وقد قيل : إن سورة الحج مدنية، وحديث أنس أنها نزلت في بعض أسفار النبي عليه السلام يدل على أنها مدنية. فمن قال أنها مدنية.
قال في قوله :﴿ هذان خصمان ﴾ إنه نزل في اختصام اليهود والمسلمين في كتابهم ودينهم.
٢ ز: عبيد الله بن الحارث بن عمر (تحريف). وهو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلق بن عبد مناف، أبو الحارث. من أبطال قريش في الجاهلية والإسلام. أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم. شهد بدرا وقتل بها سنة ٢ هـ. انظر: ترجمته في: الإصابة ٤/٢٠٩ والأعلام ٤/٣٥٦..
٣ هو عبد المطلب بن هشام، عم النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يقال له أسد الله وأسد رسوله. انظر: ترجمته في الإصابة ٢/٣٧ والاستيعاب ١/٣٦٩..
٤ انظر: أخبارهما في المعارف: ٧٢..
٥ انظر: أخبارهما في المعارف: ١٥٦..
٦ انظر: مستدرك الحاكم ٢/٣٨٥ ولباب النقول: والناسخ والمنسوخ ٢٢٠.
٧ ز: يقوم. (تحريف)..
٨ الله سقطت من ز..
٩ ز: قال..
١٠ ز: إلى..
١١ ز: الشامة بإسقاط الكاف..
١٢ انظر: البخاري مع الفتح ٦/٣٨٢ (كتاب الأنبياء) ومسلم ١/١٣٩ (كتاب الإيمان) وسنن الترمذي ٥/٥ (كتاب التفسير)..
ﰡ
وقد قيل: إن سورة الحج مدنية، وحديث أنس أنها نزلت في بعض أسفار النبي - عليه السلام - يدل على أنها مدنية. فمن قال أنها مدنية.
قال في قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ) إنه نزل في اختصام اليهود والمسلمين في كتابهم ودينهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة﴾ إلى قوله: ﴿ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ﴾.
المعنى: يا أيها الناس احذروا عقاب الله وأطيعوه إن زلزلة الساعة شيء عظيم.
قال ابن جريج: زلزلتها: أشراطها في الدنيا.
" وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: إن الله جل ذكره لما فرغ من خلق السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه، شاخص
قال أبو هريرة: وما الصور؟ قال النبي ﷺ: قرن. قال: وكيف هو؟ قال: قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين جل وعز، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيطوِّلُها، فلا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ أي: من راحة. فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ وتكون الأرض كالسفينة الموبقة تضربها الرياح تُكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الرياح فيميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة، فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بضعاً، وهو الذي يقول الله ﴿يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ...﴾ إلى قوله ﴿... هَادٍ﴾ فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر. فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظرو في السماء، فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم، قال
وقال الحسن: " بلغني أن رسول الله ﷺ لما قفل من غزوة العسر، ومعه أصحابه، فقال: ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ...﴾ إلى قوله: ﴿... شَدِيدٌ﴾. ثم قال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قيل له: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم يقول الله جل ذركه لآدم: قم فابعث بعث النار، فيقول آدم: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: ابعث لكل ألف تعسة وتسعين وتسع مائة إلى النار، وواحد إلى الجنة قال: فاشتد ذلك على الناس حتى لم يبدوا عن واضحة. فلما رأى ما في وجوههم قال لهم: اعملوا وابشروا، فوالله ما أنتم في الناس إلا كالرقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير، أنه لم يكن رسولان إلا وبينهما فترة من جاهلية، وأهل الجاهلية أهل النار بين
وروي عن الحسن أنه قال: يخرج من النار رجل بعد ألف عام. فقال الحسن: يا ليتني أنا ذلك الرجل.
وقال قوم: يراد بهذا كله يوم القيامة، فمن قال: هو يوم القيامة قال: المعنى: يوم يرون القيامة. ومن قال: هو قبل يوم القيامة قال: المعنى: يوم يرون أشراطها تذهل. وظاهر النص يدل على أن " الهاء " في " ترونها " تعود على الزلزلة. أي: يوم ترون الزلزلة، وذلك من أشراط الساعة، وهو ظاهر النص، لأن يوم القيامة لا حامل فيها ولا مرضعة. إنما ذلك في الدنيا، فهو وقت تظهر فيه الزلازل والأشراط والشدائد الدالة على قيام الساعة فتذهب المرضعات عن أولادها، وتضع الحوامل حملهن لشدة ذلك، وعظيم خوفه وصعوبته ولما يلقى فيه من الهلع والفزع.
اعلموا وأبشروا، فإن معكم خليقتين ما كنتا في قوم إلا كثرتاه، فمن هلك من بني آدم ومن هلك من بني إسرائيل ويأجوج ومأجوج. ثم قال: ألا أبشروا ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الناقة "، وكذلك رواه الخدري وأنس بن مالك، فهذا الحديث أصح من الأول طريقاً وزاد الحسن في الحديث أن النبي ﷺ. قال فيه ولم يكن رسولان إلا كان بينهما فترة من الجاهلية، فهم أهل النار، وإنكم بين ظهراني خليقتين لا يعدهما أحد من أهل الأرض إلا كثروهم يأجوج
وتكمل العدة من المنافقين.
وقال ابن مسعود: سمعت النبي ﷺ يقول: " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. فقال: " أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده إن لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وسأخبركم عن ذلك. إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن قلة المسلمين في الكفار يوم القيامة كالشعرة السوداء في الثور الأبيض. وكالشعرة البيضاء في الثور الأسود ".
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾.
أتت مرضعة بالهاء، لجريانها على الفعل ويجوز مرضع، كما قال: امرأة حائض وطامث وطالق. والأصل: الهاء. ولكن جرى عند سيبويه على معنى شيء حائض وطامث.
وقال الفراء: إنما قالوا: حائض وطامث، لأن المذكر لا حظَّ له في هذا الصف. فلم يحتج إلى هاء في المؤنث. وقالوا: قائم وقامئة، فِأتوا بالهاء في المؤنث لأِنه يقع للمؤنث والمذكر وهذا القول ينتقض على الفراء لأنهم قالوا ناقة ضامر، وبعير ضامر، وناقة ساغل وبعير
قالت عائشة رضي الله عنها: " كان النبي ﷺ في حجري فقطرت دموعي على خده، فاستيقظ فقال: ما يبكيك؟ فقلت: ذكر القيامة وهولها. فهل يذكرون أهلهم يا رسول الله؟ فقال: يا عائشة ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد إلا نفسه، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل. وعند الصحف حتى يعلم ما في صحيفته وعند الصراط حتى يجاوزه ".
وروي عن ابن عباس أنه قال: " نزلت هاتان الآياتان على النبي ﷺ وهو يسير
وقوله: ﴿وَتَرَى الناس سكارى﴾.
رجع من مخاطبة الجماعة من الناس إلى مخاطبة النبي ﷺ كما جاز أن يخرج عن مخاطبة النبي ﷺ إلى مخاطبة الجماعة في قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.
هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث كان يخاصم ويزعم أن الله جل ذكره غير قادر على إحياء من بلى وعاد تراباً، بغير علم له في ذلك. ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.
وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام.
ثم قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ﴾.
أي: كتب على الشيطان أي: قضى على الشيطان أنه تولاه. الهاء في " أنه " مجهول تفسره الجملة التي بعده. و " تولاه ". أي: تولى الشيطان. أي: فمن اتبع الشيطان من خلق الله، فإنه يضله. أي: فإن الشيطان يضل من اتبعه، ﴿وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير﴾.
أي: يسوقه إليه بطاعته له، ومعصيته لله، في " عليه " و " تولاه " و " فإنه " تعود على الشيطان.
ثم قال: ﴿يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث﴾.
وقيل: معناه، تامة أو غير تامة، وهو قول قتادة.
وقال مجاهد: هو السقط، مخلق وغير مخلق.
وقال الشعبي: بعد المضغة تكون مخلقة، وهو الخلق الرابع، وإذا قذفها الرحم قيل فهي غير مخلقة.
وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله ﷺ يقول: - وهو الصادق المصدوق - " يجمع خلق كل أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة أربعين يوماً، ثم يكون مضغة أربعين يوماً، ثم يبعث الله إليه ملكاً، فيقول: أكتب عمله وأجله ورزقه واكتب شقياً أو سعيداً ".
وقال عبد الله: والذي نفسي بيده، إن الرجل ليعمل عمل أهل السعادة، فيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه الشقاء، فيعمل بعمل
واختار الطبري أن تكون المخلقة المصورة خلقاً تاماً، وغير مخلقة السقط قبل تمام خلقه فيكون مخلقة وغير مخلقة من نعت المضغة، لأ، هـ ليس بعد المضغة إلا التصوير.
ثم قال تعالى: ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أي: فعلنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء. أي: ذكرنا لكم الأحوال الابتداء، لنبين لكم أثر الصنعة والقدرة. فقوله: ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ جواب للقصة المذكورة في خلق الإنسان كلها. أي: أخبرناكم بهذه القدرة في خلقكم لنبين لكم أن البعث حق.
ثم ابتدأ بخبر آخر فقال: ﴿وَنُقِرُّ فِي الأرحام﴾ ولذلك ارتفع، ولا يجوز نصبه على العطف على " لنبين "، لأنه لم يذكر القصة في قدرته ليقر في الأرحام ما يشاء، إنما ذكرها ليدل على صحة وقوع البعث بعد الموت. والمعنى: ﴿وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾، أي: ونبقي في الأرحام من نشاء حياته فلا يسقط إلى وقت ولادته فيخرج طفلاً.
أي: يخرج كل واحد منكم طفلاً.
وقوله: ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾ أي: ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم.
وقيل: معناه: ثم نخرجكم طفلاً لتبلغوا أشدكم.
والأول أحسن، لأن هذا، يوجب زيادة " ثم "، ولا يحسن زيادتها، بل لا بد لها من فائدة، وهو ما ذكرنا من التعبير ليقع به البلوغ إلى الأشد. ومعنى أشدكم. أي كمال عقولكم ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى﴾.
أي: من قبل بلوغ أشده فيموت.
﴿وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾.
أي: من ينسأ في أجله فيعمر حتى يهرم، فيرج إلى أرذل عمره.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: أرذل العمر، خمسة وسبعون عاماً.
ثم قال: ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾.
أي: ليصير لا علم له بالأشياء بعدما كان علماً بها.
ثم قال: ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً﴾.
أي: يابسة دارسة لا نبات فيها، وأصل الهمود، الدروس والدثور.
﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت﴾ أي: تحركت بالنبات.
﴿وَرَبَتْ﴾ أي: وأضعفت النبات بمجيء الغيث.
وقيل: التقدير: فإذا أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت، فيكون المهتز الزرع، يتحرك إذا نبت على الحقيقة، فيرج المعنى إلى النبات. وظاهر الإخبار عن الأرض.
وقوله: ﴿وَتَرَى﴾ رجوع من خطاب جماعة إلى خطاب واحد وهو حسن، قد تقدم نظائره.
وقرأ أبو جعفر القاري: ﴿وَأَنبَتَتْ﴾ بالهمز. أي: ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة.
وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف يقال: هو رأبئ القوم وربيئتهم. وفعيل: للمبالغة.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾.
أي: من كل نوع حسن، يعني من النبات. ﴿بَهِيجٍ﴾ بمعنى مبهج أي: يبهج من رآه حسنُه.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾.
أي: فعل الله ذلك بأنه الحق، أو الأمر ذلك بأنه الحق.
أي: هذا الذي تقدم ذكره من عظيم القدرة في خلق الإنسان، والأرض وغير
ثم قال تعالى: ﴿ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى﴾.
أي: من يخاصم في توحيد الله بغير علم ولا هدى. أي: وبغير هادى وبغير كتاب منير، أي ينير حجته، فتضيء له.
ونزلت أيضاً هذه الآية في النضر بن الحارث.
قوله تعالى ذكره: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ إلى قوله ﴿وَلَبِئْسَ العشير﴾.
أي: يخاصم في توحيد الله بغير علم، وبغير هدى وبغير كتاب، ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾. أي: معرضاً عن الحق، متحيراً فنصبه على الحال.
قال ابن عباس: " ثاني عطفه " مستكبراً في نفسه. قال: هو النضر بن
وقال مجاهد وقتادة: معناه: لاوياً رقبته.
وقال ابن زيد: " لا ويا رأسه معرضاً، مولياً، لا يقبل على ما يقال له "، ومنه قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ...﴾ [المنافقون: ٥] لآية، وهو قوله: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِءَايَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً﴾.
والعِطْفُ: ما أنثنى من العنق.
ثم قال: ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾.
أي جادل هذا المشرك في توحيد الله ونفى البعث ليضل المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم الله إليه ﴿لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾.
