تفسير سورة سورة مريم من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المعروف بـتفسير أبي السعود
.
لمؤلفه
أبو السعود
.
المتوفي سنة 982 هـ
سورة مريم عليها السلام مكية إلا آيتي ٥٨ و ٧١ فمدنيتان السجدة وهي ثمان وتسعون آية.
ﰡ
(كهيعص) بإمالة الهاءِ والياء وإظهار الدال وقرئ بفتح الهاء وإمالةِ الياء وبتفخيمهما وبإخفاء النونِ قبل الصادِ لتقاربهما وقد سلف أن مالا يكون من هذه الفواتح مفردة ولا موازِنةً لمفرد فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ساكنةُ الأعجاز على الوقف سواءٌ جُعلت أسماءً للسور أو مسرودةً على نمط التعديدِ وإن لزِمها التقاءُ الساكنين لكونه مغتفراً في باب الوقف قطعاً فحق هذه الفاتحة الكريمةِ أن يوقف عليها جريا على الأصل وقرئ بإدغام الدال فيما بعدها لتقاربهما في المخرج فإن جُعلت اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والتقديرُ هذا كهيعص أي مسمًّى به وإنما صحت الإشارةُ إليه مع عدم جرَيانِ ذكرِه لأنه باعتبار كونِه على جناح الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ
المشاهَد كما يقال هذا ما اشترى فلان أو على أنَّه مبتدأٌ خبرُه
(ذكر رحمة رَبّكَ) أي المسمّى به ذكرُ رحمة الخ فإن ذكرَها لمّا كان مطلَعَ السورةِ الكريمة ومعظمَ ما انطوت هي عليه جُعلت كأنها نفسُ ذكرها والأولُ هو الأولى لأن ما يُجعلُ عُنواناً للموضوعِ حقَّه أن يكون معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب وإذ لا عِلْمَ بالتسمية من قبلُ فحقُها الإخبارُ بها كما في الوجه الأول وإن جُعلت مسرودةً على نمط التعديدِ حسما جنَح إليه أهلُ التحقيقِ فذكرُ الخ خبرٌ لمبتدأ محذوف هو ما ينبئ عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل المؤلَّفُ من جنس هذه الحروف المبسوطةِ مراداً به السورةُ ذكرُ الرحمة الخ أو اسمُ إشارةٍ أُشير به إليه تنزيلاً لحضور المادة منزلة حضور المؤلف منها أي هذا ذكر رحمة الخ وقيل هو مبتدأٌ قد حذف خبره
252
مريم ٣ ٤ أي فيما يتلى عليك ذكرها وقرئ ذكَّر رحمةَ ربك على صيغة الماضي من التذكير أي هذا المتلوُّ ذكّرها وقرئ ذكر على صيغة الأمر والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمالِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ للإيذان بأن تنزيلَ السورة عليه ﷺ تكميل له ﷺ وقوله تعالى (عَبْدِهِ) مفعولٌ لرحمة ربك على أنها مفعولٌ لما أضيف إليها وقيل للذكر على أنه مصدرٌ أضيف إلى فاعله على الاتساع ومعنى ذكرِ الرحمةِ بلوغُها وإصابتُها كما يقال ذكرني معروفُ فلان أي بلغني وقوله عز وعلا (زَكَرِيَّا) بدلٌ منه أو عطفُ بيان له
253
(إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً) ظرفٌ لرحمة ربك وقيل لذِكرُ على أنه مضافٌ إلى فاعله اتساعاً لا على الوجه الأولِ لفساد المعنى وقيل هو بدلُ اشتمالٍ من زكريا كما في قوله واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسنَ الأدب في إخفاء دعائِه فإنه مع كونه بالنسبة إليه عز وجل كالجهر أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولدِ لتوقفه على مباد لا يليق به تعاطيها في أوان الكِبَر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم وقيل كان ذلك منه عليه السلام لضَعف الهرم قالوا كان سنُّه حينئذ ستين وقيل خمساً وستين وقيل سبعين وقيل خمساً وسبعين وقيل ثمانين وقيل أكثرَ منها كما مر في تفسير سورة آل عِمرانَ
(قَالَ) جملةٌ مفسِّرةٌ لنادى لا محلَّ لها من الإعراب (رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى) إسنادُ الوهن إلى العظم لِما أنه عمادُ البدن ودِعامُ الجسد فإذا أصابه الضَّعفُ والرخاوة أصاب كلَّه أو لأنه أشدُّ أجزائه صلابةً وقِواماً وأقلُّها تأثراً من العلل فإذا وهَن كان ما وراءه أوهنَ وإفرادُه للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهْنِ لكُلِّ فردٍ منْ أفرادِهِ ومنّي متعلق بمحذوف هو حال من العظم وقرئ وهِن بكسر الهاء وبضمها أيضاً وتأكيدُ الجملة لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونها (واشتغل الرأس شيبا) شبه عليه الصلاة والسلام الشيبَ في البياض والإنارة بشُواظ النار وانتشارَه في الشعر وفُشوَّه فيه وأخذَه منه كلَّ مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مُخرجَ الاستعارةِ ثم أَسند الاشتعالَ إلى محل الشعرِ ومنبِتِه وأخرجه مُخرج التمييز وأطلق الرأسَ اكتفاءً بما قيّد به العظمَ وفيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة مالا يخفى حيث كان الأصلُ اشتعل شيبُ رأسي فأسند الاشتعالَ إلى الرأس كما ذُكر لإفادة شمولِه لكلها فإن وِزانَه بالنسبة إلى الأصل وزانُ اشتعل بيتُه ناراً بالنسبة إلى اشتعل النارُ في بيته ولزيادة تقريرِه بالإجمال أولاً والتفصيلِ ثانياً ولمزيد تفخيمِه بالتنكير وقرئ بإدغام السينِ في الشين (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً) أي ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمُر الطويلِ بل كلما دعوتُك استجبتَ لي والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها أو حالٌ من ضميرِ المتكلم إذِ المعنى واشتعل رأسي شيباً وهذا توسلٌ منه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد
253
مريم ٥ ٦ يُخيّبه أبداً لا سيما عند اضطرارِه وشدة افتقارِه والتعرض في الموضعين لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن إضافة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا سيما توسيطُه بين كان وخبرها لتحريك سلسلةِ الإجابةِ بالمبالغة في التضرّع ولذلك قيل إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤُه فليدعُ الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه (وَإِنّي خِفْتُ الموالى) عطف على قوله تعالى إِنّى وَهَنَ العظم مترتبٌ مضمونه على مضمونه فإن ضَعفَ القُوى وكِبَر السنِّ من مبادئ خوفه عليه السلام من يلي أمرَه بعد موته ومواليه بنو عمه وكانوا أشرارَ بني إسرائيلَ فخاف أن لا يُحسِنوا خلافتَه في أمته ويبدّلوا عليهم دينَهم وقوله
254
(مِن وَرَائِى) أي بعد موتي متعلقٌ بمحذوف ينساق إليه الذهنُ أي فِعلَ الموالي من بعدي أو جور الموالي وقد قرئ كذلك أو بما في الموالي من معنى الوِلاية أي خِفتُ الذين يلون الأمرَ من ورائي لا يخفت لفساد المعنى وقرئ ورايَ بالقصر وفتح الياء وقرئ خفّت الموالي من ورائي أي قلوا وعجَزوا عن القيام بأمور الدين بعدي أو خفّت الموالي القادرون على إقامة مراسمِ الملة ومصالحِ الأمة من خفَّ القوام أي ارتحلوا مسرعين أي درَجوا قُدّامي ولم يبقَ منهم من به تَقوَ واعتضادٌ فالظرفُ حينئذ متعلقٌ بِخفّتْ (وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا) أي لا تلد من حينِ شبابها (فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ) كلا الجارّين متعلقٌ بهب لاختلاف معنييهما فاللامُ صلةٌ له ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً وتقديمُ الأول لكون مدلولِه أهمَّ عنده ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المفعول ولدُنْ في الأصل ظرفٌ بمعنى أولُ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرِهما من الذوات وقد مر تفصيله في أوائل سورة آل عمران أي أعطِني من مَحْض فضلِك الواسعِ وقدرتِك الباهرةِ بطريق الاختراعِ لا بواسطة الأسباب العادية (وَلِيّاً) أي ولداً من صُلبي وتأخيرُه عن الجارَّين لإظهار كمالِ الاعتناءِ بكون الهبةِ له على ذلك الوجه البديعِ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقَّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مستشرقه فعند ورودِه لها يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ ولأن فيه نوعَ طولٍ بما بعده من الوصف فتأخيرُهما عن الكل أو توسيطُهما بين الموصوف والصفه مما لا يليقُ بجزالةِ النظم الكريم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قيلها فإن ما ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من كبر السن وضعف القُوى وعقرِ المرأة موجبٌ لانقطاع رجائِه عليه السلام عن حصول الولدِ بتوسط الأسبابِ العادية واستيهابِه على الوجه الخارِق للعادة ولا يقدحُ في ذلك أن يكون هناك داعٍ آخرُ إلى الإقبال على الدعاء المذكورِ من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرةِ في حق مريمَ كما يعرب عنه قوله تعالى هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ الآية وعدمُ ذكرِه ههنا للتعويل على ذكره هناك كما أن عدمَ ذكرِ مقدمةِ الدعاء هناك للاكتفاء بذكره ههنا فإن الاكتفاءَ بما ذكر في موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ من النكت التنزيلية وقوله تعالى
(يرثني) صفة لوليا وقرئ هو وما عُطف عليه بالجزم جواباً للدعاء أي يرثني من حيث العلمُ والدينُ والنبوةُ فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام لا يورثون المال قال صلى الله عليه وسلم
254
مريم ٧
نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورَث ما تركنا صدقةٌ وقيل يرثني الحُبورة وكان عليه السلام حِبْراً (وَيَرِثُ من آل يَعْقُوبَ) يقال ورِثه وورِث منه لغتان وآلُ الرجل خاصّته الذين يؤُول إليه أمرُهم للقرابة أو الصُّحبة أو الموافقة في الدين وكانت زوجةُ زكريا أختَ أمِّ مريمَ أي ويرث منهم الملكَ قيل هو يعقوب بن اسحاق ابن إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام وقال الكلبي ومقاتل هو يعقوبُ بنُ ماثانَ أخو عمرانَ بنِ ماثان من نسل سليمانَ عليه السلام وكان آلُ يعقوب أخوالَ يحيى بنِ زكريا قال الكلبي كان بنو ماثانَ رءوس بني إسرائيلَ وملوكَهم وكان زكريا رئيسَ الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولدُه حبورتَه ويرثَ من بني ماثان ملكهم وقرئ ويرث وارثَ آلِ يعقوب على أنه حال من المستكن في يرث وقرئ أو يرث آل يعقوب بالتصغير ففيه إيماءٌ إلى وراثته عليه السلام لما يرثه في حالة صِغَره وقرئ وارثٌ من آل يعقوب على أنه فاعلُ يرثني على طريقة التجريد أي يرثني به وارثٌ وقيل من للتبغيض إذ لم يكن كلُّ آلِ يعقوبَ عليه السلام أنبياءَ ولا علماءَ (واجعله رَبّ رَضِيّاً) مرضياً عندك قولاً وفعلاً وتوسيطُ ربِّ بين مفعولي اجعَلْ للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه
255
(يَا زَكَرِيَّا) على إرادةِ القولِ أيْ قال تعالى يَا زَكَرِيَّا (إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى) لكن لا بأن يخاطبه عليه الصلاة والسلام بذلك بالذات بل بواسطة الملَك على أن يحكيَ له عليه الصلاة والسلام هذه العبارة عنه عز وجل على نهج قوله تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ الآية وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ آلِ عمران وهذا جوابٌ لندائه عليه الصلاة والسلام ووعدٌ بإجابة دعائِه لكن لا كلا كما هو المتبادَرُ من قوله تعالى فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى الخ بل بعضاً حسبما تقتضيه المشيئةُ الإلهيةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا مستجابي الدعوةِ لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعواتِ ألا يرى إلى دعوة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في حق أبيه وإلى دعوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حيث قال وسألته أن لا يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعض فمنعنيها وقد كان من قضائه عز وعلا أن يهبَه يحيى نبياً مرضياً ولا يرثه فاستجيب دعاؤُه في الأول دون الثاني حيث قتل قبلَ موت أبيه عليهما الصلاة والسلام على ما هو المشهورُ وقيل بقي بعده برهةً فلا إشكال حينئذ وفي تعيين اسمه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ للوعد وتشريف له عليه الصلاة والسلام وفي تخصيصه به عليه السلام حسبما يُعرب عنه قوله تعالى (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً) أي شريكاً له في الاسم حيث لم يُسمَّ أحدٌ قبله بيحيى مزيدُ تشريف وتفخيم له عليه الصلاة والسلام فإن التسميةَ بالأسامي البديعة الممتازة عن أسماء سائرِ الناس تنويهٌ بالمسمّى لا محالة وقيل سميا شبها في الفضل والكمالِ كما في قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فإن المتشاركين في الوصف بمنزلة المتشاركين في الاسم قالوا لم يكن له عليه الصلاة والسلام مِثْلٌ في أنه لم يعصِ الله تعالَى ولم يهُمَّ بمعصية قط وأنه ولد من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر وأنه كان حَصوراً فيكون هذا إجمالاً لما نزل بعده من قوله تعالى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ الصالحين والأظهرُ أنه اسمٌ أعجميٌّ وإن كان عربياً فهو منقول عن الفعل كيعمَرَ ويَعيشَ قيل سمي به لأنه حي به رحم أمه أوحى دينُ الله تعالى بدعوته
255
