تفسير سورة يس

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة يس من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة يس مكية. وعنه عليه الصلاة والسلام ( تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة ) وآياتها ثلاث وثمانون

﴿يس﴾ إمَّا مسرودٌ على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ أو اسم السورة كما نصَّ عليه الخليلُ وسيبويةِ وعليه الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو النَّصبُ على أنه مفعول لفعل مضمرٍ وعليهما مدارُ قراءةِ يس بالرَّفع والنَّصبِ أي هَذه يس او اقرا يس ولا مَساغَ للنَّصب بإضمارِ فعلِ القسمِ لأنَّ ما بعدَهُ مُقسمٌ بِه وقد ابو الجمعَ بين قَسَمين على شيءٍ واحدٍ قبل انقضاءِ الأوَّلِ ولا مجالَ للعطفِ لاختلافِهما إعراباً وقيل هو مجرورٌ بإضمارِ باءِ القسمِ مفتوحٌ لكونِه غيرَ منصرفٍ كما سلف في فاتحةِ سُورة البقرةِ من أنَّ ما كانتْ من هذه الفواتحِ مفردة مثلَ صاد وقاف ونون أو كانت موازنةً لمفردٍ نحوِ طس ويس وحم الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ يتأتَّى فيها الإعرابُ اللفظيُ ذكره سيبويه في بابِ أسماءِ السُّورِ من كتابِه وقيل هُما حركتا بناءٍ كما في حيثُ وأينَ حسَبما يشهدُ بذلك قراءة يس بالكسر كجَيْرِ وقيل الفتحُ والكسرُ تحريكٌ للجِدِّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ معناه يا إنسانُ في لغةِ طَيءٍ قالُوا المرادُ به رسولُ الله ﷺ ولعلَّ أصلَه يا أُنيسين فاقتُصر على شطرِه كما قيل مَنُ الله في ايمن الله
﴿والقرآن﴾ بالجر على أنه مقسم به ابتداءً وقد جُوِّز أنْ يكونَ عطفاً على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمارِ باءِ القسمِ ﴿الحكيم﴾ أي المتضمِّنِ للحكمةِ أو النَّاطقِ بها بطريقِ الاستعارةِ أو المتَّصفِ بها على الإسنادِ المجازيِّ وقد جُوِّز أنْ يكونَ الأصلُ الحكيمُ قائلُه فحذُف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه فبانقلابِه مرفوعاً بعد الجرِّ استكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ كما مرَّ في صدرِ سُورة لُقمانَ
﴿إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ جوابٌ للقسم والجملةُ لردِّ إنكار الكَفَرةِ بقولِهم في حقِّه ﷺ لستَ مُرسَلاً وهذه الشَّهادةُ منه عزَّ وجلَّ من جملة ما أُشير إليه بقوله تعالى في جوابهم قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وفي تخصيص القُرآن بالإقسامِ به أَوَّلاً وبوصفه بالحكيمِ ثانياً تنويهٌ بشأنه وتنبيهٌ على أنه كما يشهد برسالته ﷺ من حيث نظمُه المعجزُ المُنطوي على بدائعِ الحكم يشهدُ بها من هذه الحيثيَّةِ أيضاً لما أنَّ الاقسام بالشيء
158
يس ٤ ٧ استشهاد به على تحقُّقِ مضمون الجملة القسميةِ وتقوية لثبوتِه فيكون شاهداً به ودليلاً عليه قَطْعاً وقوله تعالى
159
﴿على صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ خبرٌ آخَرُ لأنَّ أو حالٌ من المستكنِّ في الجار والمجرور على أنَّه عبارةٌ عن الشَّريعةِ الشَّريفةِ بكمالها لا عن التَّوحيدِ فقط وفائدتُه بيانُ أنَّ شريعتَه ﷺ اقوم الشَّرائعِ وأعدلُها كما يُعرب عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ والوصفُ اثر بيان انه ﷺ من جملة المرسلين بالشَّرائعِ
﴿تَنزِيلَ العزيز الرحيم﴾ نصب على المدح وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ وبالجرِّ على أنه بدلٌ من القرآن وأيا ما كان فهو مصدرٌ بمعنى المفعولِ عبَّر به عن القرآنُ بياناً لكمال عراقتِه في كونِه منزَّلاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ كأنَّه نفس التَّنزيلِ واظهارا لفخامتِه الإضافيةِ بعدَ بيانِ فخامتِه الذَّاتيَّةِ بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الاسمينِ الكريمينِ المُعربينِ عن الغلبةِ التَّامةِ والرأفة العامة حيث على الايمان ترهيباً وترغيباً وإشعارٌ بأنَّ تنزيلَه ناشيءٌ عن غايةِ الرَّحمةِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين وقيل النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلِه المضمرِ أي نزل تنزيل العزيزِ الرَّحيمِ على أنَّه استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما ذُكر من فخامةِ شأنِ القُرآن وعلى كلِّ تقديرٍ ففيهِ فضلُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملة القسميةِ
﴿لّتُنذِرَ﴾ متعلِّقٌ بتنزيل على الوجوهِ الأُولِ وبعامله المضمرِ على الوجهِ الآخيرِ أي لتنذَر به كما في صدرِ الأعرافِ وقيل هو متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ لمن المرسلين أي إنَّك مرسلٌ لِتُنذِرَ ﴿قَوْماً مَّا أُنذِرَ آباؤهم﴾ أي لم يُنذْر آباؤُهم الأقربون لتطاولِ مدَّة الفترةِ على أنَّ ما نافيةٌ فتكون صفةً مبيِّنةً لغاية احتياجهم إلى الإنذارِ أو الذي أنذره أو شيئاً أُنذره آباؤهم الأبعدون على أنَّها موصولةٌ أو موصوفة فيكون مفعولاً ثانياً لتنذرَ أو إنذار آبائِهم الأقدمين على أنَّها مصدريةٌ فيكون نعتاً لمصدرٍ مؤكَّدٍ أي لتنذر انذار كائناً مثلَ إنذارِهم ﴿فَهُمْ غافلون﴾ على الوجهِ الأولِ متعلِّق بنفي الإنذارِ مترتِّب عليه والضَّميرُ للفريقينِ أي لم تنذر آباؤهم فهم جميعاً لأجلِه غافلون وعلى الوجوهِ الباقيةِ متعلِّقٌ بقوله تعالى لّتُنذِرَ أو بما يفيده إنَّك لمن المُرسلين وارد لتعليل انذاره ﷺ أو إرساله بغفلتهم المحوجةِ إليهما على أنَّ الضميرَ للقوم خاصَّةً فالمعنى فهم غافلُون عنه أي عمَّا أُنذر آباؤهم الأقدمونَ لامتدادِ المُدَّة واللاَّمُ في قولِه تعالى
﴿لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ﴾ جوابُ القسمِ أيْ والله لقد ثبت وتحقَّقَ عليهم البتةَ لكن لا بطريق الجبرِ من غير أنْ يكون من قبلهم ما يقتضيِه بل بسبب إصرارِهم الاختياريِّ على الكُفر والإنكار وعدم تأثُّرهم من التَّذكيرِ والإنذار وغلوِّهم في العُتوِّ والطُّغيانِ وتماديهم في اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ بحيثُ لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ كيف لا والمرادُ بما حقَّ من القول قوله
159
يس ٨ ١١ تعالى لإبليسَ عند قوله لأغوينَّهم أجمعين لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ منك وممن تبعك منهم أجمعين وهو المعنيُّ بقوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والنار والناس أجمعين كما يلوحُ به تقديمُ الجنة على النَّاسِ فإنَّه كما ترى قد أوقع فيه الحكم بإدخال جهنَّم على مَن تبعَ إبليسَ وذلك تعليلٌ له بتبعيته قطعاً وثبوت القولِ على هؤلاء الذين عبَّر عنهم بأكثرِهم إنَّما هو لكونِهم من جملة أولئك المصرِّين على تبعيَّةِ إبليسَ أبداً وإذ قد تبيَّن أنَّ مناطَ ثبوتِ القول وتحقُّقهِ عليهم إصرارُهم على الكُفرِ إلى الموتِ ظهر أنَّ قوله تعالى ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ متفرِّعٌ في الحقيقةِ على ذلك لا على ثُبوت القول وقوله تعالى
160
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا﴾ تقريرٌ لتصميمهم على الكُفرِ وعدم ارعوائِهم عنه بتمثيلِ حالِهم بحال الذين غُلَّتْ أعناقُهم ﴿فَهِىَ إِلَى الاذقان﴾ أي فالأغلالُ منتهيةٌ إلى أذقانِهم فلا تدعُهم يلتفتونَ إلى الحقِّ ولاَ يَعطفونَ أعناقَهم نحوَه ولا يطأطئون رءوسهم له ﴿فَهُم مُّقْمَحُونَ﴾ رافعونَ رءوسهم غاضُّون أبصارَهم بحيثُ لا يكادُون يَروَن الحقَّ أو ينظرُون إلى جهتِه
﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ إمَّا تتَّمةٌ للتَّمثيل وتكميلٌ له أي تكميلٍ أي وجعلنا مع ما ذُكر من أمامهم سَدَّاً عظيماً ومن ورائهم سَدَّاً كذلك فغطينا بها أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرونَ على إبصارِ شيءٍ ما أصلاً وإمَّا تمثيلٌ مستقلٌّ فإنَّ ما ذُكر من جعلهم محصورينَ بين سَدَّينِ هائلين قد غطَّيا أبصارَهم بحيث لا يُبصرون شيئاً قطعاً كافٍ في الكشف عن كمال فظاعةِ حالِهم وكونِهم محبوسين في مطمورةِ الغيِّ والجهالاتِ محرومين عن النَّظرِ في الأدلَّةِ والآياتِ وقُرىء سُدَّاً بالضمِّ وهي لغةٌ فيه وقيل ما كان من عمل النَّاسِ فهو بالفتحِ وما كان من خلقِ الله فبالضمِّ وقُرىء فأعشينَاهم من العَشَا وقيل الآيتانِ في بني مخزومٍ وذلك أنَّ أبا جهلٍ حلف لئِن رأى رسولَ الله ﷺ يصلِّي ليرضخنَّ رأسَه فأتاه وهو يصلي ﷺ ومعه حجرٌ ليدمغَه فلَّما رفع يدَه انثنتْ يدُه إلى عنقِه ولزق الحجرُ بيده حتَّى فكُّوه عنها بجهدٍ فرجع إلى قومه فأخبرَهم بذلك فقال مخزوميٌّ آخرُ أنا أقتلُه بهذا الحجرِ فذهب فأَعمى الله تعالى بصرَهُ
﴿وسواء عليهم أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ بيانٌ لشأنِهم بطريق التَّصريحِ إثرَ بيانه بطريق التمثيل أي مستوٍ عندهم إنذارُك إيَّاهم وعدمُه حسبما مرَّ تحقيقُه في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ استئنافٌ مؤكِّدٌ لما قبله مبيِّنٌ لما فيه من إجمالِ ما فيه الاستواءُ أو حالٌ مؤكدةٌ له أو بدلٌ منه ولما بُيِّن كونَ الإنذارِ عندهم كعدمِه عقب ببيانِ من يتأثَّر منه فقيل
﴿إِنَّمَا تُنذِرُ﴾ أي إنذاراً مستتبعاً للأثر ﴿مَنِ اتبع الذكر﴾ أي القُرآنَ بالتَّامُّلِ فيه أو الوعظِ ولم يصرَّ على اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ ﴿وَخشِىَ الرحمن بالغيب﴾ أي
160
يس ١٢ ١٤ خافَ عقابَه وهو غائبٌ عنْهُ على أنَّه حالٌ من الفاعلِ أو المفعولِ أو خافَه في سريرتِه ولم يغترَّ برحمتِه فإنَّه منتقمٌ قهَّار كما أنَّه رحيمٌ غَفَّار كما نطق به قولُه تعالَى نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم ﴿فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ عظيمةٍ ﴿وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ لا يُقادر قدرُه والفاء لترتيب البشارةِ أو الأمرِ بها على ما قبلها من اتِّباعِ الذِّكرِ والخشيةِ
161
﴿إنا نحن نحيي الموتى﴾ بيانٌ لشأنٍ عظيمٍ ينطوي على الإنذارِ والتَّبشيرِ انطواءً إجماليَّاً أي نبعثُهم بعد مماتِهم وعن الحسنِ إحياؤهم إخراجُهم من الشِّركِ إلى الإيمانِ فهو حينئذٍ عدةٌ كريمةٌ بتحقيق المُبشَّر به ﴿وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ﴾ أي ما أسلفُوا من الأعمالِ الصالحة وغيرها ﴿وآثارهم﴾ التي أبقوها من الحسناتِ كعلمٍ علمُوه أو كتابٍ ألَّفُوه أو حبيسٍ وقفُوه أو بناءٍ بنوَه من المساجدِ والرِّباطاتِ والقناطرِ وغيرِ ذلك من وجوهِ البرِّ ومن السَّيئاتِ كتأسيسِ قوانينِ الظلم والعدوان وترتيب مبادي الشرِّ والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشُّرور التي أحدثُوها وسنُّوها لمن بعدهم من المُفسدين وقيل هي آثار المشَّائينَ إلى المساجدِ ولعلَّ المرادَ أنَّها من جُملةِ الآثارِ وقُرىء ويُكتب على البناءِ للمفعولِ ورفعِ آثارَهم ﴿وَكُلَّ شىْء﴾ من الأشياءِ كائناً ما كانَ ﴿أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ أصلٍ عظيمِ الشَّأنِ مظهر لجميعِ الأشياءِ ممَّا كانَ وما سيكونُ وهو اللَّوحُ المحفوظُ وقُرىء كلُّ شيءٍ بالرَّفعِ