وهو القتل والهوان بأيدي المؤمنين، فقتله الله بأيديهم يوم بدر. ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق﴾ أي: نحرقه بالنار.
ثم قال: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ أي: يقال له إذا أذيق عذاب النار. ذلك بما قدمت يداك في الدنيا، وبأن الله ليس بظلام للعبيد.
قوله ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ وقف، إن جعلت ﴿وَأَنَّ﴾ في موضع رفع على معنى
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾.
هذه الآية نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله ﷺ مهاجرين من باديتهم، فإذا نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة وبعد الدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام، وإن نالوا بعد ذلك شدة وضيق عيش أو موت ماشية ونحوه، ارتدوا على أعقابهم. فالمعنى: ومن الناس من يعبد الله على شك، فإن أصابه خير - وهو السعة من العيش اطمأن به: أي استقر بالإسلام، وثبت عليه، وإن أصابته فتنة، وهو الضيق في العيش وشبهه انقلب على وجهه أي: رجع إلى الذي كان عليه من الكفر بالله.
قال ابن عباس: " كان أحدهم إذا قدم المدينة، فإن صح جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً، رضي به واطمأن إليه. وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، وإن أصابه وجع وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقالك والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلا شراً، فذلك الفتنة ".
وقال مجاهد: ﴿على حَرْفٍ﴾: على شك.
قال ابن جريج: كان ناس من قبائل العرب ومن حولهم من أهل القرى يقولون: نأتي محمداً عليه السلام، فإن صادفنا خيراً من معيشة الرزق ثبتنا، وإلا لحقنا بأهلنا.
قيل: هم المنافقون، كانوا إذا رأوا النبي ﷺ مستعلياً على أعدائه في أمن وخصب، أظهروا التصديق به، وتصويب دينه، وصَلُّوا معه وصاموا، وهم مع ذلك على غير بصيرة فيما هم عليه، فإذا أصابته فتنة من خوف أو تشديد في العبادة والأمر بالجهاد، انقلب عما كان يظهر من الإيمان والصوم والصلاة، فأظهر الكفر والبراءة من دين الله، فانقلب على وجهه خاسراً دنياه وأخراه.
وقال ابن زيد: " هي في المنافقين، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإذا أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه، ورجع إلى الكفر. وهذا التفسير كله يدل على أن السورة مدنية. ومن قال: إنها مكية، قال: نزلت في شيبة بن ربيعة، كان أسلم ثم ارتد.
وقيل: نزلت في النضر بن الحارث.
وتقدير الكلام: ومن الناس من يعبد الله على حرف الدين، أي: على طرفه لا يدخل فيه/ ويتمكن.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك هُوَ الخسران المبين﴾.
أي: خسران الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين، أي يبين لمن تفكر فيه وتدبر.
ثم قال تعالى: ﴿يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ﴾.
وإن أصاب هذا الذي يعبد الله على حرف ضر، يدعو من دون الله آلهة لا تضره إن لم يعبدها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها. ﴿ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾. أي: الطويل: والعرب تقول: لما لا يكون البتة: هذا بعيد.
ثم قال: ﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ تقدير هذا الكلام عند الكسائي والبصريين: يدعو من لضره أقرب من نفعه. أي: يدعو إلهاً لضره أقرب من نفعه، لأن من عبد الأصنام، فضررها يعود عليه في الدنيا والآخرة، ولا نفع يعود عليه من
وتقديره: ذلك هو الضلال البعيد في حالة دعائه إياه. ويكون لمن ضره أقر من نفعه مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء، وخبره: ﴿لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير﴾.
وقيل: " يدعو " بمعنى يقول، فلا يحتاج إلى عمل، وتكون اللام في موضعها و " من " مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف.
والتقدير: يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهي.
وقيل: " يدعو " بمعنى: يسمى.
وقال الزجاج: " ذلك " بمعنى الذي. وهو في موضع نصب بـ " يدعو " أو التقدير: يدعو الذي هو الضلال البعيد. ثم ابتدأ: لمن ضره أقرب من نفعه. وخبره: " لبئس المولى " وها مثل قوله: " وما تلك بيمينك ". أي: وما التي بيمينك.
وحكي عن المبرد أنه قال: التقدير: يدعو لمن ضربه أقرب من نفعه إلهاً. وهذا لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ، فلا ينصب خبره، فإن جعل الخبر " لبيس المولى " لم يكن للكلام معنى ويصير منقطعاً بعضه من بعض.
وقوله: ﴿لَبِئْسَ المولى﴾: أي: لبيس العم، " ولبيس العشير " أي: الخليط والصاحب. قاله ابن زيد.
وقيل: " المولى ": الولي الناصر.
وقال مجاهد: " لبيس العشير " يعني الوثن.
ولا يوقف على " البعيد " على قول الزجاج، لأن ذلك منصوب بـ " يدعو ".
وقد أفردنا لهذه الآية كتاباً، وشرحنا ما فيه بأبسط من هذا. ومعنى: " لمن ضره
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ إلى قوله: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾.
أي: إن الله يدخل المصدقين به وبكتبه ورسله العاملين الطاعات بساتين. " تجري من تحتها الأنهار ". أي: من تحت أشجارها.
﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾. فيعطي ما شاء من كرامته أهل طاعته.
ثم قال: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة﴾.
أي: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً عليه السلام في الدنيا والآخرة، " فليمدد بسبب " وهو الحبل " إلى السماء " يعني سماء لبيت، وهو سقفه. " ثم ليقطع " السبب. يعني: الاختناق به. " فلينظر هل يذهبن " اختناقه، ذلك ما يغيظ. أي: ما يجد من في
وقال ابن زيد معناه: من كان يظن أن لن ينصر/ الله محمداً ﷺ، فليقطع ذلك من أصله، من حيث يأتيه النصر، فإن أصله في السماء، فليمدد سببه إلى السماء ثم ليقطع الوحي عن النبي ﷺ ﴿ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾.
أي: هل يذهب فعله ما يجد في نفسه من غيظ. في نصر الله تعالى محمداً.
وقيل: النصر هنا معناه: الرزق. وحكي عن العرب، من ينصرني نصره الله. أي: من يعطني أعطاه الله فالتقدير على هذا: من كان يظن أن لن يرزق الله محمداً عليه السلام، فليختنق في حبل في سقف بيته ثم لينظر هل يذهب فعله غيظه.
وقيل: معناه: من كان يظن أن لن يرزق الله تعالى محمداً فليمدد بسبب إلى السماء، فليقطع رزقه إن كان يقدر، فلينظر هل يذهب كيده غيظه.
وكونها عائدة على " من " - وهو قول أبي عبيدة مع طائفة من أهل اللغة - ويكون ينصره بمعنى " ينفعه ".
قال ابن عباس: معنه: إن لن ينصر الله محمداً. فالهاء لمحمد عليه السلام.
وقال مجاهد: معناه: من كان يظن أن لن يرزقه الله، فليمدد بحبل إلى سارية البيت فليخنق نفسه. فالهاء على هذا ل " ظن " كأنه ق: من ظن أن الله لا يرزقه، فليقتل نفسه، إذ لا حياة له مع عدم رزق الله له.
وقيل: معناه: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه في الدنيا والآخرة وأنه يتهيأ له أن يغلب نبيه أو يزيل عنه النصر الذي يريده الله به. فليطلب سبباً يصل به إلى السماء، فليقطع نصر الله عن نبيه، فلينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بكيد ويبسبب يحتاله.
وهل يتهيأ له أن يقطع النصر عن نبي الله، أو يزيل بكيده وحيلته ما يغطيه من نصر الله لنبيه، فإنما هذا دلالة على ما لا يتهيأ لهم، ولا يقدرون عليه، وفيه إعلام أن النصر لمحمد من عند الله، وتنبيه على أن محمداً منصور لا يغلب.
ثم قال تعالى: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ أي: وكما بينت لكم الحجة على من تقدم ذكره، كذلك أنزلت على محمد آيات واضحات يهتدي بها من وفقه الله للحق.
أي: إن هؤلاء على اختلاف أديانهم يفصل بينهم الله يوم القيامة، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل غيرهم النار، فهذا هو الفصل.
قال قتادة: " والصابون " قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة، ويقرأون الزبور. والمجوس، يعبدون الشمس والقمر والنيران " والذين أشركوا يعبدون الأوثان. والأديان ستة، خمسة للشيطان وواحد للرحمن.
وقوله: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
أي: شاهد على أعمالهم على اختلاف أديانهم، فإن الثانية تخبر عن الأولى. أي: سدت مسد خبرها، إذ هي داخلة على ابتداء وخبر. والابتداء والخبر يسدان مسد خبر أن في كثير من الكلام.
وقيل: لما طال الكلام، صارت الأولى كأنها ملغاة، فأعيدت تأكيداً وتكريراً. والأول أحسن/.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾.
أي: يخضعون وينقادون لله.
وقيل: السجود هنا مما لا يعقل، ومن الموات والكفار إنما هو ظهور أثر الصنعة عليها، والخضوع الذي يدل على أنها مخلوقة. وانقيادها لله وتصريف الله لها فيما شاء.
وقيل: سجودها، هو تحول ظلها حين تطلع الشمس وحين تزول، فإذا تحول ظل كل شيء، فهو سجوده.
وقال مجاهد: ظلال هذا كله يسجد.
وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر وإلا يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين.
وقوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ يعني: المؤمنين ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾ يعني ظل الكافر يسجد لله. قاله مجاهد، وهو عنده مع هذا منقاذ لله، خاضع وهو ساجد مع ظله، إلا أن سجود ظله ميلانه مع الشمس وسجوده هو انقياده وخضوعه على صحته وسقمه ورزقه ومنعه.
وقيل: معنى: " وكثير حق عليه العذاب ": وكثير أبى السجود فحق عليه العذاب فيكون الوقف على هذا القول. " وكثير من الناس " ثم يبتدئ: " وكثير حق عليه العذاب " ولهذا المعنى رفع " كثير ". وقد عطف على ما عمل فيه الفعل. ولولا هذا المعنى، لكان النصب الاختيار. كما قال: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الإنسان: ٣١] " فكثير " الثاني: مبتدأ، وليس بمعطوف على الأول، فإنما هو أخبار عن خلق كثير [وجب عليه] العذاب بكفره. ما قبله إخبار عن كثير من الناس يسجدون لله، وهم المؤمنون.
[ثم قال] ﴿وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾.
أي: ومن يشقه الله فيهينه، فما له من مكرم يكرمه بالسعادة.
ثم قال تعالى: ﴿هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ﴾.
يعني: الذين تبارزوا يوم بدر. وقد ذكر ذلك في أول السورة.
وقال ابن عباس: هم أهل إيمان، وأهل كتاب. اختصموا. قال أهل الكتاب للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد ﷺ ونبيككم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. فكان ذلك خصومتهم في ربهم.
وقال الحسن: هم الكفار والمؤمنون، اختصموا في ربهم. وكذا قال مجاهد.
وقال عكرمة: " هذان " إشارة إلى الجنة والنار. اختصما في ربهما، فقال النار: خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته. فقد قص عليك من خبرهما ما تسمع.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾.
أي: قصماً من نحاص ونار.
وقال ابن جبير: ليس في الآنية أشد حراً من النحاس.
ثم قال: ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم﴾ أي: ماء يغلي.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه. وهو قوله: " يصهر به ما في بطونهم ". ثم يعاد كما كان. ومعنى يصهر: يذاب ما في بطونهم من الشحوم، وتشوى جلودهم فتتساقط.
قال مجاهد وقتادة: يصهر: يذاب.
قال ابن عباس: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون.
وقال ابن جبير: إذا جاع أهل النار، يعني إذا جاعوا واستغاثوا بشجر الزقوم، فيأكلون منها، فاختلعت جلود وجوههم. فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها. ثم يصب عليها العطش، فيستغيثون فيغاثون بما كالمهل، وهو الذي انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطع عنها الجلود، " ويصره به ما في بطونهم "، أي: يذاب. يمشون في أمعائهم، وتسقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد، يسقط كل عضو على حياله،
وقال عبد الله بن السري: يأيته الملك بالإناء يحمله بكلبتين، فإذا أدناه إليه يكرهه، فيرفع الملك بقمعه، فيضرب بها رأسه، فيفلق بها دماغه، فيكفي الإناء في دماغه، فيصير إلى جوفه. فذلك قوله: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾.
وقوله: ﴿وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾.
أي: عذاب مقامع أو ضرب مقامع تضربهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار، حتى يرجعوا إليها.
وقوله: ﴿كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ أي: من العذاب، وغم الظلمة.
قال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج. إن الأيدي والأرجل لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها.
قال سلمن الفارسي: النار سواد مظلمة، لا يضيء لهبها ولا جمرها.
