تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثمان وسبعون
بسم الله الرحمان الرحيم
وتسمى عروس القرآن
ﰡ
﴿ الرحمان علم القرآن ﴾ بدأ سبحانه في معرض الامتنان على عباده بجلائل النعم – بأعظمها شأنا، وأرفعها مكانا ؛ وهو تعليم رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته القرآن. وهو هدى وشفاء، وحمة وعصمة، وأمان ونور للناس في دينهم ودنياهم. وهو أعظم وحي الله إلى أنبيائه، وأشرفه منزلة عند أوليائه، وأكثره ذكرا، وأحسنه في أبواب الدين أثرا. والرحمان : من أسمائه تعالى ؛ وتخصيصه بالذكر هنا للتنبيه إلى أن تعليم القرآن من آثار رحمته الواسعة.
﴿ خلق الإنسان علمه البيان ﴾ أي خلق النوع الإنساني على أبدع صورة، ومكنه من بيان ما في نفسه بالمنطق الفصيح، ومن فهم بيان غيره ؛ فتميز بذلك عن الحيوان، واستعد لتلقي العلوم والخلافة في الأرض. وهذه نعم عظمى توجب الشكر والتعظيم لله تعالى.
﴿ الشمس والقمر بحسبان ﴾ أي يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما ؛ لا اختلال فيه ولا اضطراب. وبذلك تعلم الشهور والسنين والفصول، ويعرف الحساب، وتتسق أمور الكائنات الأرضية. وهذه نعم أخرى تستوجب الحمد والإقرار له تعالى بالربوبية. وهو مصدر كالغفران، أو جمع حساب ؛ كشهاب وشهبان.
﴿ والنجم والشجر يسجدان ﴾ النجم هنا : النبت الذي ينجم ؛ أي يظهر ويطلع من الأرض
ولا ساق له. والشجر : النبات الذي له ساق. وسجودهما : انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا ؛ كانقياد الساجد لخالقه.
﴿ والسماء رفعها ﴾ خلقها مرفوعة ؛ مسموكة فوق الأرض بلا عمد. ﴿ ووضع الميزان ﴾ شرع العدل وأمر به ؛ ليستقيم أمر العالم. أو خلق الآلة المعروفة التي تعرف بها مقادير الأشياء ؛ ليتوصل بها الناس في الأرض إلى الإنصاف والانتصاف في المعاملات.
﴿ ألا تطغوا في الميزان ﴾ أي لئلا تتجاوزوا الحق فيه.
﴿ وأقيموا الوزن بالقسط ﴾ قوموا وزنكم بالعدل. والمراد : حث الإنسان على مراعاته في جميع أقواله وأفعاله. ﴿ ولا تخسروا الميزان ﴾ أي لا تنقصوه ؛ فإن من حقه أن يسوى. أمر الله تعالى بالتسوية، ونهى عن الطغيان فيه الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران فيه الذي هو تطفيف ونقصان ؛ وكلاهما ظلم. وكرر لفظ " الميزان " تشديدا للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه.
﴿ للأنام ﴾ للحيوان كله. أو للإنس والجن ؛ للانتفاع بها.
﴿ والنخل ذات الأكمام ﴾ أي الأوعية التي يكون فيها الثمر وهو الطلع. جمع كم، بالكسر. أو ذات سبائب الليف. وهي التي في أعناق النخل.
﴿ والحب ﴾ أي وفي الأرض الحب ؛ كالبر والشعير مما يتغذى به. ﴿ ذو العصف ﴾ أي التبن أو القشر الذي يكون على الحب. وسمى عصفا لعصف الرياح به لخفته. ﴿ والريحان ﴾ أي وفيها الريحان : وهو كل مشموم طيب الرائحة من النبات. امتن الله على عباده بما خلقه لهم من الفاكهة للتلذذ، ومن النخل للتلذذ والغذاء، ومن الحب لغذاء الإنسان والحيوان ومن الريحان للتلذذ بطيب رائحته.
وقرئ بالجر عطفا على " العصف " وفسر باللب ؛ فكأنه قيل : والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم، وذو اللب الذي هو رزقكم.
