تفسير سورة الذاريات

فتح البيان
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الذاريات
هي ستون آية وهي مكية

والذاريات ذرواً) يقال ذرت الريح التراب تذروه ذرواً، وأذرته تذريه ذرياً، أقسم الله سبحانه بالرياح التي تذر والتراب وغيره، وقيل: المقسم به مقدر، وهو رب الذاريات وما بعدها، والأول أولى، عن علي قال: الذاريات الرياح، وقال غيره النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد.
(فالحاملات وقراً) قال علي: هي السحاب، أي تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر، وانتصاب وقراً على أنه مفعول به كما يقال: حمل فلان عدلاً ثقيلاً، قرأ الجمهور بكسر الواو اسم ما يوقر، أي يحمل وقرىء بفتحها على أنه مصدر، وقيل: الرياح الحاملات للسحاب، أو النساء الحوامل
(فالجاريات يسراً) قال علي: هي السفن أي الجارية في البحر بالرياح جرياً سهلاً أي جرياً ذا يسر، وقيل: هي الرياح الجارية في مهابها أو الكواكب التي تجري في منازلها، وقيل: السحاب والأول أولى واليسر السهل في كل شيء.
(فالمقسمات أمراً) قال علي: الملائكة، وعن عمر بن الخطاب مثله، ورفعه إلى النبي ﷺ وفي إسناده أبو بكر بن سبرة وهو ضعيف لين الحديث وسعيد بن سلام وليس من أصحاب الحديث كذا قال البزار، قال ابن كثير: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر، وعن ابن عباس مثل قول علي، يعني الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب.
قال الفراء: تأتي الملائكة بأمر مختلف، جبريل بالغلظة والوحي إلى الأنبياء وميكائيل صاحب الرحمة والرزق، وملك الموت يأتي بالموت وإسرافيل صاحب الصور واللوح، وقيل تأتي بأمر مختلف بالجدب والخصب والمطر والموت والحوادث، وقيل هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد، وقيل: إن المراد بهذه الأوصاف الأربعة الرياح كما تقدم، فإنها توصف بجميع ذلك لأنها تذرو التراب، وتحمل الأثقال وتجري في الهواء وتقسم الأمطار وهو ضعيف جداً. والترتيب في هذه الأقسام ترتيب ذكرى ورتبى باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على قدرته تعالى، أقسم الله بهذه الأشياء لشرف ذواتها، ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته لكونها أموراً بديعة مخالفة لمقتضى العادة، فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود به.
(إنما توعدون لصادق) هذا جواب القسم وما مصدرية أو موصولة أي إن ما توعدون من الثواب والعقاب لكائن لا محالة
(وإن الدين) أي الحساب والجزاء على الأعمال (لواقع) أي حاصل وكائن لا محالة، ثم ابتدأ قسماً آخر فقال:
(والسماء) المراد بها هنا هي المعروفة، وقيل المراد بها السحاب والأول أولى.
(ذات الحبك) قرأ الجمهور بضم الحاء والباء، وقرىء بضمها وسكون الباء وقرىء بكسر الحاء وفتح الباء وبكسر الحاء وضم الباء قال
190
ابن عطية: هي لغات قال الجلال المحلي: جمع حبيكة كطريقة وطرق، أي صاحبة الطرق في الخلقة، كالطرق في الرمل، واختلف المفسرون في تفسير الحبك فقال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم: المعنى ذات الخلق المستوي الحسن، قال ابن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته واحتبكته، وقال الحسن وسعيد ابن جبير: ذات الزينة، وروي عن الحسن أيضاًً إنه قال: ذات النجوم وقيل: ذات البنيان المتقن، وقال الضحاك: ذات الطرائق، وبه قال الفراء: يقال لما تراه من الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك، قال الفراء الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء إذا مرت به الريح، ويقال لدرع الحديد حبك وقيل: الحبك الشدة أي والسماء ذات الشدة، والمحبوك الشديد الخلق من فرس أو غيره.
قال الواحدي بعد حكاية القول الأول: هذا قول الأكثرين، قال ابن عباس: والسماء ذات الحبك أي حسنها واستوائها، وعنه قال: ذات البهاء والجمال، وإن بنيانها كالبرد المسلسل، وعنه قال: ذات الخلق الحسن: وعن ابن عمر مثله، وعن علي قال: هي السماء السابعة، واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة، وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه، على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحبك إلى هذا، وذلك بأن يقال إن ما في السماء من الطرائق يصح أن يكون سبباً لمزيد حسنها، واستواء خلقها، وحصول الزينة فيها، ومزيد القوة لها، وفي البيضاوي ذات الحبك ذات الطرائق، والمراد إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي تسلكها البطار ونتوصل بها إلى المعارف أو النجوم فإنها لها طرائق، أو منها تزينها كما يزين الموشي طرائق الوشي.
191
(إنكم) هذا جواب القسم بالسماء ذات الحبك أي إنكم يا أهل مكة (لفي قول مختلف) متناقض في شأن محمد ﷺ والقرآن، بعضكم يقول: إنه شاعر وبعضكم يقول إنه ساحر، وبعضكم يقول: إنه
191
مجنون، والقرآن شعر سحر كهانه ووجه تخصيص القسم بالسماء المتصفة بتلك الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء، وقيل: المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفي الحشر، وبعضهم يشك فيه، وقيل كونهم يقرون أن الله خالقهم ويعبدون الأصنام، وقيل: (قول مختلف) مصدق مكذب.
