تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون
المعروف بـالدر المصون
.
لمؤلفه
السمين الحلبي
.
المتوفي سنة 756 هـ
ﰡ
قوله: ﴿إِذَا السمآء﴾ : كقولِه: ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١] في إضمارِ الفعلِ وعَدَمِه. وفي «إذا» هذه احتمالان، أحدهما: أَنْ تكونَ شرطيةً. والثاني: أَنْ تكونَ غير شرطيةٍ. فعلى الأول في جوابها خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه «أَذِنَتْ»، والواوُ مزيدةٌ. الثاني: أنه «فَمُلاقِيه»، أي: فأنت مُلاقِيْه. وإليه ذهب الأخفش. الثالث: أنَّه ﴿ياأيها الإنسان﴾ على حَذْفِ الفاء. الرابع: أنه ﴿ياأيها الإنسان﴾ أيضاً، ولكن على إضمارِ القولِ، أي: يقال: يا أيها الإِنسانُ. الخامس: أنه مقدرٌ تقديرُه: بُعِثْتُمِ. وقيل: تقديرُه: لاقى كلُّ إنسانٍ كَدْحَه. وقيل: هو ما صَرَّح به في سورتَيْ التكوير والانفطار، وهو قولُه: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [التكوير: ١٤]، [الانفطار: ٥] قاله الزمخشري، وهو حسنٌ.
وعلى الاحتمال الثاني فيها وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ مفعولاً
وعلى الاحتمال الثاني فيها وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ مفعولاً
729
بها، بإضمار اذكرْ. والثاني: أنها مبتدأٌ، وخبرُها «إذا» الثانية، والواوُ مزيدةٌ، تقديرُه: وقتُ انشقاقِ السماءِ وقتُ مَدِّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقتٍ واحد، قاله الأخفشُ أيضاً. والعاملُ فيها إذا كانت ظرفاً عند الجمهور جوابُها: إمَّا الملفوظُ به، وإمَّا المقدَّرُ. وقال مكي: «وقيل: العاملُ» انْشَقَّتْ «. وقال ابن عطية:» قال بعضُ النحاة: العامل «انْشَقَّتْ»، وأبى ذلك كثيرٌ من أئمتهم؛ لأنَّ «إذا» مضافةٌ إلى «انشَقَّتْ»، ومَنْ يُجِزْ ذلك تَضْعُفْ عنده الإِضافةُ ويَقْوى معنى الجزاء.
وقرأ العامَّةُ «انشَقَّتْ» بتاءِ التأنيث ساكنةً، وكذلك ما بعده. وقرأ أبو عمرو في روايةِ عُبَيْد بن عقيل بإشمام الكسر في الوقف خاصة، وفي الوصل بالسكونِ المَحْض. قال أبو الفضل: «وهذا من التغييرات التي تلحق الرويَّ في القوافي. وفي هذا الإِشمام بيانُ أنَّ هذه التاءَ من علامةِ تأنيثِ الفعل للإِناث، وليسَتْ مِمَّا على ما في الأسماءِ، فصار ذلك فارقاً بين الاسمِ والفعل فيمَنْ وقَفَ على ما في الأسماء بالتاءِ، وذلك لغة طيِّىء، وقد حُمِل في المصاحف بعضُ التاءات على ذلك».
وقرأ العامَّةُ «انشَقَّتْ» بتاءِ التأنيث ساكنةً، وكذلك ما بعده. وقرأ أبو عمرو في روايةِ عُبَيْد بن عقيل بإشمام الكسر في الوقف خاصة، وفي الوصل بالسكونِ المَحْض. قال أبو الفضل: «وهذا من التغييرات التي تلحق الرويَّ في القوافي. وفي هذا الإِشمام بيانُ أنَّ هذه التاءَ من علامةِ تأنيثِ الفعل للإِناث، وليسَتْ مِمَّا على ما في الأسماءِ، فصار ذلك فارقاً بين الاسمِ والفعل فيمَنْ وقَفَ على ما في الأسماء بالتاءِ، وذلك لغة طيِّىء، وقد حُمِل في المصاحف بعضُ التاءات على ذلك».
730
وقال ابن عطية: «وقرأ أبو عمرو» انشَقَّتْ «يقف على التاء كأنه يُشِمُّها شيئاً من الجرِّ، وكذلك في أخواتها. قال أبو حاتم:» سمعتُ أعرابياً فصيحاً في بلادِ قيسٍ يكسِرُ هذه التاءات «. وقال ابن خالَويه:» انشَقَّت «بكسر التاء عُبَيْد عن أبي عمرو. قلت: كأنه يريدُ إشمامَ الكسرِ، وأنه في الوقفِ دونَ الوصل لأنه مُطْلَقٌ، وغيرُه مقيَّدٌ، والمقيَّدُ يَقْضي على المطلق. وقال الشيخ:» وذلك أنَّ الفواصلَ تجري مَجْرى القوافي، فكما أن هذه التاءَ تُكسر في القوافي تُكْسَرُ في الفواصل. ومثالُ كسرِها في القوافي قولُ كثيِّر عَزَّةَ:
وكذلك باقي القصيدة، / وإجراءُ الفواصلِ في الوقف مُجْرى القوافي مَهْيَعٌ معروفٌ، كقولِه تعالى: ﴿الظنونا﴾ [الآية: ١٠] ﴿الرسولا﴾ [الآية: ٦٦] في الأحزاب، وحَمْلُ الوصلِ على الوقفِ موجودٌ أيضاً.