﴿واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية﴾ ضربُ المَثَلِ يُستعملُ تارةً في تطبيقِ حالةٍ غريبةٍ بحالةٍ أُخرى مثلِها كما في قوله تعالى ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كفروا امراة نوح وامراة لُوطٍ وأخرى في ذكر حالةٍ غريبةٍ وبيانِها للنَّاس من غير قصدٍ إلى تطبيقِها بنظيرةِ لها كما في قولِهِ تعالى وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال على أحدِ الوجهينِ أي بيَّنا لكم أحوالاً بديعةً هي في الغرابةِ كالأمثالِ فالمَعْنى على الأوّلِ اجعلْ أصحابَ القريةِ مثلاً لهؤلاء في الغُلوِّ في الكفرِ والإصرارِ على تكذيبِ الرُّسلِ أي طبِّق حالَهم بحالهم على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثان لا ضرب وأصحابَ القريةِ مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنْهُ ليتَّصل بهِ ما هو شرحُه وبيانُه وعلى الثَّاني اذكُر وبيِّن لهم قصَّةً هي في الغرابةِ كالمَثَل وقوله تعالى أصحابَ القريةِ بدلٌ منه بتقديرِ المضافِ أو بيانٌ له والقريةُ أنطاكيِّةُ ﴿إِذْ جَاءهَا المرسلون﴾ بدلُ اشتمالٍ من أصحابَ القريةِ وهم رُسلُ عيسى عليه السَّلامُ إلى أهلِها ونسبةُ إرسالِهم إليهِ تعالى في قولِه
﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين﴾ بناء على أنَّه كان بأمره تعالى لتكميلِ التَّمثيلِ وتتميم التَّسليةِ وهما يحيى وبُولس وقيل غيرُهما ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾ أي فأتياهم فدعواهم إلى الحقِّ فكذَّبوهما في الرِّسالةِ ﴿فَعَزَّزْنَا﴾ أي قوَّينا يقال عزز المطر الارض اذ لبَّدها وقُرىء بالتَّخفيفِ من عزَّه إذا غلبَه وقهرَه وحُذف المفعولُ لدلالة ما قبله عليه ولأنَّ المقصدَ ذكر المعزَّزِ به ﴿بِثَالِثٍ﴾ هو شَمعُون ﴿فَقَالُواْ﴾ أي جميعاً ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ﴾ مُؤكِّدين كلامَهم لسبق الإنكارِ لما أنَّ تكذيبَهما تكذيبٌ للثَّالثِ لاتِّحادِ كلمتهم وذلك أنَّهم كانوا عَبَدَة أصنام فأرسل اليهم
161
يس ١٥ ١٧ عيسى عليه السلام اثنينِ فلما قَرُبا من المدينة رأياً شيخاً يَرعى غُنيماتٍ له وهو حبيبٌ النَّجارُ صاحب يس فسألهما فأخبراهُ قال أمعكما آيةٌ فقالا نشفي المريضَ ونُبرىء الأكْمَه والأبرصَ وكان له ولدٌ مريضٌ منذ سنتينِ فمسحاهُ فقام فآمن حبيبٌ وفشا الخبرُ وشُفي على أيديهما خلقٌ وبلغ حديثُهما إلى الملكِ وقال لهما ألنا إلهٌ سوى آلهتِنا قالا نعم من أوجدَك وآلهتَك فقال حتَّى أنظرَ في أمرِكما فتبعهما النَّاسُ وقيل ضربُوهما وقيل حُبسا ثمَّ بعث عيسى عليه السَّلامُ شَمعُون فدخلَ مُتنكِّرا وعاشر حاشيةَ الملك حتَّى استأنُسوا به ورفعوا خبرَه إلى الملكِ فأنسَ به فقالَ له يَوْماً بلغني أنَّك حبستَ رجلينِ فهل سمعت مايقولونه قال لاَ حال الغضبُ بيني وبينَ ذلكَ فدعاهُما فقال شَمعُون مَن أرسلكُما قالا الله الذي خَلَق كلَّ شيءٍ وليسَ له شريكٌ فقال صفاهُ وأَوْجِزا قالاَ يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريدُ قال وما آيتكُما قالا ما يتمنَّى الملكُ فَدَعا بغلامٍ مطمُوسِ العينينِ فدعَوَا الله تعالى حتَّى انشقَّ له بصرٌ فأخذا بُندقتينِ فوضعاهما في حدقتيهِ فصارتا مُقلتينِ ينظرُ بهما فقال له شَمعُون أرأيتَ لَو سألتَ إلهَك حتَّى يصنعَ مثلَ هذا فيكونَ لك وله الشَّرفُ قال ليس لي عنك سرٌّ إن إلهنَا لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضرُّ ولا ينفعُ وكان شمعُون يدخلُ معهم على الصَّنمِ فيصلِّي ويتضرَّعُ وهم يحسبون أنَّه منهم ثم قال إنْ قدر إلهُكما على إحياءِ ميِّتٍ آمنَّا به فدعَوا بغلامٍ ماتَ من سبعةِ أيامٍ فقامَ وقال إنِّي أُدخلت في سبعةِ أوديةٍ من النَّارِ وإنِّي أُحذركم ما أنتُم فيه فآمِنُوا وقال فُتحت أبوابُ السَّماء فرأيتُ شَاباً حسنَ الوجهِ يشفعُ لهؤلاء الثَّلاثةِ قال الملكُ من هُم قال شمعُونُ وهذانِ فتعجَّبَ الملكُ فلمَّا رأى شمعُون أنَّ قولَه قد أثر فيه نصحَه فآمنَ وآمنَ قومٌ ومَن لم يُؤمن صاحَ عليهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا هكذا قالُوا ولكن لا يُساعده سياقُ النظمِ الكريمِ حيثُ اقُتصر فيه على حكايةِ تمادِيهم في العنادِ واللَّجاجِ وركوبِهم متنَ المُكابرةِ في الحِجاجِ ولم يُذكرْ فيه ممَّن يؤمن أحدٌ سوى حبيبٍ ولو أنَّ الملكَ وقوماً من حواشيه آمنُوا لكان الظَّاهرُ أنْ يُظاهروا الرُّسلَ ويساعدوهم قُبلوا في ذلك أو قُتلوا كدأب النَّجار الشهيد ولكان لهم فيه ذكرٌ ما بوجه من الوجوه اللَّهم إلاَّ أن يكونَ إيمانُ الملكِ بطريق الخُفيةِ على خوفٍ من عناة ملئِه فيعتزلُ عنهم مُعتذراً بعذرٍ من الأعذارِ
162
﴿قَالُواْ﴾ أي أهلُ أنطاكيَّةَ الذينَ لَم يُؤمنوا مُخاطبينَ للثَّلاثةِ ﴿مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مثلنا﴾ من غير مزيةٍ لكُم عَلينا مُوجبةٍ لاختصاصكم بما تدعونَه ورفعُ بشرٌ لانتقاضِ النَّفيِ المُقتضي لإعمالِ ما بإلاَّ ﴿وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء﴾ ممَّا تدعُونه من الوحي والرِّسالةِ ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ﴾ في دَعْوى رسالتِه
﴿قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إليكم لمرسلون﴾ استشهدوا بعلمِ الله تعالى وهو يَجْري مجرى القسمِ مع ما فيه من تحذيرِهم معارضةَ علم الله تعالى وزادُوا الَّلامَ المؤكِّدةَ لِما شاهدُوا منُهم من شدَّةِ الإنكارِ
﴿وَمَا عَلَيْنَا﴾ أي من جهةِ ربِّنا ﴿إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي إلاَّ تبليغُ رسالتِه تبليغاً ظَاهِراً بيِّناً
162
يس ١٨ ٢٢ بالآياتِ الشَّاهدةِ بالصِّحَّةِ وقد خرجنا عن عُهدته فلا مؤاخذةَ لنا بعد ذلك من جهة ربِّنا أو ما علينا شيءٌ نُطالب به من جهتِكم إلا تبليغُ الرِّسالةِ على الوجهِ المذكورِ وقد فعلناه فأيُّ شيءٍ تطلبون منَّا حتَّى تُصدِّقوُنا بذلك
163
﴿قَالُواْ﴾ لمَّا ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ تشاءمنا بكم جرياً على دَيْدنِ الجَهَلةِ حيث كانُوا يتيَّمنون بكلِّ ما يُوافق شهواتِهم وإن كان مستجلباً لكلِّ شر ووبال ويتشاءمون بمالا يُوافقها وإنْ كان مستتبعاً لسعادةِ الدَّارينِ أو بناء على الدعوة لاتخلو عن الوعيدِ بما يكرهونَه من اصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالِهم إنْ لم يُؤمنوا فكانوا ينفرون عنه وقد رُوي أنَّه حُبس عنهم القطرُ فقالوه ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ﴾ أي عن مقالتِكم هذه ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ بالحجارةِ ﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لا يُقادرُ قَدرُه
﴿قَالُواْ طائركم﴾ أي سببُ شُؤمكم ﴿مَّعَكُمْ﴾ لا مِن قِبلنا وهو سوءُ عقيدتِكم وقبحُ أعمالكم وقُرىء طَيركُم ﴿أئن ذُكّرْتُم﴾ أي وُعظتُم بما فيه سعادتُكم وجوابُ الشَّرط محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليه أي تطيرتُم وتوعدتُم بالرَّجمِ والتَّعذيبِ وقُرىء بألفٍ بين الهمزتينِ وبفتحِ أنْ بمعنى أتطيرتُم لأنْ ذُكِّرتم وأنْ ذكِّرتم وإنْ ذُكِّرتم بغيرِ استفهام وأينَ ذُكِّرتم بمعنى طائركم معكم حيثُ جرى ذكركُم وهو أبلغُ ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ إضرابٌ عمَّا تقتضيه الشَّرطيَّةُ من كونِ التَّذكيرِ سبباً للشُّؤمِ أو مصحِّحاً للتوعد أي ليس الأمرُ كذلك بل أنتُم قومٌ عادتُكم الإسرافُ في العصيان فلذلك أتاكُم الشُّؤمُ أو في الظُّلمِ والعُدوانِ ولذلك تَوعدتُم وتَشاءمتُم بمن يجبُ إكرامُه والتَّبركُ به
﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى﴾ هو حبيبٌ النَّجارُ وكان ينحتُ أصنامَهم وهو ممَّن آمنَ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبينهما ستمائةُ سنةٍ كما آمنَ به تُبَّعُ الأكبرُ وورقةُ بنُ نوفلٍ وغيرُهما ولم يؤمن من بنبي غيره ﷺ أحدٌ قبل مبعثِه وقيل كان في غارٍ يعبدُ الله تعالى فلمَّا بلغه خبرُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أظهرَ دينَه ﴿قَالَ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيئهِ ساعياً كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند مجيئِه فقيل قال ﴿يا قوم اتبعوا المرسلين﴾ تعرض لعُنوانِ رسالتهم حثَّاً لهم على اتِّباعِهم كما أنَّ خطابَهم بيا قوم لتأليفِ قلوبِهم واستمالتِها نحو قبولِ نصيحتِه وقوله تعالى
﴿اتبعوا من لا يسألكم أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾ تكريرٌ للتأكيد والتوسل به إلى وصفهم بما يرغِّبُهم في اتِّباعهم من التَّنزهِ عن الغرض الدُّنيويِّ والاهتداء إلى خير الدُّنيا والدِّينِ
﴿وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى﴾ تلطُّفٌ في الارشاد
163
يس ٢٣ ٢٧ بإيراده في معرض المُناصحةِ لنفسِه وإمحاض النُّصحِ حيثُ أراهم أنَّه اختارَ لهم ما يختارُ لنفسه والمرادُ تقريعُهم على ترك عبادةِ خالقِهم إلى عبادةِ غيرِه كما ينبىء عنه قوله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ مبالغةً في التَّهديدِ ثمَّ عاد إلى المساق الاول فقال
164
﴿أأتخذ من دونه آلهة﴾ إنكارٌ ونفيٌ لاتِّخاذِ الآلهة على الإطلاق وقوله تعالى ﴿إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً﴾ أي لا تنفعني شيئا من النفع ﴿ولا يُنقِذُونَ﴾ من ذلك الضُّرِّ بالنصرة والمظاهرة استئناف سيق لتعليلٍ النَّفي المذكور وجعلُه صفةً لآلهةً كما ذهب إليه بعضُهم رُبَّما يُوهم أنَّ هناك آلهةً ليستْ كذلكَ وقُرىء إنْ يَردن بفتح الياءِ على معنى إنْ يُوردني ضراً أي يجعلنِي مورداً للضُّرِّ
﴿إِنّى إِذاً﴾ أي إذا اتخذتُ من دونه آلهةً ﴿لَفِى ضلال مُّبِينٍ﴾ فإنَّ اشراك ماليس من شأنِه النَّفعُ ولا دفعُ الضُّرِّ بالخالق المقتدرِ الذي لا قادرَ غيرُه ولا خيرَ إلا خيرُه ضلال بيِّن لا يَخْفى على أحدٍ ممَّن له تمييزٌ في الجملةِ
﴿إني آمنت بِرَبّكُمْ﴾ خطاب منه للرُّسلِ بطريق التَّلوينِ قيل لمَّا نصحَ قومَه بما ذُكر همُّوا برجمِه فأسرع نحوَ الرُّسلِ قبل أن يقتلُوه فقال ذلك وإنَّما أكَّده لإظهارِ صدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط واضاف الربَّ إلى ضميرِهم رَوْماً لزيادة التَّقريرِ وإظهاراً للاختصاصِ والاقتداء بهم كأنَّه قالَ بربِّكم الذي أرسلَكم أو الذي تدعُوننا إلى الإيمانِ به ﴿فاسمعون﴾ أي اسمعُوا إيمانيَ واشهدُوا لي به عند الله تعالى وقيل الخطابُ للكفرةِ شافههَم بذلك إظهاراً للتَّصلُّبِ في الدِّينِ وعدم المبالاة بالقتلِ وإضافةُ الرَّبِّ إلى ضميرهم لتحقيقِ الحقِّ والتَّنبيهِ على بُطلان ما هم عليه من اتِّخاذِ الأصنامِ أرباباً وقيل للنَّاس جميعاً