192
(يؤفك عنه من أفك) أي يصرف عن الإيمان برسول الله ﷺ وبما جاء به أو عن الحق وهو البعث والتوحيد من صرف عن الهداية في علم الله تعالى يقال أفكه يأفكه إفكاً أي قلبه عن الشيء وصرفه عنه، ومنه قوله تعالى: قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا، وقال مجاهد: يؤفن عنه من أفن، والأفن فساد العقل، وقيل يحرم منه من حرم، وقال قطرب: يخدع عنه من خدع، وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع، وقال ابن عباس: يضل عنه من ضل، وفي الخطيب قيل: إن هذا القول مدح للمؤمنين، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول ورشد إلى المستوى.
(قتل الخراصون) هذا دعاء عليهم، وحكى الواحدي عن المفسرين جميعاً: أن المعنى لعن الكذابون، والمراد بالكذابين أصحاب القول المختلف، وأصل هذا التركيب الوعد بالقتل: أجري مجرى اللعن، واستعمل بمعناه تشبيهاً للملعون. الذي يفوته كل خير وسعادة بالمقتول الذي تفوته الحياة، وكل نعمة، وقال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعنة لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك قال الفراء معنى قتل لعن، وفي القاموس ما يقتضي أن قتل يأتي بمعنى لعن، ونصه: (قتل الإنسان ما أكفره) أي: لعن (وقاتلهم الله) أي لعنهم، والخراصون الكذابون، الذين يتخرصون فيما لا يعلمون، فيقولون إن محمداً مجنون كذاب شاعر ساحر. قال الزجاج: الخراصون هم الكذابون، والخرص حزر ما على النخل من الرطب تمراً
192
والخراص الذي يخرصها، وليس هو المراد هنا، قال ابن عباس في الآية: لعن المرتابون، وعنه قال: هم الكهنة وقيل: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة ليصرفوا الناس عن الإسلام.
193
(الذين هم في غمرة) أي في غفلة وعمى وجهالة عن أمور الآخرة وأصل الغمرة ما ستر الشيء وغطاه ومنها غمرات الموت، قال ابن عباس: الغمرة الكفر والشوك (ساهون) أي لاهون غافلون، والسهو الغفلة عن الشيء، وذهابه عن القلب، وقال ابن عباس: في غفلة لاهون وعنه قال: في ضلالتهم يتمادون.
(يسألون أيان يوم الدين)؟ أي يقولون متى يجيء يوم الجزاء، تكذيباً منهم واستهزاء، ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال:
(يوم هم على النار يفتنون) أي يحرقون ويعذبون فيها يقال فتنت الذهب إذا أحرقته لتختبره وأصل الفتنة الإختبار، قال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن، قال ابن عباس: يفتنون يعذبون قال الشهاب: أصلها إذابة الجوهر ليظهر غشه، ثم استعمل في التعذيب والإحراق وعدى يفتنون بعلى لتضمنه معنى يعرضون.
(ذوقوا فتنتكم) أي يقال لهم حين التعذيب: ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد، وقال مجاهد: حريقكم، ورجح الأول الفراء، وجملة (هذا الذي كنتم به تستعجلون) من جملة ما هو محكي بالقول، أي: هذا ما كنتم تطلبون تعجيله في الدنيا استهزاء منكم، وقيل هي بدل من فتنتكم؛ ولما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة فقال:
(إن المتقين في جنات وعيون) أي: هم كائنون في بساتين فيها عيون جارية في جهاتهم، وأمكنتهم، لا يبلغ وصفها الواصفون حال كونهم
(آخذين) أي قابضين (ما آتاهم ربهم) شيئاً فشيئاًً من الخير والثواب
193
والكرامة، راضين به ومسرورين، ومتلقين له بالقبول: لا يستوفونه بكماله، لإمتناع استيفاء ما لا نهاية له (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) الجملة تعليل لما قبلها أي لأنهم كانوا في الدنيا قبل دخولهم الجنة محسنين في أعمالهم الصالحة، من فعل ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه، قال ابن عباس: أي قبل أن تنزل الفرائض يعملون، ثم ذكر إحسانهم الذي وصفهم به فقال:
194
(كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) الهجوع النوم بالليل دون النهار، وبابه خضع والهجعة النومة الخفيفة، والمعنى كانوا قليلاً ما ينامون من الليل ويصلون أكثره، وكذا قال المحلي، وما زائدة أو مصدرية أو موصولة، أي كانوا قليلاً من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه، والتهجاع القليل من النوم وقيل: ما نافية أي ما كانوا ينامون قليلاً من الليل، فكيف بالكثير منه وهذا ضعيف جداً، وهكذا قول من قال: إن المعنى كان عددهم قليلاً، ثم ابتدأ فقال: من الليل ما يهجعون، وبه قال ابن الأنباري، وهو أضعف مما قبله وقال قتادة في تفسير هذه الآية: كانوا يصلون بين العشاءين وبه قال أبو العالية وابن وهب، قال ابن عباس: ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا، إلا يصلون فيها، وعنه قال: يقول: قليلاً ما كانوا ينامون، وعن أنس قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.
(وبالأسحار هم يستغفرون) أي يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم، قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار، وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد: هم بالأسحار يصلون، وذلك أن صلاتهم طلب منهم للمغفرة، وقال الضحاك: هي صلاة الفجر، قال ابن عمر: يستغفرون يصلون، قال ابن زيد: السحر السدس الأخير من الليل والمعنى يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين، ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله تعالى، وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره، وإن اجتهدوا سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: لا أحصي ثناء عليك،
194
وقيل: يستغفرون من تقصيرهم في العبادة، وقيل: من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال:
195
(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) أي يجعلون في أموالهم ويوجبون على أنفسهم، حقاً للسائل والمحروم، تقرباً إلى الله عز وجل بمقتضى الكرم يصلون بها الأرحام والفقراء والمساكين، وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة والأولى أولى، فتحمل على صدقة النفل وصلة الرحم وقَرى الضيف لأن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا بالمدينة وسيأتي في سورة (سأل سائل) و (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) بزيادة معلوم والسائل هو الذي يسأل الناس لفاقته، واختلف في تفسير المحروم فقيل هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه الناس غنياً، فلا يتصدقون عليه، وبه قال قتادة والزهري، وقال الحسن ومحمد بن الحنفية: هو الذي لا سهم له في الغنيمة، ولا يجري عليه من الفيء شيء، وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو ماشيته.