قال مالك بن دينار: بلغني أنه إذا أحس أهل النار في النار، بضرب مقامع
وروي أن جهنم تجيش فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فيريدون الخروج، فتعيدهم الخزان بالمقامع، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق، بمعنى المحروق، كالأليم بمعنى المؤلم. فهو فعيل بمعنى مفعول.
قوله: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
أي: يدخلهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار ".
﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾.
ومن قرأ بالنصب، فمعناه: ويحلون لؤلؤاً. ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ أي: ثياب من حرير.
ثم قال: ﴿وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ﴾.
أي: هداهم ربهم في الدنيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال ابن زيد: هدوا إلى الكلام الطيب: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله. وهو الذي قال جل ذكره: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠].
وقال ابن عباس: هدوا: ألهموا.
وقيل: هدوا إلى قوله: الحمد لله الذي صدقنا وعده.
وقيل: معناه: هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من عند الله، بما لهم من دوام النعم
ومعنى: ﴿وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد﴾. أي: إذا صاروا إلى الآخرة، وهدروا إلى صراط الجنة، وطريقها، فهو صراط الله تعالى، يسلكه المؤمنون إلى الجنة ويعدل عنه الكافرون والمنافقون إلى طريق النار.
والحميد هو الله. بمعنى المحمود. أي: أن يحمد على نعمه، على عباده.
وقيل: معناه: وهدوا إلى صراط الحميد، أي: وهداهم ربهم في الدنيا إلى طريق الرب الحميد، وهو دين الإسلام. والحميد بمعنى المحمود عند أوليائه وخلقه. فحميد: فعيل بمعنى: مفعول. وصراط العزيز الحميد: الإسلام.
وقيل: " إن قوله: لا إله إلا هو " هدوا إلى ذلك في الدنيا.
ثم قال: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾.
أي: إن الذين جحدوا توحيد الله، وكذبوا رسله ومنعوا الناس الدخول في دين الله وصدوهم عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس المؤمنين كافة لم يخصص به بعض دون بعض، هلكوا. وهذا خبر أن، محذوف من الكلام.
وقيل: الخبر: يصدون. فالواو زائدة.
قال أبو إسحاق: الخبر: نذقه من عذاب أليم. وهذا غلط، لأنه جواب الشرط.
ثم قال: ﴿سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد﴾.
أي: معتدل في النزول فيه، المقيم والبادي. فالبادي [المنتاب إليه من غيره].
قال ابن زيد ومجاهد: ذلك مباح في بيوت مكة.
وروي أن الأبواب إنما عملت على بيوت مكة من السِّرَق، لأن الناس كانوا ينزلون أينما وجدوا. فعمل رجل باباً، فأرسل إليه عمر: اتخذت باباً من حجاج بيت الله؟ فقال: لا، إنما جعلته متحرز متاعهم. واختلف في الآية. فقيل: عُني بها المسجد الحرام خاصة.
ليس أحد أولى به من غيره.
وقيل: عني بها مكة، ليس أحد أولى بمسكن فيها من غيره.
والمعنى: والمسجد الحرام. أي: ويصدون الناس عن دخول المسجد الحرام والصلاة فيه، والطواف بالبيت، وهو موضع يستوي فيه المقيم والطارئ، حقهم فيه واحد. وهذا يدل على أن المراد المسجد الحرام، دون بيت مكة، وهو ظاهر اللفظ. وقد ملك الناس دور مكة وتبايعوا من أول الإسلام إلى الآن وهم يتوارثونها من أول الإسلام. فظاهر لفظ الآية إنما يدل على أن العاكف والطارئ حقهما في المسجد سواء، لا فضل لأحدهما على الآخر.
وقد قال ابن عباس: ذلك في المسجد الحرام خاصة.
ومن قرأ " سواءُ " بالرفع، جعله مبتدأ. والعاطف فيه خبره. وإن شئت جعلت العطاف مبتدأ وسواء خبر مقدم. فتقف على " الناس "، على تقدير الوجهين. ويكون: " للناس "، في موضع المفعول الثاني، تقف على " الناس ". من قرأ بالنصب، جعله مفعولاً ثانياً بـ " جعلنا " ويرتفع العاكف. والأحسن عند سيبويه في مثل هذا: الرفع، لأنه غير جار على الفعل. وقد قرئ " سواءً " بالنصب " العاكف " بالخفض، على أن يكون " سواء " مفعولاً ثانياً ل " جعلناه " والعاكف والبادي بدلاً من الناس، أو نعتاً لهم.
ثم قال: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ﴾ فالباء في " بإلحاد " زائدة. قاله: الأخفش وأبو عبيدة. وقال الكوفيون: إنما دخلت الباء هنا، لأن معناه: ومن يرد فيه بأن يلحد. والباء تدخل وتحذف مع " أن " كثيراً ومنع المبرد، الزيادة في كتاب الله، والقول عنده: إن يرد. يدل على الإرادة. فيدخل الباء مع الفعل. على تقدير دخلوها مع المصدر. فالتقدير عنده. ومن أراد به بأن يلحد، وهو ظالم. كما قال: أريد لأنْسَى ذِكْرَه. فأكنما تخيل لي ليلاً بكل سبيل. فأدخل اللام، على تقدير دخولها مع المصدر. أي: إرادتي لكذا.
قال ابن عباس: ﴿بِظُلْمٍ﴾ بشرك.
وقال قتادة: من أشرك في بيت الله، عذبه الله.
وعن ابن عباس: أن المعنى من استحل من الحرام ما حرم الله، أذاقه الله العذاب المؤلم، ثمل القتل ونحوه.
وقال مجاهد: معناه: من يعمل فيه عملاً [سيئاً].
وهذه الآية تدل على أن الإنسان/ يجب عليه العقاب بنيته لفعل الشر في الحرم.
ألا ترى إلى قوله: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ولم يقل: من يفعل ذلك. وإنما ذكر العقوبة على الإرادة فقط، فهو ظاهر الآية، وذلك لعظيم حرمة الحرم وجلالة قدره، وكذلك يضاعف فيه الحسنات أكثر مما يضاعف في غيره.
وقال ابن عمر: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، يعني: في غير الحرم وفي غير أهل الحرم، قال: ولو أن رجلاً بِعَدَن أبينَ همَّ بقتل رجل بهذا البيت إلا أذاقه الله من العذاب الأليم.
وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها
وعن ابن عباس أيضاً أن المعنى: من يرد إستحلاله متعمداً.
وقال حبيب بن أبي ثابت: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم "، هم: المحتكرون الطعام بمكة.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ أنه قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد.
وقال مجاهد: بيع الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم.
وقال الضحاك: الإلحاد في هذا الموضع: الشرك.
وقال عطاء: هو عبدة غير الله.
وقيل: إنه كل ما كان منهياً عنه حتى قول الرجل: " لا والله وبلى والله ".
وروى مجاهد أن ابن عمر كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله، عاتبهم في الحل. فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث
ومنه قوله: ﴿وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ﴾ [الأعراف: ١٨٠].
يقال: لحد وألحد بمعنى واحد.
وحكى الأحمر: ألحد إذا جادل ولحد إذا عجل ومال.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾. إلى قوله: ﴿مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ﴾.
أي: واذكر يا محمد إذ وطأنا لإبراهيم، ومكنا له مكان البيت. وبوأ تتعدى إلى مفعولين، ولكن دخلت اللام في إبراهيم حملاً على معنى: جعلنا لإبراهيم.
وقيل: اللام متعلقة بالمصدر، أي: واذكر تبويئنا لإبراهيم.
وقال الفراء: اللام زائدة مثل ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢].
وقوله: ﴿أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي﴾ " أن " بمعنى: أي.
وقيل: أن زائدة. مثل ﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير﴾ [يوسف: ٩٦].
قالتقدير: واذكر يا محمد نعم الله على قومك وحسن بلائه وعندهم، وهم يعبدون غيره، فمما يجب أن يذكر إذ مكنا لأبيك إبراهيم مكان البيت.
قال قتادة: وضع الله البيت مع آدم حين اهبط إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه فنقض إلى ستين ذراعاً. وإن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، شكا ذلك إلى الله فقال الله تعالى: يا آدم، إني قد أهبطت لك بيتاً يطاف به كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى عند ال العرش فانطلق إليه. فخرج آدم ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز على ذلك، فأتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
وقال السدي: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل " أن طهرا بيتي للطائفين " انطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل، فأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحاً يقال لها الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أقبل إبراهيم من أرمينية ومعه السكينة تدله على البيت حتى يتبوأ البيت كما تبوأ العنكبوت بيتاً وكان يحمل الحجر من الحجارة يطيقه ولا يطيقه ثلاثون رجلاً.
وقال كعب الأحبار: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة. ومنه دحيت الأرض.
وقوله تعالى: ﴿أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي﴾ أي: عهدنا إليه ألا يشرك في عبادة الله/.
﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ﴾ أي: ظهره من عبادة الأوثان.
قال مجاهد: طهره من الشرك.
وقال عبيد بن عيمر: من الآفات والريب.
وقال قتادة: من الشرك وعبادة الأوثان.
وقيل: طهراه من ذبائح المشركين، وما كانوا يطرحون حوله من الدماء والفرث والأقذار، وكانوا يطرحون ذلك حول البيت.
وقيل: معناه: طهراه من دخول المشركين إياه، ومن إظهار شركهم فيه.
" والركع السجود "، يعني في صلاتهم حول البيت.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾.
أي: وناد إبراهيم في الناس بالحج يأتوك رجالاً وركباناً. ورجال: جمع راجل، كقائم وقيام.
وقوله: ﴿وعلى كُلِّ ضَامِرٍ﴾.
أي: ويأتوك على كل بعير ضامر قد أضمره بعد المسافة من كل فج عميق. والضامر: المهزول.
وقال: " يأتين " يريد به النوق. ولو قلت في الكلام: مررت بكل رجل قائمين، حسن. فكان " ضامراً " في موضع ضوامر ولكن وحد، لأن " كل " تدل على العموم. والعموم والجمع متقاربان.
وروي أن إبراهيم ﷺ لما أمره الله تعالى بالتأذين بالحج، قام على مقامه، فنادى: يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا بيته العتيق.
وقال ابن عباس: لما فرق إبراهيم من بناء البيت، قيل له: أذن في الناس بالحج. قال: يا رب، وما.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه قال: إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج، خفضت له الجبال رؤوسها ورفعت القرى فأذن في الناس. قال ابن عباس عنى بالناس هنا أهل القبلة ألم تسمعه قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى﴾ [آل عمران: ٩٦].
ثم قال: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: ٩٧] يقول: ومن دخله من الناس الذين أمر إبراهيم أن يؤذن فيهم فكتب عليهم الحج.
قال ابن عباس: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾ أي: مشاة. قال: وما آسى على شيء، فإني آسى ألا أكون حججت ماشياً، سمعت الله تعالى يقول: يأتوك رجالاً.
وقال مجاهد: حج إبراهيم وإسماعيل ما شيين.
وقال ابن عباس: ﴿وعلى كُلِّ ضَامِرٍ﴾: الإبل.
وقوله: ﴿مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ﴾.
قال ابن عباس وقتادة: من كل مكان بعيد.
والظاهر في هذه الآية والخطاب - عليه أكثر المفسرين - أن هذ كله خطاب لإبراهيم، كان ومضى، أخبرنا الله به.
وقيل: إن قوله تعالى: ﴿أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً﴾... - إلى - ﴿والركع السجود﴾ مخاطبة لإبراهيم، وقوله: " وأذن في الناس وما بعده، خطاب للنبي ﷺ أي أعلمهم أن الحج فرض عليه، فيقف القاري على/ هذا القول، على " السجود " ويبتدئ " وأذن ".
وقيل: إن قوله: ﴿أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً﴾ وما بعده، خطاب للنبي عليه السلام كله، لأن القرآن عليه نزل، وهو مخاطب به، ولا يخرج عن مخاطبته إلى مخاطبة غيره إلا بتوقيف أو دليل قاطع. وأيضاً فِإن " أن لا تشرك بي " خطاب لشاهد، وإبراهيم غائب، ومحمد ﷺ هو الشاهد الحاضر في وقت نزول القرآن، فيكون المعنى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، فجعلنا ذلك من الدلائل على توحيد الله، وعلى أن إبراهميم كان يعبد الله وحده، فلا تشرك بي شيئاً، وظهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج: أي: أعلمهم أنه فرض عليهم.
ومن جعله كله خطاباً لإبراهيم، وقف على ﴿كُلِّ ضَامِرٍ﴾ على أن يقطع " يأتين " مما قبله. قاله: نافع والأخفش ويعقوب، وغيرهم.
والعمق: " في اللغة: البعد. ومنه بنو عميقة أي: بعيدة.