(قال) استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال عليه الصلاة والسلام حينئذ فقيل قال (رَبّ) ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابِه تعالى إليه بتوسيط الملَك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجِدِّ في التبتل إليه تعالى والاحترازِ عما عسى يُوهم خطابُه للملك من توهُّم أن علمَه تعالى بما يصدُر عنه متوقِّفٌ على توسطه كما أن علمَ البشرِ بما يصدر عنه سبحانه متوقِّفٌ على ذلك في عامة الأوقات (أنى يَكُونُ لِي غلام) كلمة أنى بمعنى كيف أو من أين وكان إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجارِّ على الفاعلِ لما مرَّ مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخر أي كيف أو من أين يحدُث لي غلامٌ ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من غلامٌ إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أي أنى يحدث كائناً لي غلام أو ناقصةٌ اسمُها ظاهرٌ وخبرُها إما أنى ولي متعلقٌ بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصبٌ على الظرفية وقوله تعالى (وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا) حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً) حالٌ منه مؤكدةٌ للاستبعاد إثرَ تأكيد أي كانت امرأتي عاقراً لم تلِدْ في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوزٌ وقد بلغتُ أنا من أجل كِبَر السنِّ جساوة وقحولاً في المفاصل والعِظام أو بلغتُ من مدارج الكِبَر ومراتبه ما يسمى عِتيًّا من عتا يعتو وأصله عتو وكقعود فاستُثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم قلبت الثانية أيضا لاجماع الواو والياء وسبْقِ إحداهما بالسكون وكُسرت العينُ إتباعاً لها لما بعدها وقرئ بضمها ولعل البداءة ههنا بذكر حال امرأتِه على عكس ما في سورة آل عمرانَ لِما أنه قد ذُكر حالُه في تضاعيف دعائِه وإنما المذكورُ ههنا بلوغُه أقصى مراتبِ الكِبَر تتمةً لما ذكر قبل وأما هنالك فلم يسبِقْ في الدعاء ذكرُ حاله فلذلك قدّمه على ذكر حال امرأتِه لِما أن المسارعةَ إلى بيان قصورِ شأنه أنسبُ وإنما قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع سبق دعائِه بذلك وقوةِ يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدتِه للشواهد المذكورة في سورة آلِ عمران استعظاماً لقدرة الله تعالى وتعجيباً منها واعتداداً بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محضِ لطفِ الله عز وعلا وفضله مع كونه في نفس من الأمور المستحيلةِ عادة لا استبعاداً له وقيل إنما قاله ليُجابَ بما أجيب به فيزدادَ المؤمنون إيقاناً ويرتدعَ المبطلون وقيل كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام استفهاماً عن كيفية حدوثه وقيل بل كان ذلك بطريق الاستبعادِ حيث كان بين الدعاء والبِشارة ستون سنة وكان قد نسِيَ دعاءَه وهو بعيد
(قال) استناف كما مر مبنيٌّ على سؤال نشأ مما سلف والكافُ في قوله تعالى (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ) مقحمةٌ كما في مثلُك لا يبخل محلُّها إما النصبُ على أنَّه مصدرٌ تشبيهي لقال الثاني وذلك إشارةٌ إلى مصدره الذي هو عبارةٌ عن الوعد السابقِ لا إلى قول آخرَ شُبِّه هذا به وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا وقولُه تعالى (هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ) جملةٌ مقرِّرةٌ للوعد المذكورِ دالةٌ على إنجازه داخلةٌ في حيز قال الأول كأنه قيل قال الله عز وجل مثلَ
256
ذلك القولِ البديع قلت أي مثلَ ذلك الوعدِ الخارق للعادة وعدت هو علي خاصة هين وإن كان في العادة مستحيلاً وقرئ وهو علي هينٌ فالجملة حينئذ حالٌ من ربك والياء عبارةٌ عن ضميره كما ستعرفه أو اعتراضٌ وعلى كل حالٍ فهي مؤكدةٌ ومقرِّرةٌ لما قبلها ثم أُخرج القولُ الثاني مُخرجَ الالتفاتِ جرياً على سَنن الكبرياء لنريه المهابةِ وإدخال الروعةِ كقول الخلفاء أميرُ المؤمنين يرسُم لك مكان أنا أرسم ثم أُسند إلى اسم الربِّ المضاف إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ تشريفاً له وإشعاراً بعلة الحُكم فإن تذكيرَ جرَيانِ أحكامِ ربوبيتِه تعالى عليه الصلاة والسلام من إيجاده من العدم وتصريفِه في أطوار الخلقِ من حال إلى حال شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ كمالَه اللائقَ به مما يقلَع أساسَ استبعاده عليه الصلاة والسلام لحصول الموعود ويورثه عليه الصلاة والسلام الاطمئنانَ بإنجازه لا محالة ثم التُفت من ضمير الغائبِ العائدِ إلى الرب إلى ياء العظمةِ إيذاناً بأن مدارَ كونه هيّناً عليه سبحانه هو القدرةُ الذاتيةُ لا ربوبيتُه تعالى له عليه الصلاة والسلام خاصة وتمهيداً لما يعقُبه وقيلَ ذلكَ إشارةٌ إِلى مُبهمٌ يفسّره قولُه تعالى هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ على طريقة قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ولا يخرج هذا الوجهُ على القراءة بالواو ولأنها لا تدخل بين المفسِّر والمفسَّر وإما الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما تقدم من وعده تعالى أي قال عز وعلا الأمرُ كما وعدتُ وهو واقعٌ لا محالةَ وقولُه تعالَى قَالَ رَبُّكِ الخ استئنافٌ مقرِّر لمضمونه والجملةُ المحكية على القراءة الثانية معطوفةٌ على المحكية الأولى أو حالٌ من المستكنِّ في الجار والمجرور وأيا ما كان فتوسيطُ قال بينهما مُشعرٌ بمزيد الاعتناءِ بكل منهما والكلامُ في إسناد القولِ إلى الرب ثم الالتفاتِ إلى التكلم كالذي مر آنفاً وقيلَ ذلكَ إشارةٌ إِلى ما قاله زكريا عليه الصلاة والسلام أي قال تعالى الأمرُ كما قلت تصديقاً له فيما حكاه من الحالة المباينةِ للولادة في نفسه وفي امرأته وقوله تعالى قَالَ رَبُّكِ الخ استئنافٌ مَسوقٌ لإزالة استبعادِه بعد تقريره أي قال تعالى وهو مع بعده في نفسه علي هين والقراءة الثاني أَدخلُ في إفادة هذا المعنى على أن الواو للعطف وأما جعلُها للحال فمُخِلٌّ بسِداد المعنى لأن مآلَه تقريرُ صعوبته حال سهولتِه عليه تعالى مع أن المقصودَ بيانُ سهولتِه عليه سبحانه مع صعوبته في نفسه وقولُه تعالَى (وَقَدْ خَلَقْتُكَ من قبل ولم تكن شَيْئاً) جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها والمرادُ به ابتداء خلق البشر هو الواقعُ إثرَ العدم المحضِ لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالدِ المعتادِ وإنما لم يُنسَبْ ذلك إلى آدم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو المخلوقُ من العدم حقيقةً بأن يقال وقد خلقتُ أباك أو آدمَ من قبل ولم يك شيئاً مع كفايته في إزالة الاستبعادِ بقياس حالِ ما بُشّر به على حالُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لتأكيد الاحتجاج به وتوضيح منهاجِ القياس حيث نبه على أن كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه الصلاة والسلام من العدم إذ لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرية سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان إبداعه عليه الصلاة والسلام على ذلك الوجه إبداعاً لكل أحد من فروعه كذلك ولما كان خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخلقِ المذكورِ إليه وأدلَّ على عظم قدرتِه تعالَى وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان عدم
257
مريم ١٠ ١٢
زكريا حينئذ أظهرَ عنده وأجلى وكان حالُه أولى بأن يكون معياراً لحال ما بشر به نُسب الخلقُ المذكور إليه كما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين في قولِه تعالى وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه فكأنه قيل وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ في تضاعيف خلقِ آدمِ ولم تكن إذ ذاك شيئاً أصلاً بل عدماً بحتاً ونفياً صِرْفاً هذا وأما حملُ الشيء على المعتدّ به أي ولم تكن شيئاً معتداً به فيأباه المقام ويرده نظم الكلام وقرئ خلقناك
258
(قال رب اجعل آية) أي علامةً تدلني على تحقق المسؤولِ ووقوعِ الحبَل ولم يكن هذا السؤالُ منه عليه الصلاة والسلام لتأكيد البِشارة وتحقيقِها كما قيل فإن ذلك مما لا يليق بمنصِب الرسالة وإنما كان ذلك لتعريف وقت العُلوق حيث كانت البشارةُ مطلقةً عن تعيينه وهو أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه فأراد أن يُطلعه الله تعالى عليه ليتلقّى تلك النعمة الجلية بالشكر من حين حدوثِها ولا يؤخِّرَه إلى أن تظهر ظهوراً معتاداً وقد مرت الإشارةُ في تفسير سورة آل عمران إلى أن هذا السؤالَ ينبغي أن يكون بعدما مضى بعد البشارة بُرهةٌ من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءَ زكريا عليه الصَّلاة والسَّلام كان في صِغَر مريمَ لقوله تعالى هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ وهي إنما ولدت عليسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ عشرِ سنين أو بنتُ ثلاثَ عشْرةَ سنةً والجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به وتقديمُها على المفعول به لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آية إذ لو تأخرَ لكان صفةً لهَا وقيل بمعنى التصبير المستدعي لمفعولين أو لهما آيةً وثانيهما الظرفُ وتقديمُه لأنه لا مسوِّغَ لكون آيةٌ مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديمِ الظرف فلا يتغير حالُهما بعد ورودِ الناسخ (قال آيتك أَن لا تُكَلّمَ الناس) أي أن لا تقدر على أن تكلمهم بكلام الناسِ مع القدرة على الذكر والتسبيح (ثلاث لَيَالٍ) مع أيامهن للتصريح بها في سورة آل عمران (سَوِيّاً) حال من فاعل تكلم مفيدٌ لكون انتفاءِ التكلم بطريق الاضطرار دون الاختيار أي تُمنع الكلامَ فلا تطيق به حال كونك سوى الخلق سليمَ الجوارحِ ما بك شائبةُ بَكَم ولا خَرَس
(فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب) أي من المصلّى أو من الغرفة وكانوا من وراء المحرابِ ينتظرونه أن يفتح لهم البابَ فيدخلوه ويصلّوا إذْ خرج عليهم متغيِّراً لونُه فأنكروه وقالوا مالك (فأوحى إِلَيْهِمْ) أي أومأ إليهم لقوله تعالى إِلاَّ رَمْزًا وقيل كتب على الأرض وأنْ في قولِه تعالَى (أَن سَبّحُواْ) إما مفسرةٌ لأوحى أو مصدريةٌ والمعنى أي صلّوا أو بأن صلوا (بُكْرَةً وَعَشِيّاً) هما ظرفا زمانٍ للتسبيح عن أبي العالية أن المرادَ بهما صلاةُ الفجر وصلاةُ العصر أو نزِّهوا ربكم طرفي النهار ولعله كان مأموراً بأن يسبِّح شكراً ويأمرَ قومه بذلك
(يَا يحيى) استئناف طُويَ قبله جملٌ كثيرةٌ مسارعةً إلى الإنباء بإنجاز الوعدِ الكريم أي قلنا
258
مريم ١٣ ١٧
يا يحيى (خُذِ الكتاب) التوراةَ (بِقُوَّةٍ) أي بجد واستظهار بالتوفيق (وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً) قال ابن عباس رضي الله عنهما الحكمُ النبوةُ استنبأه وهو ابنُ ثلاثِ سنين وقيل الحُكمُ الحِكمةُ وفهمُ التوراة والفقهُ في الدين روي أنه دعاه الصبيانُ إلى اللعب فقال ما لِلَّعب خُلقنا
259
(وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا) عطف على الحُكم وتنوينُه للتفخيم وهو التحنّنُ والاشتياق ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة له مؤكدةٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي وآتيناه رحمةً عظيمةً عليه كائنة من جنابنا أو رحمةً في قلبه وشفقةً على أبويه وغيرهما (وزكاة) أي طهارةً من الذنوب أو صدقةً تصدقنا به على أبويه أو وفقناه للتصديق على الناس (وَكَانَ تَقِيّا) مطيعاً متجنباً عن المعاصي
(وَبَرّا بوالديه) عطف على تقياً أي بارًّا بهما لطيفاً بهما محسناً إليهما (وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) متكبراً عاقاً لهما أو عاصياً لربه
(وسلام عَلَيْهِ) من الله عز وجل (يَوْمَ وُلِدَ) من أن يناله الشيطانُ بما ينال به بني آدم (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من عذاب القبر (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً) من هول القيامةِ وعذاب النار
(واذكر في الكتاب) مستأنفٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأُمر بذكر قصة مريمَ إثرَ قصةِ زكريا لما بينهما من كمال الاشتباكِ والمرادُ بالكتاب السورةُ الكريمة لا القرآنُ إذ هي التي صُدّرت بقصة زكريا المستتبعةِ لذكر قصتها وقصصِ الأنبياء المذكورين فيها أي واذكر للناس (مَرْيَمَ) أي نَبأَها فإن الذكرَ لا يتعلق بالأعيان وقوله تعالى (إِذِ انتبذت) ظرف لذلك المضافِ لكن لا على أن يكون المأمورُ به ذكر نبذها عند انتباذِها فقط بل كلَّ ما عُطف عليه وحُكيَ بعده بطريق الاستئنافِ داخلٌ في حيز الظرف متممٌ للنبأ وقيل بدلُ اشتمال من مريم على أنَّ المرادَ بها نبؤها فإن الظروفَ مشتملةٌ على ما فيها وقيل بدلَ الكلِّ على أن المرادَ بالظرف ما وقع فيه وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كما في قولك أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني فهو بدلُ اشتمالٍ لا محالةَ وقولُه تعالَى (مّنْ أَهْلِهَا) متعلق بانتبذت وقوله (مَكَاناً شَرْقِياً) مفعولٌ له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيانِ المترتبِ وجوداً واعتباراً على أصل معناه العاملِ في الجار والمجرور وهو السرفي تأخيره عنه أي اعتزلت وانفردت منهم وأتت مكاناً شرقياً من بيت المقدِس أو من دارها لتتخلّى هنالك للعبادة وقيل قعدت مشرقة لتغتسل من الحيض محتجبةً بحائط أو بشيء يستُرها وذلك قوله تعالى
(فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً) وكان موضعُها المسجدَ فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهُرت عادت إلى المسجد فبيناهى
259