وقال القرظي: هو الذي أصيب بجائحة، وقيل: الذي لا يتكسب، وقيل: هو الذي لا يجد غني يغنيه، وقيل: هو المملوك، وقيل: الكلب، وقيل غير ذلك، قال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم، فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ، والذي ينبغي التعويل عليه ما يدل عليه المعنى اللغوي. والمحروم في اللغة الممنوع من الحرمان وهو المنع، فيدخل تحته من حرم الرزق من الأصل ومن أصيب ماله بجائحة أذهبته، ومن حرم العطاء، ومن حرم الصدقة لتعففه، وأظهر هذه الأقوال أنه المتعفف لأنه قرنه بالسائل، والمتعفف لا يسأل، ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل، وإنما يفطن له متيقظ، قال ابن عباس: في أموالهم حق سوى الزكاة، يصل بها رحماً ويقري بها ضيفاً، أو يعين بها محروماً، وعنه قال: السائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له سهم في المسلمين، وعنه قال:
195
المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه، ولا يسأل الناس، فأمر الله المؤمنين برفده.
وعن عائشة في الآية قالت: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه.
وأخرج الترمذي والبيهقي في سننه، " عن فاطمة بنت قيس أنها سألت النبي عن هذه الآية قال: إن في المال حقاً سوى الزكاة، وتلا هذه الآية: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) إلى قوله: (وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) ".
ثم ذكر سبحانه ما نصبه من الدلائل الدالة على توحيده، ووعده ووعيده، فقال:
196
(وفي الأرض آيات) أي دلائل واضحة، وعلامات ظاهرة، من الجبال والبر والبحر والأشجار والأنهار والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة، المكذبة لما جاءت به رسل الله، ودعتهم إليه، وهي مدحوة كالبساط لما فوقها، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها، وهي مجزأة فمن سهل ومن جبل صلبة ورخوة وعذبة وسبخة، وفيها معادن مفتتة، ودواب منبثة، مختلفة الصور والأشكال متباينة الهيئات والأفعال إلى غير ذلك من بدائع صنعه وصنائع قدرته وحكمته وتدبيره.
(للموقنين) أي للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني، الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون، بعيون باصرة، وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأويلها، فازدادوا إيقاناً على إيقانهم، وخص الموقنين بالله لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه فينتفعون به.
196
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
197
(وفي أنفسكم) في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، آيات تدل على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرسل، فإنه خلقهم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظماً، إلى أن ينفخ فيهم الروح، ثم تختلف بعد ذلك صورهم، وألوانهم، وطبائعهم، وألسنتهم، ثم نفس خلقهم على هذه الصورة العجيبة الشأن من لحم ودم وعظم وأعضاء وحواس ومجاري ومنافس، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطرة وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها، دع الأسماع والأبصار، والأطراف، وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى ذلك في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا منها شيء جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل (فتبارك الله أحسن الخالقين).
وقيل يريد اختلاف الألسن والصور والألوان والطبائع، وقيل يريد سبيلي الغائط والبول، يأكل ويشرب، من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين، وقيل
197
المراد بالأنفس الأرواح، أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات، ولا وجه لتخصيص شيء دون شيء، بل اللفظ أوسع من ذلك.
(أفلا تبصرون) أي: تنظرون بعين البصيرة والعبرة الأرض وما فيها، والأنفس وما فيها، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق المنفرد بالألوهية، وأنه لا شريك له ولا ضد، ولا ند، وأن وعده الحق، وقوله الحق، وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة تعتريه.
198
(وفي السماء رزقكم) أي سبب رزقكم وهو المطر فإنه سبب الأرزاق قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج وقيل: المراد بالسماء السحاب أي وفي السحاب رزقكم وقيل: المراد بالسماء المطر وسماه سماء لأنه ينزل من جهتها وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم قال: ونظيره (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وهو بعيد وقال سفيان الثوري: أي عند الله في السماء رزقكم وقيل المعنى وفي السماء تقدير رزقكم قرأ الجمهور بالإفراد، وقرىء أرزاقكم بالجمع.
(وما توعدون) من الجنة والنار قاله مجاهد، وقال عطاء: من الثواب والعقاب وقال الكلبي: من الخير والشر، وقال ابن سيرين: ما توعدون من أمر الساعة وبه قال الربيع، والأولى الحمل على ما هو الأعم من هذه الأقوال فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء والقضاء والقدر ينزل منها والجنة والنار فيها ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال:
(فورب السماء والأرض إنه) أي إن ما أخبركم به في هذه الآيات (لحق) وقال الزجاج: هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات، قال الكلبي: يعني ما قص في الكتاب، وقال مقاتل: يعني من أمر الساعة وقيل إن (ما) في قوله: وما توعدون مبتدأ وخبره فورب السماء الخ، فيكون الضمير لما ثم قال سبحانه: (مثل ما إنكم تنطقون) أي كمثل نطقكم وما زائدة كذا قال
198
بعض الكوفيين وقال الزجاج والفراء: أي لحق حقاً مثل نطقكم وقال المازني إن مثل مع ما بمنزلة شيء واحد فبنى على الفتح وقال سيبويه: هو مبني لإضافته إلى غير متمكن قرأ الجمهور بنصب مثل على تقدير كمثل نطقكم وقرىء بالرفع على أنه صفة لحق لأن مثل نكرة وإن أضيفت فهي لا تتعرف بالإضافة كغير، ورجح قول المازني أبو علي الفارسي.