وقرأ عكرمة: يأتوك رجالاً، جعله راجل، أيضاً مثل ركب وركاب. ويقال أيضاً: راجل، ورجله، وراجل، ورجاله.
قوله تعالى: ﴿لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿البآئس الفقير﴾.
أي: يأتون ليشهدوا منافع لهم: وهي التجارات في الأسواق والمواسم، قاله: ابن عباس وابن جبير.
وقال مجاهد: هي منافع في الآخرة، ومنافع في الدنيا، الأجر والربح.
ثم قال: ﴿وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ يعني: الهدايا التي أهدوا من الإبل والبقر والغنم.
قال علي بن أبي طالب: الأيام المعلومات: يوم النحر، ويومان بعده، إذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها، وهو قول: ابن عمر، وأهل المدينة.
وقال ابن عباس: المعلومات: العشر، يوم النحر، منها والأيما المعدودات: أيام التشريق إلى آخر النفر. وهو قول: عطاء ومجاهد والنجعي والضحاك، وهو قول: الكوفيين. ط
وقال القتبي: المعلومات: عشر ذي الحجة. والمعدودات يوم التروية ويوم عرفة ويوم الزنية.
ثم قال تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ أي: فكلوا من بهائم الأنعام التي ذكر اسم الله عليها هنالك. وهذه إباحة لا إيجاب. واستحب مالك والليث أن يأكل الرجل من أضحيته لقوله: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾.
قال بعض العلماء: ذبح الضحايا ناسخ لكل ذبح كان قبله.
وقيل: قوله: " فكلوا منه " ناسخ لفعل المشركين، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم.
واختار جماعة من الصحابة، وغيرهم من التابعين أن يتصدق الرجل بالثلث ويطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث.
ومذهب علي بن أبي طالب وابن عمر أن لا يذخر من الضحايا شيئاً من بعد ثلاث، وروي ذلك عن النبي ﷺ.
وقال جماعة من العلماء والصحابة: يذخر منها بعد ثلاث، ورووا: أن الحديث منسوخ بالإذخار، وأن النبي عليه السلام قال: إنما أمرتكم ألا تذخروا من أجل الدافة التي دفت عليكم روته عائشة رضي الله عنها. والدفة: الجماعة.
وقال الحسن البصري: العقيقة واجبة، وهي عند مالك وأكثر العلماء مثل الضحية، منذوب إليها.
وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على كل من وجد إليها سبيلاً، وعلى الرجل أن يضحي عن ولده، والجماعة على خلافه لأن الله تعالى لم يوجبها في كتابه، ولا أوجبها
وقوله: ﴿وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير﴾ يعني: الزمن المقتر.
وقال مجاهد: هو الذي يمد إليك يده.
وقال عكرمة: البائس: المضطر الذي عليه البؤس، والفقير: المتعفف.
والبائس عند أهل اللغة: الذي عليه البؤس من شدة الفقر.
وقيل: البائس الذي يتبين عليه اثر البؤس والضر.
قوله تعالى ذكره: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾. إلى قوله: ﴿مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ /.
قال ابن عباس: النفث: الحلق والتقصير والرمي والذبح والأخذ من الشارب واللحية ونتف الإبط وقص الأظفار. وهو الخروج من الإحرام إلى الحل.
وقال ابن عمر: التفث: ما عليهم من الحج.
وعنه أيضاً: التفث: المناسك كلها.
وعن ابن عباس: التفث: حلق الرأس والأخذ من الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة وقص الأضفار والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة
وقوله: ﴿وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ يعني: ما نذروا من البدن.
وقال مجاهد: هو نذر الحج والهدي وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق﴾.
يعني: بيت الله الذي هو مكة، سمي عتيقاً لأن الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه، قال: قتادة ومجاهد وابن نجيح وهو مروي عن النبي عليه السلام.
وقال ابن جبير: إنه إنما سمي بالعتيق لأنه أعتق من الغرف [في] زمان الطوفان.
وعن مجاهد: أنه إنما سمي عتيقاً لأنه لم يملكه أحد من الناس.
وقال ابن زيد: " سمي بذلك لقدمه، لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم، وهو أول من بناه، ثم برأ لله موضعه إبراهيم بعد الغرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل. ومنه قيل: للسيف القديم سيف عتيق.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله﴾.
أي: الأمر، ذلك من الفروض.
وقيل: معناه: ذلك الذي أمرتم به من الوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق هو الفرض الواجب عليكم في حجكم.
﴿وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله﴾ أي: ومن يجتنب مع ذلك ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيماً منه لحدود الله أن يواقعها، فهو خير له عند ربه في الآخرة.
قال مجاهد: ﴿حُرُمَاتِ الله﴾ هوي مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من المعاصي كلها.
وقال ابن زيد: ﴿حُرُمَاتِ الله﴾: المسجد الحرام والبيت الحرام والبلد الحرام.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام﴾ أي: أحلها الله لكم أن تأكلوها إذا ذكيتموها، لم يحرم عليكم بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
ثم قال: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي: في كتاب الله، وذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخقة والموقدة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، فذلك رجس كله.
وقيل: هو الصيد المحرم على المحرمين.
فالمعنى: أحل لكم في حال إحرامكم أكل لحم الإبل والبقر والغنم، إلا ما يتلى عليكم من تحريم الصيد عليكم وأنتم محرمون.
ثم قال تعالى: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ أي: النتن، و " من " لبيان الجنس.
وقال الأخفش: هي للتبعيض. أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو من الأوثان، أي عبادتها.
وقال ابن عباس: معناه: اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور﴾ ".
وقال ابن جريج: ﴿قَوْلَ الزور﴾ الكذب، والفرية على الله جلّ ثناؤه. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهم.
وقيل: معناه: اجتبنوا تعظيم الأوثان والذبح لها.
وسماها رجساً، استقذاراً لها. وكانوا ينحرون عندها، ويصبون عليها الدماء. فيقذرونها، وهم مع ذلك يعظمونها، فنهى الله المسلمين عن ذلك كله.
ثم قال تعالى: ﴿حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾.
أي: اجتنبوا ذلك، ما يليق إلى الحق والتوحيد والإخلاص والإيمان بالله.
ثم قال تعالى ذكر: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء﴾.
أي: مثل من يشرك بالله في بعده من الهدى وإصابة الحق وهلاكه، ثمل من خرّ من السماء ﴿فَتَخْطَفُهُ الطير﴾ أي: فهلك، أو مثل من ﴿تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾، أي: بعيد.
وقيل: المعنى: من يشرك بالله يكون يوم القيامة بهذه الصفة، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يملك له أحد من الخلق نفعاً، ولا يمكنه امتناع مما يناله من عذاب الله، فكأنه في ذلك بمنزلة من خرّ من السماء، ومن هوى لا يقدر لنفسه على دفع ما هو فيه، فتخطفه الطير وتقطع جسمه بمخالبها ومناقرها، فهلاو لا يجد سبيلاً إلى دفع ذلك عن نفسه، وهو بمنزلة من تحمله الريح من موضع مرتفع، فترمي به في منحدر بعيد/
ثم قال تعالى: ﴿ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾.
أي: ذلك أمر الله، ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله﴾، يعني: الوقوف بعرفة وتجميع ورمي لاجمال والصفا والمروة، فهذه كلها شعائر، وتعظيمها: الوقوف والعمل بها في الأوقات المفروضة والمسنونة.
" والشعائر " جمع شعيرة، وهي ما جعله الله علماً لخلقه. وكذلك الشعائر لابدن واحدها شعيرة أيضاً، لأنها قد أشعرت، أي: جعلت فيها علامة تدل على أنها هدي، ولذلك قال بعض العلماء: إن الشعائر هنا البدن.
وقوله: ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ أي: فإن الفعلة من تقوى القلوب. أي: فإن التعظيم واجتناب الرجس من وجل القلوب من خشية الله.
ثم قال تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
أي: لكم في البدن منافع قبل تسميتها بدنة وإشعارها. وذلك لبنها وركوب ظهورها، وما يرزقون من نتاجها وشعرها ووبرها، وقوله: ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي: إلى وقت يوجبها صاحبها فيسميها " بدنة " ويقلدها ويشعرها، فإذا فعل ذلك، بطل ما كان له من النفع منها. هذا معنى قول ابن عباس وعطاء. وهو قول قتادة، قال: " إلى
وعن عطاء أن المعنى: لكم في البدن التي أوجبتم هديها منافع، وذلك ركوب ظهروها إذا احتجتم إلى ذلك، وتشربون ألبانها إذا اضطررتم إلى ذلك، ويحمل عليها المضطر غير منتهك لها.
وقوله: ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ يعني إلى أن تنحر.
ويروى أن النبي ﷺ كان يأمر بالبدن إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب غير منهوكة وإن نتجت أن يحمل عليها ولدها، ولا يشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها. فإن كان في لبنها فضل فيشرب من أهداها ومن لم يهدها.
ومن جعل الشعائر: الأماكن المذكورة، فالمعنى عنده: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى، أي: لكم في حضور هذه الأماكن منافع، وذلك تجارتهم وبيعهم " إلى أجل مسمى " أي: إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها. هذا معنى قول ابن عباس.
وقال ابن زيد: معناه: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ هو الأجر الذي ربحوا في تلك الأماكن.
ثم قال: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾.
أي: ثم محل البدن أن يبلغ الحرم، فتنحر بها.
وقيل: المعنى: ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق إذا طفتم طواف الإفاضة.
وقال ابن زيد: معنا: ثم محل الحج إلى البيت العتيق. أي: إذا طافوا بالبيت طواف الإفاضة انقضت أيام الحج.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾. إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
أي: ولكل جماعة سلفت قبلكم من أهل الإيمان جعلنا ذبحاً يهرقون دمه ليذكروا اسم الله [على ما رزقهم] عند ذبحهم إياه.
وقوله: ﴿مِّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾.
فخص لأن من البهائم ما ليس من الأنعام، كالخيل والبغال والحمير. وسميت بهائم لأنها لا تتكلم.
وقال مجاهد: منسكاً: هو هراقة الدماء.
وقال عكرمة: مذبحاً.
والمَنْسِك بالكسر موضع الذبح، كالمجلس موضع الجلوس لأن اسم المكان من فعل يفعل المفعل.
والمَنْسَك بالفتح: المصدر فيكون معنى قراءة من كسر، ولكل أمة جعلنا موضع ذبح.
ومن قرأ بالفتح، فتقديره: ولكل أمة جعلنا أن يتقربوا بذبح الذبائح.
وقيل: ﴿مَنسَكاً﴾ متعبداً، وهو ما يعبد الله به.
" والمنسك ": العبادة والناسك: العابد.
وأصل المنسك أن يكون اسم المكان الذي يعبد الله فيه.
ثم قال تعالى: ﴿فإلهكم إله وَاحِدٌ﴾.
أي: فإلهكم إله واحد فلا تذكروا معبوداً غيره على ذبائحكم.
وقيل: المعنى: فاجتبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. /
﴿وَبَشِّرِ المخبتين﴾.
أي: الخاشعين المطمئنين إلى الله، قاله مجاهد.
قال ابن عيينة: " المخبتين ": المطئنين.
وقال قتادة: المتواضعين.
وقيل: المخبتون: الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
والخبت في اللغة: المكان المطمئن المنخفض، والزور: الباطل.
وقيل: إنه أريد به في هذا الموضع الكذب.
وقيل: المخبتين: المخلصين.
ثم قال تعالى: ﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
أي: خشعت قلوبهم وجلاً من عقابه.
قال ابن زيد: وجلت قلوبهم: لا تقسوا ﴿والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ﴾ أي: من
ثم قال ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾.
أي: هي ما أشعرهم الله به، وأعلمهم إياه من أمر دينه. فبين أن ذبح البدن هو مما أعملهم الله به من أمور دينه والتقرب إليه به. أي: من إعلام الله، أمركم بنحرها في مناسك حجكم إذا قلدتموها وأشعرتموها.
" والبدن " جمع بدنة، كخشبة وخشب، إلا أن الإسكان في " بدن " أحسن، والضم في " خشب " أحسن، لأن بدناً أصله النعت، لأنه من البدانية وهو السمن وخشبة اسم غير نعت. والنعت أثقل من الاسم، فكان إسكانه وتخفيفه أولى من الاسم.
" والبدن ": الإبل. وإنما سميت بدناً لأجل السمانة والعظم. وقوله:
﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾.
أي: أجر من الآخرة بنحرها والصدقة منها وفي الدنيا: الركوب إذا احتيج إلى ركوبها.
ثم قال تعالى: ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ﴾ أي: انحروها واذكروا اسم الله عليها قائمة على ثلاثة تعقل اليد اليسرى.
وقال ابن عباس: ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا﴾ قال: الله أكبر، الله أكبر، اللهم منك
وقرأ الحسن والأعرج: صَوَافِي، جمع صافية، ومعناها مخلصين في نحرها لله لا شرك فيها لأحد.
