تفسير سورة الشعراء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الشّعراء
مكية، إلا قوله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ فإنها مدنية. وهى مائتان وسبع وعشرون آية. وفى الحديث:
«أعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» «١» عليه السلام أي: بدلها، كما فى حديث آخر. ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر تكذيب قريش وأوعدهم بلزوم العذاب، ذكر تلهف رسوله ﷺ عليهم، حيث لم يؤمنوا حتى استوجبوا ذلك بقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ... الآية، ثم سلاه بما ذكر من قصص الأنبياء وتكذيب قومهم وإهلاكهم بأنواع العذاب، ثم افتتح السورة برموز بينه وبين حبيبه، كما هو شأنه حين يريد أن يقص عليه قصص من قبله، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: طسم أي: يا طاهر، يا سيد، يا محمد، أو: أيها الطاهر السيد المجيد. وقال الواحدي: أقسم تعالى بطَوله وسنائه وملكه، والمقسم عليه: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ... إلخ. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي: ما نسرده عليك في هذه السورة وغيرها من الآيات، هي آيات الكتاب، أي: القرآن المبين، أي: الظاهر إعجازه، وأنه من عند الله، على أنه من أبان، بمعنى بان، أو: المبين للأحكام الشرعية والحِكَم الربانية، أو: الفاصل بين الحق والباطل. وما في الإشارة من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلة المشار إليه في الفخامة ورفعة القدر.
ثم شرع في تسليته بقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي: قاتل نفسك. قال سَهْلٌ: تهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم وإيمانهم، وقد سَبق مني الحُكم بإيمان المؤمنين وكفر الكافرين، فلا تبديل ولا تغيير. و «لعل» : للإشفاق،
(١) أخرجه مطولا، البيهقي فى السنن (١٠/ ٩)، والحاكم فى المستدرك (١/ ٥٦٨) عن معقل بن يسار. وفيه «عبد الله بن أحمد». قال الذهبي: تركوا حديثه.
123
أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، هو تعليل لِما قبله من النهي عن التحسر ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته، والمفعول محذوف، أي: إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان، قاهرة لهم عليه، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين.
والأصل: فظلوا لها خاضعين، فأقمحت الأعناق لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء. وقيل: لمَّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم، كقوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «١». وقيل: المراد بالأعناق: الرؤساء ومقدمو الجماعة، وقيل: الجماعة، من قولهم: جاءنا عنق من الناس، أي: فوج. وقرئ: خاضعة، على الأصل.
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب لصرف رسوله ﷺ عن الحرص على إسلامهم، وقطع رجائه فيهم على الجملة، قال القشيري: أي: ما نُجَدِّد لهم شَرْعاً، أو نرسل رسولاً إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه، وقابلوه بالتكذيب، فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتهم، لا تضح لهم صدقهم، ولكن المقسوم من الخذلان في سابق الحُكْمِ يمنعهم من الإيمان والتصديق. هـ.
والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم، وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح، وعما يأتيهم بموجب الرحمة، لمحض منفعتهم، أشنع وأقبح، أي: ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية، أو من طائفة نازلة من القرآن تُذكّرهم أكمل تذكير، وتنبهُهم من الغفلة أتم تنبيه، بمقتضى رحمته الواسعة، إلا جددوا إعراضاً عنه على وجه التكذيب والاستهزاء إصراراً على ما كانوا عليه من الكفر والضلال.
فَقَدْ كَذَّبُوا بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً مقارناً للاستهزاء، فَسَيَأْتِيهِمْ أي: فسيعلمون أَنْبؤُا أي:
أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وأنباؤه: ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة، عبّر عنها بالأنباء إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم، وإما لأنهم، بمشاهدتها، يقفون على حقيقة القرآن الكريم، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم، باستماع الأنباء. وفيه تهويل: لأن الأنباء لا تُطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير، أي: فسيأتيهم لا محالة مِصداق ما كانوا يستهزؤون به، إما في الدنيا، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتُوف، أو يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
(١) من الآية ٤ من سورة يوسف.
124
الإشارة: طسم، الطاء تشير إلى طهارة سره- عليه الصلاة والسلام-، والسين تُشير إلى سيادة قدره، والميم إلى مَجَادة أمره، وهذا بداية الشرف ونهايته. أو: الطاء تشير إلى التنزيه للقلب، من حيث هو، والتطهير. والسين تشير إلى تحليته بالسر الكبير، والميم تشير إلى تصرفه في الملك والملكوت بإذن العلي الكبير. وهذه بداية السير ونهايته، فيكون حيئذ عارفاً بالله، خليفة رسول الله في العودة إلى الله، فإنْ حرص على هداية الخلق فيقال له:
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فلو شاء ربك لهدى الناس جميعاً، ولا يزالون مختلفين، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته على ما ذكر، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧ الى ٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
قلت: الهمزة: للإنكار التوبيخي، والواو: للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أَفعلوا ما فعلوا من الإعراض والتكذيب، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض.. إلخ. و (كم) : خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: ينظروا إِلَى عجائب الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي: من كل صنف محمود كثير المنفعة، يأكل منه الناس والأنعام. وتخصيص النبات بالذكر، دون ماعداه من الأصناف لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معاً. ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات نافعها وضارها، ويكون وصف الكل بالكرم للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة، إما وحده، أو بانضمامه إلى غيره، كما نطق به قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «١» فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلاً إلا وفيه حكمة بالغة، وإن غفل عنه الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفة كنهه العاقلون. وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة، وهما «كم» و «كلّ» أنّ كلمة «كلّ» تدل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كم» تدل على أنَّ هذا المحاط متكاثر، مفرط الكثرة، وبه نبّه على كمال قدرته.
إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات، أو: كل صنف من تلك الأصناف لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرته، وسعة علمه وحكمته، ونهاية رحمته الموجبة للإيمان، الوازعة عن الكفر والطغيان. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي: أكثر قومه- عليه الصلاة والسلام- مُؤْمِنِينَ في علم الله تعالى وقضائه، حيث عَلِمَ أنهم سيصرفون عنه، ولا يتدبرون في هذه الآيات العظام. وقال سيبويه: «كان» : صلة، والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين، وهو الأنسب بمقام
(١) من الآية ٢٩ من سورة البقرة.
عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد، مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى. وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم أنهم معذرون فيه بحسب الظاهر لأن التفريق بين القدرة والحكمة، اللتين هما محل التحقيق والتشريع، قد خفي على مهرة العلماء، فضلاً عن غيرهم. فالحكم بزيادة «كان» أقرب كأنه قيل: إِن في ذلك لآيةً باهرة موجبة للإيمان، وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك لغاية عتوهم وعنادهم. ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم لأن منهم من سبق له أنه يؤمن.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها: الانتقام من هؤلاء، الرَّحِيمُ المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم، ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وفي التعرض لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، من تشريفه والعِدَة الحقيّة «١» بالانتقام من الكفرة ما لا يخفى. قاله أبو السعود.
الإشارة: أوَ لم يروا إلى أرض النفوس الطيبة، كم أنبتنا فيها من كل صنف من أصناف العلوم الغريبة، والحِكَم العجيبة، بعد أن كانت ميتة بالجهل والغفلة، إنَّ في ذلك لآيةً ظاهرة على وجود الخصوصية فيها، وعلى كمال من عالجها حتى ظهرت عليها. أو: أولم يروا إلى أرض العبودية، كم أنبتنا فيها من أصناف الآداب المرضية، والمقامات اليقينية، والمكاشفات الوهبية، إِن في ذلك لآيةً، وما كان أكثرهم مؤمنين بهذه الخصوصية عند أربابها، وإن ربك لهو العزيز الرحيم، يُعز من يشاء، ويرحم بها من يشاء. وبالله التوفيق.
ثم شرع فى قصص الأنبياء تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبدأ بموسى عليه السّلام لشدة معالجته لقومه، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ١٧]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يا محمد إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أي: وقت ندائه إياه، وذَكِّر قومك بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم زجراً لهم، وتحذيراً من أن يحيق بهم مثل ما حاق بإخوانهم المكذبين.
(١) فى تفسير أبى السعود: «الخفية».
126
أو: واذكر حاله لتتسلى به وبما عالج مع قومه، حيث أرسله وقال له: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أو: بأن ائْتِ القومَ الظالمين بالكفر والمعاصي، أو: باستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم. قَوْمَ فِرْعَوْنَ: عطف بيان، تسجيل عليهم بالظلم، ثم فسرهم، وقل لهم: أَلا يَتَّقُونَ الله، ويتركون ما هم عليه من العتو والطغيان. وقرئ بتاء الخطاب على طريقة الالتفات، المنبئ عن زيادة الغضب عليهم، كأنَّ ظلمهم أدى إلى مشافهتهم بذلك. وليس هذا نفس ما ناداه به، بل ما في سورة طه من قوله: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. «١» إلخ، واختصره هنا لمقتضى المقام.
قالَ موسى عليه السلام متضرعاً إلى الله عزَّ وجَلَّ: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ من أول الأمر، وَيَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم إياي، وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأن تغلبني الحمية على ما أرى من المحال، وأسمع من الجدال، أو: تغلبني عقدة لساني، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أخي، أي: أرسل جبريل إليه، ليكون نبياً معي، أَتَقَوَّى به على تبليغ الرسالة. وكان هارون بمصر حين بُعث موسى بجبل الطور. وليس هذا من التعلل والتوقف في الأمر، وإنما هو استدعاء لما يُعينه على الامتثال، وتمهيد عذره.
ثم قال: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي: تبعة ذنب بقتل القبطيّ، فحذف المضاف، أو: سمّي تبعة الذنب ذنباً، كما يُسَمَّى جزاء السيئة سيئة. وتسميته ذنباً بحسب زعمهم. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قصاصاً. وليس هذا تعللا أيضاً، بل استدفاع للبلية المتوقعة، وخوف من أن يقتل قبل أداء الرسالة، ولذلك وعده بالكلاءة، والدفع عنه بكلمة الردع، وجمع له الاستجابتين معاً بقوله:
قالَ كَلَّا فَاذْهَبا لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده بالدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه رسالة أخيه، فأجابه بقوله: فَاذْهَبا، أي: جعلتُه رسولاً معك فَاذْهَبا بِآياتِنا أي: مع آياتنا، وهى اليد والعصا وغير ذلك، فقوله: فَاذْهَبا: عطف على مضمر، يُنبئ عنه الردع، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت ومن استدعيته مصحوباً بآياتنا، فإنها تدفع ما تخافه.
إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي: سامعون ما يقال لك، وما يجرى بينكما وبينه، فنظهر كما عليه. شبَّه حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة، فسمع ما يجري بينهم، فيمد أولياءه وينصرهم على أعدائهم مبالغة في الوعد بالإعانة، فاستعير الاستماع، الذي هو الإصغاء للسمع، الذي هو العلم بالحروف والأصوات، وهو تعليل للردع عن الخوف، ومزيد تسلية لهما، بضمان كمال الحفظ والنصر، كقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى «٢».
ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
، ليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معنى هذا:
الوصولُ إلى المرسل إليه، والذهاب: مطلق التوجه، ولم يُثَنَّ الرسول هنا كما ثناه في سورة طه «٣» لأن الرسول
(١) الآية ١٢ من سورة طه.
(٢) الآية ٤٦ من سورة طه.
(٣) فى قوله: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ، الآية ٤٧.
127
يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة، فيكون مصدراً، فَجُعِلَ ثَمَّةَ بمعنى المُرْسَل فثنى، وجعل هنا بمعنى الرسالة، فسوّى في الوصف به الواحد والتثنية والجمع، كما تقول: رجل عدل، ورجلان عدل، ورجال عدل لاتحادهما في شريعة واحدة، كأنهما رسول واحد. قلت: والنكتة في إفراد هذا وتثنية الآخر أن الخطاب في سورة طه توجه أول القصة إليهما معاً بقوله: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ فجرى في آخر القصة على ما افتتحت به، وهنا توجه الخطاب في أولها إلى موسى وحده، بقوله: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فجرى على ما افتتح به القصة من الإفراد. والله تعالى أعلم.
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، «أن» مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، أي: خَلِّ بني إسرائيل تذهب معنا إلى الشام، وكان مسكنهم بفلسطين منه، قبل انتقالهم مع يعقوب عليه السلام إلى مصر، في زمن يوسف عليه السلام. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من كان أهلاً للوعظ والتذكير لا ينبغي أن يتأخر عنه خوف التكذيب ولا خوف الإذاية، فإن الله معه بالحفظ والرعاية. نعم إن طلب المُعِينَ فلا بأس، فإن أُبهة الجماعة، في حال الإقبال على من يُعظمهم، أقوى فى إدخال الهيبة والروع في قلوبهم، ونور الجماعة أقوى من نور الواحد. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر جواب فرعون ومجادلته، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨ الى ٢٩]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
128
يقول الحق جلّ جلاله: لما أتى موسى وهارونُ فرعونَ وبلَّغا الرسالة، قالَ له: أَلَمْ نُرَبِّكَ.. إلخ، رُوي أنهما أتيا بابه فلم يُؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له، لعلنا نضحك منه، فأَذِن، فدخل، فأدى الرسالة، فعرفه فرعونُ «١»، فقال له: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا في حِجْرنا ومنازلنا، وَلِيداً أي: طفلاً. عبّر عنه بذلك لقُرب عهده بالولادة. وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليه السلام: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
، بنسبته تربيته إليه وليداً. ولذلك تجاهل بقوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي... إلخ، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل: لبث فيهم ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين، وأقام به عشر سنين، ثم عاد يدعوهم إلى الله- عزَّ وجَلَّ- ثلاثين سنة، ثم بقي بعد الغرق خمسين، وقيل: قتل القبطي وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وفرّ منهم على إثر ذلك. والله أعلم.