مريم ١٨ ٢١ في مغتسلها أتاها الملَكُ عليه الصلاة والسلام في صورة آدميَ شابّ أمردَ وضئ والوجه جعْدِ الشعر وذلك قوله تعالى (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) أي جبريل عليه الصلاة والسلام عبرّ عنه بذلك توفيةً للمقام حقه وقرئ بفتح الراء لكونه سبباً لما فيه من روحُ العباد الذي هو عُدّةُ المقربين في قولِه تعالى فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) سويَّ الخلقِ كاملَ البُنية لم يفقِدْ من حِسان نعوتِ الآدمية شيئاً وقيل تمثل في سورة تِرْبٍ لها اسمُه يوسفُ من خدم بيتِ المقدس وذلك لتستأنسَ بكلامه وتتلقّى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى إذ لو بدا لها على الصورة الملَكيةِ لنفرَتْ منه ولم تستطع مفاوضتَه وأما ما قبل من أن ذلك لتهييج شهوتِها فتنحدر نطفتُها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بيانِ آثارِ القدرة الخارقةِ للعادة يكذبه قوله تعالى
260
(قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن منك) فإنه شاهد عدْلٌ بأنه لم يخطُر ببالها شائبةُ ميل ما إليه فضلاً عما ذُكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتبِ الميل والشهوة نعم كان تمثيلُه على ذلك الحسنِ الفائقِ والجمالِ الرائقِ لابتلائها وسبْر عِفّتها ولقد ظهر منها من الورع والعَفافِ ما لا غايةَ وراءَه وذكرُه تعالى بعنوان الرحمانيةِ للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلابِ آثارِ الرحمةِ الخاصة التي هي العصمةُ مما دهِمَها وقوله تعالى (إِن كُنتُ تَقِيّاً) أي تتقي الله تعالى وتبالي بالاستعاذة به وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياقِ عليه أي فإني عائذةٌ به أو فتعوّذْ بتعوذي أو فلا تتعرّضْ لي
(قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ ربك) يريد عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إِنّى لست ممن يُتوقّع منه ما توهّمتِ من الشر وإنما أنا رسولُ ربك الذي استعذتِ به (لأَهَبَ لَكِ غلاما) أي لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدِّرْع ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ حكاية لقوله تعالى ويؤيده القراءة بالياء والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتِها والإشعارِ بعِلة الحُكم فإن هبةَ الغلامِ لها من أحكام تربيتها وفي بعض المصاحفِ أمرَني أن أهبَ لك غلاماً (زَكِيّاً) طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح
(قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غلام) كما وصفت (وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ) أي والحال أنه لم يباشرْني بالنكاح رجلٌ وإنما قيل بشرٌ مبالغةً في بيان تنزُّهها من مبادئ الولادة (وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً) عطف على لم يمسَسْني داخل معه في حكم الحالية مفصِحٌ عن كون المِساس عبارةً عن المباشرة بالنكاح أي ولم أكن فاجرةً تبغي الرجالَ وهي فَعولٌ بمعنى الفاعل أصلها بغُويٌ فأدغمت الواوُ بعد قلبها ياء في الياء وكسرت الغين للياء وقيل هي فعيل بمعنى الفاعل وإلا لقيل بَغُوٌّ كما يقال فلان نَهُوٌّ عن المنكر وإنما لم تلحَقْه التاءُ لأنها من باب النسب كطالق أو بمعنى المفعول أي يبغيها الرجالُ للفجور بها
مريم ٢٢ ٢٣ الملك تقرير لمقالته وتحقيقاً لها (كذلك) أي الأمر كما قالت لك وقوله تعالى (قَالَ رَبُّكِ) الخ استئنافٌ مقرِّر له أي قال ربك الذي أرسلني إليك (هُوَ) أي ما ذكرتُ لك من هبة الغلامِ من غير أن يمسَّك بشرٌ أصلاً (عَلَىَّ) خاصة (هَيّنٌ) وإن كان مستحيلاً عادة لما أنى أحتاج إلى الأسباب والوسائطِ وقوله تعالى (ولنجعله آية لّلْنَّاسِ) إما علةٌ لمعلَّلٍ محذوف أي ولنجعل وهْبَ الغلام آيةً لهم وبرهاناً يستدلون به على كمال قدرتِنا نفعل ذلك أو معطوفٌ على علة أخرى مضمَرةٍ أي لنبين به عِظَمَ قدرتِنا ولنجعله آية الخ والواو على الأول اعتراضيةٌ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإظهار كمالِ الجلالةِ (وَرَحْمَةً) عظيمةً كائنة (مِنَّا) عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده (وكان) ذلك (أمرامقضيا) مُحكماً قد تعلق به قضاؤنا الأزليُّ أو قُدّر وسُطّر في اللوح لا بد من جريانه عليك البتةَ أو كان أمراً حقيقيا بأن يقضى ويُفعلَ لتضمنّه حِكَماً بالغة
261
(فَحَمَلَتْهُ) بأن نفخ جبريلُ عليه الصلاة والسلام في دِرعها فدخلت النفخةُ في جوفها قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام رفع دِرعَها فنفخ في جيبه فحمَلت وقيل نفخ عن بُعد فوصل الريحُ إليها فحملت في الحال وقيل إن النفحة كانت في فيها وكانت مدةُ حملها سبعةَ أشهر وقيل ثمانيةً ولم يعِشْ مولود وُضع لثمانية أشهر غيرُه وقيل تسعةَ أشهرٍ وقيل ثلاثَ ساعات وقيل ساعة كما حملت وضعتْه وسنُّها حينئذ ثلاثَ عشْرةَ سنةً وقيل عشرُ سنين وقد حاضت حيضتين ﴿فانتبذت بِهِ﴾ أي فاعتزلت وهو في بطنها كما في قوله... تدوس بنا الجماجمَ والنريبا...
فالجارُّ والمجرور في حيز النصبِ على الحالية أي فانتبذت ملتبسةً به ﴿مَكَاناً قَصِيّاً﴾ بعيداً من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل
﴿فَأَجَاءهَا المخاض﴾ أي فألجأها وهو في الأصل منقول من جاء لكنه لم يستعمل في غيره كآتى في أعطى وقرئ المِخاض بكسر الميم وكلاهما مصدرُ مخِضَت المرأةُ إذا تحرك الولدُ في بطنها للخروج
﴿إلى جِذْعِ النخلة﴾ لتستتر به وتعتمد عليه عند الوِلادة وهو ما بين العِرْق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خُضرة وكان الوقت شتاءً والتعريفُ إما للجنس أو للعهد إذا لم يكن ثمةَ غيرُها وكانت كالمتعالم عند الناس ولعله تعالى ألهمها ذلك ليُريَها من آياتها ما يسكّن رَوْعتها ويطعمها الرُّطَبَ الذي هو خُرْسةُ النُّفَساءِ الموافقة لها
﴿قالت يا ليتني مّتَّ﴾ بكسر الميمِ من مات يمات كخفت وقرئ بضمها من مات يموت
﴿قَبْلَ هذا﴾ أي هذا الوقتِ الذي لقِيتُ فيه ما لقِيت وإنما قالته مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريلُ عليهِ السَّلامُ من الوعد الكريم استحياءً من الناس وخوفاً من لائمتهم أو حِذاراً من وقوع الناس في المعصية بما تكلموا فيها أو جرياً على سَنن الصالحين عند اشتدادِ الأمر عليهم كما روي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه أخذ تِبْنةً من الأرض فقال يا ليتنى هذه التبنةُ ولم أكن شيئاً وعن بلال أنه قال ليت بلال لم تلده أمُّه
﴿وَكُنتُ نَسْياً﴾ أي شيئاً تافهاً شأنُه أن يُنسى ولا يعتد به أصلا وقرئ بالكسر قيل هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر وقيل هو بالكسر اسمٌ لما يُنسى كالنِّقْض اسمٌ
261
مريم ٢٤ ٢٦ لما يُنقض وبالفتح مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً وقرئ بهما مهموزاً من نسأتُ اللبن إذا صببتُ عليه الماء فصار مستهلَكاً فيه وقرئ نساً كعصاً
﴿مَّنسِيّاً﴾ لا يخطُر ببالِ أحدٍ من الناس وهو نعتٌ للمبالغة وقرئ بكسر الميم إتباعاً له بالسين
262
﴿فَنَادَاهَا﴾ أي جبريلُ عليهِ السَّلامُ ﴿مِن تَحْتِهَا﴾ قيل إنه كان يقبل الولد وقيل من تحتها أي من مكان أسفلَ منها تحت الأكمة وقيل من تحت النخلة وقيل ناداها عيسى عليه السلام وقرئ فخاطبها مَنْ تحتَها بفتح الميم ﴿ألا تَحْزَنِى﴾ أي لا تحزني على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ﴾ أي بمكان أسفل منك وقيل تحت أمرِك إنْ أمرْتِ بالجري جرى وأن أمرت بالإمساك أُمسِك ﴿سَرِيّاً﴾ أي نهراً صغيراً حسبما روي مرفوعاً قال ابن عباس رضي الله عنه أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ضرب برجله الأرضَ فظهرت عينُ ماء عذبٍ فجرى جدْولاً وقيل فعله عيسى عليه السلام وقيل كان هناك نهر يابسٌ أجرى الله عز وجل فيه الماءَ حينئذ كما فعل مثلَه بالنخلة فإنها كانت نخلةً يابسة لا رأسَ لها ولا ورق فضلاً عن الثمر وكان الوقت شتاءً فجعل الله لها إذ ذاك رأساً وخُوصاً وثمراً وقيل كان هناك ماءٌ جارٍ والأول هو الموافقُ لمقام بيانِ ظهورِ الخوارق والمتبادرُ من النظم الكريم وقيل سرياً أي سيدا نبيلا رفيعَ الشأن جليلاً وهو عيسى عليه السلام فالتنوينُ للتفخيم والجملة تعليل لانتفاء الحزْنِ المفهوم من النهي عنه والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيدِ التعليل وتكميلِ التسلية
﴿وهزي﴾ هزُّ الشيء تحريكُه إلى الجهات المتقابلة تحريكاً عنيفا متداركا والمراد ههنا ما كان منه بطريق الجذبِ والدفعِ لقوله تعالى ﴿إِلَيْكَ﴾ أي إلى جهتك والباء في قوله عز وجل ﴿بِجِذْعِ النخلة﴾ صلةٌ للتأكيد كما في قوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ الخ قال الفراء تقول العرب هَزّه وهزّ بِه وأخذ الخطامَ وأخذ بالخطام أو لإلصاق الفعل بمدخولها أي افعلي الهز بجذعها أو هزي الثمرة بهزه وقيل هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول الهز أي هزي إليك الرطب كائنا بجذعها ﴿تساقط﴾ أي تُسقِطِ النخلة ﴿عَلَيْكَ﴾ إسقاطاً متواتراً حسب تواتر الهز وقرئ تُسقِطْ ويُسقِط من الإسقاط بالتاء والياء وتتساقطْ بإظهار التاءين وتَساقطْ بطرح الثانية وتسّاقَطْ بإدغامها في السين ويَسّاقط بالياء كذلك وتسقُطْ ويسقُطْ من السقوط على أن التاء في الكل للنخلة والياء للجذع وقوله تعالى ﴿رُطَباً﴾ على القراءات الثلاث الأولى مفعول وعلى ولست البواقي تمييزٌ وقوله تعالى ﴿جَنِيّاً﴾ صفةٌ له وهو ما قُطع قبل يَبْسه فعيل بمعنى مفعول أي رطباً مجنياً أي صالحاً للاجتناء وقيل بمعنى فاعل أي طريا طيبا وقرئ جِنياً بكسر الجيم للاتباع
مريم ٢٧ ٢٩ أي ذلك الرطبَ وماءَ السَّريِّ أو من الرطب وعصيرِه
﴿وَقَرّى عَيْناً﴾ وطِيبي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك وأهمك فإنه تعالى قد نزّه ساحتَك عما اختلج في صدور المتعبدين بالأحكام العادية بأن أظهر لهم من البسائط العنصريةِ والمركباتِ النباتية ما يخرِق العاداتِ التكوينيةَ ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرِك وقرئ وقِرّي بكسر القاف وهي لغة نجد واشتقاقُه من القرار فإن العينَ إذا رأت ما يسرّ النفسَ سكنت إليه من النظر إلى غيره أو من القَرّ فإن دمعةَ السرور باردةٌ ودمعةَ الحُزن حارة ولذلك يقال قُرّة العين وسُخْنةُ العين للمحبوب والمكروه
﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً﴾ أي آدمياً كائناً من كان وقرئ تَرئِنّ على لغة من يقول لبّأْتُ بالحج لما بين الهمزة والياءِ من التآخي
﴿فَقُولِى﴾ له إن استنطقك
﴿إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً﴾ أي صمتاً وقد قرئ كذلك أو صياماً وكان صيامُهم بالسكوت
﴿فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ أي بعد أن أخبرتُكم بنذري وإنما أكلم الملائكةَ وأناجي ربي وقيل أُمِرت بأن تخبرَ بنذرها بالإشارة وهو الأظهرُ قال الفراء العربُ تسمِّي كلَّ ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريقٍ وصَل ما لم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد لم يكنْ إلا حقيقةُ الكلام وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلةِ السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نصٌّ قاطعٌ في قطع الطعن
263
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا﴾ أي جائتهم مع ولدها راجعة إليهم عندما طهرت من نفسها ﴿تَحْمِلُهُ﴾ أي حاملةً له ﴿قَالُواْ﴾ مؤنبين لها ﴿يا مريم لَقَدْ جِئْتَ﴾ أي فعلت ﴿شَيْئاً فَرِيّاً﴾ أي عظيماً بديعاً منكراً من فرَى الجلدَ أي قطعه أو جئتِ مجيئاً عجيباً عبر عنه بالشيء تحقيقاً للاستغراب
﴿يا أخت هارون﴾ استئناف لتجديد التعبير وتأكيدِ التوبيخ عنَوا به هرون النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكانت مِن أعقاب مَن كان معه في طبقة الأخوة وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة وقيل هو رجلٌ صالح أو طالح كان في زمانهم شبّهوها به أي كنت عندنا مثله في الصلاح أو شتموها به ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ تقريرٌ لكون ما جاءت به فِرّياً منكراً وتنبيهٌ على أن ارتكابَ الفواحش من أولاد الصالحين أفحشُ
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي إلى عيسى عليه السلام أنْ كلّموه والظاهر أنها حينئذ بينت نذرَها وأنها بمعزل عن محاورة الإنس حسبما أُمرت ففيه دلالةٌ على أن المأمورَ به بيانُ نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمعُ بينهما مما لا عهدَ به
﴿قَالُواْ﴾ منكرين لجوابها
﴿كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً﴾ ولم نعهَد فيما سلف صبياً يكلمه عاقل وقيل كان لإيقاع مضمونِ الجملة في زمان ماضٍ مبهمٍ صالحٍ لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة بدليل أنه مَسوقٌ للتعجب وقيل هي زائدة والظرفُ صلة مَنْ وصبياً حالٌ من المستكنِّ فيهِ أو هي تامة أو دائمة كما في قوله تعالى وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً
263
٣٠ - ٣٤ ﴿قال﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظمُ الكريمُ كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال عيسى عليه السلام ﴿إِنّى عَبْدُ الله﴾ أنطقه الله عز وجل بذلك آثرَ ذي أثيرٍ تحقيقاً للحق وردًّا على من يزعُم ربوبيته قيل كان المستنطِقُ لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام وعن السدي رضي الله عنه لما أشارت إليه غضِبوا وقالوا لَسُخرَيتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت وروي أنه عليه السلام كان يرضَع فلما سمع ذلك ترك الرَّضاعَ وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال الخ وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان ﴿آتاني الكتاب﴾ أي الإنجيلَ ﴿وَجَعَلَنِى نَبِيّاً﴾
