصب، المعنى ما كان
ليأخذ أخاه في دين الملك إلا بمشيئة اللَّه.
(نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ).
على إضافة الدرجات إلى " من " ويجوز (دَرَجَاتٍ) بالتنوين، على أن يكون
(مَنْ) في موضع نصب، المعنى نرفع من نشاء دَرَجاتٍ. ويجوز رفع درجات
من نشاء، وهي حسنة، ولا أعلمها رُوِيتْ فلا تقرأن بها إن لم تصح
فيها رواية.
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
قيل في التفسير: فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى اللَّهِ
عزَّ وجلَّ.
* * *
(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧)
بعض من يخالف أهْلَ مِلَّةِ الإسلام من ذهب، وهذا الذي أخذه كان على
جهة الإِنكار، لئلا يُعظَّمَ مثل ذلك
(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ).
أي لبم يظهرها لهم.
(قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا).
وهذا إضمار على شريطة التفسير، لأن قوله (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) بَدَلٌ
من (ها) في قوله: (فَأَسَرَّهَا).
المعنى: فَأَسَرَّ يوسف في نفسه قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا)
المعنى - واللَّه أعلم - (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) في السرقِ بالصحَةِ لأنكم
سَرَقْتُمْ أخَاكُمْ مِنْ أبيكم.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ).
أي اللَّه أعلمُ أسرق أخ لَهُ أمْ لا.
* * *
(قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
والعزيز الملك
(إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا).
(شَيْخًا). من نعت أبٍ، وأبٌ مَنْصُوبٌ بـ (إنَّ) و (كَبِيرًا) من نعت شيخ.
(فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
أي ممن يُحسِنُ ولا يُعَامِلُ بالتحديد في واجب لأنه كان أعطاهم الطعام
وأعطاهم ثمنه في رده البضاعة لهم، فطالبُوه بأن يُحْسِنَ.
(مَعَاذَ اللَّهِ) منصوب على المصدر المعنى أعوذ باللَّهِ مَعاذاً، وموضع أن
نَصْبٌ، المعنى أعوذ باللَّهِ من أخذ أحَدٍ إلا مَنْ وَجَدْنا متاعنا عنده، فلما
سَقَطَتْ (من) أفضى الفعل فنصب.
(إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ)
أي إن أخذنا غيره فنحن ظالمون.
* * *
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠)
المعنى خَلَصوا يَتَناجَوْنَ، أي خَلَصُوا مُتَنَاجِينَ فيما يعملُون في ذهابهم
إلى أبيهم، وليس معهم أخوهم، و " نجِيٌّ " لفظ واحد في معنى جمع، وكذلك (وإذْ هُمْ نَجْوَى).
ويجوز قوَم نجيٌّ وقوم نَجْوَى وقوم أَنْجِية.
قال الشاعرُ
إني إذا ما القومُ صاروا أنْجيَهْ
واختلف القولُ اختلاف الأرْشِيَة
هناكَ أوصيني ولا توصي بَيهْ
ومعنى خلصوا انفردوا وليس معهم أخوهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ).
أجِود الأوجه أن يكون (مَا) لغواً، فيكون المعنى: وَمِنْ قَبْلُ فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ - ويجوز أن يكون ما في موضع رفع، فيكون المعنى ومن قَبْلِ
موضع نصْبٍ نسق على (أنَّ)، المعنى ألم تعلموا أن أباكم، وتعلموا تفريطبهم في يوسف.
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي).
أي لن أبرح أرض مصر، وإلا فَالناس كلهم على الأرض.
(أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي).
نسق على (حَتَّى يَأْذَنَ)، ويجوز أن يكون " أو " على جَوابِ " لَنْ "
المعنى لن أبرح الأرض حتى يحكم اللَّه لي.
* * *
وقوله: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١)
(إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ).
ويجوز سُرقَ، إلا أن سرق آكد في القراءة، وسُرِّقَ يكون على ضربين، "
سُرِّق عُلِم أَنهُ سَرَقَ، وسُرِّق اتهمَ بالسرق.