ثم قال له: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني: قتل القبطي، بعد ما عدد عليه نعمته من تربيته، وتبليغه مبلغ الرجال، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه، أي: قتلت صاحبي، وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي، أو: أنت حينئذٍ ممن تكفر بهم الآن، أي: كنت على ديننا الذي تسميه كفراً، وهذا افتراء منه عليه لأنه معصوم، وكان يعاشرهم بالتقية، وإلا فأين هو عليه السلام من مشاركتهم في الدين.
قالَ فَعَلْتُها إِذاً أي: إذ ذاك وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: من المخطئين لأنه لم يتعمد قتله، بل أراد تأديبه، أو:
الذاهلين عما يؤدي إليه الوكز. أو: من الضالين عن النبوة، ولم يأت عن الله في ذلك شيء، فليس عليَّ توبيخ في تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع، وهذا كله لا ينافي النبوة، وكذلك التربية لا تنافي النبوة.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى ربي، متوجهاً إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تصيبني بمضرة، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي: حكمة، أو: نبوة وعلماً، فزال عني الجهل والضلالة، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ من جملة رسله، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: تلك التربية نعمة تمُن بها عليّ ظاهراً، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، وقهرك إياهم، بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك، ولو تركتهم لرباني أبواي. فكأن فرعون في الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليه السلام: أَوَ تلك نعمةٌ تَمُنٌُّها عَلَيَّ استعبادك لهم، ليس ذلك بنعمة، ولا لك فيها عليَّ منة، وتعبيده: تذليلهم واستخدامهم على الدوام. ووحد الضمير فى «تمنّها» و «عبّدت»، وجمعها في «منكم» و «خفتكم» لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملائه المؤتمرين به، وأما الامتنان فمنه وحده.
(١) انظر البحر المحيط (٧/ ١٠).
129
وحين انقطعت حجة فرعون وروغانه عن ذكر رب العالمين، أخذ يستفهم موسى عن الذي ذكر أنه رسول من عنده مكابرة وتجاهلاً وتعامياً، طلباً للرئاسة، كما قال تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ، أي: أيُّ شيء رب العالمين، الذي ادعيت أنك رسوله، منكراً لأن يكون للعالمين رب غيره، حسبما يعْربُ عنه قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «١»، وقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «٢». أو: فما صفته، أو حقيقته؟ قالَ موسى: هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي: ما بين الجنسين، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كنتم موقنين بالأشياء، محققين لها، علمتم ذلك، أو: إن كنتم موقنين شيئاً من الأشياء، فهذا أولى بالإيقان لظهور دليله وإنارة برهانه.
قالَ فرعونُ، عند سماع جوابه عليه السلام، خوفاً من تأثيره في قلوبهم، لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه، وكانوا خمسمائة مسورة بالأسورة: أَلا تَسْتَمِعُونَ، أنا أسأله عن الماهية، وهو يجيبني بالخاصية. ولما كانت ماهية الربوبية لا تُدرك ولا تنال حقيقتها، أجابه بما يمكن إدراكه من خواص الماهية.
ثم قالَ عليه السلام: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي: هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين، أي: وفرعون من جملة المخلوقين فلا يصلح للربوبية، وإنما قال: وَرَبُّ آبائِكُمُ لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم.
قالَ فرعونُ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث يزعم أن في الوجود ألهاً غيري، أو:
حيث لا يطابق جوابه سؤالي لأني أسأله عن الحقيقة وهو يجيبني بالخاصية، قالَ موسى عليه السلام: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فتستدلون بما أقول حتى تعرفوا ربكم. وهذا غاية الإرشاد، حيث عمم أولاً بخلق السموات والأرض وما بينهما، ثم خصص من العام أنفسهم وآباءهم لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه، ومن ولد منه، وما شاهد من أحواله، من وقت ميلاده إلى وفاته، ثم خصّص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر، على تقدير مستقيم وحساب مستوٍ، من أقوى الدلائل على وحدانية الربوبية، ووجوب وجودها. أو: تقول: لما سأله عن ماهية الربوبية جهلاً فأجابه، بالخاصية، قال أَلا تَسْتَمِعُونَ؟ فعاد موسى إلى مثل قوله، فجنّنه فرعون، زاعماً أنه حائد عن الجواب، فعاد ثالثاً مبيناً أن الواجب الوجود، الفردَ الصمد، لا يدرك بالكُنْهِ، إنما يعرف بالصفات، وما عرفه بالذات إلا خواص الخواص، فالسؤال عن الذات من أمثاله جهل وحمق. ولذلك قال: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، أي: إن كان لكم عقل علمتم أنه لا يمكن أن تعرفوه إلا بهذا الطريق.
(١) من الآية ٢٤ من سورة النازعات.
(٢) من الآية ٣٨ من سورة القصص.
130
قال ابن جزي: إن قيل: كيف قال أولاُ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، ثم قال آخراً: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟ فالجواب: أنه لاَيَنَ أولاً طمعاً في إيمانهم، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله: «إن كنتم تعقلون»، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. هـ.
ولما تجبر فرعون وبهت قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، أي: لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه، فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض، بعيدة العمق، فرداً، لا ينظر فيها ولا يسمع، وكان ذلك أشدّ من القتل. ولو قال: لأسجننك، لم يؤد هذا المعنى، وإن كان أخصر. قاله النسفي.
الإشارة: التربية لها حق يراعي ويجب شكرها، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية. قال القشيري: لم يجحد موسى حقَّ التربية والإحسانَ إليه في الظاهر، ولكن بَيَّنَ أنه إذا أمر الله بشيءٍ وَجَبَ اتباعُ أمره، وإذا كانت تربية المخلوقين تُوجب حقاً، فتربية الله أولى بأن يعَظِّمَ العبدُ قَدْرَها. هـ. فكل من أحسن إلى بشريتك بشيء وجب عليك شكره بالإحسان إليه، ولو بالدعاء، وكل من أحسن إلى روحانيتك بالعلم أو بالمعرفة، وجب عليك خدمته وتعظيمه، وإنكار ذلك سبب المقت والطرد، والعياذ بالله.
وقول فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ: سؤال عن حقيقة الذات، ومعرفة الكنه متعذرة إذ ليس كمثله شيء، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ «١» فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات في الجملة، ولم تترك منها شيئاً، والإحاطة بالكنه متعذرة، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين تَرَق، مع أن ترقيهم في كشوفات الذات لا ينقطع أبداً، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الباقية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر معجزة العصا وما يتبعها، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
قلت: (لو) : هنا، ليست امتناعية، بل إغيائية، فلا جواب لها، أي: تفعل بي هذا على كل حال ولو جئتك بشيءٍ مبين.
(١) من الآية ٣ من سورة الحديد.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ موسى عليه السلام لفرعون، لَمَّا هدده بالسجن: أَوَلَوْ أتفعل ما ذكرت من سجني ولو جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ واضح الدلالة على صدقي، وتوحيد رب العالمين. يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده.
والتعبير عنه بالشيء للتهويل. قالَ فرعون: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما قلتَ من الإتيان بالشيء الواضح على صدق دعواك، أو: من الصادقين في دعوى الرسالة.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي: ظاهر ثعبانيته، لا أنه تخيل بما يشبهه كشأن الشعوذة والسحر. رُوي إنها ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة على فرعون، تقول: يا موسى مُرني بما شئت، فيقول فرعون:
أسألك بالذي أرسلك إلا اخذتها، فأخذها، فعادت عصا. وَنَزَعَ يَدَهُ أي: أخرجها من تحت إبطه، فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي: بياضاً خارجاً عن العادة، بحيث يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة.
رُوي أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: هل لك غيرها؟ فأخرج يده، وقال لفرعون: ما هذه؟ قال: يدك، فأدخلها تحت إبطه، ثم نزعها، ولها شعاعٌ يكاد يُغشي الأبصار ويسدّ الأفق. فسبحان القادر على كل شيء.
الإشارة: النفوس الفرعونية هي التي تتوقف في الصدق والإيمان على ظهور المعجزة أو الكرامة، وأما النفوس الزكية فلا تحتاج إلى معجزة ولا كرامة، بل يخلق الله فيها الهداية والتصديق بطريقة الخصوصية، من غير توقف على شيء. وبالله التوفيق.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
قلت: (حوله) : ظرف وقع موقع الحال، أي: مستقرين حوله.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ فرعونُ، لَمَّا رأى ما بهته وحيّره، لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ، وهم أشراف قومه: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في فن السحر. ثم أعدى قومه على موسى بقوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ بما صنع مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ تُشيرون في أمره من حبس أو قتل، وهو من المؤامرة، أي: المشاورة، أو: ماذا تأمرون به، من الأمر، لما بهره سلطان المعجزة وحيّره، حط نفسه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده- في زعمه- والامتثال لأمرهم، وجعل نفسه مأمورة، أو: إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم، بعد ما كان مستقلاً في الرأي والتدبير.
قالُوا له: أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي: أَخِّرْ أمرهما، ولا تعجل بقتلهما خوفاً من الفتنة أو: احبسهما، وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي: شُرَطاً يحشرون السحرة، يَأْتُوكَ أي: الحاشرون بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فائق في فن السحر. وأتوا بصيغة المبالغة ليُسَكِّنُوا بعض رَوعته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المشاورة في الأمور المهمة من شأن أهل السياسة والرأي، وفي الحديث: «مَا خَابَ مَن اسْتَخَارَ، وَلاَ نَدِمَ من اسْتَشَارَ» «١»، فالمشاورة من الأمر القديم، وما زالت الأكابر من الأولياء والأمراء يتشاورون في أمورهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جمع السحرة، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
يقول الحق جلّ جلاله: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وهو ما عيّنه موسى عليه السلام بقوله:
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «٢». والميقات: ما وُقت به، أي: حُدّ من زمان أو مكان. ومنه:
مواقيت الحج. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي: اجتمعوا. وعبّر بالاستفهام حثّاً على الاجتماع.
واستبطاء لهم، والمراد: استعجالهم إليه، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي: إن غلبوا موسى، ولا نتبعُ موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة، وإنما الغرض الكلي ألا يتبعوا موسى، فساقوا كلامهم مساق الكناية حملاً لهم على الاهتمام والجد في المغالبة لأنهم إذا اتبعوا السحرة لم يكونوا متبعين لموسى، وهو مرادهم، ولأن السحرة إذا سمعوا ذلك حملهم التروس على الجد في المغالبة.
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أي: جزاء وافراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى؟
قالَ نَعَمْ لكم ذلك، وَإِنَّكُمْ مع ذلك، إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي في المرتبة والحال، فتكونون أول من
(١) أخرجه الطبراني فى الأوسط (٦٦٢٧)، والصغير (٢/ ٧٨)، والشهاب القضاعي فى مسنده (٧٧٤)، من حديث أنس. وانظر كشف الخفاء (٢/ ١٨٥). [.....]
(٢) الآية ٥٩ من سورة طه.
يدخل عليّ، وآخر من يخرج عني. ولما كان قوله: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً، في معنى جزاء الشرط لدلالته عليه، وكان قوله: وَإِنَّكُمْ إِذاً: معطوفاً عليه، دخلت «إذاً» قارة في مكانها، الذي تقتضيه من الجواب والجزاء.
قالَ لَهُمْ مُوسى بعد أن قالوا له: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى «١» : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من السحر، فسوف ترون عاقبته. ولم يُرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه البتة توسلاً به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وكانوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصاً.
وقيل: كانت الحبال اثنين وسبعين، وكذا العصِيِّ. وَقالُوا بعد الإلقاء، لما رأوها تتحرك وتقبل وتُدبر: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ، قالوا ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر، أقسموا بعزته وقوته، وهو من أيمان الجاهلية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السحر على قسمين: سحر القلوب إلى حضرة الحق، وسحر النفوس إلى عالم الخلق، أو: إلى عالم الخيال. فالأول: من شأن العارفين بالله، الداعين إلى الله، فهم يسحرون قلوب من أتى إليهم إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، فيقال في شأنهم: فجمع السحرة بقلوبهم، إلى ميقات يوم معلوم، وهو يوم الفتح والتمكين، أو يوم النفحات، عند اتفاق جمعهم في مكان معلوم. وقيل للناس، وهو عوام الناس: هل أنتم مجتمعون لتفيقوا من سكرتكم، وتتيقظوا من نوم غفلتكم، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، ولا شك في غلبتهم ونصرهم لقوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ «٢».
ثم ذكر إبطال سحرهم، وإسلامهم، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
(١) الآية ٦٥ من سورة طه.
(٢) من الآية ٤٠ من سورة الحج.
134
يقول الحق جلّ جلاله: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ من يده، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي: تبتلع بسرعة ما يَأْفِكُونَ: ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم، ويزورونه، فيُخيِّلون في حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لما شاهدوا ذلك من غير تلعْثم ولا تردد، غير متمالكين لأنفسهم لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر، وأنه أمر إلهي، يدل على تصديق موسى عليه السلام. وعَبَّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة لقوله: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فألقى، فلما خروا سجوداً، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، قال عكرمة: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. هـ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ: عطف بيان، أو: بدل من بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
فدفع توهم إرادة فرعون لأنه كان يدعي الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه منها. وقيل: إن فرعون لما سمع منهم: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، قال: إياي عنيتم؟ قالوا: رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي: بغير إذن لكم، كما في قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي «١»، لان أن الإذن منه ممكن أو متوقع، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فتواطأتم على ما فعلتم مكراً وحيلة.
أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. ثم هَدَّدَهُم بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، يداً من جهة ورجلاً من أخرى، أو: من أجل خلافٍ ظهر منكم، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قيل: إنه فعل ذلك، ورُوي عن ابن عباس وغيره، وقيل: إنه لم يقدر على ذلك، لقوله تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «٢».