﴿وَجَعَلَنِى﴾ مع ذلك ﴿مُبَارَكاً﴾ نفّاعاً معلِّماً للخير والتعبيرُ بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتومِ أو بجعل ما في شرَفِ الوقوعِ لا محالة واقعاً وقيل أكمله الله عقلا واستنباه طفلا ﴿أين ما كُنتُ﴾ أي حيثما كنت ﴿واوصانى بالصلاة﴾ أي أمرني بها أمرا مؤكدا ﴿والزكاة﴾ زكاةِ المال إن ملكتُه أو بتطهير النفسِ عن الرذائل ﴿مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ في الدنيا
﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِى﴾ عطفٌ على مباركاً أي جعلني بارًّا بها وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ وُصف به مبالغةً أو منصوبٌ بمضمر دل عليه أوصاني أي وكلفني بَرًّا ويؤيده القراءةُ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة والزكاة والتنكيرُ للتفخيم ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ عنيداً لله تعالى لفَرْط تكبّره
﴿والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ كما هو على يحيى على أن التعريفَ للعهد والأظهرُ أنه للجنس والتعريضِ باللعن على أعدائه فإن إثباتَ جنسِ السلام لنفسه تعريضٌ بإثبات ضدِّه لأضداده كما في قوله تعالى والسلام على مَنِ اتبع الهدى فإنه تعريضٌ بأن العذابَ على من كذّب وتولى
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى من فُصّلت نعوتُه الجليلةُ وما فيه من معنى البعد للدِلالة على علو مرتبتِه وبُعد منزلتِه وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيره ونزولِه منزلةَ المشاهَد المحسوس
﴿عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ لا ما يصفه النصارى وهو تكذيبٌ لهم فيما يزعُمونه على الوجه الأبلغِ والمنهاج البرهانيِّ حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه
﴿قَوْلَ الحق﴾ بالنصب على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لقال إني عبد الله الخ وقولُه تعالَى ذلك
﴿عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو قولُ الحق الذي لا ريب فيه والإضافةُ للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفةُ عيسى أو بدلُه أو خبر ثان
264
مريم ٣٥ ٣٨ ومعناه كلمة الله وقرئ قالَ الحقِّ وقول الحق فإن القولَ والقال في معنى واحد
﴿الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهودُ ساحرٌ والنصارى ابن الله وقرئ بتاء الخطاب
265
﴿مَا كَانَ للَّهِ﴾ أي ما صح وما استقام له تعالى ﴿أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه﴾ تكذيبٌ للنصارى وتنزيهٌ له تعالى عما بَهتوه وقوله تعالى ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ تبكيتٌ لهم ببيان أن شأنه تعالى إِذَا قَضَى أَمْرًا من الأمور أن يعلِّق به إرادتَه فيكونَ حينئذ بلا تأخير فَمْن هذا شأنُه كيف يُتوهّم أن يكون له ولد وقرئ فيكونَ بالنصب على الجواب وقوله تعالى
﴿وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه﴾ من تمام كلامِ عيسى عليه السلام قيلَ هُو عطفٌ على قوله إِنّى عَبْدُ الله داخلٌ تحت القول وقد قرئ بغير واو وقرئ بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأنه تعالى ربي وربُّكم فاعبُدوه كقوله تعالى وَأَنَّ المساجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وقيل معطوفٌ على الصلاة ﴿هذا﴾ أي الذي ذكرتُه من التوحيد ﴿صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ لا يضِلُّ سالكه والفاء في قوله تعالى
﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنَهُمْ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيهاً على سوء صنيعِهم بجعلهم ما يوجب الاتفاقَ منشأً للاختلاف فإن ما حُكي من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصاً قاطعةً في كونه عبدَه تعالى ورسولَه قد اختلفت اليهودُ والنصارى بالتفريط والإفراط أو فرّق النصارى فقالت النُّسطوريةُ هو ابنُ الله وقالت اليعقوبيةُ هو الله هبط إلى الأرض ثم صعِدَ إلى السماء تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقالت الملكانية هو عبدُ الله ونبيُّه ﴿فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ وهم المختلفون عبّر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحُكم ﴿مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي من شهود يومٍ عظيمِ الهول والحساب والجزاء وهو يومُ القيامة أو من وقت شهودِه أو من مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن يشهد عليهم الملائكةُ والأنبياءُ عليهم السلام وألسنتُهم وآذانُهم وأيديهم وأرجلُهم وسائرُ آرابِهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها وقيل هو ما شِهدوا به في حق عيسى وأمِّه عليهما السلام ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ تعجّبٌ من حِدّة سمعِهم وأبصارِهم يومئذ ومعناه أن أسماعَهم وأبصارهم
﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ للحساب والجزاء أي يوم القيامة جديرٌ بأن يُتعجَّب منها بعد أن كانوا في الدنيا صُمًّا عُمياً أو تهديدٌ بما سيسمعون ويُبصرون يومئذ وقيل أُمر بأن يُسمِعَهم ويُبصرهم مواعيدَ ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأول في موقع الرفعِ وعلى الثاني في حيز النصب
﴿لكن الظالمون اليوم﴾ أي في الدنيا
265
مريم ٣٩ ٤٢
﴿فِى ضلال مُّبِينٍ﴾ لا تُدرك غايتُه حيث أغفلوا الاستماعَ والنظرَ بالكلية ووضعُ الظالمين موضعَ الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم
266
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ أي يوم يتحسر الناسُ قاطبةً أما المسيءُ فعلى إساءته وأما المحسنُ فعلى قلة إحسانِه ﴿إِذْ قُضِىَ الأمر﴾ أي فُرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار روي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم سُئلَ عنْ ذلِكَ فقالَ حين يجاء بالموت على صورة كبشٍ أملحَ فيذبح والفريقان ينظرون فينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت فيزداد أهلُ الجنة فرحاً إلى فرح وأهلُ النار غمًّا إلى غم وإذ بدلٌ من يومَ الحسرة أو ظرفٌ للحسرة فإن المصدرَ المعرّفَ باللام يعمل في المفعول الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف ﴿وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ﴾ أي عما يُفعل بهم في الآخرة ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر في قولِه تعالى فِى ضلال مُّبِينٍ أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين وما بينهما اعتراضٌ أو من مفعول أنذِرْهم أي أنذرهم غافلين غيرَ مؤمنين فيكون حال متضمنةً لمعنى التعليل
﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ لا يبقى لأحد غيرِنا عليها وعليهم مُلكٌ ولا مَلِك أو نتوفى الأرضَ ومن عليها بالإفناء والإهلاك توَفيَ الوارثِ لإرثه ﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ أي يُردّون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالاً أو اشتراكاً
﴿واذكر﴾ عطف على أنذِرْهم ﴿فِى الكتاب﴾ أي في السورة أو في القرآن ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ أي اتلُ على الناس قصته وبلِّغها إياهم كقوله تعالى واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم فإنهم ينتمون إليه عليه السلام فعساهم باستماع قصته يُقلِعون عما هم في من القبائح ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً﴾ ملازماً للصدق في كلِّ ما يأتي ويذر أو كثيرَ التصديق لكثرة ما صدق به من غيوبَ الله تعالى وآياتِه وكتبَه ورسلَه والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل موجبِ الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكرِه ﴿نَبِيّاً﴾ خبرٌ آخرُ لكان مقيدٌ للأول مخصِّصٌ له كما ينبئ عَنْهُ قولِهِ تَعَالى مَن البيين والصديقين الآية أي كان جامعاً بين الصدّيقية والنبوة ولعل هذا الترتيبَ للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنوبة فإن كلَّ نبيَ صديقٌ
﴿إِذْ قَالَ﴾ بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله أو متعلق بكان أو بنبياً وتعليقُ الذكر بالأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث قد مر سرُّه مرارا أي كان جامعاً بين الأثَرتين حين قال
﴿لأبيه﴾ آزر متطلفا في الدعوة مستميلاً له
﴿يا أبت﴾ أي يا أبي فإن التاء عوضٌ عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان وقد قيل يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء
﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ﴾ ثناءَك عليه عند عبادتِك له وجؤارِك إليه
﴿وَلاَ يَبْصِرُ﴾ خضوعَك وخشوعَك بين يديه أولا يسمع ولا يبصر شيئاً من المسموعات والمُبصَرات فيدخُل في ذلك
266
مريم ٤٣ ٤٥ ما ذكر دخولا أولياء
﴿وَلاَ يُغْنِى﴾ أي لا يقدرُ على أنْ يغنيَ
﴿عَنكَ شَيْئاً﴾ في جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسنَ منهاجٍ وأقوم سبيل واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدبٍ وخلقٍ جميل لئلا يركبَ متنَ المكابرة والعناد ولا يُنكّبَ بالكلية عن مَحَجّة الرشاد حيث طَلب منه علةَ عبادتِه لِما يستخفّ به عقلُ كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون غليه فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحِقُّ إلا لمَنْ له الاستغناءُ التامُّ والإنعامُ العام الخالقِ الرازقِ المحيي المميتِ المثيبِ المعاقب ونبّه على أن العاقل يجب أن يفعلُ كلَّ ما يفعلُ لداعيةٍ صحيحة وغرضٍ صحيح والشيءُ لو كان حياً مميّزاً سميعاً بصيراً قادراً على النفع والضرِّ مطيقاً بإيصال الخير والشر لكن كان ممكِناً لاستنكف العقلُ السليمُ عن عبادته وإن كان أشرفَ الخلائق لما يراه مِثْلَه في الحاجة والانقيادِ للقدرة القاهرةِ الواجبة فما ظنُّك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الإحياءِ عينٌ ولا أثرٌ ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديَه إلى الحق المبين لِما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلاً بالنظر السويّ مصدّراً لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال
267
﴿يا أبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ ولم يسِمْ أباه بالجهل المُفرِط وإن كان في أقصاه ولا نفسَه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رفيقٍ له أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال ﴿فاتبعنى أَهْدِكَ صراطا سَوِيّاً﴾ أي مستقيماً موصلاً إلى أسنى المطالب منجياً عن الضلال المؤدّي إلى مهاوي الردى والمعاطب ثم ثبّطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كلُّ عاقل ببيانِ أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلبٌ لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادةُ الشيطان لِما أنه الآمرُ به فقال
﴿يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان﴾ فإن عبادتك للأصنام عبادةٌ له إذ هو الذي يسو لهالك ويغريك عليها وقوله ﴿إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً﴾ تعليلٌ لموجب النهي وتأكيدٌ له ببيان أنه مستعصٍ على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم ولا ريب أن المطيعَ للعاصي عاصٍ وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأن يسترد منه النعم وينتقم منه والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ لزيادة التقرير والإقتصاد على ذكر عصيانه من بين سائر جناياتِه لأنه مَلاكُها أو لأنه نتيجةُ معاداتِه لآدمَ عليه السلام وذريته فتذكيرُه داعٍ لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرضُ لعنوان الرحمانية لإظهار كمالِ شناعة عصيانِه وقوله
﴿يا أبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن﴾ تحذيرٌ من سوء عاقبةِ ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤُه بما ابتُليَ به معبودُه من العذاب الفظيع وكلمةُ مِن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً للعذاب مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافية وإظهارُ الرحمن للإشعار بأن وصفَ الرحمانية لا يدفع حلولَ العذاب كما في قوله عز وجل مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم
﴿فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً﴾ أي قريناً له في اللعن المخلّد وذكرُ الخوف للمجاملة
267
مريم ٤٦ ٤٧ وإبرازِ الاعتناء بأمره
268
﴿قَالَ﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ أبوه عندما سمِع منه عليه السلام هذه النصائحَ الواجبةَ القَبولِ فقيل قال مُصرًّا على عِناده ﴿أَرَاغِبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم﴾ أي أمُعرضٌ ومنصرفٌ أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب كأن الرغبةَ عنها مما لا يصدُر عن العاقل فضلاً عن ترغيب الغير عنها وقوله ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ تهديدٌ وتحذير عما كان عليه من العِظة والتذكير أي والله لئِن لَمْ تنته عما كنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجُمنك بالحجارة وقيل باللسان ﴿واهجرنى﴾ أي فاحذَرْني واتركني ﴿مَلِيّاً﴾ أي زماناً طويلاً أو ملياً بالذهاب مطيقاً به