* * *
ْ (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
أي زيَّنت لكم أنفسكم وحببت إليكم أنفسكم.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
المعنى فأمري صبر جميل أو فصبري صبر جميل، وقد فسرنا هذا فيما
سبق من السور:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
(يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)
معناه يا حزناه، والأصل يا أسفي إلا أن " يا " الإضافة يجوز أن تبدل ألفاً
لخفة الألف والفتحة.
(فَهُوَ كَظِيمٌ) أي محزون.
* * *
(قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥)
أي لاَ تزال تذكر يوسف.
(حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً).
والحَرَضُ الفاسد في جسمه، أي حتى تكون مُدْنَفاً مريضاً.
والحرض الفاسد في أخلاقه، وقولهم: حَرضْتُ فلاناً على فلانٍ، تَأويلُه أفسدته عليه.
وإنما جاز إضمار " لا " في قوله (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) لأنه لا يجوز في
القسم تاللَّه تفعل حتى تقول لتفعلن. أو لا تفعل.
والقسم لا يجوز للناس إلا باللَّهِ عزَّ وجلَّ، لا يجوز أو يحلف الرجل بأبيه.
ولا ينبغي أن يحلف بالأنبياء، ولا يحلف إلا باللَّه، ويروى عن النبي عليه السلام أنه قال لِعُمَر: لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف باللَّه.
فإن قال القائل: فما مجاز القسم في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ في قوله: (والليل إذا يغشى)، (والسماء ذات البروج) (والتين والزيتون)
وما أشبه هذه الأشياء التي ذكرها اللَّه جل جلاله في كتابه؟
ففيها أوجه كلها قد ذكرها البصريون، فقالوا: جائز أن يكون اللَّه عزَّ وجلَّ أقسم بها لأن فيها كلها دليلًا عليه وآيات بينات، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلخ الآية.
وقال: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ).
فكان القسم بهذا يدل على عظمة اللَّه.
وقال قطرب جائز أن يكون معناها: ورب الشمس وضحاها، وربِّ التين
والزيتون، كما قال: (والسماء ذات البروج).
وقال: (والأرض وما طحاها).
وقالوا أيضاً: جائز أن يكون وخَلْقِ السماوات والأرض، وخَلْقِ التين
والزيتون.
وقالوا: يجوز أن يكون لما كان معنى القسم معنى التحقيق، وأن هذه
الأشياء التي أقسم اللَّه بها حق كلها، وكذلك ما أقسم عليه حق فالمعنى كما
أن التين والزيتون حق، لقد خلقنا الِإنسان في أحسن تقويم.
وأجْود هذه الأقوال ما بدأنا به في أولها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
(وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ).
قالوا (مُزْجَاة) قليلة، وقالوا كانوا جاءُوا بمتاع الأعراب كالصوف والسمن.
وما أَشْبَهَ ذلك مما يبيعه الأعراب، وقيل إن البضاعة كانت مما لا يُتْفقُ مثلهُ في الطعام، لأن متاع الأعْراب كذلك كان تحته رديء المال.
وتأويله في اللغة، أن التزجية الشيء القليل الذي يُدَافَعُ به، تَقُول: فلان يُزَجِّي العَيْشَ أي يَدْفَع بالقليل ويكتفي به.
فالمعنى على هذا:. إنَا جئنا ببضاعة إنما يُدافع
بها أي: يتقوَّت، لَيْسَ مِما يُتَسَعُ بِه.
قال الشاعر:
الواهب المائة الهِجَانَ وعَبْدَهَا... عودُوا تُزَجِّي خَلْفَها أطفالَها
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠)
(أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).
فيها أربعة أوجه:
بجمع الهمزتين -، قالوا أئِنكَ - على تحقيقهما، ويجوز أئنك - على أن
يجعل الثانية بين الياء والهمزة. ، وقرئت. (أئنك) على إِنك بفصل بين
الهمزتين بألف لاجتماع الهمزتين.