قالُوا أي: السحرة: لا ضَيْرَ أي: لا ضرر علينا في ذلك، فحذف خبر «لا»، إِنَّا إِلى رَبِّنا الذي عرفناه وواليناه مُنْقَلِبُونَ لا إليك، فيُكرم مثوانا ويُكفر خطايانا، أو: لا ضرر علينا فيما توعدتنا به إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت، فلأن يكون في ذاته وسبب دينه أولى، قال الورتجبي: لَمَّا عاينوا مشاهدة الحق سَهُلَ عليهم البلاء، لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه، بنعت الرضا والغفران. هـ. ولذلك قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أي: لأن كنا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من أهل المشهد، أو: من أَتْبَاعِ فرعون.
الإشارة: من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئاً إلا بإذنٍ من ملكهم، ولذلك أنكر فرعونُ على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم، فلا يفعلون فعلاً حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ، وللإذن سر كبير، لا يفهمه إلا من ذاق سره. وتقدم بقية الإشارة في سورة الأعراف «٣». والله تعالى أعلم.
(١) مِنْ الآية ١٠٩ من سورة الكهف.
(٢) الآية ٣٥ من سورة القصص.
(٣) راجع إشارة الآيات ١١٧- ١٢٦ من سورة الأعراف.
135
ثم ذكر خروج موسى عليه السلام من مصر وتوجهه إلى البحر، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٢ الى ٥٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
قلت: أسرى وسرى: لغتان، وقرئ بهما.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بقطع الهمزة ووصلها، أي: سر بِعِبادِي ليلاً. وسماهم عباده لإيمانهم بنبيهم، وذلك بعد إيمان السحرة بسنين، أقام بين أظهرهم، يدعوهم إلى الحق ويُظهر لهم الآيات، ثم أمره بالخروج، وقال: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: يتبعكم فرعونُ وجنوده مصبحين، فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر، فيدخلوا مداخلكم، فأُطبقه عليهم فأُغرقهم. رُوي أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوت القبط ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. ورُوي أن الله أوحى إلى موسى:
أن اجمع بنى إسرائيل، كلّ أربعة ابيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن، فاضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة فلا تدخل بيتاً فيه دم، وسآمرها فتقتل أبكار القبط، وأخبزوا فطيراً فإنه أسرع لكم، ثم أَسْرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري. «١» هـ. وحكمة لطخ الدم ليتميز بيوت بني إسرائيل، فلا تقتل الملائكة فيها أحداً. عاملهم على قدر عقولهم، وإلا فالملك لا يخفى عليه ما أُمر به.
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بمسيرهم فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ جامعين للعساكر ليتبعهم، فلما اجتمعوا قال: إِنَّ هؤُلاءِ، يريد بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ طائفة قليلة قَلِيلُونَ، ذكرهم بالاسم الدالّ على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل، فيدل على أنّ كلّ حزب منهم قليل. أو: أراد بالقلة: الذلة، لا قلة العدد، أي: إنهم لذلتهم، لا يُبالي بهم، ولا يتوقع غلبتهم. قال ابن عرفة: شرذمة: تقليل لهم باعتبار الكيفية، وقليلون:
باعتبار الكمية، وإنما استقلّ قوم موسى- وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً- لكثرة مَن معه، فعن الضحاك: كانوا سبعة آلاف ألف، ورُوي أنه أرسل في أثرهم ألفَ ألف وخمسمائة ألف ملِك مُسوّر، مع كل ملِك ألفٌ، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه خرج فرعون في ألف ألف حصان، من سوى الإناث. هـ «٢».
(١) انظر تفسير الطبري (١٩/ ٧٦)، والدر المنثور (٥/ ١٥٨) والبغوي (٦/ ١١٣).
(٢) قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٣٣٦) بعد ذكره لبعض الأقوال فى تعيين عدد الذين خرجوا مع فرعون: والظاهر أن ذلك من مجازفات بنى إسرائيل، والله أعلم. والذي أخبر به القرآن هو النافع، ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته، لأنهم خرجوا بأجمعهم.
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي: فاعلون ما يغيظنا، وتضيق به صدورنا، وهو خروجهم من مصر، وحملهم حُلينا، وقتلهم أبكارنا، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي: ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرته وحسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن العجز. وقرئ: (حذرون) «١» بالمد والقصر، فالأول دال على تجد الحذر، والثاني على ثبوته.
قال تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ أي: خلقنا فيهم داعية الخروج وحملناهم عليه، مِنْ جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ وأنهار جارية، وَكُنُوزٍ أموال وافرة من ذهب وفضة، وسماها كنوزاً لأنهم لم يُنفقوا منها في طاعة الله تعالى شيئاً. وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي: منزل رفيع بَهيّ، وعن ابن عباس: المنابر.
كَذلِكَ أي: الأمر كذلك، أو: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج العجيب، فهو خبر، أو: مصدر تشبيهى لأخرجنا. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي: ملكناها إياهم، على طريقة تمليك مال الموروث للوارث لأنهم ملكوها من حين خروج أربابها عنها قبل أن يقبضوها. وعن الحسن: لما عبروا النهر رجعوا، وأخذوا ديارهم وأموالهم. هـ. قال ابن جزي: لم يذكر في التواريخ مُلك بني إسرائيل لمصر، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام، فتأويله على هذا: أورثناهم مثل ذلك بالشام. هـ. قلت: بل التحقيق أنهم ملكوا التصرف في مصر، ووصلت حكومتهم إليها، ولم يرجعوا إليها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينتصر نبيّ ولا وليّ إلا بعد أن يهاجر من وطنه سنة الله التي قد خَلَتْ مِن قَبْلُ، وَلَن تجد لسنة الله تبديلا، والنصرة مقرونة مع الذلة والقلة وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر معجزة فلق البحر وغرق فرعون، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٠ الى ٦٨]
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
(١) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي (حاذرون) بألف بعد الحاء. وقرأ الباقون بحذفها. انظر الإتحاف (٢/ ٣١٦).
137
يقول الحق جلّ جلاله: فَأَتْبَعُوهُمْ أي: فأتبع فرعونُ وقومُه بني إسرائيل، أي: لحقوا بهم، وقرئ بشد التاء، على الأصل، مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس، أي: طلوعها، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي:
تقابلا، بحيث يرى كلُّ فريقٍ صاحبَه، أي: بنو إسرائيل والقبط، قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي: قرب أن يلحقنا عدونا، وأمامنا البحر، قالَ موسى عليه السلام ثقة بوعد ربه: كَلَّا ارتدعوا عن سوء الظن بالله، فلن يُدرككم أبداً، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: سيهديني طريق النجاة منهم.
رُوِي أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي بموج مثل الجبال، فقال يُوشع عليه السلام: يا كليم الله، أين أُمرتَ، فقد غَشِيَنَا فرعونُ، والبحرُ أمامنا؟ قال عليه السّلام: هاهنا، فخاض يُوشع الماء، وضرب موسى بعصاه البحر، فكان ما كان، وقال الذي كان يكتم إيمانه: يا مكلم الله أين أُمرتَ؟ قال: هاهنا. فكبح فرسَه بلجامه، ثم أقحمه البحر، فرسب في الماء، وذهب القومُ يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع؟ فأوحى الله إليه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فضربه، فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه، لم يبتلَّ لِبْدُه ولا سَرْجه «١».
وقال محمد بن حمزة: لما انتهى موسى إلى البحر، دعا، فقال: يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكلّ شيء، والكائن بعد كلِّ شيء، اجعل لنا مخرجاً، فأوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر «٢»، وذلك قوله تعالى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ أي: القلزم، أو النيل، فَانْفَلَقَ أي: فضرب فانفلق وانشقَّ، فصار اثني عشر فرقاً، على عدد الأسباط. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي: جزء من الماء كَالطَّوْدِ: كالجبل المنطاد في السماء الْعَظِيمِ، وبين تلك الجبال من الماء مسالك، بأن صار الماء مكفوفاً كالجامد، وما بينها يَبَس، فدخل كل سبط في شعْبٍ منها.
وَأَزْلَفْنا أي: قَرَّبْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي: فرعون وقومه، حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ من الغرق بحفظ البحر على تلك الهيئة، حتى عبروه، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بإطباقه عليهم. قال النسفي: وفيه إبطالُ القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث، فإنهم اجتمعوا في الهلاك، على اختلاف طوالعهم. رُوي أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط فيقول: رويدكم، ليلحَق آخركم «٣». هـ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي: في جميع ما فصّل مما صدر عن موسى عليه السلام، وما ظهر على يديه من المعجزات القاهرة، وفيما فعل فرعونُ وقومه من الأفعال والأقوال، وما فُعل بهم من العذاب والنكال، لعبرة عظيمة، لا تكاد تُوصف، موجبة لأن يعتبر المعتبرون، ويقيسوا شأن النبي ﷺ بشأن موسى عليه السلام، وحال أنفسهم
(١) أخرجه الطبري (١٩/ ٨٠) عن ابن جريج. وذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ١١٥).
(٢) عزاه ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٣٣٦) لابن أبى حاتم، عن عبد الله بن سلام.
(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥/ ١٦٣- ٩٦٤) لابن عبد الحكم وعبد بن حميد، عن مجاهد.
138
بحال أولئك المهلكين، ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول، فيؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله، كي لا يحل بهم ما حلّ بأولئك، أو: إن فيما فُصل من القصة من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه، من غير أن يسمعها من أحد، لآية عظيمة دالة على ان ذلك بطريق الوحي الصادق، موجبة للإيمان بالله تعالى، وتصديق من جاء بها وطاعته.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: وما كان اكثر هؤلاء المكذبين الذين سمعوا قصصهم منه- عليه الصلاة والسلام- مؤمنين، فلم يقيسوا حاله ﷺ بحال موسى، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلَكين، ولم يتدبروا فى حكايته ﷺ لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد، مع كونه أمياً لا يقرأ، وكل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان، قطعاً لانهماكهم في الغفلة، فكان على هذا، زائدة، كما هو رأي سيبويه، فيكون كقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «١» وهو إخبار منه تعالى بعدم إيمانهم في المستقبل، أو: وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين بموسى عليه السلام، قال مقاتل: لم يؤمن من أهل مصر غير رجل وامرأتين حزقيل المؤمن من آل فرعون، وآسية امرأة فرعون، ومريم بنت ياموشى، التي دَلَّتْ على عظام يوسف. هـ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها: الانتقام من المكذبين، الرَّحِيمُ البالغ في الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعاجل عقوبتهم، أو: العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه. جعلنا الله من خاصتهم بمنِّه وكرمه، آمين.
الإشارة: قوله تعالى: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ: اعلم أن المعية تختلف باختلاف المقام، فالمعية، باعتبار عامة الخلق، تكون بالإحاطة والقهرية والعلم والإقتدار، وباعتبار الخاصة تكون بالحفظ والرعاية والنصر والمعونة. فمن تحقق أن الله معه بعلمه وحفظه ورعايته اكتفى بعلمه، وفوض الأمر إلى سيده، وكلما قوي التفويض والتسليم دلّ على رفع المقام، ولذلك فضَّل ما حكاه الحق تعالى عن حبيبه بقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «٢»، على ما حكى عن كليمه بزيادة قوله: سَيَهْدِينِ فتأمل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لما فيها من الرد على أهل الشرك تقبيحا لما عليه قريش والعرب، مع كونهم من ذريته، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٨٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
(١) من الآية ١٠٣ من سورة يوسف.
(٢) كما جاء فى الآية ٤٠ من سورة التوبة. [.....]
139
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على المشركين نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي: خبره العظيم الشأن، ولم يأمر في قصص هذه السورة بتلاوة قِصَّةٍ إلا في هذه تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمر التوحيد، الذي دلت عليه. إِذْ قالَ أي: وقت قوله لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي: أيُّ شيء تعبدون؟ وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عَبَدة الأصنام، لكنه سألهم ليُعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً، وجواب ما تَعْبُدُونَ: هو قولهم: أَصْناماً لأن السؤال وقع عن المعبود لا عن العبادة، فكان حق الجواب أن يقولوا: أصناماً، كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «١»، وكقوله تعالى: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ «٢». لكنهم أطنبوا فيه بإظهار العامل قصداً إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بعبادتها، فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي: فنقيم على عبادتها طول النهار. وإنما قالوا: فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. أو:
يراد به الدوام.
قالَ إبراهيمُ عليه السلام: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أي: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم، على حذف مضاف، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ إن عبدتموها، أَوْ يَضُرُّونَ أو يضرونكم إن تركتم عبادتها إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر؟ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ فاقتدينا بهم. اعترفوا بأن أصنامهم بمعزل عما ذكر من السمع، والمنفعة، والمضرة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أنهم لا سند لهم سوى التقليد الرديء.
قالَ إبراهيم: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أي: أنظرتم وأبصرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ حق الإبصار، أو حق العلم، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي: فاعلموا أنهم أعداء لي، لا أحبهم ولا يحبونني، أو: لو عبدتموهم لكانوا أعداء لي يوم القيامة، كقوله: سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «٣»، وقال الفراء: هو من المقلوب، أي: فإني عدو لهم، والعدو يجيء بمعنى الواحد والجماعة لأنه فَعُولٌ، كصبور. وفي قوله: عَدُوٌّ لِي، دون «لكم» زيادةُ نصحٍ، لكونه أدعى لهم إلى القبول، ولو قال: فإنهم عدو لكم، لم يكن بتلك المثابة، ولم يقبلوه، إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ: استثناء منقطع، أي: لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو
(١) من الآية ٢١٩ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٢٣ من سورة سبأ.
(٣) من الآية ٨٢ من سورة مريم.
140
حبيب لي. وأجاز الزَّجَّاجُ أن يكون متصلاً، على أن الضمير لكل معبود، وكان من آبائهم من عَبَد الله تعالى، وهم أيضاً كانوا يعبدون الله مع أصنامهم.
ثم وصف الربّ تعالى بقوله: الَّذِي خَلَقَنِي بالتكوين في القرار المكين، فَهُوَ يَهْدِينِ وحده إلى كل ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدين والدنيا، هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح، متجددة على الاستمرار، كما ينبئ عنه صيغة المضارع. وعبَّر بالاستقبال، مع سبق الهداية في الأزل لأن المراد ما ينشأ عنها، وهو الاهتداء لما هو الأهم والأفضل والأتم الأكمل، أو: والذي خلقني لأسباب خدمته فهو يهدين إلى آداب خُلَّتِهِ. ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، بخلاف الهداية والإطعام والسقي، فإنه يكون على سبيل المجاز من المخلوقين، ولذلك أكده بهو ليخصه به تعالى.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي لا غيره، أضاف الإطعام إلى مُولي الإنعام لأن الركون إلى الأسباب عادة الأنعام.
وَهو أيضاً الذي يَسْقِينِ أي: يرويني بمائه. وتكرير الموصول في المواضع الثلاثة للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى، مستقل في استيجاب الحكم. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ: عطف على يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، ونظم معهما في سلك الصلة بموصول واحد لأن الصحة والمرض من متبوعات الأكل والشرب في العادة، غالباً.
وقال في الحاشية: ثم ذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة وتستمر، وهو الغذاء والشراب، ولمَّا كان ذلك مبنياُ على غلبة إحدى الكيفيات على الآخر، بزيادة الغذاء أو نقصانه، فيحدث بعد ذلك مرض، ذكر نعمته بإزالة ما حدث من السقم. هـ. ونسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه تعالى لمراعاة حسن الأدب، كما قال الخضر عليه السلام: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها «١»، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما «٢».
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، ولم يقل: وإذا مت لأن الإماتة والإحياء من خصائصه تعالى. وأيضاً: الموت والإحياء من كمال الكمال لأنه الخروج من سجن الدنيا إلى السرور والهناء، أو: الخروج من دار البلاء والفناء إلى دار الهناء والبقاء. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي أي: في مغفرته لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، ذكره عليه السلام هضماً لنفسه، وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي، ويكونوا على حذر منها، وطلب مغفرته لما يفرط منهم. وقال أبو عثمان: أخرج سؤاله على حد الأدب، لم يحكم على ربه بالمغفرة، ولكنه طَمِعَ طَمَعَ العبيد في مواليهم، وإن لم يكونوا يستحقون عليهم شيئاً إذ العبد لا يستحق على مولاه شيئاً، وما يأتيه يأتيه من فضل مولاه. هـ.
(١) من الآية ٧٩ من سورة الكهف.
(٢) من الآية ٨٢ من سورة الكهف.
141
وقيل: أشار إلى قوله: إِنِّي سَقِيمٌ «١» فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «٢» وقوله في سارّة: «هي أختي» حذراً من الجبار.
وفيه نظر لأنها مع كونها معاريض، لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار، إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقالة الجارية بينه وبين قومه في أول أمره. وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، مع كونها إنما تُغفر في الدنيا لأن أثرها إنما يظهر يومئذٍ، ولأن في ذلك تهويلاً له، وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه، إن لم يغفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لك أيها العبد أن تكون إبراهيمياً حنيفياً، فتنبذ جميعَ الأرباب، وتعادي كل من يشغلك عن محبة الحبيب، من العشائر والأصحاب، وتقول لمن عكف على متابعة هواه، ولزم الحرص على جمع دنياه، هو ومن تقدمه: أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني لعبوديته، فهو يهدين إلى معرفته، والذي هو يطعمني طعم الإيمان واليقين والإحسان، ويسقيني من شراب خمرة العيان، وإذا مرضتُ بالذنوب فهو يشفين بالتوبة، أو: وإذا مرضت بشيء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها. أو:
إذا مرضت برؤية السِّوى، فهو يشفين بالغيبة عنه، والذي أطمع أن يطهرني من البقايا، ويجعلني من المقربين يوم الدين. وقال ذو النون رضي الله عنه: يطعمني طعام المعرفة، ويسقيني شراب المحبة، ثم قال:
شَرَابُ المَحَبَّةِ خَيْرُ الشَّرابْ وكُلُّ شرابٍ سواه سَرَابْ
وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه: إن لله شراباً، يقال له: شراب المحبة، ادخره لأفاضل عباده، فإذا شربوا سكروا، وإذا سكروا طاشوا، وإذا طاشوا طاروا، وإذا طاروا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. هـ. قلت: شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة فى الله، بدليل قول ابن الفارض رضي الله عنه:
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيكَ صورتي.
وقال الجنيد رضي الله عنه: يُحشر الناس يوم القيامةِ عراة، إلا من لبس ثياب التقوى، وجياعاً إلا من أكل طعام المعرفة، وعطاشاً إلا من شرب شراب المحبة. هـ. وقد يستغني صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين، كما قال صلى الله عليه وسلم، حين كان يواصل: «إني أبَيتُ عند ربي يُطعمني ويسقين» «٣».
قال أبو بكر الوراق في قوله تعالى: الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي: يُطعمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب. قال: ويدل عليه حديث السَّقَّاء في عهد النبي ﷺ حيث سمع النبي ﷺ يقرأ ثلاثة أيام: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، فرمى بِقِرْبَتِهِ، فأتاه آتٍ في منامه بقدح من شراب الجنة، فسقاه، قال أنس:
فعاش بعد ذلك نيفا وعشرين سنة، لم يأكل ولم يشرب على شهوة. هـ.
(١) من الآية ٨٩ من سورة الصافات.
(٢) من الآية ٦٣ من سورة الأنبياء.
(٣) أخرجه البخاري فى (الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، ح ١٩٦٥) ومسلم فى (الصيام، باب النهى عن الوصال فى الصوم، ٢/ ٧٧٤، ح ١١٠٣) من حديث أبى هريرة، بدون لفظ «عند ربى» وجاء هذا اللفظ فى رواية عند الإمام أحمد فى المسند (٢/ ٢٥٣).
142
وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة، فأدخله الحجاج بيتاً، وأغلق عليه بابه، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوماً، ولم يشك أنه مات، فوجده قائماً يُصلي، فقال: يا فاسق، تصلي بغير وضوء؟ فقال: إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها. هـ. ومكث سفيان الثوري بمكة دهراً، وكان يَسفُّ من السبت إلى السبت كفاً من الرمل. هـ. وهذا من باب الكرامة، فلا يجب طردها، وقد تكون بالرياضة، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دعاء إبراهيم عليه السّلام، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن خليله إبراهيم عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي: حكمة، أو حُكماً بين الناس، أو نبوة لأن النبي ذو حُكم بين عباد الله. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي: الأنبياء، الذين صلحوا لحمل أعباء النبوة والرسالة، وصلحت سرائرهم للحضرة، ولقد أجابه بقوله: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي: ثناءً حسناً، وذكراً جميلاً في الأمم التي تجيء بعدي، فأُعطي ذلك، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه، ووضَعَ اللسانَ موضعَ القول لأن القول يكون به. أو: واجعلني على طريق قويم، وحال مُرضي، يُقتدى بي فيهما، ويُحمد أثري بعد موتي، كما قيل:
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ.
وقد تحقق له جميع ذلك، وخصوصاً في هذه الأمة، حتى أنه مذكور ومقرون في كل صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: سأل أن يجعله صالحاً، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن كاذباً. وقيل: سأل الإمامة في التوحيد والدين، وقد أجيب بقوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «١» هـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي: اجعلني وارثاً من ورثة جنة النعيم، أي: الباقين فيها، وَاغْفِرْ لِأَبِي، أي: اجعله أهلاً للمغفرة، بإعطاء الإسلام إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ: الكافرين، أو: اغفر له على حاله.
(١) من الآية ١٢٤ من سورة البقرة.
143
وكان قبل النهي. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي: لا تُهنِّي يوم يبعثون. الضمير للعباد لأنه معلوم، أو: للضالين، أي: لا تخزني في أبي يوم البعث، وهذا من جملة الاستغفار لأبيه، وكان قبل النهي عنه، أي: لا تُهِنِّي، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، أي: لا ينفع فيه مال، وإن كان مصروفاً في وجوه البر، ولا بنون، وإن كانوا صُلحاء متأهلين للشفاعة، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الكفر والنفاق فإنه ينفعه ماله المصروف في طاعة الله، ويشفع فيه بنوه، إن تأهلوا للشفاعة، بأن أَدَّبَهُمْ ودرَّجهم إلى اكتساب الكمالات والفضائل.
وقال ابنُ المسيَبِ: القلب السليم هو قلب المؤمن فإن قلب الكافر والمنافق مريض قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «١». وقال أبو عثمان: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن على السنة. وقال الحسن بن الفضل: سليم من آفات المال والبنين، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد استعمل إبراهيم عليه السلام الأدب، الذي هو عمدة الصوفية، حيث قدّم الثناء قبل الطلب، وهو مأخوذ من ترتيب فاتحة الكتاب. وقوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً: قال القشيري: أي: على نفسي أولاً، فإن من لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بالقيام بحقك، دون الرجوع إلى طلب الاستقلال لنفسي دون حقك. هـ.
ومما اصطلحت عليه الصوفية أن الصالحين: من صلحت ظواهرهم، وتطهرت قلوبهم من الأمراض. وفوقهم الأولياء، وهم من كُشف عنهم الحجاب، وأفضوا إلى الشهود والعيان، وفوقهم درجة النبوة والرسالة، فقول الخليل وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وكذلك قال الصدِّيق، هو تنزل وتواضع ليعرف جلالة قدر الصالحين، فما بالك بمن فوقهم! فهو كقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المسَاكين» «٢». أي:
اجعل المساكين هم قرابتي، المحدقون بي في المحشر، فقد عَرَّف ﷺ بفضيلة المساكين، وعظَّم جاههم، بطلبه أن يكونوا في كفالته، لا أنه في كفالتهم، وكذلك الخليل والصدِّيق، عَرَّفا بفضيلة الصالحين من أهل الإسلام، لأ أنهما طلبا اللحوق بهم.
وقوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ كل من اخلص وجهه لله، وتخلصت سريرته مما سوى الله، وكان إبراهيمياً حنيفياً، جعل الله له لسان صدق فيمن يأتي بعده، وحسن الثناء عليه في حياته وبعد مماته، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريلُ: إنَّ اللهَ يُحب فلاناً فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبريل، ثم ينادي جبريل
(١) من الآية ١٠ من سورة البقرة.
(٢) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، ٤/ ٤٩٩، ح ٢٣٥٢)، والبيهقي فى الكبرى (٧/ ١٢) من حديث أنس بن مالك، وأخرجه ابن ماجة فى (الزهد، باب مجالسة الفقراء، ٢/ ١٣٨١- ١٣٨٢، ح ٤١٢٦) والحاكم فى المستدرك (٤/ ٣٢٢)، وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث أبي سعيد الخدري.
144
في أهل السموات: إن الله يحب فلاناً فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السَّمَاءِ، ثم يُوضَع له القَبولُ في الأرض» «١». أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي.. إلخ. قال القشيري: هذا عند العلماء: إنما قاله قبل يأسه من إيمانه، وعن أهل الإشارة: ذكر في وقت غَلَبَةِ البَسْط، وتجاوز ذلك عنه، وليس إجابةُ العبد واجبةً عليه في كل شيء، وأكثر ما فيه:
أنه لا يجيبه في ذلك، ثم لهم أسوة في ذكر أمثال هذا الخطاب، وهذا لا يهتدي إليه كلُّ أحدٍ. هـ.
قال المحشي: وينظر لما قاله العلماء، وبه الفتوى، قوله: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «٢»، وينظر للسان الإشارة شفاعته له يوم القيامة، وتكلمه فيه بقوله: (وأيُّ خِزْيٍ أعظم من كون أبي في النار..) الحديث، وكذا قوله: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «٣»، وجاء ذلك من استغراقه في بحر الرحمة، على سعة العلم، ومثله استغفار نبينا ﷺ لابن أُبَيّ، وصلاته عليه، وانظر الطيبي في آية: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً «٤». هـ.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، أظهر ما قيل في القلب السليم: أنه السالم من الشكوك والأوهام، والخواطر الردية، ومن الأمراض القلبية، ولا يتحقق له هذا إلا بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من الأوصاف البشرية، إلى الأوصاف الروحانية، ويحققه بالحضرة القدسية، وإلا بقي مريضاً، حتى يلقى الله بقلب سقيم. وفي الإحياء: السعادة منوطة بسلامة القلب من عوارض الدنيا، والجودُ بالمال من عوارض الدنيا، فشرط القلب أن يكون سليماً بينهما، أي: لا يكون ملتفتاً إلى المال، ولا يكون حريصاً على إمساكه، ولا حريصاً على إنفاقه فإن الحريصَ على الإنفاق مصروفُ القلب إلى الإنفاق، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك. وكان كمال القلب أن يصفو من الوصفين جميعاً. وقال الداراني: القلب السليم هو الذي ليس فيه غير الله تعالى. هـ. وقال الجنيد رضي الله عنه: السليم في اللغة: اللديغ، فمعناه: كاللديغ من خوف الله تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر هول ذلك اليوم، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ١٠٤]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
(١) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب المقة «المحبة» من الله ح ٦٦٤٠) ومسلم فى (البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدا حبّبه إلى عباده، ٤/ ٢٠٣٠، ح ٢٦٣٧) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) من الآية ١١٤ من سورة التوبة.
(٣) من الآية ٣٦ من سورة إبراهيم. [.....]
(٤) من الآية ٧ من سورة غافر.
145
قلت: (وأُزلفت) : عطف على (ينفع)، وصيغة الماضي فيها وفيما بعدها لتحقق الوقوع.
يقول الحق جلّ جلاله، في شأن اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون: وَأُزْلِفَتِ أي: قُّربت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، أي: تزلف من موقف السعداء، فينظرون إليها، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ: أُظهرت، حتى يكاد يأخذهم لهبها، لِلْغاوِينَ: للكافرين، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم، أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم، يوبّخون على إشراكهم، فيقال لهم: أين آلهتكم التي عبدتموها، هل ينفعونكم اليوم بنصرتهم لكم؟ أو: هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لها؟ كلا، بل هم وآلهتهم وَقُودُ النار، كما قال تعالى:
فَكُبْكِبُوا فِيها أي: أُلقوا في الجحيم على وجوههم، مرة بعد أخرى، إلى أن يستقروا في قعرها. وفي القاموس: كبّه: قَلَبَهُ وصرعه، كأكبه وكبكبه. هـ. أي: صُرِعُوا منكبين في الجحيم على وجوههم، هُمْ أي:
آلهتهم وَالْغاوُونَ أي: الذين كانوا يعبدونهم.
وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم مُؤَخِّرُونَ عنها في الكبكبة ليشاهدوا سوء حالها، فيزدادوا غماً على غم، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أي: يكبكبون معهم أَجْمَعُونَ، وهم شياطينه الذين كانوا يقوونهم ويوسوسونهم، ويُسَوِّلُونَ لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام، وسائر فنون الكفر والمعاصي، أو: متبعوه من عصاة الجن والإنس ليجتمعوا في العذاب، حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه.
قالُوا أي: العبدة وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ أي: قالوا معترفين بخطائهم في انهماكهم في الضلالة متحسرين، والحال: أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين، فيجوز أن يُنطق الله الأصنامَ، حتى يصح منها التخاصم والتقاول، ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين.
قالوا: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: إن الشأن كنا في ضلال واضح، لا خفاء فيه، إِذْ نُسَوِّيكُمْ نَعْدِلُكُم بِرَبِّ الْعالَمِينَ فنعبدُكم معه، أي: تالله لقد كنا في ضلال فاحش وقت تسْويتنا إياكم أيها الأصنام، في استحقاق العبادة، برب العالمين، الذي أنتم أدنى مخلوقاته، وأذلهم وأعجزهم، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي:
146
رؤساؤهم، الذين أضلوهم، وإبليس وجنوده، ومن سنَّ الشرك. وليس المراد قصر الإضلال على المجرمين دون من عداهم، بل قصر ضلالهم على كونه بسبب إضلالهم، من غير أن يستقلوا به، وهذا كقولهم: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «١». وعن السُّدِّي: هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وأيّا ما كان ففيه التعريض للذين قالوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ.
ثم قالوا: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- وغيرهم ممن أُهِّلَ للشفاعة. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ كما لهم أصدقاء إذ لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما الكفار فبينهم التعادي كما يأتي في الآية. أو: ما لنا من شافعين، ولا صديق من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس، فلم ينفعهم شيء من ذلك. وجمع الشفعاء ووحّد الصديق لكثرة الشفعاء. وأما الصديق، وهو الصادق في ودادك، الذي يهمه ما أهمك، ويسره ما أسرك، فقليل، وسئل حكيم عن الصديق، فقال: (اسم لا معنى له)، أي: لا وجود له، والبركة لا تنقطع.
قال القشيري: في الخبر: يجيء يوم القيامة عَبْدٌ فيُحاسَبُ، فتستوي حسناتُه وسيئاته، ويحتاج إلى حسنة واحدة يرْضى عنه خصومه، فيقول الله سبحانه له: عبدى بقيت لك حسنةٌ، إن كانت أدخلناك الجنةََ، انْظُرْ، وتَطَلَّبْ من الناس لعلَّ أحداً يهبها لَكَ. فيأتي الصفين، فيطلب من أبيه، ثم من أمه، ثم من أصحابه، فلا يجيبه أحدٌ إلا بقوله:
أنا اليومَ فقيرٌ إلى حسنةٍ واحدة، فيرجع إلى مكانه، فيسأله الحقُّ- سبحانه: ما جئتَ به؟ فيقول: يا ربِّ لم يُعْطِني أحد حسنةً، فيقول الله تعالى: عبدي.. ألم يكن لك صديق؟ فيتذكر العبدُ، ويقول: فلان كان صديقاً لي فيك، فيأتيه ويدله الحق عليه، فيكلِّمه، فيقول: بل لي عباداتٌ كثيرة، فإن قَبِلَها الله مني فقد وهبتُها لك، فيُسَرُّ ويجيء إلى موضعه، فيخبر بذلك ربَّه تعالى، فيقول: قد قَبِلتُها منه، ولم أنقص من حقِّه شيئاً، وقد غفرت لك وله- فهذا معناه. هـ. ونقل القرطبي عن الحسن قال: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة، إلا شفَّعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفعون. هـ.
ثم قالوا: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي: رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وجواب لو التَّمْنِيَةِ: محذوف، أي: لفعلنا كيت وكيت إذ «لو»، في مثل هذا، للتمني، أي: فليت لنا كرة فنكون من المؤمنين.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما ذكر من الأنباء العجيبة كقصة إبراهيم مع قومه، وما ترتب على ذلك من الوعد والوعيد، لَآيَةً عظيمة، موجبة للزجر عن عبادة الأصنام، لا سيما لأهل مكة، الذين يدَّعون أنهم على ملة
(١) من الآية ٦٧ من سورة الأحزاب.
147
إبراهيم عليه السلام، أو: إن في ذكر نبأه، وتلاوته عليهم، على ما هو عليه، من غير أن تسمعه من أحد، لآية عظيمة دالة على أن مانتلوه عليهم وحْيٌ صادق، نازل من جهته تعالى، موجبة للإيمان به، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: وما أكثر هؤلاء، الذين تتلو عليهم هذه الأنباء، مؤمنين، بل هم مُصِرُّون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. ولا يحسن رجوعه لقوم إبراهيم، على أن كانَ أصلية لأنه لم يؤمن من قومه إلا لوط فقط.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي: هو القادر على تعجيل العقوبة لقومك، ولكنه يمهلهم بحلمه ورحمته ليؤمن بعض منهم أو من ذريتهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: وأُزلفت جنة المعارف للمتقين السِّوى، وبرزت جحيم القطيعة للغاوين، المتبعين الهوى. وفي الحِكَم:
«لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك» وقيل لأهل الهوى: أين ما كنتم تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله، من الحاملين لكم على البقاء مع الحظوظ والشهوات، هل ينصروكم أو ينتصرون؟ فكُبكبوا في الحضيض الأسفل، هم والغاوون لهم، الذين منعوهم من الدخول في حضرة الأولياء، وجنود إبليس أجمعون. قالوا- وهم في غم الحجاب ونار القطيعة يختصمون-: تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين في المحبة والميل، وما أضلنا إلا المجرمون، الذين حكموا بقطع التربية على الدوام، وسدوا الباب في وجوه الرجال، فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم، يشفع لنا حتى نلتحق بالمقربين. هيهات لا يكون اللحوق بهم إلا بالدخول معهم، في مقام المجاهدة في دار الدنيا، ثم يتمنون الرجوع ليُصدِّقوا بهم، وينخرطوا في سلكهم، فلا يجدون له سبيلا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١٢٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
148
قلت: اسم الجمع واسم الجنس يُذكر ويُؤنث، كقوم، ورهط، وشجر.
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ، وهو نوح بن لامَك. قيل: وُلد في زمن آدم عليه السلام، قاله النسفي، وإنما قال: الْمُرْسَلِينَ، والمراد: نوح فقط لأنَّ مَن كذَّب واحداً من الرسل فقد كذّب الجميع، لاتفاقهم في الدعوة إلى الإيمان لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل. وقد يُراد بالجمع: الواحد كقولك: فلان يركب الخيل، ويلبس البرود، وما له إلا فرس واحد وبُرد واحد.
إِذْ قالَ لَهُمْ: ظرف للتكذيب، أي: كذبوه وقت قوله لهم أَخُوهُمْ نُوحٌ نسباً، لا ديناً، وقيل: أخوة المجانسة، كما في آية: بِلِسانِ قَوْمِهِ «١» : أَلا تَتَّقُونَ خالق الأنام، فتتركوا عبادة الأصنام، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، كان مشهوراً بالأمانة عندهم، كحال نبينا ﷺ في قريش، ما كانوا يُسمونه إلا محمداً الأمين. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الإيمان.
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على ما أنا مُتصدٍ له من الدعاء والنصح، مِنْ أَجْرٍ أصلاً إِنْ أَجْرِيَ فيما أتولاه إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ لا أطمع في غيره، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزيهه عليه السلام عن الطمع، كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على أمانته. والتكرير للتأكيد، والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة، فكيف إذا اجتمعا؟ كأنه قال: إذا عرفتم رسالتي وأمانتي فاتقوا الله وأطيعون.
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ والحالة أنه قد تبعك الْأَرْذَلُونَ أي: الأرذلون جاهاً ومالاً، والرذالة: الدناءة والخسة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم، وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل: كانوا من أهل الصناعة الدنيئة، قيل:
كانوا حاكة وأساكفة- جمع إسكاف- وهو الخَفَّافُ- أي: الخراز، وقيل: النجار. والصناعة لا تزري بالديانة، فالغنى غنى القلوب، والنسب نسب التقوى، والعز عز العلم بالله لا غير، ومرادهم بذلك: أنه لا مزية لك في اتباعهم إذ
(١) الآية ٤ من سورة إبراهيم.
149
ليس لهم رزانة عقل، ولا إصابة رأي، وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي. وهذا من كمال سخافة عقولهم، وقصر نظرهم على حطام الدنيا حتى اعتقدوا أن الأشرف مَنْ جَمَعَهَا، والأرذل مَنْ حُرمَها. وقد جهلوا بأنها لا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ، وأن النعيم هو نعيم الآخرة، والأشرف مَنْ فازَ بِه، وسكن في جوار الله، والأرذل من حُرم ذلك.
قال القشيري: ذكر ما لَقِيَ من قومه، وقوله: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، وكذلك أتباع الرسل، إنما هم الأضعفون، لكنهم- في حُكم الله- هم المقدّمون الأكرمون، قال صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بضعفائكم» «١»، إلخ كلامه.
قالَ وَما عِلْمِي أي: وأيّ شيء علمي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصناعات، إنما أطلب منهم الإيمان.
وقيل: إنهم طعنوا في إيمانهم، وقالوا: لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما اتبعوك طمعاً في العدة والمال، أي: وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر، دون التنقير على بواطنهم، والشق عن قلوبهم، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي أي:
ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كيفياتها إلا على ربي فإنه المطلع على السرائر، لَوْ تَشْعُرُونَ بشيء من الأشياء، أو: لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك، ولكنكم كالبهائم أو أضل.
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليس من شأني أن أتبع شهواتكم، فأطرد المؤمنين طمعاً في إيمانكم، وهو جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك، حيث جعلوا اتباعهم له مانعاً عنه، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وما علي إلا أن أُنذركم إنذاراً بيّناً بالبرهان القاطع، وأنتم أعلم بشأنكم، أي: وما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين، سواء كانوا أعزاء أو أراذل، فكيف يمكنني طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المقتولين بالحجارة. قالوه في آخر أمره.
قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ تمادوا على تكذيبي، وأصروا عليه، بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة، فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً، وليس هذا من قبيل الإخبار لأن الله لا يخفى عليه شيء، وإنما هو تضرع وابتهال، بدليل قوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي: احكم بيني وبينهم بما يستحقه كل واحد منا، وهذه حكاية إجمالية، قد فصلت في سورة نوح وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من شرهم، أو من شؤم عملهم.
(١) أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب من استعان بالضعفاء والصالحين فى الحرب ح ٢٨٩٦)، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، بلفظ: «هل تنصرون إلا بضعفائكم»، وأخرجه أحمد فى المسند (٥/ ١٩٨)، والترمذي فى (الجهاد، باب الاستفتاح بصعاليك المسلمين، ٤/ ١٧٩، ح ١٧٠٢)، وأبو داود فى (الجهاد، باب فى الانتصار برذل الخيل والضعفة ٣/ ٧٣، ح ٢٥٩٤)، من حديث أبى الدرداء، بلفظ: «ابغوني فى الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم».
قال المنذرى: ومعناه: أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصا لخلو قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا، وجعلوا همهم واحدا، فأجيب دعاؤهم، وربحت أعمالهم.
150
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ حسب دعائه فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء بهم وبما لا بد لهم منه. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي: بعد إنجائهم الْباقِينَ من قومه، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الممتنع القاهر بإهانة من جحد وأصر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: أخبر عن كل واحد من الأنبياء بقوله: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ليَعْلَمَ الكافةُ أنه من عَمِلَ له فلا ينبغي أن يطلب الأجر من غيره، ففي هذا تنبيهٌ للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء- أن يتأدبوا بآدابهم، وألاّ يطلبوا من الناس شيئاً في بث علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم، ومن ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكرها من الدين، يَعِظُ بها المسلمين، فلا بارك الله للمسلمين فيما يَسْمعون منه، ولا للعلماءِ أيضاً بركةٌ فيما منهم يأخذون، فيبيعون دينَهم بَعَرَضٍ يسيرٍ، ثم لا برضكة لهم فيه، إذ لا يتقربون به إلى الله، ولا ينتفعون به، ويحصلون على سخط من الله. هـ.
قلت: أما ما يأخذه العالم من الأحباس فلا يدخل في هذا إذ ليس فيه تكلف من أحد، وكذلك ما يأخذه الواعظ على وجه الزيارة والهدية، من غير استشراف نفسٍ ولا طمعٍ ولا تكلفٍ. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هود عليه السّلام، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
151
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، وهي قبيلة، ولذلك أنَّث الفعل، وفي الأصل: اسم رجل، هو أبو القبيلة. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نسباً، هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، وقد مر تفسيره، فَاتَّقُوا اللَّهَ في تكذيب الرسول الأمين، وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، وتصدير القصص بتكذيب الرسل والأمر بالطاعة للدلالة على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق، والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب، ويُبعده من العقاب، وأنَّ الأنبياء- عليهم السلام- مُجْمِعون على ذلك، وإن اختلفوا في فروع الشرائع، المختلفة باختلاف الأزمنة والأعصار، وأنهم منزهون عن المطامع الدنيئة، والأغراض الدنيوية بالكلية.
ثم وبَّخهم بقوله: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ: مكان مرتفع، ومنه: ريع الأرض لارتفاعها، وفيه لغتان: كسر الراء وفتحها. آيَةً علَماً للمارة، كانوا يصعدونه ويسخرون بمن يمر بهم. وقيل: كانوا يسافرون ولا يهتدون إلا بالنجوم، فبنوا على الطريق أعلاماً ليهتدوا بها عبثاً، وقيل: برج حمام، دليله: تَعْبَثُونَ أي: تلعبون ببنائها، أو: بمن يمر بهم على الأول، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ، مآخذ الماء، أو قصوراً مشيدة، أو حصوناً، وهو جمع مصنع، والمصنع: كل ما صنع وأتقن في بنيانه، لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي: راجين الخلود في الدنيا، عاملين عمل من يرجو ذلك، أو كأنكم تخلدون.
وَإِذا بَطَشْتُمْ بسوط او سيف، أو أخذتم أحداً لعقوبة بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ مسلطين، قاسية قلوبكم، بلا رأفة ولا رقة، ولا قصد تأديب، ولا نظراً للعواقب. والجبار الذي يضرب أو يقتل على الغضب. فَاتَّقُوا اللَّهَ في البطش، وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ من ألوان النعماء وأصناف الآلاء. ثم فصّلها بقوله: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ فإن التفصيل بعد الإجمال أدخل في القلب. وقرن البنين بالأنعام لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام بها.
وَجَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ: أنهار خلال الجنات، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن عصيتموني، أو: إن لم تقوموا بشكرها فإن كفران النعم مستتبع للعذاب، كما أن شكرها مستلزم لزيادتها، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «١».
(١) من الآية ٧ من سورة إبراهيم.
152
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فإنّا لن نرعوي عما نحن عليه، ولا نقبل كلامك ودعوتك، وعظت أو سكت. ولم يقل: أم لم تعظ لرؤوس الآي. إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بضم اللام «١»، أي:
ما هذا الذي نحن عليه من ألاَّ بعث ولا حساب، إلا عادة الأولين وطبيعتهم واعتقادهم، أو: ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة إلا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها، ولا شيء بعدها، أو: ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش، إلا عادة مَنْ قَبْلَنَا، فنحن نقتدي بهم، وما نُعَذَّبُ على ذلك. وبسكون اللام، أي: ما هذا الذي خوفتنا به إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي: اختلاقهم وكذبهم، أو: ما خَلْقُنا هذا إلا كخلْقهم، نحيا كما حيوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه من الأعمال.
فَكَذَّبُوهُ أي: أصروا على تكذيبه، فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب ذلك بريح صَرْصَرٍ، تقدم في الأعراف كيفيته «٢»، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي: قوم هود مُؤْمِنِينَ ما أسلم معه ثلاثمائة ألف...
وأهلك باقيهم. قاله المحشي الفاسي. وقيل: وما أَكْثَرُ قَوْمِكَ بمؤمنين بهذا، على أن كانَ: صلة. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه.
الإشارة: أنكر. هود عليه السلام على قومه أمرين مذمومين، وهما من صفة أهل البُعد عن الله الأول: التطاول في البنيان، والزيادة على الحاجة، وهي ما يُكن من البرد، ويقي من الحر، من غير تمويه ولا تزويق، والزيادةُ على الحاجة في البنيان من علامة الرغبة في الدنيا، وهو من شأن الجهال رعاء الشاه، كما في الحديث، وفي خبر آخر:
«إذا علا العبد البناء فوق ستة أذْرُعٍ ناداه ملك: إلى أين يا أفْسَقَ الفاسِقينَ؟» «٣».
والثاني: التجبر على عباد الله، والعنف معهم، من غير رحمة ولا رقة، وهو من قساوة القلب، والقلب القاسي بعيد من الله، وفي الخبر عن عيسى عليه السلام: (لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله، فتقسو قلوبكم فإن القلبَ القاسِيَ بعيدٌ من الله، ولكن لا تشعرون). وفي الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا تنظُرُوا إلى عيوب الناس كأنكم أربابٌ، وانظروا إلى عيوبكم كأنكم عَبِيدٌ، فإنما الناس مُبْتَلى ومُعَافىً، فارحموا أهل البلاء وسلوا الله العافية» «٤». وبالله التوفيق،
(١) قرأ بالضّمّ: نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وقرأ «خلق» بفتح الخاء وسكون اللام، ابن كثير وأبو جعفر وأبو عمرو، والكسائي.
راجع إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٣١٨).
(٢) راجع تفسير الآية ٧٢ من سورة الأعراف.
(٣) ذكره المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح ٢٨٠٣) بلفظ: «إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع، نودى يا أفسق الفاسقين إلى أين» ؟
وعزاه لابن أبى الدنيا موقوفا على عمارة بن عامر. وقال المنذرى: ورفعه بعضهم، ولا يصح. وانظر فتح الباري (١١/ ٩٢).
(٤) هذا بقية الخبر السابق عن سيدنا عيسى عليه السلام. وأخرجه مالك فى الموطأ (٢/ ٩٨٦) بلاغا. ولم أقف عليه حديثا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
153
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نسباً، صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى، فتوحدونه، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ: مشهور فيكم بالأمانة، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي: أتطمعون أن تتركوا فيما هاهنا من النعمة والتَّرَفُّهِ، آمنين من عقاب الله وعذابه، وأنتم على كفركم وشرككم، كلا، والله لنختبرنكم ببعث الرسول، فإن كفرتم عاجلتكم بالعقوبة.
ثم فسّر ما هم فيه من النعمة بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ هو داخل فيما قبله، وخصه بالذكر شرفاً له. أو: في جنات بلا نخل، طَلْعُها هَضِيمٌ، والطلع: عنقود التمر في أول نباته، باقياً في غلافه.
والهضيم: اللطيف اللين للطف الثمر، أو: لأن النخل أنثى وطلع الأنثى ألطف، أو: لنضجه، كأنه: قيل: ونخل قد
154
أرطب ثمره. قال ابن عباس: إذا أينع فهو هضيم. وقال أيضاً: هضيم: طيب، وقال الزجاج: هو الذي رطبه بغير نوى، أو: دَانٍ من الأرض، قريب التناول.
وَتَنْحِتُونَ أي: تنقبون مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ حال من الواو، أي: حاذقين، أو: ناشطين، أو: أقوياء، وقيل: أَشِرينَ بَطِرِينَ. قيل: كانوا في زمن الشتاء يسكنون الجبال، وفي زمن الربيع والصيف ينزلون بمواشيهم إلى الريف ومكان الخصب. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الكافرين المجاوزين الحدّ في الكفر والطغيان، أي: لا تنقادوا لأمرهم، ولا تتبعوا رأيهم، وهم الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالإسراف فى الكفر والمعاصي، وَلا يُصْلِحُونَ بالإيمان والطاعة. والمعنى: أن فسادهم خالص، لا يشوبه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الذين سحروا، حتى غَلَبَ على عقلهم السحر، ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعوى الرسالة، قالَ هذِهِ ناقَةٌ، قالها بعد ما أخرجها الله تعالى من الصخرة بدعائه عليه السلام، لَها شِرْبٌ نصيب من الماء، فلا تُزاحموها فيه، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لا تزاحمكم فيه. رُوي أنهم قالوا: نُريد ناقة عُشَرَاءَ، تخرج من هذه الصخرة، فتلد سَقْباً- والسقب: ولد الناقة- فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل عليه السلام: صَلِّ ركعتين، وسَلْ رَبَّك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة، ونتجت سقباً مثلها في العِظم، وصدرها ستون ذراعاً- أي: طولها- وإذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، وإذا كان يوم شربهم لا تشرب فيه.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بضرب، أو عقر، أو غير ذلك، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب، فَعَقَرُوها عَقَرَها «قَدَّار»، وأسند العقر إلى جميعهم لأنهم راضون به. رُوي أن عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين. وكانوا يدخلون على المرأة في خدرها، فيقولون: أترضين بعقر الناقة؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم، فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها خوفاً من نزول العذاب بهم، لا ندم توبة لأنهم طلبوا صالحاً ليقتلوه لَمَّا أيقنوا بالعذاب، وندموا حين لا ينفع الندم، وذلك حين مُعَايَنَةِ العذاب.
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي: صيحة جبريل، فتقطعت قلوبهم، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ: ميتين، صغيرهم وكبيرهم، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. رُوي أنه أسلم منهم ألفان وثلاثمائة رجل وامرأة. وقيل: كانوا أربعة آلاف، وقال كعب: كان قوم صالح اثني عشر ألفاً، من سوى النساء والذرية. ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. قاله القرطبي. قيل: في نفي الإيمان عن أكثرهم إيماءٌ إلى أنه لو آمن أكثرهم أو:
155
شطرهم لما أُخذوا بالعذاب، وأن قريشاً إنما عُصموا من تعجيل العذاب ببركة من آمن منهم. وعلى أن (كان) زائدةٌ يكون الضمير لقريش، كما تقدم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
الإشارة: قوله: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أنكر عليهم ركونهم إلى الدنيا وزخارفها الغرارة، واطمئنانهم إليها، وهو غرور وحمق إذ الدنيا كسحابة الصيف، تظل ساعة ثم ترتحل، فالدنيا عرض حائل، وظل آفل، فالكيِّس من أعرض عنها، وتوجه بكليته إلى مولاه، صبر قليلاً وربح كثيراً، والأحمق من وقع في شبكتها، حتى اختطفته منيته، وفي الحديث:
«الدُّنيا دَارُ مَن لا دَار لَه، وَمَالُ مَن لا مَالَ لَهُ، لَهَا يَجَمعُ مَن لاَ عَقل لَهُ، وعلَيها يُعَادى مَن لا علم عنده» «١».
ثم ذكر قصة لوط عليه السّلام فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ... إلخ، وهو ظاهر، ثم قال: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، أراد بالعالمين: الناس، أي: أتطؤون الناس مع كثرة الإناث، أو: أتطؤون أنتم من بين سائر العالمين الذكران، وتختصون بهذه الفاحشة وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ من الإناث. أو: ما خلق لكم لأجل
(١) تقدم تخريجه عند إشارة الآية ٧ من سورة الكهف.
156
استمتاعكم من الفروج، مِنْ أَزْواجِكُمْ، فَمِنْ للبيان، إن أريد ب «ما» : جنس الإناث، وهو الظاهر، وللتبعيض، إن أريد بها العضو المباح منهن، تعريضاً بأنهم يفعلون ذلك بنسائهم أيضاً، وفيه دليل تحريم أدبار الزوجات والمملوكات، ومن أجاز ذلك قد أخطأ خطأ عظيماً. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي: متعدون، والعادي: المتعدي في ظُلْمِهِ، المتجاوز فيه الحد، أي: أنتم قوم أحقَّاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة، التي لم يرتكبها أحد قبلكم، ولو من الحيوانات البهيمية.
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من بلدنا، أي: من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا، وطردناه من بلدنا. ولعلهم كانوا يُخرجون من أخرجوه على أسوأ حال.
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ من المبغضين غاية البغض، كأنه يقلي الفؤاد والكبد من شدته. والقِلَى: أَشَدُّ البغض، وهو أبلغ من أن يقول: لعملكم قالٍ، فقولك: فلان من العلماء، أبلغ من قولك: فلان عالم لأنك تشهد بأنه مساهم لهم في العلم. وفي الآية دليل على قبح معصية اللواط ولذلك أفتى مالك بقتل فاعلها.
ثم قال: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من عقوبة عملهم، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ يعني: بناته، ومن آمن معه، إِلَّا عَجُوزاً هي امرأته، وكانت راضية بذلك، والراضي بالمعصية في حكم العاصي، ولو لم يحضر. واستثناؤها من الأهل لأنها داخلة فيه- ولو لم تكن مؤمنة- لاشتراكها في الأهلية بحق الزواج. بقيت فِي الْغابِرِينَ في الباقين في العذاب، وهي صفة لها. والغابر في اللغة: الباقي، كأنه قيل: إلا عجوزاً غابرة، أي: مُقَدَّراً غبورها إذ الغبور لم يكن صفتها وقت نجاتهم.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي: أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي: مطراً غير معهود.
وعن قتادة: أمطر الله على شُذّاذ القوم، أي: الخارجين عن البلد- حجارة من السماء فأهلكهم، وقلب المدينة بمن فيها. وقيل: لم يرض بالقلب فقط حتى أتبعهم مطراً من حجارة، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي: قَبُحَ مَطَرُ المنذرين مطرهم، فالمخصوص محذوف. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، بل لم يؤمن به إلا بناته وناس قليلون. أو: ما كان أكثر قريش بمؤمنين بهذا، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، الرَّحِيمُ حيث لم يُعاجل بالعقوبة لمن استحقها.
الإشارة: من شناعة هذه المعصية حذر الصوفية من مخالطة الشبان، وكذلك النساء. وما أُولِعَ فقيرٌ بمخالطتهما فأفلح أبداً، إن سلم من الفاحشة اتُّهِمَ بها، ولا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف مواقف التهم. والنظر إلى محاسن النساء والشبان فتنة، وهي كالعقارب، الصغيرة تلدغ، والكبيرة تلدغ، فالسلامة البُعد عن ساحتهن، إلا على وجهٍ أباحته الشريعة، كالتعليم أو التذكير، مع غَضِّ البصر، أو حجابٍ بينه وبينهن، وبالله التوفيق.
157
ثم ذكر قصة شعيب- عليه السلام- فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٩١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ وهي: الغيضة التي تنبت الشجر، والمراد بها: غيضة بقرب مدين، يسكنها طائفة منهم، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وكان أجنبياً منهم، ولذلك قيل:
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل: أخوهم، بخلاف مدين فإنه منهم، ولذلك قال: أَخاهُمْ شُعَيْباً «١»، وقيل:
الأيكة: الشجر الملتف، وكان شجرهم المقل، وهو الدوم. قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين أصحاب الأيكة وأصحاب مدين. فأهلك الله أصحابَ الأيكة بالظُلة، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا. وقرئ:
«لَيْكَةِ» «٢» بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام، وإنما كتبت هنا وفي «ص» «٣» باللام اتباعاً للفظ.
(١) كما جاء فى الآية ٨٥ من سورة الأعراف، والآية ٨٤ من سورة هود، والآية ٣٦ من سورة العنكبوت.
(٢) قرأ نافع، وابن كثير وابن عامر، وأبو جعفر (ليكة) بلام مفتوحة، بلا ألف وصل قبلها، ولا همزة بعدها، وفتح تاء التأنيث. وقرأ الباقون بهمزة وصل وسكون اللام وبعدها همزة مفتوحة. انظر الإتحاف (٢/ ٣١٤).
(٣) فى قوله تعالى: وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ.. الآية ١٣ من سورة «ص».
158
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ الله، فتوحدوه ولا تُطففوا، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: التبليغ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَوْفُوا الْكَيْلَ أي: أتموه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي: حقوق الناس بالتطفيف، وَزِنُوا أشياءكم التي تبيعونها بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ السوي. والقسطاس- بضم القاف وكسرها: الميزان، فإن كان من القسط- وهو العدل، وجعلت العين مكررة- فوزنه: فُعْلاَس، وإلا فهو رباعي، ووزنه: فُعْلاَلٌ. وقيل: عجمي.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي: لا تنقصوا شيئاً من حقوقهم، أيّ حق كان، يقال: بخسه حقه: إذا انتقصه. وقيل: نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها. فالكيل على ثلاثة أقسام: واف، وزائد وناقص.
فأمر الحق تعالى بالوافي، ونهى عن الناقص، وسكت عن الزائد، فَتَرْكُهُ دَليلٌ على أنه إن فعله كان أحسن، وإن تركه فلا عليه. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ولا تبالغوا فيها بالإفساد، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع. وكانوا يفعلون ذلك فنهُوا عنه، يقال: عَثِيَ كفرح، وعثا يعثو، كنصر.
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَخلق الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي: الخلق الماضين، وهم من تقدمهم من الأمم، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، أدخل الواو بين الجملتين هنا لدلالةٍ على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة مبالغة في التكذيب، فتكذيبهم أقبح من ثمود، حيث تركه فدل على معنى واحد، وهو كونه مسحوراً، وقرره بكونه بشراً. ثم قالوا: وَإِنْ نَظُنُّكَ «إن» : مخففة، أي: وإنه، أي: الأمر والشأن لنظنك لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما تدعيه من النبوة.
ثم استعجلوا العذاب بقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي: قطعاً، جمع كِسْفة، وقرئ بالسكون. أي جزأ منه، والمراد بالسماء: إما السحاب، أو: السماء المظلة، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك الرسالة، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه.
قالَ شعيب عليه السلام: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي، وبما تستحقونه من العذاب، فينزله عليكم في وقته المقدّر له لا محالة، فَكَذَّبُوهُ أي: فتمادوا على تكذيبه، وأَصروا عليه فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ حسبما اقترحوه. وذلك بأن سلط عليهم الحر سبعة أيام بلياليها، فأخذ بأنفاسهم، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ولا شرب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة، وجدوا بها برداً ونسيماً، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً «١». وقيل: رفع لهم جبل، فاجتمعوا تحته، فوقع عليهم، وهو الظلة. وقيل: لما ساروا إلى
(١) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٩/ ١١٠) عن ابن عباس رضي الله عنه. وانظر تفسير ابن كثير (٣/ ٣٤٦- ٣٤٧). [.....]
159
السحابة صيح بهم فهلكوا. إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: في الشدة والهول، وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قيل: آمن بشعيب من القِسْمَيْنِ- مدين والأيكة- تسعمائة إنسان، أو: وما أكثر قريش بمؤمنين بهذا، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
هذا آخر القصص السبع التي أُوحيت إلى رسول الله ﷺ لصرفه- عليه الصلاة والسلام- عن الحرص على إسلام قومه ودفع تحسر فواته، تحقيقاً لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ.. «١»، إلخ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا... «٢»
الآية، فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر متجدد النزول، قد أتاهُم من جهته تعالى، بموجب رحمته الواسعة.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بعد ما سمعوها على التفصيل، قِصَّةً بعد قصةٍ، ليتدبروا فيها، ويعتبروا بما في كل واحدة من الدواعي إلى الإيمان، والزجر عن الكفر والطغيان، وبأن يتأملوا في شأن الآيات الكريمة، الناطقة بتلك القصص، على ما هي عليه، مع علمهم بأنه- عليه الصلاة والسلام- لم يسمع شيئاً من ذلك من أحدٍ أصلاً، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك، واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما أمر الله تعالى بوفاء المكيال، أمر بالوفاء في الأعمال، ووفاؤها: إتقانها وإخلاصها، وتخليصها من شوائب النقص، في الظاهر والباطن. وكما أمر بالعدل في الميزان الحسي بقوله: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، أمر بالعدل في الميزان المعنوي، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به، لا يُخرجه حتى يزنه بميزان الشرع، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان، أو غيَّره، وإن كان فيه ضررٌ بادَرَ إلى محوه من قلبه، قبل أن يصيرهما أو عزماً. فيعسر رده. وبالله التوفيق.
ثم ذكر شواهد حقيّة القرآن، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ٢٠٣]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)
(١) الآية ٣ من هذه السورة.
(٢) الآيتان ٥- ٦.
160
قلت: «آية» : خبر «كان»، و «أَنْ يعلمه» : اسمها، ومن قرأ «آية» بالرفع فآية اسمها، وإِنَّ... إلخ: خبر. أو:
«كان» : تامة، و «آية» : فاعل، و «أن يعلمه» : بدل منه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّهُ أي: القرآن المشتمل على القصص المتقدمة، وكأنه تعالى عاد إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم، أي: وإن القرآن الكريم لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: منزل من جهته. ووصفه تعالى بربوبية العالمين للإيذان بأن تنزيله من أحكام ربوبيته للعالمين ورأفته للكل.
نَزَلَ بِهِ أي: أنزله الرُّوحُ الْأَمِينُ أي: جبريل عليه السلام، لأنه أمين على الوحي الذي فيه روح القلوب، ومن قرأ بالتشديد: فالفاعل هو الله، والروح: مفعول به، أي: جعل الله تعالى الروح الأمين نازلاً به. والباء للتعدية، نزل به عَلى قَلْبِكَ، أي: حفظك وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا يُنْسَى، كقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «١».
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بما فيه من العقوبات الهائلة والمواعظ الزاجرة، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ بلغة قريش وجُرْهُم، فصيح بليغ، والباء: إما متعلق بمنذرين، أي: لتكون من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسان وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل- عليهم السلام- أو: بنزل، أي: نزله بلسان عربي لتُنذر به، لأنه لو نزل بلسان أعجمي لتجافوا عنه، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وهذا أحسن لعمومه أي: لتكون من جملة من أنذر قبلك، كنوح وإبراهيم وموسى، وغيرهم من الرسل، عربيين أو عجمين، وأشد الزواجر تأثيراً في قلوب المشركين: ما أنذره إبراهيم لانتمائهم إليه، وادعائهم أنهم على ملته.
وَإِنَّهُ أي: القرآن لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعني: أنه مذكور في سائر الكتب السماوية. وقيل: ثبت فيها معناه، فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل، بحسب تبدل الأعصار، من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات
(١) من الآية ٦ من سورة الأعلى.
161
والصفات مسطورة فيها، وكذا ما في تضاعيفه من المواعظ والقصص. قال النسفي: وفيه دليل على أنَّ القرآن إذا ترجم عنه بغير العربية بقي قرآناً، ففيه دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة. هـ. وهو حنفي المذهب، وأما مذهب مالك: فلا.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي: أغفلوا ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين حقاً، أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ، كعبد الله بن سلام، وغيره، لوجود ذكره في التوراة. قال تعالى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ «١». والمعنى: أَوَ لَمْ يكفهم دليلاً على كون القرآن من عند الله عَلِم أَحْبَارِ بني إسرائيل به، ومعرفتهم له، كما يعرفون أبناءهم لموافقته لما عندهم في كثير من القصص والأخبار، حتى إن سورة يوسف مذكورة في التوراة بمعنى واحد، وترتيب واحد، وما اختلف مع القرآن فيها إلا في كلمة واحدة:
«وجاءوا على قميصه بدم كذب» عندهم فى التوراة: وجاءوا على قميصه بدم جدي. وكذا سورة طه: جُلهَا في التوراة. وقد تقدم الحديث: «أوتيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» «٢». وقد فسر بعض علماء هذه الأمة القرآن العظيم كله بالكتب المتقدمة، ينقل في كل آية ما يوافقها من الكتب السماوية.
ثم قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ أي: ولو نزلناه كما هو بنظمه الرائق على بعض من لا يفهم العربية، ولا يقدر على التكلم بها، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قراءة صحيحة، خارقد للعادة، ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم، قال النسفي: والمعنى: إنّا أنزلنا هذا القرآنُ على رَجُل عربيٍّ مبين، ففهموه، وعرفوا فصاحته وأنّه معجز، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على البشارة بإنزاله، وصفته في كتبهم، وقد تضمّنت معانيه وقصصه، وصح بذلك أنها من عند الله، وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به، وسمّوه شعراً تارة، وسحراً أخرى. ولو نزلناه على بعض الأعاجم، الذي لا يحسن العربية، فضلاً أن يقدر على نظم مثله، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ هكذا معجزاً، لكفروا به، ولتمحّلوا لجحودهم عذراً، ولسموه: سحراً. هـ.
والأعجمين: جمع الأعجمي، فإن أفعل، إذا كان للتفضيل، يجمع جمع سلامة إذا لم يكن معناه للتفضيل كأحمر. وأصل الأعجمين: الأعجميين، فحذفت ياؤه، وقيل: جمع أعجم، فلا حذف.
كَذلِكَ سَلَكْناهُ أي: أدخلنا التكذيب والكفر، وهو مدلول قوله: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ: الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه. يعني: مثل هذا السَّلْكِ الغريب سلكناه فى
(١) من الآية ٥٣ من سورة القصص.
(٢) راجع صدر تفسير هذه السورة.
162
قلوبهم وقررناه فيها، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه، من التكذيب والإصرار عليه، وهو حجتنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد خيرها وشرها.
وقوله: لا يُؤْمِنُونَ: توضيح وتقرير لما قبله. ويجوز أن يكون حالاً، أي: سلكناه فيها غير مؤمنين به، أو:
مثل ذلك السلك البديع سلكناه، أي: أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، ففهموا معانيه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وأنه خارج عن القوة البشرية، من حَيْثُ النَّظْم المعجز والأخبار الغيبية. وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتاب على اتفاقه لما في أيديهم من الكتب السماوية. ومع ذلك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ، ولا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان، حين لا ينفعهم الإيمان، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجأة في الدنيا والآخرة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه، فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ مُؤَخَّرُون ساعة. قالوه تَحَسُّراً على ما فات من الإيمان، وتمنياً للإمهال لتلافي ما فرضوه.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا تطهر القلب من الأكدار والأغيار، وملئ بالمعارف والأسرار، كان مَهْبِطاً لوحي الإلهام ووحي الإعلام، ومحلاً لتنزل الملائكة الكرام، إذ كل ما أعطى للرسول كان لوارثه الحقيق منه شِرْبٌ ونصيب ليكون من الواعظين بلسان عربي مبين، يُفصح عن جواهر الحقائق، ويواقيت العلوم، وما ينطق به من العلوم يكون موافقاً لما في زُبُر الأولين، وإن كان أمياً لأن علوم الأذواق لا تختلف. أو لم يكن لهم آية على ولايته أن يعلمه علماء أهل فنه من المحققين.
وقال الورتجبي على هذه الآية: أخبر الله سبحانه أن قلب محمد صلى الله عليه وسلّم محل نزول كلامه الأزلي لأنه مصفى من جميع الحدثان، بتجلي مشاهدة الرحمن، فكان قلبه- عليه الصلاة والسلام- صَدَف لآلِئَ خطابِ الحق، يسْبَح في بحار الكرم، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة، وذلك سر عجيب وعلم غريب لأنه يجمع كلام الحق وما اتصل به، وكلامه لم ينفصل عنه، وكيف تفارق الصفات الذات، لكن أبقى في قلبه ظاهره وعلمه وسره، فجبريل- عليه السلام- في البين: واسطة لجهة الحرمة، وذكر ذلك بقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ... لأن القلب معدن الإلهام والوحي والكلام والرؤية والعرفان، به يحفظ الكلام. وفائدة ذلك: الإعلام بسر وجود الإنسان، وأنه ليس شيء يليق بالخطاب ونزول الأنباء إلا قلبه، وكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق، ولا يرى جمال الحق. قال أبو بكر بن طاهر: ما أنزله على جبريل جعله محلاً للإنذار، لا التحقيق، والحقيقة هو ما تلقفه من الحق، فلم يخبر عنه، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه. وما أنزله جبريل جعله للخلق، فقال: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بما نزل به جبريل على قلبك المتحقق،
163
فإنك متحقق بما كافحناك به، وخاطبناك على مقامٍ لو شاهدك فيه جبريل لاحترق. هـ. على تصحيف في النسخة.