﴿قال﴾ استئناف كما سلف
﴿سلام عَلَيْكَ﴾ توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة أي لا أصيبك بمكروه بعدُ ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن
﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي﴾ أي أستدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديَك إلى الإيمان كما يلوح به تعليلُ قوله تعالى واغفر لاِبِى بقولِه تعالَى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه وإنما المحظورُ استدعاءُ المغفرة له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغَ له عقلاً ولا نقلاً وأما الاستغفارُ له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضيةُ العقل وإنما الذي يمنعه السمعُ ألا يرى إلى أنه ﷺ قال لعمه أبي طالب لا أزال أستغفرُ لك ما لم أُنُهَ عنه فنزل قوله تعالى
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآية والاشتباه في أن هذا الوعدَ من إبراهيمَ عليه السلام وكذا قولُه لأستغفرن لك وما ترتب عليهما من قوله واغفر لاِبِى الآية إنما كان قبل انقطاعِ رجائِه عن إيمانه لعدم تبيّن أمرِه لقوله تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ كما مر في تفسير سورة التوبة واستثناؤه عما يؤتسى به في قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ لا يقدح في جوازه لكن لا لأن ذلك كان قبل ورودِ النَّهيِ أو لموعِدة وعَدَهَا إياه كما قيل لما أن النهيَ إنما ورد في شأن الاستغفارِ بعد تبيّن الأمرِ وقد كان استغفارُه عليه السلام قبل التبيُّن فلم يتناولْه النهيُ أصلاً وأن الوعدَ بالمحظور لا يرفع خطره بل لأن المرادَ بما يُؤْتَسَى به ما يجبُ الائتساءُ بهِ حتماً لورودِ الوعيدِ على الإعراضِ عنه بقوله تعالى لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد فاستثناؤهُ عن ذلك إنما يفيدُ عدمَ وجوبِ استدعاء الإيمان للكافر المرجو إيمانُه لا سيما وقد انقطع ذلك عند ورودِ الاستثناء وذلك مما لا يتردد فيه أحدٌ من العقلاء وأما عدمُ جوازه قبل تبيّن الأمرِ فلا دِلالةَ للاستثناءِ عليهِ قطعاً وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفارِ لا إلى نفسِ الاستغفارِ بقولِهِ واغفِر لاِبِى الآيةَ لأنها كانَتْ هي الحاملةَ له عليه السلام عليه وتخصيصُ تلك العِدَة بالذكر دون ما وقع ههنا لورودها على نهج التأكيدِ القسَميّ وأما جعلُ الاستغفارِ دائرة عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبين الأمرِ فقد مَرَّ تحقيقُه في تفسير سورة التوبة وقوله
﴿إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً﴾ أي بليغاً في البِرّ والإلطاف تعليلٌ لمضمون ما قبله
268
٤٨ - ٥١ ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ أي أتباعد عنك وعن قومك ﴿وَمَا تَدْعُون من دون الله﴾ بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثّرْ فيكم نصائحي ﴿وَأَدْعُو رَبّى﴾ أعبدُه وحده وقد جُوِّز أن يراد به دعاؤُه المذكورُ في تفسير سورةِ الشعراء ولا يبعُد أن يراد به استدعاءُ الولد أيضاً بقوله ﴿رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين﴾ حسبما يساعده السباق والسياق ﴿عسى ألا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا﴾ أي خائباً ضائعَ السعي وفيه تعريضٌ بشقائهم في عبادة آلهتِهم وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضعِ ومراعاة حسنِ الأدب والتنبيهِ على حقيقة الحقِّ من أن الإجابةَ والإثابةَ بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوبِ وأن العبرةَ بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصّةِ بالعليم الخبير ما لا يخفى
﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ بالمهاجرة إلى الشام ﴿وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ﴾ بدلَ مَنْ فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عَقيبَ المهاجرة فإن المشهورَ أن الموهوبَ حينئذ إسماعيلُ عليه السلام لقوله تعالى فبشرناه بغلام حَلِيمٍ إثرَ دعائِه بقولِه ﴿رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين﴾ ولعل ترتيبَ هِبتهما على اعتزاله ههنا لبيان كمالِ عِظَم النّعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة مَن اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنها شجرتا الأنبياء لهما أولادٌ وأحفادٌ أوُلو شأنٍ خطير وذو عدد كثير هذا وقد رُوي أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولاً حَرّان وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد لإسحق يعقوبُ والأولُ هو الأقربُ الأظهر ﴿وَكُلاًّ﴾ أي كلُّ واحدٍ منهما أو منهم وهو مفعولٌ أولٌ لقوله تعالى ﴿جعلنا نبيا﴾ قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كلُّ واحد منهم جعلنا نَبِيّاً لا بعضَهم دون بعض
﴿وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا﴾ هي النبوةُ وذكرُها بعد ذكر جعلِهم نبياً للإيذان بأنها من باب الرحمةِ وقيل هي المالُ والأولادُ ما بُسط لهم من سَعة الرزقِ وقيل هو الكتابُ والأظهر أنها عامةٌ لكل خير ديني ودنيويَ أُوتوه مما لم يُؤتَه أحدٌ من العالمين (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) يفتخر بهم الناسُ ويثنون عليهم استجابة لدعوة بقوله واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين والمرادُ باللسان ما يوجد به الكلام ولسانُ العرب لغتُهم واضافته إلى إلى الصدق ووصفُه بالعلو للدلال على أنهم أحِقّاءُ بما يثنون عليهم وأن محامِدَهم لا تخفى على تباعد الأعصارِ وتبدُّل الدول وتحوُّل المِلل والنِحَل
(واذكر فِى الكتاب موسى) قُدّم ذكرُه على ذكر إسمعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوبَ عليهما السلام (إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً) موحّداً أخلصَ عبادته عن الشرك والرواه أو أسلم وجهَه لله تعالى وأخلص نفسَه عما سواه وقرىء مخلَصاً على أن الله تعالى أخلصه (وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبهم عنه ولذلك قُدّم رسولاً مع كونه أخص وأعلى
269
(وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن) الطورُ جبلٌ بين مصرَ ومدْيَنَ والأيمنُ صفةٌ للجانب أي ناديناه من ناحيته اليُمنى من اليمين وهي التي تلي يمينَ مُوسى عليه السلامُ أو من جانبه الميمونِ من اليُمن ومعنى ندائِه منه أنه له الكلامُ من تلك الجهة (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) تقريبَ تشريفٍ مُثّل حالُه عليه السلام بحال من قرّبه المللك لمنا جاته واصطفاه لمصاحبته ونجياً أي مناجياً حالٌ منْ أحدِ الضميرينِ في ناديناه أو قربناه وقيل مرتفعاً لما روي أنه عليه السلام رفع فوق السموات حتى سمع صَريفَ القلم
(وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا) أي من أجل رحمتِنا ورأفتِنا له أو بعضِ رحماتنا (أَخَاهُ) أي معاضَدةَ أخيه ومؤزرته إجابةً لدعوته بقوله واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هرون أخي لانفسه لأنه كان أكبرَ منه عليهما السلامُ وهو على الأولِ مفعولٌ لوهبنا وعلى الثاني بدل قوله تعالى (هرون) عطفُ بيانٍ له وقولُه تعالى (نَبِيّاً) حال منه
(واذكر في الكتاب إسمعيل) فُصّل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناءِ بأمره بإيراده مستقلاً وقولُه تعالَى (إِنَّهُ كان صادق الوعد) تعليلٌ لموجب الأمر وإيرادك عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرتِه به وناهيك أنه وعَدَ الصبرَ على الذبح بقوله سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين فوفّى (وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) فيه دلالةٌ على أن الرسولَ لا يجب أن يكون صاحبَ شريعةٍ فإن أولاد إبراهيمَ عليه السلام كانوا على شريعته
(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة) اشتغالاً بالأهم وهو أن يُقْبل الرجلُ بالتكميل على نفسه ومن هو أقربُ الناس إليه قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقريين وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة قُواْ أنفسكم وأهليكم نارا وقصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوةٌ يؤتسى بهم وقيل أهلُه أمتُه فإن الأنبياءَ عليهم السلام آباءُ الأمم (وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مرضيا) لا تصافه بالنعوت الجليلةِ التي من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة
(واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ) وهو سِبطُ شَيْثٍ وجدُّ أبي نوحٍ فإنه نوحُ بن لمك بن متو شلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ عليه السلام واشتقاقُه من الدّرس يُرده منعُ صرفِه نعم لا يبعُد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلُقّب به لكثرة دراسته روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً وأنه أول من حط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب (إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً) ملازماً للصدق في جميع أحوالِه (نَبِيّاً) خبرٌ آخرُ لكان مخصّصٌ للأول إذ ليس كلُّ صدّيق نبيا
270
(ورفعنا مَكَاناً عَلِيّاً) هو شرفُ النبوة والزُّلفى عند الله عز وجل وقيل علوُّ الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا كما في قوله تعالى وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ وقيل الجنة وقيل السماءُ السادسةُ أو الرابع روي عن كعب وغيره في سبب رفعِ إدريسَ عليه السلام أنه سُئل ذاتَ يوم في حاجة فأصابه وهَجُ الشمس فقال يا رب إني قد مشَيتُ فيها يوماً وقد أصابني منها وأصابني فكيف من يحمِلها مسيرةَ خمسِمائة عام في يوم واحد اللهم خففْ عنه من ثقلها وحرها فما أصبح المَلَك وجد من خفة الشمس وحرها مالا يعرف فقال يا رب ما الذي قضيت فيه قال إن عبدي إدريسَ سألني أن أخففَ عنك حَملَها وحرَّها فأجبتُه قال يا رب اجعل بيني وبينه خُلّةً فأذِن الله تعالى له فرفعه إلى السماء
(أولئك) إشارةٌ إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البعد للإشارة بعلو رتبهم منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى (الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم) صفتُه أي أنعم عليهم بفنون النِعَم الدينيةِ والدنيويةِ حسبما أشير إليه مجملاً وقوله تعالى (مّنَ النبيين) بيان للموصول وقوله تعالى (مِن ذرية آدم) بدلٌ منه بإعادة الجارُّ ويجوز أن تكون كلمةُ من فيه للتبغيض لأن المنعَمُ عليهم أعمُّ من الأنبياء وأخصُّ من الذرية
﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ أي ومن ذرية مَنْ حملنا معه خصوصاً وهم مَنْ عدا إدريسَ عليه السلام فإن إبراهيمَ كان من ذرية سامِ بنِ نوح (وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم) وهم الباقون (وإسرائيل) عطفٌ على إبراهيمُ أي ومن ذرية إسرائيلَ وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وفيه دليلٌ على أنَّ أولادَ البناتِ من الذرية (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة وقولُه تعالَى (إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً) خبر لأولتك ويجوز أن يكون الخبرُ هو الموصول وهذا استئنا فامسوقا لبيان حشيتهم من الله تعالى وإخباتِهم له مع حالهم من علوّ الرتبة وسموِّ الطبقة في شرف النسَب وكمالِ النفس والزُلفى من الله عز سلطانه وسجّداً وبُكياً حالان من ضمير خروا أي ساجدين باكين عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم المو القرآن وابكُوا فإن لم تبكُوا فتباكوا والبُكِيُّ جمع باكٍ كالسُّجّد جمع ساجد وأصله بُكُويٌ فاجتمعت الواوُ والياء وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياءو أدغمت الياء في الباء وحُرّكت الكافُ بالكسر المجانس للياء وقرىء يُتلى بالياء التحتانيةِ لأن التأنيثَ غيرُ حقيقي وقرىء بِكِيّاً بكسر الباء للإتباع قالوا ينبغي أن يدعوَ الساجد في سجدته بما يليق بآيتها فههنا يقول اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهدبين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آية الإسراء يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وفي آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك
271
٥٩ - ٦٢
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ يقال لعَقِب الخير خلفٌ بفتح اللام ولعقب شر خلْفٌ بالسكون أي فعقَبهم وجاء بعدهم عَقِبُ سوءٍ
﴿أضاعوا الصلاة﴾ وقرئ الصلواتِ أي تركوها أو أخّروها عن وقتها
﴿واتبعوا الشهوات﴾ من شرب الخمر واستحلالِ نكاحِ الأختِ من الأب والانهماكِ في فنون المعاصي وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه هم من بني المشيد وركب المنظور ولُبس المشهور
﴿فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً﴾ أي شراً فإن كلَّ شر عند العرب غيٌّ وكل خير رشادٌ كقوله
فمن يلقَ خيراً يحمَدِ الناسُ أمرَه | ومن يغولا يعدَمْ على الغي لائما |
وعن الضحاك جزاءَ غيَ كقوله تعالى
﴿يَلْقَ أَثَاماً﴾ أي جزاء أثام أو غياً عن طريق الجنة وقيل غَيٌّ وادٍ في جهنمَ تستعيذ منه أوديتُها وقوله تعالى