وقرأ ابن مسعود: صَوَافِنَ. جمع صافنة، وهي القائمة على ثلاث.
وروي عن مجاهد أنه قال: " صواف "، قائمة على أربع مصفوفة. و " صوافن ": قائمة على ثلاث.
قال قتادة: معقولة اليد اليمنى.
وقال مجاهد: " اليسرى ".
ونحر النبي ﷺ بدنة قياماً. ودل على ذلك قوله: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾.
أي: إذا اسقطت على جنوبها. وهو قول: مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. واستحب عطاء أن تنحر باركة معقولة لئلا تؤذي بدمها أحداً. وقد روى جابر أن رسول الله ﷺ وأصحابه، كانوا ينحرون البدنة معقولة اليد اليسرى قائمة
وكان النبي ﷺ يقول إذا ذبح: " بسم الله والله أكبر ".
وقوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾. إباحة، لأن المشركين كانوا لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص الله للمسلمين في ذلك. ثم قال: ﴿وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر﴾.
قال ابن عباس: القانع: المستغنى بهما أعطيته وهو في بيته، والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم [رجاء] أن تعطيه، ولا يسأل.
وقال مجاهد: " القانع " جارك، يقنع بما أعطيته. " والمعتر ": الذي يتعرض لك، ولا يسألك.
وعن ابن عباس: " القانع " الذي يقنع بما عنده ولا يسأل، " والمعتر " الذي يعترك فيسألك.
وقال قتادة: " القانع ": المتعفف الجالس في بيته، " والمعتر " الذي يعتريك
وقال الحسن: " القانع السائل "، " والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل.
وكذلك قال زيد بن أسلم وابن جبير أن القانع: السائل.
وعن مجاهد: " القانع " جارك وإن كان غنياً. " والمعتر ": الذي يعتريك.
وعن زيد بن أسلم أيضاً: القانع ": المسكين الطواف. " والمعتر ": الصديق الضعيف الذي يزور.
وقال محمد بن كعب القرظي: " القانع ": الذي يقنع بالشيء اليسير يرضى به، و " المعتر " الذي يمر بجانبك ولا يسأل شيئاً.
وقيل: " القانع " الذي هو فقير لا يسأل. " والمعتر " الفقير الذي يسأل.
وعن مجاهد: " القانع ": الطامع. " والمعتر " الذي يعتر من غني أو فقير.
وقال عكرمة: " القانع ": الطامع.
وقال ابن زيد: " القانع ": المسكين. " والمعتر ": الذي يتعرض للحم وليس
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع هو الفقير، وأن " المعتر " هو الزائر.
يقال: قنع الرجل يقنع قنوعاً، إذا سأل، وقنع يقنع قناعة، إذا رضي/ " فهو قنع ".
وقرأ أبورجاء: ﴿وَأَطْعِمُواْ القانع﴾ على معنى الذي يرضى بما عنده.
وقرأ الحسن: ﴿والمعتر﴾ وهي لغة فيه، يقال: اعتراه إذا تعرض لما عنده وإن طلبه.
ثم قال: ﴿كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
أي: هكذا سخرنا لكم البدن لعلكم تشكرون على تسخيرها أيها الناس.
قوله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
أي: لن يصل إلى الله لحوم هديكم، ولا دماؤها ولكن يناله اتقاؤكم إياه وإرادتكم بها وجهه وتعظيمكم حرماته. وتقديره: لن يتقبل الله لحوم هديكم ولا دماؤها، وإنما يتقبل إخلاصكم الله وتعظيمكم لحرماته.
وقيل: المعنى: لن يبلغ رضى الله لحومها ولا دماؤها ولا يرضيه ذلك عنكم، ولكن يبلغ رضاه التقوى منكم، ويرضيه ذلك عنكم.
وفي الكلام مجاز وتوسع، إذا أتى " لن ينال الله " في موضع لن يبلغ رضا الله وحَسُنَ ذلك، لأن كل من نال شيئاً فقد بلغه.
ثم قال: ﴿كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾.
أي: هكذا سخر لكم البدن لكي تعظموا الله على توفيقه لكم لدينه والنسك في حجكم.
وقيل: معناه: لتكبروا الله على ذبحكم في الأيام المعلومات.
﴿وَبَشِّرِ المحسنين﴾ أي: وبشر يا محمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا بالجنة إلى الآخرة.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا﴾.
أي: يصرف عن المؤمنين مرة بعد مرة غائلة المشركين وما يريدون بالمؤمنين. فيكون " يدافع " على معنى: تكرير الفعل من الله، لا على معنى مدافعة اثنين. وهذا كقوله: فيضاعفه له: فيفاعل للتكرير. أي: يضعف له مرة بعد مرة، لا أن ثم فاعلين مثل: قاتل.
ومن قرأ. يَدْفَعُ: أراد مرة واحدة. وعدل من يفاعل، لأن أكثر باب المفاعلة أن يكون من اثنين، والله تعالى ذكره، لا يمانعه شيء.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾.
أي: كل من خان الله فخالف أمره ونهيه، وجحد كتبه ورسله.
ومعى لا يحب كل كفار أي: لا يحب إكرامه وإعزازه، بمعنى لا يريد ذلك كما يريده بالمؤمنين، فعنى الله بهذه الآية دفعه تعالى ذكره كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم.
و" خوان " فعال: من الخيانة وهو من أبنية المبالغة وكذلك كفور.
ثم قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾.
أي: أذن الله للذين يقاتلهم المشركون أن يقاتلوهم. ففي الكلام حذف على قرءاة من فتح التاء. ومن كسر التاء، فمعناه: أذن الله للذين يقاتلون المشركين في سبيله بالقتال لظلم المشركين لهم: فثم حذف أيضاً.
وقرأ ابن عباس: ﴿يُقَاتَلُونَ﴾ بكسر التاء. وقال: هي أول آية نزلت في القتال لما خرج رسول الله ﷺ من مكة.
وقال: عنى الله بها محمداً وأصحابه إذ أخرجوا من مكة إلى المدينة. يقول الله: ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾. قال ابن عباس: لما خرج النبي ﷺ من
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ: فعرفت أنه سيكون قتال، وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن زيد: أذن لهم في قتالهم بعدما عفا عنهم عشر سنين. وقرأ: ﴿الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ﴾. وقال: هؤلاء المؤمنين.
وقيل: إن هذه الآية إذن للنبي ﷺ بالخروج من مكة وقتال المشركين، لأن الآية نزلت بمكة، ويعقبها خرج النبي من مكة إلى المدينة، ثم بعقب ذلك كانت وقعة بدر، وهو النصر الذي وعدهم الله في قوله: ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.
ومعنى: بأنهم ظلموا " أي: لأنهم ظلموا. فمن أجل الظلم الذي لحقهم أذن لهم في قتال من ظلمهم، فأخرجهم من ديارهم ووعدهم بالنصر على من ظلمهم بقوله: ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.
وقال مجاهد: الآية مخصوصة، نزلت في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة/، فكانوا يمنعون، فأذن الله تعالى للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم حين أرادوا ردهم عن الهجرة.
قال مجاهد وقتادة: هي أول آية نزلت في القتال.
وقال ابن زيد: هذا ناسخ لقوله: ﴿وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ﴾ وخولف في ذلك، لأن هذا تهدد ووعيد، فلا ينسخ.
ومعنى: " بأنهم ظلموا " بسبب ظلمهم.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ هذا وعد من الله للمؤمنين بالنصر، فقد فعل تعالى ذلك بالمؤمنين، أعزهم ونصرهم، وأعلى كلمتهم. أهلك عدوهم.
ثم قال: ﴿الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ﴾.
تقديره: أذن للذين أخرجوا من ديارهم بغير حق.
فالذين: بدل من الذين الأولى ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ. أو في موضع نصب على إضمار أعني.
وقوله: إلا أن يقولوا. " إن ": في موضع خفض بدل من حق. هذا قول: الفراء وإبي إسحاق.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾.
قال ابن جريج: معناه: ولولا دفاع الله المشركين بالمؤمنين.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: إنما نزلت هذه الآية في أصحابِ رسول الله ﷺ لولا ما يدفع الله بأصحاب محمد ﷺ عن التابعين لهدمت صوامع وبيع.
وقال ابن زيد: المعنى: لولا الجهاد والقتال في سبيل الله.
وقال علي بن أبي طالب: نزلت الآية في أصحاب رسول الله ﷺ. فالمعنى: لولا دفاع الله المشركين بأصحاب رسول الله، لهدمت صوامع وبيع.
وقيل: معناه: لولا أن الله يدفع أي يأخذ الحقوق والشهادات لمن أوجب قبلو شهادته عمن لا يجوز قبول شهادته، فتركوا المظالم من أجل ذلك، لتظالم الناس، فهدمت صوامع، قاله: مجاهد.
قال مجاهد والضحاك: هي صوامع الرهبان بينونها على الطريق.
وقال قتادة: هي صوامع الصابئين. وقال البيع: بيع النصارى.
وقال مجاهد: البِيَع: كنائس اليهود.
وقال ابن زيد: البيع: الكنائس.
وقال ابن عباس: الصلوات: الكنائس، يعني: ومواضع صلوات.
وقال الضحاك: هي كنائس اليهود، يسمون الكنائس صلوات، وقاله: قتادة.
وقال أبو العالية: الصَّلَوَاتُ: مساجد الصابئين.
وقال مجاهد: هي مساجد لأهل الكتاب، ولأهل الإسلام على الطرق.
وقال ابن زيد: هي صلوات أهل الإسلام، تنقطع إذا دخل العدو عليهم.
وقوله: " وَمَسَاجِدُ " قال قتادة: هي مساجد المسلمين.
وقوله: ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله﴾.
يعني: في المساجد، لأنها أقرب إلى الضمير من غيرها. وقيل الضمير في " فيها " يعود على جميع ما ذكره ومعناه: يذكر فيها اسم الله في وقت شرائعهم وإقامتهم للحق.
قال خصيف: أما الصوامع، فصوامع الرهبن وأما " البيع "، فكنائس النصارى، وأما " الصلوات " فكنائس اليهود، وأما " المساجد " فمساجد المسلمين.
ومعنى: " وصلوات " أي: مواضع صلوات، قاله: أبو حاتم.
وقال الحسن: هدمها: تركها.
وقال الأخفش: التقدير: وتركت صلوات.
وقرأ عاصم الجحدري: " وصُلُوب " بالباء المعجمة، واحدة من أسفل من غير ألف بعد الواو، وضم اللام، يريد به الصلبان، كأنه اسم للجمع على فعول.
وقرأه جعفر بن محمد، بإسكان اللام، وبالتاء المعجمة، باثنتين من فوق.
وعن مجاهد أنه قرأ: وَصِلْوِيتاً، بالياء والتاء، وبكسر الصاد والواو وإسكان اللام، وقال: هي القباب على شاطئ الأنهار.
وقرأ الضحاك، بضم اللام من غير ألف بعد الواو على وزن فعول وبالثاء المعجمة، ثلاثة من فوق.
وروي: أن مساجد الصابئين تسمى صُلُوثاً، وبذلك قرأ الكبي أعني بالثاء المعجمة ثلاثاً من فوق.
ومعنى: " لهدمت " لضيعت وتركت.
ومن جعل الضمير في " يذكر فيها " يعود على المساجد خاصة، وقف على صلوات، وهو قول نافع.
ثم قال: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ﴾ أي: وليعينن الله من يقاتل في سبيله فيجعل كلمته العليا، كما أنه إنما يقاتل لتكون كلمة الله هيا العليا.
﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي: قوي على نصر من جاهد في سبيله، ونصر دنيه منيع لا يغلبه غالب.
المعنى: الذين إن وطأنا لهم في الأرض، فقهروا المشركين وقتلوهم، أقاموا الصلاة بحدودها، وآتوا الزكاة مما يجب عليهم فيه الزكاة من أموالهم، " وأمروا بالمعروف " اي: دعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته. " ونهوا عن المنكر " أي: عن الشرك والعمل بمعاصيه يعني بذلك: أصحاب النبي ﷺ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا بتوحيدهم لله وقد تقدم ذكرهم.
وقيل: إن هذه الآية مخصوصة في أربعة من أصحاب النبي ﷺ، وهم الذين أذن لهم بقتال المشركين في الآية الأولى، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
وقال الحسن: " هم أمة محمد ﷺ ".
قال ابن أبي نجيح: " هم الولاة ".
وروي: أن عثمان رضي الله عنهـ قال للذين أرادوا قتله: فينا نزلت هذه الآية.
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ...﴾ إلى ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور﴾. وقال: نحن الذي قوتلنا وظلمنا وأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله، فنصرنا الله تعالى، فمكننا في الأرض، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر فهذه لي ولأصحابي وليست لكم.