﴿قِيلَ ادخل الجنة﴾ قيل له ذلك لمَّا قتلُوه إكراماً له بدخولِها حينئذٍ كسائر الشُّهداءِ وقيل لما همُّوا بقتله رفعَه الله تعالى إلى الجنَّةِ قاله الحسنُ وعن قَتادةَ أدخلَه الله الجنَّةَ وهو فيها حيٌّ يُرزقُ وقيل معناه البُشرى بدخولِ الجنَّةِ وأنَّه من أهلِها وإنَّما لم يُقل له لأنَّ الغرضَ بيان المقول لا المقول له لظهوره وللمبالغةِ في المسارعةِ إلى بيانِه والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالِه ومقالهِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان لقاءُ ربِّه بعد ذلك التصلُّب في دينه والتسخي بروحه لوجهه تعالى فقيل قيل ادخل الجنَّة وكذلك قوله تعالى ﴿قَالَ يَا ليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ﴾
﴿بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين﴾ فإنَّه جواب عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالهِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند نيلِه تلك الكرامةَ السَّنيةَ فقيل قال الخ وإنما تمنَّى علَم قومه بحاله ليحملَهم ذلك عن اكتسابِ مثله
164
يس ٢٨ ٣١ بالتَّوبةِ عن الكُفرِ والدخول في الإيمانِ والطَّاعةِ جرياً على سَننِ الأولياء في كظم الغيظ والتَّرحمِ على الأعداءِ أو ليعلموا أنهم كانُوا على خطأٍ عظيمٍ في أمره وأنَّه كان على الحقِّ وأنَّ عداوتَهم لم تكسبه إلاَّ سعادةً وقُرىء من المكرمين وما موصولةٌ أو مصدريةٌ والباء صلةُ يعلمون أو استفهاميةٌ وردت على الاصل والباء متعلِّقةٌ بغفرَ أي بأي شيءٍ غفرَ لي ربِّي يريدُ به تفخيمَ شأنِ المهاجرةِ عن ملَّتِهم والمصابرةِ على أذيَّتِهم
165
﴿وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ﴾ من بعد قتلِه أو رفعِه ﴿مِن جُندٍ مّنَ السماء﴾ لإهلاكِهم والانتقامِ منهم كما فعلناه يوم بدر والخندق بل كفينا أمرَهم بصيحةِ مَلَكٍ وفيه استحقار لهم لاهلاكهم وإيماء إلى تفخيمِ شأن الرسول ﷺ ﴿وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ﴾ وما صحَّ في حكمتِنا أنْ ننزلَ لإهلاكِ قومِه جُنداً من السَّماءِ لما أنَّا قَدَّرنا لكلِّ شيءٍ سَبَباً حيثُ أهلكنا بعضَ مَن أهلكنا من الأُمم بالحاصبِ وبعضَهم بالصيحة وبعضَهم بالخسفِ وبعضَهم بالإغراقِ وجعلنا إنزالَ الجندِ من خصائصِك في الانتصارِ من قومك وقيل ما موصولة معطوفة على جندٍ أي وما كنَّا مُنزلين على مَن قبلهم من حجارةٍ وريحٍ وأمطارٍ شديدةٍ وغيرِها
﴿إِن كَانَتْ﴾ أي ما كانتْ الأخذةُ أو العقوبةُ ﴿إِلاَّ صَيْحَةً واحدة﴾ صاحَ بها جبريلُ عليه السَّلامُ وقُرىء إلاَّ صيحةٌ بالرَّفعِ على أنَّ كانَ تامة وقُرىء إلا زَقيةً واحدةً من زَقَا الطَّائرُ إذا صاحَ ﴿فَإِذَا هُمْ خامدون﴾ ميِّتُون شُبِّهوا بالنَّارِ الخامدةِ رمزا الى أنَّ الحيَّ كالنَّارِ السَّاطعةِ في الحَرَكةِ والالتهابِ والميِّتُ كالرماد كما قال لَبيدٌ... وَمَا المرءُ إلاَّ كالشَّهاب وضوئِه... يحورُ رَمَاداً بعدَ إذْ هُو ساطع...
(يا حسرة عَلَى العباد) تعالى فهذه من الأحوالِ التي حقُّها أنْ تحضرِي فيها وهي ما دل عليه قوله تعالى ﴿وَمَا يَأْتِيهِم من رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤون﴾ فإنَّ المستهزئينَ بالنَّاصحينَ الذين نيطت بنصائِحهم سعادةُ الدَّارينِ أحقَّاءُ بأنْ يتحسَّروا ويتحسَّرُ عليهم المتحسِّرون أو قد تلهَّفَ على حالهم الملائكةُ والمؤمنون من الثَّقلينِ وقد جُوِّز أنْ يكون تحسُّراً عليهم من جهةِ الله تعالى بطريق الاستعارةِ لتعظيم ما جنوه على أنفسِهم ويؤيِّده قراءةُ يَا حسرتَا لأنَّ المعنى يا حسرتِي ونصبُها لطولِها بما تعلَّق بها من الجارِّ وقيل بإضمارِ فعلِها والمنادى محذوف وقرىء ياحسرة العبادِ بالإضافةِ إلى الفاعلِ او المفعول ويا حسرة على العبادِ بإجراءِ الوصلِ مجرى الوقفِ
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ﴾ أي ألم يعلمُوا وهو معلَّقٌ عن العمل في قوله تعالى ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون﴾ لأنَّ كم لا يعملُ فيها ما قبلها وإنْ كانتْ خبريَّةً لأنَّ أصلَها الاستفهامُ خلا أنَّ معناه نافذٌ في الجُملةِ كما نفذَ في قولك ألم تَرَ إنَّ زيداً لمنطلقٌ وإن لم يعملْ في لفظه ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾
165
بدلٌ من كم أهلكنا على المعنى أيْ ألم يروا كثرةَ إهلاكِنا من قبلهم من المذكُورين آنِفاً ومن غيرهم كونهم غير راجعين إليهم وقُرىء بالكسرِ على الاستئنافِ وقُرىء ألم يَرَوا من أهلكنا والبدلُ حينئذٍ بدلُ اشتمالٍ
166
﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ بيانٌ لرجوع الكلِّ إلى المحشرِ بعد بيان عدم الرُّجوعِ إلى الدُّنيا وأنْ نافية وتنوينُ كلٌّ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ولمَّا بمعنى إلاَّ وجميعُ فعيلٌ بمعنى مفعولٍ ولدينا ظرفٌ له أو لما بعده والمعنى ما كلُّهم إلاَّ مجموعون لدينا مُحضرون للحسابِ والجزاءِ وقيل محضرون معذبون فكل عبارةٌ عن الكَفَرة وقُرىء لما بالتَّخفيفِ على أنَّ مُخفّفة من الثقيلة واللامُ فارقةٌ وما مزيدةٌ للتأكيد والمعنى أنَّ كلهم مجموعون الخ
﴿وآية لهم الأرض الميتة﴾ بالتخفيف وقُرىء بالتَّشديدِ وقوله تعالى آيةٌ خبرٌ مقدَّمٌ للاهتمامِ به وتنكيرُها للتفخيم ولهم إمَّا متعلِّقةٌ بها لأنَّها بمعنى العلامةِ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لها والأرضُ مبتدأٌ والميتةُ صفتُها وقوله تعالى ﴿أحييناها﴾ استئنافٌ مبيّن لكفية كونها آيةً وقيل آيةٌ مبتدأٌ ولهم خبرٌ والأرضُ الميتةُ مبتدأ موصوف وأحييناها خبره والجملة مفسِّرة لآية وقيل الإرض مبتدأ وأحييناها خبرُه والجملةُ خبرٌ لآيةٌ وقيل الخبرُ لها هو الأرضُ وأحييناها صفتُها لأنَّ المرادَ بها الجنسُ لا المعيِّنة والأولُ هو الأَولى لأن مصب الفائدة هو كونُ الأرضِ آيةً لهم لا كونُ الآيةِ هي الأرضُ ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً﴾ جنس الحبِّ ﴿فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ تقديم الصِّلةِ للدِّلالةِ على أنَّ الحبَّ معظم ما يُؤكل ويُعاش به
﴿وجعلنا فيها جناتٌ من نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أي من أنواعِ النَّخلِ والعنبِ ولذلك جُمعا دون الحبِّ فإنَّ الدّالّ على الجنسِ مشعرٌ بالاختلافِ ولا كذلك الدَّالُّ على الأنواعِ وذكرُ النَّخيلِ دُون التُّمور ليطابقَ الحبَّ والأعنابَ لاختصاص شجرها بمزيدِ النَّفعِ وآثار الصُّنعِ ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا﴾ وقُرىء بالتَّخفيفِ والفجرُ والتَّفجيرُ كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى ﴿مِنَ العيون﴾ أي بعضاً من العُيون فحذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه أو العيون ومن مزيدةٌ على رأي الأخَفْشِ
﴿لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرَهِ﴾ متعلِّقٌ بجعلنا وتأخيرُه عن تفجير العيون لانه من مبادى الأثمارِ أي وجعلنا فيها جنَّاتٍ من نخيلٍ ورتبنا مبادى أثمارِها ليأكُلوا من ثمرِ ما ذُكر من الجنَّاتِ والنَّخيلِ بإجراء الضَّميرِ مجرى اسمِ الإشارةِ وقيل الضَّميرُ لله تعالى بطريقِ الالتفاتِ إلى الغَيبةِ والإضافةُ لأنَّ الثَّمرَ يخلقُه تعالى وقُرىء بضمَّتينِ وهي لغةٌ فيه أو جمع ثمارٍ وبضمَّةٍ وسكونٍ ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ عطفٌ على ثمرِه وهو ما يُتَّخذُ منه من العصير والدِّبس ونحوهما وقيل ما نافيةٌ والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحاليةِ ويؤكد الأوَّلَ قراءة
166
يس ٣٦ ٣٨ عملتُ بلا هاءٍ فإنَّ حذفَ العائدِ من الصِّلةِ أحسنُ من الحذفِ من غيرِها ﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ إنكارٌ واستقباحٌ لعدم شكرِهم للنِّعم المعدودةِ والفاء للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَها
167
﴿سُبْحَانَ الذي خَلَق الازواج كُلَّهَا﴾ استئنافٌ مسوقٌ لتنزيهه تعالى عمّا فعلوه من ترك شكره على آلائه المذكورة واستعظام ما ذُكر في حيز صلة من بدائعِ آثارِ قُدرتِه وأسرارِ حكمتِه وروائعِ نعمائِه الموجبةِ للشُّكرِ وتخصيصِ العبادةِ به والتَّعجيب من إخلالِهم بذلك والحالةُ هذه وسبحانَ علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البعدِ عنه والحكمَ به مِنْ سبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسعُ الجرْي وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيهاً خاصَّا به حقيقاً بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهة الاشتفاق من السَّبْح ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لاسيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ أُريد به التنزُّهُ التامُّ والتَّباعد الكُلِّيُ عن السُّوءِ ففيه مبالغةٌ من جهةِ إسنادِ التَّنزه إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ فالمعنى تنزه بذاتِه عن كلِّ ما لا يليقُ به تنزُّهاً خاصَّا به فالجملةُ على هذا إخبارٌ من الله تعالى بتنزهِه وبراءتِه عن كل مالا يليقُ به مَّما فعلُوه وما تركُوه وعلى الأوَّلِ حكم منه عزَّ وجلَّ بذلك وتلقين للمؤمنين أنْ يقولوه ويعتقدُوا مضمونَه ولا يُخلُّوا به ولا يغفلُوا عنه المراد بالأزواجِ الأصنافُ والأنواعُ ﴿مِمَّا تُنبِتُ الارض﴾ بيانٌ لها والمرادُ به كلُّ ما ينبتُ فيها من الأشياءِ المذكورةِ وغيرها ﴿وَمِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ أي خلقَ الأزواجَ من أنفسِهم أي الذَّكرَ والأُنثى ﴿وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي والأزواجَ مما لم يُطلعهم الله تعالى على خُصوصيَّاتهِ لعدمِ قُدرتِهم على الاحاطةِ بها ولمَّا لم يتعلَّق بذلك شيءٌ من مصالحِهم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وإنما أطلعَهم على ذلك بطريقِ الإجمالِ على منهاج قوله تعالى وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ لما نبط به وقوفُهم على عظمِ قدرتِه وسعةِ مُلكهِ وسلطانِه
﴿وآية لهم الليل﴾ جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأٍ مؤخَّرٍ كما مرَّ وقوله تعالى ﴿نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ جملةٌ مبيِّنة لكيفيَّةِ كونِه آيةً أي نُزيله ونكشفُه عن مكانِه مستعارٌ من السَّلخِ وهو إزالةُ ما بين الحيوانِ وجلدِه من الاتِّصالِ والأغلبُ في الاستعمالِ تعليقُه بالجلدِ يقال سلختُ الإهابَ من الشَّاةِ وقد يُعكس ومنه الشَّاةُ المسلوخةُ ﴿فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ أي داخلونَ في الظَّلامِ مفاجأةً وفيه رمزٌ إلى أنَّ الأصلَ هو الظَّلامُ والنُّورُ عارضٌ
﴿والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا﴾ لحدَ مُعين ينتهي إليهِ دورُها فشبه بمستقرِّ المسافرِ اذا قطع مسيرَه أو لكبد السَّماءِ فإنَّ حركتَها فيه توجد ابطأ
167
يس ٣٩ ٤١ بحيثُ يظنُّ أنَّ لها هناك وقفةً قال والشَّمسُ حَيْرى لها بالجوِّ تدويمُ أو لا استقرارَ لها على نهجٍ مخصوصٍ أو لمنتهى مقدَّر لكلِّ يومٍ لكلِّ يومٍ من المشارقِ والمغاربِ فإنَّ لها في دورِها ثلاثمائة وستِّين مشرقاً ومغرباً تطلع كلَّ يومٍ من مطلعِ وتغربُ من مغرب ثم لا يعود إليهما إلى العامِ القابلِ او المنقطع جريها عند خرابِ العالمِ وقُرىء إلى مستقرَ لها وقُرىء لا مستقرَّ لها أي لاسكون لها فإنَّها متحرِّكةٌ دائماً وقُرىء لا مستقرَّ لها على أنَّ لا بمعنى ليسَ ﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى جريها وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه أي ذلك الجريُ البديعِ المنطوي على الحِكَم الرَّائعةِ التي تحارُ في فهمها العقولُ والأفهامُ ﴿تَقْدِيرُ العزيز﴾ الغالبِ بقُدرته علَى كلِّ مقدورٍ ﴿العليم﴾ المحيطِ علمُه بكلِّ معلومٍ
168
﴿والقمر قدرناه﴾ بالنَّصبِ بإضمار فعل يفسره الظاهر وقُرِىءَ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي قدَّرنا له ﴿مَنَازِلَ﴾ وقيل قدرنا مسيرَه منازلَ وقيل قدرنَاهُ ذا منازلَ وهي ثمانية وعشرون الشرطين البطان الثُّريَّا الدبَرانُ الهقعةُ الهنعةُ الذراعُ النثرةُ الطرفُ الجبهةُ الزبرةُ الصِّرفةُ العَوَا السِّماكُ الغفر الزباني الا كليل القلبُ الشوْلةُ النعائمُ البلدةُ سعدُ الذابحُ سعدُ بلَع سعدُ السعودِ سعدُ الأخبيةِ فرغُ الدلوِ المقدَّم فرغُ الدَّلوِ المؤخّرُ الرَّشا وهو بطنُ الحوتِ ينزل كلَّ ليلةٍ في واحدٍ منها لا يتخطَّاها ولا يتقاصرُ عنها فإذا كان في آخرِ منازلِه وهو الذي يكون قبيلَ الاجتماع دقَّ واستقوسَ ﴿حتى عَادَ كالعرجون﴾ كالشِّمراخِ المُعوجِ فعلون من الانعراجِ وهو الاعوجاجُ وقُرىء كالعَرجونَ وهما لغتانِ كالبُزيَون والبِزيونِ ﴿القديم﴾ العَتيقِ وقيل هو ما مرَّ عليه حولٌ فصاعداً
﴿لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا﴾ أي يصحُّ ويتسهَّلُ ﴿أَن تدْرِكَ القمر﴾ في سرعةِ السَّيرِ فإنَّ ذلكَ يخلُّ بتكون النَّباتِ وتعيُّشِ الحيوانِ أو في الآثارِ والمنافعِ أو في المكانِ بأن تنزلَ في منزلِه أو في سلطانه فتطمس نورَه وإيلاءُ حرفِ النَّفي الشَّمسَ للدلالة على انها مسخرات لا يتيسر لها إلا ما قُدرِّ لها ﴿ولا الليل سَابِقُ النهار﴾ أي يسبقُه فيفوتُه ولكنْ يعاقُبه وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيِّرانِ وبالسبقِ سبقُ القمرِ إلى سُلطانِ الشَّمسِ فيكون عكساً للأوَّلِ وإيراد السَّبقِ مكان الإدراك لأنَّه الملائمُ لسرعةِ سيرهِ ﴿وَكُلٌّ﴾ أي وكلُّهم على أن التنوين عوضٌ عن المضافِ إليهِ الذي هو الضميرُ العائدُ إلى الشَّمسِ والقمرِ والجمعُ باعتبارِ التَّكاثرِ العارضِ لهما بتكاثرِ مطالعهما فإنَّ اختلافَ الأحوالِ يُوجب تَعدداً ما في الذَّاتِ أو إلى الكواكبِ فإنَّ ذكرَهما مشعرٌ بها ﴿فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يسيرُون بانبساط وسهولة
﴿وآية لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ﴾ أولادَهم الذين يبعثُونهم إلى تجاراتِهم أو صبيانَهم ونساءَهم الذين يستصحبونهم فإنَّ الذُّريةَ تطلقُ عليهن لا سيَّما مع الاختلاطِ وتخصيصُهم بالذِّكرِ لما أنَّ استقرارَهم في السُّفنِ أشقُّ واستمساكهم فيها أبدعُ ﴿فِى الفلك المشحون﴾ أي المملوءِ وقيل هو فلك نوح
168
يس ٤٢ ٤٥ عليه السَّلامُ وحملُ ذريَّاتِهم فيها حملُ آبائِهم الأقدمين وفي أصلابِهم هؤلاء وذرياتُهم وتخصيصُ أعقابِهم بالذَّكرِ دُونَهم لأنه أبلغَ في الامتنانِ وأدخلُ في التَّعجيبِ الذي عليه يدورُ كونُه آيةً
169
﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ﴾ ممَّا يماثلُ الفُلكَ ﴿مَا يَرْكَبُونَ﴾ من الإبل فإنها سفائنُ البرِّ أو ممَّا يُماثل ذلك الفُلكَ من السُّفنِ والزَّوارقِ وجعلها مخلوقةً لله تعالى مع كونِها من مصنوعاتِ العبادِ ليس لمجرَّدِ كون صُنعِهم بأقدارِ الله تعالى وإلهامِه بل لمزيدِ اختصاصِ أصلِها بقُدرته تعالى وحكمته حسبما يُعرب عنه قولُه عزَّ وجلَّ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا والتَّعبيرُ عن مُلابستهم بهذه السُّفنِ بالرُّكوبِ لأنَّها باختيارهم كما أنَّ التعبيرَ عن مُلابسة ذُرِّيَّتهم بفُلكِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالحَملِ لكونِها بغير شعورٍ منهم واختيارٍ
﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ الخ من تمامِ الآيةِ فإنَّهم معترفون بمضمونِه كما ينطقُ به قولُه تعالى وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وقرئ نُغرِّقهم بالتَّشديدِ وفي تعليق الإغراقِ بمحض المشيئةِ إشعار بأنَّه قد تكامل ما يُوجب إهلاكَهم من معاصيهم ولم يبقَ آلاَّ تعلُّقُ مشيئتِه تعالى به أي إنْ نشأْ نغرقهم في اليمِّ مع ما حملناهم فيه من الفُلك فحديثُ خَلْقِ الإبل حينئذٍ كلامٌ جئ به في خلالِ الآيةِ بطريق الاستطرادِ لكمالِ التَّماثلَ بين الإبلِ والفُلكِ فكأنَّها نوعٌ منه أو مع ما يركبون من السُّفنِ والزَّوارقِ ﴿فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ أي فلا مُغيثَ لهم يحرسهم من الغَرَق ويدفعه عنهم قبل وقوعِه وقيل فلا استغاثةَ لهم من قولِهم أتاهم الصَّريخُ ﴿وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ﴾ أي ينجُّون منه بعد وقوعِه وقوله تعالى
﴿إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً﴾ استثناء مفرغ من أعم العللِ الشَّاملةِ للباعث المتقدِّمِ والغاية المتأخِّرةِ أي لا يغاثون ولا ينقذون لشئ من الأشياءِ إلا لرحمةٍ عظيمةٍ من قبلنا داعيةٍ إلى الإغاثةِ والانقاذِ وتمتيع بالحياة مترتِّب عليهما ويجوزُ أنْ يُرادَ بالرَّحمةِ ما يُقارن التَّمتيعَ من الرَّحمةِ الدُّنيويَّةِ فيكون كلاهما غايةً للإغاثةِ والانقاذِ أي لنوعٍ من الرحمة وتمتيع ﴿إلى حِينٍ﴾ أي إلى زمانٍ قُدِّر فيه آجالُهم كما قيل... ولم أسلمْ لكي أبقَى ولكن... سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ...
﴿وإذا قيل لهم اتقوا﴾ بيانٌ لإعراضِهم عن الآياتِ التَّنزيليةِ بعد بيانِ إعراضِهم عن الآيات الآفافية التي كانُوا يشاهدونَها وعدم تأمُّلِهم فيها أيْ إذَا قيل لهم بطريقِ الإنذارِ بما نزل من الآيات أو بغيره اتَّقوا ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ من الآفاتِ والنَّوازلِ فإنَّها محيطة بكم أو ما يصيبكم من المكاره مِن حيثُ تحتسبون ومن حيثُ لا تحتسبون أو من الوقائع النَّازلةِ على الأُمم الخالية قبلكم والعذاب المعدِّ لكم في الآخرة أو من نوازل السَّماءِ ونوائب
169
يس ٤٦ ٤٧ الأرض أو من عذابَ الدُّنيا وعذابَ الآخرةِ أو ما تقدَّم من الذُّنوبِ وما تأخَّر ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ إمَّا حال من واوِ اتقوا أو غايةٌ له أي راجين أنْ تُرحموا أو كي تُرحموا فتنجُوا من ذلك لما عرفتُم أنَّ مناط النَّجاةِ ليس إلاَّ رحمةَ الله تعالى وجوابُ إذا محذوف ثقةً بانفهامِه من قوله تعالى
170
﴿وما تأتيُهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ انفهاماً بيِّناً أمَّا إذا كان الإنذارُ بالآيةِ الكريمة فبعبارةِ النَّصِّ وأمَّا إذا كان بغيرها فبدلالته لأنَّهم حين أعرضوا عن آياتِ ربِّهم فلأنْ يُعرضوا عن غيرِها بطريق الأولويَّةِ كأنَّه قيل وإذا قيل لهم اتَّقوا العذاب أعرضُوا حسبما اعتادُوه وما نافيةٌ وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرارِ التَّجدُّدِي ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثاني تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورِها صفةً لآيةٍ وإضافةُ الآيات إلى اسم الرب المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها والمراد بها إمَّا الآياتُ التنزيليةُ فإتيانُها نزولُها والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةَ التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله تعالى وسوابغ آلائِه الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا معرضين على وجه التكذيبِ والاستهزاء وإمَّا ما يعمُّها وغيرها من الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيبِ المصنوعاتِ التي منْ جُملتها الآياتُ الثَّلاثُ المعدودة آنِفاً فالمرادُ بإتيانها ما يعمُّ نزول الوحيِ وظهور تلك الأمورِ لهم والمعنى ما يظهر لهم آيةٌ منَ الآياتِ التي منْ جُمْلتها ما ذكِرَ منَ شئونه الشَّاهدةِ بوحدانيَّتِه تعالى وتفرُّدهِ بالألُوهَّيةِ إلاَّ كانُوا عنها مُعرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان به تعالى وإيثارُه على أنْ يُقال إلاَّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى وأن يروا آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ الدلالة على استمرارهم على الإعراضِ حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآياتِ وعن متعلقةٌ بمعرضين قُدِّمت عليه مراعاةً للفواصل والجملةُ في حيز النصبِ على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخصِّصِ بالوصف لاشتمالِها على ضمير كلَ منهُما والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي ما تأتيُهم من آيةٍ من آيات ربِّهم في حالٍ من أحوالِهم إلا حالَ إعراضِهم عنها أو ما تأتيهم آيةٌ منها في حالٍ من أحوالِها إلا حالَ إعراضِهم عنها
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ من ما رِزَقَكُمُ الله﴾ أي أعطاكُم بطريق التَّفضلِ والإنعام من أنواع الأموالِ عبَّر عنها بذلكَ تحقيقاً للحقِّ وترغيباً في الإنفاق على منهاج قولِه تعالى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وتنبيهاً على عِظَمِ جنايتهم في تركِ الامتثالِ بالأمر وكذلك من التبعيضية أي إذا قيل لهم بطريق النصيحة أنفقُوا بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين فإنَّ ذلك مما يرد البلاء ويدفعُ المكاره ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ بالصَّانعِ عزَّ وجلَّ وهم زنادقةٌ كانُوا بمكَّةَ ﴿للذين آمنوا﴾ تهكُّماً بهم وبما كانُوا عليه من تعليق الأمورِ بمشيئةِ الله تعالى ﴿أَنُطْعِمُ﴾ حسبما تعظوننا به ﴿مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ﴾