﴿إلا من تاب وآمن وَعَمِلَ صالحا﴾ يدل على أن الآيةَ في حق الكفرة ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ معنى البعدِ لما مرَّ مراراً أي فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمانِ والعمل الصالح ﴿يَدْخُلُونَ الجنة﴾ بموجب الوعد المحتوم وقرئ يُدْخَلون على البناءِ للمفعولِ ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ أي لا يُنقصون من جزاء أعمالِهم شيئاً أو لا ينقصون شيئاً من النقص وفيه تنبيه على أن كفرَهم السابقَ لا يضرهم ولا ينقُص أجورَهم
﴿جنات عَدْنٍ﴾ بدلٌ من الجنةَ بدلَ البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراضٌ أو نُصب على المدحِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ لمبتدأ محذوفٍ أي هي أو تلك جنات الخ أو مبتدأ خبره إلى وعد الخ وقرئ جنة عدْنَ نصباً ورفعاً وعدْنُ علمٌ لمعنى العَدْن وهو الإقامةُ كما أن فيْنةَ وسحرَ وأمسَ فيمن لم يصرِفها أعلامٌ لمعاني الفينةِ وهي الساعة التي أنت فيها والسحرِ والأمسِ فجرى لذلك مجرى العدْن أو هو علم الأرض الجنة خاصةً ولولا ذلك لما ساغ إبدالُ ما أضيف إليه من الجنة بلا وصفٍ عند غير البصريين ولا وصفة بقوله تعالى ﴿التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ﴾ وجعلُه بدلاً منه خلافُ الظاهر فإن الموصولَ في حكم المشتقّ وقد نصّوا على أن البدَل بالمشتق ضعيفٌ والتعرضُ لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدَها وإنجازَه لكمال سَعةِ رحمته تعالى والباء في قوله تعالى ﴿بالغيب﴾ متعلقةٌ بمضمرٍ هو حالٌ من المضمر العائدِ إلى الجنات أو من عباده أي وعدها إياهم ملتبسةً أو ملتبسين بالغيب أي غائبةً عنهم غيرَ حاضرة أو غائبين عنها لا يرَوْنها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار أو بمضمر هو سبب للوعد أي وعدها إياهم بسبب إيمانِهم ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ﴾ أي موعوده كائناً ما كان فيدخل فيه الجناتُ الموعودةُ دخولاً أولياً ولما كانت هي مثابةً يُرجَع إليها قيل ﴿مَأْتِيّاً﴾ أي يأتيه مَنْ وُعِد له لا محالة بغير خُلْف وقيل هو مفعولٌ بمعنى فاعل وقيل مأتياً أي مفعولاً مُنجَزاً من أتى إليه إحساناً أي فعَلَه
﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾
272
أي فضولَ كلامٍ لا طائلَ تحته وهو كنايةٌ عن عدم صدورِ اللغوِ عن أهلها وفيه تنبيهٌ على أن اللغوَ مما ينبغي أن يُجتنَب عنه في هذه الدارِ ما أمكن
﴿إِلاَّ سلاما﴾ استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ يسمعون تسليمَ الملائكة عليهم أو تسليمَ بعضهم على بعض أو متصلٌ بطريق التعليقِ بالمُحال أي لا يسمعون لغواً ما إلا سلاما فيحث استحال كونُ السلامِ لغواً استحال سماعُهم له بالكليةِ كما في قولِه
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم | بهن فُلولٌ من قراع الكتائبِ |
أو على أن معناه الدعاءُ بالسلامة وهم أغنياء عنه من باب اللغو ظاهراً وإنما فائدتُه الإكرامُ وقوله تعالى
﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بكرة وعشيا﴾ وأراد على عادة المتنعّمين في هذه الدار وقيل المرادُ دوامُ رزقِهم ودُرورُه وإلا فليس فيها بكرةٌ ولا عشيٌّ
273
﴿تِلْكَ الجنة﴾ مبتدأٌ وخبرٌ جيء به لتعظيم شأنِ الجنةِ وتعيينِ أهلِها فإن ما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان يبعد منزلتِها وعلوِّ رتبتها ﴿التى نُورِثُ﴾ أي نورثها ﴿مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾ أي نُبقيها عليهم بتقواهم ونمتّعهم بها كما نُبقي على الوارث مالَ مُورِّثه ونمتّعه به والوِراثةُ أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تُعقَبُ بفسخ ولا استرجاعٍ ولا إبطالٍ وقيل يُورَّث المتقون من الجنة المساكنَ التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادةً في كرامتهم وقرئ نورّث بالتشديد
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ﴾ حكايةٌ لقول جبريلَ حين استبطأه رسولُ الله ﷺ لما سئل عن أصحاب الكهفِ وذي القرنين والروح فلم يدرِ كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسةَ عشرَ فشق ذلك عليه مشقةً شديدة وقال المشركون وَدَّعَه ربُّه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك وأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ وسورة الضحى والتنزيل النزولُ على مَهل لأنه مطاوعٌ للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزولِ كما يطلق التنزيلُ على الإنزال والمعنى وما نتنزل وقتاً غَبَّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته وقرئ وما يَتنزَّل بالياء والضمير للوحي ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك﴾ وهو ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ينتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزّل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ أي تاركاً لك يعني أن عدم النزول لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغةٍ فيه ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعِه إياك كما زعمَتِ الكفرة وفى إعادة اسمِ الربّ المُعربِ عن التبليغِ إلى الكمالِ اللائقِ مضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ من تشريفه والإشعار بعلة الحكم مالا يخفى وقيل أولُ الآية حكايةُ قولِ المتقين حين يدخُلون الجنة مخاطِباً بعضُهم بعضاً بطريق التبجّح والابتهاج والمعنى وما نتنزّل الجنةَ إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالكُ الأمورِ كلها أسالفها ومترقيها وحاضرِها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضلِه وقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً تقريرٌ لقولهم من وجهة الله تعالى أي وما كان ناسياً لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها وقوله تعالى
﴿رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ بيانٌ لاستحالة النسيان عليه تعالى
273
فإن مَن بيده ملكوتُ السموات والأرض وما بينهما كيف يُتصوَّر أن يحوم حول ساحة سبحانه الغفلةُ والنسيانُ وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو بدلٌ من ربك والفاء في قوله تعالى
﴿فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ﴾ لترتيب ما بعَدَها منَ موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالَى ربَّ السمواتِ والأرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وقيل من كونه تعالى غيرَ تارك له عليه السلام أو غيرَ ناس لأعمال العاملين والمعنى فحين عرفتَه تعالى بما ذُكر من الربوبية الكاملةِ فاعبده الخ فإن إيجابَ معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريبَ فيه أو حين عرفتَ أنه تعالى لا ينساك أو ينسى أعمالَ العاملين كائناً مَنْ كان فأقبِلْ على عبادته واصطبرْ على مشاقّها ولا تحزن بإبطاء الوحي وهُزْؤ الكفرةِ فإنه يراقبك ويراعيك ويلطُف بك في الدنيا والآخرة وتعديةُ الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله تعالى
﴿واصطبر عَلَيْهَا﴾ لتضمينه معنى الثباتِ للعبادة فيما تورِد عليه من الشدائد والمشاقّ كقولك للمبارز اصطبرُ لِقَرنك أي اثبُت له فيما يورِد عليك من شدائده
﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا﴾ السمي هو الشريكُ في الاسم والظاهرُ أن يراد به ههنا الشريكُ في اسم خاص قد عُبِّر عنه تعالى بذلك وهو ربُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا والمرادُ بإنكارُ العلم ونفيُه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكد فالجملةُ تقريرٌ لما أفاده الفاءُ من علّية ربوبيته العامةِ لوجوب عبادتِه بل لوجوب تخصيصها به تعالى ببيان استقلالِه عز وجل بذلك الاسمِ وانتفاءِ إطلاقِه على الغير بالكلية حقاً أو باطلاً وقيل المرادُ هو الشريكُ في الاسم الجليلِ فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسمّوا الصنم بالجلالة أصلاً وقيل هو الشريكُ في اسم الإله والمرادُ بالتسمية التسميةُ على الحق فالمعنى هل تعلم شيئاً يسمى بالاستحقاق إلها وأما التسميةُ على الباطل فهي كلا تسميةٍ فتقريرُ الجملة لوجوب العبادة باعتبار ما في الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادةِ فتدبر
274
﴿وَيَقُولُ الإنسان﴾ المرادُ به إما الجنسُ بأسره وإسنادُ القول إلى الكل لوجود القولِ فيما بينهم وإن لم يقله الجميع كما يقال بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وإما البعضُ المعهودُ منهم وهو الكفرةُ أو أُبيُّ بنُ خلف فإن أخذ عظاماً باليةً ففتّها وقال يزعُم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذه الحال أي يقول بطريق الإنكار والإستبعاد ﴿أئذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾ أي أُبعث من الأرض أو من حال الموت وتقديمُ الظرف وإيلاؤه حرفَ الإنكار لما أن المنكرَ كونُ ما بعد الموت وقت الحياة وانتصابُه بفعل دل عليه أُخرجُ لا به فإن ما بعد اللام لا يعملُ فيما قبلَها وهي ههنا مخلَصةٌ للتوكيد مجرّدةٌ عن معنى الحال كما خلَصت الهمزةُ واللامُ للتعويض في يا ألله فساغ اقترانُها بحرف الاستقبال وقرئ إذا ما مِتّ بهمزة واحدة مكسورة على الخبر
﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإنسان﴾ من الذكر الذي يراد به التفكرُ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادة التقريرِ والإشعارِ بأن الإنسانيةَ من دواعي التفكرِ فيما جرى عليه من شئون التكوينِ المُنْحِية بالقلع عن القول المذكور وهو السرفي إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان والهمزةُ للإنكار التوبيخيِّ والواوُ
274
لعطف الجملة المنفيةِ على مقدر يدلُّ عليه يقول أي أيقول ذلك ولا يذكر
﴿أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالةُ بقائِه
﴿وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ أي والحالُ أنه لم يكن حينئذ شيئاً أصلاً فحيث خلقناه وهو في تلك الحالةِ المنافيةِ للخلق بالكلية مع كونه أبعدَ من الوقوع فلأَنْ نَبعثَه بجمع الموادِّ المتفرِّقة وإيجادِ مثلِ ما كان فيها من الأعراض أولى وأظهر فماله لا يذكُره فيقعَ فيما يقع فيه من النكير وقرئ يذّكّر ويتذكر على الأصل
275
﴿فَوَرَبّكَ﴾ إقسامُه باسمه عزّت أسماؤه مضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ لتحقيق الأمرِ بالإشعار بعلّيته وتفخيمِ شأنِه ﷺ ورفع منزلته ﴿لنحشرنهم﴾ أي لنجمعَن القائلين بالسَّوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياءً ففيه إثباتٌ للبعث بالطريق البرهانيّ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأنه أمرٌ واضحٌ غنيٌ عن التصريح به وإنما المحتاجُ إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال ﴿والشياطين﴾ معطوفٌ على الضمير المنصوبِ أو مفعولٌ معه روي أن الكفرةَ يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تُغْويهم كلٌّ منهم مع شيطانه في سلسلة وهذا وإن كان مختصاً بهم لكن ساغ نسبتُه إلى الجنس باعتبار أنهم لما حُشروا وفيهم الكفرةُ مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعاً كما ساغ نسبة القول المحكيّ إليه مع كون القائل بعضَ أفراده ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً﴾ ليرى السعداءُ ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غِبطةً وسروراً وينالَ الأشقياءُ ما ادخّروا لِمَعادهم عُدّةً ويزدادوا غيظاً من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتِهم بهم والجِثيُّ جمع جاثٍ من جثا إذا قعد على ركبتيه وأصله جثو وبواوين فاستُثقل اجتماعُهما بعد ضمتين فكسرت الثاء لتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبق إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياء الأولى وكُسرت الجيم إتباعاً لما بعدها وقرئ بضمها ونصبُه على الحالية من الضمير البارز أي لنُحضرنهم حول جهنم جاثين على رُكَبهم لما يدهَمُهم من هول المطلَعِ أو لأنه من توابع التواقُفِ للحساب قبل التواصُل إلى الثواب والعقاب فإن أهلَ الموقف جاثون كما ينطِق به قوله تعالى وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً على ما هو المعتادُ في مواقف التقاول وإن كان المرادُ بالإنسان الكفرةَ فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم جُثاةً إهانةً بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة
﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ﴾ أي من كل أمة شاعت ديناً من الأديان
﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾ أي مَنْ كان منهم أعصى وأعتى فنطرَحهم فيها وفي ذكر الأشدّ تنبيهٌ على أنه تعالى يعفو عن بعضٍ من أهل العصيان وعلى تقدير تفسير الإنسانِ بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفةٍ منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم في النار على الترتيب أو نُدخل كلاًّ منهم طبقتَها اللائقةَ به وأيُّهم مبنيٌّ على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يُبنى كسائر الموصولاتِ لكنه أُعرب حملاً على كلٍ وبعض للزوم الإضافة وغذا حُذف صدرُ صلتِه زاد نقصُه فعاد إلى حقه ومنصوب المحل بننزعن ولذلك قرئ منصوباً ومرفوعٌ عند غيره بالابتداء
275