ثم قال: ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور﴾.
أي: له آخر أمور الخلق، يثيب على الحسنات مع الإيمان، ويعاقب على السيئات مع الكفر.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾.
هذه الآية تسلية لمحمد ﷺ وتعزية له، ليقوى عزمه على الصبر على ما يناله من المكذبين له، فالمعنى: أن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فيما جئتهم به من الحق، فالتكذيب سنة أوليائهم من الأومم الخالية، كذبت رسلها فأمهلتهم، ثم أحللت عليهم نقمتي، ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي: انظر يا محمد: كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة، فكذلك أفعل بقريش الذين كذبوك، وإن أمليت له إلى آجالهم، فإني منجزك وعيدي فيهم، كما أنجزت ذلك لغيرك من الرسل في الأمم المكذبة لهم.
وقوله: ﴿وَكُذِّبَ موسى﴾ ولم يقل: وقوم موسى، كما قال في نوح وعاد وثمود وإبراهيم، فإنما ذلك، لأن قوم موسى هم بنو إسرائيل وكانوا مؤمنين به وإنما كذبه فرعون وقومه، وهم من القبط ليسوا من قومه فلذلك قال: وكذ موسى ولم يقل وقوم موسى.
ثم قال تعالى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي: وكثير من القرى أهلكنا أهلها وهم ظالمون.
فعبر عن إهلاك القرية وهو يريد أهلها، مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
فالمعنى: فما أهلكنا كثيراً من أهل القرى بظلمهم، كذلك نهلك أهل قريتك يا محمد بظلمهم إذا جاء الأجل. كل هذا تخويف وزجر لقريش/ و " كأين " هي كاف التشبيه دخلت على " أي " فصارتا بمنزلة " كم " في الخبر، هذا مذهب الخليل وسيبويه، والوقف على قولهما على الياء، لأنه تنوين دخل على " أي " فأما قراءة ابن كثير وكَائِنْ " يروى عن الخليل أنه قال: من قال كإن فإنه قدم الياء الساكنة قبل الهمزة ثم خلفها بألف، كما قالوا: ، إن أصل آية: إيَّة، ثم أبدلوا من الياء الساكنة ألفاً، ثم اعتلت الياء الثانية، لأنها بعد متحرك وهو الهمز فصارت كياء قاض وارم.
وقال ابن كيسان: هي أي: دخلت عليها الكاف وكثر استعمالها في الكلام حتى صار التنوين فيه بمنزلة النون الأصلية، فقالوا: كأين بنون في الوقف.
ثم قال تعالى: ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾.
أي: فالقرية خالية من سكانها فخربت وتداعت، فتساقطت حيطانها على سقوفها فصارت القرية عاليه سافلها السقوف تحت الحيطان.
ثم قالت: ﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ﴾.
أي: تعطلت البير بهلاك أهلها ولا وارد ولا شارب منها، وخفض " البير " على العطف على العروش، وإن كان غير داخل في معنى العروش، ولكنه مثل: ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] بالخفض كأنه أراد وثم بير وقصر، فلما لم يكن في الكلام ما يرفعه،
وقال أبو إسحاق هو عطف على " قرية ". أي: وكم من قرية وكم من بير ومن قصر.
و" البير " مشتق من بأرت الأرض، إذا حفرتها، وابتأرتها، احتفرتها.
وقوله: ﴿وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾.
أي: مجصص، قاله عكرمة.
وقال الضحاك: " مشيد " طويل.
وقال أهل اللغة، شاد القصر يشيده، إذا بناه بالشيد وهو الجص. ومشيد: مفعل بمعنى مفعول، كمبيع بمعنى مبيوع. يقال قد شيد القصر: إذا طوله وأشاده أيضاً.
وقال قتادة: " مشيد ": رفيع طويل.
وعن ابن عباس: أن المشيد الحصين.
هذا تقرير وتوبيخ للكفار من قريش وغيرهم. ومعناه: أفلم يسر هؤلاء المكذبون بك يا محمد، فينظروا إلى مصارع أشباههم من الأمم المكذبة للرسل قبلهم، فيخافوا أن يحل عليهم مثل ذلك بتكذيبهم لك، فيرجعوا عن التكذيب إلى الإقرار والتصديق لك، ويفهموا ذلك بقلوبهم، ويسمعوه بآذانهم.
وقوله: " فَتَكُونَ " جواب النفي. وقيل: هو جواب الاستفهام والمعنى: قد ساروا في الأرض فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها مصارع من كان قبلهم من الأمم الماضية، يخاطب قريشاً، لأنهم كانوا يسافرون إلى الشام فيرون آثار الأمم الهالكة، فهو في المعنى: خبر فيه تنبيه وتقرير إخبار عن أمر قد كان. كما قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١]. أي: قد شرحنا لك صدرك.
ونصب " فَتَكُون " عند الكوفيين على الصرف، أذ معنى الكلام الخبر، فأكنهم صرفوه عن الجزم على العطف على يسيروا، فلما صرف عن الجزم، رد إلى آخر الجزم وهو النصب، فهذا معنى الصرف عندهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار﴾.
أي: فإن القصة لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص، ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن إبصار الحق ومعرفته.
وقال مجاهد: ليس من أحد إلا له عينان في رأسه وعينان في قلبه فأما اللتان في الرأس فظارهتان يبصر بهما الظاهر، وأما اللتان في القلب، فباطنتان يبصر بهما الغيب، وذلك قول الله تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور﴾.
وقال ابن جبير نزلت في أبن أم مكتوم وكان أعمى ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار﴾ الآية. فالمعنى: لا تعمى الأبصار السالمة عن رؤية ما تعبتر به، ولكن تعمى القلوب عن رؤية الدلالات على صحة ما تعاينه الأبصار.
وقوله: ﴿فِي الصدور﴾ توكيد، لأنه قد علم أن القلب لا يكون إلا في الصدور، ولكن/ أكده به كما قال: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: ١٦٧] وكما قال: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨].
ثم قال: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ﴾.
أي: ويستعجلك يا محمد مشركوا قومك بما تعدهم به، من عذاب الله على شركهم به، وليس يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم من إحلال عذابه عليهم.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.
يعني: أحد الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. قاله ابن عباس،
وعن ابن عباس أن ذلك هو اليوم من أيام الآخرة في مقدار الحساب.
وروى أبو هريرة أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، فقيل له: وما نصف يوم؟
فقال: أو ما تقرأ القرآن: ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ فهذا يدل على أن المراد بالآية أيام الآخرة، وهو قول عكرمة.
وروي أيضاً عن مجاهد وهو قول ابن يد.
ومعنى إضافة ذكر اليوم إلى الاستعجال بالعذاب، أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا التي أيامها قليلة قصيرة، فاعلموا أن العذاب يحل بهم في وقتٍ اليوم منه كألف سنة من سني الدنيا، فلذلك أبقى لعذابهم وأشد.
وقل: المعنى: أن الله جلّ ذكره أعلمهم أن الأيام التي بقيت لهم ويحل عليهم العذاب قليلة عنده، إذ اليوم عنده كألف سنة مما تعدون فوقت العذاب عندكم بطيء أيها المشركون، وهو قريب عند الله. وقيل معنى ذلك: وأن يوماً في الشدة والخوف
وقيل: المعنى، وإن مقدار يوم واحد من أيام الدنيا يعذب فيه الكافر في الآخرة كمقدار ألف سنة من الدنيا، يعذب فيها الكافر لو عذبه فيها ذلك المقدار. وذلك في كثرة الآلام والغموم، فالشدة على المعذبين، أجارنا الله من ذلك.
قال بعض المفسرين، وكذلك سبيل المنعم عليه في الجنة، ينال فيها من اللذة والنعيم في قدر يوم من أيام الدنيا مثل ما كان ينال في نعيم الدنيا ولذتها في ألف سنة لو نعم فيها منعماً مسروراً.
ثم قال: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾: أي: وكم من أهل قرية أمهلتهم وأخرت عذابهم " وهم ظالمون " أي: مشركون بالله، ثم أخذتهم بالعذاب. واستغنى عن ذكر العذاب لتقدم ذكره، فعذبتهم في الدنيا بعد الإمهال وإلى المصير في الآخرة، فليقون عذاباً لا انقطاع له. وفي الكلام حذف. والتقدير: فكذلك حال متسعجليك بالعذاب يا محمد، فإن أمليت لهم إلى آجالهم، فإني آخذهم بالعذاب في الدنيا بالسيف والمصائب ثم يصيرون إلي في الآخرة فيصل بهم العذاب المقيم. كل هذا تخويف ووعيد وزجر للكفار من قريش وغيرهم.
ثم قال: ﴿قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
أي: قل يا محمد لمشركي قومك إنما أنذركم عذاب الله أن يحل بكم في الدنيا والآخرة " مُبِينٌ " أي: أبين لكم إنذاري وأظهره لتحذروا وتزدجروا وتتوبوا من شرككم لم أملك لكم غير ذلك، فأما استعجالكم بالعذاب، فليس ذلك إلي، إنما هو
ثم وصف مَنْ قبل إنذاره وآمن به فقال: ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾: أي، منكم ومن غيركم ﴿لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ أي، ستر من الله على ذنوبهم التي سلفت، ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي: الجنة.
ثم وصف من لم يقبل إنذاره وتمادى على كفره فقال: ﴿والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي: عملوا في الصد في أتباع النبي عليه السلام، وترك الإقرار بما جاء به ورد آيات الله، والتكذيب بها.
ومعنى: ﴿مُعَاجِزِينَ﴾: معاندين، قاله: الفراء.
وقال ابن عباس: معاجزين: مشاقين.
وقال قتادة: سابقين، قال: ظنوا أنهم يعجزون الله ولن يعجزوه.
وقيل: معناه معاندين للنبي ﷺ مغالبين له، يفعلون من ذلكما يظنون أن النبي ﷺ يعجز عن رده وإنكاره.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾. قوله: " من رسول ولا نبي ": يدل على أن النبي هو المرسل، وأن المرسل نبي، لأنه أوجب في الآية للنبي الرسالة، لأن معنى نبي: أنبأ عن الله، ومعنى أنبأ عن الله: هو أخبر عن الله بما أرسله به، فالنبي رسول والرسول نبي.
وقد قال قوم: / كل رسول نبي وليس كل نبي رسول، وهذه الآية تدل على
ومعنى الآية عند أهل القول الثاني: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى أمة ولا نبي محدث ليس بمرسل.
وكان نزول هذه الآية، أن الشيطان ألقى لفظاً من عنده على لسان النبي ﷺ فيما كان يتلوه من القرآن، فاشتد ذلك على رسول الله فسلّى الله بهذه الآية.
قال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس: جلس رسول الله في نادٍ من أندية قريش، كثير أهله، يتمنى ألا يأتيه من الله شيء، فينفروا عنه، فأنزل الله تعالى: ﴿والنجم إِذَا هوى﴾ [النجم: ١] فقرأها النبي ﷺ حتى إذا بلغ. " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى "، ألقى الشيطان في تلاوته كلمتني " تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترجى ". فتكلم بها ثم مضى فقرأ إلى آخر السورة كلها فسجد وسجد القوم معه جميعاً ورضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك. فلما أمسى النبي أتاه جبريل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال جبريل ﷺ: ما جئتك بهاتين. فقال رسول الله ﷺ: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله تعالى إليه ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾ إلى
وقال ابن عباس: في الآية أن النبي ﷺ بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا سمعناه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه فينما هو يتلوها وهو يقول: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألقى الشيطان أن تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فجعل يتلوها، فنزل جبريل عليه السلام فنسخها قال له: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ﴾ إلى ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وكذلك رواه ابن شهاب على هذا المعنى وان اختلفت الألفاظ.
وقيل: معنى الآية: هو ما يقع للنبي ﷺ من السهو والغلط إذ قرأ فينتبه إلى ذلك أو ينبهه الله عليه، فيرجع عنه كما يعرض له من السهو في الصلاة فنسخ الله لذلك هو تنبيه نبيه عليه.
وقوله: ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ﴾.
هو رجوع النبي ﷺ عن سهوه وغلطه إلى الصواب، كل بلطف الله وتيسيره له.
وقوله: ﴿وَأَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾ أي: وسوس إليه فغلطه في قراءته. وقوله: ﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾. هو أن المشركين والمنافقين كانوا يطلبون
وقد استدل بعض الناس على أن كل نبي رسول وكل رسول نبي بهذه الآية، لأنه قال في النبي والرسول: إذا تمنى، أي قرأ ما أرسل به إلى قومه، فكلاهما مرسل ونبي، وقال: إن الأنبياء إنما يصيرون أنبياء إذا أرسلهم الله إلى عباده، ومن لم يرسله الله إلى عبده فليس بنبي، كما لا يكون رسولاً. والذي عليه أكثر الناس، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. والرسل قليلون، والأنبياء كثيرون. وقد ذكرنا عدة هؤلاء وهؤلاء في غير هذ الموضع، وعلى هذا دلائل كثيرة تدل على صحته بطول ذكرها.