170
أي على زعمِكم وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان بمكَّةَ زنادقُة إذا أُمروا بالصَّدقةِ على المساكين قالوا لا والله أيُفقره الله ونُطعمه نحنُ وقيل قالَه مُشركو قُريشٍ حين استطعمهم فقراءُ المؤمنين من أموالهم التي زعمُوا أنَّهم جعلُوها لله تعالى مِنَ الحرث والأنعامِ يُوهمون أنَّه تعالى لما لم يشأْ إطعامَهم وهو قادرٌ عليه فنحن أحقُّ بذلك وما هو إلا لفرطِ جهالتِهم فإنَّ الله تعالى يُطعم عبادَه بأسبابٍ من جُملتها حثُّ الأغنياءِ على إطعامِ الفُقراء وتوفيقُهم لذلك ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ﴾ حيثُ تأمروننا بما يُخالف مشيئةَ الله تعالى وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ جواباً لهم من جهتِه تعالى أو حكايةً لجواب المُؤمنين لهم
171
﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أي فيما تعدوننا بهِ من قيام السَّاعةِ مخُاطبين لرسول الله ﷺ والمؤمنين لمَا أنَّهم أيضاً كانُوا يتلون عليهم آياتِ الوعيدِ بقيامها ومعنى القُرْبِ في هذا إمَّا بطريق الاستهزاءِ وإمَّا باعتبارِ قُربِ العهدِ بالوعدِ
﴿مَا يَنظُرُونَ﴾ جوابٌ من جهتهِ تعالى أي ما ينتظرونَ ﴿إِلا صَيْحَةً واحدة﴾ هي النَّفخةُ الأولى ﴿تَأُخُذُهُمْ﴾ مفاجأةً ﴿وَهُمْ يَخِصّمُونَ﴾ أي يتخاصمُون في متاجرِهم ومعاملاتِهم لا يخطر ببالهم شئ من مخايلها كقولِه تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فلا يغترُّوا بعدم ظهور علائِمها ولا يزعمُوا أنَّها لا تأتيهم وأصلُ يخصِّمون يَخْتَصِمُون فُسكِّنت التَّاءُ وأُدغمتْ في الصَّادِ ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وقرئ بكسر الياءِ للاتباعِ وبفتح الخاءِ على إلقاءِ حركةِ التاء عليه وقرئ على الاختلاسِ وبالإسكانِ على تجويزِ الجمعِ بين السَّاكنينِ إذا كان الثَّاني مُدغَماً وإنْ لم يكُن الأوَّلُ حرف مد وقرئ يَخْصِمُون من خَصَمَه إذا جَادَله
﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ في شئ من أمورِهم إنْ كانُوا فيما بين أهليهم ﴿وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ إنْ كانُوا في خارج أبوابِهم بل تبغتهم الصَّيحةُ فيموتون حيثُما كانُوا
﴿وَنُفِخَ فِى الصور﴾ هيَ النَّفخةُ الثَّانيةُ بينها وبين الأوُلى أربعون سنةً أي يُنفخ فيهِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحقق الوقوع ﴿فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث﴾ أي القبورِ جمع جَدَثٍ وقرئ بالفاءِ ﴿إلى رَبّهِمْ﴾ مالِكَ أمرِهم على الإطلاقِ ﴿يَنسِلُونَ﴾ يُسرعون بطريقِ الإجبارِ دُونَ الأختيارِ لقولِه تعالى لدينا محضرون وقرئ بضمِّ السِّينِ
﴿قَالُواْ﴾ أي في ابتداء بعثهم من القبور ﴿يا ويلنا﴾ احضر فهذا أوانك وقرئ يا ويلتَنَا ﴿مَن بَعَثَنَا من مرقدنا﴾ وقرئ مَن أهبّنا من هبَّ من نومه إذا انتبه وقرئ من هَبّنا بمعنى أهبنا وقيل أصله
171
يس ٥٣ ٥٥ هبَّ بنا فحُذف الجارُّ وأُوصل الفعلُ إلى الضَّميرِ قيل فيه ترشيحٌ ورمزٌ وإشعار بأنَّهم لاختلاطِ عقولِهم يظنُّون أنَّهم كانوا نياماً وعن مجاهدٍ أنَّ للكفَّار هجعةً يجدون فيها طعمَ النَّومِ فإذا صِيح بأهل القُبور يقولون ذلكَ وعنِ ابنِ عبَّاسٍ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وقَتادة رحمهم الله تعالى إِنَّ الله تعالى يرفعُ عنهم العذابَ بينَ النَّفختينِ فيرقدُون فإذا بُعثوا بالنَّفخةِ الثَّانيةِ وشاهدُوا من أهوال يوم القيامةِ ما شاهدُوا دَعَوا بالويلِ وقالوا ذلك وقيل إذا عاينُوا جَهَنَّمَ وما فيها من أنواع العذابِ يصير عذابُ القبر في جنبِها مثلَ النَّومِ فيقولون ذلك وقُرىء مِن بَعْثنا ومِن هَبّنا بمن الجارَّةِ والمصدرِ والمرقدُ إمَّا مصدرٌ أي من رُقادِنا أو اسمُ مكانٍ أُريد به الجنسُ فينتظم مراقدَ الكلِّ ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون﴾ جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ وما موصولةٌ محذوفةٌ العائدِ أو مصدريةٌ وهو جواب من قبل الملائكةِ أو المؤمنينَ عُدل به عن سَننِ سؤالِهم تذكيراً لكُفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً على أنَّ الذي يهُمهم هو السُّؤالُ عن نفسِ البعثِ ماذا هو دون الباعثِ كأنَّهم قالُوا بعثكم الرحمن الذي وعدكُم ذلك في كتبِه وأرسلَ إليكم الرُّسلَ فصدقُوكم فيه وليسَ الأمرُ كما تتوهمونَه حتَّى تسألُوا عن الباعثِ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ الكافرينَ حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيجيبونَ به أنفسَهم أو بعضَهم بعضاً وقيل هذا صفةٌ لمرقدنا وما وعدَ الخ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي ما وعد الرَّحمنُ وصدقَ المرسلونَ حقٌّ
172
﴿إِن كَانَتْ﴾ أي ما كانَتْ النَّفخةُ التي حكيتُ آنفاً ﴿إِلاَّ صَيْحَةً واحدة﴾ حصلتْ من نفخ إسرافيلَ عليه السَّلامُ في الصُّور ﴿فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ﴾ أي مجموعٌ ﴿لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ من غيرِ لبثٍ ما طرفهَ عينٍ وفيه من تهوينِ أمرِ البعثِ والحشرِ والإيذانِ باستغائهما عن الأسبابِ ما لا يَخْفى
﴿فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النُّفوسِ برةً كانتْ أو فاجرةً ﴿شَيْئاً﴾ من الظُّلم ﴿وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كنتم تعملون﴾ أي الا جزاءَ ما كنتُم تعملونَهُ في الدُّنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامه للتَّنبيه على قُوَّةِ التَّلازمِ والارتباط بينهما كأنَّهما شيءٌ واحدٌ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه أي بمقابلتِه أو بسببهِ وتعميمُ الخطابِ للمؤمنين يردُّه أنَّه تعالى يُوفِّيهم أجورهم ويزيدَهم من فضلِه أضعافاً مضاعفةً وهذه حكايةٌ لما سيُقال لهم حين يَرَوْنَ العذابَ المُعدَّ لهم تحقيقاً للحقِّ وتقريعاً لهم وقوله تعالى
﴿إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون﴾ من جُملة ما سيُقال لهم يومئذ زيادةً لحسرتِهم وندامتِهم فإنَّ الأخبارَ بحسن حالِ أعدائِهم إثرَ بيان سُوء حالِهم مَّما يزيدُهم مساءةً على مساءةٍ وفي هذه الحكايةِ مزجرةٍ لهؤلاءِ الكَفرةِ عمَّا هم عليه ومدعاةٌ إلى الاقتداء بسيرةِ المُؤمنين والشُّغُل هو الشَّأنُ الذي يصدُّ المرءَ ويشغلُه عمَّا سواهُ من شئونه لكونِه أهمَّ عنده من الكُلِّ إمَّا لإيجابهِ كمالَ المسرة
172
يس ٥٦ ٥٧ والبهجةِ أو كمالِ المساءةِ والغمِّ والمرادُ ههنا هو الأولُ وما فيه من التنكير والإبهامِ للإيذان بارتفاعِه عن رتبةِ البيانِ والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذّ التي تلهيهم عمَّا عداهَا بالكلية وإمَّا أنَّ المرادَ به افتضاضُ الابكار او السماع وضرب الاوتار او النزاور أو ضيافةُ الله تعالى أو شغلُهم عمَّا فيه أهلُ النَّارِ على الإطلاقِ أو شغلُهم عن أهاليهم في النَّارِ لا يهمهم أمرُهم ولا يُبالون بهم كيلا يُدخلَ عليهم تنغيصٌ في نعيمهم كما رَوى كلُّ واحدٍ منها عن واحدٍ من أكابرِ السَّلفِ فليس مرادُهم بذلك حصرَ شغلِهم فيما ذُكرُوه فقطُ بل بيانَ أنَّه من جملة اشغالهم وتخصيصُ كلَ منهم كلاًّ من تلكَ الأمورِ بالذكرِ محمول على اقتضاء مقامِ البيانِ إياَّه وهو مع جارِه خبرٌ لأنَّ وفاكهون خبر آخرُ لها أي أنهم مستقرُّون في شغل وأي شغلٍ في شغل عظيمِ الشَّأنِ متنعمون بنعيمٍ مقيم فائزون بملك كبيرٍ والتَّعبيرُ عن حالِهم هذه بالجملةِ الاسميةِ قبل تحققها بتنزيل المترقب المتوقَّعِ منزلة الواقع للإيذان بغايةِ سرعةِ تحقُّقها ووقوعِها ولزيادةِ مساءة المخاطَبين بذلك وقرىء في شغل بسكون الغين وفي شَغَل بفتحتين وبفتحةٍ وسكون والكل لغات وقرئ فكهون للمبالغةِ وفَكُهون بضمِّ الكاف وهي لغةٌ كنطُس وفاكهينَ وفكهِين على الحالِ من المستكنِّ في الظرف وقوله تعالَى
173
﴿هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ﴾ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيَّةِ شغلِهم وتفكّههم وتكميلهما بما يزيدهُم بهجة وسروراً من شركة أزواجِهم لهم فيمَا هُم فيهِ من الشُّغل والفكاهةِ على أنَّ هم مبتدأ وأزواجهم عطفٌ عليه ومتكئون خبر والجارَّانِ صلتانِ له قدمتا عليهِ لمراعاةِ الفواصلِ أو هو والجارانِ بما تعلّقا به من الاستقرارِ أخبارٌ مترتبة وقيل الخبر هو الظَّرفُ الأولُ والثَّاني مستأنفٌ على أنَّه متعلق بمتكئون وهو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ وقيل على أنَّه خبرٌ مقدمٌ ومتكئون مبتدأٌ مؤخر وقرئ متكين بلا همز نصباً على الحالِ من المستكنَّ في الظَّرفينِ أو أحدِهما وقيل هم تأكيدٌ للمستكن في خبر إن ومتكئون خبرٌ آخرُ لها وعلى الأرائكِ متعلَّقٌ به وكذا في ظلال أو هذا بمضمرٍ هو حالٌ من المعطوفين والظِّلالُ جمع ظلَ كشعابٍ جمع شعبٍ أو جمع ظُلَّةٍ كقِباب جمع قبة ويؤيده قراءة في ظُللٍ والأرائك جمعُ أريكةٍ وهي السَّريرُ المزين بالثيابِ والسُّتورِ قال ثعلبٌ لا تكون أريكةٌ حتى تكونَ عليها حجلةٌ وقوله تعالى
﴿لَهُمْ فِيهَا فاكهة﴾ الخ بيانٌ لما يتمتعون به في الجنةِ من المآكلِ والمشارب ويتلذذون به من الملاذِّ الجسمانيةِ والرُّوحانيةِ بعد بيانِ ما لهُم فيها من مجالسِ الأنسِ ومحافلِ القدسِ تكميلاً لبيانِ كيفيةِ ما هُم فيه من الشغلِ والبهجةِ أي لهم فيها فاكهةٌ كثيرةٌ من كلِّ نوعٍ من الفواكِه وما في قولِه تعالى ﴿وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ﴾ موصولةٌ أو موصوفةٌ عبَّر بها عن مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ معيَّنٍ أو مبهمٍ إيذاناً بأنَّه الحقيقُ بالدُّعاءِ دون ما عداه ثم صرَّح به رَوْماً لزيادةِ التَّقريرِ بالتَّحقيقِ بعد التَّشويقِ كما ستعرفه أو هي باقيةٌ على عمومها قصد بها التَّعميمِ بعد تخصيصِ بعضِ الموادِّ المعتادةِ بالذكر وأيا ما كانَ فهو مبتدأ ولهم خبرُه والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ السَّابقةِ وعدمُ الاكتفاءِ بعطفِ ما يدَّعون على فاكهة لئلا
173
يس ٥٨ ٥٩ يتوهم كونِ ما عبارةً عن توابعِ الفاكهةِ وتتماتها والمَعْنى ولهم ما يدَّعون به لأنفسِهم من مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ أو كل ما يدَّعُون به كائناً ما كانَ منْ أسبابِ البهجةِ وموجباتِ السرُّورِ وأيا ما كان ففيه دلالة على أنَّهم في أقصى غايةِ البهجةِ والغبطةِ ويدّعون يفتعلونَ من الدُّعاءِ كما أُشير إليه مثل اشتوى واجتمَل إذا شوَى وجمل لنفسهِ وقيل بمعنى يتداعون كالارتماءِ بمعنى التَّرامي وقيل بمعنى يتمَّنون من قولِهم ادعُ على ما شئتَ بمعنى تمنَّه علي وقال الزَّجَّاجُ هو من الدُّعاءِ أي ما يدعُو به أهلُ الجنَّةِ يأتيهم فيكون الافتعالِ بمعنى الفعلِ كالاحتمالِ بمعنى الحملِ والارتحالِ بمعنى الرِّحلةِ ويعضدُه القراءةُ بالتَّخفيفِ كما ذكره الكواشيُّ وقوله تعالى