على أنه استفهاميٌّ وخبرُه أشدُّ والجملةُ محكيةٌ والتقديرُ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ الذين يقال لهم أيُّهم أشدُّ أو مُعلّقٌ عنها لننزعن لتضمّنه معنى التمييزِ اللازمِ للعلم أو مستأنفةٌ والفعل واقعٌ على كل شيعة على زيادة من أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة كقوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا وعلى للبيان فيتعلق بمحذوف كأنّ سائلاً قال على مَنْ عتَوا فقيل على الرحمن أو متعلقٌ بأفعل وكذا الباءُ في قوله تعالى
مريم
276
٧٠ - ٧٣ ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً﴾ أي هم أولى بصلبها أو صليهم أولى بالنار وهم المنتزَعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتيا رؤساء الشيعة فإن عذابَهم مضاعفٌ لضلالهم وإضلالهم والصِّليُّ كالعِتيّ صيغةً وإعلالا وقرئ بضم الصاد
﴿وَإِن مّنكُمْ﴾ التفاتٌ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ وقيل هو خطابٌ للناس من غير التفاتٍ إلى المذكور ويؤيد الأولَ أنه قرئ وإن منهم أي ما منكم أيها الإنسانُ ﴿إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ أي واصلُها وحاضرٌ دونها يمرّ بها المؤمنون وهي خامدة وتهار بغيرهم وعن جابر أنه ﷺ سئل عنه فقال إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال بعضُهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرِدَ النار فيقال لهم قد وردتُموها وهي خامدةٌ وأما قولُه تعالى ﴿أُوْلَئِكَ عنها مبعدون﴾ فالمراد به الإبعادُ عن عذابها وقيل ورودُها الجوازُ على الصراط الممدودِ عليها ﴿كَانَ﴾ أي ورودُهم إياها ﴿على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾ أي أمراً محتوما أوجبه الله عزَّ وجلَّ على ذاته وقضى أنه لا بد من وقوعه البتة وقيل أقسم عليه
﴿ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا﴾ الكفرَ والمعاصيَ مما كانوا عليه من حال الجُثُوّ على الركب على الوجه الذي سلف فيُساقون إلى الجنة وقرئ نُنْجي بالتخفيف ويُنْجي وينجَى على البناء للمفعول وقرئ ثَمةَ نُنجّي بفتح الثاء أي هناك ننجيهم ﴿وَّنَذَرُ الظالمين﴾ بالكفر والمعاصي ﴿فِيهَا جِثِيّاً﴾ منهاراً بهم كما كانوا قيل فيه دليلٌ على أنَّ المراد بالورود الجثُوُّ حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرةَ بعد تجاثيهم حولها ويُلقى الفجرةُ فيها على هيآتهم وقوله تعالى
﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ﴾ الآية إلى آخرها حكايةٌ لما قالوا عند سماعِ الآياتِ الناعية عليهم فظاعةَ حالِهم ووخامةَ مآلِهم أي وإذا تتلى على المشركين
﴿آياتِنا﴾ التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بحسن حالِ المؤمنين وسوءِ حالِ الكفرةِ وقوله تعالى
﴿بينات﴾ أي مِرتّلاتِ الألفاظ مبيَّناتِ المعاني بنفسها أو ببيان الرسول ﷺ أو بيِّناتِ الإعجاز حالٌ مؤكدةٌ من آياتنا
﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي قالوا ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادّين له أو قال الذين مرَدوا منهم على الكفر ومرَنوا على العتوّ والعِناد وهم النضر بن الحرث وأتباعُه
276
الفجرةُ واللام في قوله تعالى
﴿للذين آمنوا﴾ للتبليغ كما في مثلِ قولِه تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ وقيل لامُ الأجْل كما في قوله تعالى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ أي قالوا لأجلهم وفي حقهم والأولُ هو الأولى لأن قولهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطِق به قوله تعالى
﴿أَىُّ الفريقين﴾ أيُّ المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا أينا
﴿خَيْرٌ﴾ نحن أو أنتم
﴿مَقَاماً﴾ أي مكانا وقرئ بضم الميم أي موضِعَ إقامةٍ ومنزلٍ
﴿وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ أي مجلِساً ومجتمَعاً يروى أنهم كانوا يرجّلون شعورَهم ويدهنونها ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخر ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين يريدون بذلك أن خيريتهم حالا وأحسنيتهم منالا مما لا يقبل الإنكارَ وأن ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزُلْفاهم عنده إذ هو العيارُ على الفضل والنقصانِ والرفعة والضَّعة وأن من ضرورته هوانَ المؤمنين عليه تعالى لقصور حظِّهم العاجلِ وما هذا القياسُ العقيمُ والرأيُ السقيم إلا لكونهم جهَلةً لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وذلك مبلغُهم من العلم فرُدَّ عليهم ذلك من جهته تعالى بقوله
277
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا﴾ أي كثيراً من القرون التي كانت أفضلَ منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم من الأمم العاتيةِ قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا وفيه من التهديد والوعيد مالا يخفى كأنه قيل فينتظر هؤلاءِ أيضاً مثلَ ذلك فكم مفعولُ أهلكنا ومِن قرنٍ بيانٌ لإبهامها وأهلُ كل عصرٍ قَرنٌ لمن بعدهم لأنهم يتقدّمونهم مأخوذٌ من قَرْن الدابة وهو مقدّمها وقوله تعالى ﴿هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً﴾ في حيز النصبِ على أنه صفةٌ لِكم وأثاثاً تمييزُ النسبة وهو متاعُ البيت وقيل هو ما جد منه والخرئي مالبس منه ورث والرثى المنظرُ فِعْلٌ من الرؤية لما يُرَى كالطِّحْن لما يطحن وقرئ رِيًّا على قلب الهمزة ياءً وإدغامِها أو على أنه من الرِّيّ وهو النعمة والترفه وقرئ ريئاً على القلب ورِيَا بحذف الهمزة وزَيا بالزاي المعجمة من الزَّيّ وهو الجمعُ فإنه عبارةٌ عن المحاسن المجموعة
﴿قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾ لما بيّن عاقبةَ أمرِ الأمم المهلَكة مع ما كانَ لَهُم منْ التمتع بفنون الحظوظِ العاجلة أمر رسول الله ﷺ بأن يجيب هؤلاء المفتخِرين بما لهم من الحظوظ ببيان مآلِ أمر الفريقين إما على وجه كليَ متناولٍ لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللَّذة الفانية المبتهجين بها على أن مَن على عمومها وإما على وجه خاصَ بهم على أنها عبارةٌ عنهم ووصفُهم بالتمكن لذمِّهم والإشعارِ بعلةِ الحُكم أي مَنْ كان مستقراً في الضلالة مغموراً بالجهل والغَفلةِ عن عواقب الأمورِ فليمدُد له الرحمن أي يمدله ويُمهِله بطول العمُرِ وإعطاءِ المال والتمكينِ من التصرفات وإخراجُه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحِكمة لقطع المعاذير كما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ
﴿أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ﴾ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ أو للاستدراج كما ينطق به
277
قولِه تعالى إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وقيل المرادُ به الدعاءُ بالمد والتنفيس وعلى اعتبار الاستقرارِ في الضلال لما أن المد لا يكون إلا للمُصِرّين عليها إذ رُبّ ضالَ يهديه الله عز وجل والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية وقولُه تعالى
﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ﴾ غايةٌ للمدّ الممتدِّ لا لقول المفتخِرين كما قيل إذ ليس فيه امتدادٌ بحسب الذات وهو ظاهرٌ ولا استمرارٌ بحسب التكرار لوقوعه في حيّز جوابِ إذا وجمعُ الضميرِ في الفعلينِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضميرين الأولين باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى
﴿إما العذاب وَإِمَّا الساعة﴾ تفصيلٌ للموعود بدلٌ منه على سبيل البدل فإنه إما لعذاب الدنيويُّ بغلَبة المسلمين واستيلائِهم عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسْراً وإما يومُ القيامة وما نالهم فيه من الخزي والنَّكالُ على طريقة منع الخلوّ دون منع الجواب فإن العذابَ الأخرويَّ لا ينفك عنهم بحال وقوله تعالى
﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ جوابُ الشرط والجملةُ محكيةٌ بعد حتى أي حتى إذا عاينوا مَا يُوعَدُونَ من العذابِ الدنيويِّ أو الأخرويِّ فقط فسيعلمون حينئذ
﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ من الفريقين بأن يشاهدوا الأمرَ على عكس ما كانوا يقدّرونه فيعلمون أنهم شرٌ مكاناً لا خيرٌ مقاماً
﴿وَأَضْعَفُ جندا﴾ أي فئة وأنصار ألا أحسنُ ندِياً كما كانوا يدّعونه وليس المرادُ أن له ثمّةَ جنداً ضعفاءَ كلا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً وإنما ذُكر ذلك رداً لما كانوا يزعمون أن لهم أعواناً من الأعيان وأنصاراً من الأخيار ويفتخرون بذلك في الأندية والمحافل
278
﴿وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى﴾ كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حال المهتدين إثرَ بيانِ حال الضالين وقيل عطفٌ على فليمدُدْ لأنه في معنى الخبر حسبما عرفته كأن قيل مَن كان في الضلالة يمُده الله ويزيد المهتدين هدايةً كقوله تعالى والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وقيل عطفٌ على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهالَ الكافر وتمتيعَه بالحياة ليس لفضله عقّب ذلك ببيان أن قصورَ حظّ المؤمنِ منها ليس لنقصه بل لأنه تعالى أراد به ما هو خيرٌ من ذلك وقوله تعالى ﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ﴾ على تقديرَي الاستئنافِ والعطف كلامٌ مستأنفٌ واردٌ من جهته تعالى لبيان فضل أعمالِ المهتدين غيرُ داخلٍ في حيز الكلام الملقّن لقوله تعالى ﴿عِندَ رَبّكَ﴾ أي الطاعات التي تبقى فوائدُها وتدوم عوائدُها ومن جملتها ما قيل من الصلوات الخمس وما قيل من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خيرٌ عند الله تعالَى والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره لتشريفه ﷺ ﴿ثَوَاباً﴾ أي عائدةً مما يَتمتّع به الكفرةُ من النعم المُخدَجةِ الفانية التي يفتخرون بها لا سيما ومآلُها النعيمُ المقيمُ ومآلُ هذه الحسرةِ السرمدية والعذاب الأليم كما أشير إليه بقوله تعالى ﴿وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ أي مرجعا وعافية وتكريرُ الخيرِ لمزيد الاعتناءِ ببيان الخيريةِ وتأكيدٌ لها وفي التفضيل مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقة تهكّمٌ بهم
﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا﴾
278
أي بآياتنا التي من جملتها آياتُ البعث نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ كان لخبّابٍ بنِ الأرتّ عليه مالٌ فاقتضاه فقال لا حتى تكفرَ بمحمد قال لا والله لا أكفرُ به حياً ولا ميْتاً ولا حين بُعِثتُ قال فإذا بعثت جئني فيكونُ لي ثمّةَ مالٌ وولدٌ فأعطِيَك وفي رواية قال لا أكفر به حتى يُميتك ثم تُبعثَ فقال إني لميِّتٌ ثم مبعوثٌ قال نعم قال دعني حتى أموتَ وأُبعث فسأوتى مالاً وولداً فأقضيَك فنزلت فالهمزةُ للتعجيب من حاله والإيذانِ بأنها من الغرابة والشناعةِ بحيث يجب أن تُرى ويُقضَى منها العجب ومن فرّق بين ألم ترو إلى أرأيت بعد بيان اشتراكِهما في الاستعمال لقصد التعجيبِ بأن الأولَ يعلّق بنفس المتعجبِ منه فيقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى صنع كذا بمعنى انظُرْ إليه فتعجَّبْ من حاله والثاني يعلّق بمثل المتعجَّب منه فيقال أرأيتَ مثْلَ الذي صنع كذا بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يُرى له مِثْلٌ فقد حفِظ شيئاً وغابت عنه أشياءُ وكأنه ذهب عليه قوله عز وجل أرأيت الذى يُكَذّبُ بالدين والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظَرْتَ فرأيتَ الذي كفر بآياتنا الباهرةِ التي حقُّها أن يؤمِنَ بها كلُّ من يشاهدها
﴿وقال﴾ مستهزئا بها مصدر لكلامه باليمن الفاجرةِ والله
﴿لأُوتَيَنَّ﴾ في الآخرة
﴿مَالاً وَوَلَدًا﴾ أي انظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجراءته الشنيعة هَذَا هُو الذي يستدعيه جزالةُ النظمِ الكريمِ وقد قيل إن أرأيت بمعنى أخبِرْ والفاءُ على أصلها والمعنى أخبِرْ بقصة هذا الكافرِ عقيبَ حديثِ أولئك الذين قالوا أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً الآية وأنت خبيرٌ بأن المشهورَ استعمال أرأيت في معنى أخبرني بطريق الاستفهامِ جارياً على أصله أو مُخْرَجاً إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالإخبار لغيره وقرئ وُلْداً على أنه جمع وَلد كأُسْد جمعُ أسد أو على أنه لغة فيه كالعُرْب والعَرَب وقوله تعالى
279
﴿أَطَّلَعَ الغيب﴾ ردٌّ لكلمته الشنعاء وإظهارٌ لبطلانها إثرَ ما أشير إليه بالتعجيب منها أي أقد بلغ من عظمة الشأنِ إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي استأثر به العليمُ الخبير حتى ادعى أن أن يؤتى في الآخرة مالاً وولداً وأقسم عليه ﴿أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ بذلك فإنه لا يُتوصَّل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين والتعرضُ لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية لإيتاء ما يدّعيه وقيل العهدُ كلمةُ الشهادة وقيل العملُ الصالح فإن وعدَه تعالى بالثواب عليهما كالعهد وهذا مجاراةٌ مع اللعين بحسب منطوقِ مقالِه كما أن كلامَه مع خبّاب كان كذلك وقوله تعالى
﴿كَلاَّ﴾ ردعٌ لهُ عنْ التفوّه بتلك العظيمةِ وتنبيهٌ على خطئه
﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ أي سنُظهر أنا كتبنا قوله كقوله... إذا ما نتسبنا لم تلدني لئيمة...