ومعنى: " إذا تمنى " إذا تحدث في نفسه.
وقال ابن عباس: " إذا تمنى " إذ حدث.
وقال الضحاك إذا قال.
وقيل: إن قوله: (والغرانيق العلى) عنى بها الملائكة، وكذلك الضمير في وأن شفاعتهم ترتجى، هو للملائكة/.
واختار الطبري أن يكون تمنى، بمعنى حدث، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
وقيل: معنى الآية، أن النبي ﷺ إذا حدث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة فيقول: لو سألت الله أن يغنمك كذا ليتسع المسلمون، ويعلم الله الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقى الشيطان.
وحكى الكسائي والفراء " تمنى " بمعنى حدّث نفسه.
وقوله: ﴿فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان﴾ أي: يبطله، من قولهم: نسخت الشمس الظل.
وقوله: ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ﴾ أي يخلصها من الباطل الذي ألقى الشيطان. والله عليهم بما يحدث في خلقه من حدث، حكيم في تدبيره إياهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً﴾. إلى قوله: ﴿يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾.
المعنى: فعل ذلك من نسخ ما ألقى الشيطان ليجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض، أي: اختباراً للذين في قلوبهم نفاق ﴿والقاسية قُلُوبُهُمْ﴾ هم المشركون الذين
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
أي: وإن مشركي قومك لفي خلاف لله، في أمر بعيد من الحق. والشقاق: أشد العداوة.
ثم قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾.
أي: نسخ ما ألقى الشيطان ليعلم الذين أتوا العلم بالله أنه الحق من ربك. أي: أن الذي أنزله إليه هو الحق، لا ما نسخ مما ألقى الشيطان ﴿فَيُؤْمِنُواْ بِهِ﴾ أي: فيصدقوا به. ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: تخضع للقرآن قلوبهم وتذعن بالتصديق به والإقرار بما فيه.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا﴾.
أي: المرشد المؤمنين إلى الطريق القاصد والحق الواضح، فينسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله ﷺ، فلا يضرهم كيد الشيطان شيئاً.
وقيل: المعنى: لهاديهم إلى طريق الجنة في الآخرة.
وقيل: المعنى: لهاديهم إلى الثبات على الإيمان في بقية أعمارهم.
وقال ابن جريج: ﴿أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ يعني: القرآن.
ويروى: أن قوماً من المهاجرين بأرض الحبشة بلغهم أن أهل مكة سلموا حين تقربوا من النبي عليه السلام لما سمعوا منه ما ألقى الشيطان في تلاوته، فرجعوا إلى
وقوله: " الهاد " حذفت الياء في الوصل لسكونها وسكون اللام بعدها وحذفت من الخط، لأن الكاتب كتبها على لفظ الوصل، ولو كتبها على الوقف لكتبها بالياء كما كتب ﴿بِهَادِي العمي﴾ [النمل: ٨١] في النمل بالياء على الوقف، وكتب " بهاد العمي " في الروم بغير ياء على الوصل، ولا يحسن الوقف عليه، لأنك إن وقفت بالياء خالفت الخط، وإن وقفت بغير ياء، حذفت لام الفعل لغير علة.
وقد قال يعقوب وسلام: الوقف " الهادي " بالياء على الأصل، والأحسن ألا تقف عليه لما ذكرت لك. ولأنه ليس بتمام ولا قطع، ولأنك تفرق بين المضاف والمضاف إليه، وكلاهما كالشيء الواحد.
وقد روى أبو محمد اليزيدي عن أبي عمرو في " لهاد الذين آمنوا " قال: الوصل بالياء، والوقف على الكتب. وروي ذلك عن اليزيدي أبو عبد الرحمان وأبو حمدون. ومعنى هذا أنه ينوي الياء في الوصل وإن كان لا يلفظ بها، فإذا وقف،
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾.
أي: لا يزال الكفار في شك من القرآن.
وقيل: من النبي.
وقيل: من سجوده معهم في آخر النجم.
وقيل: مما ألقى الشيطان في تلاوة النبي ﷺ من قوله: تلك الغرانيق العلى " قال هذا القول الأخير ابن جبير وابن زيد.
قال ابن زيد: لا يخرج ذلك من قلوبهم زادهم ضلالة. وكونها تعود على القرآن أبين، لقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ يعني: القرآن وهو أقرب إليه.
وقوله: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾.
أي: حتى تأتيهم ساعة حشر الناس لموقف الحساب " بغتة " أي: فجأة، وهو مصدر في موضع الحال.
أي: عذاب يوم القيامة، ومعنى عقيم لا ليلة له شبهت/ الليلة باليوم، بمنزلة الولد للوالدة، هذا قول الضحاك وعكرمة.
وقيل: عنى به يوم بدر. وسمي عقيماً لأنهم لم ينظروا إلى الليل، قال ذلك: مجاهد وابن جبير وقتادة وأبي بن كعب. وهذا القول: حسن لأنه قد تقدم ذكر يوم القيامة في قوله: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾ فلا يكون يوم القيامة مرة آخرى، وإنما المعنى: لا يزالون في شك من القرآن حتى تقوم الساعة أو يقتلوا يوم بدر.
قال أبي بن كعب: " عذاب يوم عقيم "، يوم بدر، والزام: القتال في يوم بدر، ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى﴾ [الدخان: ١٦] يوم بدر، ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى﴾ [السجدة: ٢١]، يوم بدر، فذلك أربع آيات نزلن في يوم بدر.
وقيل: إنما سمي يوم بدر عقيماً لأنه عقيم فيه الخير والفرج عن الكفار.
وقيل: هو يوم القيامة، عقم أن يكون بعده يوم مثله، أي: منع من ذلك.
أي: السلطان لله وحده يوم مجيء الساعة لا ينازعه فيه أحد إذ قد كان في الدنيا ملوك يدعون ذلك، قد ملكهم الله أمر عباده، فيوم القيامة لا يملك الله فيه أحداً شيئاً من الأمور، بل هو المتفرد بذلك، والحاكم فيه كله، وقد كان الملك كله لله في الدنيا، إلا أنه تعالى ملك قوماً أمور عباده، وليس يكون ذلك في الآخرة، لا يملك أحد أمر أحد.
﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين خلقه، المؤمن والكافر، ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ يومئذ ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، أي: مذل لهم في جهنم.
ثم قال تعالى: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ﴾.
أي: والذين فارقوا أوطانهم وهجروا بلدهم في رضى الله ثم قتلوا في ذلك أو ماتوا ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً﴾ وهو الثواب الجزيل، ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي: خير من بسط رزقه على أهل طاعته.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب النبي ﷺ اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله، فقال بعضهم: الميت والمقتول منهم سواء، وقال آخرون: بل
ثم قال: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾.
يعني: الجنة. وقال: ﴿وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي: " لعليم بمن هاجر في سبيله ممن خرج لغنمية أو عرض من أعراض الدنيا ". " حليم " عمن عصاه من خلقه لا يعاجله بالعقوبة ثم قال: ﴿ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾.
أي: الأمر ذلك وعن عاقب.
وقيل: معناه: هذا لهؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ولهم مع ذلك القضاء على المشركين الذين بغوا عليهم، وآخرجوهم من ديارهم.
قال ابن جريج في الآية: هم المشركون، بغوا على النبي ﷺ وأخرجوه، فوعده الله أن ينصره وقال: إن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين، لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فكره المسلمون القتال في الشهر الحرام، وسألوا المشركين أن يكفروا عن القتال، فأبى المشركون ذلك فقاتلوهم وبغوا عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فأنزل الله الآية فيكون معنى ﴿ثُمَّ بُغِيَ﴾: بدئ بالقتال وهو له كاره لينصرنه الله على من بَغَى عليه. وسمى الجزاء عقوبة لأنه جزاء على عقوبة فسمي
[الشورى: ٤٠] فالأولى: سيئة والثانية حسنة، إلا أنها سميت سيئة، لأنها وقعت إساءة بالمفعول، لأنه فعل به مايسوء، كذلك سمي الجزاء على العقوبة عقوبة لأنه عقوبة بالمبتدئ بالشر.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾.
أي: لذو عفو وصفح لمن انتصر به من ظلمه من بعدما ظلمه الظالم، غفور لمن فعل بمن ظلمه.
ثم قال: ﴿ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ أي: يقول الله جلّ ذكره: هذا النصر الذي أنصر من بُغِيَ عليه بأني قادر على ما شاء، ومن قدرتي أني أولج الليل في النهار وأولج النهار في الليل. ومعناه: يدخل ما انتقص/ من ساعات الليل في ساعات النهار، وما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل، فما نقص من طول هذا، زاد في طول هذا.
فالبقدرة: التي فعل هذا، ينصر محمداً وأصحابه على الذين بغوا عليهم،
ثم قال: ﴿وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي، وفعل ذلك بهم أيضاً، لأنه ذو سمع لما يقولون من قول خفي وغيره، عليم بكل شيء.
ثم قال: ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾.
أي: ذلك الفعل الذي فعل من إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل، ونصره أولياءه لعى من بغى عليهم، لأنه الحق الذي لا مثل له، ولا شريك، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون آلهة من دونه، هو الباطل الذي لا يقدر على شيء.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير﴾.
أي: هو العلو على كل شيء وهو فوق كل شيء، وكل شيء دونه.
" والكبير: " أي: العظيم الذي لا شيء أعظم منه.
قال ابن جريج: " هو الباطل " يعني: الشيطان.
ثم قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً﴾.
" فتصبح " مرفوع لأن صدر الكلام واجب، ولس استفهام، إنما هو تنبيه، هذا قول الخليل.
وقال الفراء: " ألم تر " خبر، كما تقول في الكلام: أعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا. وخص ذكر الصباح بهذا دون سائر أخواتها، لأن رؤية الخضرة بالنهار أوضح
ثم قالوا: أصبح زيد عالماً، وأمسى جاهلاً. أي: تبين ذلك منه في وقت الصباح والمساء ولم يرد أنه يكون في الصباح على حال لا يكون عليها في المساء، وقولهمه ظل فلان قائماً، فلا يكون ظل إلا بالنهار، كما أن بات بالليل، واشتقاقه من الظل، والظل إنما يكون بالنهار، فلذلك لم يقع " ظل " إلا بالنهار.
وقولهم: " صار زيد عالماً. أصلها من صرت إلى موضع كذا، أي: بلغته، فالمصير انقطاع البلوغ. ومنه قوله: " إليه المصير "، أي: غاية البلوغ والانتهاء، ثم اتسع فيها حتى جعلت للخبر، فقيل: صار عبد الله عالماً أي: بلغ هذه الصفة، فلذلك كانت للشيء الذي ينقطع إلى وقتك تقول: صار عبد الله رجلاً. أي: بلغ ذلك هذا الوقت، وليست بمنزل " كان " التي توجب علمه قبل ذلك، فصارت لانقطاع الغاية، وانطقاع الغاية وقت خبرك، فإن أردت أن تخبر بـ " صار " إنما هو كان قبل وقتك، أدخلت " كان " فقلت: كان زيد قد صار عالمً، ورأيته أمسى صار عالماً.
أي: لطيف باستخراجه النبات من الأرض بالماء الذي ينزل من السماء. " خبير " بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره.
قوله تعالى: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾.
أي: له ملك ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله لهو الغني عن خلقه. وهم
﴿الحميد﴾ أي: المحمود عند/ عباده في أفضاله ونعمه عندهمه.
ثم قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾.
أي: سخر لكم ما في الأرض من الدواب والأنعام وغير ذلك تنتفعون وتأكلون وتركبون وتلبسون منه، وسخر لكم " الفلك لتجري في البحر بأمره " أي: بقدرته وتذليله أياها لكم.
ثم قال: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾.
أي: يمسكها بقدرته لئلا تقع على الأرض. ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. أي: لذو رأفة ورحمة بهم.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾.
أي: والذي أنعم عليكم هذه النعم المذكورة، هو الذي خلقكم أجساماً أحياء بحياة أحدثها فيكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يميتكم فيفنيكم عند مجيء آجالكم، ثم يحييكم عند بعثكم لقيام الساعة، ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي: إن ابن آدم لجحود لنعم الله عليه، إذ يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المتكررة وبغيرها.
ثم قال تعالى: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ﴾.
أي: لكل جماعة قوم لنبي خلا قبلك يا محمد، جعلنا مألوفاً يألفونه، وماكناً يعتادونه لعبادة الله تعالى، وقضاء فرائضه، وعملاً يلزمونه.
وكسر " السين " لغة أهل الحجاز، وفتحها لغد أسد.