قال الشاعر:
أَيا ظبية الوَعْساء بين جَلاجِل... وبين النَّقَا آأَنتِ أَمْ أُمُّ سالم
ويجوز قالوا إنك لأنت على لفظ الخبر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
أي لا إِفساد عليكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤)
(لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ).
معناه لولا أن تجهِّلُونِ، ويروى تسفهًّونَ.
* * *
وقوله: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧)
يقال قد خطئ يخطأ خطأ وخَطأ، وأخطأ يخطئ إخطاء.
قال امرؤ القيس:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
قال ذلك يعقوب إرَادَةَ أَن يستغفر لَهم في وقت وجه السَّحَرِ، في الوقت
الذي هو لِإجَابَةَ الدعاء لَا أَنه ضَنَّ بالاستغْفار وذلك أشبه بأخلاق الأنبياء.
أعني المبالغة في الاستغفار، وتعمد وقت الإجابة.
* * *
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩)
(آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ).
أي ضَمَّ إليه أبويه.
* * *
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
(الْعَرْش) السرير.
(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا).
كان من سنة التعظيم في ذلك الوقت أن يُسْجَدَ للمعظَّم.
وَقِيلَ: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) وَخَروا للَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
فيها قولان، أعني في دخول " مِنْ ":
جائز أن يكون أراد عَلَّمْتَنِي بعض التأويل، وآتَيتني بعض الملك.
وجائز أن يكون دخول " مِنْ " لِتُبين هذا الجنس من سائر الأجناس، ويكون المعنى: رب فد آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث، مثل قوله عزَّ وجلَّ: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)
يدل على أن " مِنْ " ههنا إنما هي لتبيين الجنس، ومثله قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) ولم يؤمَرُوا باجتناب بعض الأوثان، ولكن المعنى: واجْتَنِبوا الرجْسَ الذي هو الأوْثَانُ.
ينتصب على وجهين: أحدهما على الصفة لقوله (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ).
والمعنى: يَا ربِّ قد آتيتني، وهذا نِدَاء مضاف في موضع نصبٍ.
ويكون (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ) صفة لِلأول.
وجائز أن ينتصب على نداء ثانٍ، فيكون المعنى: يَا فَاطِرَ السماواتِ والأرْضِ أَنْتَ وَليِّي.
(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
أي ألْحِقْنِي بمرَاتبهم مِنْ رحمتك وغفرانك.
* * *
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)
هذا خِطاب للنبي عليه السلام، المعنى الذي قَصَصْنَا عليك من أمْر
يوسفَ وَإخوته مِنَ الأخْبَارِ التي كانت غائبة عنك.
فأُنزلت عَلَيْهِ دلاَلةً على إثبات نبوته، وإنْذَاراً وتيْسِيراً بتفصيل قِصَص الأمم السالفة.
وموضع (ذَلِكَ) رفع بالابتداء ويكون خبره (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ).
ويكون (نوحيه إلَيْكَ) خَبَراً ثَانِياً، وإن شئت جعلت " نوحيه " هو الخبر، وجعلت ذلك في موضع الذي.
المعنى الذي مِنْ أنباء إلغيب نوحيه إليك ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
معناه وما أكْثَر الناسِ بمؤمنين ولو حَرَصتَ على أن تَهْدِيَهمْ لأنك لا
تهدي مَنْ أحْبَبْتَ ولَكِنَّ الله يَهْدي مَنْ يَشَاءُ.
* * *
(وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤)
أي وَمَا تَسْاَلهم على القرآن وتلاَوته وهِدَايتكَ إيَّاهم من أَجْر.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)
أي ما هو إلا تذكرة لهم، بما هو صلاحهم ونجاتهم من النَّارِ وَدُخولهم
* * *
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥)
أي مِن علامة وَدلالة تَدُلُّهم على توحيد اللَّه، من أمر السَّمَاءِ وأنها بغَيْرِ
عَمَدٍ لا تقع على الأرض، وفيها من مجرى الشمس والقمر ما فيها، وفيها
أعظم البرهان والدليل على أن الَّذي خلقها واحد، وأن لها خالقأ، وكذلك
فيما يشاهد في الأرض من نباتها وبحارها وَجَبالِهَا.
(وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).
أى لا يفكرون فيما يدُلَّهمْ عَلَى توحيد اللَّه - عزَّ وجلَّ - والدليل على أنهم
لا يفكرون فيما يستدلون به قوله عزَّ وجلَّ:
(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
أي إن اعترفوا بأن الله خالقهم وخالق السَّمَاوَات والأرض، أشركوا في
عبادته الأصنام، وأشركوا غيْر الأصنَام.
* * *
(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
أي أن يأتيهم ما يعجزهم من العذابَ
(أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً).
أي فجأةً، و (بَغْتَةً) مصدر منصوب على الحال، تقول لقِيتة بَغْتَةً
وَفَجْأةً، ومعناه من حيث لم أتوقع أن ألقاه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩)
(وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا).
وفي غير مَوْضِعٍ ولَلدار الآخرة، فمن قال الدار الآخرة فالآخرة نعت
للدار، لأن لجميع الخلق دَارَيْن، الدارُ التي خُلِقوا فيها وهي الدُّنْيا، والذَاز
الآخرة التي يُعَادُونَ فيها خلقاً جدِيداً، ومَنْ قالَ " دَارُ الآخِرة " فكأنَّهُ قال: وَدَارُ
الكلام الصلَاة الأولَى، وصَلاَة الأولى.
فمن قال الصَّلاةُ الأولى جعل الأولى نعتاً للصلاة، ومن قال صلاةُ الأولى أراد صلاة الفريضة الأولى، والساعَةِ الأولى.
* * *
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
قرِئَتْ كُذِبوا وكذِّبُوا، بِالتخفيف والتشديد، وقرئت " كَذَبُوا " فأمَّا من
قرأ وَظَنوا أَنهم قد كذبُوا بالتشديد - فالمعنى حتى إذا استياس الرُّسُل من أنْ
يُصَدِّقَهمْ قومهم جَاءَهُمْ نَصْرُنَا.
ومن قرأ قد كُذِبُوا بالتخفيف، فالمعنى وظن قومهم أنهم قد كذِبُوا فيما وُعِدُوا، لأن الرسُل لا يظُنُون ذلك.
وقد قال بعضهم وظنوا أنهم قد أخْلِفوا أي ظن الرسُلُ، وذلك بعيدُ في صفة الرسل.
يروى عن عائشة أن النبي - ﷺ - لم يوعد شيئاً أخْلِفَ فيه وفي الخبر:
ومَعاذَ اللَّه أن يَظنَّ الرسُلُ هَذَا بِربِّها.
ومعنى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ [كَذَبُوا]) ظنَّ قَومُهم أيضاً أنهم قد كَذَبوا (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ).
قرئت فنُنجِّي، وفَننْجِيَ، وقرِئَتْ فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ.
وقرأ عاصم (فَنُجِّيَ مَنْ نشاء) بفتح الياء.
فأمَّا من قرأ (فننْجِي) فعلى الاستقبال، والنون نونُ الاستقبال.
أعني النون الأولى، ومن قرأ (فَنُنجِّي) - بإسكان الياء - فحذف النون
الثانية لاجتماع النونَين، كما تقول: أنت تَبَيِّن هذا الأمْرَ، تريد تَتَبيَّنُ، فحذف لاجتماع تاءين، ومن قرأ (فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ) عطف على قوله جاءهم نصرنا فنجا
قوله: ﴿كُذِبُواْ﴾ قرأ الكوفيون» كُذِبوا «بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت:» معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها «وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة.
وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه، أجودُها: أن الضميرَ في» وظنُّوا «عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩]، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه. والضمير في» أنهم «و» كُذِبوا «عائد على الرسل، أي: وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم.
الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه» حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنى: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتى استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا «انتهى/ فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن.
الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشى الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك.
قال الزمخشري: «إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟» قلت: ولا يجوز أيضاً أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه.
وقال الفارسي أيضا: «إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته». وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: «معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال: كانوا بشراً وتلا قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول﴾ [البقرة: ٢١٤].
الرابع: أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم، أي: وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا: ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون. ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال: نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم» فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً: «لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً».
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم، وفي صحيح البخاري عن عائشة: «أنها قالت: هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك». قلت: وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم.
وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد «كَذَبوا» بالتخفيف مبنياً للفاعل، والضمير على هذه القراءة في «ظنُّوا» عائد على الأمم وفي ﴿أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ عائدٌ على الرسل، أي: ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في «ظنُّوا» على الرسل وفي ﴿أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ على المُرْسَل [إليهم]، أي: وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم. وقال الزمخشري: بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل «ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه: وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم» فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال: «وقرأ مجاهد» كَذَبوا «بالتخفيف على البناء للفاعل على: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة: إمَّا على تأويل ابن عباس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم: قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو: وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا». اهـ (الدر المصون).
فبمعنى الماضي على ما لم يسمَّ فاعله، ويَكون موضع " مَنْ " رَفْعاً.
ويُعْلَمُ بالمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ - نَجَّاهُمْ (١).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
أي الذي تقدمه من الكتب.
ونصب " تَصْدِيقاً " على معنى كان، المعنى: ما كان حديثاً يفترى ولكن
كان تصديق الذي بين يديه.
ويجوز: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
فمن قرأ هكذا رفع الباقي المعطوفَ على تصديق، ويكون
مرتفعاً على معنى ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه.
ويكون ([وَتَفْصِيلُ] كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى [وَرَحْمَةٌ] لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نَسَقاً عَلَيْه.
وهذا لَمْ تثبت بقراءته رواية صحيحة، وَإنْ كانَ جائزاً في العربية لا
اختلاف بين النحويين في أنه جيِّدٌ بالغ، فلا تَقْرأنَّ به ولا تُخَالِفْ الإجماع
بمذاَهب النحْويينَ.
قوله: ﴿فَنُجِّيَ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول، و «مَنْ» قائمة مقام الفاعل. والباقون بنونين ثانيتهما ساكنةٌ، والجيم خفيفة، والياء ساكنة على أنه مضارع أنجى و «مَنْ» مفعولةٌ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه. وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنهم سَكَّنوا الياء. والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم، وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة ﴿تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله:
٢٨٣٥....................... قد خُلِطْ بجُلْجُلان
وتقدَّم معه أمثالُه. وقيل: الأصل: ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم. على أنه قد قيل بذلك في قوله ﴿نُنجِي المؤمنين﴾ [الأنبياء: ٨٨] كما سيأتي بيانه.
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: «رواها ابنُ هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلطٌ من ابن هبيرة» قلت: توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع باقٍ على رفعه فأنكر فتحَ لامِه وغلَّط راويَها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها: نصبُه بإضمار «أنْ» بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه
﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٤] إلى أنْ قال: «فيغفر» قرىء بنصبه، وتقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة أو غيرَ جازمة كهذه الآية. وقرأ الحسن أيضاً «فَنُنَجِّي» بنونين والجيم مشددة والياء ساكنة، مضارع نجى مشدداً للتكثير. وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة «فنجا» فعلاً ماضياً مخففاً و «مَنْ» فاعله.
ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر، و «مَنْ» مفعوله، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها «فنجي» بنونٍ واحدة نقله الداني. وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها، فأشعر هذا بوقوع خلافٍ في الرسل، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ للمفعول.
وقرأ أبو حيوة «يشاء» بالياء، وقد تقدَّم أنه يقرأ «فنجا» أي فنجا مَنْ يشاء اللَّه نجاته.
وقرأ الحسن «بأسَه»، والضمير للَّه، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد.
اهـ (الدر المصون).