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ الخطاب للمكلفين من الأنام، وهو الإنس والجن. أي فبأي فرد من أفراد نعم ربكما تكفران وتجحدان ! ؟ أبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها ؟ مع أن كل نعمة ناطقة بالحق، شاهدة بالصدق !. والاستفهام للتقرير بالنعم وتأكيدها في التذكير. وقيل : للتوبيخ والإنكار.
وقد عدد الله تعالى في هذه السورة كثيرا من نعائمه، وذكر خلقه بعظيم من آلائه. ثم أتبع كل خلة وصفها، ونعمة وضعها بهذه الآية الكريمة ؛ فذكرها في واحد وثلاثين موضعا، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، لينبههم على النعم، ويقررهم بها، ويقيم عليهم الحجة عند جحودها.
ولهذا الأسلوب البديع في العربية الفصحى شواهد كثيرة ؛ " فذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، ومبدأ الخلق ومعادهم. ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ؛ بعدد أبواب جهنم. وحسن ذكر الآلاء عقبها ؛ لن من جملة الآلاء : رفع البلاء وتأخير العذاب. ثم ثمانية وصف الجنتين وأهلهما ؛ بعدد أبواب الجنة. وثمانية أخرى في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأولتين ؛ فمن اعتقد الثمانية الأولى، وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة.
﴿ خلق الإنسان من صلصال ﴾ طين يابس غير مطبوخ﴿ كالفخار ﴾ أي الخزف المجوف الذي طبخ.
﴿ وخلق الجان ﴾ أي جنس الجن. ﴿ من مارج ﴾ من لهب خالص لا دخان فيه. أو مما اختلط بعضه بعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر، الذي يعلوا النار إذا أوقدت. ﴿ من نار ﴾ بيان ل " مارج ".
﴿ رب المشرقين ﴾ مشرق الشمس في الشتاء والصيف. ﴿ ورب المغربين ﴾ مغربها فيهما وفي هذا التدبير المحكم منافع عظمى للإنسان والحيوان والنبات.
﴿ مرج البحرين يلتقيان... ﴾ أرسل الله المياه العذبة والملحة في مجاريها أنهارا وبحارا على سطح الأرض، متجاورة متصلة الأطراف، ومع ذلك لم تختلط ؛ لاقتضاء حكمته تعالى إقامة حواجز بينهما من أجرام الأرض تمنعها من الاختلاط، ولولاها لبغى أحد النوعين على الآخر ؛ فبقي العذب على عذبته، والملح على ملوحته ؛ لينتفع بكل منهما فيما خلق لأجله.
ومن بدائع الصنعة ودلائل القدرة : إبقاء الأنهار والبحار الهائلة المحيطة في مجاريها على سطح الأرض على ما نشاهده مع كرويتها، وإمساكها عن الطغيان على اليابس وهو دونها بكثير ؛ وإلا لغرق الناس،
وفني العالم، والله على كل شيء قدير ؟ و " مرج " أرسل ؛ من مرج الدابة – من باب نصر - : أرسلها ترعى من المرج. " يلتقيان " يتجاوران. أو تلتقي أطرافهما. " برزخ " حاجز من أجرام الأرض ؛ وذلك بقدرته تعالى. " لا يبغيان " لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة. أولا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما.
﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ أي يخرج من أحدهما وهو الملح : اللؤلؤ والمرجان المعروفان. وإنما قيل " منهما " لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما ؛ كما يقال : يخرجان من البحر، وهما يخرجان من جميعه، ولكن من بعضه. كما تقول : خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلة من محلاته. وقد ينسب إلى الاثنين ما هو لواحد ؛ كما يسند إلى الجماعة ما صدر من أحدهم. والعرب تجمع الجنسين وتريد أحدهما، وجاء على هذا الأسلوب قوله تعالى : " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " وإنما الرسل من الإنس دون الجن. وقوله تعالى : " ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا. وجعل القمر فيهن نورا " والقمر في سماء الدنيا ؛ ولكنه أجمل ذكر السموات السبع، فساغ أن يجعل ما في إحداهن فيهن.
﴿ وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام ﴾ أي وله السفن الجاريات في البحار، المرفوعات القلوع كالجبال الشاهقة. جمع جارية، وهي السفينة. ومنشأة : أي مرفوعة الشراع وهو القلع ؛ من أنشأه : أي رفعه. وعلم وهو الجبل الطويل [ ٣٢ الشورى ص ٢٩٠ ].
﴿ ذو الجلال ﴾ ذو العظمة والاستغناء المطلق. ﴿ والإكرام ﴾ الفضل التام بالتجاوز والإحسان
والإنعام. يقال : جل الشيء يجل، أي عظم. وأجللته : أعظمته.
﴿ يسأله من في السموات والأرض ﴾ جميعا ما يحتاجون إليه في كل شأن ؛ بلسان المقال أو بلسان الحال.
﴿ كل يوم هو في شأن ﴾ أي كل وقت ولحظة يحدث أمورا، ويجدد أحوالا، حسبما تقتضيه مشيئته المبينة على الحكم البالغة. فيغفر ذنوبا، ويفرج كروبا، ويرفع أقوما، ويضع آخرين، ويحي ويميت، ويعز ويذل، ويخلق ويرزق، ويشفى ويمرض، ويعافى ويبتلى ؛ وكلها شئون يبديها ولا يبتديها، لا يشغله شأن عن شأن.
﴿ سنفرغ لكم أيها الثقلان ﴾ الفراغ هنا : القصد إلى الشيء والإقبال عليه. يقال : فرغ له وإليه – كمنع وسمع ونصر – قصد. وسأفرغ لفلان : سأجله قصدى. والثقلان : الإنس والجن ؛ تتنية ثقل، بفتحتين. وأصله سنقصده يوم القيامة إلى محاسبتكم ومجازاتكم على ما قدمتم من الأعمال، وسيكون ذلك شأننا في هذا اليوم فحسب !
﴿ لا تنفذون إلا بسلطان ﴾ أي لا تقدرون على الخروج من أمري وقضائي إلا بقوة وقهر وأنتم بمعزل عن ذلك.
﴿ يرسل عليكما ﴾ يصب عليكما﴿ شواظ من نار ﴾ لهب خالص من الدخان﴿ ونحاس ﴾ صفر مذاب. وقيل النحاس : الدخان الذي لا لهب فيه. أي أنه يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة.
﴿ فإذا انشقت السماء ﴾ تصدعت في يوم القيامة. وجواب " إذا " محذوف تقديره : رأيت ما يذهل ويفزع. ﴿ فكانت وردة ﴾ فكانت حين تصدعها كالوردة في الحمرة أو حمراء كلون الفرس الورد، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة في الشتاء. ﴿ كالدهان ﴾ أي كدهن الزيت في الذوبان من حرارة جهنم، أو محمرة كالدهان، أي الأديم الأحمر.
﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه ﴾ أي ففي حين خروجهم من القبور لا يسألون عن الذنوب، ولكنهم يسألون في موقف الحساب ؛ كما قال تعالى : " فوربك لنسألنهم أجمعين " . وقال : " وقفوهم إنهم مسئولون " فلترك السؤال موطن غير موطن السؤال.
﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ أي بسواد الوجوه، وزرقة العيون. أو بما يعلوهم من الكآبة والحزن. ﴿ فيؤخذ بالنواصي والأقدام ﴾ فتأخذ الملائكة بنواصيهم – أي بشعور مقدم رءوسهم – مجموعة إلى أقدامهم فتقذفهم في النار.
﴿ يطوفون بينها ﴾ يترددون بين التصلية بنارها الشديدة. ﴿ وبين حميم ﴾ ماء حار. ﴿ آن ﴾ بالغ في الحرارة أقصاها. يقال : أتى الحميم، أي انتهى حره إلى غايته ؛ فهو آن. وبلغ هذا أناه – ويكسر – غايته، أو نضجه وإدراكه.
﴿ ولمن خاف مقام ربه ﴾ ولمن خاف قيام ربه وهيمنته عليه ومراقبته له. أو قيامه بين يدي ربه للحساب. ﴿ جنتان ﴾ ينتقل من إحداهما إلى الأخرى ؛ لتتوفر دواعي لذته، وتظهر ثمار كرامته.
﴿ ذوتا أفنان ﴾ صفة ل " جنتان " أي صاحبتا أنواع من الأشجار والثمار ؛ جمع فن – كدن – بمعنى النوع. أو صاحبتا أغصان ؛ جمع فن – كطل – وهو ما دق ولان من الأغصان.
﴿ فيهما من كل فاكهة زوجان ﴾ صنفان : معروف، وغريب غير مألوف ؛ وكلاهما حلو يستلذ به.
﴿ بطائنها ﴾ جمع بطانة، وهي ما قابل الظهارة من الثياب. ﴿ من إستبرق ﴾ ديباج غليظ. ﴿ وجنى الجنتين دان ﴾ ما يجنى ويؤخذ من ثمارهما قريب من المتناول ؛ من الدنو بمعنى القرب.
﴿ فيهن قاصرات الطرف ﴾ نساء قاصرات أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم. ﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ﴾ أي أنهن أبكار، لم يفتضهن قبل أزواجهن أحد. يقال : طمث الرجل امرأته – من باب ضرب وقتل – افتضها. وأصل الطمث : الجماع المؤدى إلى خروج دم البكر ؛ ثم أطلق على كل جماع وإن لم يكن معه دم.
﴿ كأنهن الياقوت والمرجان ﴾ كأنهن الياقوت في صفاء اللون، والمرجان في الحمرة.
﴿ ومن دونهما جنتان ﴾ أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر – وهما اللتان للسابقين المقربين - : جنتان أخريان لمن هم دونهم من أصحاب اليمين.
﴿ مدهامتان ﴾ أي هما شديدتا الخضرة ؛ والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري من الماء. أو سوداوان من شدة الخضرة من الري ؛ من الدهمة، وهي في الأصل : سواد الليل، ويعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون. يقال : ادهام يدهام أدهيماما فهو مدهام، إذا اسود أو اشتدت خضرته.
﴿ فيهما عينان نضاختان ﴾ فوارتان بالماء لا تنقطعان. والنضخ – بالخاء المعجمة – فوق النضح – بالحاء المهملة – وهو الرش بالماء.
﴿ حور ﴾ أي فيهن نساء حور [ آية ٥٤ الدخان ص ٣١٠ ]. ﴿ مقصورات في الخيام ﴾ أي مخدرات. يقال : امرأة مقصورة وقصيرة، أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق. والنساء تمدحن بذلك لدلالته على صيانتهن والخيام : البيوت. وقيل : هي في الجنة من لؤلؤ ؛ كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
﴿ متكئين على رفرف خضر ﴾ أي على الوسائد. أو الفرش المرتفعة. أو الرقيق من ثياب الديباج، ذات اللون السندسي الأخضر. أو على ثياب خضر، تتخذ منها الستور التي تبسط على وجه الفراش للنوم عليه. واشتقاقه من رف. إذا ارتفع. وهو اسم جمع واحده رفرفة. أو اسم جنس جمعي. ﴿ وعبقري حسان ﴾ طنافس، وهي أبسطة لها أهداب رقيقة. أو هو الثياب الموشاة ؛ وكل ثوب وشى فهو عند العرب عبقري. أو هو الديباج الغليظ. والعبقري في الأصل : الكامل من كل شيء. أو الجليل النفيس الفاخر من الرجال وغيرهم ؛ وياؤه كياء كرسي وبختي، " والمراد الجنس. أو هو اسم جمع، أو جمع واحدة عبقرية، ولذا وصف بالحسان.
﴿ تبارك اسم ربك ﴾ تعالى اسمه الجليل، وارتفع عما لا يليق بشأنه العظيم ! أو تعالت صفته. أو كثرت خيراته [ آية ٥٤ الأعراف ص ٢٦٤ ]. ﴿ ذي الجلال والإكرام ﴾ [ آية ٢٧ من هذه السورة ] والله أعلم.