174
﴿سلام﴾ على التَّقديرِ الأوَّلِ بدلٌ من ما يدَّعُون أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وقوله تعالى ﴿قَوْلاً﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لفعل هو صفة لسلامٌ وما بعده من الجارِّ متعلِّقٌ بمضمر هو صفةٌ له كأنَّه قيل ولهم سلامٌ أو ما يدَّعُون سلامٌ يُقال لهم قَولاً كائناً ﴿مِنْ﴾ جهةِ ﴿رَّبّ رَّحِيمٍ﴾ أي يُسلَّم عليهم من جهتِه تعالى بواسطة المَلَكِ أو بدونِها مبالغةً في تعظيمهم قال ابن عباس رضي الله عنهما والملائكةُ يدخلُون عليهم بالتَّحيةِ من ربِّ العالمين وأمَّا على التَّقديرِ الثَّاني فقد قيل إنَّه خبرٌ لمَا يدَّعُون ولهم لبيان الجهةِ كما يُقال لزيدٍ الشَّرفُ متوفِّرٌ على أنَّ الشَّرفَ مبتدأٌ ومتوفِّرٌ خبرُه والجارُّ والمجرورُ لبيانِ مَن له ذلك أي ما يدَّعُون سالمٌ لهم خالصٌ لا شوبَ فيهِ وقولاً حينئذٍ مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي عدةٌ من ربَ رحيمٍ والأوجَهُ أنْ ينتصبَ على الاختصاصِ وقيل هو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ لهم سلامٌ أي تسليمٌ قَوْلاً من رَّبّ رَّحِيمٍ أو سلامةٌ من الآفاتِ فيكون قولاً مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملة كما سبقَ وقيل تقديرُه سلامٌ عليهم فيكون حكايةً لما سيقالُ لهم من جهتِه تعالى يومئذٍ وقيل خبرُه الفعلُ المقدَّر ناصباً لقولاً وقيل خبرُه من ربَ رحيمٍ وقرئ سلاماً بالنَّصبِ على الحاليَّةِ أي لهم مرادُهم سالماً خالصا وقرئ سلمٌ وهو بمعنى السَّلامِ في المعنيينِ
﴿وامتازوا اليوم﴾ عطفٌ إمَّا على الجملة السَّابقةِ المسوقة لبيان أحوالِ أهل الجنَّةِ لاعلى أنَّ المقصودَ عطف فعل الأمر بخصوصه حتى يتمحل له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه بل على أنَّه عطفُ قصَّةِ سوء حال هؤلاءِ وكيفيَّة عقابِهم على قصَّةِ حُسن حال أولئك ووصف ثوابِهم كما مرَّ في قوله تعالى ﴿وَبَشّرِ الذين آمنوا﴾ الآيةَ وكأنَّ تغييرُ السَّبكِ لتخييل كمالِ التَّباينِ بين الفريقينِ وحاليهما وإمَّا على مضمَرٍ ينساق إليه حكايةُ حال أهل الجنَّةِ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ كونِهم في شغل عظيمِ الشَّأنِ وفوزهم بنعيم مقيمٍ يقصرُ عنه البيانُ فليقرُّوا بذلك عيناً وامتازُوا عنهم ﴿أَيُّهَا المجرمون﴾ إلى مصيرِكم وعن قَتادةَ اعتزلُوا عن كل خير وعن الضَّحَّاكِ لكلِّ كافر بيتٌ من النَّارِ يكون فيه لا يَرى ولا يُرى وأمَّا ما قيل من أنَّ المضمرَ فليمتازوا فبمعزلٍ من السَّدادِ لما أنَّ المحكيَّ عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضيةِ حتَّى يتسنَّى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنَّما هو استقرارُهم عليها بالفعل وكونُ ذلك بطريق تنزيل المترقَّبِ منزلةَ الواقع لا يُجدي نفعاً لأنَّ مناطَ الإضمار إنسياقُ الافهام إليه وانصباب
174
يس ٦٠ ٦٢ نظم الكلامِ عليه فبعد ما نزلت تلك الحالة منزلَة الواقع بالفعل لما اقتضاه المقامُ من النُّكتةِ البارعة والحكمة الرَّائعةِ حسبما مرَّ بيانه وأسقط كونها مترَّقبةً عن درجة الاعتبار بالكُلِّيةِ يكون التصدي لإضمار شئ يتعلَّقُ به إخراجاً للنَّظمَ الكريم عن الجَزالة بالمرَّةِ
175
﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدَم أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان﴾ من جُملة ما يُقال لهم بطريق التَّقريعِ والإلزام والتَّبكيتِ بين الأمر بالامتياز وبين الأمر بدخول جهنَّمَ بقوله تعالى اصلوها اليوم الخ والعهد الوصَّيةُ والتَّقدُّمُ بأمر فيه خير ومنفعة والمراد ههنا ما كلَّفهم الله تعالى على ألسنةِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ من الأوامرِ والنواهي التي من جملتها قوله تعالى يا بني آدم لا يفتتنكم الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة الآيةَ وقوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وغيرهما من الآياتِ الكريمةِ الواردةِ في هَذا المعنى وقيل هو الميثاق المأخوذُ عليهم حين أُخرجوا من ظهور بني آدمَ وأُشهدوا على أنفسهم وقيل هو ما نُصب لهم من الحُجج العقليَّةِ والسمعيَّةِ الآمرةِ بعبادته تعالى الزَّاجرةِ عن عبادة غيرِه والمرادُ بعبادة الشَّيطانِ طاعتُه فيما يُوسوس به إليهم ويزيِّنه لهم عبرَّ عنها بالعبادة لزيادة التَّحذيرِ والتَّنفيرِ عنها في مقابلة عبادته عزَّ وجل وقرئ إِعهد بكسرِ الهمزة وأعهِد بكسر الهاء وأحهد الحاء مكان العين وأحد بالإدغامِ وهي لغةُ بني تميمٍ ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي ظاهرَ العداوةِ وهو تعليلٌ لوجوب الانتهاء عن المنهيِّ عنه وقيل تعليل للنَّهيِ
﴿وَأَنِ اعبدونى﴾ عطفٌ على أنْ لا تعبدوا على أنَّ أنْ فيهما مفسِّرةٌ للعهد الذي فيه معنى القول بالنهي والأمر أو مصدريةٌ حذف عنها الجار أي ألم أعهد إليكم في ترك عبادةِ الشَّيطانِ وفي عبادتي وتقديم النَّهي على الأمر لما أنَّ حق التخلية التقدم على التحلية كما في كلمة التَّوحيدِ وليتصل به قوله تعالى ﴿هَذَا صراط مُّسْتَقِيمٌ﴾ فإنَّه إشارة إلى عبادته تعالى التي هي عبارةٌ عن التَّوحيدِ والإسلام وهو المشار إليه بقوله تعالى هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ والمقصود بقوله تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم والتَّنكيرُ للتَّفخيمِ واللام في قوله تعالى
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ جوابُ قسمٍ محذوف والجملة استئناف مَسوق لتشديد التَّوبيخِ وتأكيد التَّقريعِ ببيان أن جناياتِهم ليستْ بنقض العهدِ فقط بل به وبعدم الاتِّعاظِ بما شاهدوا من العقوبات النَّازلةِ على الأُمم الخاليةِ بسبب طاعتهم للشَّيطانِ فالخطابُ لمتأخِّريهم الذين من جُملتهم كُفَّارُ مكَّةَ خُصُّواً بزيادة التَّوبيخِ والتَّقريعِ لتضاعف جناياتهمِ والجِبِلُّ بكسرِ الجيم والباءِ وتشديدِ اللاَّم الخلق وقرئ بضمَّتينِ وتشديدٍ وبضمَّتينِ وتخفيفٍ وبضمَّةٍ وسكونٍ وبكسرتينِ وتخفيفٍ وبكسرةٍ وسكونٍ والكلُّ لغاتٌ وقرئ جِبَلاً جمعُ جِبْلةٍ كفِطَرٍ وخلق في فطرة وخلقة وقرئ جِيْلاً بالياء وهو الصِّنفُ من النَّاسِ أي وبالله لقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيرا أو صنفا
175
يس ٦٣ ٦٦ كثيراً عن ذلك الصِّراطِ المستقيم الذي أمرتُكم بالثَّباتِ عليه فأصابهم لأجلِ ذلك ما أصابَهم من العُقوبات الهائلةِ التي ملأ الآفاقَ أخبارُها وبقي مدى الدَّهرِ آثارُها والفاءُ في قوله تعالى ﴿أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ﴾ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أكنتُم تشاهدونَ آثارَ عقوباتِهم فلم تكونوا تعقلون أنَّها لضُلاَّلهِم أو فلم تكونُوا تعقلون شيئاً أصلاً حتَّى ترتدعُوا عمَّا كانُوا عليه كيلا يحيقَ بكم العقابُ وقولُه تعالَى
176
﴿هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ استئنافٌ يخاطَبون به بعد تمامِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ والإلزام والتبكيت عن إشرافهم على شفير جهنَّمَ أي كنتم تُوعدونها على ألسنةِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بمقابلة عبادة الشَّيطانِ مثل قولِه تعالى لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أجمعين وقوله تعالى ﴿قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا﴾ وقولِه تعالى ﴿قال اخرج منها مذؤوما مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وغير ذلك مما لا يُحصى وقوله تعالى
﴿اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أمر تنكيل وإهانة كقولِه تعالى ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز﴾ الخ أي ادخلُوها من فوق وقاسُوا فنون عذابِها اليَّومَ بكفرِكم المستمرِّ في الدُّنيا وقوله تعالى
﴿اليوم نَخْتِمُ على أفواههم﴾ أي ختماً يمنعُها عن الكلامِ التفاتٌ إلى الغَيبة للإيذانِ بأنَّ ذكر أحوالِهم القبيحةِ استدعى أنْ يُعرَض عنهم ويَحكي أحوالَهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماءِ إلى أنَّ ذلك من مقتضيات الختم لأنَّ الخطاب لتلقِّي الجواب وقد انقطع بالكلية وقرئ تَختم ﴿وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ يُروى أنَّهم يجحدون ويُخاصمون فيشهد عليهم جيرانُهم وأهاليهم وعشائرُهم فيحلفون ما كانُوا مشركين فحينئذٍ يُختم على أفواهِهم وتكلم أيديهم وأرجلُهم وفي الحديث يقول العبدُ يوم القيامة إنِّي لا أجيزُ عليَّ شاهداً إلا من نفسي فيُختم على فيهِ ويقال لأركانِه انطقي فتنطقُ بأعماله ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بُعداً لكنَّ وسُحقاً فعنكنَّ كنتُ أناضلُ وقيل تكليمُ الاركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهورُ آثارِ المعاصي عليها وقرئ وتتكلم أيديهم وقرئ ولتكلَّمَنا أيديهم وتشهد بلام كَيْ والنَّصبِ على معنى ولذلك نختِم على أفواهِهم وقرئ ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمرِ والجزمِ
﴿وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ﴾ الطَّمسُ تعفيةُ شقِّ العينِ حتَّى تعودَ ممسوحةً ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّةِ التي هي وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء أي لو نشاء أنْ نطمسَ على أعينهم لفعلناه وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضيِّ لإفادة أن عدمَ الطَّمس على أعينهم لاستمرار عدمِ المشيئة فإنَّ المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرارِ
176
يس ٦٧ ٦٩ الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه بحسب المقام كما مرَّ في قوله تعالى وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير ﴿فاستبقوا الصراط﴾ أي فأرادوا أنْ يستبقُوا إلى الطَّريقِ الذي اعتادُوا سلوكَه على أنَّ انتصابه بنزع الجارِّ أو هو بتضمين الاستباقِ معنى الابتدارِ أو بالظَّرفيةِ ﴿فأنى يُبْصِرُونَ﴾ الطَّريقَ وجهة السلوك
177