أي يتبينُ أني لم تلدني لئيمة أو سننتقم منه انتقامَ مَنْ كتب جريمةَ الجاني وحفِظها عليه فإن نفس الكتيبة لا تكاد تتأخر عن القول لقوله عز وعلا مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فمبنى الأولِ تنزيلُ إظهارِ الشيءِ الخفيِّ منزلةَ إحداثِ الأمرِ المعدومِ بجامع أن كلاًّ منهما إخراجٌ من الكُمون إلى البروز فيكون استعارةً تبعيةً مبنية على تشبيه إظهارِ الكتابة على رءوس الأشهاد بإحداثها ومدارُ الثاني تسميةُ الشيء باسم سببِه فإن
279
مريم ٧٩ ٨٢ كتابةَ جريمةِ المجرمِ سببٌ لعقوبته قطعاً
﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً﴾ مكانَ ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطوّل له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكُفره وافترائِه على الله سبحانه واستهزائِه بآياته العِظام ولذلك أُكّد بالمصدر دَلالةً على فرط الغضب
280
﴿وَنَرِثُهُ﴾ بموته ﴿مَا يَقُولُ﴾ أي مسمَّى ما يقول ومصداقَه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد وفيه إيذانٌ بأنه ليس لما يقوله مصداقٌ موجودٌ سوى ما ذكر أي ننزِع عنه ما آتيناه ﴿وَيَأْتِينَا﴾ يوم القيامة ﴿فَرْداً﴾ لا يصحبه مالٌ ولا ولدٌ كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمةَ زائداً وقيل نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه ما يستحقه ويأباه معنى الإرث وقيل المرادُ بما يقول نفسُ القول المذكور لا مسمّاه والمعنى إنما يقول هذا القولَ ما دام حياً فإذا قبضناه حُلْنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ مبنيٌّ على أن صدورَ القول المذكورِ عنه بطريق الاعتقادِ وأنه مستمرٌّ على التفوّه به راجٍ لوقوع مضمونِه ولا ريب في أن ذلك مستحيلٌ ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء وتعليقِ أداءِ دَيْنه بالمُحال
﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلهة﴾ حكايةٌ لجناية عامةٍ للكل مستتبعة لضد ما يرجعون ترتّبه عليها إثرَ حكاية مقالةِ الكافرِ المعهودِ واستتباعِها لنقيض مضمونِها أي اتخذوا الأصنامَ آلهةً متجاوزين الله تعالى ﴿لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً﴾ أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل وشفعاءَ عنده
﴿كَلاَّ﴾ ردعٌ لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل وإنكارٌ لوقوع ما علّقوا به أطماعَهم الفارغةَ
﴿سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم﴾ أي ستجحد الآلهةُ بعبادتهم لها بأن يُنطِقَها الله تعالى وتقولَ ما عبدتمونا أو سينكر الكفرةُ حين شاهدوا سوءَ عاقبة كفرهم عبادتَهم لها كما في قولِهِ تعالى والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ومعنى قوله تعالى
﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ على الأول تكون الآلهةُ التي كانوا يرجون أن تكون لهم عِزاً ضدّاً للعز أي ذلا وهوانا أو تكون عوناً عليهم وآلةً لعذابهم حيث تُجعل وقود النار وحصب جنهم أو حيث كانت عبادتُهم لها سبباً لعذابهم وإطلاقُ الضدِّ على العَون لما أن عَونَ الرجل يُضادُّ عدوَّه وينافيه بإعانته له عليه وعلى الثاني يكون الكفرة ضدا وأعداء اللآلهة كافرين بها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبُدونها وتوحيدُ الضدِّ لوَحدة المعنى الذي عليه تدور مُضادّتُهم فإنهم بذلك كشيء واحدٍ كما في قولِه عليه السلام وهم يدٌ على من سواهم وقرئ كَلاًّ بفتح الكاف والتنوين على قلب الألفِ نوناً في الوقف قلْبَ ألفِ الإطلاق في قوله
أقِليِّ اللومَ عاذِلَ والعِتابَن | وقولي إن أصبتُ لقد أصابنْ |
أو على معنى كَلَّ هذا الرأي كلا وقرئ كلاّ على إضمار فعل يفسِّره ما بعده أي سيجحدون كلاّ سيكفرون الخ
280
٨٣ - ٨٧ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين﴾ تعجيبٌ لرسول الله ﷺ مما نطَقت به الآياتُ الكريمةُ السالفةُ وحكتْه عن هؤلاء الكفرة والغواة والمَرَدةِ العُتاةِ من فنون القبائِح من الأقاويل والأفاعيلِ والتمادي في الغي والانهماكِ في الضلال والإفراطِ في العِناد والتصميمِ على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم والإجماعِ على مدافعة الحقّ بعد اتضاحِه وانتفاءِ الشك عنه بالكلية وتنبيهٌ على أن جميعَ ذلك منهم بإضلال الشياطينِ وإغوائِهم لا لأن له مسوِّغاً ما في الجملة ومعنى إرسالِ الشياطينِ عليهم إما تسليطُهم عليهم وتمكينُهم من إضلالهم وإما تقييضُهم لهم وليس المرادُ تعجيبَه عليه السلام من إرسالهم عليهم كما يوهمه تعليقُ الرؤية به بل مما ذُكر من أحوال الكفرةِ من حيث كونُها من آثار إغواءِ الشياطينِ كما ينبئ عنه قوله تعالى ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾ فإنه إمَّا حالٌ مقدّرةٌ منْ الشياطين أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يفعل الشياطينُ بهم حينئذ فقيل تؤزّهم أي تُغريهم وتُهيّجهم على المعاصي تهييجاً شديداً بأنواع الوساوسِ والتسويلات فإن الأزَّ والهزّ والاستفزازَ أخواتٌ معناها شدةُ الإزعاج
﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾ أي بأن يُهلَكوا حسبما تقتضيه جناياتُهم ويَبيدوا عن آخرهم وتطهُرَ الأرض من فساداتهم والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظلة لوقوع المنهي عنه مُحوِجةً إلى النهي كما في قوله تعالى إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة وقوله تعالى ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ تعليلٌ لموجب النهي ببيان اقترابِ هلاكهم أي لا تستعجلْ بهلاكهم فإنه لم يبقَ لهم إلا أيامٌ وأنفاسٌ نعدّها عداً
﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين﴾ منصوبٌ على الظرفية بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للإشعار بضيق العبارةِ عن حصره وشرحِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والدواهي العامة كأنه قيل يوم نحشر المتقين أي نجمعهم ﴿إِلَى الرحمن﴾ إلى ربهم الذي يغمرُهم برحمته الواسعة ﴿وَفْداً﴾ وافدين عليه كما يفد الوفودُ على الملوك منتظِرين لكرامتهم وإنعامِهم
﴿وَنَسُوقُ المجرمين﴾ كما تُساق البهائم ﴿إلى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ عِطاشاً فإن مَنْ يرد الماءَ لا يورِدُه إلا العطشُ أو كالدوابّ التي ترِد الماءَ نفعل بالفريقين من الأفعال مالا يفي ببيانه نطاقُ المقال وقيل منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدمٍ خوطب به النبيُّ الله ﷺ أي اذكر لهم بطريق الترغيبِ والترهيبِ يوم نحشر الخ وقيل على الظرفية لقوله تعالى
﴿لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة﴾
281
والذي يقتضيه مقامُ التهويلِ وتستدعيه جزالةُ التنزيل أن ينتصبَ بأحد الوجهين الأولَين ويكونُ هذا استئنافاً مبيناً لبعض ما فيه من الأمور الدالةِ على هوله وضميرُه عائداً إلى العباد المدلولِ عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيهما وقيل إلى المتقين خاصة وقيل إلى المجرمين من الكفرة وأهلِ الإسلام والشفاعةُ على الأولين مصدرٌ من المبنيّ للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن تكون مصدراً من المبنيّ للمفعول وقوله تعالى
﴿إِلاَّ مِن اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ على الأولِ استثناءٌ متصلٌ مِن لا يملكون ومحلُّ المستثنى إما الرفعُ على البدل أو النصبُ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يملك العبادُ أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعَدّ له بالتحلّي بالإيمان والتقوى أو من أُمر بذلك من قولهم عهدِ الأميرُ إلى فلان بكذا إذا أمرَه به فيكون ترغيباً للناس في تحصيل الإيمانِ والتقوى المؤدِّي إلى نيل هذه الرتبةِ وعلى الثاني استثناءٌ من الشفاعة على حذف المضافِ والمستثنى منصوبٌ على البدل أو على أصل الاستثناءِ أي لا يملك المتقون الشفاعةَ إلا شفاعةَ من اتخذ العهد بالإسلام فيكون ترغيباً في الإسلام وعلى الثالث استثناءٌ مِنْ لا يملكون أيضاً والمستثنى مرفوعٌ على البدل أو منصوبٌ على الأصل والمعنى لا يملك المجرمون أن يَشفع لهم إلا مَنْ كان منهم مسلماً
282
﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾ حكايةٌ لجناية اليهودِ والنصارى ومن يزعُم من العرب أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً إثرَ حكاية عبَدةِ الأصنام بطريق عطفِ القصة على القصة وقوله تعالى
﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا﴾ ردٌّ لمقالتهم الباطلةِ وتهويلٌ لأمرها بطريق الالتفات المبني عن كمال السخطِ وشدةِ الغضب المُفصِح عن غاية التشنيعِ والتقبيحِ وتسجيلٌ عليهم بنهاية الوقاحةِ والجهل والجراءة والإدُّ بالكسر والفتح العظيمُ المنكر والإدّةُ الشدةُ وأدَني الأمرُ وآدَني أثقلني وعظُم عليّ أي فعلتم أمراً منكراً شديداً لا يقادَر قدره من جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته وقوله تعالى
﴿تكاد السماوات﴾ الخ صفةٌ لإدًّا أو استئناف ببيان عظيم شأنه في الشدة والهول وقرئ يكاد بالتذكير
﴿يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ يتشقّقن مرةً بعد أخرى من عِظم ذلك الأمر وقرئ ينفطرْن والأولُ أبلغُ لأن تفعّل مطاوِعُ فعّل وانفعلَ مطاوعُ فَعَل ولأن أصل التفعّل التكلف
﴿وَتَنشَقُّ الأرض﴾ أي وتكاد تنشق الأرض
﴿وَتَخِرُّ الجبال﴾ أي تسقُط وتتهدم وقوله تعالى
﴿هَدّاً﴾ مصدرٌ مؤكّدٌ لمحذوف وهو حال من الجبال أي تُهدّ هدًّا أو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعول مؤكّدٌ لتخِرُّ على غير الصدر لأنه حينئذ بمعنى التهدّم والخرُور كأنه قيل وتخِرّ الجبال خروراً أو مصدرٌ بمعنى المفعول منصوبٍ على الحالية أي مهدودةً أو مفعول له أي لأنها تُهَدّ وهذا تقريرٌ لكونه إدًّا والمعنى أن هَولَ تلك الشنعاءِ وعِظمَها بحيث لو تَصوّرتْ بصورة محسوسة لم تُطِقْ بها هاتيك الأجرامُ العظام وتفتت من شدتها أو أن فظاعتَها في استجلاب الغضَبِ واستيجابِ السَّخَط
282
بحيث لولا حِلْمُه تعالى لخُرِّب العالمُ وبُدِّدت قوائمُه غضباً على من تفوه بها
مريم
283
٩١ - ٩٦ ﴿أن دعوا للرحمن ولدا﴾ منصوبٌ على حذف اللام المتعلقةِ بتكاد أو مجرورٌ بإضمارها أي تكاد السموات يتفطرّن والأرضُ تنشق والجبالُ تخِرّ لأَن دعَوا له سبحانه ولداً وقيل اللامُ متعلقةٌ بهدًّا وقيل الجملةُ بدلٌ منَ الضميرِ المجرورِ في منه كما في قوله... على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتِمُ...
وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي الموجبُ لذلك أنْ دعوا الخ وقيل فاعلُ هدًّا أي هدّها دُعاءُ الولد والأولُ هو الأولى ودعَوا من دعا بمعنى سمَّى المتعدّي إلى مفعولين وقد اقتُصر على ثانيهما ليتناولَ كل ما دُعيَ له ولداً أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعُه ادّعى إلى فلان أي انتسب إليه وقوله تعالى
﴿وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ حالٌ من فاعل قالوا أو دعَوا مقرّرةٌ لبطلان مقالتهم واستحالةِ تحقق مضمونها أي قالوا اتخذ الرحمن ولداً أو أن دعوا للرحمن ولدا والحال أنه ما يليق به تعالى اتخاذُ الولد ولا يُتطلب له لو طُلب مثلاً لاستحالته في نفسه ووضعُ الرحمن موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم بالتنبيه على أنَّ كلَّ ما سواهُ تعالى إما نعمةٌ أو مُنعَمٌ عليه فكيف يتسنى أن يجانس من هو مبدأُ النعمِ ومولى أصولِها وفروعِها حتى يتوهَّم أن يتخذه ولداً وقد صرح له قومٌ به عز قائلاً
﴿إِن كُلُّ مَن فِى السماوات والأرض﴾ أي ما منهم أحدٌ من الملائكة والثقلين ﴿إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْداً﴾ إلا وهو مملوكٌ له يأوي إليه بالعبودية والانقيادِ وقرئ آتٍ الرحمن على الأصل
﴿لَّقَدْ أحصاهم﴾ أي حصَرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج منهم أحدٌ من حِيطة علمِه وقبضة قدرتِه وملكوتِه ﴿وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾ أي عد أشخاصَهم وأنفاسَهم وأفعالَهم وكلُّ شيء عنده بمقدار
﴿وكلهم آتيه يَوْمَ القيامة فَرْداً﴾ أي كلُّ واحدٍ منهم آتٍ إياه تعالى منفرداً من الأتباع والأنصار وفي صيغة الفاعلِ من الدِلالة على إتيانهم كذلك البتةَ ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه فإذا كان شأنُه تعالى وشأنُهم كما ذكر فأنى يُتوهم احتمالُ أن يتخذ شيئاً منهم ولداً
﴿إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ لما فُصّلت قبائحُ أحوالِ الكفرة عُقّب ذلك بذكر محاسنِ أحوالِ المؤمنين
﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾ أي سيُحدث لهم في القلوب مودّةً من غير تعرضٍ منهم لأسبابها سوى ما لهُم من الإيمانِ والعملِ الصالحِ والتعرضُ لعنوان الرحمانيةِ لِما أن الموعودَ من آثارها
283
وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا أحبّ الله عبداً يقول لجبريلَ عليه السلام إني أحبُّ فلاناً فأحِبَّه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله أحب فلاناً فأحِبُّوه فيحبه أهلُ السماء ثم يوضع له المحبةُ في الأرض والسينُ لأن السورةَ مكيةٌ وكانوا إذ ذاك ممقوتين بين الكفرة فوعدهم ذلك ثم أنجزه حين ربا الإسلامُ أو لأن الموعودَ في القيامة حين تُعرض حسناتُهم على رءوس الأشهاد فينزع مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ الغِلّ الذي كان في الدنيا ولعل إفرادَ هذا بالوعد من بين ما سيُؤْتَون يوم القيامة من الكرامات السنية لِما أن الكفرةَ سيقع بينهم يومئذ تباغضٌ وتضادٌّ وتقاطع وتلاعن
مريم
284
٩٧ - ٩٨ ﴿فَإِنَّمَا يسرناه﴾ أي القرآنَ ﴿بِلَسَانِكَ﴾ بأن أنزلناه على لغتك والباء بمعنى على وقيل ضُمّن التيسيرُ معنى الإنزالِ أي يسرنا القرآنَ منزِلين له بلغتك والفاءُ لتعليل أمرٍ ينساق إليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل بعد إيحاءِ السورةِ الكريمة بلِّغْ هذا المنزلَ أو بشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين ﴿لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين﴾ أي الصائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾ لا يؤمنون به لجَاجاً وعِناداً واللُّد جمعُ الألد وهو الشديدُ الخصومة اللَّجوجُ المعانِدُ وقوله تعالى
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ﴾ وعدٌ لرسول الله ﷺ في ضمن وعيدِ الكفرة بالإهلاك وحث له ﷺ على الإنذار أي قَرْناً كثيراً أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين وقوله تعالى
﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ﴾ إستئناف مقرر لمضمون ماقبله أي هل تشعُر بأحد منهم وترى
﴿أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ أي صوتاً خفيا وأصلُ الرِكْز هو الخفاءُ ومنه رَكَز الرمحَ إذا غيب طرفه فى الرض والرِّكازُ المالُ المدفونُ المخفيُّ والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحدٌ ولا يسمع منهم صوتٌ خفيّ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة مريمَ أُعطِي عشرَ حسناتٍ بعدد من كذّب زكريا وصدّق به ويحيى وعيسى ومريم وسائرَ الأنبياءِ المذكورين فيها وبعدد مَنْ دعا الله تعالَى في الدُّنيا ومن لم يدْع الله تعالى
284