ومعنى الآية تشبيه تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده وهذا كما تقول إنه لحق كما إنك ههنا وإنه لحق كما أنت تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.
عن أبي سعيد الخدري قال: " قال النبي صلى الله عليه وسلم، لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت " أسنده الثعلبي وذكره القرطبي وقال بعض الحكماء، معناه كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره كذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره.
199
(هل أتاك حديث ضيف إبراهيم)؟ ذكر سبحانه قصة إبراهيم ليبين أنه أهلك بسبب التكذيب من أهلك وفي الإستفهام تفخيم للحديث وشأنه وتنبيه على أن هذا الحديث ليس مما قد علم به رسول الله ﷺ وأنه إنما علم طريق الوحي وقيل إن (هل) بمعنى قد كما في قوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) والضيف مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة وقد تقدم الكلام على قصة ضيف إبراهيم في سورة هود، وسورة الحجر (المكرمين) أي: إنهم مكرمون عند الله سبحانه لأنهم ملائكة جاؤوا إليه في صورة بني آدم كما قال تعالى في وصفهم في آية أخرى (بل عباد مكرمون) وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وقال مجاهد ومقاتل: أكرمهم إبراهيم وأحسن إليهم وقام على رؤوسهم وكان لا يقوم على رؤوس الضيف
199
وأمر امرأته أن تخدمهم، وقال الكلبي: أكرمهم بالعجل أي عجل لهم القرى وقيل لأنهم كانوا ضيف إبراهيم، وهو أكرم الخلق على الله يومئذ وضيف الكريم مكرمون، وقيل: لأنهم كانوا غير مدعوين والأول أولى.
200
(إذ دخلوا عليه) العامل في الظرف الحديث، أي: هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه، أو ضيف لأنه مصدر، أو المكرمين، أو محذوف، أي: أذكر كذا ذكر السمين (فقالوا سلاماً) أي نسلم عليك سلاماً، ويحتمل أن يكون المعنى فقالوا كلاماً حسناً لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو فيكون على هذا مفعولاً به.
(قال سلام) أي قال إبراهيم سلام، والمراد به التحية، قرأ الجمهور بنصب سلام الأول ورفع الثاني على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي: عليكم سلام والعدول إلى الرفع لقصد إفادة، الجملة الاسمية للدوام والثبات، بخلاف الفعلية فإنها لمجرد التجدد والحدوث، ولهذا قال أهل المعاني: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة، وقرىء بالرفع في الموضعين، وقرىء بالنصب فيهما وقرىء سلم بكسر السين وقرىء سلم فيهما.
(قوم) أي أنتم قوم (منكرون) قيل: إنه قال هذا في نفسه ولم يخاطبهم به لأن ذلك يخالف الإكرام، قيل: إنه أنكرهم لكونهم ابتدأوا بالسلام، ولم يكن ذلك معهوداً عند قومه، وقيل: إنه رأى فيهم ما يخالف بعض الصور البشرية، وقيل: لأنه رآهم على غير صور الملائكة الذين يعرفهم وقيل لأنهم دخلوا بغير استئذان، وقيل: المعنى أنتم غرباء ولا نعرفكم، فعرفوني من أنتم وقيل غير ذلك.
(فراغ) أي عدل (إلى أهله) قاله الزجاج: أي الذين كان عندهم بقرة، وكان عامة ماله البقر قاله الخطيب، فالمراد بأهله خدمه كالرعاء، وقيل؛ ذهب إليهم في خفية من ضيوفه، والمعنى متقارب، وقد تقدم تفسيره
200
في سورة الصافات. يقال: راغ وارتاغ أي: طلب وماذا تريغ، أي تريد وتطلب وراغ إلى كذا مأل إليه سراً وجاد (فجاء بعجل سمين) أي: فجاء ضيفه بعجل قد شواه لهم، كما في سورة هود (بعجل حنيذ)، وفي الكلام حذف تدل عليه الفاء الفصيحة أي: فذبح عجلاً فحنذه، فجاء به، قال في الصحاح: العجل ولد البقر، والعجول مثله، والجمع العجاجل والأنثى عجلة، وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة.
201
(فقربه) أي قرب العجل (إليهم) ووضعه بين أيديهم وعرض عليهم الأكل و (قال ألا تأكلون) الإستفهام للإنكار، وذلك أنه لما قربه إليهم لم يأكلوا منه، أو للعرض، أو للتحضيض
(فأوجس منهم خيفة) أي أحس في نفسه خوفاً منهم لما لم يأكلوا مما قربه إليهم، وقيل: معنى أوجس أضمر، وإنما وقع له ذلك لما لم يتحرموا بطعامه، ومن أخلاق الناس أن من أكل من طعام إنسان صار آمناً منه، فظن إبراهيم أنهم جاؤوا للشر، ولم يأتوا للخير، وفي زاده أن الإنكار الحاصل قبل تقريب العجل كما مر في هود بمعنى عدم العلم بأنهم من أي بلدة، والإنكار الحاصل بعده بمعنى عدم العلم بأنهم دخلوا عليه لقصد الخير أو الشر، فإن من امتنع من تناول الطعام يخاف من شره، وقيل: إنه وقع في قلبه أنهم ملائكة، فلما رأوا ما ظهر عليه من أمارات الخوف (قالوا لا تخف) وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه من جهة الله سبحانه.