﴿وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم﴾ بتغيير صُورِهم وإبطال قواهم ﴿على مكانتهم﴾ أي مكانِهم إلاَّ أن المكانة أخصُّ كالمَقامةِ والمقام وقرىء على مكاناتهم أي لمسخناهم مسخاً يُجمِّدهم مكانَهم لا يقدرون أنْ يبرحُوه بإقبالٍ ولا إدبارٍ ولا رجوعٍ وذلك قوله تعالى ﴿فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي ولا رجوعاً فوُضعَ موضعَه الفعلُ لمراعاةِ الفاصلةِ عن ابن عباس رضي الله عنهما قردةً وخنازيرَ وقيل حجارةً وعن قَتادةَ لأقعدناهم على أرجلِهم وأزمنَّاهم وقُرىء مِضيّا بكسر الميمِ وفتحها وليسَ مساقُ الشَّرطيتينِ لمجرد بيانِ قدرتِهِ تعالَى على ما ذُكر من عقوبة الطَّمسِ والمسخ بل لبيان أنَّهم بما هم عليه من الكفر ونقض العهد وعدم الاتِّعاظِ بما شاهدُوا من آثارِ دمارِ امثالهم احفاء بأنْ يُفعلَ بهم في الدُّنيا تلك العقوبة كما فُعل بهم في الآخرةِ عقوبةُ الختمِ وأنَّ المانع من ذلك ليس إلاَّ عدمُ تعلُّقَ المشيئة الإلهيَّةِ به كأنَّه قيل لو نشاء عقوبتَهم بما ذُكر من الطَّمسِ والمسخ جرياً على موجب جناياتهم المستدعيةِ لها لفعلناها ولكنَّا لم نشأها جرياً على سَننِ الرَّحمةِ والحكمة الدَّاعيتينِ إلى إمهالهم
﴿وَمَن نّعَمّرْهُ﴾ أي نُطل عمره ﴿نُنَكّسْهُ فِى الخلق﴾ أي نقلبْه فيه ونخلقْه على عكسِ ما خلقناه أوَّلاً فلا يزال يتزايدُ ضعفُه وتتناقصُ قوَّتُه وتُنتقص بنيتُه ويتغير شكلُه وصورتُه حتَّى يعودَ إلى حالةٍ شبيهةٍ بحال الصبيِّ في ضعف الجسدِ وقلَّةِ العقلِ والخلوِّ عن الفهمِ والإدراكِ وقُرىء نَنكُسْه من الثُّلاثيِّ المجرَّدِ ونُنْكِسه من الإنكاسِ ﴿أَفَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي أيرَون ذلك فلا يعقلون اما مَنْ قدَرَ على ذلكَ يقدِرُ على ما ذُكر من الطَّمسِ والمسخِ وأنَّ عدم إيقاعِهما لعدم تعلُّقِ مستئنه تعالى بهما تعقلون بالتَّاءِ لجري الخطابِ قبلَه
﴿وَمَا علمناه الشعر﴾ ردٌّ وإبطالٌ لما كانُوا يقولونَه في حقه ﷺ من أنَّه شاعرٌ وما يقولُه شعرٌ أي ما علَّمناه الشِّعرُ بتعليمِ القُرآن على معنى أنَّ القُرآنَ ليسَ بشعرٍ فإنَّ الشِّعرَ كلامٌ متكلَّفٌ موضوعٌ ومقالٌ مزخرَفٌ مصنوعٌ منسوجٌ على منوالِ الوزن والقافيةَ مبنيٌّ على خيالاتٍ وأوهامٍ واهيةٍ فأين ذلك من التَّنزيلِ الجليلِ الخطِرِ المنزَّهِ عن مماثلةِ كلامِ البشر المشحون بفُنونِ الحِكَمِ والأحكامِ الباهرةِ الموصِّلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ ومن اين اشتبه عليهم الشئون واختلطَ بهم الظُّنون قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون ﴿وَمَا يَنبَغِى لَهُ﴾ وما يصحُّ له الشِّعرُ ولا يتأتَّى له لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرضَ الشِّعِر لم يتأتَّ له كما جعلناه أميَّاً لا يهتدي للخطِّ لتكون الحجَّةُ أثبتَ والشُّبهةُ أدحضَ واما قوله ﷺ أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابن عبد
177
يس ٧٠ ٧٢ المطلب وقوله ﷺ هل أنتِ إلا أصبعٌ دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ فمنْ قبيلِ الاتفِّاقاتِ الواردةِ من غير قصدٍ إليها وعزمٍ على ترتيبها وقيل الضَّميرُ في له للقُرآنِ أي وما ينبغي للقُرآنِ أنْ يكونَ شِعراً ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي مَا القرآن ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ أي عظةٌ من الله عز وجل وإرشادٌ للثَّقلين كما قال تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين ﴿وَقُرْآنٌ مُّبِين﴾ أي كتابٌ سماويٌّ بيِّنٌ كونه كذلك أو فارقٍ بين الحقِّ والباطلِ يُقرأ في المحاريبِ ويُتلى في المعابدِ ويُنال بتلاوتِه والعملِ بما فيه فوزُ الدَّارينِ فكم بينَهُ وبينَ ما قالُوا
178
﴿لّيُنذِرَ﴾ أي القُرآنُ أو الرسول ﷺ ويؤبده القراءة بالتاء وقرئ لينذر من نذر به أي علمه وليُنذرَ مبنيَّا للمفعولِ من الإنذارِ ﴿مَن كَانَ حَيّاً﴾ أي عاقِلاً متأمِّلاً فإنَّ الغافلَ بمنزلةِ الميِّتِ أو مؤمناً في علمِ الله تعالى فإن الحياةَ الأبديَّةَ بالإيمانِ وتخصيصُ الإنذار به لأنَّه المنتفعُ به ﴿وَيَحِقَّ القول﴾ أي تجبُ كَلِمَةُ العذابِ ﴿عَلَى الكافرين﴾ المصرِّين على الكفرِ وفي إيرادِهم بمقابلةِ مَن كان حيّاً إشعارٌ بأنَّهم لخلوِّهم عن آثارِ الحياةِ وأحكامِها التي هي المعرفةُ أمواتٌ في الحقيقةِ
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ الهمزةُ للإنكارِ والتعجيب والواو للعطف على جملةٍ منفيِّةٍ مقدَّرةٍ مستتبعةٍ للمعطوفِ أي ألم يتفكرَّوا أو ألم يلاحظُوا ولم يعلمُوا علماً يقينيّاً مُتاخِماً للمُعاينةِ ﴿أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم﴾ أي لأجلِهم وانتفاعِهم ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ أي ممَّا تولينا إحداثَه بالذَّاتِ وذكرُ الأيدي وإسنادُ العمل إليها إستعارةٌ تفيد مبالغة في الاختصاص والتَّفردِ بالأحداث والاعتناء به ﴿أنعاما﴾ مفعولُ خلقنَا وتأخيره عن الجارَّينِ المتعلِّقين به مع أنَّ حقَّه التَّقدمُ عليهما لما مرَّ مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً لهُ فيتمكنُ عندَ ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ لا سيما عند كونِ المقدم منبئاً عن كونِ المؤخَّر أمراً نافعاً خطيراً كما في النَّظمِ الكريم فإنَّ الجارَّ الأول المُعربَ عن كون المؤخَّرِ من منافعهم والثَّاني المفصح عن كونه من الأمورِ الخطيرةِ يزيدان النَّفسَ شوقاً إليه ورغبةً فيه ولأنَّ في تأخيره جمعاً بينه وبين أحكامِه المتفرعة عليه بقوله تعالى ﴿فَهُمْ لَهَا مالكون﴾ الآيات الثلاث أي فملكناها إيَّاهمُ وإيثارُ الجملة الاسميةِ على ذلك للدِّلالةِ على استقرارِ مالكِّيتِهم لها واستمرارِها والَّلامُ متعلِّقةٌ بمالكون مقوَّيةٌ لعمله أي فهُم مالِكون لها بتمليكنا إياها لهم متصرِّفون فيها بالاستقلالِ مختصُّون بالانتفاع بها لا يزاحمهم في ذلك غيرهم أو قادرون على ضبطها متمكنون من الصرف فيها بأقدارِنا وتمكيننا وتسخيرِنا إيَّاها لهم كما في قولِ مَن قال... أصبحتُ لا أحملُ السِّلاحَ ولا... أملكُ رأسَ البعيرِ إنْ نفرا...
والأَوَّلُ هو الأظهرُ ليكون قوله تعالى
﴿وذللناها لَهُمْ﴾ تأسيساً لنعمةٍ على حيالِها لا تتمَّةً لما قبلها أي صيَّرناها منقادةً لهم بحيثُ لا تستعصى عليهم في شئ مَّما يُريدون بها حتَّى الذبح
178
يس ٧٣ ٧٦ حسبما ينطِق به قوله تعالى ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ الخ فإنَّ الفاء فيه لتفريع أحكام التَّذليلِ عليه وتفصيلها أي فبعضٌ منها ركوبُهم أي مركوبُهم أي معظم منافعها الرُّكوبُ وعدم التَّعرضِ للحمل لكونِه من تتمَّاتِ الركوب وقرئ ركوبتُهم وهي بمعناه كالحَلوبِ والحَلوبةِ وقيل الرَّكوبةُ اسم جمع وقرئ رُكوبُهم أي ذُو رُكوبِهم ﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ أي وبعضٌ منها يأكلون لحمه
179
﴿وَلَهُمْ فِيهَا﴾ أي في الأنعامِ بكِلا قسميها ﴿منافع﴾ أخر غير الركوب والأكل كالجلودِ والأصوافِ والأوبارِ وغيرِها وكالحِراثةِ بالثِّيران ﴿ومشارب﴾ من اللَّبنِ جمع مَشربٍ وهذا مجمل ما فُصِّل في سورة النَّحلِ ﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي أيُشاهدون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَ المنعمَ بها
﴿واتخذوا مِن دُونِ الله﴾ أي متجاوزينَ الله تعالى الذي شاهدُوا تفرُّدَه بتلك القدرةِ الباهرةِ وتفضُّله عليهم بهاتيك النعم المتظاهرة ﴿آلهة﴾ من الأصنام وأشركوهَا به تعالَى في العبادةِ ﴿لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ﴾ رجاءَ أنْ يُنصروا من جهتِهم فيما حزبَهم من الأمورِ أو يشفعُوا لهم في الآخرةِ وقولُه تعالَى
﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾ الخ استئنافٌ سيق لبيانُ بُطلانِ رأيِهم وخَيبةُ رجائِهم وانعكاسِ تدبيرِهم أي لا تقدرُ آلهتُهم على نصرِهم ﴿وَهُمْ﴾ أي المشركون ﴿لَهُمْ﴾ أي لآلِهتهم ﴿جُندٌ مٌّحْضَرُونَ﴾ يشيِّعونهم عند مساقِهم إلى النَّارِ وقيل مُعَدُّون في الدُّنيا لحفظِهم وخدمتِهم والذبِّ عنهم ولا يساعده مساقُ النَّظمِ الكريم فإنَّ الفاءَ في قولِهِ تعالى
﴿فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ لترتيبِ النهْيِ على ما قبله فلابد أنْ يكونَ عبارةً عن خسرانِهم وحرمانِهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ وانعكاسُ الأمر عليهم بترتيب الشر على مارتبوه لرجاء الخير فإن ذلك مما يُهوِّن الخطْبَ ويورث السَّلوةَ وأما كونُهم معدِّين لخدمتِهم وحفظِهم فبمعزلٍ من ذلكَ والنَّهيُ وإن كان بحسب الظاهر متوجِّهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجِّهٌ إلى رسول الله ﷺ ونهيٌ له عليه السَّلامُ عن التأثر منه بطريقِ الكنايةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشئ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وإبطالٌ للسَّببيةِ وقد يوجِّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السَّببِ كما في قولِه لا أرينك هَهُنا يريد به نهيَ مخاطِبَه عن الحضورِ لديهِ والمرادُ بقولهم ما ينبئ عنه ما ذكر من اتِّخاذهم الأصنامَ آلهةً فإنَّ ذلكَ مما لا يخلُو عن التَّفوه بقولِهم هؤلاءِ آلهتُنا وأنهم شركاءُ لله سبحانه في المعبوديةِ وغير ذلك مَّما يُورث الحزنَ وقرئ يُحزِنك بضمِّ الياء وكسرِ الزَّايِ من أحزنَ المنقولِ من حزِن اللازمِ وقوله تعالى ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ تعليلٌ صريحٌ للنَّهي بطريقِ الاستئنافِ بعد تعليلهِ بطريقِ الإشعارِ فإنَّ العلمَ بما ذُكر مستلزمٌ للمجازاةِ قطعاً أي إنَّا نجازيهم بجميعِ جناياتهم الخافية
179
يس ٧٧ والباديةِ التي لا يعزُبُ عن علمنا شئ منها وفيه فضلُ تسليةٍ لرسول الله ﷺ وتقديمُ السرِّ على العلن إمَّا للمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه تعالى لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمَه تعالى بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونَه مع استوائِهما في الحقيقةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجود كل شئ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وإما لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذ ما من شئ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ قبل ذلك فتعلّقُ علمِهِ تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتهِ الثَّانية حقيقة
180