قال ابن عباس: جعلنا منسكاً. أي: عيداً.
وقال مجاهد: وهو أراقة الدم بمكة.
وقال قتادة: " منسكاً " ذبحاً وحجاً.
وقد رويَ أن المشركين جادلوا النبي ﷺ في إراقة الدم أيام النحر. فهذه الآية في ذلك والله أعلم. دل على هذا التأويل قوله: ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر﴾ أي: فلا يجادلنك في ذبحك ونسكك قولهم: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله وهو الميتة.
ومعنى: " فلا ينازعنك "، أي: فلا تنازعنهم لأنهم قد نازعوه في ذلك قبل نزول الآية.
أي: ادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك بأن يأكلوا ما ذبحوه بعد اتباعك والتصديق بما جئتهم به. ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: طريق غير زائل عن الحق والصواب.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أي: إن جادلك هؤلاء المشركون في نسكك، ﴿فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " ﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي: يقضي بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون من أمر دينكم.
فتعلمون حينئذٍ المحق من المبطل.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض﴾.
أي: يعلم ما في السماوات السبع وما في الأرضين السبع، لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بجميع ما علموه في الدنيا، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. ﴿إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ﴾ أي: إن علمه بذلك في كتاب، وهو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ذكره قبل أن يخلق الخلق ما هوكائن إلى يوم القيامة. ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي: سهل. يعني: حكمه بين المختلفين يوم القيامة.
وقيل: معناه: أن كتاب القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن يسير على الله. أي: هين. فصاحب هذا القول رده على الأقرب، وهو: " أن ذلك في كتاب ". وصاحب القول الأول رده على " يحكم بينكم ".
قال ضمرة بن حبيب: إن الله جلّ ذكره كان عرشه على الماء، فخلق السماوات
وقال كعب الأحبار " علم الله تعالى ما هو خالق، وما خلقه عاملون ".
وقال ابن جريج قوله: " إن ذلك في كتاب " يعني: قوله: ﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة/ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾.
أي: يعبد هؤلاء المشركون من دون الله ما لم ينزل لهم به حجة من السماء في كتاب من كتبه التي أنزلها على رسله، وما ليس لهم به علم، أي: لا علم لهم أنها آله، فيعبدونها بعد علم، ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ ينصرهم من عذاب الله.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ إلى قوله: ﴿حَقَّ جِهَادِهِ﴾.
أي: وإذا تتلى على المشركين آيات القرآن واضحات حججها وأدلتها، ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر﴾، أي تتبين في وجوههم ما ينكره أهل الإيمان بالله من تغيرها بسماعهم القرآن.
أي: يبطشون بالذين يتلون عليهم كتاب الله من أصحاب النبي ﷺ، وذلك لشدة كراهيتهم أن يسمعوا القرآن ويتلى عليهم.
قال الضحاك: ﴿يَكَادُونَ يَسْطُونَ﴾ أي: يأخذون المؤمنين بأيديهم أخذاً.
والسطو في اللغة: البطش.
وروى أحمد عن قالون والأعشى عن أبي بكر " يصطون " بالصاد من أجل الطاء.
ثم قال: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار﴾.
أي: قل يا محمد للمشركين أفأنبئكم بشر مما تكرهونه من قراءة القرآن عليكم؟ فقالوا: ما هو فقيل لهم: النار، أي هي النار وعدها الله الذين كفروا، أي: وعدكم وأمثالكم من الكفار أياها.
وروي: أن المشركين قالوا محمد وأصحابه شر خلق، فقال الله تعالى: قل لهم يا محمد أفأنبئكم بشر من محمد وأصحابه على قولكم وزعمكم، أهل النار فهم أنتم شرار خلق الله تعالى لا محمد وأصحابه.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ﴾.
﴿ضُرِبَ﴾ هنا بمعنى: جعل: من قولهم: ضربت الجزية على النصارى، أي: جعلت. وضرب السلطان الخراج على الناس.
أي: جعل، " والمثل " الشبه الذي جعلوه لله من الأصنام.
فالمعنى: يا أيها الناس جعل شبه لي في عبادتي، يعني: الأصنام التي جعلوها شبهاً لله فعبدوها.
ثم قال: فاستعموا الخبر هذا الذي جعل شبهاً لي. ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ من الأصنام والأثان، لن يخلقوا ذباباً، على صغر الذباب ولفطه، ولو أن الأصنام اجتمعت كلها لم تخلق ذلك ولا استطاعته، على أن الذباب واحد وهي كثيرة. وأن يسلبهم هذا الذباب على ضعفه وكثرتها شيئاً مما عليها من طيب وغيره، لا يقدرون بجماعتهم على استقاذ ذلك الشيء من الذباب الضعيف.
روي أنهم كانوا يطلون آلهتهم بالزغفران، فكانت الذباب تختلس الزعفران، فلا تقدر الأصنام - وهي آلهة لهم - على استنقاذ ما تأخذ الذباب منها.
أي: ضعفت الآلهة عن طلب ما أخذ الذباب منها، وضعف الذباب، قاله: ابن عباس.
وقيل: المعنى: ضعف الطالب من بني آدم إلى الصنم حاجته، والمطلوب إليه أن يعطي سائله من بني آدم ما سأله - فهذا توبيخ من الله لقريش وتنبيه، ومعناه: كيف تجعلون الله في العبادة مثل ما لا يقدر على خلق ذباب.
﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً﴾ لم يمتنع ولا أنتصر، والله خالق من في السماوات والأرض. ومالك جميع ذلك، والمحيي جميع ذلك والمفني لهم.
ثم قال تعالى: ﴿مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾.
أي: ما عظموه في العبادة حق عظمته حين عدلوا به من يضعف عن الامتناع من أذى الذباب. هذا معنى قول ابن زيد.
وقد قال قوم: قوله تعالى: ضرب مثل، فأين المثل، ليس في الآية مثل والمعنى فيه على ما قمنا أن معناه، ضربتم لي مثلاً، أي جعلتم لي شبهاً ونداً. كما قال:
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾ [إبراهيم: ٣٠] ﴿فاستمعوا لَهُ﴾ أي: / فاستمعوا جواب ما ضربتموه شبهاً لله
قال الكلبي: كانوا يعمدون إلى المسك والزعفران، فيسحقونهما جميعاً، وهو عطر العرب ويطلون بهما الأصنام، فإذا يبس تشققق فربما وقع عليه الذباب فيأخذ منه، فكان يشتد عليهم.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
أي: قوي على خلق ما يشاء من صغير وكبير، " عزيز " أي: منيع في ملكه، لا يقدر أحد أن يسلبه من ملكه شيئاً، وليس كآلهتهم التي يدعون من دون اكلله التي لا تقدر على خلق ذباب، ولا على الامتناع عن الذباب.
ثم قال: ﴿الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس﴾.
أي: الله يختار من الملائكة رسلاً يرسلهم إلى من يشاء من خلقه، كجبريل وميكائيل صلى الله عليهما وسلم. ومن الناس، أي: يختار من شاء من الناس رسلاً يرسلهم إلى خلقه.
ويقال: إن هذه الآية جواب لقول المشركين، ﴿أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨] فأنزل الله تعالى: ﴿الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس﴾ أي: ذلك إليه، يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه.
ثم قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾.
أي: ما بين أيدي ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي: وما هو كائن بعد فنائهم. ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي: إلى الله ترد أمور الدنيا والآخرة.
ثم قال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ﴾.
أي: يا أيها الذين صدقوا الله ورسله وكتبه، اركعوا واسجدوا في صلاتكم، ﴿وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ﴾، أي: ذلوا له واخضعوا بالطاعة ﴿وافعلوا الخير﴾ الذي أمركم بفعله ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي: تدركون طلباتكم عند ربكم.
وقال الطبري: لعل هنا بمعنى كي، وهي عند غيره على معنى، الرجاء و " لعل " من الله واجبة. ومذهب أهل المدينة، مالك وغيره أن لا يسجد في آخر هذه السورة، وإنما فيها سجدة واحدة عند قوله يفعل ما يشاء.
ورأي جماعة من الفقهاء، السجود في آخر السورة.
وروي عن ابن عباس أنه قال: فضلت سورة الحج بسجدتين على سا ئر القرآن.
وعن عمر أنه سجد في آخرها.
وعن ابن عباس ابن عمر أنهما لم يعدا الثانية في سجود القرآن.
أي: جاهدوا المشركين حق الجهاد. قاله: ابن عباس.
وعن ابن عباس: أن المعنى: لا تخافوا في الله لومة لائم، فذلك حق جهاده.
وعن النبي ﷺ أنه قال: " المجاهد من جاهد نفسه لله تعالى ".
وعنه أنه قال: " أفضل الجهاد، كلمة عدل عند سلطان جائر "، ومعنى: " حق جهاده " هو استفراغ الطاقة. يقول الله تعالى: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾. وأكثر الناس على أنه غير منسوخ وواجب على كل مسلم أن يجاهد في الله حق جهاده على قدر استطاعته ويكون قوله: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ [التغابن: ١٦] بياناً لهذا وليس بناسخ له.
قوله تعالى ذكره: ﴿هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ إلى آخر السورة.
أي: هو اختاركم لدينه، واصطفاكم لحرب أعدائه.
وقال ابن زيد: " هو اجتباكم " أي: هَدَاكم. ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ أي: من ضيق لا مخرج لكم منه، بل وسع عليكم، فجعل التوبة من بعض مخرجاً، والكفارة من بعض، والقصاص من بعض. فلا ذنب يذنبه المؤمن إلا وله في دين الإسلام منه مخرج، هذا معنى قول ابن عباس.
" وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ عن ذلك فقال: هو الضيق " يعني أن الحرج: الضيق.
وعن ابن عباس أنه قال: هذا في شهر رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شك في الهلال، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليكم ستهلاله.
وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: وما جعل عليكم في الإسلام من ضيق بل وسعه عليكم، وهو قول الضحاك.
وقال ابن عباس: وسع الله في الدين ولم يضيقه فبسط التوبة، وجعل الكفارات مخرجاً.
ثم قال تعالى: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ﴾ اختلف في " هو " فقيل: ضمير الله جلّ ذكره. وقيل ضمير إبراهيم ﷺ أي: الله سماكم المسلمين، هذا قول: قتادة والضحاك ومجاهد.
وقيل: المعنى: إبراهيم سماكم المسلمين، وهو قول الحسن وابن زيد لأن
وهذا القول يضعفه قوله من قبل. وفي هذا، فيكون إبراهيم سمانا مسلمين من قبل القرآن وفي القرآن، والقرآن إنما نزل بعد إبراهيم، فهذا بعيد، وإنما يجوز قول ابن زيد والحسن على معنى، إبراهيم سماكم المسلمين فيما تقدم وفي هذا، أي: وفي حكمه أن من اتبع محمداً موحد. والأحسن أن يكون سمانا بذلك، من قبل القرآن، وفي الكتب المتقدمة وفي القرآن.
قال مجاهد سماكم الله مسلمين في الكتب كلها، وفي الذكر، وفي هذا القرآن. وكل من آمن بنبيه من الأمم الماضية، فإنما سميت بالإيمان ولم يسم بالإيمان والإسلام غير هذه الأمة.
ثم قال: ﴿لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ﴾. أي: اجتباكم وسماكم مسلمين ليكون محمد شهيداً عليكم يوم القيامة، لأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا أنتم حنيئذٍ شهداء على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أمتهم ما أرسلوا به إليهم.
قال قتادة: أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي كان. يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج، وكان يقال للنبي: إنك شهيد على قومك. وقال الله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾، وقال: " لتكونوا شهداء على الناس " وكان يقال للنبي: سل تعطه، وقال الله جلّ ذكره: ادعوني أستجب لكم.
ثم قال: ﴿فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾. أي: أقيموها بحدودها في أوقاتها، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم.
ثم قال: ﴿واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ﴾ أي: ثقوا بالله وامتنعوا به من عدوكم، وتوكلوا
وقوله: ﴿مِنْ حَرَجٍ﴾ وقف، إن نصبت ملة، بمعنى اتبعوا ملة فإن نصبته على قول الفراء على معنى كَ " مِلّةِ " إبراهيم لم تقف على " حرج " ويلزم الفراء في النصب عند عدم الكاف أن يقول زيد الأسد، فينصب الأسد، لأن المعنى، زيد كالأسد، وهذا لا يجوز عند أحد. " إبراهيم " وقف، إن جعلت " هو " من ذكر الله جلّ ثناؤه، وهو مذهب نافع ويعقوب وغيرهما. وإن جعلت " هو " من ذكر إبراهيم لم تقف على " إبراهيم "، وكان التمام " وفي هذ " إن جعلت اللام من لتكون متعلقة بفعل مضمر، فإن جعلتها متعلقة بـ: " اجتباكم " و " سماكم " لم يكن التمام إلا على الناس.