(وبشروه بغلام عليم) أي ذي علم كثير عند أن يبلغ مبالغ الرجال والمبشر به عند الجمهور هو إسحق وقال مجاهد وحده: إنه إسماعيل وهو مردود بقوله: (وبشرناه بإسحق) وقد قدمنا تحقيق هذا الكلام في هود بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره
(فأقبلت امرأته) أي سارة (في صرة) لم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان، وإنما هو كقولك: أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي كذا قال الفراء وغيره، والصرة الصيحة والضجة. أي: جاءت صائحة لأنها لما بشرت بالولد وجدت حرارة الدم، أي دم الحيض، وقيل الصرة:
201
الجماعة من الناس، قال الجوهري: الضجة والصيحة والصرة الجماعة، والصرة الشدة من حرب أو غيره، وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه، والمعنى أنها كانت في زاوية من زوايا البيت تنظر إليهم فأقبلت في صيحة أو ضجة أو في جماعة من الناس يستمعون كلام الملائكة.
(فصكت وجهها) أي ضربت بيدها مبسوطة على وجهها كما جرت بذلك عادة النساء عند التعجب، قال مقاتل والكلبي: جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجباً، ومعنى الصك ضرب الشيء بالشيء العريض يقال: صكه أي ضربه، وقال ابن عباس: في صرة في صيحة، فصكت لطمت (وقالت) كيف ألد (وأنا عجوز عقيم) استبعدت ذلك لكبر سنها، ولكونها عقيماً لا تلد.
202
(قالوا كذلك) أي: كما قلنا لك وأخبرناك (قال ربك) فلا تشكي في ذلك ولا تعجبي منه، فإن ما أراد الله كائن لا محالة، ولم نقل ذلك من جهة أنفسنا وقد كانت إذ ذاك بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة، وكان بين البشارة والولادة سنة، ذكره القرطبي، وقد سبق بيان هذا مستوفى وجملة (إنه هو الحكيم العليم) تعليل لما قبلها أي حكيم في أفعاله وأقواله عليم بكل شيء.
(قال فما خطبكم)؟ مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر، كأنه قيل فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة؟ والخطب الشأن والقصة، والمعنى فما شأنكم وقصتكم؟ (أيها المرسلون) من جهة الله، وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلكم سوى هذه البشارة؟.
(قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) أي كافرين يريدون قوم لوط
(لنرسل) أي لننزل (عليهم) من السماء (حجارة) أي: لنرجمهم بحجارة (من طين) متحجرة مطبوخ بالنار، واستدل به على وجوب الرجم بالحجارة على اللائط.
202
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)
203
(مسومة) صفة لحجارة أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أو من الحجارة لكونها وصفت بالجار والمجرور، أي: معلمة بعلامات تعرف به، قيل: كانت مخططة بسواد وبياض، وقيل: بسواد وحمرة، وقيل: معروفة بأنها حجارة العذاب، وقيل: مكتوب على كل حجر من يهلك بها (عند ربك) ظرف لمسومة أي: معلمة عنده (للمسرفين) المتمادين في الضلال المجاوزين الحد في الفجور بإتيانهم الذكور، وقال مقاتل: المشركين والشرك أسرف الذنوب وأعظمها، قال السدي ومقاتل: كانوا ستمائة ألف فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض فاقتلع قراهم وكانت أربعة، ورفع حتى سمع أهل السماء أصواتهم، ثم قلبها، ثم أرسل عليهم الحجارة فتتبعت الحجارة شذاذهم ومسافريهم، أفاده زاده، وهو جمع شاذ أي الخارجين منهم عن أرضهم.
(فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين) هذا كلام من جهة الله سبحانه أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه المؤمنين به، والفاء مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في مواضع أخر، كأنه
203
قيل فباشروا ما أمروا به فأخرجنا من كان فيها بقولنا (فأسر بأهلك)
204
(فما وجدنا فيها) أي في قرى قوم لوط، وهي وإن لم تذكر لكن دل عليها السياق.
(غير بيت من المسلمين) أي غير أهل بيت، يقال بيت شريف ويراد به أهله، قيل: وهم أهل بيت لوط، وقال مجاهد: لوط وابنتاه، وعن سعيد بن جبير قال كانوا ثلاثة عشر ونحوه قال الأصفهاني والإسلام الإنقياد والاستسلام لأمر الله سبحانه فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) وقد أوضح الفرق رسول الله ﷺ بين الإسلام والإيمان في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق أنه سئل عن الإسلام فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان، وسئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره " (١) فالمرجع في الفرق بينهما هو الذي قاله الصادق المصدوق ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة.
وأما ما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان فذلك باعتبار المعاني اللغوية، والاستعمالات العربية، والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها، قال الكرخي: فيه إشارة إلى ما قاله الخطابي وغيره، أن المسلم قد يكون مؤمناً، وقد لا يكون والمؤمن مسلم دائماً فهو أخص، وبهذا يستقيم تأويل الآيات والأحاديث
_________
(١) رواه مسلم.
(وتركنا فيها) أي في تلك القرى بعد إهلاك الكافرين (آية) أي: علامة ودلالة تدل على ما أصابهم من العذاب. وهي تلك الأحجار أو صخر منضود أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم أو آثار العذاب في تلك القرى فإنها ظاهرة
204
بينة، وقيل هذه الآية المتروكة نفس القرى الخربة.
