افتُتحت السورة بتقرير مصدر الوحي ومصدر الرسالة وهو ربّ العالمين الذي بعث الأنبياء والمرسلين لهداية البشرية وإخراجها من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان بالله، الملك الواحد الدّيان.
وردّت طعن الكافرين، وحَرصَت على تسلية الرسول الكريم ثم بيّنت قدرة الله الذي له ما في السموات والأرض، وكُفرَ بعض الناس مع وضوح الأدلة على أن رسالة محمد من عند الله. ثم أكدت قدرته تعالى على كل شيء، وأثبتت وحدة الدين مشيرة إلى إرشاد الكتب السماوية إلى الحق، وندّد بشرك المشركين واختلافهم في الحق ظلما، واستعجال المكذبين بالقيامة استهزاء. بعد ذلك أرشدت إلى ما يجب اتّباعه في دعوة الناس إلى الدين، كما بينت عِظَم لطف الله بعباده، وحذّرت من الانهماك في طلب الدنيا، وبيّنت الحكمة في توزيع الرزق بين الناس بتقدير محكَم.
وأوضحت السورة عظم بركات الغيث، ودلائل قدرة الله في هذا الوجود، وأن كثيرا من مصائب الدنيا بسبب المعاصي، ودعت الناس إلى المبادرة إلى إجابة دعوة الله وطاعة رسوله قبل أن تنتهي الحياة ويفاجئهم ذلك اليوم العظيم. كما عُنيت السورة بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان قدرته تعالى على هبة الإناث لمن يشاء، وحرمان فريق آخر منهما بسبب حكمته.
وفي الختام يعود السياق إلى الحقيقة الأولى، حقيقة الوحي والرسالة، فتكشف السورة عن طبيعة هذا الاتصال بين الله ومن اختارهم من عباده لهذه المهمة العظيمة، وانتداب الرسالة الأخيرة وحاملَها صلى الله عليه وسلم لهذه القيادة. ﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾. صراط الله وأوامره وتشريعاته.
ﰡ
قراءات :
قرأ ابن كثير وحده : كذلك يوحى إليك بفتح الحاء. والباقون : يوحي بكسر الحاء.
من فوقهن : من جهتهن الفوقانية.
وأن السمواتِ والأرض على عِظَمِها تكاد تتشقّق فَرَقاً من هيبته وجلاله، وأن الملائكة يسبّحون بحمد ربهم وينزهونه عما لا يليق به، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين. وبين بوضوح ﴿ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم ﴾
وما أنت عليهم بوكيل : لست موكلاً بهم.
ثم أتبع ذلك بتسلية الرسول الكريم بأنه ليس رقيباً ولا وكيلاً على المشركين حتى يستطيع ردَّهم إلى سواء السبيل، وما هو إلا نذيرٌ يبلّغهم، وحسابُهم على الله.
أُم القرى : مكة.
يوم الجمع : يوم القيامة، سمي بذلك لاجتماع الخلائق.
الفريق : الجماعة.
السعير : النار الموقدة المتأججة.
ثم بيّن بوضوح أنه تعالى أنزل على رسوله قرآناً عربياً بلغة قومه ليفهموه، لينذر أهلَ مكة ومن حولهم من العرب ابتداءً ثم ينشرونه في العالم. وهذه سُنة الله كما قال :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٤ ].
وكذلك لتنذرَهم يا محمد أن يوم القيامة آتٍ لا شك فيه، وأن الناس في ذلك اليوم فريقان :﴿ فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير ﴾ الأول يدخل الجنة بإيمانه وما قدّم من صالح الأعمال، والثاني يدخل النار بكفره وما قدّم من سيء الأعمال.
إن هؤلاء المشركين اتخذوا أولياء من دون الله، وذلك لجهلهم وعنادهم، وقد ضلّوا ضلالاً بعيدا، فاللهُ وحده هو الوليّ بحق، وهو يحيي الموتى للحساب والجزاء، ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
ثم بيّن الله تعالى أن مردّ الحكم والفصل إليه، وكل شيء اختلفتم فيه فحُكْمه إلى الله، وقد بينه لكم. ولذلك أمَرَ الرسولَ الكريم أن يقول لهم :
﴿ ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾
وهذا خطابٌ لجميع الناس ليعلموا أن كل شيء يختلف الناس في أنه حقٌّ أو باطل فالمرجع فيه إلى القرآن، فقولُه الفصلُ وحكمه العدل. كما قال تعالى :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ﴾ [ النساء : ٥٩ ].