٤٥٢٠ - وما أنا بالدَّاعي لِعَزَّةَ بالرَّدى | ولا شامِتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زلَّتِ |
731
قوله: ﴿وَأَذِنَتْ﴾ : عَطْفٌ على «انْشَقَّتْ»، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ، ومعنى «أَذِنَتْ»، أي: استمعَتْ أَمْرَه. يُقال:
731
أَذِنْتُ لك، أي: استمَعْتُ كلامَك. وفي الحديث: «ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن» وقال الشاعر:
وقال آخر:
وقال الجحَّافُ بنُ حكيم:
والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا.
٤٥٢١ - صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به | وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا |
٤٥٢٢ - إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً | وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا |
٤٥٢٣ - أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ | ........................ |
732
قوله: ﴿وَحُقَّتْ﴾ الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى، أي: حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك، أي: بسَمْعِه وطاعتِه. يُقال: هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به، والمعنى: وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ.
733
قوله: ﴿وَإِذَا الأرض مُدَّتْ﴾ : كالأولِ، وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ «إذا» الأولى على زيادةِ الواوِ.
قوله: ﴿كَادِحٌ﴾ : الكَدْحُ: قال الزمخشري: «جَهْدُ النفس [في العمل] والكَدُّ فيه، حتى يُؤَثِّر فيها، ومنه كَدَح جِلِدَه إذا خَدَشَه. ومعنى» كادِحٌ «، أي: جاهِدٌ إلى لقاءِ ربِّك وهو الموتُ». انتهى. وقال ابن مقبل:
وقال آخر:
وقال الراغب: «وقد يُستعمل الكَدْحُ استعمالَ الكَدْمِ بالأسنان. قال الخليل: الكَدْحُ دونَ الكَدْم».
٤٥٢٤ - وما الدَّهْرُ إلاَّ تارتان فمِنْهما | أموتُ وأخرى أَبْتغي العيشَ أَكْدَحُ |
٤٥٢٥ - ومَضَتْ بَشاشَةُ كلِّ عيشٍ صالحٍ | وبَقِيْتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ |
733
قوله: ﴿فَمُلاَقِيهِ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على كادح. والتسبيبُ فيه ظاهرٌ. ويجوز أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت مُلاقيه. وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط. وقال ابنُ عطية: «فالفاءُ على هذا عاطفةٌ جملةَ الكلامِ على التي قبلها. والتقدير: فأنت مُلاقيه» يعني بقوله: «على هذا»، أي: على عَوْدِ الضميرِ على كَدْحِك. قال الشيخ: «ولا يَتَعَيَّنُ ما قاله، بل يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْف المفردات». والضمير: إمَّا للربِّ، وإمَّا للكَدْح، أي: مُلاقٍ جزاءَ كَدْحِك.
734
قوله: ﴿مَسْرُوراً﴾ : حالٌ مِنْ فاعل «يَنْقَلِبُ». وقرأ زيد بن علي «ويُقْلَبُ» مبنياً للمفعول مِنْ قَلَبه ثلاثياً.
ﮜﮝ
ﰋ
قوله: ﴿ويصلى﴾ : قرأ أبو عمرو وحمزةُ وعاصمٌ بفتح الياء وسكونِ الصادِ وتخفيفِ اللام، والباقون بالضم والفتح والتثقيل. وقد تقدَّم تخريجُ القراءتَيْن في النساء عند قولِه: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء: ١٠] وأبو الأشهب ونافع وعاصم وأبو عمرو في روايةٍ عنهم «يُصْلى» بضمِّ الياء وسكونِ الصاد مِنْ «أَصْلى».
قوله: ﴿أَن لَّن﴾ : هذه «أَنْ» المخففةُ كالتي في أول القيامة، وهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْن أو أحدِهما على الخلاف. و «يَحُوْرُ» معناه يَرْجِعُ. يقال: حار يَحُورُ حَوْراً. قال لبيد:
ويُسْتعمل بمعنى صار فيَرْفع الاسمَ ويَنْصِبُ الخبرَ عند بعضِهم، وبهذا البيتِ يَسْتَدِلُّ قائِلُه. ومَنْ منع نَصَبَ «رماداً» على الحال. وقال الراغب: «الحَوْرُ التردُّد: إمَّا بالذاتِ وإمَّا بالفكرة. وقولُه تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾، أي: لن يُبْعَثَ. وحار الماءُ في الغَديرِ، تَرَدَّد فيه. وحار في أمْرِه وتَحَيَّر، ومنه» المِحْوَرُ «للعُوْدِ الذي تجري عليه البَكَرة لتردُّدِه. وقيل:» نعوذُ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر «، أي: مِنْ التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه، ومحاورةُ الكلام: مراجعتُه».
٤٥٢٦ - وما المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْءُه | يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هو ساطعٌ |
قوله: ﴿بلى﴾ : جوابٌ للنفي في «لن»، و «إنَّ» جوابُ قسمٍ مقدرٍ.
قوله: ﴿بالشفق﴾ : قال الراغب: «الشَّفَقُ: اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس. والإِشفاقُ: عنايةٌ
735
مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه، ويَخاف ما يلحقُه، فإذا عُدِّيَ ب» مِنْ «فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ، وإذا عُدِّي ب» على «فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ». وقال الزمخشري: «الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه. سُمِّي شَفَقاً لرِقَّته، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان: رِقَّةُ القلبِ عليه». انتهى. والشَّفَقُ شفقان: الشَّفَقُ الأحمر، والآخر الأبيضُ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ. قال الشاعر: