تفسير سورة التوبة

الدر المصون
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ
الجمهورُ على رفع «براءة» وفيه وجهان، أحدهما: أنها رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قولُه: «إلى الذين». وجاز الابتداءُ بالنكرة لأنها تخصَّصَتْ بالوصفِ بالجارِّ بعدها. والثاني: أنها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هذه الآياتُ براءةٌ. ويجوز في: «من الله» أن يكون متعلقاً بنفس «براءة» لأنها مصدرٌ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب «مِنْ» تقول: بَرِئت مِنْ فلانٍ أَبْرَأُ بَراءة أي: انقطعت العُصْبَةُ بيننا. وعلى هذا فيجوز أن يكونَ المسَوِّغُ للابتداء بالنكرة في الوجه الأول هذا. و «إلى الذين» متعلقٌ بمحذوف على الأول لوقوعِه خبراً، وبنفس «بَراءة» على الثاني. ويقال: بَرِئْتُ وبَرَأت من الدين بالكسر والفتح. وقال الواحدي: «ليس فيه إلا لغةٌ واحدة: كسرُ العين في الماضي، وفتحُها في المستقبل» وليس كذلك، بل نَقَلَهما أهلُ اللغة.
وقرأ عيسى بن عمر «براءةً» بالنصب على إضمار فعل أي: اسمعوا براءةً. وقال ابن عطية: «أي، الزموا براءةً، وفيه معنى الإِغراء».
5
وقُرىء «مِنِ الله» بكسر نون «مِنْ» على أصلِ التقاءِ الساكنين أو على الإِتباع لميم «مِنْ» وهي لُغَيَّةٌ، فإن الأكثرَ فتحُها مع لام التعريف وكَسْرُها مع غيرها نحو: «مِنِ ابنك» وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران أنهم يَقْرؤون كذلك بكسر النون مع لام التعريف.
6
قوله تعالى: ﴿فَسِيحُواْ﴾ : هذا على إضمار القول أي: قيل: سيحوا. وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب. يقال: ساح يَسيح سِياحة وسُيُوحاً وسَيَحاناً أي: انساب كسَيْح الماءِ في الأماكن المنبسطة. قال طرفة:
٢٤٤٧ - لو خِفْتُ هذا منك ما نِلْتَني حتى ترى خيلاً أمامي تَسِيحْ
و «أربعةَ أشهرٍ» ظرف ل «سِيْحوا». وقرىء ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ بنصب الجلالة على أن النونَ حُذِفَتْ تخفيفاً. وقد تقدَّم تحريرُه.
قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ﴾ : رفع بالابتداء، و «مِن الله» : إمَّا صفةُ أو متعلقٌ به. وإلى الناس «الخبر. ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به كما تقدَّم في» براءة «. قال الشيخ:» ولا وجهَ لقولِ مَنْ قال إنه معطوف على «براءة»، كما لا يُقال «عمرو» معطوف على «زيد» في «زيد قائم وعمرو قاعد». وهو [كما قال]، وهذه عبارة [الزمخشري بعينها]
6
وقرأ الضحَّاك وعكرمة وأبو المتوكل: «وإذْن» بكسر الهمزةِ وسكونِ الذال. وقرأ العامَّةُ: «أنَّ الله» بفتح الهمزة على أحدِ وجهين: إمَّا كونِه خبراً ل «أذان» أي: الإِعلامُ من الله براءتُه من المشركين وضعَّف الشيخُ هذا الوجهَ ولم يذكر تضعيفَه وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجر أي: بأن الله. ويتعلَّقُ هذا الجارُّ إمَّا بنفس المصدرِ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه صفتُه. و «يومَ» منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله: «إلى الناس». وزعم بعضُهم أنه منصوبٌ ب «أذانٌ» وهو فاسدٌ من وجهين: أحدهما: وصفُ المصدرِ قبل عمله. الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ.
وقرأ الحسن والأعرج بكسر الهمزة، وفيه المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ/ الأذانِ مجرى القول.
قوله: ﴿مِّنَ المشركين﴾ متعلقٌ بنفس «بريء» كما يقال: «بَرِئْتُ منه»، وهذا بخلاف ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله﴾ [التوبة: ١] فإنها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكونَ صفةً ل «براءة».
قوله: ﴿وَرَسُولِهِ﴾ الجمهورُ على رَفْعِه، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: ورسولُه بريءٌ منهم، وإنما حُذِفَ للدلالةِ عليه. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصلِ المسوِّغ للعطف فرفعُه على هذا بالفاعلية. الثالث: أنه معطوفٌ على محل اسم «أنَّ»، وهذا عند مَنْ يُجيز ذلك في المفتوحةِ قياساً على المكسورة. قال
7
ابن عطية: «ومذهبُ الأستاذ يعني ابن الباذش على مقتضى كلامِ سيبويهِ أن لا موضعَ لِما دخلَتْ عليه» أنَّ «؛ إذ هو مُعْرَبٌ قد ظهر فيه عملُ العامل، وأنه لا فرقَ بين» أَنَّ «وبين» ليت «، والإِجماعُ على أن لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذه». قال الشيخ: «وفيه تعقُّبٌ؛ لأن علةَ كونِ» أنَّ «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليس ظهورَ عملِ العامل بدليل:» ليس زيد بقائم «و» ما في الدار مِنْ رجل «فإنه ظهر عملُ العامل ولهما موضع، وقولُه:» بالإِجماع «يريد أن» ليت «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه بالإِجماع ليس كذلك؛ لأن الفراءَ خالَفَ، وجعل حكمَ» ليت «وأخواتِها جميعِها حكمَ» إنَّ «بالكسر».
قلت: قوله: «بدليل ليس زيدٌ بقائم» إلى آخره قد يَظْهر الفرق بينهما فإن هذا العاملَ وإنْ ظهر عملُه فهو في حكمِ المعدوم؛ إذ هو زائد فلذلك اعتبرنا الموضعَ معه بخلاف «أنَّ» بالفتح فإنه عاملٌ غيرُ زائد، وكان ينبغي أن يُرَدَّ عليه قولُه: «وأن لا فرقَ بين» أنَّ «وبين» ليت «، فإنَّ الفرقَ قائمٌ، وذلك أن حكمَ الابتداء قد انتسخ مع ليت ولعل وكأن لفظاً ومعنىً بخلافه مع إنَّ وأنَّ فإن معناه معهما باقٍ.
وقرأ عيسى بن عمر وزيد بن علي وابن أبي إسحاق»
ورسولَه «بالنصب. وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة. والثاني: أنه مفعولٌ معه، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن» ورسولِه «بالجر وفيها وجهان، أحدهما: أنه مقسمٌ به أي: ورسولِه إن الأمر كذلك، وحُذِفَ جوابُه لفهم المعنى. والثاني: أنه على الجِوار، كما أنهم نَعَتوا وأكَّدوا على الجِوار، وقد
8
تقدَّم تحقيقُه. وهذه القراءةُ يَبْعُد صحتُها عن الحسن للإِبهام، حتى يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ» ورسولِه «بالجر. فقال الأعرابي: إن كان الله قد بَرِىء مِنْ رسوله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيُّ الواقعةَ، فحينئذ أَمَرَ عمرُ بتعليم العربية. ويُحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ وأبي الأسود الدؤلي. قال أبو البقاء:» ولا يكون عطفاً على المشركين لأنه يؤدي إلى الكفر «. وهذا من الوضحات.
9
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الذين﴾ : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع. والتقدير: لكنِ الذين عاهدتم فَأَتِمُّوا إليهم عهدَهم. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ فإنه قال: «فإن قلت: مِمَّ استثنى قولَه ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم؟﴾ قلت: وجهُه أن يكونَ مستثنى من قوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض﴾ لأن الكلامَ خطابٌ للمسلمين، ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم: سِيْحوا إلا الذين عاهدْتم منهم ثم لم ينقصوا فأتمُّوا إليهم عهدهم. والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أُمِروا في الناكثين: ولكن الذين لم يَنْكثوا فأتمُّوا إليهم عهدَهم ولا تُجروهم مُجراهم».
الثاني: أنه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملة محذوفة تقديره: اقتلوا المشركين المعاهَدين إلا الذين عاهَدْتم. وفيه ضعفٌ.
الثالث: أنه مبتدأ والخبرُ قولُه فأتمُّوا إليهم، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ لأنَّ
9
الفاءَ تزاد في غير موضعها، إذا المبتدأُ لا يُشْبه الشرط لأنه لأُِناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش إذ يُجَوِّز زيادتها مطلقاً. والأَوْلَى أنه منقطعٌ لأنَّا لو جَعَلْناه متصلاً مستثنى من المشركين في أولِ السورة لأدَّى إلى الفَصْلِ بين المستثنى والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ الجمهور «يَنْقُصوكم» بالصاد مهملةً، وهو يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين. ويجوز ذلك فيه هنا، ف «كُمْ» مفعولٌ، و «شيئاً» : إمَّا مفعول ثان وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من النقصان، أو لا قليلاً و [لا] كثيراً من النقصان. وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفَع/ وأبو زيد «يَنْقُضوكم» بالضاد المعجمة، وهي على حَذْفِ مضاف أي: ينقضوا عهدكم، فحُذف المضاف وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. قال الكرماني: «وهي مناسِبة لِذِكْرِ العهد» أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهدَ، وهي قريبة من قراءة العامة؛ فإنَّ مَنْ نقض العهد فقد نقص من المدة، إلا أن قراءةَ العامة أوقعُ لمقابلها التمام.
10
قوله تعالى: ﴿الأشهر﴾ : يجوز أن تكون الألف واللام للعهد، والمرادُ بهذه الأشهرِ الأشهرُ المتقدمة في قوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾، والعربُ إذا ذكرت نكرةً، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً، أتت بمضمرِه أو بلفظه معرَّفاً بأل، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل: «رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل» لم تُرِد بالثاني الأولَ، وإن وَصَفْتَه
10
بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك: «فأكرمت الرجل المذكور»، ومنه هذه الآيةُ فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة. ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد، والوجهان مقولان في التفسير.
والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات، وقد بَيَّن ذلك أبو الهيثم فقال: «يُقال:» أَهْلَلْنا شهرَ كذا «أي: دَخَلَْنا فيه، فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفِه لباساً، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ، وأنشد:
٢٤٤٨ - إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه كفى قاتِلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي
قوله: ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ في انتصابه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ المكاني. قال الزجاج:»
نحو: ذهبت مذهباً «. وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا القولَ من حيث إنه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة» في «، نحو: صَلَّيْتُ في الطريق، وفي البيت، ولا يَصِلُ بنفسه إلا في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه في بيت ساعِدة:
٢٤٤٩ - لَدْنٌ بهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ اتِّساعاً لا على الظرف؛ لأنه ظرف مكان مختص.
11
قال الشيخ:» إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى «واقعدوا» لا يُراد به حقيقةُ القعود، وإنما يُراد: ارصُدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في المادة، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول: جلست مجلسَ القاضي، وقعدت مجلسَ القاضي، والآيةُ من هذا القبيل «.
والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو»
على «أي: على كلِّ مَرْصَد، وهذا قول الأخفش، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر:
٢٤٥٠ - تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني
وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ﴾ أي: على صراطك، اتفق الكل على أنه على تقدير»
على «. وقال بعضُهم: هو على تقدير الباء أي بكل مرصد، نقله أبو البقاء: وحينئذٍ تكون الباء بمعنى» في «فينبغي أن تُقَدَّرَ» في «لأن المعنى عليها، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر:
٢٤٥١ - نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ
والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي: رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح للزمان والمكان والمصدر، قال عامر بن الطفيل:
12
٢٤٥٢ - ولقد عَلِمْتَ وما إِخالك ناسِيا أنَّ المنيَّةَ للفتى بالمَرْصَدِ
والمِرْصاد: المكانُ المختص بالترصُّد، والمَرْصَدُ يقع على الراصد سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على المرصود، وقولُه تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ [الجن: ٢٧] يَحْتمل كلَّ ذلك، وكأنه في الأصل مصدرٌ، فلذلك التُزِم فيه الإِفرادُ والتذكير.
13
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ﴾ : كقوله: ﴿إِن امرؤ هَلَكَ﴾ [النساء: ١٧٦] في كونِه من باب الاشتغال/ عند الجمهور.
قوله: ﴿حتى يَسْمَعَ﴾ «حتى» يجوز أن تكونَ هنا للغاية، وأن تكونَ للتعليل، وعلى كلا التقديرين يتعلَّقُ بقوله: «فَأَجِرْهُ»، وهل يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب التنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنه يجوزُ من حيث المعنى أن تُعَلَّق «حتى» بقوله: «استجارك» أو بقوله: «فَأَجِرْهُ» إذ يجوز تقديرُه: وإن استجارك أحدٌ حتى يسمعَ كلام الله فَأَجِرْهُ حتى يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور لأمرٍ لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التنازع، وأَعْمَلْنا الأول مثلاً لاحتاج الثاني إليه مضمراً على ما تقرر، وحينئذٍ يلزم أنَّ «حتى» تجرُّ المضمر، و «حتى» لا تجرُّه إلا في ضرورة شعر كقوله:
٢٤٥٣ - فلا واللَّهِ لا يَلْقَى أُناسٌ فتى حَتَّاك يا ابنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند مَنْ يُجيز أن تجرَّ المضمر فلا يمتنع ذلك عنده، ويكون من
13
إعمال الثاني لحذفِه، ويكون كقولك: «فرحت ومررت بزيد» أي: فرحت به، ولو كان من إعمال الأول لم تَحْذِفْه من الثاني.
وقوله: ﴿كَلاَمَ الله﴾ من باب إضافة الصفة لموصوفها لا من باب إضافةِ المخلوق للخالق. و «مَأْمَنَه» يجوز أن يكون مكاناً أي مكان أَمْنِه، وأن يكونَ مصدراً أي: ثمَّ أَبْلِغْه أَمْنَه.
14
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ﴾ : في خبر «يكون» ثلاثةُ أوجه أظهرُها: أنه «كيف»، و «عهدٌ» اسمُها، والخبر هنا واجبُ التقديمِ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام وهو الاستفهامُ، و «للمشركين» على هذا متعلقة: إمَّا ب «يكون» عند مَنْ يُجيز في «كان» أن تعمل في الظرفِ وشبهه، وإمَّا بمحذوف لأنها صفةٌ لعهد في الأصل، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً، و «عند» يجوز أن تكون متعلقةً ب «يكون» أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «عَهْد» أو متعلقةً بنفس «عهد» لأنه مصدر. الثاني: أن يكون الخبر «للمشركين» و «عند» على هذا فيها الأوجهُ المتقدمة. ونزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوز أن يكونَ ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به «للمشركين». والثالث: أن يكون الخبرُ «عند الله» و «للمشركين» على هذا: إمَّا تبيين، وإمَّا متعلقٌ ب «يكون» عند مَنْ يجيز ذلك كما تقدم، وإمَّا حال من «عهد»، وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر. ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونِهِ حرفَ جر. و «كيف» على هذين الوجهين الأخيرين مُشْبِهةٌ بالظرف أو بالحال كما تقدَّم تحقيقه في ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨].
ولم يذكروا هنا وجهاً رابعاً وكان ينبغي أن يكونَ هو الأظهر - وهو أن يكونَ الكونُ تاماً بمعنى: كيف يوجد عهدٌ للمشركين عند الله؟، والاستفهامُ
14
هنا بمعنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب «إلا»، ومِنْ مجيئه بمعنى النفي أيضاً قولُه:
٢٤٥٤ - فهذي سيوفٌ يا صُدَيُّ بنَ مالكٍ كثيرٌ ولكن كيف بالسيفِ ضاربُ
أي: ليس ضاربٌ بالسيف.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ﴾ فيه وجهان أحداهما: أنه استثناءٌ منقطع أي: لكن الذين عاهدتم فإنَّ حُكْمَهم كيت وكيت. والثاني: أنه متصلٌ وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدهما: أنه منصوبٌ على أصل الاستثناء من المشركين. والثاني: أنه مجرورٌ على البدل منهم، لأنَّ معنى الاستفهامِ المتقدمِ نفيٌ، أي: ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا. فقياسُ قولِ أبي البقاء فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ من قوله «فما استقاموا» خبرُه.
قوله: ﴿فَمَا﴾ يجوز في «ما» أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً، وهي في محلِّ نصبٍ على ذلك أي: فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم. ويجوز أن تكونَ شرطيةً، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الظرف الزماني، والتقدير: أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم. ونظَّره أبو البقاء بقولِه تعالى:
﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ [فاطر: ٢]. والثاني: أنها في محل رفع بالابتداء، وفي الخبر الأقوالُ المشهورة، و «فاستقيموا» : جوابُ الشرط. وهذا نحا إليه الحوفي، ويحتاج إلى/ حذفِ عائد أي: أيُّ زمانٍ
15
استقاموا لكم فيه، فاستقيموا لهم. وقد جوَّز الشيخ جمال الدين ابنُ مالك في «ما» المصدرية الزمانية أن تكونَ شرطيةً جازمة، وأنشد على ذلك:
٢٤٥٥ - فما تَحْيَ لا نسْأَمْ حياةً وإن تَمُتْ فلا خيرَ في الدنيا ولا العيشِ أجمعا
ولا دليل فيه لأنَّ الظاهرَ الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدرية وزمانٍ، قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكونَ نافيةً لفساد المعنى، إذ يصير المعنى: استقيموا لهم لأنهم لم يَسْتقيموا لكم».
16
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا﴾ : المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه. فقدَّره أبو البقاء: «كيف تَطْمئنون أو: كيف يكونُ لهم عهدٌ». وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم. والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ، لأنه مِنْ جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقوى، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً، وتقدَّم منه قولُه تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٥] ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ [النساء: ٤١]، وقال الشاعر:
٢٤٥٦ - وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ
أي: كيف مات؟، وقال الحطيئة:
16
٢٤٥٧ - فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا
أي: كيف تَلُومني في مدحهم؟ قال الشيخ: «وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد» كيف «بقوله:» كيف تطمئنون «، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم». قلت: ولم يقدّره أبو البقاء بهذا وحدَه، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه.
قوله: ﴿وَإِن يَظْهَرُوا﴾ هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله: ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ [الأعراف: ١٦٩]. و «لا يرقُبوا» جوابُ الشرط. وقرأ زيد بن علي: «وإن يُظْهَروا» ببنائِه للمفعول، مِنْ أظهره عليه أي: جعله غالباً له.
قوله: ﴿إِلاًّ﴾ مفعولٌ به ب «يرقُبوا» أي: لا يَحْفظوا. وفي «الإِلِّ» أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها: أن المراد به العهد، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدِّي، ومنه قول الشاعر:
٢٤٥٨ - لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي: الحِلْف. وقال آخر:
17
وقال آخر:
٢٤٥٩ - وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ
٢٤٦٠ - أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا قطعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع: «بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ، كريم الخِلّ، بَرودُ الظلّ» أي: وفيُّ العهد.
الثاني: أن المرادَ به القَرابة، وبه قال الفراء، وأنشد لحسان رضي الله عنه:
٢٤٦١ - لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله:
٢٤٦٢ -................. قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ
الثالث: أن المرادَ به الله تعالى أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله: «إنَّ هذا الكلام لم يَخْرج من إلّ» أي: الله عز وجل. ولم يرتضِ هذا الزجاج قال: «لأن أسماءَه تعالى معروفة في الكتاب والسنة، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ افعلْ لي كذا.
18
الرابع: أن الإِلَّ الجُؤَار، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً، ومنه قول أبي جهل:
٢٤٦٣ - لإِلٍّ علينا واجبٍ لا نُضِيعُه متينٍ قُواه غيرِ منتكثِ الحبلِ
الخامس: أنه مِنْ «ألَّ البرقُ» أي: لَمَع. قال الأزهري: «الأَلِيل: البريق، يقال: ألَّ يَؤُلُّ أي: صفا ولمع». وقيل: الإِلُّ مِن التحديد ومنه «الأَلَّةُ» الحَرْبة وذلك لِحِدَّتها. وقد جعل بعضُهم بين هذه المعاني قَدَراً مشتركاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْتُه لك، فقال الزجاج: «حقيقةُ الإِلِّ عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء، فَمِنْ ذلك: الأَْلَّةُ: الحَرْبَةُ، وأُذُن مُؤَلَّلَة، فالإِلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد والقَرابة والجُؤَار من هذا، فإذا قلت في العهد:» بينهما إلٌّ «فتأويلُه أنهما قد حَدَّدا في أَخْذ العهود، وكذلك في الجُؤَار والقَرابة. وقال الراغب:» الإِلُّ: كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ وحِلْفٍ وقرابة تَئِلُّ أي: تَلْمَع، وألَّ الفَرَسُ: أسرع، والأَْلَّةُ: / الحَرْبَةُ اللامعة «، وأنشد غيرُه على ذلك قولَ حماس بن قيس يوم فتح مكة: وذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ... قال:» وقيل: الإِلُّ والإِيلُ اسمان لله تعالى، وليس ذلك بصحيحٍ، والألَلاَن صفحتا السكين «انتهى. ويُجمع الإِلُّ في القِلَّة آلٌّ، والأصل: أَأْلُل بزنة أَفْلُس، فأُبدلت الهمزةُ الثانيةُ ألفاً لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأُدْغمت اللامُ في
19
اللام. وفي الكثرة على إلال كذِئْب وذِئاب. والأَْلُّ بالفتح قيل: شدَّة القنوط. قال الهروي في الحديث:» عَجب ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم «قال أبو عبيد:» المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتْحُها، وهو أشبهُ بالمصادر، كأنه أراد مِنْ شدة قنوطكم، ويجوز أن يكونَ مِنْ رَفْعِ الصوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً إذا رفع صوتَه بالبكاء، ومنه يقال: له الويل والأَلِيل، ومنه قولُ الكميت:
٢٤٦٤ - إن يُقْبلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْ
٢٤٦٥ - وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ الفُضُلُ
انتهى. وقرأت فرقة: «ألاًّ» بالفتح، وهو على ما ذكر مِنْ كونِه مصدراً مِنْ ألَّ يَؤُلُّ إذا عاهد. وقرأ عكرمة: «إيلاً» بكسرِ الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، وفيه ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنه اسمُ الله تعالى، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في جبريل وإسرائيل أن المعنى عبد الله. والثاني: أنه يجوزُ أن يكون مشتقاً مِنْ آل يَؤُول إذا صار إلى آخر الأمر، أو مِنْ آل يَؤُول إذا ساسَ قاله ابن جني أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة. وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فَقُلِبَتْ ياءً كريح. الثالث: أنه هو الإِلُّ المضعف، وإنما اسْتُثْقِل التضعيفُ فأبدل إحداهما حرفَ علةٍ كقولِهم: أَمْلَيْت الكتاب وأَمْلَلْته. قال: الشاعر:
20
٢٤٦٦ - يا ليتَما أمُّنا شالَتْ نَعَمَتُها أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِ
قوله: ﴿وَلاَ ذِمَّةً﴾ الذِّمَّة: قيل العهد، فيكون مما كُرِّر لاختلافِ لفظِه إذا قلنا: إنَّ الإِلَّ العهدُ أيضاً، فهو كقوله تعالى:
﴿صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: ١٥٧].
وقوله:
٢٤٦٧ -................... وألفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقوله:
٢٤٦٨ -................. وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبعدُ
وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي أي: في ضماني وبه سُمِّي أهلُ الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين، ويقال: «له عليَّ ذِمَّةٌ وذِمام ومَذَمَّة، وهي الذِّمُّ». قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحرث:
٢٤٦٩ - يُصَيِّح بالأَْسْحار في كل صَارَة كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ
وقال الراغب: «الذِّمام: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته مِنْ عهد، وكذلك الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة» يعني بالفتح والكسر وقيل: لي مَذَمَّةٌ
21
فلا تَهْتكها. وقال غيره: «سُمِّيَتْ ذِمَّة لأنَّ كلَّ حُرْمة يلزمك مِنْ تضييعها الذَّمُّ يقال لها ذِمَّة»، وتُجْمع على ذِمّ كقوله:
٢٤٧٠ -................... كما ناشد الذِّمَّ...........
وعلى ذِمَم وذِمَام. وقال أبو زيد: «مَذِمَّة بالكسر مِنَ الذِّمام وبالفتح من الذَّمِّ». وقال الأزهري: «الذِّمَّة: الأمان»، وفي الحديث: «ويَسْعى بذمَّتِهم أَدْناهم»، قال أبو عبيد: «الذمَّة الأمانُ ههنا، يقول: إذا أعطى أدنى الناس أماناً لكافر نَفِذ عليهم، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع العسكر». وقال الأصمعي: «الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحْفَظَ ويُحْمى».
قوله: ﴿يُرْضُونَكُم﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أن حالهم كذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «لا يَرْقُبوا»، قال أبو البقاء: «وليس بشيءٍ لأنهم بعد ظُهورهم لا يُرضون المؤمنين».
قوله: ﴿وتأبى﴾ يقال: أبى يأبى إبىً أي: اشتد امتناعُه: فكلُّ إباءٍ امتناعُ مِنْ غير عكس قال:
٢٤٧١ - أبى الله إلا عَدْلَه ووفاءَه فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُ
وقال آخر:
22
٢٤٧٢ - أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرقُ نابَه عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق/ الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ مه على يَفْعَل بفتح العين شاذٌّ، ومثله قَلَى يقلى في لغة.
23
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ : يجوز أن تكون [ساء] على بابِها مِنَ التصرُّف والتعدِّي ومفعولها محذوفٌ أي: ساءهم الذي كانوا يَعْملونه أو عَمَلُهم، وأن تكون الجارية مَجْرى بئس، فتُحَوَّل إلى فَعُل بالضم، ويمتنع تصرُّفها، وتصير للذم، ويكون المخصوصُ بالذمِّ محذوفاً كما تقرر ذلك غير مرة.
قوله تعالى :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ : خبرُ مبتدأ محذوف أي : فهم إخوانُكم، والجملةُ الاسميةُ في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط. و " في الدين " متعلِّقٌ بإخوانكم لِما فيه من معنى الفعل.
قوله تعالى: ﴿أَئِمَّةَ الكفر﴾ : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أئمة» بهمزتين ثانيتهما مُسَهَّلة بينَ بينَ ولا ألفَ بينهما. والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتخفيفهما من غير إدخال ألف بينهما، وهشام كذلك إلا أنه أَدْخَلَ بينهما ألفاً. هذا هو المشهور بين القراء السبعة. وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى. ونقل الشيخ عن نافع ومَنْ معه، أنهم يُبْدلون الثانية ياء صريحة، وأنه قد نُقِلَ عن نافع المدُّ بينهما، أي بين الهمزة والياء.
فأما قراءةُ التحقيق وبينَ بينَ، فقد ضعَّفها جماعة من النحويين
23
كأبي علي الفارسي وتابعيه، ومن القرَّاء أيضاً مَنْ ضَعَّفَ التحقيقَ مع روايتِه له، وقراءتِه به لأصحابه. ومنهم مَنْ أنكر التسهيلَ بينَ بينَ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف، وقرؤوا بياءٍ خفيفةٍ الكسرِ، نصُّوا على ذلك في كتبهم.
وأما القراءة بالياء فهي التي ارتضاها الفارسي وهؤلاء الجماعةُ، لأنَّ النطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل، وهمزةُ بين بين بزنة المخففة. والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لحناً، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين قال: «فإن قلت: كيف لفظ» أئمة «؟، قلت: بهمزةٍ بعدها همزةُ بين بين أي: بين مخرجِ الهمزةِ والياء، وتحقيق الهمزتين قراءةٌ مشهورة، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين. وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوز أن تكون، ومَنْ قرأ بها فهو لاحِنٌ مُحَرِّف». قال الشيخ: «وذلك دأبُه في تلحين المقرئين، وكيف تكون لحناً، وقد قرأ بها رأسُ النحاة البصريين، أبو عمرو بن العلاء، وقارىءُ أهلِ مكة ابنُ كثير، وقارىءُ أهل المدينة نافع؟». قلت: لا يُنْقَم على الزمخشري شيءٌ فإنه إنما قال إنها غير مقبولة عند البصريين، ولا يلزم من ذلك أنه لا يَقْبلها، غاية ما في الباب، أنه نَقَل عن غيره. وأمَّا التصريحُ بالياء، فإنه معذورٌ فيه لأنه كما قَدَّمْتُ لك، إنما اشْتُهِر بين القراء التسهيلُ بين بين لا الإِبدال المحض، حتى إن الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النحاة في هذه اللفظة.
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءةَ التسهيلِ بينَ بينَ فقال: «ولا يجوز هنا أن تُجعل بينَ بينَ، كما جُعلت همزةُ» أئذا «؛ لأن الكسرةَ هنا منقولةٌ وهناك
24
أصليةٌ، ولو خُفِّفَت الهمزةُ الثانية [هنا] على القياس لقُلِبت ألفاً لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرِكَ لتتحركَ بحركةِ الميم في الأصل». قلت: قوله «منقولةٌ» لا يُفيد لأنَّ النقلَ هنا لازم، فهو كالأصل. وقوله: «ولو خُفِّفَتْ على القياس إلى آخره» لا يفيد أيضاً لأن الاعتبار بالإِدغام سابقٌ على الاعتبار بتخفيف الهمزة.
ولذلك موضعٌ يضيق هذا الموضع عنه.
ووزن أَئِمَّة: أَفْعِلة؛ لأنها جمع إمام، كحمار وأَحْمِرة، والأصل أَأْمِمة، فالتقى ميمان فأُريد إدغامُهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للساكن قبلَها، وهو الهمزة الثانية، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة: فالنحويون البصريون يوجبون إبدالَ الثانية ياء، وغيرُهم يحقق أو يسهِّل بينَ بينَ. ومَنْ أَدْخَلَ الألفَ فللخِفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين، والأحسنُ حينئذٍ أن يكونَ ذلك في التحقيق كما قرأ هشام. وأمَّا ما رواه الشيخ عن نافع مِنْ المدّ مع نَقْلِه عنه أنه يصرح بالياء فللمبالغة في الخفة.
قوله: ﴿لاَ أَيْمَانَ﴾ قرأ ابن عامر: «لا إيمان» بكسر الهمزة، وهو مصدرُ آمَن يُؤْمن إيماناً. وهل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان أحدهما: أنهم لا يُؤْمنون في أنفسهم أي: لايُعْطون أماناً بعد نُكثِهم وطَعْنهم، ولا سبيلَ إلى ذلك. والثاني: الإِخبار بأنهم لا يُوفون لأحدٍ بعهدٍ يَعْقِدونه له. أو من التصديق أي: إنهم لا إسلامَ لهم. واختار مكي التأويلَ الأول لِما فيه من تجديد فائدة لم يتقدَّمْ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ وَصْفَهم بالكفر وعدمِ الإِيمان قد سَبَقَ وعُرِف.
وقرأ الباقون بالفتح، وهو جمعُ يمين. وهذا مناسب للنكث، وقد أُجْمع
25
على فَتْح الثانية. ومعنى نفي الأيمان عن الكفارِ، أنهم لا يُوفون بها، وإن صَدَرَتْ منهم وَثَبَتَتْ. وهذا كقول الآخر:
٢٤٧٣ - وإنْ حَلَفَتْ لا تَنْقُضُ الدهرَ عهدَها فليس لمخضوبِ البَنانِ يمينُ
وبذلك قال الشافعي. وحمله أبو حنيفة على حقيقته: أن يمين الكافر لا تكون يميناً شرعياً، وعند الشافعي يمينٌ شرعية.
26
قوله تعالى: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ : نصبٌ على ظرفِ الزمان، وأصلُها المصدر مِنْ مَرَّ يَمُرُّ. وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: ﴿فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾ الجلالةُ مبتدأ، وفي الخبر أوجهٌ، أحدها: أنه «أحقُّ» و «أن تَخْشَوه» على هذا بدلٌ من الجلالة بدلُ اشتمال، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ؛/ فخشية الله أحقُّ مِنْ خشيتهم. الثاني: أَنَّ «أحقُّ» خبرٌ مقدمٌ و «أَن تَخْشَوه» مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرُ الجلالة. الثالث: أن «أحقُّ» مبتدأ و «أن تَخْشَوه» خبرُه، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة. قاله ابن عطية. وحَسُنَ الابتداءُ بالنكرة لأنها أفعلُ تفضيل. وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو: اقصدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه. الرابع: أن «أنْ تَخْشَوه» في محلِّ نصبٍ، أو جر بعد إسقاطِ حرفِ الخفض، إذ التقدير: أحقُّ بأن تَخْشَوه.
وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾ شرطٌ حُذِفَ جوابُه، أو قُدِّم، على حسب الخلاف.
قوله تعالى: ﴿وَيَشْفِ﴾ : قرأ الجمهور بياء الغَيْبَة رَدَّاً على اسم الله تعالى. وقرأ زيد بن علي: «نَشْفِ» بالنون وهو التفاتُّ حسن. وقال: «قوم مؤمنين» شهادةً للمخاطبين بالإِيمان، فهو من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهرِ مُقام المضمر، حيث لم يَقُل: «صدوركم».
قوله تعالى: ﴿وَيُذْهِبْ﴾ : الجمهورُ على ضم الياء وكسرِ الهاء مِنْ أَذْهب. و «غَيْظ» مفعول به. وقرأت طائفةٌ: «ويَذْهَبْ» بفتح الياء والهاء، جَعَله مضارعاً لذهب، «غيظ» فاعل به. وقرأ زيد بن علي كذلك، إلا أنه رفع الفعل مستأنفاً ولم ينسقْه على المجزومِ قبلَه، كما قرؤوا: «ويتوبُ» بالرفع عند الجمهور. وقرأ زيد بن علي والأعرج وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية ويعقوب: «ويتوبَ» بالنصب.
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فإنها استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع فإنه قد أَسْلَمَ ناسٌ كثيرون. قال الزجاج وأبو الفتح: «وهذا أمرٌ موجودٌ سواءً قوتلوا أم يُقاتَلوا، ولا وجهَ لإِدخال التوبة في جوابِ الشرط الذي في» قاتِلوهم «. يَعْنيان بالشرط ما فُهِمَ من الجملةِ الأمرية.
وأمَّا قراءةُ زيد وَمَنْ ذُكِر معه، فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلةً في جوابِ الأمر من طريقِ المعنى. وفي توجيهِ ذلك غموضٌ: فقال بعضهم: إنَّه لمَّا أَمَرَهُمْ بالمقاتلة شَقَّ ذلك على بعضِهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ، صار ذلك العملُ
27
جارياً مَجْرى التوبة من تلك الكراهة. قلت: فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهم ويتبْ عليكم من تلك الكراهة لقتالهم. وقال آخرون في توجيه ذلك: إنَّ حصولَ الظفر وكثرةَ الأموال لذَّةٌ تُطلب بطريقٍ حرامٍ، فلمَّا حَصَلَتْ لهم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة.
وقال ابن عطية في توجيهِ ذلك أيضاً:» يتوجَّه ذلك عندي إذا ذُهِب إلى أن التوبةَ يُراد بها هنا [أنَّ] قَتْلَ الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبةٌ لكم أيُّها المؤمنون وكمالٌ لإِيمانكم، فتدخلُ التوبة على هذا في شرطِ القتال «. قال الشيخ:» وهذا الذي قدَّره من كونِ التوبة تدخل تحت جوابِ الأمر، وهو بالنسبة للمؤمنين الذين أُمِرُوا بقتال الكفار. والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكفار، والمعنى: على مَنْ يشاء من الكفار، لأنَّ قتالَ الكفارِ وغلبةَ المسلمين إياهم، قد يكونُ سبباً لإِسلام كثير. ألا ترى إلى فتح مكة كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحَسُن إسلامُ بعضِهم جداً، كابن أبي سرح وغيره «. قلت: فيكون هذا توجيهاً رابعاً، ويصيرُ المعنى: إن تقاتلوهم يتب الله على مَنْ يشاء من الكفار أي: يُسْلِمُ مَنْ شاء منهم.
28
قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ﴾ : يجوز في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلاة لعطفِها عليها أي: الذين عاهدوا ولم يتَّخذوا. الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «جاهدوا» أي: جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ متخذين وَلِيْجَةً.
و «وَلِيجة» مفعول. و ﴿مِن دُونِ الله﴾ : إمَّا مفعول ثان، إن كان الاتخاذُ بمعنى التصيير، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ إن كان على بابه. والوَليجة: فَعِيلة مِنَ
28
الوُلوج وهو الدخول. والوليجة: مَنْ يُداخِلك في باطن أمورك. وقال أبو عبيدة: «كُلُّ شيءٍ أَدْخَلْته في شيءٍ وليس منه فهو وليجة، والرجلُ في القوم وليس منهم، يقال له وَليجة»، ويُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع. وقد يُجمع على وَلائج ووُلُج كصحيفة وصحائف وصُحُف. وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي:
٢٤٧٤ - وَلائِجُهُمْ في كل مبدى ومَحْضَرٍ إلى كلِّ مَنْ يرجى ومَنْ يَتَخَوَّفُ
وقرأ الحسن «بما يَعْملون» بالغَيْبةِ على الالتفات، وبها قرأ يعقوب في رواية سَلاَّم.
29
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ :«أن يَعْمروا» اسم كان. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «مسجد الله» بالإِفراد/ وهي تحملُ وجهين: أن يُراد به مسجدٌ بعينه، وهو المسجد الحرام لقوله: ﴿وَعِمَارَةَ المسجد الحرام﴾ [التوبة: ١٩]، وأن يكون اسمَ جنسٍ فتندرجَ فيه سائرُ المساجد، ويدخل المسجد الحرام دخولاً أَوَّلِيَّاً. وقرأ الباقون «مساجد» بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين. ووجه الجمع: إمَّا لأنَّ كلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يُقال لها مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلَقَ عليه لفظُ الجمع لذلك.
قوله: ﴿شَاهِدِينَ﴾ الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال مِنْ فاعل «
29
يَعْمُروا». وقرأ زيد بن علي «شاهدون» بالواو رفعاً على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، والجملةُ حالٌ أيضاً. وقرأ ابن السَّمَيْفع «يُعْمِروا» بضم الياء وكسرِ الميم مِنْ أَعْمَرَ رباعياً، والمعنى: أن يُعينوا على عمارته.
قوله: ﴿على أَنْفُسِهِمْ﴾ الجمهورُ على «أنفسهم» جمعَ نَفْس. وقُرىء «أَنْفَسهم» بفتح الفاء، ووجهُها أن يُراد بالأنْفَس وهو الأشرفُ الأجلُّ، من النَّفاسة - رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم. قيل: لأنه ليس بَطْنٌ مِنْ بطون العرب إلا وله فيهم وِلدة. وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً، وهو مع هذه القراءة أوضح.
قوله: ﴿وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾ هذه جملةٌ مستأنفة، و «في النار» متعلقٌ بالخبر، وقُدِّم للاهتمام به، ولأجل الفاصلة. وقال أبو البقاء: «أي: وهم خالدون في النار، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف». قلت: فيه نظرٌ من حيث إنه يُوهم أن هذه الجملةَ معطوفةٌ على ما قبلها عَطْفَ المفرد على مثله تقديراً، وليس كذلك بل هي مستأنفةٌ، وإذا كان مستأنفةً، فلا يُقال فيها فَصَلَ الظرف بين حرف العطف والمعطوف، وإنما ذلك في المتعاطَفْين المفردين أو في تأويلهما، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] وفي قوله: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ [النساء: ٥٨].
30
وقرأ زيد بن علي: «خالدين» بالياء نصباً على الحال من الضمير المستتر في: الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً كقولك: «في الدار زيد قاعداً»، فقد رفع زيد بن علي «شاهدين»، ونصب «خالدون عكسَ قراءةِ الجمهور فيهما.
31
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله﴾ : جمهورُ القراء من السبعة وغيرهم على الجمع. وقرأ الجحدري وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإِفراد. والتوجيهُ يُؤْخذ مما تقدم. والظاهر هنا أن الجمعَ هنا حقيقةٌ، لأن المرادَ جميع المؤمنين العائدين لجميع مساجد أقطار الأرض.
قوله: ﴿سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ﴾ الجمهور على قراءتهما مصدرين على فِعالة، كالصِّيانة والوِقاية والتِّجارة، ولم تُقْلب الياء همزة، لتحصُّنها بتاء التأنيث بخلاف رِداء، وعَباءة لطُروء تاء التأنيث فيها، وحينئذٍ فلا بُدَّ مِن حذف مضاف: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني ليتصادقَ المجعولان، والتقدير: أجعلتمْ أهلَ سقايةِ الحاجِّ وعِمارةَ المسجد الحرام كمَنْ آمن، أو أَجَعَلْتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمن، أو كعملِ مَنْ آمن.
وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو وَجْرة «سُقاة» و «عَمَرَة» بضم السين وبعد الألف تاء التأنيث، وعَمَرة بفتح العين والميم دون ألف. وهما جمع ساقٍ وعامر كما يُقال: قاضٍ وقُضَاة ورَام ورُماة وبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة. والأصل:
31
سُقَيَة، فَقُلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. ولا حاجةَ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور.
وقرأ سعيد بن جبير كذلك إلا أنه نَصَبَ «المسجد الحرام» ب «عَمَرَة» وحَذَفَ التنوينَ لالتقاء الساكنين كقوله:
٢٤٧٥ -.................. ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا
وقوله: ﴿قُل هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١-٢].
وقرأ الضحاك «سُقاية» بضم السين و «عمرة»، وهما جمعان أيضاً، وفي جمع «ساقٍ» على فُعالة نظرٌ لا يَخْفى. والذي ينبغي أن يُقالَ ولا يُعْدَلَ [عنه] أن يُجعل هذا جمعاً لسِقْي، والسِّقْي هو الشيء المَسْقِيّ كالرِّعْي والطِّحْن، وفِعْل يُجمع على فُعال، قالوا: ظِئْر وظُؤار، وكان مِنْ حقه أن لا تدخلَ عليه تاءُ التأنيث كما لم تدخل في «ظُؤَار»، ولكنه أنَّث الجمعَ كما أنَّث في قولهم حِجارة وفُحولة. ولا بد حينئذٍ من تقديرِ مضافٍ أي: أجعلتم أصحابَ الأشياءِ المَسْقِيَّة كمَنْ آمن.
قوله: ﴿لاَ يَسْتَوُونَ﴾ في وجهان/ أظهرهما: أنها مستأنفة، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين. والثاني: أن يكونَ حالاً من المفعولين للجَعْل والتقدير: سوَّيْتُهم بينهم في حال تفاوتهم.
32
وقد تقدَّم اختلافُ القرَّاء في «يبشرهم» وتوجيه ذلك في آل عمران، وكذلك الخلافُ في ﴿وَرِضْوَانٌ﴾ [آل عمران: ١٥]. وقرأ الأعمش «رضوان» بضمِّ
32
الراء والضاد، ورَدَّها أبو حاتم وقال: «لا يجوز»، وهذا غيرُ لامٍ للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب قالوا: السُّلُطان بضمّ السين واللام.
قوله: ﴿لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ﴾ يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ صفةً ل «جنات»، وأن تكونَ صفةً ل «رحمة» ؛ لأنهم جَوَّزوا في هذه الهاءِ أن تعودَ للرحمة وأن تعودَ للجنات. وقد جَوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله: «يُبَشِّرهم»، كأنه قيل: لهم في تلك البشرى، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالً إن قدَّرْتَه معرفةً. ويجوز أن يكون «نعيم» فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أَوْلى لأنه يَصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوز أن يكونَ مبتدأً، وخبرُ الجار قبله. وقد تقدَّم تحقيق ذلك غيرَ مرة. و «خالدين» حالٌ من الضمير في «لهم».
33
قوله تعالى: ﴿إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ﴾ :«آباؤكم» وما عُطِف عليه اسمُ كان، و «أحبَّ» خبرها فهو منصوب. وكان المتفاصح الحجاجُ ابن يوسف يَقْرؤها بالرفع، ولَحَّنه يحيى بن يعمر فنفاه. قال الشيخ: «إنما لَحَّنه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقَلَة وإلا فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في» كان «اسماً، وهو ضميرُ الشأن ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملةُ خبراً عن» كان «. قلت: فيكون كقول الشاعر:
٢٤٧٦ - إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفان شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أَصْنَعُ
هذا في أحد تأويلَي البيت. والآخر: أنَّ»
صنفان «خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحرث ومَنْ وافقهم.
33
والحكاية التي أشار إليها الشيخُ مِنْ تلحين يحيى للحجاج، هي أن الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه: هي تجدني ألحن؟، فقال: الأمير أجَلُّ من ذلك، فقال: عَزَمْتُ عليك إلا ما أخبرتني وكان يُعَظّمون عزائم الأمراء. فقال: نعم. فقال: في أي شيء؟، فقال: في القرآن. فقال: ويلك!! ذلك أقبحُ بي. في أيِّ آية؟، قال: سَمِعْتك تقرأ: قل إن كان آباؤكم، إلى أن انتهيت إلى» أحبُّ «فرفعتَها. فقال: إذن لا تسمعني أَلْحَنُ بعدها، فنفاه إلى خراسان، فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً وفيه:» وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصَعِدنا عُرْعُرَة الجبل «. فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟، فقيل له: إنَّ يحيى هناك. فقال: إذن ذلك.
وقرأ الجمهور:»
عشيرتكم «بالإِفراد، وأبو بكر عن عاصم:» عشيراتكم «جمعَ سلامة. ووجهُ الجمع، أنَّ لكلٍّ من المخاطبين عشيرةً فَحَسُن الجمع. وزعم الأخفش أن» عشيرة «لا تجمع بالألف والتاء إنما تُجْمع تكسيراً على عشائر. وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءةُ أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي رجاء. وقرأ الحسن» عشائركم «قيل: وهي أكثر مِنْ عشيراتكم.
34
والعَشِيرة: هي الأهلُ الأَْدْنَون. وقيل: هم أهل الرجلِ الذين يَتَكثَّر بهم أي: يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أن العشيرَة هي العدد الكامل، فصارت العشيرة اسماً لأقارب الرجل الذي يَتَكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرةَ أم فوقها. وقيل: هي الجماعة المجتمعة بنسَبٍ أو عَقْدٍ أو وِداد كعقد العِشْرة.
35
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه عطفٌ على محلِّ قوله «في مواطنَ»، عَطَفَ ظرف الزمان من غير واسطة «في» على ظرفِ المكان المجرورِ بها. ولا غَرْو في نسق ظرف زمان على مكان أو العكسِ تقول: «سرت أمامك يوم الجمعة» إلا أنَّ الأحسنَ أن يُتْركَ العاطفُ مثله. الثاني: زعم ابن عطية أنه يجوز أن يُعْطَفَ على لفظ «مواطن» بتقدير: وفي، فحذف حرفَ الخفض. وهذا لا حاجةَ إليه. الثالث: قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف عطفَ الزمانَ على المكان، وهو» يوم حنين «على» مواطن «؟، قلت: معناه: وموطن يوم حنين أو في أيام مواطنَ كثيرة ويوم حنين». الرابع: أن يُراد بالمواطن الأوقاتُ، فحينئذٍ إنما عُطِف زمانٌ على زمان. قال الزمخشري بعدما قَدَّمْتُه عنه: «ويجوز أن/ يُراد بالمواطن الوقت كمقتل الحسين، على أن الواجب أن يكون» يومَ حنين «منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. ومُوْجِبُ ذلك أن قولَه:» إذا أعجبتكم «بدلٌ من» يوم حنين «، فلو جَعَلْتَ ناصبَه هذا الظاهرَ لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتَهم لم تُعْجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكونَ ناصبُه فعلاً خاصاً به». قلت: لا أدري ما حَمَله على تقدير أحد المضافين أو على تأويل
35
الموطن بالوقت ليصحَّ عَطْفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عَطْفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟
وأمَّا قولُه: «على أن الواجبَ أن يكون إلى آخره» كلامٌ حسن، وتقديره أن الفعلَ مقيدٌ بظرفِ المكان، فإذا جعلنا «إذ» بدلاً من «يوم» كان معمولاً له؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدل منه، فيلزم أنه نصرهم إذا أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة. إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل: في جميع المواطن حتى يلزم ما قال، ويمكن أن يكونَ أراد بالكثرة الجميعَ، كما يُراد بالقلة العدمُ.
قوله: ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾ «ما» مصدريةٌ أي: رَحْبها وسَعَتها. وقرأ زيد ابن علي في الموضعين: «رَحْبَت» بسكون العين، وهي لغة تميم، يَسْلُبون عين فَعُل فيقولون في شَرُف: شَرْف.
والرُّحْب بالضم: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع. يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابة وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: «رَحُبَتْكم الدار» فعلى التضمين لأنه بمعنى وَسِعَتْكم.
وحُنَيْن اسمُ واد، فلذلك صَرَفَه. وبعضُهم جعله اسماً للبقعة فَمَنَعَه في قوله:
٢٤٧٧ - نَصَرُوا نبيَّهُم وشَدُّوا أَزْرَه بحنينَ يومَ تواكُلِ الأبطال
وهذا كما قال الآخر في «حراء» اسمِ الجبل المعروف اعتباراً بتأنيث
36
البقعة في قوله:
٢٤٧٨ - ألسنا أكبرَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلاً وأَعْظَمَهم ببطنَ حِراءَ نارا
والمواطن جمع مَوْطِن بكسر العين، وكذا اسم مصدره وزمانه لاعتلالِ فائه كالمَوْعد قال:
37
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ : على المبالغة، جُعِلوا نفسَ النَّجَس أو على حذف مضاف. وقرأ أبو حيوة «نِجْسٌ» بكسر النون وسكون الجيم، ووجهُه أنه اسمُ فاعل في الأصل على فَعِل مثل كَتِف وكَبِد، ثم خُفِّفَ بسكون عَيْنِه بعد إتباع فائه، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مَقامه أي: فريق نجس أو جنس نجس. وقرأ ابن السميفع «أنجاس» بالجمع، وهي تحتمل أن تكونَ جمعَ قراءةِ الجمهور، أو جمع قراءةِ أبي حيوة.
قوله تعالى: ﴿مِنَ الذين أُوتُواْ﴾ : بيانٌ للموصول قبلَه. والجِزْية: فِعْلَة لبيان الهيئة كالرِّكْبَة لأنها مِنَ الجزاء على ما أُعْطُوه من الأمن. و «عن يدٍ» حالٌ أي: يُعْطَوها مقهورِين أَذِلاَّء. وكذلك «وهم صاغرون».
قوله تعالى: ﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾ : قرأ عاصم والكسائي بتنوين «عُزَيْرٌ» والباقون من غير تنوين. فأمَّا القراءة الأولى فيُحتمل أن يكونَ اسماً عربيّاً مبتدأً، و «ابنُ» خبره، فتنوينه على الأصل. ويُحتمل أن يكون أعجمياً، ولكنهُ خفيفُ اللفظِ كنوح ولوط، فصُرِفَ لخِفَّة لفظه، وهذا قول أبي عبيد، يعني أنه تصغيرُ «عَزَر» فحكمُه حكمُ مُكَبَّره. وقد رُدَّ هذا القولُ على أبي عبيد بأنه ليسَ بتصغيرٍ، إنما هو أعجمي جاء على هيئة التصغيرِ في لسانِ العربِ، فهو كسليمان جاء على مثال عثيمان وعُبَيْدان.
وأمَّا القراءة الثانية فَيَحتمل حَذْفُ التنوينِ ثلاثةَ أوجه أحدها: أنه حُذِفَ لالتقاء الساكنين على حَدِّ قراءة: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد﴾ [الصمد: ١-٢] وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء و «ابن» خبره. الثاني: أن تنوينَه حُذِفَ لوقوع الابن صفة له، فإنه مرفوعٌ بالابتداء و «ابن» صفته، والخبرُ محذوفٌ أي: عزيرٌ ابن الله نبيُّنا أو إمامنا أو رسولنا، وكان قد تقدَّم أنه متى وقع الابنُ صفةً بين علمين غيرَ مفصولٍ بينه وبين موصوفه، حُذِفَتْ ألفُه خطاً وتنوينُه لفظاً، ولا تَثْبت إلا ضرورة، وتقدَّم الإِنشادُ عليه آخر المائدة. ويجوز أن يكون «عزير» خبر مبتدأ مضمر أي: نبيُّنا عُزَيْر و «ابن» صفةٌ له أو بدل أو عطف بيان. الثالث: أنه إنما حُذف لكونِه ممنوعاً من الصرف للتعريف والعجمة، ولم يُرْسم في المصحف إلا ثابت الألف، وهي تَنْصُرُ مَنْ/ يجعلُه خبراً.
وقال الزمخشري: «عزير ابن: مبتدأ وخبره، كقوله: ﴿المسيح ابن الله﴾. و» عُزَيْر «اسم أعجمي كعزرائيل وعيزار، ولعجمته وتعريفه امتنع مِنْ
38
صرفه، ومَنْ صرفه جعله عربياً، وقول مَنْ قال: سقوطُ التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله﴾ [الصمد: ١-٢]، أو لأنَّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو» معبودنا «فتمحُّلٌ عند مَنْدوحة.
قوله: ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ قرأ العامة:»
يضاهِئُون «بضم الهاء بعدها واو، وعاصم بهاءٍ مكسورة بعدها همزةٌ مضمومة، بعدها واو. فقيل: هما بمعنى واحد وهو المشابهة وفيه لغتان: ضاهَأْتُ وضاهَيْت، بالهمزة والياء، والهمزُ لغة ثَقيف. وقيل: الياء فرع عن الهمز كما قالوا: قرأ وقَرَيْت وتوضَّأت وتوضَّيْت، وأَخْطَأْت وأَخْطَيْت. وقيل: بل يضاهِئُون بالهمز مأخوذ من يضاهِيُوْن، فلمَّا ضُمَّت الهاءُ قُلِبَتْ همزةً. وهذا خطأ لأن مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضعِ حتى تُقْلَبَ همزةً، بل يؤدي تصريفه إلى حذفِ الياء نحو» يُرامُون «من الرمي و» يُماشُون «من المشي. وزعم بعضُهم أنه مأخوذٌ من قولهم: امرأة ضَهْيَا بالقصر، وهي التي لا ثَدْيَ لها، والتي لا تَحيض، سُمِّيت بذلك لمشابهتها الرجال.
يقال: امرأة ضَهْيَا بالقصر وضَهْيَاء بالمد كحمراء، وضَهْياءَة بالمدِّ وتاءِ التأنيث ثلاث لغات، وشذَّ الجمع بين علامتَي تأنيث في هذه اللفظة. حكى اللغة الثالث الجرمي عن أبي عمرو الشيباني. قيل: وقولُ مَنْ زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ مِنْ امرأة ضَهْياء في لغاتِها الثلاث خطأٌ لاختلاف المادتين، فإن الهمزةَ في امرأة ضَهْياء زائدة في اللغاتِ الثلاث وهي في المضاهأة أصلية.
39
فإن قيل: لِمَ لم يُدَّعَ أن همزةَ ضهياء أصلية وياؤها زائدة؟، فالجواب أن فَعْيَلاً بفتح الياء لم يَثْبت. فإن قيل: فلِمَ لم يُدَّع أن وزنَها فَعْلَل كجعفر؟، فالجواب أنه قد ثبتت زيادة الهمزة في ضَهْياء بالمدِّ فَلْتَثْبت في اللغة الأخرى، وهذه قاعدةٌ تصريفية.
والكلامُ على حَذْف مضاف تقديره: يُضاهي قولُهم قول الذين، فَحُذِف المضاف، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، فانقلب ضميرَ رفع بعد أن كان ضميرَ جَرٍّ.
والجمهور على الوقف على «أفواههم» ويَبْتدئون ب «يضاهئون» وقيل: الباءُ تتعلَّق بالفعل بعدها. وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ هذا المضافِ. واستضعف أبو البقاء قراءةَ عاصم وليس بجيدٍ لتواترها.
40
قوله تعالى: ﴿والمسيح ابن مَرْيَمَ﴾ : عطف على «رُهْبانَهم» والمفعول الثاني محذوف، إذ التقدير: اتخذ اليهود أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيحَ ابن مريم أرباباً، وهذا لأمْنِ اللَّبس خَلَط الضمير في «اتخذوا» وإن كان مقسماً لليهود والنصارى، وهذا مراد أبي البقاء في قوله: «أي واتخذوا المسيحَ ربّاً، فحذف الفعل وأحد المفعولين، وجَوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: وعَبَدوا المسيح ابن مريم».
قوله تعالى: ﴿ويأبى الله﴾ :﴿إِلاَّ أَن يُتِمَّ﴾ مفعول به، وإنما دَخَلَ الاستثناء المفرغ في الموجَب لأنه في معنى النفي، فقال الأخفش الصغير: «معنى يَأْبَى يمنع». وقال الفراء: «دَخَلَتْ» إلا «لأنَّ في الكلام طَرَفاً من الجحد». وقال الزمخشري: «أجرى» أبى «مُجرى» لم يُرِدْ «،
40
ألا ترى كيف قُوبل ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ﴾ بقوله:» ويأبى الله «، و [كيف] أوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يُتِمَّ نوره». وقال الزجاج: «إن المستثنى منه محذوف تقديره: ويأبى أي ويكره كُلَّ شيء إلا أن يتم نوره». وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ومذهبِ غيره، فجعلهما مذهباً واحداً فقال: «يأبى بمعنى يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لِما فيه من معنى النفي، والتقدير: يأبى كلَّ شيء إلا إتمام نوره».
41
قوله تعالى: ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ : يحتمل أن يكون متعدياً أي: يصدون/ الناس، وأن يكون قاصراً، كذا قال الشيخ. وفيه نظر لأنه متعدٍّ فقط، وإنما يُحْذف مفعولُه، ويراد أو لا يراد كقوله: ﴿كُلُواْ واشربوا﴾ [البقرة: ٦٠].
قوله: ﴿والذين يَكْنِزُونَ﴾ الجمهورُ على قراءته بالواو. وفيه تأويلان، أحدُهما: أنها استئنافيةٌ، و «الذين» مبتدأ ضُمِّن معنى الشرط؛ ولذلك دَخَلَتْ الفاءُ في خبره. والثاني: أنه من أوصافِ الكثيرِ من الأحبار والرهبان، وهو قول عثمان ومعاوية، ويجوز أن يكونَ «الذين» منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يفسِّره «فَبَشِّرْهم» وهو أرجحُ [لمكان الأمر]
وقرأ طلحة بن مصرف «الذين» بغير واو، وهي تحتمل الوجهين المتقدمين، ولكنَّ كونَها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرهبان أظهرُ مِنَ الاستئناف عكسَ التي بالواو.
41
والكَنْزُ: الجمع والضم، ومنه ناقة كِناز أي: منضمَّة الخَلْق، ولا يختص بالذهب والفضة، بل يقال في غيرهما وإن غلب عليهما قال:
٢٤٧٩ - وكم مَوْطنٍ لولايَ طِحْتَ كما هوى بأجرامه مِنْ قُلَّة النِّيْقِ مُنْهوي
٢٤٨٠ - لا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْتُ جائِعَهُمْ قِرْفَ الحَتِيِّ وعندي البُرُّ مَكْنوزُ
وقال آخر:
٢٤٨١ - على شديدٍ لحُمُه كِنازِ باتَ يُنَزِّيني على أَوْفازِ
قوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾ تقدَّم شيئان وعاد الضمير [على] مفرد فقيل: إنه من بابِ ما حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، والتقدير: والذين يَكْنزون الذهب ولا يُنْفقونه. وقيل: يعود على المكنوزات ودل على هذا جُزْؤه المذكورٌ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدَيْن وغيرِهم، فلمَّا ذَكَر الجزءَ دلَّ على الكل، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار، ونظيره قول الآخر:
٢٤٨٢ - ولو حَلَفَتْ بين الصَّفا أمُّ عامرٍ ومَرْوَتِها بالله بَرَّتْ يمينها
أي: ومروة مكة، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤُها وهو الصفا. كذا استدل به ابن مالك، وفيه احتمال، وهو أن يكون الضمير عائداً على الصَّفا، وأُنِّثَ حَمْلاً على المعنى، إذ هو في معنى البقعة والحَدَبة. وقيل: الضميرُ يعودُ على الذهب لأن تأنيثه أشهر، ويكون قد حُذِفَ بعد الفضة أيضاً. وقيل: يعودُ على النفقة المدلول عليها بالفعل كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨]. وقيل:
42
يعودُ على الزَّكاة أي: ولا ينفقون زكاةَ الأموال. وقيل: يعودُ على الكنوز التي يدل عليها الفعل.
43
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يحمى﴾ : منصوبٌ بقوله: «بعذاب أليم»، وقيل: بمحذوفٍ يدلُّ عليه عذاب أي: يُعَذَّبون يوم يُحمى، أو اذكر يومَ يُحْمى. وقيل: هو منصوبٌ بأليم. وقيل: الأصل: عذاب يوم، وعذاب بدل مِنْ عذاب الأول، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامَه. وقيل: منصوبٌ بقولٍ مضمر وسيأتي بيانُه.
و «يُحمى» يجوز أن يكونَ مِنْ حَمَيْتُ أو أَحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً. يقال: حَمَيْتُ الحديدة وأَحْمَيْتها أي: أَوْقَدَتْ عليها لتَحْمَى. والفاعلُ المحذوفُ هو النارُ تقديرُه: يوم تُحمى النار عليها، فلما حُذِفَ الفاعل ذهبت علامةُ التأنيث لذَهابِه، كقولك: «رُفِعَت القضيةُ إلى الأمير»، ثم تقول: «رُفع إلى الأمير». وقيل: المعنى: يُحْمَى الوقود.
وقرأ الحسن: «تُحْمَى» بالتاء من فوق أي: النار وهي تؤيد التأويل الأول. وقرأ أبو حيوة: «يُكوى» بالياء من تحت، لأن تأنيثَ الفاعلِ مجازيٌّ. والجمهور «جباهُهم» بالإِظهار، وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإِدغام كما أَدْغم: ﴿سَلَكَكُمْ﴾ [المدثر: ٤٢] ﴿مَّنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٠]، ومثل: جباههم: «وجوههم» المشهور الإِظهار.
43
قوله: ﴿هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ معمولٌ لقول محذوف أي: يُقال لهم ذلك يومَ يحمى. وقوله: ﴿مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ أي: جزاءَ ما كنتم؛ لأنَّ المكنوزَ لا يُذاق. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، وأن تكونَ مصدرية. وقرىء «تَكْنُزون» بضم عين المضارع، وهما لغتان يقال: كَنَزَ يَكْنِز، وكَنَزَ يَكْنُز.
44
قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ﴾ : العِدَّة: مصدر بمعنى العَدَد. و «عند الله» منصوبٌ به، أي في حُكْمه. و «اثنا عشر» خبرُ إنَّ. وقرأ هبيرة عن حفص وهي قراءةُ أبي جعفر اثنا عْشَرَ بسكون العين مع ثبوتِ الألِف قبلَها، واستُكْرِهَتْ من حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما كقولهم: «التقت/ حَلْقتا البِطان» بإثباتِ الألفِ من «حَلْقتا». وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حُمِل عشر في المذكر على عشرة في المؤنث.
و «شَهْراً» نصبٌ على التمييز، وهو مؤكِّد لأنه قد فُهِم ذلك من الأول، فهو كقولك: «عندي من الدنانير عشرون ديناراً». والجمع متغاير في قوله: «عدَّة الشهور»، وفي قوله: ﴿الحج أَشْهُرٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] لأن هذا جمعُ كثرة، وذاك جمعُ قلة.
قوله: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ يجوز أن يكونَ صفةً لاثنا عشر، ويجوز أن يكونَ بدلاً من الظرفِ قبله، وهذا لا يجوزُ، أو ضعيفٌ؛ لأنه يلزمُ منه أن يُخْبر عن
44
الموصول قبل تمامِ صلتِه؛ فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيلِ البدلية، وعلى تقدير صحةِ ذلك من جهة الصناعة، كيف يَصِحُّ من جهة المعنى؟، ولا يجوز أن يكون ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ متعلقاً ب «عدة» لئلا يلزمَ الفصلَ بين المصدر ومعمولِه بخبره، وقياس مَنْ جوَّز إبدالَه من الظرف أن يجوِّزَ هذا. وقد صَرَّح بجوازه الحوفيُّ.
قوله: ﴿يَوْمَ خَلَقَ﴾ يجوز فيه أن يتعلَّق ب «كتاب» على أنه يُرادُ به المصدر لا الجثة. ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور، وهو ﴿فِي كِتَابِ الله﴾، ويكون الكتابُ جثةً لا مصدراً. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ متعلقاً ب «عدة»، وهو مردودٌ بما تقدَّم.
قوله: ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ صفةً ل «اثنا عشر». الثاني: أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار. الثالث: أن تكونَ مستأنفةً. والضمير في «منها» عائدٌ على ﴿اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾ لأنه أقربُ مذكورٍ لا على «الشهور». والضمير في «فيهنَّ» عائدٌ على «الاثنا عشر» أيضاً. وقال الفراء وقتادة يعودُ على الأربعةِ الحُرُم، وهذا أحسنُ لوجهين، أحدهما: أنها أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنه قد تقرَّر أنَّ معاملةَ جمع القلةِ غيرِ العاقل معاملة جماعةِ الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس: «الأجذاع انكسَرْن» و «الجذوع انكسرت» ويجوز العكس.
قوله: ﴿كَآفَّةً﴾ منصوبٌ على الحال: إمَّا مِن الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن «كافَّة» لا يُتَصَرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنها لا تدخلُها أل وأنها لا تُثَنَّى ولا تُجْمع، وكذلك «كافة» الثانية.
45
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النسياء﴾ : في «النسِيْء» قولان أحدهما: أنه مصدرٌ على فَعِيل مِنْ أَنْسَأ أي أخَّر، كالنذير مِنْ أَنْذَر والنكير من أَنْكر. وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: «النَّسيء تأخيرُ حرمةِ الشهرِ إلى شهر آخر»، وحينئذٍ فالإِخبارُ عنه بقوله: «وزيادة» واضحٌ لا يَحْتاج إلى إضمار. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه الزيادة «. قلت: لأنه تأخير في المدة فيلزمُ منه الزيادة.
الثاني: أنه فَعِيل بمعنى مَفْعول، مِنْ نَسَأه أي أخَّره، فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل مفعول إلى فعيل كما حُوِّل مفعول إلى فعيل، وإلى ذلك نحا أبو حاتم والجوهري. وهذا القول رَدَّه الفارسي بأنه يكون المعنى: إنما المؤخَّر زيادة، والمُؤَخَّر الشهر ولا يكون الشهرُ زيادةً في الكفر. وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه على حذف المضاف: إمَّا من الأول أي: إنما إنساءُ المُنْسَأ زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني أي: إنما المُنْسَأ ذو زيادة.
وقرأ الجمهور»
النَّسيء «بهمزة بعد الياء. وقرأ ورش عن نافع» النَّسِيّ «بإبدال الهمزة ياءً وإدغام الياء فيها. ورُويت هذه عن أبي جعفر
46
والزهري وحميد، وذلك كما خَفَّفوا» برية «و» خطية «. وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل:» النَّسْء «بإسكان السين. وقرأ مجاهد والسلمي وطلحة أيضاً:» النَّسُوء «بزنة فَعُول بفتح الفاء، وهو التأخير، وفَعول في المصادر قليل، قد تقدَّم منه أُلَيْفاظ في أوائل البقرة، وتقدم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشهور عن بعض قال:
٢٤٨٣ - ألَسْنا الناسئينَ على مَعَدٍّ شهورَ الحِلِّ نجعلُها حَراما
وقال الآخر:
٢٤٨٤ - نَسَؤُوا الشّهور بها وكانوا أهلَها مِنْ قبلِكم والعزُّ لم يتحوَّلِ
وقوله: ﴿يُضَلُّ بِهِ﴾ قرأ الأخوان وحفص:»
يُضَلُّ «مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب وعمرو بن ميمون:» يُضِلُّ «مبنياً للفاعل مِنْ أضل. وفي الفاعل وجهان أحدهما: ضمير الباري تعالى أي: / يُضِلُّ الله الذين كفروا. والثاني: أن الفاعل» الذين كفروا «وعلى هذا فالمفعول محذوف أي: يُضل الذين كفروا أتباعهم. وقرأ أبو رجاء» يَضَلُّ «بفتح الياء والضاد، وهي مِنْ ضَلِلْت بكسر اللام أضَلُّ بفتحها، والأصل: أَضْلَلُ، فنُقِلت فتحة اللام إلى الضاد لأجل
47
الإِدغام. وقرأ النخعي والحسن في رواية محبوب:» نُضِلُّ «بضم نون العظمة و» الذين «مفعول، وهذه تقوِّي أن الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود.
قوله: ﴿يُحِلُّونَهُ﴾ فيه وجهان أحدهما: أن الجملةَ تفسيريةٌ للضلال. والثاني: أنها حاليةٌ.
قوله: ﴿لِّيُوَاطِئُواْ﴾ في هذه اللامِ وجهان: أنها متعلقةٌ بيُحَرِّفونه.
وهذا مقتضى مذهبِ البصريين فإنهم يُعْملون الثاني من المتنازعين. والثاني: أن يتعلَّقَ بيُحِلُّونه، وهذا مقتضى مذهب الكوفيين فإنهم يُعْملون الأول لسَبْقِه. وقولُ مَنْ قال إنها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنما يعني من حيث المعنى لا اللفظ.
وقرأ أبو جعفر «ليوطِيُوا»
بكسر الطاء وضم الياء الصريحة. والصحيح أنه يَنْبغي أن يُقْرأ بضم الطاء وحذف الياء؛ لأنه لمَّا أبدل الهمزةَ ياءً استثقل الضمةَ عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحُذِفَت الياء وضُمَّت الطاء لتجانِسَ الواو.
والمُواطأة: المُوافَقَةُ والاجتماع يقال: تواطَؤُوا على كذا أي: اجتمعوا عليه، كأنه كل واحد يطأ حيث يطأ الآخر، ومنه قولُه تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً﴾ [المزمل: ٦]، وقُرىء وِطاءً. وسيأتي إن شاء الله.
وقرأ الزهري «ليواطِيُّوا» بتشديدِ الياء. هكذا ترجموا قراءتَه وهي مشكلةٌ حتى قال بعضهم: «فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء وتخليصها مِنَ الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها». وهو كما قال.
48
قوله: «زُيِّنَ» الجمهورُ على «زُيِّن» مبنياً للمفعول، والفاعلُ المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي ببنائه للفاعل وهو الشيطان أيضاً، و «سوء» مفعوله.
49
قوله تعالى: ﴿اثاقلتم﴾ : أصلُه تثاقلتم، فلمَّا أريد الإِدغامُ سَكَنت الياءُ فاجتُلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم ذلك في ﴿فادارأتم﴾ [البقرة: ٧٢]، والأصل: تدارأتم. وقرأ الأعمش «تثاقلتم» بهذا الأصل، و «ما» في قوله «مالكم» استفهامية وفيها معنى الإِنكار. وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول.
و «اثَّاقلتم» ماضي اللفظ مضارع المعنى أي: يتثاقلون، وهو في موضع الحال، وهو عاملٌ في الظرف أي: مالكم متثاقلين وقت القول. وقال أبو البقاء: «اثَّاقلتم: ماض بمعنى المضارع أي: مالكم تتثاقلون وهو في موضع نصب أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليل. وقيل: هو في موضع حال» قال الشيخ: «وهذا ليس بجيدٍ، لأنه يلزمُ منه حذفُ» أَنْ «، لأنه لا يَنْسِبُك مصدرٌ إلا من حرفٍ مصدري والفعل، وحَذْفُ» أَنْ «في نحو هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة، وإذا كان التقديرُ:» في التثاقل «فلا يمكن عملُه في» إذا «، لأنَّ معمول المصدرِ الموصول لا يتقدَّم
49
عليه، فيكون الناصب ل» إذا «والمتعلَّق به» في التثاقل «ما تعلَّق به» لكم «الواقعُ خبراً ل» ما «.
وقرىء»
أَثَّاقَلْتم «بالاستفهام الذي معناه الإِنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يَعْمل في» إذا «؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكون العاملَ في هذا الظرف: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرَ في» لكم «، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللفظ. والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم. وإليه نحا الزمخشري. والظاهر أن يُقَدَّر: ما لكم تثاقلون إذا قيل، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى.
وقوله: ﴿إِلَى الأرض﴾ ضُمِّنَ معنى المَيْل والإِخلاد. وقوله:»
من الآخرة «تظاهَرَتْ أقوالُ المُعْربين والمفسرين على أنَّ» مِنْ «بمعنى بدل كقوله: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: ٦٠] أي: بدلكم، ومثلُه قولُ الآخر:
٢٤٨٥ - جاريةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقا ولم تَذُقْ من البُقول الفُسْتُقا
وقول الآخر:
٢٤٨٦ - فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شَرْبةً مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
إلا أنَّ أكثرَ النحويين لم يُثْبتوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك والتقديرُ هنا: اعتَصَمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياة وكذلك باقيها. وقال
50
أبو البقاء:» مِن الآخرة في موضع الحال أي: بدلاً من الآخرة «، فقدَّر المتعلَّقَ خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى.
قوله: ﴿فِي الآخرة﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ من حيث المعنى تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة. ف»
محسوباً «حالٌ مِنْ» متاع «. وقال الحوفي:» إنه متعلق ب قليل وهو خبر المبتدأ «. قال:» وجاز أن يتقدَّمَ الظرفُ على عامله المقرونِ ب «إلا» لأنَّ الظروفَ تعمل فيها روائحُ الأفعال. ولو قلت: «ما زيدٌ عمراً إلا يَضْرب» لم يَجُزْ «.
51
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ﴾ : هذا الشرط جوابُه محذوف لدلالة قولِه: «فقد نصره» عليه، والتقديرُ: إنْ لا تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشري فيه وجهين، أحدهما ما تقدم، والثاني: قال: «إنه أَوْجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلن يُخْذَلَ مِنْ بعده». قال الشيخ: «وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشرط لأنَّ إيجابَ النصرةِ له أمرٌ سَبَق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل فالذي يَظْهر الوجهُ الأول».
قوله: ﴿ثَانِيَ اثنين﴾ منصوبٌ على الحال مِنْ مفعول «أخرجه» وقد تقدَّم معنى الإِضافة في نحو هذا التركيب عند قوله ﴿ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣]. وقرأت جماعة «ثاني اثنين» بسكون الياء. قال أبو الفتح: «حاكها أبو عمرو» ووجهُها أن يكونَ سَكَّن الياءَ تشبيهاً لها بالألفِ، وبعضُهم يخصُّه بالضرورة.
51
قوله: ﴿إِذْ هُمَا فِي الغار﴾ : بدلُ مِنْ «إذ» الأولى فالعاملُ فيها «فقد نَصَره»، قال أبو البقاء: «ومَنْ مَنَع أن يكونَ العاملُ في البدلِ هو العامل في المبدل منه قَدَّرَ عاملاً آخر، أي: نصره» إذ هما في الغار «.
و»
الغار «نَقْبٌ يكونُ في الجبلِ، ويُجمع على غِيران ومثله: تاج وتِيْجان، وقاع وقِيعان. والغارُ أيضاً نَبْتٌ طيبُ الريح، والغارُ أيضاً الجماعة، والغاران البطن والفرج. وألف الغار عن واو.
قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ﴾ بدلٌ ثانٍ من»
إذ «الأولى. وقال أبو البقاء:» إنَّ إذ هما في الغار، وإذ يقول ظرفان لثاني اثنين «، والضمير في» عليه «يعود على أبي بكر، لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عليه السكينة دائماً. وقد تقدم القول في ﴿السكينة﴾ [البقرة: ٢٤٨]. والضمير في» أيَّده «للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ مجاهد» وأَيَدَه «. بالتخفيف. و» لم تَرَوْها «صفة لجنود.
قوله: ﴿وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا﴾ الجمهورُ على رفع»
كلمة «على الابتداء، و» هي «يجوزُ أَنْ تكونَ مبتدأ ثانياً، و» العُلْيا «خبرها، والجملة خبر الأول، ويجوز أن تكونَ» هي «فصلاً و» العليا «الخبر. وقُرِىء» وكلمةَ الله «بالنصب نسقاً على مفعولَيْ جَعَلَ، أي: وجعل كلمة الله هي العليا. قال أبو البقاء:» وهو ضعيفٌ لثلاثة أوجه، أحدها: وَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر، إذ الوجهُ أن تقولَ: وكَلِمَتُه. الثاني: أن فيه دلالةً على أنَّ كلمة الله كانت سُفْلى فصارت عليا، وليس كذلك. الثالث: أن توكيدَ مثلِ ذلك
52
ب «هي» بعيد، إذ القياسُ أن يكونَ «إياها». قلت: أما الأولُ فلا ضعفَ فيه لأنَّ القرآنَ ملآنُ من هذا النوع وهو مِنْ أحسنِ ما يكون لأن فيه تعظيماً وتفخيماً. وأمّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر وهو أن يكون الشيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدل التصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة. وأمَّا الثالث ف «هي» ليست تأكيداً البتة إنما «هي» ضمير فصل على حالها، وكيف يكون تأكيداً وقد نَصَّ النحويون على أن المضمر لا يؤكد المظهر؟
53
وانتصب ﴿خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ : على الحال من فاعل «انفروا».
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً﴾ : اسمُ كان ضميرٌ يعود على دل عليه السِّياق، أي: لو كان ما دعوتُهم إليه. وقرأ عيسى بن عمر والأعرج «بَعِدَت» بكسر العين. وقرأ عيسى «الشِّقَّة» بكسر الشين أيضاً. قال أبو حاتم: «هما لغةُ تميم».
والشُّقَّة: الأرض التي يُشَقُّ اشتقاقاً مِنَ الشِّق أو المَشَقَّة.
قوله: ﴿بالله﴾ متعلقٌ ب «سَيَحْلِفُون»، وقال الزمخشري: «بالله» متعلقٌ ب «سَيَحْلِفُون»، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي: سيَحْلِفون، يعني المتخلِّفين عند رجوعِك متعذِّرين يقولون: باللَّهِ لو استطعنا، أو وسَيحلفون بالله يقولون: لو اسْتَطَعْنا، وقوله «لَخَرَجْنا» سدَّ مَسَدَّ جواب القسم و «لو» جميعاً «. قال الشيخ:» قوله: لخَرَجْنا سدَّ مَسَدَّ
53
جوابِ القسم و «لو» جميعاً ليس بجيد، بل للنحويين في نحو هذا مذهبان، أحدُهما: أنَّ «لَخَرَجْنا» جواب القسم، وجوابُ «لو» محذوفٌ على قاعدة اجتماع القسم والشرط، إذ تقدَّم القسم على الشرط، وهذا اختيارٌ أبي الحسن ابن عصفور. والآخر: أنَّ «لَخَرَجْنا» جوابُ «لو»، و «لو» وجوابها جواب القسم، وهذا اختيارُ ابنِ مالك، أمَّا أنَّ «لَخَرَجْنا» سادٌّ مَسَدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذَهَبَ إلى ذلك. ويحتمل أن يُتَأول كلامُه على أنَّه لمَّا حُذِف جواب «لو» ودَلَّ عليه جوابُ القسم جُعِل كأنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم وجوابِ لو «.
وقرأ الأعمش وزيد بن علي»
لوُ اسْتَطَعْنا «بضم الواو، كأنهما فرَّا من الكسرة على الواو، وإن كان الأصلَ، وشبَّها واوَ» لو «بواو الضمير كما شبَّهوا واوَ الضمير بواو» لو «، حيث كسَرُوها نحو ﴿اشتروا الضلالة﴾ [البقرة: ١٦] لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن» اشْتَرَوا الضلالة «، و» لوَ استطعنا «بفتح الواو تخفيفاً.
قوله: ﴿يُهْلِكُونَ﴾ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها حالٌ من فاعل»
سَيَحْلِفُون «، أي: سَيَحْلفون مُهْلِكين أنفسَهم. والثاني: أنها بدلٌ من الجملةِ قبلها وهي» سَيَحْلِفون «. الثالث: أنها حالٌ من فاعل» لَخَرَجْنا «. وقد ذكر الزمخشري هذه الأوجه الثلاثة، فقال:» يُهْلِكون: إمَّا أنَ يكونَ بدلاً من «سيحلفون» أو حالاً بمعنى مُهْلكين. والمعنى: أنهم يُوْقِعُون في الهلاكِ أنفسَهم بحلفهم الكاذب. ويحتمل أن يكونَ حالاً من فاعل «خَرَجْنا»، أي: لَخَرَجْنا
54
وإنْ أهلكْنا أنفسنا. وجاء بلفظ الغائب لأنه مُخْبِرٌ عنهم، ألا ترى أنه لو قيل: سَيَحْلِفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً، يقال: حَلَفَ بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبةُ على حكم الإِخبار، والتكلمُ على الحكاية «.
قال الشيخ: «أمَّا كونُ»
يُهْلِكون «بدلاً مِنْ» سَيَحْلِفون «فبعيدٌ؛ لأنَّ الإِهلاكَ ليس مُرادِفاً للحَلف ولا هو نوع منه، ولا يُبدل فِعْلٌ من فعل إلا إنْ كان مرادفاً له أو نوعاً منه» قلت: يَصِحُّ البدل على معنى أنه بدلُ اشتمال؛ وذلك لأنَّ الحَلْفَ سببٌ للإِهلاك فهو مشتملٌ عليه، فأبدل المُسَبَّب مِنْ سببِه لاشتمالِه عليه، وله نظائرُ كثيرةٌ منها قولُه:
٢٤٨٧ - إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايعا تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تجيءَ طائعاً
ف «تُؤْخَذ» بدلٌ مِنْ «تبايع» بدلُ اشتمالٍ بالمعنى المذكور، وليس أحدهما نوعاً من الآخر. ثم قال الشيخ: «وأمَّا كونُه حالاً من قوله» لخرجنا « [فالذي يظهرُ أن ذلك لا يجوز لأنَّ قولَه» لخَرَجْنا «] فيه ضمير المتكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم، فلو كان حالً من فاعل» لخَرَجنا «لكان التركيبُ: نُهْلك أنفسنا أي مهلكي أنفسنا. وأمَّا قياسُه ذلك على» حَلَفَ زيد ليفعلن «و» لأفعلنَّ «فليس بصحيحٍ؛ لأنَّه إذا أَجْراه على ضمير الغيبة لا يَخْرُجُ منه إلى ضمير المتكلم، لو قلت:» حَلَفَ زيد ليفعلن وأنا قائم «على أن يكون» وأنا قائم «حالاً من ضمير» ليفعلن «لم يجز، وكذا عكسُه نحو:» حَلَفَ زيدٌ لأفعلن يقوم «تريد: قائماً لم يجز. وأمَّا قولُه» وجاء به على لفظِ الغائب لأنه مُخْبَرٌ عنهم «فمغالطة، ليس مخبراً عنهم بقوله ﴿لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا﴾، بل هو حاكٍ لفظَ قولِهم. ثم قال:» ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا
55
لخرجوا لكان سديداً إلى آخره «كلامٌ صحيحٌ لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةُ، والحالُ من جملةِ كلامِهم المحكيّ، فلا يجوزُ/ أن يخالفَ بين ذي الحال وحالِه لاشتراكهما في العامل. لو قلت:» قال زيد خرجت يضرب خالداً «تريد: اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت:» قالت هند: خرج زيد اضربْ خالداً «تريد: خرج زيد ضارباً خالداً لم يجز» انتهى.
الرابع: أنها جملةٌ استئنافيةٌ أخبر الله عنهم بذلك.
56
قوله تعالى: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ :«لِمَ» و «لهم» كلاهما متعلقٌ ب أَذِنْتَ. وجاز ذلك لأنَّ معنى اللامين مختلف، فالأولى للتعليلِ، والثانيةُ للتبليغ، وحُذِفَتْ ألفُ ما الاستفهاميةِ لانجرارِها. وتقديمُ الجارِّ الأول واجبٌ لأنه جرَّ ما له صدرُ الكلام. ومتعلَّقُ الإِذْنِ محذوفٌ، يجوز أن يكونَ القُعود، أي: لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق مِن اعتذارهم عن تَخَلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوز أن يكون الخروج، أي: لِمَ أذنت لهم في الخروج لأنَّ خروجَهم فيه مفسدةٌ مِنَ التخذيل وغيرِه يدل عليه ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ [التوبة: ٤٧].
قوله: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ﴾ «حتى» يجوز أن تكون للغاية، ويجوزُ أن تكونَ للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ: إمَّا بمعنى إلى وإمَّا اللام، و «أَنْ» مضمرةٌ بعدها ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ. قال أبو البقاء «تقديره: هلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يتبيَّنَ أو ليتبيَّن. وقوله: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ يدلُّ على المحذوف، ولا يجوزُ أن تتعلَّقَ» حتى «ب» أَذِنْتَ «لأن ذلك يوجب أن يكونَ أَذِن لهم إلى هذه الغاية أو لأجل التبيين، وذلك لا يُعاتَبُ عليه». وقال الحوفي «
56
حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي: ما كان له أن يأذن لهم حتى يتبيَّنَ له العُذْر». قلت: وفي هذه العبارةِ بعَضُ غضاضة.
57
قوله تعالى: ﴿أَن يُجَاهِدُواْ﴾ : فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلَّقُ الاستئذان، أي: لا يستأذنوك في الجهاد، بل يَمْضون فيه غير مترددين. والثاني: أن متعلق الاستئذان محذوف و «أن يُجاهدوا» مفعولٌ من أجله تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعودِ كراهةَ أن يُجاهدوا بل إذا أَمَرْتهم بشيءٍ بادروا إليه.
قوله تعالى: ﴿لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾ : العامَّةُ على «عُدّة» بضم العين وتاء التأنيث وهي الزَّادُ والراحلةُ وجميعُ ما يَحْتاج إليه المسافرُ.
وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنهُ معاوية «عُدَّةُ» كذلك إلا أنه جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب تعود على الخروج. واختُلِف في تخريجِها فقيل: أصلُها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإِضافةِ كالتنوين. وجعل الفراء من ذلك قولَه تعالى: ﴿وَإِقَامَ الصلاة﴾ [النور: ٣٧]، ومنه قولُ زهير:
٢٤٨٨ - إنَّ الخَلِيْطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعدُوا
يريد: عِدَّة الأمرِ. وقال صاحب «اللوامح» : لمَّا أضافَ جعل الكناية
57
نائبةً عن التاء فأسقطها؛ وذلك لأنَّ العُدَّ بغير تاء ولا تقديرها هو الشيء الذي يخرج في الوجه «. وقال أبو حاتم:» هو جمع عُدَّة ك بُرّ جمع بُرّة، ودُرّ جمع دُرَّة، والوجهُ فيه عُدَد، ولكن لا يوافق خطَّ المصحف.
وقرأ زر بن حبيش وعاصم في رواية أبان «عِدَّهُ» بكسر العين مضافةً إلى هاءِ الكناية. قال ابن عطية: «وهو عندي اسمٌ لِما يُعَدُّ كالذِّبْح والقِتلْ. وقُرىء أيضاً» عِدَّة «بكسر العين وتاء التأنيث، والمرادُ عدة من الزاد والسلاح مشتقاً من العَدَد.
قوله: ﴿ولكن كَرِهَ الله﴾ الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمل؛ ولذلك قال الزمخشري:»
فإن قلت: كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلت: لمَّا كان قولُه ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج﴾ معطياً نفيَ خروجهم واستعدادهم للغزو قيل: ولكنْ كره الله [انبعاثَهم]، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تَثَبَّطوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم، كما [تقول: ما] أحسن زيدٌ إليَّ ولكن أساء إليّ «انتهى. يعني أن ظاهر الآية يقتضي أنَّ ما بعد» لكن «موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنها لا تقع إلا بين ضدين أو نقيضين أو خلافين على/ خلاف في هذا الأخير فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور.
قال الشيخ:»
وليست الآيةُ نظيرَ هذا المثال يعني: ما أحسن زيداً إليّ ولكن أساء، لأن المثالَ واقعٌ فيه «لكن» بين [ضدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها «لكن» بين] متفقين من جهة المعنى «، قلت: مُرَادُهم بالنقيضين النفيُ والإِثبات لفظاً وإن كانا يتلاقيان في المعنى، ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً.
58
والتَّثْبيطُ: التَّعْويق. يقال: ثَبَّطْتُ زيداً أي: عُقْتُه عَمَّا يريده من قولهم: ناقة ثَبِطَة أي بطيئة السير. والمراد بقوله» اقعدوا «التَّخْلية وهو كنايةٌ عن تباطُئِهم، وأنهم تشبهوا بالنساء أو الصبيان والزمنى وذوي الأعذار، وليس المراد قعوداً كقوله:
59
قوله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم﴾ : أي: في جيشكم وفي جمعكم. وقيل: «في» بمعنى مع، أي: معكم. وتقدَّم تفسير «الخبال» في آل عمران.
وقوله: ﴿إِلاَّ خَبَالاً﴾ جَوَّزوا فيه أن يكون استثناء متصلاً وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ «زاد» يتعدى لاثنين. قال الزمخشري: «المستثنى منه غيرُ مذكور، فالاستثناءُ من أعمِّ العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلاً فإن الخَبال بعضُ أعمِّ العام كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً». وجَوَّزوا فيه أن يكونَ منقطعاً والمعنى: ما زادوكم قوة ولا شدةً ولكنْ خبالً، وهذا يجيءُ على قول مَنْ قال إنه لم يكن في عَسْكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبال، كذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العَسْكر خبالٌ أصلاً فكيف يستثنى شيءٌ لم يكنْ ولم يُتوهَّم وجوده؟
قوله: ﴿خِلاَلَكُمْ﴾ منصوبٌ على الظرفِ. والخِلال: جمع خَلَل وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين ويُستعار في المعاني فيُقال: في هذا الأمر خَلل.
59
والإِيُضاع: الإِسْراع يُقال: أَوْضَعَ البعيرُ، أي: أسرع في سَيْره قال امرؤ القيس:
٢٤٨٩ - دَعِ المكارِم لا تَقْصِدْ لبُغْيَتها واقعُدْ فإنَّك أنت الطاعِمُ الكاسي
٢٤٩٠ - أرانا مُوضِعينَ لأَِمْرِ غيبٍ ونُسْحَرُ بالطعامِ والشراب
وقال آخر:
٢٤٩١ - يا لَيْتَني فيها جَذَعْ أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
ومفعول «أوضعوا» محذوف، أي: أوضعوا ركائبهم لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي. ويُقال: وَضَعَتْ الناقةُ تَضَعُ: إذا أَسْرعت، وأوضعتها أنا. وقرأ ابن أبي عبلة ﴿ما زادَكم إلا خَبالاً﴾، أي: ما زادكم خروجهم. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد: «ولأَوْفَضوا» وهو الإِسراع أيضاً من قوله تعالى: ﴿إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: ٤٣]، وقرأ ابن الزبير «وَلأَرْفَضُوا» بالراء والفاء والضاد المعجمة مِنْ رَفَضَ، أي: أسرع أيضاً، قال حسان:
60
٢٤٩٢ - بزجاجةٍ رَقَصَتْ بما في جَوْفِها رَقْصِ القَلوصِ براكبٍ مستعجِلِ
وقال:
٢٤٩٣ -................ والراقصاتِ إلى مِنَىً فالغَبْغَبِ
يُقال: رَفَضَ في مِشْيته رَفْضاً ورَفَضاناً.
قوله: ﴿يَبْغُونَكُمُ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «أَوْضَعوا»، أي: لأَسْرَعوا فيما بينكم حالَ كونهم باغين، أي: طالبين الفتنةَ لكم.
قوله: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول «يَبْغُونكم» أو مِنْ فاعله، وجاز ذلك لأن في الجملة ضميريهما. ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، والمعنى: أنَّ فيكم مَنْ يَسْمع لهم ويُصْغِي لقولِهم. ويجوز أن يكونَ المرادُ: وفيكم جواسيسُ منهم يسمعون لهم الأخبارَ منكم، فاللامُ على الأول للتقوية لكون العاملِ فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي: لأجلهم.
ورُسِم في المصحف ﴿ولا أَوْضَعُوا خلالكم﴾ بألف بعد «لا»، قال الزمخشري: «كانت الفتحة تُكْتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك أثرٌ في الطباع فكتبوا صورةَ الهمزةِ ألفاً وفتحتَها ألفاً أخرى، ونحوه، ﴿أَوْ لا أَذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١] يعني في زيادة ألف بعد» لا «، وهذا لا يجوزُ القراءة به، ومَنْ قرأه متعمداً يكفر.
61
وقرأ مسلمة بن محارب «وقَلَبوا» مخففاً. وقوله «وهم كارهون» حالٌ والرابطُ الواو.
قوله تعالى: ﴿مَّن يَقُولُ ائذن﴾ : كقوله ﴿يَاصَالِحُ ائتنا﴾ [الأعراف: ٧٧] من أنه يجوز تحقيقُ الهمزة وإبدالُها واواً لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةُ من كلمةٍ أخرى. / وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزةُ وصل سَقَطت دَرْجاً. قال أبو جعفر. «إذا دخلت الواو والفاء على» ائذن «فهجاؤها ألفٌ وذال ونون بغير ياء، أو» ثم «فالهجاءُ ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونون. والفرقُ أنَّ» ثم «يوقف عليها ويُنْفَصَل بخلافهما». قلت: يعني أنه إذا دخلت واوُ العطف أو فاؤه على هذه اللفظةِ اشتدَّ اتصالُهما بها فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ فتكتب «فَأْذَنْ، وَأْذَنْ»، فهذه الألفُ مِنْ صورةِ الهمزة التي هي فاءُ الكلمة. وإذا دخلت عليها «ثم» كُتِبَتْ كذا: ﴿ثُمَّ ائتوا﴾، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة. قلت: وكأنَّ هذا الحكمَ الذي ذَكره مع «ثم» يختصُّ بهذه اللفظة، وإلا فغيرُها مما فاؤُه همزةٌ تسقط صورة همزة وصلِه خَطَّاً فيُكتب الأمرُ من الإِتيان مع «ثم» هكذا: «ثم أْتُوا» وكان القياسُ على «ثمَّ ائْذَنْ» :«ثم ائتوا» وفيه نظر.
وقرأ عيسى بن عمر وابن السَّمَيْفع وإسماعيل المكي فيما روى عنه
62
ابن مجاهد: «ولا تُفْتِينِّي» بضم حرف المضارعة مِنْ أفتنه رباعياً. قال أبو حاتم: «هي لغة تميم». وقيل: أفتنه: أدخله فيها. وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال:
٢٤٩٤ - لئن فَتَنَتْني فهي بالأمس أفتنتْ سعيداً فأمسى قد قلا كلَّ مسلم
ومتعلق الإِذن القعود، أي: ائذن لي في القعود والخُلْف عن العدو ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك.
63
قوله تعالى: ﴿لَّن يُصِيبَنَآ﴾ قال عمرو بن شقيق: «سمعت أَعْيُنَ قاضي الري يقرأ» لن يُصيبَنَّا «بتشديد النون»، قال أبو حاتم: ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النونَ لا تدخل مع «لن»، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجاز، لأنها مع «هل» قال الله تعالى: ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥]، قلت: يعني أبو حاتم أنَّ المضارعَ يجوز توكيده بعد أداةِ الاستفهامِ، وابن مصرف يقرأ «هل» بدل «لن»، وهي قراءة ابن مسعود.
وقد اعتُذِر عن هذه القراءة: فإنها حملت «لن» على «لم» و «لا» النافيتين، و «لم» و «لا» يجوزُ توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما. أمَّا «لا» فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال، وأمَّا «لم» فقد سُمع ذلك وأنشدوا:
٢٤٩٥ - يَحْسَبُه الجاهل ما لم يَعْلما شيخاً على كرسيِّه مُعَمَّمَا
أراد «يَعْلَمَنْ» فأبدل الخفيفةَ ألفاً بعد فتحة كالتنوين.
63
وقرأ القاضي أيضاً وطلحة: «هل يُصَيِّبُنا» بتشديد الياء. قال الزمخشري: «ووجههُ أن يكونَ يُفَيْعِل لا يُفَعِّل لأنه من بنات الواو لقولهم: الصواب، وصاب يصوب، ومصاوب في جمع مصيبة، فَحَقُّ يُفَعِّل منه يُصَوِّب. ألا ترى إلى قولهم: صَوَّب رأيه، إلا أَنْ يكونَ من لغة من يقول: صاب السهمُ يَصيب كقوله:
٢٤٩٦ - أَسْهُمِيَ الصائِبات والصُّيُبْ... يعني أنه أصله صَوْيِب فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقُلبت الواو ياءً وأدغم فيها، وهذا كما تقدم لك في تحيَّز أن أصله تَحَيْوَز. وأما إذا أخذناه مِنْ لغةِ مَنْ يقول: صاب السهم يَصيب فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة فَعَّل.
64
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِحْدَى﴾ : مفعول التربُّص، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن محيصن «إلا احدى» بوصل ألف «احدى» إجراء لهمزة القطع مُجْرى همزة الوصل فهو كقول الشاعر:
٢٤٩٧ - إنْ لم أُقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعا... وقول الآخر:
٢٤٩٨ - يابا المغيرة رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ فَرَّجْتُه بالمكر مِنِّي والدَّهَا
وقوله ﴿أَن يُصِيبَكُمُ﴾ مفعول التربُّص.
قوله تعالى: ﴿طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ : مصدران في موضع الحال، أي: طائعين أو كارهين. وقرأ الأخوان «كُرْهاً» بالضم وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء.
وقال الشيخ هنا: «قرأ الأعمش وابن وثاب» كُرْهاً «بضم الكاف». وهذا يُوهم أنها لم تُقْرأ في السبعة. قال الزمخشري «هو أمرٌ في معنى الخبر كقوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾ [مريم: ٧٥] ومعناه: لن يُتقبَّل منكم: أنفقتم طَوْعاً أو كرهاً، ونحوه قوله تعالى: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠]. وقوله يعني كثيِّر عَزَّة:
٢٤٩٩ - أسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلُومَةٌ ......................
أي: لن يغفر الله لهم استغفرت أو لم تستغفر، ولا نلومك أحسنتِ إلينا أو أَسَأْتِ، وفي معناه قول القائل:
٢٥٠٠ - أخوك الذي إنْ قُمْتَ بالسيفِ عامداً لتضربَهُ لم يَسْتَغِشَّك في الودِّ
وقال ابن عطية:»
هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ، وهذا مستمر في كل أمرٍ
65
معه جزاء والتقدير: إن تنفقوا لن يُتقبَّل منكم، وأما إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشرط «قال الشيخ:» ويَقْدح في هذا التخريجِ أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب لجواب الشرط، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب: «لن يُتقبل» بالفاء لأنَّ «لن» لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضُمِّن معناه، ألا ترى جزمَه الجوابَ في نحو: اقصد زيداً يُحْسِنْ إليك «. قلت: إنما أراد أبو محمد تفسير المعنى، وإلا فلا يَجْهَلُ مثل هذه الواضحات. وأيضاً فلا يلزمُ لأن يُعْطى الأمرُ التقديري حكمَ الشيء الظاهر من كل وجه.
وقوله: ﴿إِنَّكُمْ﴾ وما بعد جارٍ مَجْرى التعليل.
66
قوله تعالى: ﴿أَن تُقْبَلَ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول ثانٍ ل «منع» : إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر، أي: من أن يُقْبل وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه، لأنك تقول: منعتُ زيداً حَقَّه ومِنْ حقه. والثاني: أنه بدلٌ من «هم» في مَنْعِهم، قاله أبو البقاء كأنه يريد بدلَ الاشتمال. ولا حاجَة إليه.
وفي فاعل «منع» وجهان، أحدهما وهو الظاهر أنه ﴿إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ﴾، أي: ما منعهم قبولَ نفقتهم إلا كفرُهم. والثاني: إنه ضمير الله تعالى، أي: وما منعهم الله، ويكون «إلا أنهم» منصوباً على إسقاط حرف الجر، أي: لأنهم كفروا.
66
وقرأ الأخَوان: «أن يُقْبَلَ» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، وهما واضحتان لأنَّ التأنيثَ مجازي، وقرأ زيد بن علي كالأخوين، إلا أنه أفرد النفقة. وقرأ الأعرج: «تُقْبل» بالتاء من فوق، «نفقتُهم» بالإِفراد. وقرأ السُّلمي: «يَقبل» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى. وقرىء: «نَقْبل» بنون العظمة، «نفقتهم» بالإِفراد.
قوله: ﴿إِلاَّ وَهُمْ كسالى﴾، ﴿إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ كلتا الجملتين حالٌ من الفاعل قبلها.
67
قوله تعالى: ﴿الحياة الدنيا﴾ : فيه وجهان أحدهما: أنه متعلق ب «تعجبك» ويكون قول ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا﴾ جملةَ اعتراض والتقدير: فلا تعجبك في الحياة. ويجوز أن يكونَ الجارُّ حالاً من أموالهم. وإلى هذا نحا ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة قالوا: في الكلام تقديمٌ وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد ليعذبهم بها في الآخرة. قال الشيخ: «إلا أنَّ تقييدَ الإِعجابِ المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا، فيبقى ذلك كأنه زيادة تأكيد، بخلاف التعذيب فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة، ومع أن التقديمَ والتأخيرَ يخصُّه أصحابنا بالضرورة». قلت: كيف يُقال مع نَصِّ مَنْ قَدَّمْتُ ذكرَهم: «أصحابنا يخصُّون ذلك بالضرورة» على أنه ليس من التقديم والتأخير الذي يكون في الضرورة في شيءٍ إنما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه
67
تقديم وتأخير بالاصطلاح الذي يُخَصُّ بالضرورة، وتسميتهم أعني ابن عباس ومن معه رضي الله عنهم إنما يريدون فيه الاعتراضَ المشارَ إليه لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة.
والثاني: أن «في الحياة» متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ مصائبُ الدنيا ورزاياها، أو ما لزمهم من التكاليف الشاقة، فإنهم لا يرجون عليها ثواباً. قاله ابن زيد، أو ما فُرِض عليهم من الزكوات قاله الحسن، وعلى هذا فالضمير في «بها» يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على الأولاد والأموال.
68
قوله تعالى: ﴿مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ : المَلْجَأُ: الحِصْن. وقيل: المَهْرب. وقيل: الحِرْز وهو مَفْعَل مِنْ لجأ إليه يلجأ، أي: انحاز يقال: ألجأته إلى كذا، أي: اضطررته إليه فالتجأ. والملجأ يَصْلُح للمصدر والزمان والمكان، والظاهر منها هنا المكان. والمَغارات جمع مغارة وهي مَفْعَلة مِنْ غار يغور فهي كالغار في المعنى. وقيل: المغارة: السِّرْب في الأرض كنفق اليربوع. والغار النَّقْبُ في الجبل.
والجمهور على فتح ميم «مغارات» وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بالضم وهو مِنْ أغار/ وأغار يكون لازماً، تقول العرب: أغار بمعنى غار، أي: دخل، ويكون متعدياً تقول: أَغَرْتُ زيداً، أي: أدخلته في الغار، فعلى هذا يكون مِنْ أغار المتعدي، والمفعول محذوف، أي: أماكنُ يُغيرون فيها أنفسهم، أي: يُغَيِّبونها.
والمُدَّخل: مُفْتَعَلِ مِنَ الدخول وهو بناء مبالغة في هذا المعنى، والأصل
68
مُدْتَخل فأدغمت الدال في تاء الافتعال كادَّان من الدَّين. وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش مُدَّخَّلاً بتشديد الدال والخاء معاً. وتوجيهُها أن الأصل: مُتَدَخَّلاً مِنْ تَدخَّل بالتضعيف، فلما أدغمت التاء في الدال صار اللفظ مُدَّخَّلاً نحو مُدَّيَّن مِنْ تَدَيَّن. وقرأ الحسن أيضاً ومسلمة بن محارب وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير في رواية «مَدْخَلاً» بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة مِنْ دخل. وقرأ الحسن في رواية محبوب كذلك إلا أنه ضَمَّ الميم جعله مِنْ أدخل.
وهذا من أبرع العلم: ذكر أولاً الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر الغَيْران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وفي الجبال، ثم الأماكن التي يُختفى فيها في الأماكن السافلة وهي السُّروب وهي التي عبَّر عنها بالمُدَّخل.
وقال الزجاج: «يصح أن تكون المَغَارات مِنْ قولهم: حَبْل مُغار، أي: مُحْكم الفتل، ثم يُستعار ذلك في الأمر المحكم المبرَم فيجيء التأويل على هذا: لو يَجدون نصرة أو أموراً مسددة مرتبطة تعصِمهم منكم. وجعل المُدَّخَل أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم.
وقرأ أُبَيّ مُنْدَخَلاً بالنون بعد الميم مِنْ اندخل قال:
٢٥٠١ -.......................
69
ولا يدي في حَمِيتِ السَّمْنِ تَنْدَخِلُ
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه، وقال:» إنما هي بالتاء «. قلت وهو معذورٌ لأن انفعل قاصر لا يتعدى فكيف بُني منه اسمُ مفعول؟
وقرأ الأشهب العقيلي:»
لَوَاْلَوا «، أي: بايعوا وأسرعوا، وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة من الموالاة. وهذا ممَّا جاء فيه فَعَّل وفاعَل بمعنى نحو: ضَعَّفْتُه وضاعَفْتُه. قال سعيد بن مسلم أظنها» لَوَأَلُوا «بهمزة مفتوحة بعد الواو مِنْ وَأَلَ، أي: التجأ، وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء:
والجُّموح: النُّفور بإسراع ومنه فرس جَموح إذا لم يَرُدَّه لِجام قال:
٢٥٠٢ - جَمُوحاً مَرُوحاً وإحضارُها كمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُؤْقَدِ
وقال آخر:
٢٥٠٣ - إذا جَمَحَتْ نساؤكُمُ إليه أَشَظَّ كأنه مَسَدٌ مُغَارُ
وقال آخر:
70
وقرأ أنس بن مالك والأعمش «يَجْمِزُون»، قال ابن عطية: «يُهَرْوِلُون في مَشْيهِم». قيل: يَجْمِزُون ويَجْمَحون ويشتدُّون بمعنى «. وفي الحديث:» فلما أَذْلَقَتْه الحجارة جَمَزَ «، وقال رؤبة:
٢٥٠٤ - وقد جَمَحْتُ جِماحاً في دمائِهمُ حتى رأيتُ ذوي أحسابِهم جَهَزوا
٢٥٠٥ - إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ قارَبْتُ بين عَنَقي وجَمْزي
وهذا أصلُه في اللغة.
وقوله: ﴿إِلَيْهِ﴾، عاد الضميرُ إلى الملجأ أو على المُدَّخل؛ لأن العطف ب أو»
، ويجوز أن يعودَ على «المَغَارات» لتأويلها بمذكر.
قوله: ﴿مَّن يَلْمِزُكَ﴾ قرأ العامة «يلمزك» بكسر الميم مِنْ لَمَزه يَلْمِزه، أي: عابه، وأصله الإِشارة بالعين ونحوها. قال الأزهري: «أصلُه الدفع، لَمَزْته: دفعته»، وقال الليث: «هو الغَمْز في الوجه ومنه هُمَزَةٌ لُمَزَة، أي: كثيرُ هذين الفعلين.
وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء ورُويت عن أبي عمرو بضمها وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش يُلْمِزُك مِنْ أَلْمز رباعياً. وروى حماد بن سلمة:»
يُلامِزُك «على المفاعلة من واحدٍ كسافرَ وعاقَب.
وقد تقدَّم الكلام على»
إذا «الفجائيةِ مراراً والعامل فيها: قال أبو البقاء:» يَسْخَطون «لأنه قال: إنها ظرفُ مكان، وفيه نظر تقدَّم في نظيره.
71
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ﴾ : الظاهر أن جواب «لو» محذوفٌ تقديره: لكان خيراً لهم. وقيل: جوابُها «وقالوا»، والواوُ مزيدةٌ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وقوله «سيُؤْتينا» إنَّا إلى الله راغبون «هاتان الجملتان كالشرح لقولهم: حسبُنا الله، فلذلك يم يتعاطَفا لأنهما كالشيءِ الواحد، فشدَّة الاتصال منعت العطف.
قوله تعالى: ﴿فَرِيضَةً﴾ : في نصبها وجهان أحدهما: أنها مصدر على المعنى، لأن معنى إنما الصدقات للفقراء في قوة: فرض الله ذلك. والثاني: أنها حالٌ من الفقراء، قاله الكرماني وأبو البقاء، يَعنْيان/ من الضمير المستكنّ في الجار لوقوعه خبراً، أي: إنما الصدقاتُ كانت لهم حال كونها فريضةً، أي: مفروضة. ويجوز أن تكون «فريضة» حينئذ بمعنى مفعولة، وإنما دخلت التاء لجريانها مجرى الأسماء كالنَّطيحة. ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ عدل عن اللام إلى» في «في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإِيذان بأنهم أرسخُ في استحقاق التصدُّق عليهم مِمَّن سَبَق ذكرُه؛ لأن» في «للوعاء، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات ويُجعلوا مَظِنَّةً لها ومَصَبَّاً»، ثم قال: «وتكرير» في «في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل﴾ فيه فضلُ ترجيحٍ لهذين على الرقاب والغارمين».
ونُقِل عن سيبويه أن «فريضة» منصوبٌ بفعلها مقدراً، أي: فرض الله ذلك فريضة. ونُقل عن الفراء أنها منصوبة على القطع.
وقرىء «فريضةٌ» بالرفع على: تلك فريضة.
72
والغُرْم أصله لُزوم شيءٍ شاق ومنه قيل للعشق غرام، ويُعَبَّر به عن الهلاك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ [الفرقان: ٦٥]، وغَرامَةُ المال فيها مشقة عظيمة.
73
قوله تعالى: ﴿أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾ :«أُذُن» خبر مبتدأ محذوف، أي: قل هو أُذُنُ خيرٍ. والجمهور على جرِّ «خيرٍ» بالإِضافة. وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم «أُذنٌ» بالتنوين، «خيرٌ» بالرفع وفيها وجهان، أحدهما: أنها وصف ل «أُذُن». والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر. و «خير» يجوز أن تكون وصفاً من غير تفضيل، أي: أُذُنُ ذو خيرٍ لكم، ويجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها، أي: أكثر خير لكم. وجوَّز صاحب «اللوامح» أن يكونَ «أذن» مبتدأ و «خير» خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة لأنها موصوفةٌ تقديراً، أي: أذنٌ لا يؤاخذكم خير لكم مِنْ أُذُنٍ يؤاخذكم.
ويقال: رَجُلٌ أُذُنٌ، أي: يسمع كل ما يقال. وفيه تأويلان أحدهما: أنه سُمِّي بالجارحة لأنها آلة السماع، وهي معظم ما يُقْصد منه كقولهم للربيئة: عين. وقيل: المرادُ بالأذن هنا الجارحة، وحينئذٍ تكونُ على حَذْف مضاف، أي: ذو أذن. والثاني: أن الأذن وصفٌ على فُعُل كأُنُف وشُلل، يقال: أَذِن يَأْذَن فهو أُذُن، قال:
73
٢٥٠٦ - وقد صِرْتَ أُذْناً للوُشاة سَميعةً ينالُون مِنْ عِرْضي ولو شئتَ ما نالوا
قوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾، قرأ الجمهور: «ورحمة»، رفعاً نسقاً على «أذن ورحمة»، فيمن رفع «رحمة». وقال بعضهم: هو عطف على «يؤمن» ؛ لأن يؤمن «في محل رفع صفة ل» أذن «تقديره: أذن مؤمنٌ ورحمةٌ. وقرأ حمزةُ والأعمش:» ورحمة «بالجر نسقاً على» خير «المخفوض بإضافة» أذن «إليه. والجملة على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين تقديره: أذن خير ورحمة. وقرأ ابن أبي عبلة:» ورحمةً نصباً على أنه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي: يَأْذَنُ لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ﴾.
والباءُ واللام في «يؤمن بالله» «ويؤمن للمؤمنين» مُعَدِّيتان قد تقدَّم الكلامُ عليهما في أول هذه الموضوع. وقال الزمخشري: «قصد التصديقَ بالله الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء، وقصد الاستماعَ للمؤمنين، وأن يُسَلِّم لهم ما يقولون فعدى باللام، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: ١٧]. ما أنباه عن الباء، ونحوه: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى﴾ [يونس: ٨٣] ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: ١١١] ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ [الشعراء: ٤٩]. وقال ابن قتيبة:» هما زائدتان، والمعنى: يصدِّق الله ويصدِّق المؤمنين «وهذا قولٌ مردودٌ، ويدلُّ على عدم الزيادة تغايرُ الحرف الزائد، فلو لم يُقْصَدْ معنىً مستقلٌ لَمَا غاير بين الحرفين وقال المبرد:» هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدر من الفعل كأنه قال: وإيمانه
74
للمؤمنين «. وقيل: يقال: آمنتُ لك بمعنى صَدَّقْتُكَ، ومنه ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ وعندي أن هذه اللامَ في ضمنها» ما «فالمعنى: ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به. وقال أبو البقاء:» واللام في للمؤمنين زائدةٌ دَخَلَتْ لتفرِّقَ بين «يؤمن» بمعنى يُصَدِّق، وبين يؤمن بمعنى يثبت الإِيمان «.
75
قوله تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ : إنما أفرد الضمير في «يُرْضوه»، وإن كان الأصل في العطف بالواو المطابقةَ لوجوهٍ أحدُها: أنَّ رضا الله ورسولِه شيء واحد: مَنْ أطاع الرسول فقد أطاع [الله]، ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠]، فلذلك جَعل الضميرين ضميراً واحداً مَنْبَهة على ذلك. والثاني: أن الضميرَ عائد على المثنى بلفظ الواحد بتأويل «المذكور» كقول رؤبة:
٢٥٠٧ - فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ كأنه في الجلد تَوْلِيْعُ البَهَقْ
أي: كأن ذاك المذكور. وقد تقدَّم لك بيان هذا في أوائل البقرة. الثالث: قال المبرد: في الكلام تقديمٌ وتأخير تقديره: والله أحقُّ أن يُرْضوه ورسولُه. قلت: وهذا على رأي مَنْ يدَّعي/ الحَذْفَ من الثاني. الرابع: وهو مذهب سيبويه أنه حَذَفَ خبر الأول وأبقى خبر الثاني. وهو أحسن من عكسه وهو قولُ المبردِ، لأن فيه عدمَ الفصل بين المبتدأ أو خبره، ولأن فيه أيضاً الإِخبار بالشيء عن الأقرب إليه، وأيضاً فهو متعيَّنٌ في قول الشاعر:
٢٥٠٨ -
75
نحن بما عندنا وأنت بما عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ
أي: نحن راضُون، حَذَفَ «راضون» لدلالةِ خبر الثاني عليه. قال ابن عطية: «مذهبُ سيبويهِ أنهما جملتان حُذِفَت الأولى لدلالةِ الثانيةِ عليها». قال الشيخ: «إن كان الضمير في» أنهما «عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين فكيف يقول» حُذفت الأولى «والأُوْلى لم تُحْذَفْ، إنما حُذِفَ خبرُها، وإن كان عائداً على الخبر وهو ﴿أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ فلا يكونُ جملةُ إلا باعتقاد أن يكون» أن يُرْضُوه «مبتدأً وخبره» أحقُّ «مقدَّماً عليه، ولا يتعيَّنُ هذا القولُ إذ يجوزُ أن يكونَ الخبرُ مفرداً بأن يكونَ التقدير: أحقُّ بأَنْ تُرْضوه». قلت: إنما أراد أبو محمد التقديرَ الأول وهو المشهورُ عند المُعْربين، يجعلون «أحق» خبراً مقدماً، و «أن يرضوه» مبتدأ مؤخراً [أي] : واللَّهُ ورسولُه إرضاؤُه أحقُّ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا قريباً في قوله: ﴿فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾ [التوبة: ١٣].
و ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ شرطٌ جوابُه محذوفٌ أو متقدم.
76
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يعلموا﴾ : الجمهورُ: على «يَعْلموا» بياء الغيبة رَدَّاً على المنافقين. وقرأ الحسن والأعرج: «تَعْلموا» بتاء الخطاب. فقيل: هو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب إن كان المرادُ المنافقين. وقيل الخطابُ للنبي عليه السلام، وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً كقوله:
76
وقيل: الخطابُ للمؤمنين، وبهذه التقادير الثلاثةِ يختلف معنى الاستفهام: فعلى الأول يكونُ الاستفهامُ للتقريع والتوبيخ، وعلى الثاني يكون للتعجبِ مِنْ حالِهم، وعلى الثالث يكون للتقرير.
والعِلْم هنا يُحْتمل أن يكون على بابِه فتسدَّ «أَنْ» مسدَّ مفعولَيْن عند سيبويه، ومسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش، وأن يكونَ بمعنى العرفان فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعول. و «مَنْ» شرطية و ﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ﴾ جوابُها، وفتحت «أنَّ» بعد الفاء لِما عُرِف في الأنعام والجملة الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبرِ «أنَّ» الأولى.
وهذا تخريجٌ واضحٌ وقد عدل عن هذا الواضحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقال الزمخشري: «ويجوز أن يكونَ» فأنَّ له «معطوفاً على» أنه «على أنَّ جوابَ» مَنْ «محذوفٌ تقديره: ألم يعلموا أنَّه مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورسولَه يُهْلَكْ فأنَّ له». وقال الجرمي والمبرد: «أنَّ» الثانيةُ مكررةٌ للتوكيد كأن التقدير: فله نارُ جهنم، وكُرِّرت «أنَّ» توكيداً. وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء﴾ [النحل: ١١٩]، ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ قال: «والفاءُ على هذا جوابُ الشرط».
وقد رَدَّ الشيخ على الزمخشري قولَه بأنهم نصُّوا على أنه إذا حُذِف جوابُ الشرط لَزِم أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً أو مضارعاً مقروناً ب «لم»،
77
والجوابُ على قولِه محذوفٌ، وفعلُ الشرطِ مضارع غيرُ مقترنٍ ب لم «، وأيضاً فإنَّا نجدُ الكلامَ تاماً بدون هذا الذي قدَّره».
وقد نُقِل عن سيبويه أنه قال: «الثانيةُ بدلٌ من الأولى»، وهذا لا يَصِحُّ عن سيبويه فإنه ضعيف أو ممتنع. وقد ضعَّفه أبو البقاء بوجهين، أحدهما: أنَّ الفاءَ تمنعُ من ذلك، والحكمُ بزيادتِها ضعيفٌ. والثاني: أنَّ جَعْلَها بدلاً يوجب سقوط جواب «مَنْ» مِن الكلام «. وقال ابن عطية:» وهذا يُعْتَرَضُ بأنَّ الشيءَ لا يُبدل منه حتى يُسْتوفى، والأُْولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرُها بعدُ، إذ لم يأتِ جوابُ الشرط، وتلك الجملةُ هي الخبر. وأيضاً فإنَّ الفاءَ تمانعُ البدلَ، [وأيضاً] فهي في معنى آخرَ غيرِ البدل فيقلقُ البدل «.
وقال بعضهم:»
فيجب على تقدير اللام أي: فلأنَّ له نار جهنم وعلى هذا فلا بد من إضمار شيءٍ يتمُّ به جواب الشرط تقديره: فمُحادَّتُه لأنَّ له نارَ جهنم «.
وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ لا يُحتاج إليها، فالأولى ما تقدم ما ذكره: وهو أن يكونَ ﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ في محلِّ رفعٍ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ، وينبغي أن تقدِّرَه متقدماً عليها كما فعل الزمخشري وغيرُه أي: فحقٌّ أنَّ له نارَ جهنم. وقدَّره غيرُه متأخراً أي: فأنَّ له نارَ جهنم واجبٌ. كذا قدَّره الأخفش. ورَدُّوه عليه بأنها لا يُبتدأ بها، وهذا لا يُلْزِمُه فإنه يُجيز الابتداء ب «أنَّ»
المفتوحةِ من
78
غير تقديمِ خبر، وغيرُه لا يُجيز الابتداءَ بها إلا بشرطِ تقدُّمِ «أمَّا» نحو: «أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي» أو بشرطِ تقدُّمِ الخبر نحو: «عندي/ أنَّك مُنْطَلق». وقيل: فأنَّ له «خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ له. وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاء في محلِّ جزم جواباً للشرط.
وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة والحسن وابن لأبي عبلة»
فإنَّ «بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنه قرأ [بها] بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهُها.
والمُحَادَّة: المخالفةُ والمعاندةُ ومجاوزةُ الحدِّ والمعاداة. قيل: مشتقةٌ مِن الحدّ وهو حَدُّ السلاح الذي يحارَبُ به من الحديد. وقيل: من الحدّ الذي هو الجهةُ كأنه في حدٍّ غيرِ حدِّ صاحبهِ كقولهم: شاقَّه أي: كان في شقٍ غيرِ شقِّ صاحبه. وعاداه: أي كان في عُدْوَة غيرِ عُدْوَته.
واختار بعضُهم قراءةَ الكسرِ بأنها لا تُحْوِج إلى إضمار، ولم يُروَ قولُه:
٢٥٠٩ - وإن شِئْتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكم ......................
٢٥١٠ - فَمَنْ يكُ سائلاً عني فإني وجِرْوَةَ لا تُعارُ ولا تُباعُ
إلا بالكسرِ، وهذا غيرُ لازمٍ فإنه جاء على أحد الجائزين. و» خالداً «نصبٌ على الحال.
79
قوله تعالى: ﴿أَن تُنَزَّلَ﴾ : مفعولٌ به ناصبُه يحذر، فإن «
79
يَحْذَر» متعدٍّ بنفسِه لقوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: ٣٠] لولا أنه متعدٍّ في الأصل لواحدٍ لَما اكتسب التضعيف مفعولاً ثانياً، ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه:
٢٥١١ - حَذِرٌ أُموراً لا تَضيرُ وآمِنٌ ما ليسَ مُنْجيَه من الأَقْدارِ
وفي البيت كلامٌ، قيل: إنه مصنوع، وهو فاسد أتقنت حكايته في «شرح التسهيل» وقال المبرد: «إنَّ» حَذِر لا يتعدى «قال: لأنه من هَيْئات النفسِ كفَزِع، وهذا غير لازم فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍ كخاف وخشِي فإنَّ» تُنَزَّل «عند المبرد على إسقاط الخافض أي: مِنْ أَنْ تُنَزَّل. وقوله» تُنَبِّئهم «في موضع الرفع صفةً ل» سورة «.
80
قوله تعالى: ﴿أبالله﴾ : متعلقٌ بقوله: «تستهزئون» و «تستهزئون» خبرُ كان. وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها، لأنَّ تقديمَ المعمول يُؤْذِن بتقديم العامل، وقد تقدم معمول الخبر على «كان» فَلْيَجُزْ تقديمُه بطريق الأولى. وفيه بحث: وذلك أن ابنَ مالك قَدَح في هذا الدليلِ بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ٩-١٠] قال: «فاليتيم والسائل قد تَقَدَّما على» لا «الناهية والعاملُ فيهما ما بعدها، ولا يجوز تقديم ما بعد» لا «الناهية عليها لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ حيث لا يتقدَّم العامل. ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر ليس بقوله: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨].
80
والاعتذار: التنصُّل مِنَ الذنب وأصله مِنْ تعذَّرت المنازل أي: دُرِسَت وامحى أثرها، قال ابن أحمر:
٢٥١٢ - قد كنتَ تعرف آياتٍ فقد جعلَتْ أطلالُ إلفِك بالوَعْساء تعتذِرُ
فالمعتذر يزاول محو ذنبه. وقيل: أصله من العَذْر وهو القطع، ومنه العُذْرة لأنها تُقْطع بالافتراع. قال ابن الأعرابي:» يقولون: اعتذرت [المياه أي: انقطعت، وكأن المعتذر يحاول] قطع الذمّ عنه.
81
قوله تعالى: ﴿إِن نَّعْفُ﴾ : قرأ عاصم «نَعْفُ» بنون العظمة، «نُعَذِّب» كذلك أيضاً، «طائفةً» نصباً على المفعولية، وهي قراءاتُ أَبي عبد الرحمن السلمي وزيد بن علي. وقرأ الباقون «يُعفَ» في الموضعين بالياء من تحتُ مبنياً للمفعول ورفع «طائفةٌ» على قيامِها مَقام الفاعل. والقائمُ مقامَ الفاعل في الفعل الأولِ الجارُّ بعده. وقرأ الجحدري: «إن يَعْفُ» بالياء من تحت فيهما مبنياً للفاعل وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب «طائفة» على المفعول به، وقرأ مجاهد «تَعْفُ» بالتاء من فوق فيهما مبنياً للفاعل وهو ضمير الله تعالى، ونصبِ «طائفةً» على المفعول به. وقرأ مجاهد: «تُعفَ» بالتاء من فوق فيهما مبنياً للمفعول ورفع «طائفة» لقيامها مَقامَ الفاعل.
وفي القائم مقامَ الفاعل في الفعل الأول وجهان أحدهما: أنه ضمير الذنوب أي: إن تُعْفَ هذه الذنوب. والثاني: أنه الجارُّ، وإنما أُنِّثَ الفعلُ
81
حَمْلاً على المعنى. قال الزمخشري: «الوجه التذكير، لأنَّ المسنَد إليه الظرفُ، كما تقول:» سِيْرَ بالدابة «ولا تقول: سِيْرت بالدابة ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن تُرحَمْ طائفة، فأنَّث لذلك وهو غريبٌ».
82
قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ﴾ : هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مفسرةٌ لقوله ﴿بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ وكذلك ما عُطِف على «يَأْمرون».
قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ﴾ : حالٌ من المفعول الأول للوعد وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحالَ لم تقارِنْ الوعد، وقوله: «هي حَسْبُهم» لا محلَّ لهذه الجملةِ الاستئنافية. وقوله: «هي حسبهم» لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية.
قوله تعالى: ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ : فيه أوجه أحدها: هذه الكافَ/ في محلِّ رفعٍ تقديرُه: إنهم كالذين فهي خبر مبتدأ محذوف. الثاني: أنها في محل نصب. قال الزجاج: «المعنى: وعدكما وَعْدَ الذين مِنْ قبلكم، فهو متعلقٌ ب» وَعَدَ «. قال ابن عطية:» وهذا قَلِقٌ «. وقال أبو البقاء:» ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب «يَسْتهزئون». وفي هذا بُعْدٌ كبير.
وقوله: ﴿كَانُواْ أَشَدَّ﴾ تفسيرٌ لشبههم بهم وتمثيل لفعلهم. وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمارِ فعلٍ قال: «التشبيهُ من جهة الفعل أي: فعلتم كما فعل الذين من قبلكم» فتكون الكافُ في موضع نصب. وقال أبو البقاء: «الكاف
82
في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، وفي الكلام حذفُ مضافٍ تقديرُه» وعداً كوعد الذين «. وذكر الزمخشري وجهَ الرفع المتقدمَ والوجهَ الذي قدَّمْتُه عن الفراء، وشبَّهه بقول النمر بن تولب:
٢٥١٣ -................... كاليوم مَطْلوباً ولا طَلَبا
بإضمار: لم أر.
قوله: ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ﴾ الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: استمتاعاً كاستمتاع الذين.
قوله: كالذي خاضوا} الكافُ كالتي قبله. وفي»
الذي «وجوهٌ أحدُها: أن المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقعَ الجمع. وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ إلى الموصول، وعائدُ الموصول تقديرُه: خاضوه، والأصلُ: خاضوا فيه؛ لأنه يتعدى ب» في «فاتُّسع فيه، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بالفعل فساغ حَذْفُه، ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرَّ العائد بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف، وأن يتحدَ المتعلَّق، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم.
الثاني: أنَّ»
الذي «صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي: وخضتم خوضاً
83
كخوضِ الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا. والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ.
الثالث: أنَّ» الذي «من صفةِ المصدرِ والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه. وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه.
الرابع: أن»
الذي «تقعُ مصدريةً، والتقدير: وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله:
٢٥١٤ - فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ في المُرْسلين ونَصْراً كالذي نُصِروا
أي: كنَ‍صْرهم. وقول الآخر:
٢٥١٥ - يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
أي: ككونِه. وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين لذلك. قال الزمخشري:»
فإن قلتَ: أيُّ فائدة في قوله: ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ كَمَا﴾، وقوله: ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ مُغْنٍ عنه كما أغنى «كالذي خاضوا» [عن أن يقال: وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي خاضُوا] ؟ قلت: فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتوا ورِضاهم بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع، ويُهَجِّن أمرَ الراضي به، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم.
وأمَّا «وخُضْتُمْ كالذي خاضوا» فمعطوفٌ على ما قبله، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن
84
تلك المقدمة «يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا.
وفي قوله: ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ﴾ إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ: وهو أن كانَ الأصلُ: فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم، فأبرزهم بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى: ﴿لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً﴾ [مريم: ٤٤] وكقوله قبل ذلك: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ ثم قال: ﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧]. وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير.
85
قوله تعالى: ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ : بدلٌ من الموصول قبلَه وهو ويَحْتمل أن يكونَ بدلَ كل من كل إن كان المرادُ بالذين ما ذُكِر بعده خاصة، وأن يكونَ بدلٌ بعضً مِنْ كل إنْ أريد به أعمَّ من ذلك.
والمُؤْتَفكات أي: المُنْقَلبات يُقال: أَفَكْتُه فانتفك أي: قَلَبْته فانقلب، والمادةُ تدل على التحوُّل والتصرف ومنه ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ / أُفِكَ﴾ [الذاريات: ٩] أي: يُصْرَف. والضمير في «أَتَتْهم» يجوز أن يعودَ على مَنْ تقدَّم، وخَصَّه بعضُهم بالمؤتفكات.
وقوله تعالى: ﴿ [بَعْضُهُمْ] أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ : وقال في المنافقين ﴿مِّن بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٦٧] إذ لا ولايةَ بين المنافقين. وقوله «يَأْمُرون» كما تقدم في نظيره. والسينُ في «سيرحمهم الله» للاستقبال، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ
85
وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة. وادعى الزمخشري أنها تفيد وجوبَ الرحمةِ وتوكيدَ الوعيد والوعيد نحو: سأنتقم منك.
86
وقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ﴾ : حالٌ مقدرة كما تقدم. والعَدْن: الإِقامة يُقال: عَدَنَ بالمكان يَعْدِن عَدْناً أي ثَبَتَ واستقرَّ، ومنه المَعْدِن لمُسْتَقَرِّ الجواهر ويُقال: عَدَن عُدُوناً فله مصدران، هذا أصلُ هذه اللفظة لغةً، وفي التفسير ذكروا لها معانيَ كثيرةً. وقال الأعشى في معنى الإِقامة:
٢٥١٦ - وإن يَسْتضيفوا إلى حِلْمِهِ يُضافُوا إلى راجِحٍ قد عَدَنْ
أي: ثَبَتَ واستقرَّ، ومنه «عَدَن» لمدينة باليمن لكثرة المقيمين بها.
قوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾، التكثير يفيد التعليل، أي: أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم مِنَ الجنَّات ومساكنها.
قوله تعالى: ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ : قال أبو البقاء: «إن قيل: كيف حَسُنَتِ الواوُ هنا، والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أجوبة. أحدُها: أن الوَاوَ واو الحال والتقدير: افعل ذلك في حال استحقاقِهم جهنم، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم. والثاني: أن الواوَ جيْءَ بها تنبيهاً على إرادة فعلٍ محذوف تقديره: واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم. الثالث: أنَّ الكلامَ قد حُمل على المعنى، والمعنى: أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلطة وعذابُ الآخرةَ بجَعْلِ جهنم مأواهم»، ولا حاجةَ إلى هذا كلِّه، بل هذه جملةٌ استئنافية.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به، أي: وما كَرِهوا وعابُوا إلا إغناءَ الله إياهم، وهو من بابِ قولِهم: ما لي عندك ذنبٌ إلا أَنْ أَحْسَنْت إليك، أي: إن كان ثَمَّ ذنبٌ فهو هذا، فهو تهكمٌ بهم، كقوله:
٢٥١٧ - ولا عيبَ فينا غيرُ عِرْقٍ لمعشرٍ كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النمل
وقول الآخر:
٢٥١٨ - ما نقِموا من بني أميةَ إلا أنهمْ يَحْلُمون إنْ غَضِبوا
وأنهم سادةُ الملوكِ ولا يَصْلحُ إلا عليهم العَرَبُ
والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، وعلى هذا فالمفعول به محذوف تقديره: وما نقموا منهم الإِيمان إلا لأجلِ إغناء الله إياهم. وقد تقدَّم الكلامُ على نَقِم.
قوله تعالى: ﴿مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ : فيه معنى القسم فلذلك أُجيب بقوله: «لنصَّدَّقَنَّ»، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالة هذا الجوابِ عليه، وقد عَرَفْتَ قاعدة ذلك. واللام للتوطئة. ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللام الموطئة له. وقال أبو البقاء؛ «فيه وجهان أحدهما: تقديره فقال: لئن آتانا.
87
والثاني: أنْ يكونَ» عاهد «بمعنى» قال «فإنَّ العهد قول». ولا حاجة إلى هذا الذي ذكره.
قوله: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ﴾ قرأهما الجمهور بالنون الثقيلة، والأعمش بالخفيفة.
88
والجمهور قرؤوا «يَكذبون» مخففاً. وأبو رجاء مثقلاً.
والجمهورُ على «يَعْلموا» بالياء من تحت. وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والسُّلَمي بالخطاب التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين.
قوله تعالى: ﴿الذين يَلْمِزُونَ﴾ : فيه أوجه، أحدهما: أنه مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ، أي: هم الذين. الثاني: أنه في محل رفع بالابتداء و «من المؤمنين» حالٌ مِن «المطَّوِّعين»، و «في الصدقات» متعلق ب «يَلْمِزون». و ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ﴾ نسقٌ على «المطَّوِّعين» أي: يَعيبون المياسير والفقراء.
وقال مكي: «والذين» خفضٌ عطفاً على «المؤمنين»، ولا يَحْسُن عَطْفُه على «المطَّوِّعين»، لأنه لم يتمَّ اسماً بعد، لأن «فيسخرون» عطف على «يَلْمِزُون» هكذا ذكره النحاس في «الإِعراب» له، وهو عندي وهمٌ منه «. قلت: الأمر فيه كما ذكر فإن» المطَّوِّعين «قد تَمَّ من غيرِ احتياجٍ لغيره.
88
وقوله: ﴿فَيَسْخَرُونَ﴾ نسقٌ على الصلة، وخبر المبتدأ الجملةُ من قوله: ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾، هذا أظهرُ إعرابٍ قيل هنا. وقيل: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ﴾ نسقٌ على» الذين يَلْمزون «، ذكره أبو البقاء. وهذا لا يجوزُ؛ لأنه يلزمُ الإِخبارُ عنهم، بقوله: ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ وهذا لا يكون إلا بأَنْ كان الذين لا يَجِدون منافقين، وأمَّا إذا كانوا مؤمنين كيف يَسْخر الله منهم؟ وقيل: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ﴾ نسقٌ على المؤمنين، قاله أبو البقاء. وقال الشيخ:» وهو بعيدٌ جداً «، قلت: وَجْهُ بُعْدِ أنه يُفْهِمُ أن الذين لا يجدون ليسوا مؤمنين؛ لأنَّ أصلَ العطفِ الدلالةُ على المغايرة فكأنه قيل: يَلْمِزون المطَّوِّعين من هذين الصنفين: المؤمنين والذين لا يجدون، فيكون الذين لا يجدون مطَّوِّعين غيرَ مؤمنين.
وقال أبو البقاء:»
في الصدقات «متعلق ب» يَلْمِزون «، ولا يتعلق بالمطَّوِّعين لئلا يُفْصَل بينهما بأجنبي»، وهذا الردُّ فيه نظر، إذ قولُه: «من المؤمنين» حال، والحال ليست/ بأجنبي، وإنما يظهر في رَدِّ ذلك أن «يطَّوَّع» إنما يتعدى بالباء لا ب «في»، وكونُ «في» بمعنى الباء خلافُ الأصل.
وقيل: ﴿فَيَسْحَرُونَ﴾ خبرُ المبتدأ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجهِ بُعْدٌ من حيث إنه يَقْرُب من كونِ الخبر في معنى المبتدأ، فإنَّ مَنْ عاب إنساناً وغَمَزَه علم أنه يسخر منه فيكون كقولهم: «سيد الجارية مالكها».
89
الثالث: أن يكونَ محلُّه نصباً على الاشتغال بإضمار فعل يُفَسِّره ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ مِنْ طريقِ المعنى نحو: عاب الذين يَلْمِزون سخر الله منهم. الرابع: أَنْ ينتصبَ على الشتم. الخامس: أن يكونَ مجروراً بدلاً من الضمير في «سِرَّهم ونجواهم».
وقرىء «يُلْمزون» بضم الميم، وقد تقدَّم أنها لغة.
وقوله: ﴿سَخِرَ الله﴾ يُحْتمل أن يكونَ خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً. وقرأ الجمهور «جُهدهم» بضم الجيم. وقرأ ابن هرمز وجماعة «جَهْدهم» بالفتح. فقيل: لغتان بمعنى واحد. وقيل: المفتوحُ المشقَّة، والمضمومُ الطاقةُ قاله القتبي. وقيل: المضمومُ شيءٌ قليلٌ يُعاشُ به، والمفتوحُ العملُ.
90
قوله تعالى: ﴿سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ : منصوبٌ على المصدر كقولك: «ضربتُه عشرين ضربةً» فهو لعددِ مراته. وقوله: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾، قد تقدَّم الكلامُ على هذا بُعَيْدَ قوله: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ [التوبة: ٥٣] وأنه نظيرُ قوله:
قوله تعالى: ﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾ : متعلقٌ ب «فرح»، وهو يصلح لمصدر قعد وزمانِه ومكانِه، والمرادُ به ههنا المصدرُ، أي: بقعودهم وإقامتها بالمدينة.
90
قوله: ﴿خِلاَفَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله: «مَقْعدهم»، لأنه في معنى تخلَّفوا، أي: تخلفوا خلاف رسول الله. الثاني: أنَّ «خلاف» مفعولٌ من أجله، والعامل فيه: إمَّا فرح، وإما مَقْعد، أي: فَرِحوا لأجل مخالفتهم رسول الله حيث مضى هو للجهاد وتَخَلَّفوا هم عنه، أو بقعودِهم لمخالفَتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج ومؤرِّج، ويؤيد ذلك قراءةُ منْ قرأ «خُلْف» بضم الخاءِ وسكون اللام، والثالث: أنْ ينتصب على الظرف، أي: بعد رسول الله. يُقال: «أقام زيد خلاف القوم»، أي: تخلف بعد ذهابهم، و «خلافَ» يكون ظرفاً قال:
٢٥١٩ - أَسِيْئي بنا أو أَحْسِني لا مَلومةٌ لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
٢٥٢٠ - عَقَبَ الربيعُ خِلافَهُمْ فكأنما بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهن حصيرا
وقال الآخر:
٢٥٢١ - فقلْ للذي يَبْقى خِلاَفَ الذي مضى تَهَيَّأْ لأخرى مِثلها وكأنْ قَدِ
وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة وعمرو بن ميمون «خَلْفَ» بفتح الخاء وسكون اللام.
91
قوله تعالى :﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً ﴾ : قليلاً وكثيراً فيهما وجهان أظهرهما : أنهما معطوفان على المصدرِ، أي : ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً فحذفَ الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوفِ وإقامةُ الصفةِ مُقامَه. والثاني : أنهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي : زماناً قليلاً وزماناً كثيراً، والأول أَوْلى ؛ أن الفعلَ يدل على المصدر بشيئين بلفظهِ ومعناه، بخلاف ظرف الزمان، فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه بل بهيئتهِ الخاصةِ بلفظه.
قوله :﴿ جَزَآءً ﴾، [ فيه وجهان، الأول : أنه ] مفعولٌ لأجله، أي : سبب الأمر بقلة الضحكِ وكثرةِ البكاء جزاؤُهم بعملهم. و " بما " متعلق بجزاء لتعديته به ويجوز أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفتُه. والثاني : أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي : يُجزون جزاء. وفي معنى قوله :﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ﴾ قوله :
٢٥٢٢ - مَسَرَّةَ أحقابٍ تَلَقَّيْتُ بعدَها مساءةَ يومٍ أَرْيُها شَبَهُ الصَّابِ
فكيف بأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ ساعةٍ وراءَ تَقَضِّيها مَساءةُ أَحْقابِ
قوله تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ﴾ :«رجع» يتعدى، كهذه الآية الكريمة، ومصدرُه الرَّجْع، كقوله: ﴿والسمآء ذَاتِ الرجع﴾ [الطارق: ١١]، ولا يتعدى نحو: ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥]، في قراءة مَنْ بناه للفاعل، والمصدر الرجوع كالدخول.
92
قوله: ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، قد تقدَّم ذلك. وقال أبو البقاء: «هي ظرفٌ»، قال الشيخ: «ويعني ظرفَ زمان وهو بعيد». / لأن الظاهرَ أنها منصوبةٌ على المصدر، وفي التفسير: أولَ خَرْجَةٍ خَرَجَها رسول الله، فالمعنى: أولَ مرة من الخروج. قال الزمخشري: «فإن قلت» مرة «نكرة وُضِعَتْ موضع المرات من التفضيل، فلِمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيلِ المضافُ إليها وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين:» هند أكبرُ النساء وهي أكبرُهن «، ثم إنَّ قولَك:» هي كبرى امرأة «، لا تكاد تعثر عليه، ولكن» هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة «.
قوله: ﴿مَعَ الخالفين﴾ هذا الظرفُ يجوز أن يكونَ متعلقاً ب»
اقعدوا «، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل» اقعدوا «. والخالِفُ: المتخلِّفُ بعد القوم. وقيل: الخالف: الفاسد.» مَنْ خَلَفَ «، أي: فَسَد، ومنه» خُلوف فم الصائم «، والمراد بهم النساءُ والصبيانُ والرجالُ العاجزون، فلذلك جاز جمعُه للتغليب. وقال قتادة:» الخالِفُون: النساء «، وهو مردودٌ لأجل الجمع. وقرأ عكرمة ومالكُ بن دينار» مع الخَلِفين «مقصوراً مِنَ الخالِفين كقوله:
٢٥٢٣ - مثل النَّقَا لَبَّده بَرْدُ الظِّلَلْ... وقوله:
٢٥٢٤ -...................
93
عَرِدا..................... بَرِدا
يريد: الظلال وعارِداً بارداً.
94
قوله تعالى: ﴿مِّنْهُم﴾ : صفةٌ ل «أحد»، وكذلك الجملة من قوله: «مات». ويجوز أن يكون «منهم» حالاً من الضمير في «مات»، أي: مات حال كونِه منهم، مُتَّصفاً بصفةِ النفاق كقولهم: «أنت مني»، يَعْني على طريقتي. و «أبداً» ظرف منصوب بالنهي.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ﴾ : قيل: هذه تأكيد للآية السابقة. وقال الفارسي: «ليست للتأكيد لأن تِيْكَ في قوم، وهذه في آخرين، وقد تغاير لفظاً الاثنتين فههنا» ولا «بالواو لمناسبة عطفِ نهيٍ على نهيٍ قبلَه في قوله:» ولا تُصَلِّ، ولا تَقُمْ، ولا تُعْجبك «، فناسب ذلك الواو، وهناك بالفاءِ لمناسبةِ تعقيبِ قولِه: ولا يُنْفِقون إلا وهم كارهون»، أي: للإِنفاقِ فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ فنهاه عن الإِعجاب بفاء التعقيبِ. وهنا «وأولادهم» دون «لا» لأنه نهيٌ عن الإِعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادةِ «لا» لأنه نهيٌ عن كل واحد واحد فَدَلَّ مجموعُ الاثنين على النهي بهما مجتمعَيْن ومنفردين. وهنا «أنْ يُعَذِّبهم» وهناك «ليُعَذِّبهم»، فأتى باللام مُشْعرةً بالغلبة، ومفعولُ الإِرادةِ محذوفٌ، أي: إنما يريد الله اختبارَهم بالأموال والأولاد، وأتى ب «أن» لأنَّ مَصَبَّ الإِرادة التعذيبُ، أي: إنما يريد الله تعذيبَهم. فقد اختلف متعلَّقُ الإِرادة في الآيتين. هذا هو الظاهر وإن كان يُحتمل أن تكونَ اللامُ زائدة، وأن تكونَ «أَنْ» على حذف لام علة. وهناك «في الحياة الدنيا» وهنا سقطت «الحياة»، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدنيا، وأنها لا تستحق
94
أن تُسَمَّى حياة، لا سيما وقد ذُكِرَت بعد ذِكر موتِ المنافقين فناسَبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة.
95
قوله تعالى: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ :«إذا» لا تقتضي تكراراً بوضعها، وإن كان بعضُ الناس فَهِمَ ذلك منها ههنا، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وأنشدْت عليه:
٢٥٢٥ - إذا وجدْتُ أوارَ الحُبِّ في كَبِدي .......................
وأنَّ هذا إنما يُفْهَمُ من القرائِن لا مِنْ وَضْع «إذا» له.
قوله: ﴿أَنْ آمِنُواْ﴾، فيه وجهان، أحدهما: أنها تفسيريةٌ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه. والثاني: أنها مصدريةٌ على حذف حرف الجر، أي: بأنْ آمنوا. وفي قوله: «اسْتَأْذَنَكَ» ؛ التفاتٌ من غَيْبة إلى خطاب، وذلك أنه قد تقدَّم لفظُ «رسوله» فلو جاء على الأصل لقيل: استأذنه.
قوله تعالى: ﴿مَعَ الخوالف﴾ : الخَوَالِفُ: جمع خالفة من صفة النساء، وهذه صفةُ ذَمّ كقول زهير:
٢٥٢٦ - وما أَدْري وسوف إخالُ أَدْري أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ
فإنْ تكنِ النساءُ مُخَبَّآتٍ فَحُقَّ لكل مُحْصَنَةٍ هِداءُ
وقال آخر:
95
وقال النحاس: «يجوز أن تكونَ» الخوالِف «من صفة الرجال، بمعنى أنها جمع خالفة. يقال:» رجل خالِفَة «، أي: لا خير فيه، فعلى هذا تكونُ جمعاً للذكور باعتبار لفظهِ». وقال بعضهم: إنه جمع خالف، يقال: رجلٌ خالفٌ، أي: لا خير فيه، / وهذا مردودٌ؛ فإن فواعل لا يكونُ جمعاً ل فاعل وَصْفاً لعاقل إلا ما شذَّ من نحو: فوارس ونواكس وهوالك.
96
والخَيْرات: جمع خَيْرة على فَعْلة بسكون العين وهو المستحسَنْ من كل شيء، وغَلَبَ استعمالُه في النساء، ومنه قوله تعالى: ﴿خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ وقول الشاعر:
٢٥٢٧ - كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ
قوله تعالى: ﴿المعذرون﴾ : قُرىء بوجوهٍ كثيرة، فمنها قراءة الجمهور: فَتْحُ العين وتشديدُ الذال. وهذه القراءة تحتمل وجهين: أن يكون وزنه فَعَّل مضعّفاً، ومعنى التضعيف فيه التكلف، والمعنى: أنه تَوَهَّم أن له عُذْراً، ولا عُذْرَ له. والثاني: أن يكون وزنه افتعل والأصل: اعتذرَ فأُدْغمت التاءُ في الذال بأنْ قُلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جبير «المعتذرون» على الأصل. وإليه ذهب الأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم والزجاج.
96
وقرأ زيدٌ بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال وهي قراءةُ ابنِ عباس أيضاً ويعقوب والكسائي «المُعْذِرون» بسكون العين وكسرِ الذال مخففةً مِنْ أَعْذَر يُعْذِر كأكرم يكرم.
وقرأ مسلمة «المُعَّذَّرون» بتشديد العين والذال مِنْ تعذَّر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم: «أراد المتعذرون، والتاء لا تدغم في العين لبُعْد المخارج، وهي غلطٌ منه أو عليه».
قوله: ﴿لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ متعلقٌ ب «جاء» وحُذِفَ الفاعلُ وأُقيم الجارُّ مُقَامه للعلمِ به، أي: ليأذن لهم الرسول. وقرأ الجمهور «كَذَبوا» بالتخفيف، أي: كذبوا في إيمانهم. وقرأ الحسن في المشهور عنه وأُبَيٌّ وإسماعيل «كذَّبوا» بالتشديد، أي: لم يُصَدِّقُوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره.
97
وقرأ أبو حيوة: «نصحوا اللَّهَ» بدون لام، وقد تقدم أن «نَصَح» يتعدَّى بنفسِه وباللام.
وقوله: ﴿مِن سَبِيلٍ﴾ فاعل بالجارِّ لاعتماده على النفي، ويجوز أن يكونَ مبتدأً والجارُّ قبلَه خبرُه، وعلى كلا القولين ف «مِنْ» مزيدةٌ فيه، أي: ما على المحسنين سبيل.
قال بعضُهم: وفي هذه الآيةِ نوعٌ من البديع يسمى التمليح وهو: أن يُشارَ إلى قصةٍ مشهورة أو مثلٍ سائرٍ أو شعر نادر في فحوى كلامك من غير ذِكْره، ومنه قوله:
97
٢٥٢٨ - ولقد طَعَنْتُ مَجامِع الرَّبَلاتِ رَبَلاتِ هندٍ خَيْرةٍ الملَكاتِ
٢٥٢٩ - اليومَ خمرٌ ويبدو بعده خَبَرٌ والدهرُ مِنْ بين إنعامٍ وإبْآسِ
يشير لقول امرىء القيس لَمَّا بلغه قَتْلُ أبيه: «اليومَ خمرٌ وغداً أمره»، وقول الآخر:
٢٥٣٠ - فواللَّهِ ما أدري أأحلامُ نائمٍ أَلَمَّت بنا أم كان في الركب يوشَعُ
يُشير إلى قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس. وقول الآخر:
٢٥٣١ - لعَمْروٌ مع الرَّمْضاءِ والنارُ تَلْتَظِي أرقُّ وأحفى منكَ في ساعة الكَرْبِ
أشار إلى البيت المشهور:
٢٥٣٢ - المستجيرُ بعمروٍ عند كُرْبته كالمستجير مِنَ الرَّمْضاءِ بالنار
وكأن هذا الكلامَ وهو «ما على المحسنين من سبيل» اشتهُر ما هو بمعناه بين الناس، فأشار إليه مِنْ غير ذكر لفظه. ولمَّا ذكر الشيخ التمليح لم يُقَيِّده بقوله «من غير ذكره» ولا بد منه، لأنه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً.
98
قوله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الذين﴾ : فيه أوجه، أحدها: أن يكون معطوفاً على «الضعفاء»، أي: ليس على الضعفاء ولا على الذين إذا
98
ما أَتَوْك، فيكونون داخلين في خبر ليس، مُخبراً بمتعلقهم عن اسمِها وهو «حَرَج». الثاني: أن يكون معطوفاً على «المحسنين» فيكونون داخلين فيما أَخْبر به عن قوله «من سبيل»، فإنَّ «مِنْ سبيل» يحتمل أن يكون مبتدأً، وأن يكون اسمَ «ما» الحجازية، و «مِنْ» مزيدةٌ في الوجهين. الثالث: أن يكون ﴿وَلاَ عَلَى الذين﴾ خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخرِ الصلةِ حرجٌ أو سبيل، وحُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه لأنه تقديرٌ مُسْتغنىً عنه، إذ قد قَدَّر شيئاً يقومُ مقامَه هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ يحتمل أن يكونَ مندرجاً في قوله ﴿وَلاَ عَلَى / الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾ وذُكِروا على سبيل نفي الحرج عنهم وأن لا يكونوا مندرجين، بأن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقون، إلا أنهم لم يجدوا مَرْكوباً.
وقرأ معقل بن هرون «لنَحْملهم» بنونِ العظمة. وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيبِ: قلت لا أجدُ ما يَحْملكم عليه الله.
قوله: «قلت» فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جوابُ «إذا» الشرطية، و «إذا»، وجوابُها في موضعِ الصلة، وقعت الصلةُ جملةً شرطيةً، وعلى هذا فيكون قوله «تَوَلَّوا» جواباً لسؤالٍ مقدرٍ، كأن قائلاً قال: «ما كان حالُهم إذا أُجيبوا بهذا الجواب؟ فأُجيب بقوله» تولُّوا «. الثاني: أنه في موضع نصب على الحال من كاف» أَتَوْك «، أي: إذا أَتَوْك وأنت قائلٌ: لا أجدُ ما أحملكم عليه، و» قد «مقدرة عند مَنْ يشترط ذلك في الماضي الواقع حالاً كقوله: ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: ٩٠] في أحد أوجهه، كما تقدم تحقيقه، وإلى
99
هذا نحا الزمخشري. الثالث: أن يكونَ معطوفاً على الشرط، فيكونَ في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النَّسَق، وحُذِفَ حرفُ العطفِ، والتقدير: وقلت: وقد تقدم لك كلامٌ في هذه المسألةِ وما استشهد الناس به عليها. وإلى هذا ذهب الجرجانيُّ، وتبعه ابن عطية، إلا أنه قدَّر العاطفَ فاءً، أي: فقلت. الرابع: أن يكونَ مستأنفاً. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: هل يجوزُ أن يكونَ قولُه «قلت لا أجدُ» استئنافاً مثله «يعني مثل ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ كأنه قيل: إذا ما أَتَوْك لتحملهم تَوَلَّوا، فقيل: ما لهم تَوَلَّوا باكين [فقيل] قلت: لا أجد ما أحملكم عليه، إلا أنه وسطٌ بين الشرطِ والجزاءِ كالاعتراض.
قلت: نعم ويَحْسُن «انتهى.
قال الشيخ:»
ولا يجوزُ ولا يَحْسُن في كلام العرب فكيف في كلام الله؟ وهو فَهْمُ أعجميٍّ «. قلت: وما أدري ما سَبَبُ منعه وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنى؟ وذلك لأن تولِّيَهم على حاله، فيصير الدمع ليس مترتباً على مجردِ مجيئهم له عليه السلام ليحملَهم، بل على قوله لهم ﴿لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ﴾، وإذا كان كذلك فقوله عليه السلام لهم ذلك سببٌ في بكائهم، فَحَسُن أن يُجْعَلَ قوله ﴿قُلْتَ: لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ﴾ جواباً لمَنْ سأل عن علِة تَوَلِّيهم وأعينُهم فائضةٌ دمعاً، وهو المعنى الذي قَصَدَه أبو القاسم. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثة التي قَدَّمتها في» قلت «يكون جوابه قوله» تولَّوا «، وقوله»
100
لتحملَهم «علةٌ ل» أَتَوْك «. وقوله» لا أجد «هي المتعديةُ لواحدٍ لأنها من الوُجْد. و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً.
قوله: ﴿وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل»
تَوَلَّوا «، قال الزمخشري:» تفيضُ من الدمع «كقولك: تفيض دمعاً، وقد تقدَّم هذا في المائدة مستوفىً عند قوله: ﴿ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ [التوبة: ٨٣] وأنه جعل» من الدمع «تمييزاً، و» مِنْ «مزيدةً، وتقدَّم الردُّ عليه في ذلك هناك فعليك بالالتفات إليه.
قوله: ﴿حَزَناً﴾ في نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله والعاملُ في»
تفيض «قاله الشيخ. لا يُقال إن الفاعلَ هنا قد اختلف، فإن الفَيْضَ مسند للأعين والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وَجَبَ جرُّه بالحرف لأنَّا نقول: إن الحزنَ يُسْنَدُ للأعين أيضاً مجازاً يقال: عين حزينةٌ وسخينة، وعين مسرورةٌ وقريرة في ضدِّ ذلك. ويجوز أن يكونَ الناصب له» تَوَلَّوا «وحينئذٍ يتحد فاعلا العلةِ والمعلول حقيقةً. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: تَوَلَّوا حزينين أو تفيض أعينُهم حزينةً على ما تقدَّم من المجاز. الثالث: أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ مِنْ لفظِه، أي: يحزنون حزناً قاله أبو البقاء. وهذه/ الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال: إمَّا من فاعل» تَوَلَّوا «وإمَّا من فاعل» تفيض «.
قوله: ﴿أَلاَّ يَجِدُواْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ من أجله، والعامل فيه»
حَزَناً «إنْ أعربناه مفعولاً له أو حالً، وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا،
101
لأن المصدر لا يعمل إذا كان مؤكداً لعامِله، وعلى القول بأنَّ» حَزَناً «مفعول من أجله يكون» أن لا يَجِدوا «علةً العلة، يعني أنه يكون عَلَّلَ فيْضَ الدمع بالحزن، وعَلَّل الحزن بعدم وُجْدان النفقة، وهذا واضحٌ، وقد تقدَّم لك نظيرُ ذلك في قوله ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله﴾ [المائدة: ٣٨]. والثاني: أنه متعلق ب» تفيض «. قال الشيخ:» قال أبو البقاء: «ويجوز أن يتعلَّق ب» تفيض «. ثم قال الشيخ:» ولا يجوز ذلك على إعرابه «حزناً» مفعولاً له، والعامل فيه «تفيض»، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل «.
102
قولُه تعالى: ﴿رَضُواْ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه مستأنفٌ كأنه قال قائل: ما بالُهم استأذنوا في القعود وهم قادرون على الجهاد؟ فَأُجيب بقوله «رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِفِ». وإليه مال الزمخشري. والثاني: أنه في محل نصبٍ على الحال و «قد» مقدرةٌ في قوله [ «رَضُوا» ].
وقوله: ﴿وَطُبَعَ﴾ نسقٌ على «رضُوا» تنبيهاً على أن السببَ في تخلُّفهم رضاهم بقعودهم وطَبْعُ الله على قلوبهم.
وقوله ﴿إِنَّمَا السبيل على﴾ فأتى ب «على» وإن كان قد يَصِل ب «إلى» لفَرْقٍ ذكروه: وهو أنَّ «على» تدل على الاستعلاء وقلة مَنَعَة مَنْ تدخل عليه نحو: لي سبيل عليك، ولا سبيلَ لي عليك، بخلافِ «إلى». فإذا قلت: «
102
لا سبيل عليك» فهو مغايرٌ لقولِك: لا سبيلَ إليك. ومن مجيء «إلى» معه، قوله:
٢٥٣٣ - ألا ليت شِعْري هل إلى أمِّ سالمٍ سبيلٌ فأمَّا الصبرُ عنها فلا صبرا
وقوله:
103
قوله تعالى: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ : فيها وجهان، أحدهما: أنها المتعديةُ إلى مفعولين أولهما «ن» والثاني: قوله «مِنْ أخباركم». وعلى هذا ففي «مِنْ» وجهان، أحدهما: أنها غيرُ زائدةٍ، والتقدير: قد نَبَّأنا اللَّهُ أخباراً مِنْ أخباركم، أو جملةً من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف. والثاني: أن «مِنْ» مزيدةٌ عند الأخفش لأنه لا يَشْترط فيها شيئاً. والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم.
الوجه الثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها متعديةٌ لثلاثة ك أعلم، فالأولُ والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوف اختصاراً للعلم به والتقدير: نَبَّأنا الله مِنْ أخباركم كَذِباً ونحوه. قال أبو البقاء: «قد تتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفان، تقديره: أخباراً مِنْ أخباركم مُثْبَتَة، و» مِنْ أخباركم «تنبيه على المحذوف وليست» مِنْ «زائدة، إذ لو كانت زائدة لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ لأن المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا
103
البابِ لَزِم ذِكْرُ الثالث. وقيل:» مِنْ «بمعنى عن». قلت: قوله: «إنَّ حذف الثالث خطأ» إنْ عنى حَذْفَ الاقتصارِ فمسَلَّم، وإن عنى حَذْفَ الاختصار فممنوعٌ، وقد مَرَّ بك في هذه المسألة مذاهبُ الناس.
104
قوله تعالى: ﴿جَزَاءً﴾ : يجوز أن ينتصبَ على المصدر بفعل مِنْ لفظه مقدرٍ، أي: يُجْزَوْنَ جزاء، وأن ينتصب بمضمونِ الجملة السابقة لأنَّ كونَهم يَأْوُوُن في جهنم في معنى المجازاة. ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.
قوله تعالى: ﴿الأعراب﴾ : صيغة جمعٍ وليس جمعاً لعرب قاله سيبويه؛ وذلك لئلا يلزمَ أن يكونَ الجمعُ أخصَّ من الواحد، فإن العرب هذا الجيل الخاص سواء سكن البوادي أم سكن القرى، وأما الأعرابُ فلا يُطْلق إلى على مَنْ يَسْكن البواديَ فقط. وقد تقدَّم لك في أوائل هذا الموضوع عند قوله تعالى: ﴿رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ١]، ولهذا الفرقِ نُسِب إلى الأعراب على لفظه فقيل: أعرابيّ. ويُجْمع/ على أعاريب.
وقوله: ﴿وَأَجْدَرُ﴾، أي: أحقُّ وأَوْلى، يقال: هو جديرٌ وأجدر وحقيق وأحقّ وقمين وأَوْلى وخليق بكذا، كلُّه بمعنى واحد. قال الليث: «جَدَر يَجْدُر جَدارةً فهو جديرٌ، ويؤنَّث ويثنَّى ويُجمع قال الشاعر:
٢٥٣٤ - هل من سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشربَها أم من سبيل إلى نَصْرِ بن حَجَّاجِ
٢٥٣٥ - بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ جديرون يوماً أن يَنَالوا وَيَسْتَعْلوا
وقد نبَّه الراغب على أصلِ اشتقاقِ هذه المادة وأنها من الجِدار أي
104
الحائط، فقال:» والجديرُ: المنتهى لانتهاء الأمر إليه انتهاءَ الشيء إلى الجدار «والذي يظهر أن اشتقاقَه مِنَ الجَدْر وهو أصل الشجرة فكأنه ثابت كثبوت الجَدرْ في قولك» جدير بكذا «.
قوله: ﴿أَلاَّ يَعْلَمُواْ﴾، أي: بأن لا يَعْلموا فحذف حرفَ الجر فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي مع سيبويه والفراء.
105
قوله تعالى: ﴿مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾ :«مَنْ» مبتدأ وهي: إمَّا موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ. ومَغْرَماً مفعول ثانٍ لأنَّ «اتخذ» هنا بمعنى صَيَّر. والمَغْرَمُ: الخُسْران، مشتق مِنَ الغَرام وهو الهلاك لأنه سيئةٌ، ومنه ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ [الفرقان: ٦٥]. وقيل: أصلُه الملازمةُ ومنه «الغَريمُ» للزومه مَنْ يطالبه.
قوله: ﴿وَيَتَرَبَّصُ﴾ عطفٌ على «يَتَّخِذ» فهو: إمَّا صلة وإمَّا صفة. والتربُّصُ: الانتظار. والدوائر: جمعُ دائرة، وهي ما يُحيط بالإِنسان مِنْ مصيبة ونكبة، تصوُّراً من الدائرة المحيطةِ بالشيء من غير انفلاتٍ منها. وأصلها داوِرَة لأنها مِنْ دار يدور، أي: أحاط. ومعنى «تربُّص الدوائر»، أي: انتظار المصائب قال:
٢٥٣٦ - تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنون لعلها تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
قوله: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ هذه الجملةُ معترضة بين جمل هذه القصة وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا «السُّوء»
105
وكذا الثانية في الفتح بالضم، والباقون بالفتح. وأما الأولى في الفتح وهي «ظنَّ السَّوْ» فاتفق على فتحها السبعة. فأما المفتوح، فقيل: هو مصدر. قال الفراء: «يقال: سُؤْتُه سُوْءاً ومَساءةً وسَوائِية ومَسَائِية، وبالضم الاسم» قال أبو البقاء: «وهو الضَّرر وهو مصدر في الحقيقة». قلت: يعني أنه في الأصل كالمفتوح في أنه مصدرٌ ثم أُطْلِق على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي: «مَنْ فتح السينَ فمعناه الفساد والرداءة، ومَنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضرر». وظاهر هذا أنهما اسمان لِما ذكر، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أُطْلِقا على ما ذكر. وقال غيرُه: الضموم: العذاب والضرر، والمفتوح: الذم، ألا ترى أنه أْجُمع على فتح ﴿ظَنَّ السوء﴾ [الفتح: ٦] وقوله: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾ [مريم: ٢٨] ولا يليق ذِكْرُ العذاب بهذين الموضعين.
وقال الزمخشري فأحسن: «المضموم: العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ لدائرة، كقولك:» رجلُ سَوْء «في نقيض» رجل عدل «، لأنَّ مَنْ دارَتْ عليه يَذُمُّها» يعني أنها من باب إضافة الموصووف إلى صفته فوُصِفَتْ في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أُضِيْفَتْ لصفتِها كقولِه تعالى: {مَا كَانَ
106
أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: ٢٨]. قال الشيخ: «وقد حُكي بالضم» وأنشد:
٢٥٣٧ - وكنت كذئبِ السُّوء لمَّا رأى دماً بصاحبه يوماً أحال على الدَّم
وفي الدائرة مذهبان أظهرهُما: أنها صفةٌ على فاعِلة كقائمة. وقال الفارسي: «إنها يجوز أن تكون مصدراً كالعافية».
وقوله: ﴿بِكُمُ الدوائر﴾ فيه وجهان، أظهرهُما: أن الباء متعلقة بالفعلِ قبلها. والثاني: أنها حالٌ من «الدوائر» قاله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ، وعلى هذا فيتعلَّقُ/ بمحذوف على ما تقرر غير مرة.
107
قوله تعالى: ﴿قُرُبَاتٍ﴾ : مفعولٌ ثان ليتخذ كما مرَّ في «مَغْرَما». ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضم الراء من «قُرُبات» مع اختلافهم في راء «قربة» كما سيأتي، فيحتمل أن تكون هذه جمعاً لقُرُبة بالضم كما هي قراءة ورش عن نافع، ويحتمل أن تكون جمعاً للساكنها، وإنما ضُمَّت اتباعاً ل «غرفات» وقد تقدم التنبيه على هذه القاعدة وشروطها عند قوله تعالى ﴿فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [الآية: ١٧] أولَ البقرة.
قوله: ﴿عِندَ الله﴾ في هذا الظرفِ ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلقٌ ب «يَتَّخذ». والثاني: أنه ظرف ل «قربات» قاله أبو البقاء، وليس بذاك. الثالث: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل «قربات».
قوله: ﴿وَصَلَوَاتِ الرسول﴾ فيه وجهان أظهرهما: أنه نسق على «قربات» وهو ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال: «والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصور القربات عند الله» وصلوات الرسول «لأنه كان يدعو للمتصدِّقين بالخير كقوله:» اللهم صل على آل أبي أوفى «والثاني: وجَوَّزَه ابن عطية
108
ولم يذكر أبو البقاء غيره أنها منسوقةٌ على» ما ينفق «، أي: ويتخذ بالأعمال الصالحة وصلوات الرسول قربة.
قوله: ﴿ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ﴾ الضمير في»
إنها «قيل: عائد على» صلوات «وقيل: على النفقات أي المفهومة من» يُنفقون «.
وقرأ ورش»
قُرُبَة «بضم الراء، والباقون بسكونها فقيل: لغتان. وقيل: الأصل السكون والضمة إتباع، وهذا قد تقدم لك فيه خلاف بين أهل التصريف: هل يجوز تثقيل فُعْل إلى فُعُل؟ وأن بعضَهم جعل عُسُراً يُسُراً بضم السين فَرْعين على سكونها. وقيل: الأصل قُرُبة بالضم، والسكون تخفيف، وهذا أَجْرى على لغة العرب إذ مبناها الهرب مِنَ الثِّقَل إلى الخفة.
وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرِها بحرفَيْ التنبيه والتحقيق المُؤْذنين بثبات الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه، قال معناه الزمخشري قال:»
وكذلك سيُدْخلهم، وما في السين من تحقيق الوعد «.
109
قوله تعالى: ﴿والسابقون﴾ : فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أوجه، أحدُهما وهو الظاهر أنه الجملة الدعائية من قوله: «رضي الله عنهم». والثاني: أن الخبر قوله: «الأوَّلون» والمعنى: والسابقون أي بالهجرة [هم] الأوَّلون مِنْ أهل هذه المِلَّة، أو السابقون إلى
109
الجنة الأولون من أهل الهجرة. الثالث: أن الخبرَ قولُه: ﴿مِنَ المهاجرين والأنصار﴾ والمعنى فيه الإِعلام بأن السَّابقين من هذه/ الأمة من المهاجرين والأنصار، ذكر ذلك أبو البقاء، وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ.
الثاني من وجهي «السابقين» : أن يكون نَسَقاً على ﴿مَن يُؤْمِنُ بالله﴾ أي: ومنهم السابقون. وفيه بُعْدٌ.
والجمهورُ على جَرِّ «الأنصار» نسقاً على المهاجرين. يعني أن السابقين من هذين الجنسين. وقرأ جماعة كثيرة أَجِلاَّء: عمر بن الخطاب وقتادة والحسن وسلام وسعيد بن أبي سعيد وعيسى الكوفي وطلحة ويعقوب: «والأنصارُ» برفعها. وفيه وجهان أحدهما: أنه مبتدأ، وخبرُه «رضيَ الله عنهم». والثاني: عطف على «السابقون». وقد تقدم ما فيه فيُحكم عليه بحكمه.
قوله: ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل «اتَّبعوهم». وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى أن الواوَ ساقطةٌ من قوله: «والذين اتبعوهم» ويقول: إن الموصول صفةٌ لمن قبله، حتى قال له زيد بن ثابت إنها بالواو فقال: ائتوني بأُبَيّ. فأتَوه به فقال له: تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ﴾ [الآية: ٣]، وأوسط الحشر: {والذين
110
جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الآية: ١٠]، وآخر الأنفال: ﴿والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ﴾ [الآية: ٧٥]. ورُوِي أنه سمع رجلاً يقرؤها بالواو فقال: مَنْ أقرأك؟ قال: أُبَيّ. فدعاه فقال: أَقْرَأنيه رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنك لتبيع القَرَظ بالبقيع. قال: صَدَقْتَ وإن شئت قل: شهدنا وغِبْتم، ونَصَرْنا وخَذَلْتم، وآوَيْنا وطَرَدْتم. ومن ثَمَّ قال عمر: لقد كنتُ أرانا رُفِعْنا رَفْعةً لا يَبْلُغها أحدٌ بعدنا.
وقرأ ابن كثير: ﴿تجري من تحتها﴾ ب «مِنْ» الجارة، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكة. والباقون «تحتها» بدونها، ولم تُرْسَمْ في مصاحفهم، وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءة ابن كثير هنا: ﴿تجري مِنْ تحتها﴾ في غير موضع.
111
قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ : خبر مقدم. و «منافقون» مبتدأ، و «مَنْ» يجوز أن تكون الموصولةَ والموصوفة، والظرف صلة أو صفة.
وقوله: ﴿مِّنَ الأعراب﴾ لبيان الجنس. وقوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾ يجوز أن يكونَ نسقاً على «مَنْ» المجرورة ب «مِنْ» فيكونَ المجروران مشتركَيْن في الإِخبارِ عن المبتدأ وهو «منافقون»، كأنه قيل: المنافقون من قومٍ حولَكم ومِنْ أهل المدينة، وعلى هذا هو من عطف المفردات إذ عَطَفَتْ خبراً على خبر، وعلى هذا فيكون قوله «مَرَدُوا» مستأنفاً لا محلَّ له. ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله «منافقون»، ويكون قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾ خبراً مقدماً، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مَقامه/ وحَذْفُ الموصوفِ وإقامةُ صفتِه
111
مُقامَه وهي جملة مطردُ مع «مِنْ» التبعيضية وقد مَرَّ تحريره نحو «منا ظَعَن ومنا أقام» والتقدير: ومن أهلِ المدينة قومٌ أو ناسٌ مردوا، وعلى هذا فهو من عطفِ الجمل. ويجوز أن يكون «مَرَدُوا» على الوجه الأول صفةً ل «مافقون»، وقد فُصِل بينه وبين صفته بقوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾. والتقدير: وممَّن حولَكم ومِنْ أهلِ المدينة منافقون ماردون. قال ذلك الزجاج، وتبعه الزمخشري وأبو البقاء أيضاً. واستبعده الشيخ للفصلِ بالمعطوف بين الصفة وموصوفها، قال: «فيصير نظيرَ:» في الدار زيدٌ وفي القصرِ العاقلُ «يعني فَفَصَلْتَ بين زيد والعاقل بقولك:» وفي القصر «. وشبَّه الزمخشري حَذْفَ المبتدأ الموصوف في الوجه الثاني وإقامة صفته مُقامَه بقولِه:
٢٥٣٨ - أنا ابنُ جلا.............. .............................
قال الشيخ:»
إن عنى في مطلق حذف الموصوف فَحَسَنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأن حَذْفِ الموصوف مع «مِنْ» مطردٌ، وقوله: «أنا ابن جلا» ضرورة كقوله:
٢٥٣٩ - يَرْمِي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمَى البشَرْ...
112
قلت: البيتُ المشار إليه هو قوله:
٢٥٤٠ - أنا ابن جَلا وطَلاَّعُ الثَّنايا متى أَضَعِ العِمامةَ تعرفونِي
وللنحاةِ في هذا البيت تأويلات، أحدها: ما تقدم. والآخر: أن هذه الجملة محكية لأنها قد سُمِّي بها هذا الرجل، فإنَّ «جلا» فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّيَ بها وحُكِيَتْ كما قالوا: «شاب قَرْناها» و «ذرى حَبَّا» وقوله:
٢٥٤١ - نُبِّئْتُ أخوالي بني يزيدُ ظُلْماً علينا لهمُ فَدِيدُ
والثالث: وهو مذهب عيسى بن عمر أنه فعلٌ فارغ من الضمير، وإنما لم يُنَوَّنْ لأنه عنده غيرُ منصرفٍ فإنه يُمْنع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي بضرب وقتل مَنَعَهما. أمَّا مجردُ الوزنِ من غير نقلٍ مِنْ فعل فلا يُمنع به البتةَ نحو جَمَل وجَبَل.
و «مَرَدوا» أي: مَهَروا وتمرَّنوا. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في النساء عند قوله: ﴿شَيْطَاناً مَّرِيداً﴾ [الآية: ١١٧].
قوله: ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفة ل «منافقون» ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكونَ على بابه فيتعدَّى لاثنين أي: لا نعلمهم منافقين، فحذف الثاني للدلالة عليه بتقدُّم ذِكْرِ المنافقين، ولأن النافقَ من صفات القلب لا يُطَّلع عليه. وأن تكون العِرْفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبو البقاء. وأمَّا «نحن نعلمهم» فلا يجوز أن تكون إلا على
113
بابها لبحثٍ ذكرتُه لك في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في «إيضاحه» صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذورٌ لِما عرفته.
وقوله: ﴿مَّرَّتَيْنِ﴾ قد تقدَّم الكلام في نصب «مرة» وأنه من وجهين: إمَّا المصدريةِ وإمَّا الظرفيةِ فكذلك هذا. وهذه التثنية يحتمل أن يكون المرادُ بها شَفْعَ الواحد وعليه الأكثر، واختلفوا في تفسيرهما، وأن لا يراد بها التثنية الحقيقية بل يُراد بها التكثيرُ كقوله تعالى: ﴿فارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [الملك: ٤] أي: كَرَّاتٍ، بدليل قوله: «ينقلبْ إليك البصرْ خاسئاً وهو حسير» أي مزدجراً وهو كليلٌ، ولا يصيبُه ذلك «إلا بعد كَرَّات، ومثلُه. لَبَّيْك وسَعْدَيْك وحنانَيْكَ.
وروى عباس عن أبي عمرو:»
سنعذِّبْهم «بسكون الباء وهو على عادته في تخفيفِ توالي الحركات كينصركم وبابه/ وإن كان باب» ينصركم «أحسنَ تسكيناً لكونِ الراءِ حرفَ تكرار، فكأنه توالي ضمَّتان بخلاف غيره. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقال الشيخ:» وفي مصحفِ أنس: «سيعذبهم» بالياء «. وقد تقدم أن المصاحف كانت مهملةً من النَّقْط والضبط بالشكل فكيف يُقال هذا؟
114
قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ﴾ : نسقٌ على «منافقون» أي:
114
وممن حولكم آخرون، أو ومن أهلِ المدينة آخرون. ويجوز أن يكون مبتدأ و «اعترفوا» صفتَه، والخبر قولُه «خلطوا».
قوله: ﴿وَآخَرَ﴾ نسقٌ على «عملاً». قال الزمخشري: «فإن قلت: قد جُعِل كلُّ واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت: كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به، لأن المعنى: خلط كل واحدٍ منهما بالآخر كقولك:» خَلَطْتُ الماء واللبن «تريد: خَلَطْتُ كلَّ واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك:» خَلَطْتُ الماءَ باللبن «لأنك جَعَلْتُ الماءَ مخلوطاً واللبن مخلوطاً به. وإذا قلته بالواو جَعَلْتَ الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خَلَطْتُ الماء باللبن واللبن بالماء». ثم قال: «ويجوز أن يكونَ مِنْ قولهم:» بِعْتُ الشاء: شاةً ودرهماً «بمعنى: شاة بدرهم» قلت: لا يريد أن الواو بمعنى الباء، وإنما هذا تفسيرُ معنى. وقال أبو البقاء: «ولو كان بالباء جاز أن تقول: خلطْتُ الحِنْطة والشعير، وخلطت الحنطةَ بالشعير».
قوله: ﴿عسى الله﴾ يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً، ويجوز أن تكونَ في محل رفع خبراً ل «آخرون»، ويكون قولُه: «خلطوا» في محلِّ نصبٍ على الحال، و «قد» معه مقدرةٌ أي: قد خلطوا. فتلخَّص في «آخرون» أنه معطوفٌ على «منافقون»، أو مبتدأٌ مخبر عنه ب «خلطوا» أو الجملةِ الرجائية.
115
قوله تعالى: ﴿مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «خُذْ» و «مِنْ» تبعيضية. والثاني: أن تتعلق بمحذوف لأنها حالٌ مِنْ «صدقة» إذ هي في الأصل صفةٌ لها فلمَّا قُدِّمت نُصِبَتْ حالاً.
قوله: ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ يجوز أن تكونَ التاء في «تُطَهِّرهم» خطاباً
115
للنبي عليه السلام، وأن تكون للغَيْبة، والفاعل ضمير الصدقة. فعلى الأولِ تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «خذ». ويجوز أيضاً أن تكونَ صفةً ل «صدقةً»، ولا بد حينئذ من حذف عائد تقديره تطهِّرهم بها. وحُذِف «بها» لدلالة ما بعده عليه. وعلى الثاني تكون الجملة صفةً لصدقة ليس إلا. وأما «وتُزَكّيهم» فالتاءُ فيه للخطاب لا غير لقوله «بها» فإن الضميرَ يعود على الصدقة فاستحالَ أن يعودَ الضمير مِنْ «تزكِّيهم» إلى الصدقة، وعلى هذا فتكون الجملةُ حالاً مِنْ فاعل «خُذْ» على قولنا إنَّ «تُطَهِّرهم» حال منها وإن التاء فيه للخطاب. ويجوز أيضاً أن تكون صفة إن قلنا إن «تطهِّرهم» صفةٌ، والعائدُ منها محذوفٌ.
وجَوَّز مكي أن يكون «تُطَهِّرهم» صفةً لصدقة على أن التاء للغيبة، و «تُزَكِّيهم» حالاً من فاعل «خُذْ» على أن التاء للخطاب. وقد رَدُّوه عليه بأن الواوَ عاطفةٌ أي: صدقةً مطهِّرةً ومُزَكَّيَاً باه، ولو كان بغير واوٍ جاز. قلت: ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ فإن الواوَ مُشَرِّكَةٌ لفظاً ومعنى، فلو كانت «وتزكيهم» عطفاً على «تُطَهِّرهم» لَلَزِمَ أن تكونَ صفةً كالمعطوف عليه، إذ لا يجوز اختلافُهما، ولكن يجوزُ ذلك على أن «تزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، وتكون الواوُ للحال تقديره: وأنت تزكِّيهم. وفيه ضعفٌ لقلةِ نظيرِه في كلامهم.
فتلخَّص من ذلك أن الجملتين يجوز أن تكونا حالَيْن من فاعل «خُذْ» على أن تكونَ التاءُ للخطاب، وأن تكونا صفتين لصدقة، على أن التاء للغيبة، والعائد محذوفٌ من الأولى، وأن تكون «تطهِّرهم» حالاً أو صفةً، و «تزكِّيهم» حالاً على ما جَوَّزه مكي، وأن تكونَ «تزكِّيهم» خبرَ مبتدأ محذوف، والواوُ للحال.
116
وقرأ الحسن: «تُطْهِرهم» مخفَّفاً مِنْ «أطهر» عَدَّاه بالهمزة.
قوله: ﴿إِنَّ صلاوتك﴾ قرأ الأخوان وحفص: «إنَّ صلاتَكَ»، وفي هود: «أصلاتك تأمُرك» بالتوحيد، والباقون: «إنَّ صلواتك» «أصلواتُك» بالجمع فيهما وهما واضحتان، إلا أنَّ الصلاةَ هنا الدعاء وفي تِيْكَ العبادة.
والسَّكَنُ: الطمأنينة قال:
٢٥٤٢ - يا جارةَ الحيِّ ألاَّ كنتِ لي سَكَناً إذ ليس بعضٌ من الجيران أَسْكَنني
ففَعَل بمعنى مفعول كالقَبْض بمعنى المقبوض والمعنى: يَسْكنون إليها. قال أبو البقاء: «ولذلك لم يؤنِّثْه» لكن الظاهر أنه هنا بمعنى فاعل/ لقولِه «لهم»، ولو كان كما قال لكان التركيب «سكنٌ إليها» أي مَسْكون إليها، فقد ظهر أن المعنى: مُسَكِّنة لهم.
117
قوله تعالى: ﴿هُوَ يَقْبَلُ﴾ :«هو» مبتدأ، و «يَقْبَلُ» خبره والجملةُ خبر أنَّ، وأنَّ وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول. ولا يجوز أن يكونَ «هو» فصلاً لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة، وقد تحرَّر مِنْ ذلك فيما تقدم.
وقرأ الحسن قال الشيخ: وفي مصحف أُبي «ألم تعلموا» بالخطاب. وفيه احتمالات، أحدها: أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا: ما هذه الخاصية التي اختصَّ بها هؤلاء؟ و [الثاني] : أن يكون التفاتاً من غير
117
إضمارِ قولٍ، والمرادُ التائبون. و [الثالث] : أن يكون على إضمارِ قولٍ أي: قل لهم يا محمد ألم تعلموا.
قوله: ﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾ متعلقٌ ب «يَقْبَل»، وإنما تعدَّى ب «عن» فقيل: لأنَّ معنى «مِنْ» ومعنى «عن» متقاربان. قال ابن عطية: «وكثيراً ما يُتَوَصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه نحو» لا صدقةَ إلا عن غني ومِنْ غني «، و» فعل ذلك فلانٌ مِنْ أَشَره وبَطَره، وعن أَشَره وبَطَره «. وقيل: لفظه» عن «تُشعر ببُعْدٍ ما، تقول:» جلس عن يمين الأمير «أي مع نوعٍ من البعد. والظاهرُ أنَّ» عن «هنا للمجاوزة على بابها، والمعنى: يتجاوز عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت:» أخذت العلم عن زيد «، فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت: منه فمعناه ابتداء الغاية.
قوله: ﴿هُوَ التواب﴾ يجوز أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلافِ ما قبلَه.
118
قوله تعالى: ﴿مُرْجَوْنَ﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «مُرْجَؤُون» بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. والباقون «مُرْجَوْن» دون تلك الهمزة، وهذا كقراءتهم في الأحزاب: «تُرْجِىء» بالهمزة، والباقون بدونه. وهما لغتان يقال: أَرْجَأْتُه وأَرْجَيْتُه كأَعْطيته. ويحتمل أن يكونا أصلين بنفسِهما، وأن تكونَ الياءُ بدلاً من الهمزة، ولأنه قد عُهِد تحقيقُها كثيراً كقَرَأْت وقَرَيْتُ، وتوضَّأْت وتوضَّيْت.
118
قوله: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾ يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل رفع خبراً، و «مُرْجَوْن» يكون على هذا نعتاً للمبتدأ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكونَ في محل نصبٍ على الحال أي: هم مُؤَخَّرون: إمَّا معذَّبين وإمَّا متوباً عليهم. و «إمَّا» هنا للشك بالنسبة إلى المخاطب، وإمَّا للإِبهام بالنسبة إلى أنه أَبْهَمَ على المخاطبين.
119
قوله تعالى: ﴿والذين اتخذوا﴾ : قرأ نافع وابن عامر: «الذين اتخذوا» بغير واو، والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفِهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشام حُذفت منها الواوُ وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. و «الذين» على قراءة مَنْ أسقط الواوَ قبلها فيها أوجه، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ «آخرون» قبلها. وفيه نظر لأن هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً، لا يُقال في حَقِّهم إنهم مُرْجَوْن لأمر الله، لأنه يُروى في التفسير أنهم من كبار المنافقين كأبي عامر الراهب.
الثاني: أنه مبتدأ وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ أحدها: أنه «أفَمَنْ أَسَّسَ بنيانَه» والعائد محذوفٌ تقديره: بنيانَه منهم. الثاني: أنه «لا يزال بنيانُهم» قاله النحاس والحوفي، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل. الثالث: أنه «لا تقمْ فيه» قاله الكسائي. قال ابن عطية: «ويتجه بإضمارٍ: إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها بتقدير: لا تقم في مسجدهم». الرابع: أن الخبرَ محذوفٌ تقديرُه: معذَّبون ونحوه، قاله المهدوي.
الوجه الثالث أنه منصوبٌ على الاختصاص. وسيأتي هذا الوجهُ أيضاً في قراءة الواو.
119
وأمَّا قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلا أنه يمتنع وجهُ البدل مِنْ «آخرون» لأجل العاطف. وقال الزمخشري: «فإن قلت:» والذين اتخذوا «ما محلُّه من الإِعراب؟ قلت: محلُّه النصب على الاختصاص، كقوله تعالى: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ [النساء: ١٦٢]. وقيل: هو مبتدأ وخبرُه محذوفٌ معناه: فيمَنْ وَصَفْنا الذين اتخذوا، كقوله: ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨]، قلت: يريد على مذهب سيبويه فإن تقديره: فيما يُتْلى عليكم السارق، فحذف الخبرَ وأبقى المبتدأ كهذه الآية.
قوله: ﴿ضِرَاراً﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: / أنه مفعولٌ من أجله أي: مُضَارَّةً لإِخوانهم. الثاني: أنه مفعولٌ ثان ل»
اتَّخذ «قاله أبو البقاء. الثالث: أنه مصدر في موضع الحال من فاعل» اتخذوا «أي: اتخذوه مضارِّين لإِخوانهم، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرية أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضِراراً، ومتعلَّقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ أي: ضِراراً لإِخوانهم وكفراً بالله.
قوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾ فيه وجهان، أحدهما وهو الذي لم يذكر الزمخشري غيره أنه متعلقٌ بقوله:»
اتخذوا «أي: اتخذوا مسجداً مِنْ قبل أن ينافقَ هؤلاء. والثاني: أنه متعلقٌ ب» حارب «أي: حارب مِنْ قبل اتِّخاذ هذا المسجد.
قوله: ﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ لَيَحْلِفُنَّ: جوابُ قسم مقدر أي: والله
120
ليحلِفُنَّ. وقوله:» إن أَرَدْنا «جوابٌ لقولِه:» ليحلِفُنَّ «فوقع جوابُ القسم المقدر فعلَ قسم مجابٍ بقوله:» إنْ أَرَدْنا «.» إنْ «نافية ولذلك وقع بعدها» إلا «. و» الحسنى «صفةً لموصوفٍ محذوفٍ أي: إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإِرادةَ الحسنى. وقال الزمخشري:» ما أَرَدْنا ببناء هذا المسجد إلا الخَصْلة الحسنى، أو إلا لإِردة الحسنى وهي الصلاة «. قال الشيخ:» كأنه في قوله: «إلا الخصلة الحُسْنى» جعله مفعولاً، وفي قوله: «أو لإِرادة الحسنى» جعله علةً فكأنه ضَمَّن «أراد» معنى قَصَد أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإِرادة الحسنى «قال:» وهذا وجهٌ متكلف «.
121
قوله تعالى: ﴿لَّمَسْجِدٌ﴾ : فيه وجهان أحدهما: أنها لام الابتداء. والثاني: أنها جوابُ قسمٍ محذوف، وعلى التقديرين فيكون «لَمَسْجِدٌ» مبتدأ، و «أُسِّس» في محل رفع نعتاً له، و «أحقُّ» خبره، والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف أي: أُسس بنيانه.
«مِنْ أولِ» متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أن «مِنْ» تكون لابتداء الغاية في الزمان، واستدلوا أيضاً بقوله:
121
وقوله:
٢٥٤٣ - مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمسُ لا ترى من القوم إلا خارجيّاً مُسَوَّما
٢٥٤٤ - تُخُيِّرْن مِنْ أزمانِ يومِ حَليمةٍ إلى اليوم قد جُرِّبْن كلَّ التجاربِ
وتأوَّله البصريون على حذف مضاف أي: من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصبح، ومن مجيء أزمان يوم. وقال أبو البقاء: «وهذا ضعيفٌ، لأن التأسيس المقدر ليس بمكانٍ حتى تكون» مِنْ «لابتداء غايته. ويدلُّ على جواز ذلك قوله: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤]، وهو كثير في القرآن وغيره»، قلت: البصريون إنما فَرُّوا مِنْ كونِها لابتداء الغاية في الزمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية في المكان حتى يُرَدَّ عليهم بما ذُكِر، والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ، ولأبي علي فيها كلام طويل. وقال ابن عطية: «ويَحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون» مِنْ «تجرُّ لفظة» أول «لأنها بمعنى البداءة كأنه قال: مِنْ مبتدأ الأيام، وقد حُكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو».
وقوله: ﴿أَحَقُّ﴾ ليس للتفضيل بل بمعنى حقيق، إذ لا مفاضلةَ بين المسجدَيْن، و «أن تقوم» أي: بأن تقوم، والتاء لخطاب الرسول عليه السلام، و «فيه» متعلقٌ به.
قوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ﴾ يجوز أن يكونَ «فيه» صفةً لمسجد، و «رجال» فاعل، وأن يكونَ حالاً من الهاء في «فيه»، و «رجالٌ» فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إن الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد. ويجوز أن يكون «
122
فيه» خبراً مقدماً، و «رجال» مبتدأ مؤخر. وفيه هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه، أحدها: الوصفُ، والثاني: الحالُ على ما تقدم، والثالث: الاستئنافُ.
وقرأ عبد الله بن زيد «فيهِ» بكسر الهاء، و «فيهُ» الثانية بضمها وهو الأصل، جَمَعَ بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفعُ توهُّمِ التوكيد، ورفعُ توهُّمِ أن «رجالاً» مرفوع ب «تقوم».
وقوله: ﴿يُحِبُّونَ﴾ صفة ل «رجال» وأن [يتطهروا] مفعول به. وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش «يَطَّهَّرُوا» بالإِدغام، وعلي بن أبي طالب «المتطهِّرين» بالإِظهار، عكس قراءات الجمهور في اللفظتين.
123
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ : قرأ نافع وابن عامر: «أُسِّس» مبنياً للمفعول، «بنيانُه» / بالرفع لقيامه مقام الفاعل. والباقون «أَسَّس» مبنياً للفاعل «بنيانه» مفعول به، والفاعل ضمير مَنْ. وقرأه عمارة ابن عائذ الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و «بنيانُه» مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لِما تقدم. وقرأ نصر بن علي ونصر بن عاصم «أُسُسُ بنيانِه». وقرأ أبو حيوة والنصران أيضاً «أَساسُ بنيانِه» جمع أُسّ، وروي عن نصر بن عاصم أيضاً «أَسُّ» بهمزة مفتوحة وسين مشددة مضمومة. وقرىء «إساس» بالكسر وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء «أساس» بفتح
123
الهمزة، و «أُسّ» بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان. ونقل صاحب كتاب «اللوامح» فيه «أَسَسُ» بالتخفيف ورفع السين، «بنيانِه» بالجر، فَأَسَسٌ مصدر أسَّ يؤسُّه أَسَسَاً وأسَّاً فهذه عشر قراءات.
والأُسُّ والأَساس القاعدة التي بُني عليها الشيء، ويقال: «كان ذلك على أُسِّ الدهر» كقولهم: «على وجه الدهر»، ويقال: أَسَّ مضعَّفاً أي: جَعَلَ له أساساً، وآسَسَ بزنة فاعَل.
والبُنْيان فيه قولان، أحدهما: أنه مصدر كالغفران والشكران، وأُطْلِق على المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق. والثاني: أنه جمعٌ وواحدُه بُنْيانة قال الشاعر:
٢٥٤٥ - كبُنْيانةِ القاريِّ مَوْضِعُ رَحْلِها وآثارُ نَسْعَيْها مِنَ الدَّقِّ أَبْلَقُ
يعنون أنه اسم جنس كقمح وقمحة.
قوله: ﴿على تقوى﴾ يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بنفس «أَسَّس» فهو مفعوله في المعنى. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالُ من الضميرِ المستكنِّ في «أَسَّسَ» أي: قاصداً ببنيانه التقوى، كذا قدَّره أبو البقاء.
124
وقرأ عيسى بن عمر «تقوىً» منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه، ولم يَرْتَضِها الناسُ لأنَّ ألفَها للتأنيث فلا وَجْهَ لتنوينها، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكونَ ألفُها للإِلحاق، قال ابن جني: «قياسُها أن تكونَ ألفُها للإلحاق كأَرْطى».
قوله: ﴿خَيْرٌ﴾ خبرُ المبتدأ. والتفضيل هنا باعتبار معتقدِهم. و «أم» متصلة، و «من» الثانية عطف على «مِنْ» الأولى، و «أَسَّس بنيانه» كالأول.
قوله: ﴿على شَفَا جُرُفٍ﴾ كقوله: «على تقوى» في وجهيه. والشَّفا تقدم في آل عمران. وقرأ حمزة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «جُرْفٍ» بسكون الراء والباقون بضمها، فقيل: لغتان. وقيل: الساكن فرعٌ على المضموم نحو: عُنْق في عُنُق وطُنْب في طُنُب. وقيل بالعكس كعُسُر ويُسُر. والجُرُف: البِئْر التي لم تُطْوَ.
وقيل: هو الهُوَّةُ وما يَجْرُفُه السًّيْلُ من الأودية قاله أبو عبيدة. وقيل: هو المكان الذي يأكله الماء فيَجْرُفه أي يَذْهب به. ورَجُلّ جِرَاف أي: كثير النكاح كأنه يَجْرُفُ في ذلك العَمَلِ. قاله الراغب.
قوله: ﴿هَارٍ﴾ نعت لجُرُفٍ. وفيه ثلاثة أقوال، أحدها: وهو المشهور أنه مقلوبٌ بتقديمِ لامه على عينه، وذلك أنَّ أصلَه: هاوِرٌ أو هايِرٌ بالواو والياء
125
لأنه سُمع فيه الحرفان. قالوا: هار يَهُور فانْهارَ، وهار يَهير. وتَهَوَّر البناء وتَهَيَّر، فقُدِّمت اللام وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء فصار كغازٍ ورامٍ، فأُعِلَّ بالنقص كإعلالهما فوزنه بعد القلب فالِع، ثم تَزِنُه بعد الحذف ب فالٍ.
الثاني: أنه حُذِفَتْ عينُه اعتباطاً أي لغير موجَبٍ، وعلى هذا فيجري بوجوه الإِعراب على لامه، فيُقال: هذا هارٌ ورأيت هاراً ومررت بهارٍ، ووزنُه أيضاً فال.
والثالث: أنه لا قلبَ فيه ولا حذف وأنَّ أصله هَوِر أو هَيِر بزنة كَتِف، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقُلِب ألفاً فصار مثل قولهم: كبشٌ صافٌ، أي: صَوِف أو يومٌ راحٌ، أي: رَوِح. وعلى هذا فتحرَّك بوجوه الإِعراب أيضاً كالذي قبله كما تقول: هذا باب ورأيت باباً ومررت ببابٍ. وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من ادِّعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل، لولا أنه غير مشهور عند أهل التصريف. ومعنى «هار»، أي: ساقط متداعٍ مُنْهار.
قوله: ﴿فانهار﴾ فاعلُه: إمَّا ضميرُ البنيان والهاء في به على هذا ضمير المؤسس الباني، أي: فسقط بنيان الباني على شفا جُرُفٍ هار وإما ضمير الجُرُف، أي فسقط الشَّفا أو سَقَطَ الجُرُف. والهاء في «به» للبنيان. ويجوز أن / يكون للباني المؤسس، والأَوْلى أن يكون الفاعلُ ضميرَ الجرف، لأنه يلزم مِنْ انهيارِه الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزم من انهيارِهما أو انهيارِ أحدهما انهيارُه. والباء في «به» يجوز أن تكونَ المعدِّيةَ، وأن تكونَ التي للمصاحبة. وقد تقدَّم لك خلافٌ أولَ هذا الموضوع: أن المعدِّيَةَ عند بعضهم تَسْتلزم المصاحبةَ. وإذا قيل إنها للمصاحبة هنا فتتعلقُ بمحذوفٍ لأنها حال، أي: فانهار مصاحباً له.
126
وقوله تعالى: ﴿بُنْيَانُهُمُ﴾ : يحتمل أن يكونَ مصدراً على حاله، أي: لا يزال هذا الفعل الصادر منهم. ويحتمل أن يكونَ مراداً به
126
المبني، وحينئذٍ يُضْطَرُّ إلى حذف مضاف، أي: بناء بنيانهم لأن المبنيَّ ليس ريبةً، ويُقَدَّر الحذف من الثاني، أي: لا يزال مبنيُّهم سببَ ريبة. وقوله: «الذي بَنَوا» تأكيدٌ دَفْعاً لوَهْم مَنْ يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة وإنما دَبَّروا أموراً، مِنْ قولهم: «كم أبني وتهدمُ»، وعليه قوله:
٢٥٤٦ - متى يبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه إذا كنت تَبْنِيه وغيرك يَهْدِم
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ﴾ المستثنى منه محذوفٌ والتقدير: لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل وقت إلا وقتَ تقطيعِ قلوبهم، أو في كل حال إلا حالَ تقطيعها. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص «تَقَطَّع» بفتح التاء، والأصل: تتقطع بتاءَيْن فحُذفت إحداهما. وقرأ الباقون «تُقَطَّع» بضمِّها، وهو مبني للمفعول مضارع قَطَّع بالتشديد. وقرأ أُبَيّ «تَقْطَع» مخففاً مِنْ قطع. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب «إلى أن» بإلى الجارة وأبو حَيْوة كذلك. وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلا أن أبا حيوة قرأ «تُقَطِّع» بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً، والفاعلُ ضميرُ الرسول. «قلوبَهم» نصباً على المفعول، والمعنى بذلك أن يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير الرِّيبة، أي: إلى أن تَقْطَع الرِّيبةُ قلوبَهم. وفي مصحف عبد الله «ولو قُطِّعَتْ» وبها قرأ أصحابُه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس.
127
قوله تعالى: ﴿بِأَنَّ لَهُمُ﴾ : متعلقٌ ب «اشترى»، ودخلت الباءُ هنا على المتروك على بابها، وسَمَّاها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض. وقرأ عمر بن الخطاب «بالجنة».
127
قوله: «يُقاتِلُون» يجوز أن يكونَ مستأنفاً، ويجوز أن يكونَ حالاً. وقال الزمخشري: «يقاتلون» فيه معنى الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [الصف: ١١]. قلت: وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف، لأن الطلب لا يقع حالاً. وقد تقدَّم الخلاف في «فيَقتلون ويُقتلون» في آل عمران.
قوله: ﴿وَعْداً﴾ منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة لأنَّ معنى «اشترى» معنى وعدهم بذلك فهو نظير «هذا ابني حقاً». ويجوز أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وفيه ضعف. و «حقاً» نعت له، و «عليه» حالٌ مِنْ «حقاً» لأنه في الأصل صفةٌ لو تأخَّرَ.
قوله: ﴿فِي التوراة﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «اشترى» وعلى هذا فتكونُ كل أمة قد أُمِرت بالجهاد ووُعِدت عليه الجنة. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ للوعد، أي: وعداً مذكوراً وكائناً في التوراة، وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكوراً في كتب الله المُنَزَّلَة. وقال الزمخشري في أثناءِ كلامه: «لا يجوز عليه قبيحٌ قط»، قال الشيخ: «استعمل» قط «في غير موضوعه؛ لأنه أتى به مع قوله:» لا يجوز عليه «و» قط «ظرفٌ ماضٍ؛ فلا يعمل فيه إلا الماضي»، قلت: ليس المراد هنا زمناً بعينه.
وقوله: ﴿فاستبشروا﴾ فيه التفاتٌ من الغَيْبَة إلى الخطاب لأنَّ في
128
خطابهم بذلك تشريفاً لهم، واستفعل هنا ليس للطلب، بل بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. وقوله: ﴿الذي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ توكيدٌ كقوله: ﴿الذي بَنَوْاْ﴾ [التوبة: ١١٠] لينصَّ لهم على هذا البيعِ بعينه.
129
قوله تعالى: ﴿التائبون﴾ : فيه خمسةُ أوجه، أحدها: أنهم مبتدأٌ، وخبره «العابدون»، وما بعده أوصاف أو أخبار متعددة عند مَنْ يرى ذلك. الثاني: أنَّ الخبر قوله: «الآمرون». الثالث: أنَّ الخبر محذوف، أي: التائبون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، ويؤيده قولُه: «وبَشِّر المؤمنين»، وهذا عند مَنْ يرى أن هذه الآية منقطعةٌ مما قبلها، وليست شرطاً في المجاهدة، وأمَّا مَنْ زعم أنها شرط في المجاهدة كالضحاك وغيره فيكون إعراب التائبين خبر مبتدأ محذوف، أي: هم التائبون، وهذا من باب قطع النعوت، وذلك أن هذه الأوصافَ عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى: ﴿ «اشترى] مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ﴾ [التوبة: ١١١] / ويؤيد ذلك قراءة أُبَيّ وابن مسعود والأعمش» التائبين «بالياء. ويجوز أن تكونَ هذه القراءةُ على القطع أيضاً، فيكونَ منصوباً بفعل مقدر. وقد صَرَّح الزمخشري وابن عطية بأن التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ. الخامس: أن» التائبون «بدل من الضمير المتصل في» يقاتلون «.
ولم يذكر لهذه الأوصافِ متعلَّقاً، فلم يَقُلْ: التائبون مِنْ كذا، ولا العابدون
129
لله لفَهْمِ ذلك إلا صيغتي الأمر والنهي مبالغةً في ذلك، ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف لمناسبتها لبعضِها إلا في صيغتي الأمر والنهي لتبايُن ما بينهما، فإن الأمرَ طلبُ فعل والنهيَ طلبُ تَرْكٍ أو كفٍّ، وكذا» الحافظون «عَطفَه وذَكَر متعلَّقه. وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نَظْمٍ وهو ظاهر بالتأمُّل، فإنه قَدَّم التوبةَ أولاً ثم ثَنَّى بالعبادة إلى آخره. وقيل: إنما دخلت الواوُ لأنها واوُ الثمانية، كقوله: ﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]. وقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧١] لَمَّا كان للجنة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. وقال أبو البقاء:» إنما دخلت الواو في الصفة الثامنة إيذاناً بأن السبعة عندهم عددٌ تام، ولذلك قالوا: «سبع في ثمانية»، أي: سبع أذرع في ثمانية أشبار، وإنما دَلّت الواوُ على ذلك لأن الواو تُؤْذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دَخَلَت في باب عطفِ النَّسق «، قلت: وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً لا تحقيقَ له.
130
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى﴾ : كقوله: «أَعْطوا السائلَ ولو على فرس»، وقد تقدَّم ما في ذلك، وأنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة.
قوله تعالى: ﴿وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ : اختُلِف في الضمير المرفوع والمنصوبِ المنفصل فقيل: وهو الظاهر إن المرفوع يعود على إبراهيم، والمنصوبَ على أبيه، يعني أن إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفرَ له. ويؤيد هذا قراءةُ الحسن وحماد الرواية وابن السَّميفع وأبي نهيك ومعاذ القارىء «
130
وعدها أباه»، بالباء الموحدة. وقيل: المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب لإِبراهيم، وفي التفسير أنه كان وَعَدَ إبراهيمَ أنه يؤمن، فبذلك طَمِع في إيمانه.
والأَوَّاه. الكثير التأَوُّه، وهو مَنْ يقول: أَوَّاه، وقيل: مَنْ يقول أوَّه، وهو أَنْسَبُ لأن أَوَّهَ بمعنى أتوجع، فالأَوَّاه فعَّال، مثالُ مبالغة من ذلك، وقياسُ فعلِه أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة إنما تَطَّرد في الثلاثي. وقد حكى قطرب فعله ثلاثياً فقال: يقال آهَ يَؤُوه كقام يقوم، أَوْهاً. وأنكر النحويون هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يُقال مِنْ أَوَّه بمعنى الوَجَع فعلٌ ثلاثي، إنما يقال: أوَّه تأَوْيهاً، وتَأَوَّه تَأَوُّهاً. قال الراجز:
٢٥٤٧ - فأَوَّه الراعي وضوضى أَكْلبُه... وقال المثقب العبدي:
٢٥٤٨ - إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بليلٍ تأوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ
وقال الزمخشري: «أَوَّاه فَعَّال مِنْ أَوَّه ك لأَل من اللؤلؤ، وهو الذي يُكثر التأوُّه»، قال الشيخ: «وتشبيهه أوَّاه مِنْ أوَّه ك لأَّل من اللؤلؤ ليس بجيدٍ، لأنَّ مادةَ أوَّه موجودة في صورة أواه، ومادة» لؤلؤ «مفقودةٌ في لأل لاختلاف التركيب إذ» لأل «ثلاثي، و» لؤلؤ «راعي، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية». قلت: لاَّل ولؤلؤ كلاهما من الرباعي المكرر، أي: إن
131
الأصل لام وهمزة، ثم كرَّرْنا، غاية ما في الباب أنه اجتمع الهمزتان في لآَّل فأُدْغمت أولاها في الأخرى، وفُرِّق بينهما في: «لؤلؤ».
132
قوله تعالى: ﴿اتبعوه﴾ : يجوز فيه وجهان أحدهما: أنه اتِّباعٌ حقيقي، ويكون عليه السلام خَرَج أولاً وتبعه أصحابه، وأن يكون مجازاً، أي: اتبعوا أمرَه ونَهْيَه، وساعةُ العُسْرة عبارةٌ عن وقتِ الخروج إلى الغزو، وليس المرادُ حقيقةَ الساعة بل كقولهم: يوم الكُلاب، وعشيةَ قارعْنَا جُذام، فاستعيرت السَّاعة لذلك كما استعير الغداة والعشية في قوله:
٢٥٤٩ - غَدَاةَ طَفَتْ عَلْماءِ بكرُ بنُ وائلٍ .......................
[وقوله] :
٢٥٥٠ -................... عشية قارَعْنا جُذَام وحميرا
[وقوله] :
132
قوله: ﴿كَادَ يَزِيغُ﴾، قرأ حمزة وحفص عن عاصم «يزيغ» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق. فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكونَ اسمُ «كاد» ضميرَ الشأن، و «قلوب» مرفوعٌ بيزيغ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، وأن يكونَ اسمُها ضميرَ القوم، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذِكْرُ المهاجرين والأنصار، ولذلك قَدَّره أبو البقاء وابنُ عطية: «من بعد كاد القوم»، وقال الشيخ في هذه القراءةِ: «فيتعيَّن أن يكون في» كاد «ضميرُ الشأن وارتفاعُ» قلوب «بيزيغ لامتناعِ أن يكون» قلوب «اسمَ كاد، و» يزيغ «في موضع الخبر، لأنَّ النيةَ به التأخير، / ولا يجوز: مِنْ بعد كاد قلوب يزيغ بالياء». قلت: لا يتعين ما ذكر في هذه القراءة لِما تقدَّم لك من أنه يجوز أن يكونَ اسمُ كاد ضميراً عائداً على الجمع أو القوم، والجملةُ الفعلية خبرها، ولا محذور يمنع من ذلك. وقوله: «لامتناع أن يكون» قلوب «اسم كاد»، يعني أنَّا لو جَعَلْنا «قلوب» اسمَ «كاد» لَزِم أن يكون «يزيغ» خبراً مقدماً فيلزم أن يرفعَ ضميراً عائداً على «قلوب»، ولو كان كذلك لَلَزِم تأنيثُ الفعل لأنه حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأن جمعَ التكسير يجري مجرى المؤنثة مجازاً.
وأمَّا قراءة التاء من فوق فتحتمل أن يكون في «كاد»، ضميرُ الشأن، كما تقدم، و «قلوب» مرفوعٌ بتزيغ، وأُنِّث لتأنيث الجمع، وأن يكون «قلوب» اسمَها، و «تزيغ» خبر مقدم ولا محذورَ في ذلك، لأن الفعلَ قد أُنِّث. قال
133
الشيخ: «وعلى كلِّ واحدٍ من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علمِ النحو مِنْ أنَّ خبرَ أفعالِ المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها، فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير» عسى «من أفعال المقاربة، ولا يكون سببَّاً، وذلك بخلاف» كان «فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم كان، فإذا قدَّرْنا فيها ضميَر الشأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبر، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم» كاد «بل ولا سببّاً له.
وهذا يلزم في قراء التاء أيضاً. وأمَّا توسيط الخبرِ فهو مبنيٌّ على جواز مثل هذا التركيب في مثل «كان يقوم زيد»
وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع. وأمَّا الوجهُ الأخير فضعيف جداً من حيث أضمر في «كاد» ضميراً ليس له على مَنْ يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبر «كاد» رافعاً سبباً «.
قلت: كيف يقول:»
والصحيح المنعُ «وهذا التركيب موجود في القرآن
134
كقولِه تعالى: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ﴾ [الأعراف: ١٣٧]، و ﴿كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا﴾ [الجن: ٤]، وفي قول امرىء القيس:
٢٥٥١ - إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى .........................
٢٥٥٢ - وإن تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ .........................
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالةَ، وإنما اختلفوا في تقديره: هل من باب تقديم الخبر أم لا؟ فَمَنْ مَنَعَ لأنه كباب المبتدأ والخبر، والخبرُ الصريح متى كان كذلك امتنع تقديمُه على المبتدأ لئلا يلتبسَ بباب الفاعل، فكذلك بعد نَسْخِه. ومن أجاز فلأَمْنِ اللبس.
ثم قال الشيخ:» ويُخَلِّصُ من هذه الإِشكالات اعتقادُ كونِ «كاد» زائدة، ومعناها مرادٌ، ولا عملَ لها إذ ذاك في اسمٍ ولا خبر، فتكون مثل «كان» إذا زِيْدَتْ، يُراد معناها ولا عملَ لها، ويؤيد هذا التأويلَ قراءةُ ابن مسعود «من بعد ما زاغَتْ»، بإسقاط كاد، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠]، مع تأثُّرِها بالعاملِ وعملِها في ما بعدها، فأحرى أن يدعى زيادتُها وهي ليسَتْ عاملةً ولا معمولة «. قلت: زيادتُها أباه الجمهور، وقال به من البصريين الأخفش، وجَعَلَ منه ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه: ١٥]. وتقدم الكلامُ على ذلك في أوائلِ هذا الكتاب.
135
وقرأ الأعمش والجحدري» تُزيغ «بضم التاء وكأنه جَعَلَ» أزاغ «و» زاغ «بمعنى. وقرأ أُبَيّ» كادَتْ «بتاء التأنيث.
136
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثلاثة﴾ : يجوز أن يُنْسِق على «النبيّ»، أي: تاب على النبي وعلى الثلاثة، وأن يُنسقَ على الضمير في «عليهم»، أي: ثم تاب عليهم وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّر حرفُ الجر.
وقرأ جمهور الناس: «خُلِّفوا»، مبنياً للمفعول مشدداً مِنْ خلَّفه يُخَلِّفه. وقرأ أبو مالك كذلك إلا أنه خفف اللام. وقرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمر بن عبيد وعكرمة بن هارون المخزومي ومعاذ القارىء: «خَلَفوا»، مبنياً للفاعل مخففاً مِنْ خَلَفَه، والمعنى: الذين خلفوا، أي: فَسَدوا، مِنْ خُلوف فم الصائم. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم خلفوا الغازين في المدينة. وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء كذلك إلا أنهم شدَّدا اللام. وقرأ أبو رزين وعلي ابن الحسين وابناه زيد ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق: «خالفوا»، بألف، أي: لم يوافقوا الغازين في الخروج. قال الباقر: «ولو خُلِّفوا لم يكن لهم». والظن هنا بمعنى العلم كقوله:
٢٥٥٣ - فقلتُ لهم ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ سَرَاتُهمُ كالفارِسي المُسَرَّدِ
وقيل: هو على بابه.
136
قوله: ﴿أَن لاَّ مَلْجَأَ﴾ أنْ هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و «لا» وما في حيِّزها الخبرُ، و «من الله» خبرها. ولا يجوز أن تكونَ تتعلقُ ب «مَلْجَأ»، ويكون «إلا إليه» الخبر لأنه كان يلزم إعرابه، لأنه يكون مطولاً. وقد قال بعضهم: إنه يجوزُ تشبيهُ الاسمِ المُطَوَّل بالمضاف فيُنْتَزَعُ ما فيه مِنْ تنوينٍ ونون كقوله:
٢٥٥٤ - أراني ولا كفرانَ لله أيَّةً ..........................
وقوله: «لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل» برفع «يوم» وقد تقدَّم القولَ في ذلك. وقوله: «إلا إليه» استثناءٌ من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي: لا مَلْجَأَ إلى أحدٍ إلا إليه كقوله: لا إله إلا الله.
137
والظَّمأُ: العطش، يُقال: ظَمِىء يَظْمَأُ ظَمَأً، فهو ظمآنُ وهي/ ظمأى، وفيه لغتان: القصر والمدُّ، وبالمدّ قرأ عمرو بن عبيد، نحو: سَفِه سَفاهاً، والظِّمْءُ ما بين الشَّرْبَتَيْن.
و «مَوْطِئاً» مَفْعِل مِنْ وَطِىءَ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الوَطْء، وأن يكون مكاناً، والأول أظهر، لأن فاعل «يغيظ» يعود عليه من غير تأويل بخلاف كونه مكاناً فإنه يعود على المصدر وهو الوَطْءُ الدال عليه المَوْطِىءُ.
وقرأ زيد بن علي: «يُغيظ» بضم الياء وهما لغتان: غاظَه وأغاظه.
137
والنَّيْلُ مصدرٌ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعاً موقعَ المفعول به، وليست ياؤه مبدلةً من واو كما زعم بعضهم، بل ناله ينولُه مادةٌ أخرى ومعنى آخر وهو المناولة، يقال: نِلْتُه أَنُوْله، أي: تناولته ونِلْتُه أنيله، أي: أَدْرَكْته.
138
والوادي: قال الزمخشري: «الوادي: كل منفرَجٍ من جبال وآكام يكون مَنْفذاً للسيل، وهو في الأصل فاعِل مِنْ ودى إذا سال، ومنه الوَدِيّ، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض». وجُمع على أودية وليس بقياس، كان قياسُه الأَوادي كأَواصل جمع واصل، والأصل: وَوَاصِل، قُلبت الواو الأولى همزة. قال النحاس: «ولا أعرف فاعلاً وأفْعلِة سواه»، وقد استُدْرِك هذا عليه فزادوا: نادٍ وأندية وأنشدوا:
٢٥٥٥ - وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ وأنديةٌ ينتابها القولُ والفعلُ
والنادي: المجلس. وقال الفراء: إنه يُجمع على أَوْداء كصاحب وأصحاب وأنشد لجرير:
138
قلت: وقد زاد الراغب في فاعل وأَفْعِلة: ناجٍ وأنْجِيَة، فقد كَمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظ في فاعل وأَفْعِلة، ويقال: وَدَاه، أي: أهلكه كأنهم تصوَّروا منه إسالة الدم، وسُمِّيت الدِّيَةُ دِيَةً لأنها في مقابلة إسالة الدم، ومنه الوَدْيُ وهو ماءُ الفحل عند المداعبة وماءٌ يخرج عند البول، والوَدِيُّ بكسر الدال والتشديد في الياء: صغار النحل.
وقوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ﴾ [التوبة: ١٢٠]، مبتدأ وخبر، والإِشارة به إلى ما تضمَّنه انتفاءُ التخلُّف مِنْ وجوب الخروج معه.
وقوله: ﴿إِلاَّ كُتِبَ﴾، هذه الجملةُ في محل نصب على الحال مِنْ «ظَمَأ» وما عُطِف عليه، أي: لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأَفْرد الضمير في «به» وإن تقدَّمه أشياء إجراء له مُجْرى اسمِ الإِشارة، أي: كُتب لهم بذلك عَمَلٌ صالح. والمضمرُ يُحتمل أن يعودَ على العمل الصالح المتقدم، وأن يعودَ على أحد المصدرين المفهومين في «ينفقون» و «يقطعون»، أي: إلا كُتِب لهم بالإِنفاقِ أو القَطْعِ.
وقوله: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ﴾ متعلقٌ ب «كُتِب». وفي هذه الجملة من البلاغةِ والفصاحةِ ما لا يخفى على متأمَّله لا سيما لمن تدرَّب بما تقدَّم في هذا الموضوع.
139
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ :«لولا» تحضيضية والمرادُ به الأمر. و «منهم» يجوز أن يكون صفةً ل «فرقة» وأن يكون حالاً من «طائفة» لأنها في الأصل صفة لها، وعلى كلا التقديرين فيتعلقُ
139
بمحذوف. والذي ينبغي أن يُقال: إنَّ «من كل فرقة» حالٌ من طائفة، و «منهم» صفة لفرقة، ويجوز أن يكونَ «من كل» متعلقاً ب «نَفَرَ».
وقوله: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ﴾ في هذا الضمير قولان، أحدهما: أنه للطائفة النافرة على أن المرادَ بالنفور: النفور لطلب العلم، وهو ظاهر. وقيل: الضمير في «ليتفَّقهوا» عائد على الطائفة القاعدة، وفي «رَجَعوا» عائدٌ على النافرة، والمراد بالنفور نفورُ الجهاد، والمعنى: أن النافرين للجهاد إذا ذهبوا بقيت إخوانهم يتعلمون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفقه، فإذا رَجَع الغازون أنذرهم المُعَلِّمون، أي: علَّموهم الفقه والشَّرْع.
140
قوله تعالى: ﴿وَلِيَجِدُواْ﴾ : وهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا» وتقدَّم شرحه.
قوله: ﴿غِلْظَةً﴾ قرأها الجمهور بالكسر وهي لغة أشد. وقرأ الأعمش، وأبان بن تغلب والمفضل كلاهما عن عاصم «غَلْظة» بفتحها، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وأبان في رواية عنهما «غُلظة» بالضم وهي لغة تميم. وحكى أبو عمرو اللغات الثلاث. والغِلظة: أصلها في الأَجْرام فاستعيرت هنا للشدة والصبر والتجلُّد.
قوله تعالى: ﴿زَادَتْهُ﴾ : الجمهور على رفع «أيُكم» بالابتداء وما بعده الخبر. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير بالنصب على الاشتغال، ولكن يُقَدَّر الفعل متأخراً عنه من أجلِ أن له صدرَ الكلام والنصبُ عند الأخفش في هذا النحوِ أحسنُ من الرفع؛ لأنه يُجري اسم
140
الاستفهام مُجرى الأسماءِ المسبوقةِ بأداة الاستفهام نحو: «أزيداً ضربته» في ترجيح إضمار الفعل.
141
قوله تعالى: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ﴾ : قرأ حمزة «ترون» بتاء الخطاب وهو خطابٌ للذين آمنوا، والباقون بياء الغيبة رجوعاً على ﴿الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾. والرؤية هنا تحتمل أن تكون قلبيةً، وأن تكون بصريةً/.
قوله تعالى: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ﴾ : في محل نصب بقول مضمر، أي: يقولون: هل يراكم. وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و «مِنْ أحد» فاعلٌ.
قوله تعالى: ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ : صفةٌ لرسول، أي: من صميم العرب. وقرأ ابن عباس وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قُسَيْط المكي ويعقوب من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسولِ الله وفاطمة وعائشة بفتح الفاء، أي: مِنْ أَشْرَفِكم، من النَّفاسة.
وقوله: ﴿عَزِيزٌ﴾ فيه أوجه، أحدها: أن يكون «عزيز» صفةً لرسول، وفيه أنه تَقَدَّم غيرُ الوصف الصريح على الوصفِ الصريح، وقد يُجاب بأنَّ «من أنفسكم» متعلقٌ ب «جاء»، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية أو بمعنى الذي، وعلى كلا التقديرين فهي فاعل بعزيز، أي: يَعِزُّ عليه عَنَتُكم أو الذي عَنِتُّموه، أي: عَنَتُهم يُسيئه، فحذفَ العائدَ على التدريج، وهذا كقوله:
٢٥٥٦ - عَرَفْتُ ببُرْقَةِ الأَوْداءِ رَسْماً مُحيلاً طال عهدُكَ مِنْ رسومِ
141
أي: يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون «عزيز» خبراً مقدماً، و «ما عَنِتُّم» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ صفةٌ لرسول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ «عزيز» مبتدأ، و «ما» عنتُّم خبره، وفيه الابتداءُ بالنكرة لأجل عَمَلِها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى العنت. والأرجح أن يكونَ «عزيز» صفةً لرسول؛ لقوله بعد ذلك «حريصٌ» فلم يُجعلْ خبراً لغيره، وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو حريصٌ، لا حاجةَ إليه.
و «بالمؤمنين» متعلقٌ برؤوف. ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع لأنَّ مِنْ شرطه تأخُّرَ المعمول عن العامِلَيْن، وإن كن بعضهم قد خالف ويجيز: «زيداً ضربتُ وشتمته» على التنازع، وإذا فرَّعنا على هذا التضعيف فيكونُ من إعمال الثاني لا الأولِ لما عُرِف: أنه متى أُعمل الأول أُضْمِرَ في الثاني من غير حذف.
142
والجمهورُ على جَرِّ الميم من «العظيم» صفةً للعرش. وقرأ ابن محيصن برفعها، جَعَلَه نعتاً للرب، ورُويت هذه قراءةً عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصمُّ: «وهذه القراءة أعجبُ إليّ لأنَّ جَعْلَ العظيم صفةً لله تعالى أولى مِنْ جعله صفةً للعرش».
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٢٥٥٧ - يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي وكان ذهابُهنَّ له ذهاباً