من أنفسكم أزواجا : من جنسكم، وعبّر بأنفسكم لأن أقرب شيء إلى الإنسان زوجته. ومن الأنعام أزواجا : ذكراً وأنثى.
يذرؤكم فيه : يكثركم بهذا التدبير المحكم، ذرأ الله الخلق : بثّهم وكثّرهم.
الله ربي وربكم خالقُ السموات والأرض على أحسن مثال.
﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾
خلق لكم من جنسكم زوجاتٍ لتسكنوا إليها.... وعبّر بقوله « من أنفسكم » لأن أقربَ إنسان للمرء هي زوجته، فكأنها منه ومن نفسه. وخلق لكم من الأنعام أزواجا ذكورا وإناثا.
﴿ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾
لتتناسلوا وتكثروا بهذا التدبير المحكم.
ثم بين بعد ذلك أنه مخالفٌ لكل الحوادث لا يشبهه شيء ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، ﴿ وَهُوَ السميع البصير ﴾، السميع لما يجري وينطِق به الخلقُ، والبصيرُ بأعمالهم،
يبسط الرزق : يوسعه.
ويقدر : يضيّقه.
وبيده مفاتيحُ خزائن السموات والأرض.
﴿ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾
يوسع الرزقَ لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء.
﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
لا يخفى عليه شيء، فيفعل كلَّ ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط.
ولا تتفرقوا فيه : لا تختلفوا فيه.
كبُرَ على المشركين : عظُم وشقّ عليهم.
يجتبي : يصطفي.
ثم بين الله تعالى بعد ذلك أنه شَرَعَ لكم ما شرع للأنبياء قبلكم، ديناً واحداً في الأصول هو التوحيد، والتقرب بصالح الأعمال، و الكف عن المحارم وإيذاء الخلق.. لكنّ المشركين كَبُرَ عليهم دعوتُهم إلى التوحيد وتركِ الأنداد والأوثان، ولذلك أوصى الله المؤمنين أن يقيموا الدين بإعطائه حقه، وأن لا يختلفوا ولا يتفرقوا فيه، وقد هداهم إلى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه، فالله سبحانه يصطفي من يشاء، ويوفّق للإيمان وإقامة الدين من يرجع إليه.
والمشركون ما خالفوا الحقّ إلا من بعد ما بلَغَهم، وقامت الحجةُ عليهم، وما فعلوا ذلك إلا بغياً منهم وعدواناً وحسدا.
﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ ﴾
لولا الكلمة السابقة من الله حول إمهال المشركين إلى يوم القيامة لعجَّل الله لهم العقوبة في الدنيا.
وإن أهل الكتاب ليسوا على يقينٍ من أمرهم وإيمانهم، وإنما هم مقلِّدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان ولذلك إنهم ﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾ فهم في حَيرة من أمرهم، وشكٍ جعلهم في ريب واضطراب وقلق.
لا حجة بيننا : لا خصومة ولا جدال.
بعد أن أمر الله تعالى بالوحدة في الدين وعدم التفرق، أمر رسوله الكريم هنا بالدعوة إلى الاتّفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها.. فلأجل وحدة الدين وعدم التفرق فيه ادعُهم يا محمد إلى الاتفاق والائتلاف، وثابرْ على تلك الدعوة كما أمرك الله، ولا تتّبع أهواء المشركين. وقل : آمنتُ بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، وقد أمرني الله بإقامة العدل بين الناس، فهو ربّ هذا الكون، وكلّ امرئ مسئولٌ عن عمله، لا جدال بيننا وبينكم، فقد وضَحَ الحقّ، والله يجمع بيننا للفصل والعدل، وإليه المرجع والمآل.
من بعد ما استُجيب له : من بعد ما آمن الناسُ واستجابوا له.
داحضة : باطلة، زائفة.
ثم بين أن الذين يخاصِمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، حُجّتُهم باطلة، لا ينبغي النظر إليها، وعليهم غضبٌ من ربهم بسبب كفرهم، ولهم عذابٌ شديد يوم القيامة.
الساعة : القيامة.
إن الله هو الذي أنزل القرآن على نبيه محمد، كما أنزل ما قبله من الكتب مشتملةً على الحق والعدل.. وما يدريك أيها النبي لعل وقت قيام الساعة قريب.
يعلمون أنها الحق : يعلمون أن قيامة الساعة حق.
يمارون : يجادلون.
الذين لا يصدّقون بمجيء الساعة يستعجلونها، وما استعجالهم هذا إلا من قبيل الاستهزاء، أما الذين آمنوا بالله ورسوله وقيام الساعة فإنهم خائفون من قيامها فلا يستعجلون، ويعلمون أن ذلك حقٌّ ثابت لا ريب فيه.
وما الذين يجادلون في قيام الساعة من المشركين إلا في ضلالٍ بعيد عن الحق.
حرث الدنيا : متاعها من مال وبنين وغيرهما. يقال حرثَ المال : جمعه، وكسبه، واحترثه مثلُه.
ثم بين أن من كان يريد بعمله ثوابَ الآخرة - يضاعَف له أجره أضعافا كثيرة، ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا وجلْب لذّاتها يَعْطِه الله ما يريد، وليس له في الآخرة نصيب من نعيمها. ومثلُ ذلك في سورة آل عمران ﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ].
شرعوا لهم : زينوا لهم.
ما لم يأذن به الله : كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فقط.
كلمة الفصل : هي الحكم والقضاء منه تعالى بتأخيرهم إلى يوم القيامة.
ثم أعقب ذلك بذِكر ما وسوستْ به الشياطين لشركائهم، وزينت لهم من الشِرك بالله وإنكار البعث والجزاء، وأنهم كانوا يستحقُّون العذابَ العاجل على ذلك، لكن الله تعالى أجّله لما سبق في علمه من تأخيرهم إلى يوم معلوم.
﴿ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
وترى يوم القيامة الظالمين خائفين أشدّ الخوف مما كسَبوا من السيئات، فالعذاب واقعٌ بهم. وفي المقابل ترى الذين آمنوا وعملوا الصالحات متمتعين في أطيبِ بقاع الجنّات، لهم ما يتمنّون من النعيم عند ربهم.
﴿ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير ﴾
ذلك هو الجزاء العظيم الذي أعطاهم إياه ربهم، وهو الذي يفوق كل كرامة في الدنيا.
يقترف : يفعل، يكتسب.
بعد أن ذكر الله في الآيات السالفة ما أعدَّ للمؤمنين في أطيبِ أماكنِ الجنّات - بين هنا أن ذلك الفضلَ الكبير هو الذي يبشّر به عبادَه المؤمنين. فقل لهم أيها الرسول : أنا لا أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة، وكل ما أطلبه منكم أن توادّوني مراعاةً للقرابة التي بيني وبينكم. ويدخل في ذلك مودّة النبي صلى الله عليه وسلم ومودّة قرابته من أهل بيته. ومن يعمل عملا صالحا يضاعف الله له جزاءه، إن الله واسع المغفرة للمذنبين.
يمحو : يزيل.
يُحقّ الحق : يثبت الحق.
بِكَلِمَاتِهِ : بوحيه وأدلته وحججه.
بذات الصدور : ما يختلج في الضمائر.
ثم أنكر الله تعالى على من يقول بأن النبي الكريم اختلقَ القرآن : لقد قالوا إن ما يتلوه محمد علينا من القرآن ما هو إلا اختلاق من عند نفسه لا بوحيٍ من عند ربه، فإن يشأ الله يربط على قلبِك لو حاولتَ الافتراء عليه، والله تعالى يمحو باطلَهم بما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بوحيه وإرادته، فأنت على حقٍّ وهم على باطل.
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾
فيعلم ما يختلج في ضمائرهم وتنطوي عليه السرائر.
﴿ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ من خير أو شر، ورحمتُه تسبق غضبه، وباب التوبة مفتوح والحمد لله.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : ويعلم ما يفعلون بالياء، والباقون : تفعلون بالتاء.
لبغوا : لظلموا وتجاوزوا حدود الله.
بقدر : بتقدير.
إن الله تعالى خبير بما يُصلح عبادَه من توسيع الرزق وتضييقه، فهو لا يعطيهم كلَّ ما يطلبون من الأرزاق بل يقدّر لكلٍّ منهم ما يصلحه، فإن كثرة الرزق على الناس تجعلهم يتجبرون ويتكبرون، فالله تعالى يبسط لمن يشاءُ، ويمنع عمن يشاء. ولو أغناهم جميعا لبغَوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا.
قنطوا : يئسوا.
وينشر رحمته : تعم منافع الغيث وآثاره جميع المخلوقات.
الحميد : المستحق للحمد.
ومن أسباب الرزق المطرُ وغيره، فالله وحده هو الذي يغيث الخلقَ بالمطر، وينشر بركاتِ الغيث ومنافعه في النبات والثمار والحيوان ويغذّي ينابيع المياه، وهو الذي يتولّى عباده بإحسانه ﴿ وَهُوَ الولي الحميد ﴾.
الدابة : كل ما فيه حياة على هذه الأرض.
على جمعهم : يوم القيامة.
ثم أقام الأدلة على ألوهيته بخلقه السموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ومَن ثبتتْ قدرتُه بإبداع هذا الكون لهو قديرٌ على جمع الناس في الوقت الذي يشاء بَعْثَهم فيه للجزاء.
ولو نظرنا الآن إلى أحوالنا نحن العربَ والمسلمين وما نحن عليه من ضعف وتأخر وتفكك، لرأينا أن هذه الآية تنطبق على حالنا ومجتمعاتنا.
فنحن لا ينقصنا مال ولا رجال، ولا أرض، وإنما ينقصُنا صدق الإيمان، واجتماع الكلمة، والعمل الصحيح لبناء مجتمع سليم، يجمع الكلمة ويوحّد الصفوف، ويوفر هذه الأموال الضائعة على شهوات بعض أفراد معدودين من متنفّذي الأمة يبذّرونها على السيارات والقصور والأثاث الفاخر وإشباع الغرائز، ويكدّسون أموال المسلمين في بنوك الأعداء.
ولو أن زكاة هذه الأموال صرفت على الدفاع عن الوطن، والاستعداد لمواجهة العدو المتربص بنا لكان فيه الكفاية. إن العمل الصالح والتنظيم والحكم الأمين يدوم ويرفع مستوى الناس حتى يعيشوا في رغد من العيش، أما الظلم والفساد والطغيان في الحكم واتباع الشهوات فإنه لا يدوم، ويجعل الناس في قلق وبلبلة وشكّ وضياع كما هو واقع في مجتمعاتنا.... وهذا معنى ﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾. والله سبحانه وتعالى يرحم من تاب ويعفو عن كثير من الذنوب والأخطاء، ورحمته واسعة والحمد لله.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر : بما كسبت أيديكم. والباقون : فبما كسبت أيديكم.
إنكم أيها الناس، لا تُعجِزون الله حيثما كنتم، وما لكم من دونه وليّ يدافع عنكم، ولا نصير ينصرُكم إذا هو عاقبكم.
كالأعلام : كالجبال.
ومن دلائل قدرة الله هذه السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها،
صبّار : كثير الصبر وضبطِ الأعصاب.
شكور : كثير الشكر على النعم.
فالله قادر أن يوقفَ الرياح فلا تجري.
أو يهلك أصحاب السفن بذنوبهم، لكنه يعفو عن كثير فلا يعاجلُهم بالكثير من ذنوبهم.
إن الله تعالى فعلَ ذلك ليعتبر المؤمنون، ويعلم الذين يجادلون في آياتنا بالباطل أنهم في قبضته، ما لهم من مهرب من عذابه.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر : ويعلمُ الذين يجادلون، برفع يعلم. والباقون : ويعلمَ بالنصب.
يذكّر الله تعالى الناس بأن لا يغترّوا بهذه الحياة الدنيا، فكل ما فيها من متاع ولذة ومال وبنين لهو قليلٌ جدا بالنسبة لما أعدّه الله للمؤمنين عنده من نعيم الجنة الدائم للذين يتوكلون على ربهم،
الفواحش : كل ما عظُم قبحه من السيئات.
استجابوا : أجابوا داعي الله.
الشورى : المشاورة في الأمور.
ويبتعدون عن ارتكاب الكبائر.
﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾
والذين يتحكمون في أعصابهم عند الغضب، ويملِكون أنفسهم، ويغفرون لمن أساء إليهم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي : والذين يجتنبون كبير الإثم. والباقون : كبائر الإثم.
﴿ وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ ﴾
وهذا دستور عظيم في الإسلام، فهو يوجب أن يكون الحكْم مبنياً على التشاور. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه الكرام في كثير من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم. ومثلُ ذلك قوله تعالى ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ]. قال الحسن البصري :« ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشدِ أمرهم ». وقال ابن العربي :« الشورى ألفة للجماعة، وصِقال للعقول، وسببٌ إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هدوا ». ومن صفات هؤلاء المؤمنين البذلُ والعطاء بسخاء ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾.
ينتصرون : ينتقمون لأنفسهم.
ومن صفات المؤمنين الصادقين أيضاً :
﴿ والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾
الذين إذا بغى عليهم أحد ينتصرون لأنفسهم ممن ظلمهم.
﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾
فالزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض.
ثم بين الله أن من الأفضل العفو والتسامح فقال :
﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾. ومثل هذا قوله تعالى :﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ]، ومثله أيضا ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ]، إلى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو. وهذا سبيل الإسلام.
ثم بين الله تعالى أن الإنسان إذا انتصر لنفسه ممن ظَلَمه فلا سبيلَ عليه،
ثم كرر الحث والترغيب في الصبر والعفو فقال :
﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور ﴾.
هنا أكد الترغيبَ في الصبر وضبط النفس. وأفضلُ أنواع الصبر تحمّل الأذى في سبيل إحقاق الحق وإعلائه، وأفضلُ أنواع العفو ما كان سبباً للقضاء على الفتن والفساد.
عندئذ يقول المؤمنون : حقًا إن الخاسرين هم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر، وخسروا أزواجهم وأولادهم وأقاربهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم وحُرموا النعيم إلى الأبد، وصدق الله العظيم حين يقول :﴿ أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴾.
لا مردّ له : لا يردّه أحد بعد ما قضى الله به.
ملجأ : مكان تلجأون إليه.
وما لكم من نكير : ما لكم من إنكار لما فعلتموه، لا تستطيعون أن تنكروه.
ثم يحذّر الله الناس طالباً إليهم أن يسارعوا إلى إجابة ما دعاهم إليه الرسول الكريم، من قبل أن تنتهي الحياة وتنتهي فرصة العمل، ويأتي يوم الحساب الذي ﴿ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله ﴾ ويومئذ لا ملجأ ولا ملاذ لهم من العذاب، ولا يستطيعون إنكار ما اجترموه من السيئات.
رحمة : نعمة من صحة وغنى.
سيئة : بلاء.
فإن أعرضَ المشركون عن إجابتك أيها الرسول فلا تحزنْ، فلست عليهم رقيبا فيما يفعلون.
﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ ﴾
إن وظيفتك أن تبلّغ، فإذا أنت بلّغت فقد أديتَ الأمانة. ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ].
ثم بين الله تعالى طبيعةَ الإنسان وغريزته في هذه الحياة وضعفه فقال :
﴿ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ ﴾
هذه هي طبيعة الإنسان : إذا أغنيناه وأعطيناه سعةً من الرزق فرح وبطر، وإن أصابته فاقةٌ أو مرض ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من معاصٍ ومخالفات - يئس وقنط، إن الإنسان يكفر النعمة ويجحدها.
ويهب لمن يشاء الإناث من الذرية، ويمنح من يشاء الذكور دون الإناث. ويتفضل سبحانه على من يشاء بالجمع بين الذكور والإناث، ﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ﴾ لا ولد له، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ عليم بكل شيء، قدير على فعل كل ما يريد.
من وراء حجاب : يُسمع ولا يُرى.
بعد أن بين تعالى النعم الحسيّة التي يعيش بها الناس، بيّن هنا النعمَ الروحية التي تحيا بها القلوب، وتعمرُ الأنفس، وبيّن أن الناس محجوبون عن ربّهم، لأنهم في عالم المادة وهو منزَّهٌ عنها، ولكن من رقَّ حجابُه، وخَلَصَت نفسُه من شوائب المادة، فإنه يستطيع أن يتصل بالملأ الأعلى، وأن يسمع كلام ربّه بأحد الأوجه الآتية :
١- أن يحسّ بمعان تُلقى في قلبه، أو يرى رؤيا صادقة كرؤيا الخليل إبراهيم بأنه يذبح ولده... ورؤيا الأنبياء وحي.
٢- أن يسمع كلاماً من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر من يكلّمه، فقد سمع كلاما ولم ير المتكلم.
٣- أن يرسل الله مَلَكا فيوحي إلى النبيّ ما كلّف به.
نوراً نهدي به : الناسَ إلى الصراط المستقيم.
ثم ذكر الله تعالى انه كما أوحى إلى الأنبياء قبل محمد فقد أوحى إليه القرآن الكريم، وما كان محمد قبل ذلك يعلم ما هو القرآن وما الشرائع التي بها هدايةُ البشر وصلاحُهم في الدارَين. ثم خاطبه بهذه العبارة اللطيفة، ﴿ وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.