(للذين يخافون العذاب الأليم) أي كل من يخاف عذاب الله ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم، فلا يفعل مثل فعلهم وإنما خص هؤلاء لأنهم الذين يتعظون بالمواعظ، ويتفكرون في الآيات دون غيرهم، ممن لا يخاف ذلك، وهم المشركون المكذبون بالبعث، والوعد والوعيد
205
(و) تركنا (في) قصة (موسى) آية وهذا معنى واضح قاله السمين، أو في الأرض، وفي موسى آيات، قاله الفراء وابن عطية والزمخشري، قال أبو حيان: وهو بعيد جداً ينزه القرآن عن مثله، وقيل: وتركنا فيها آية وجعلنا في موسى آية، قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار: وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا، والوجه الأول هو الأولى، وما عداه متكلف متعسف لم تلجىء إليه حاجة ولا دعت إليه ضرورة.
(إذ أرسلناه إلى فرعون) الظرف متعلق بمحذوف وهو نعت لآية أي كائنة وقت أرسلناه، وبآية نفسها أو منصوب بتركنا والأول أولى (بسلطان مبين) وهو الحجة الظاهرة الواضحة، وهي العصا وما معها من الآيات الثمان
(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) التولي الإعراض، والركن الجانب، قاله الأخفش والمعنى أعرض عن الإيمان بجانبه أي مع جنوده لأنهم له كالركن كما في قوله؛ (أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ). قال الجوهري: ركن الشيء جانبه الأقوى، ويأوي إلى ركن شديد أي عز ومنعة، وقال ابن عباس: بركنه بقومه، وقال ابن زيد ومجاهد وغيرهما: الركن جمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم، ومنه قوله تعالى: (أو آوي إلى ركن شديد)، أي عشيرة ومنعة، وقيل؛ الركن نفس القوة، وبه قال قتادة وغيره.
(وقال) فرعون في حق موسى (ساحر أو مجنون) فردد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحراً أو مجنوناً فـ (أو) هنا على بابها من الإبهام على السامع، أو للشك، نزل نفسه منزلة الشاك في أمره، تمويهاً على قومه، وهذا
205
من اللعين مغالطة وإيهام لقومه، فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر ولا يفعله من به جنون، وقال أبو عبيدة: إن أو بمعنى الواو، لأنه قد قال ذلك جميعاً ولم يتردد، وبه قال المؤرج كقوله: (ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً)، قال تعالى: (إن هذا لساحر عليم) وقال في موضع آخر: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون). وتجيء أو بمعنى الواو ورد الناس عليه وقالوا لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ وأما الآيتان فلا تدلان على أنه قالهما معاً وإنما يفيدان أنه قالهما أعم من أن يكونا معاً، أو هذه في وقت وهذه في وقت آخر ذكره السمين.
206
(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) أي طرحناهم في البحر فغرقوا (وهو) أي فرعون (مليم) أي: آت بما يلام عليه حين ادعى الربوبية وكذب الرسل وكفر بالله وطغى في عصيانه، وفي الإسناد تجوز على حد عيشة راضية؛ يقال: ألام الرجل فعل ما يستحق عليه اللوم، واللوم العذل، تقول لامه على كذا، من باب قال: ولومه أيضاًً فهو ملوم، واللائمة الملامة.
(و) تركنا (في) قصة إهلاك (عاد) آية (إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) وهي التي لا خير فيها ولا بركة لا تلقح شجراً ولا تحمل مطراً إنما هي ريح العذاب والإهلاك، قال علي: هي النكباء وهي كل ريح هبت بين ريحين لتنكبها وانحرافها عن مهاب الرياح المعروفة، وهي رياح متعددة لا ريح واحدة، قال ابن عباس: الريح العقيم الشديدة التي لا تلقح شيئاًً، وعنه قال: لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب، واختلف فيها فقيل: الجنوب، والأظهر أنها الدبور.
" لقوله ﷺ نصرت بالصبا: وأهلكت عاد بالدبور "؛ العقم ههنا مستعار للمعنى المذكور على سبيل التبعية، شبه ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر بما في المرأة من الصفة المذكورة التي تمنع من الحمل، ثم قيل العقيم وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح
206
به، أو سماها عقيماً، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أفاده الكرخي، وفي الشهاب أصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر، كما قاله الراغب، وهو فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول، فلما أهلكتهم وقطعت نسلهم شبه ذلك الإهلاك بعدم الحمل لما فيه من إذهاب النسل، وهذا هو المراد هنا ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال:
207
(ما تذر من شيء أتت عليه) أي: مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم (إلا جعلته كالرميم) أي: كالشيء الهالك البالي المتفتت، وقال قتادة: هو الذي ديس من يابس النبات، وقال السدي وأبو العالية: أنه التراب المدقوق، وقال قطرب: إنه الرماد، وقيل: ما رمته الماشية من الكلأ وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلى فهو رميم، والرمة العظام البالية، والجمع رمم ورمام، قال ابن عباس: كالرميم كالشيء الهالك البالي، وفي القرطبي كالشيء الهشيم يقال للنبت إذا يبس وتفتت رميم وهشيم، والتقدير ما تترك من شيء إلا مجعولاً كالرميم فالجملة في موضع المفعول الثاني؛ لتذر وأعربها أبو حيان حالاً، وليس بظاهر.
(وفي ثمود إذ قيل لهم) أي وتركنا في قصة ثمود آية وقت أن قلنا لهم بعد عقر الناقة: (تمتعوا حتى حين) أي عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك وإنقضاء الأجل. وهو ثلاثة أيام كما في قوله تعالى: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام)
(فعتوا عن أمر ربهم) أي تكبروا عن امتثال أمر الله. وهذا ترتيب إخباري وإلا ففي الحقيقة عتوهم إنما كان قبل وعدهم بالهلاك الذي هو المراد من قوله: تمتعوا حتى حين على تفسيره، إذ المراد به ما بقي من آجالهم، والمراد بأمر ربهم، هو المذكور في سورة هود: (يا قوم هذه ناقة الله لكم آية).
(فأخذتهم) بعد مضي ثلاثة أيام (الصاعقة) وهي كل عذاب
207
مهلك وقرىء الصعقة وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة وأخذتهم من بعد عقر الناقة، والصاعقة هي نار تنزل من السماء فيها رعد شديد وقد مر الكلام على الصاعقة في البقرة وفي مواضع (وهم ينظرون) أي: يرونها عياناً، لأنها كانت نهاراً، وقيل: إن المعنى ينتظرون ما وعدوه من العذاب والأول أولى.
208
(فما استطاعوا من قيام) أي لم يقدروا على القيام حين نزول العذاب، قال قتادة: من نهوض: يعني لم ينهضوا من تلك الصرعة، والمعنى أنهم عجزوا عن القيام فضلاً عن الهرب، ومثله قوله تعالى: (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) (وما كانوا منتصرين) أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم ممن أهلكهم الله أو لم تمكنهم مقابلتها بالعذاب، لأن معنى الإنتصار المقابلة.
(و) أهلكنا أو نبذنا أو اذكر (قوم نوح) وثلاثة أوجه أخر في النصب ذكرها السمين، وفي قراءة الجر أربعة أوجه ذكرها السمين أيضاًً لا نطول بذكرها (من قبل) أي من قبل هؤلاء المهلكين، فإن زمانهم متقدم على زمن فرعون وعاد وثمود (إنهم كانوا قوماً فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) أي بقوة وقدرة قاله ابن عباس، قيل: التقدير وبنينا السماء بنيناها، وقرىء برفع السماء على الابتداء.
(وإنا لموسعون) الموسع ذو الوسع والسعة، والمعنى إنا لذو سعة بخلقها وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك، وقيل: لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والقدرة، وقيل: إنا لموسعون الرزق بالمطر، قال الجوهري: أوسع الرجل صار ذا سعة وغنى، وقيل: جاعلوها واسعة، وعليه تكون الحال مؤسسة أخبر أولاً أنه بناها بقوته وقدرته، وثانياً بأنه وسعها أي جعلها واسعة، فالأرض بالنسبة إليها كحلقة في فلاة.
208
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
209
(وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا) قرىء بنصب الأرض على الاشتغال؛ وبرفعها على الإبتداء والأول أولى لعطف جملة الإشتغال على جملة فعلية قبلها، والمعنى بسطناها ومهدناها ومددناها، فالفراش كناية عن البسط والتسوية (فنعم الماهدون) أي نحن، يقال: مهدت الفراش بسطته ووطأته وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها.
(ومن كل شيء خلقنا زوجين) أي: صنفين، أو أمرين متقابلين أو نوعين من ذكر وأنثى، وبر وبحر، وشمس وقمر، وحلو ومر، وسماء وأرض وليل ونهار، ونور وظلمة، وجن وإنس، وخير وشر، وموت وحياة، وسهل وحزن، وصيف وشتاء، وإيمان وكفر، وسعادة وشقاوة، وحق وباطل، وحلو وحامض؛ وسرور وغم، إلى غير ذلك مما لا ينحصر، فكل اثنين منها زوج؛ والله تعالى فرد لا مثل له (لعلكم تذكرون) أي: خلقنا ذلك هكذا لتتذكروا فتعرفوا أنه خالق كل شيء، وتستدلوا بذلك على توحيد الله وصدق وعده ووعيده.
(ففروا إلى الله) أي قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك ففروا واهربوا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي، أي إلى ثوابه من
209
عقابه، بأن تطيعوه ولا تعصوه؛ وقيل: المعنى أخرجوا من مكة، وقال الحسن ابن الفضل: احترزوا عن كل شيء غير الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه، وقيل: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن؛ وقيل: فروا من الجهل إلى العلم. والمعاني متقاربة أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له ففروا إليه، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاًً (إني لكم منه) أي: من الله أي من جهته (نذير) منذر (مبين) بين الإنذار، والجملة تعليل للأمر بالفرار.
210
(ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر) تنصيص على أعظم ما يجب أن يفر منه وهو الشرك، فنهاهم عن الشرك بالله بعد أن أمرهم بالفرار إلى الله (إني لكم منه نذير مبين) تعليل للنهي؛ وتكرير للتوكيد، والإطالة في الوعيد أبلغ، أو الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني مرتب على الإشراك وقيل إنما كرر ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز ولا ينجو عند الله إلا الجامع بينهما.
(كذلك) أي الأمر والشأن والقصة كذلك، والكاف بمعنى مثل، ثم فصل ما أجمله بقوله: (ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) في هذا تسلية لرسول الله ﷺ ببيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة، وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله ﷺ ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم
(أتواصوا به) الإستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب من حالهم أي: هل أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطؤوا عليه حتى قالوه جميعاً متفقين عليه؟ أو الاستفهام للنفي، أي: ما وقع منهم وصية بذلك لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد (بل هم قوم طاغون) إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان، أي لم يتواصوا بذلك بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر، فهو إضراب إنتقالي. ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بالإعراض عنهم فقال:
(فتول عنهم) أي: أعرض عنهم وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق،
210
فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته، وكررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإصرار والعناد (فما أنت بملوم) عند الله على الإعراض بعد هذا الإنذار لأنك قد أديت ما عليك وما قصرت فيما أمرت به، وبذلت المجهود في البلاغ، وهذا منسوخ بآية السيف، أو بقوله الآتي وذكر الآية قال ابن عباس: أمره الله أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمد صلى الله عليه وسلم، ولما أمره بالإعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال:
211
(وذكر) أي جميعهم (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) أي من قدر الله إيمانه أو من آمن فإنه يزداد بها بصيرة، قال الكلبي: المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم، وقال مقاتل: عظ كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من كان في علم الله أنه يؤمن، وقيل ذكرهم بالعقوبة وأيام الله وخص المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به.
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) مستأنفة مقررة لما قبلها لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله ﷺ للتذكير، وينشطهم للإجابة، قيل: هذا خاص فيمن سبق بعلم الله أنه يعبده، فهو عموم مراد به الخصوص، قال الواحدي: قال المفسرون هذا خاص لأهل طاعته، يعني من أهل من الفريقين، قال: وهذا قول الكلبي والضحاك، واختيار الفراء وابن قتيبة.
قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع، لأن المجانين والصبيان لم يؤمروا بالعبادة، ولا أرادها منهم، وقد قال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس)، ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، قاله شيخ الإسلام زكريا نقلاً عن الرازي، فالآية محمولة على المؤمنين منهم، ويدل عليه قراءة أُبيّ بن كعب وابن مسعود، وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون، وقال مجاهد: إن المعنى إلا ليعرفوني قال الكلبي: وهذا قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده، وروي عن مجاهد أنه قال
211
المعنى إلا لآمرهم، وأنهاهم، ويدل عليه قوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) واختار هذا الزجاج.
وقال زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من السعاده والشقاوة، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء للمعصية، وقال الكلبي: المعنى إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة، كما في قوله: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وقال جماعة: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة الذل والخضوع والإنقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً، ووجه تقديم الجن على الإنس ههنا تقدم وجودهم، قال ابن عباس في الآية: ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً، وعنه قال: على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي، وشقوتي وسعادتي، وقيل: معنى (إلا ليعبدون) إلا مستعدين لأن يعبدوا بأن خلقت فيهم العقل والحواس والقدرة التي تتحصل بها العبادة، وهذا لا ينافي تخلف العبادة بالفعل من بعضهم؛ لأن هذا البعض، وإن لم يعبد الله، لكن فيه التهيؤ والاستعداد الذي هو الغاية بالحقيقة وهذا أحسن.
212
(ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده وأنه لا يريد منهم منفعة، كما يريده السادة من عبيدهم، بل هو الغني المطلق الرازق المعطي، وقيل: المعنى ما أريد منهم أن يرزقوا أحداً من عبادي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، ولا يطعموا أحداً من خلقي. ولا يطعموا أنفسهم، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله فمن أطعم عيال الله فهو كمن أطعمه.
وهذا كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عبدي استطعمتك فلم تطعمني " أي لم تطعم عبادي، ومن زائدة لتوكيد العموم، ثم
212
بيّن سبحانه أنه هو الرازق لا غيره فقال:
213
(إن الله هو الرزاق) لا رازق سواه؛ ولا معطي غيره، فهو الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له من العبادة هذا تعليل لعدم إرادة الرزق منهم (ذو القوة المتين) تعليل لعدم إحتياجه إلى استخدامهم في تمامه، من إصلاح طعامه وشرابه، ونحو ذلك، قرأ الجمهور برفع المتين على أنه وصف لرزاق، أو لذو، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ مضمر، وعلى كل تقدير فهو تأكيد، لأن ذو القوة يفيد فائدته، وقرىء بالجر صفة للقوة والتذكير لكون تأنيثها غير حقيقي، قال الفراء: كان حقه المتينة فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، يقال: حبل متين، أي محكم القتل ومعنى المتين هنا الشديد القوة، قال ابن عباس: المتين الشديد:
(فإن للذين ظلموا) أنفسهم بالكفر والمعاصي، من أهل مكة وغيرهم (ذنوباً) أي نصيباً من العذاب (مثل ذنوب أصحابهم) أي: نصيب الكفار من الأمم السالفة، قال ابن الأعرابي: يقال: يوم ذنوب أي: طويل الشر، لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، ومن استعمال الذنوب في النصيب من الشيء قول الشاعر:
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
وما في الآية مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلو الكبيرة، فيكون لهذا ذنوب، ولهذا ذنوب فهو تمثيل جعل الذنوب مكان الحظ والنصيب، قاله ابن قتيبة، وقيل: عبر عن النصيب بالذنوب لشبهه به في أنه يصب عليهم العذاب كما يصب الذنوب، قال تعالى: (يصب من فوق رؤوسهم الحميم)، قال ابن عباس: ذنوباً دلواً، قال الراغب: الذنوب الدلو الذي له ذنب.
213
(فلا يستعجلون) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب، كما في قوله: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)
214
(فويل للذين كفروا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، كما أن الفاء الأولى لترتيب النهي عن الإستعجال على ذلك، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالكفر وإشعاراً بعلة الحكم (من يومهم الذي يوعدون) العذاب فيه، قيل: هو يوم القيامة، وقيل يوم بدر والأول أولى.
214
سورة الطور
(وفي نسخة والطور بالواو وهي تسع أو ثمان وأربعون آية)
وهي مكيّة قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت الطور بمكة، وعن ابن الزبير مثله.
" وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقرأ في المغرب بالطور "، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
" وعن أم سلمة أنها سمعت رسول الله - ﷺ - يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور " أخرجه البخاري وغيره.
215

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩)
217
Icon