﴿أو لم يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ﴾ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ إنكارِهم البعثِ بعد ما شاهدوا في أنفسِهم أوضحَ دلائلهِ وأعدلَ شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلانِ إشراكهم بالله تعالى بعد ما عاينُوا فيما بأيديهم ما يوجب التَّوحيدَ والإسلامَ وأما ما قيل من أنه تسليةٌ ثانيةٌ لرسولِ الله ﷺ بتهوينِ ما يقولونَهُ بالنِّسبةِ إلى إنكارِهم الحشرَ فكَلاَّ والهمزةُ للإنكارِ والتَّعجيبِ والواوُ للعطفِ عَلى جملةٍ مقدَّرةٍ هي مستتبعة للمعطوفِ كما مرَّ في الجملة الإنكارية السابقةِ أي ألم يتفكر الإنسانُ ولم يعلم علماً يقينياً أنا خلقناهُ من نطفةٍ الخ أو هي عين الجملة السابقةِ أعيدتْ تأكيداً للنكيرِ السَّابقِ وتمهيداً لإنكارِ ما هو أحقُّ منه بالإنكارِ والتَّعجيبِ لما أنَّ المنكرَ هناك عدمُ علمهم بما يتعلق بخلق اسباب معايشهم وههنا عدم علمهم بما يتعلق بخلقِ أنفسهم ولا ريبَ في أن علمَ الإنسانِ بأحوالِ نفسهِ أهمُّ وإحاطته بها أسهلُ وأكملُ فالإنكارُ والتَّعجيبُ من الإخلالِ بذلك أدخلُ كأنَّه قيل ألم يعلمُوا خلقَه تعالى لأسبابِ معايشهم ولم يعلمُوا خلقَه تعالى لأنفسِهم أيضاً مع كونِ العلمِ بذلك في غايةِ الظُّهور ونهايةِ الأهميةِ على معنى أنَّ المنكر الأول بعيدٌ قبيحٌ والثاني أبعدُ وأقبحُ ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ لعطفِ الجملةِ الإنكاريَّةِ الثَّانيةِ على الأُولى على أنَّها متقدِّمة في الاعتبارِ وأنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها لاقتضائها الصَّدارة في الكلامِ كما هو رأيُ الجمهورِ وإيرادُ الإنسانِ موردَ الضَّميرِ لأنَّ مدارَ الإنكارِ متعلِّقٌ بأحوالهِ من حيثُ هو إنسانٌ كما في قولِه تعالى أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ من قبل ولم يك شَيْئاً وقولُه تعالى ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ أي شديدُ الخُصومةِ والجدالِ بالباطلِ عطفٌ على الجملةِ المنفيَّةِ داخل في حيز الإنكار والتَّعجيبِ كأنَّه قيل أولم يَرَ أنَّا خلقناهُ من أخسِّ الأشياءِ وأمهنِها ففاجأ خصومتنا في أمرٍ يشهدُ بصحَّتهِ وتحقُّقهِ مبدأُ فطرته شهادةً بيِّنةً وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للدِّلالةِ على استقرارِه في الخُصومةِ واستمرارِه عليها رُوي أنَّ جماعةً من كفَّارِ قُريشٍ منهم أُبيَّ بنَ خلفٍ الجُمَحي وأبُو جهلٍ والعاصِ بنُ وائلٍ والوليدُ بنُ المغيرة تكلَّموا في ذلكَ فقال لهم أبيُّ بنُ خلفٍ ألا ترون إلى ما يقولُ محمدٌ إنَّ اللَّهَ يبعثُ الأمواتَ ثم قال واللاَّتِ والعُزَّى لأَصيرنَّ إليه ولأخصِمنَّه وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتُّه بيدِه ويقولُ يا محمَّدُ أترى الله يُحيي هذا بعد مارم قال ﷺ نعم ويبعثُك ويُدخلكَ جهنَّم فنزلتْ وقيل معنى قولَه تعالى فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ فإذا هُو بعدما كانَ ماءً مَهيناً رجلٌ مميِّزٌ منطيقٌ قادرٌ على الخصامِ مبينٌ مُعرِبٌ عمَّا في نفسِه فصيحٌ فهو حينئذ معطوف على خلقناه غيرُ داخلٍ تحت الإنكار والتَّعجيبِ بل هو من مُتمَّماتِ شواهدِ صحَّةِ البعثِ فقوله تعالى
180
يس
181
٧٨ - ٨٠ ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً﴾ معطوفٌ حينئذٍ على الجُملة المنفيَّةِ داخل في حيز الإنكار والتَّقبيحِ وأمَّا على التَّقديرِ الأوَّلِ فهو عطفٌ على الجملة الفُجائيَّةِ والمعنى ففاجأ خصومتنا وضربَ لنا مَثَلاً أي أوردَ في شأنِنا قصَّةً عجيبةً في نفس الأمرِ هي في الغرابةِ والبُعدِ عن العقولِ كالمَثَلِ وهي إنكارُ إحيائنا العظامَ أو قصَّةً عجيبةً في زعمه واستبعدَها وعدَّها من قبيلِ المَثَلِ وأنكرَها أشدَّ الإنكارِ وهي إحياؤُنا إيَّاها وجعلَ لنا مَثَلاً ونظيراً من الخلقِ وقاسَ قُدرتنا على قُدرتهِم ونفى الكلَّ على العمومِ وقوله تعالى ﴿وَنَسِىَ خَلْقَهُ﴾ أي خلقَنا إيَّاهُ على الوجهِ المذكورِ الدَّالِّ على بُطلانِ ما ضربه إمَّا عطفٌ على ضربَ داخلٌ في حيِّزِ الإنكار والتعجيب أو حالٌ من فاعلِه بإضمار قد أو بدونه وقولُه تعالى ﴿قَالَ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ ضربهِ المثلَ كأنَّه قيل أيَّ مَثَلٍ ضربَ أو ماذا قال فقيل قال ﴿من يحيي العظام﴾ منكِراً له أشدَّ النَّكيرِ مؤكِّداً له بقوله تعالى ﴿وَهِىَ رَمِيمٌ﴾ أي باليةٌ أشدَّ البلى بعيدةٌ من الحياةِ غاية البُعدِ فالمَثَلُ على الأوَّلِ هو إنكارُ إحيائهِ تعالى للعظامِ فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في نفسِ الأمرِ حقيقٌ لغرابتهِ وبُعدهِ من العقولِ بأنْ يُعدَّ مثلاً ضرورةَ جزمِ العقول ببطلانِ الإنكارِ ووقوعِ المنكرِ لكونهِ كالإنشاءِ بل أهونُ منْهُ في قياسِ العقلِ وعلى الثَّاني هو إحياؤُه تعالى لها فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في زعمهِ قد استبعدَهُ وعدَّه من قبيلِ المثل وأنكرَهُ أشدَّ الإنكارِ مع أنَّه في نفس الأمر أقرب شئ من الوقوعِ لما سبقَ من كونه مثلَ الإنشاءِ أو أهونَ منه وأما على الثَّالثِ فلا فرقَ بين أنْ يكون المَثَلُ هو الإنكارَ أو المنكرَ وعدمُ تأنيثِ الرَّميمِ مع وقوعهِ خبراً للمؤنَّثِ لأنَّه اسمٌ لما بَلِيَ من العظامِ غير صفة كالرُّفاتِ وقد تمسَّك بظاهرِ الآيةِ الكريمةِ من أثبتَ للعظمِ حياةً وبنى عليه الحكم بنجاسةِ عظمِ الميتةِ وأما أصحابُنا فلا يقولونَ بحياته كالشَّعرِ ويقولون المرادُ بإحياءِ العظامِ ردُّها إلى ما كانتْ عليهِ من الغضاضةِ والرُّطوبةِ في بدنٍ حيَ حسَّاسٍ
﴿قُلْ﴾ تبكيتاً له بتذكيرِ ما نسبه من فطرته الدالَّةِ على حقيقةِ الحال وإرشاده إلى طريقةِ الاستشهادِ بها ﴿يُحْيِيهَا الذى أنشأها أول مرة﴾ فإنَّ قدرتَهُ كما هي لاستحالةِ التَّغير فيها والمادَّةُ على حالِها ﴿وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ مبالغٌ في العلمِ بتفاصيلِ كيفيَّاتِ الخلقِ والإيجادِ إنشاءً وإعادةً محيطٌ بجميعِ الأجزاءِ المتفتتة المتبدِّدةِ لكلِّ شخصٍ من الأشخاصِ أصولها وفروعها وأوضاعِ بعضها من بعضٍ من الاتِّصالِ والانفصالِ والاجتماعِ والافتراقِ فيعيدُ كلاًّ من ذلك على النَّمطِ السَّابقِ مع القُوى التي كانتْ قبلُ والجملةُ إما اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ الجوابِ أو معطوفةٌ على الصِّلةِ والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للتَّنبيهِ على أن علمُه تعالَى بما ذُكر أمرٌ مستمرٌّ ليسَ كإنشائهِ للمنشآتِ وقولُه تعالى
﴿الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً﴾ بدلٌ من الموصولِ الأولِ وعدمُ الاكتفاءِ بعطف صلتهِ على صلته
181
يس ٨١ ٨٣ للتَّأكيدِ ولتفاوتهما في كيفيَّةِ الدِّلالةِ أي خلقَ لأجلكم ومنفعتِكم منه ناراً على أنَّ الجعلَ إبداعيٌّ والجارَّانِ متعلِّقانِ به قُدِّما على مفعوله الصريح مع تأخيرهما عنه رتبةً لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّرِ ووصفُ الشَّجرِ بالأخضرِ نظراً إلى اللَّفظِ وقد قُرىء الخضراءِ نظراً إلى المَعْنى وهو المَرخُ والعفارُ يقطعُ الرَّجلُ منهما عُصيَّتينِ مثل السِّواكينِ وهما خَضْراوانِ يقطرُ منهما الماءُ فيسحقُ المرخَ وهو ذكرٌ على العفارِ وهو أُنثى فتنقدحُ النَّارُ بإذنِ الله تعالى وذلك قوله تعالى ﴿فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ﴾ فمن قدرَ على إحداثِ النَّارِ من الشَّجرِ الأخضرِ مع ما فيه من المائيَّةِ المُضادَّةِ لها بكيفيَّتهِ كان أقدرَ على إعادةِ الغضاضةِ إلى ما كان غضًّا فطرأ عليه اليبوسةُ والبلى وقولِه تعالى
182
﴿أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السماوات والارض﴾ الخ استئنافٌ مَسوقٌ من جهته عزَّ وجلَّ لتحقيق مضمون الجوابِ الذي امر ﷺ بأنْ يُخاطبهم بذلك ويُلزمهم الحجَّة والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أليسَ الذى أنشأها أول مرة وليس الذي جعلَ لهم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً وليسَ الذى خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ مع كِبر جِرمِهما وعظم شأنهما ﴿بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ في الصِّغرِ والقَمَاءةِ بالنسبةِ إليهما فإنَّ بديهةَ العقلِ قاضيةٌ بأن مَن قدَر على خلقهما فهو على خَلْقِ الأناسيِّ أقدرُ كما قال تعالى ﴿لخلق السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ وقُرىء يقدِرُ وقوله تعالى ﴿بلى﴾ جوابٌ من جهتهِ تعالى وتصريحٌ بما أفادَه الاستفهامُ الإنكارِيُّ من تقريرِ ما بعد النَّفيِ وإيذانٌ بتعيُّنِ الجوابِ نطقُوا به أو تلعثمُوا فيه مخافة الإلزامِ وقولُه تعالى ﴿وَهُوَ الخلاق العليم﴾ عطفٌ على ما يفيدُه الإيجابُ أي بَلَى هو قادرٌ على ذلكَ وهو المبالغُ في الخلقِ والعلم كَيْفاً وكمًّا
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ﴾ أي شأنُه ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئاً﴾ من الأشياءِ ﴿أَن يَقُولَ لَهُ كُن﴾ أي أنْ يعلِّقَ به قدرته ﴿فَيَكُونُ﴾ فيحدُثُ من غير توقفٍ على شيءٍ آخرَ أصلاً وهذا تمثيل لقدرته تعالى فيما أرادَه بأمرِ الآمرِ المُطاعِ المأمورِ المطيعِ في سرعةِ حصولِ المأمورِ به من غيرِ توقفٍ على شيء مَا وقُرىء فيكونَ بالنَّصب عطفاً على يقولَ
﴿فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء﴾ تنزيهٌ له عزَّ وعلا عمَّا وصفُوه تعالى به وتعجيبٌ ممَّا قالوا في شأنهِ تعالى وقد مر تحقيق معنى سبحانَ والفاءُ للإشارةِ إلى أنَّ ما فُصِّل من شئونه تعال موجبةٌ لتنزُّهه وتنزيههِ أكملَ إيجابٍ كما أنَّ وصفَه تعالى بالمالكيةِ الكلِّيةِ المُطلقة للإشعارِ بأنَّها مقتضيةٌ لذلك أتمَّ اقتضاءٍ والملكوتُ مبالغةٌ في المُلكِ كالرَّحموتِ والرَّهبوتِ وقُرىء ملكةُ كلِّ شيءٍ ومملكةُ كلِّ شيءٍ ومُلكُ كلِّ شيءٍ ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ لا إلى غيرِه وقُرىء تَرجِعون بفتح التاء من الرُّجوعِ وفيهِ من الوعدِ والوعيد مالا يَخْفى عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما كنتُ لا أعلمُ ما رُوي في فصائل يس
182
الصافات ١ ٣ وقر اءتها كيف خُصَّتْ بذلك فإذا أنه لهذه الآيةِ قالَ رسول الله ﷺ إنَّ لكلِّ شيءٍ قَلباً وإن قلب القرآن يس مَن قَرأها يريدُ بها وجهُ الله تعالى غفرَ اللَّهُ له وأُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأ القُرآنَ اثنين وعشرينَ مرَّةً وأيَّما مسلمٍ قُرىء عنده إذَا نزل به مَلَكُ الموتِ سورةُ يس نزلَ بكلِّ حرفٍ منها عشرةُ أملاكٍ يقومون بين يديهِ صفوفاً يصلُّون عليهِ ويستغفرونَ له ويشهدونَ غسلَهُ ويتبعونَ جنازتَهُ ويصلُّون عليهِ ويشهدون دفنَهُ وأيَّما مسلمٍ قرأ يس في سكراتِ الموتِ لم يقبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حتَّى يجيئه رَضوانُ خازنُ الجنَّةِ بشربةٍ من شراب الجنَّةِ فيشربها وهو عَلى فراشِه فيقبضُ مَلَكُ الموتِ رُوحَه وهو ريَّانُ ويمكثُ في قبرهِ وهو ريَّانُ ولا يحتاجُ إلى حوضٍ من حياض الأنبياءِ حتَّى يدخلَ الجنَّة وهو ريَّانُ وقال ﷺ إنَّ في القُرآنِ سورةً تشفعُ لقارئِها وتستغفرُ لمستمِعها ألا وهي سورة يس
سورة الصافات مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
183
Icon