وبالله التوفيق.
ثم هددهم بنزول العذاب، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٩]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨)
ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
يقول الحق جلّ جلاله توبيخاً لمن اقترح نزول العذاب، كقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «١» : أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ مع كونهم لا يطيقونه إذا نزل بهم؟ وتقديم الجار للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ هو كون المُسْتَعْجَلِ به عذابَه، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
أَفَرَأَيْتَ أي: أخبرني. ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال «أرأيت» في معنى أخبرني. والخطاب لكل من يسمع، أي: أخبرني أيها السامع: إِنْ مَتَّعْناهُمْ إن متعنا هؤلاء الكفرة سِنِينَ متطاولة بطول الأعمار وطيب المعاش، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب، ما أَغْنى عَنْهُمْ أي: أىّ شىء، أو أيُّ إغناء أغنى عنهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي: كونهم متمتعين ذلك التمتع المديد، أيُّ شيء أغنى في دفع العذاب، و (ما) : مصدرية، أو: ما كانوا يتمتعون به من متاع الحياة الدنيا، على أنها موصولة، حذف عائدها، وأيا ما كان فالاستفهام للإنكار والنفي. وقيل: (ما) : نافية، أي: لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب. والأول أرجح.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى المهلكةَ، إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ قد أنذروا أهلها لتقوم الحجة عليهم، ذِكْرى أي: تذكرة، وهو مصدر منذرون لأن أنذر وذكر متقاربان، كأنه قيل: لها مُذكرون تذكرة. أو مفعول له، أي: ينذرونهم لأجل التذكرة والموعظة، أو خبر، أي: هذه ذكرى، أو يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له، والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة، بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصون مثل عصيانهم، وَما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك قوماً غير ظالمين، أو قبل
(١) من الآية ٣٢ من سورة الأنفال.
إنذارهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم إذ لا يجب عليه تعالى شيء- كما تقرر من قاعدة أهل السنة- لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، وتحقيقاً لكمال عدله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله، في جانب أهل البطالة والغفلة: أفرأيت إن متعناهم سنين بالأموال والنساء والبنين، فاشتغلوا بجمع الأموال والدثور، وبناء الغرف وتشييد القصور، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من الموت، والرحيل من الأوطان، ومفارقة الأحباب والعشائر والإخوان، أيُّ شيء أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون به، من لذيذ المآكل والمشارب، ومفاخر الملابس والمراكب، هيهات هيهات، قد انقطعت اللذات، وفنيت الشهوات، وما بقي إلا الحسرات، فتأمل أيها العبد فيما مضى من عمرك، فما بقي في يدك منه إلا ما كان في طاعة مولاك، من ذكرٍ، أو تلاوةٍ، أو صلاةٍ، أو صيام، أو علم نافع، أو تعليم، أو فكرة، أو شهود، وما سوى ذلك بطالة وخسران، فالوقت الذي تصرفه في طاعة مولاك ذخائره موجودة، وكنوز مَذْخُورة، والوقت الذي تصرفه في هوى نفسك ضائع، تجد حسرته يوم القيامة، ففي الحديث: «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مضت لهم، لم يذكروا الله تعالى فيها» «١» قال يحيى بن معاذ: أشدُّ الناس عذاباً يومَ القيامة من اغتر بحياته والْتَذَّ بمراداته، وسكن إلى مألوفاته، والله تعالى يقول: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ... الآية. وعن ميمون بن مهران: أنه لقي الحسن في الطواف، وكان يتمنى لقاءه، فقال له: عِظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية، فقال: لقد وَعظت فأبلغت. وعن عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كان يقرؤها عند جلوسه ليحكم بين الناس. هـ. وبالله التوفيق.
ثم تمم قوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، بقوله:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٠ الى ٢١٣]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ بالقرآن، الشَّياطِينُ، رداً لما يزعمه الكفرة من أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق فيه، ببيان أنه نَزَلَ به الروح الأمين. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي: وما يصح وما يستقيم لهم ذلك، وَما يَسْتَطِيعُونَ إنزاله أصلاً، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي: عن استراقة السمع من الملائكة لَمَعْزُولُونَ لممنوعون بالشهب، أو: لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة في قبول الاستعداد لفيضان أنوار الحق، والانتعاش بأنوار العلوم الربانية والمعارف القدسية لأن نفوس الشياطين خبيثة
(١) أخرجه البيهقي فى الشعب (٥١٣) عن معاذ بن جبل، وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٧٧٠١) للطبرانى والبيهقي عن معاذ، وحسّنه.
ظلمانية شريرة، ليست مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه، من فنون الشرور، فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم، المنطوي على الحقائق الرائقة الغيبية، التي لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة الكرام- عليهم السلام؟.
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كما هو شأن الأنفس الخبيثة الشيطانية، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ، تهديد لغيره على سبيل التعريض، وتحريك له على زيادة الإخلاص، وتنبيه لسائر المكلفين على أن الإشراك بلغ من القبح والسوء، بحيث يُنهي عنه مَن لا يمكن صدوره منه، فكيف بمن عداه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وحي الإلهام الذي يتنزل على القلوب الصافية من الأغيار، كوحي الأحكام، ما تتنزل به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون لأنه ممنوعون من قلوب العارفين لِمَا احتفت به من الأنوار، وما صانها من الأسرار، أعني أنوار التوحيد وأسرار التفريد. وقال في لطائف المنن: إذا كان الحق تعالى حرس السماء من الشياطين بالشُهب، فقلوب أوليائه أولى بأن يحرسها من الأغيار. هـ. بالمعنى. فلا تدع مع الله إلها آخر، وهو ما سوى الله، فتكون من المعذبين بوساوس الشياطين والخواطر والشكوك لأن القلب إذا مال إلى غير الله سلط الله عليه الشيطان، فيكون ذلك القلب جراباً للشيطان، يحشو فيه ما يشاء. والعياذ بالله.
ثم أمر نبيه بالإنذار والتذكير، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٤ الى ٢٢٠]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَنْذِرْ يا محمد عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، إنما خصهم بالذكر لئلا يتكلوا على النسب، فَيَدَعُوا ما يجب عليهم، لأن من الواجبات ما لا يشفع فيها، بقوله في تارك الزكاة وقد استغاث به: «لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شيئاً»، وفي الغالِّ كذلك. وقيل: إنما خصهم لنفي التهمة إذ الإنسان يساهل قرابته، وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً إذ النجاة في اتباعه، لا في قربه منهم.
ولما نزلت صعد النبي ﷺ الصَّفا، ونادى الأقربَ فالأقرب، وقال: «يا بَني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بنى عبد مناف، يا عباسُ- عم النبي صلى الله عليه وسلم- يا صفيَّةُ- عمَّة النبي ﷺ لا أملك لكم من الله شيئاً» «١». وقال ابن عباس
(١) أخرجه بنحوه البخاري (تفسير سورة الشعراء، باب: وأنذر عشريتك الأقربين ح ٤٧٧١)، ومسلم فى (الإيمان، باب قوله تعالى:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، ١/ ١٩٢، ح ٣٤٨) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
166
رضي الله عنه: صعد النبي ﷺ الصَّفا، ونادى: «يا صباحَاه» : فاجتمع الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، إنْ أخبرتُكم أن خَيْلاً بسَفْح هذا الجَبَل، تريد أن تُغير عليكم، صدقتُموني؟ قالوا: نَعَمْ. قال: فإني نذير لكم بين يَدَيْ عَذَاب شديدٍ. فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ما جمعتنا إلا لهذا» ؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «١».
ثم قال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ أي: وألن جانبك وتواضعْ، وأصله: أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض الجناح مثلاً في التواضع ولين الجانب.
ويكون ذلك التواضع لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من قرابتك وغيرهم. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أي: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم، ومن أعمالهم من الشرك وغيره.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي: على الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته، فإنه يكفيك شر من يعاديك. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
للتهجد، وَيرى تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ في المصلين.
أتبع كونه رحيماً برسوله ما هو من أسباب الرحمة، وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل، من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المُتَهَجِّدِينَ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون. وقيل: معناه: ويراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، وتقلبك في الساجدين: تصرفه فيما بينهم، بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل:
أنه سأل أبا حنيفة: هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن؟ فقال: لا يحضرني، فتلا له هذه الآية. وقيل: تقلبه في أصلاب الرجال. وروى عنه ﷺ في الآية أنه قال: «من نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبياً» «٢».
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تقول، الْعَلِيمُ بما تنويه وتعمله. هَوَّنَ عليه مشاقّ العبادة، حيث أخبره برؤيته له، إذ لا مشقّة على من يعْلَم أنه يعمل بمرأى من مولاه، وهو كقوله في الحديث القدسي: «بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي». والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لمن أُهِّلَ للوعظ والتذكير أن يبدأ بالأقرب فالأقرب، ولو علم أنه لا ينتفع به إلا النزر القليل.
فمن تبعه على مذهبه فَلْيُلِنْ له جانبه وليتواضع له، ومن أعرض عنه واشتغل بهواه فليتبرأ من فعله، ولا ينساه من نصحه، ولذلك قال تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، ولم يقل: «منكم»، وهذا مذهب الجمهور،
(١) أخرجه البخاري فى الموضع السابق ذكره (ح ٤٧٧٠) و (تفسير سورة «تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وتب» )، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (١/ ١٩٣- ١٩٤ ح ٣٥٥).
(٢) انظر تفسير الطبري (١٩٠/ ١٢٣- ١٢٤) وتفسير البغوي (٦/ ١٣٤).
167
وأن الأخ إذا زلّ إنما يُبغض عمله فقط. وعن بعض الصحابة- وقد قيل له في أخيه، فقال: إنما أبغض عمله، وإلا فهو أخي، وذُكر مثل ذلك عن أبي الدرداء. وأن الأخ في الله لا يُبغض لزلته، ولا يترك لشيء من الأشياء، وإنما يبغض عمله، ووافقه على ذلك سلمان، وتابعهما عمر، وخالف في ذلك أبو ذر، فقال: إذا وقعت المخالفة، وانقلب عما كان عليه، فَأَبْغِضْهُ مِنْ حَيْثُ أحببتَهُ.
قال صاحب القوت: وأبو ذر صاحب شدائد وعزائم، وهذا من عزائمه وشدائده. هـ. وهذا في المؤمن بدليل قول أبي الدرداء: الأخ في الله لا يبغض لزلة. وأما الكافر فصريح آياته: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١»، ونحوها. وحديث ابن عمر وتبرئه من نفاة القدر- كما في مسلم- موجب للبراءة، وليس لكون حكم الأصول أشد من الفروع. وذكر في الإحياء تأكيد الإعراض عمن يتعدى أذاه لغيره بظلم، أو غصب، أو غيبة، أو نميمة، أو شهادة زور لأن المعصية شديدة فيما يرجع لأذى الخلق. هـ من الحاشية.
قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، قيل: التوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره، وهو الله وحده، والمتوكل من إذا دهمه أمرٌ لم يحاولْ دفعه عن نفسه بما هو معصية. وقال الجنيد رضي الله عنه: التوكل أن تقبل بالكلية على ربك، وتُعرض بالكلية عمن دونه فإنَّ حاجتك إنما هي إليه في الدارين. هـ.
قال القشيري: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ من أصحابك، ويقال: تقلبك في أصلاب آبائك من المسلمين، الذين عرفوا الله، فسجدوا له، دون من لم يعرفه. هـ. وفي القوت: قيل: وتقلبك في أصلاب الأنبياء- عليهم السلام، يقلبك في صلب نبي بعد نبي، حتى أخرجك من ذرية أسماعيل، وروينا معنى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحاصل: أنه من ذرية الأنبياء والمؤمنين الساجدين في الجملة، ولا يقتضي كل فرد من الأفراد. هـ.
ثم كمل قوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
(١) من الآية ٤ من سورة الممتحنة.
168
قلت: «أيَّ منقلب» : مفعول مطلق لينقلبون، والأصل: ينقلبون أيّ انقلاب، وليست «أيا» : مفعول «يعلم» لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وجملة: «ينقلبون» : مُعَلَّقٌ عنها العامل، فهى في محل نصب على قاعدة التعليق، فإنه في اللفظ دون المحل.
يقول الحق جلّ جلاله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي: أخبركم أيها المشركون عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، ودخل حرف الجار على «من» الاستفهامية لأنها ليست للاستفهام بالأصالة. ثم أخبرهم، فقال: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ: كثير الإفك، وهو الكذب، أَثِيمٍ كثير الإثم، وهم الكهنة والمتنبئة، كشق وسطيح ومسيلمة.
وحيث كانت حالة رسول الله ﷺ منزهة أن يحوم حولها شيء من ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه صلى الله عليه وسلم.
يُلْقُونَ السَّمْعَ وهم الشياطين، كانوا، قبل أن يُحجبوا بالرجم، يلقون أسْماعهم إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به، مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يُوحون به إلى أوليائهم. وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فيما يوحون به إليهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وفي الحديث: «إنهم يخلطون مع ما سمعوا مائة كذبةٍ» «١»، فلذلك يُخطئون ويصيبون، وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع، أي: المسموع من الملائكة. وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين، ثم يبلغون ما يسمعون منهم إلى الناس، وَأَكْثَرُهُمْ أي: الأفاكون كاذِبُونَ:
مفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. والأفّاك: الذي يكثر الإفك، ولا يدلّ على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلَّ من يصْدُق منهم فيما يحكيه عن الجِنَّةِ.
ولما ذكر الكهنة ذكر الشعراء وحالهم لينبه على بُعد كلامهم من كلام القرآن، فينتفي كونه كهانة وشعراً، كما قيل فيه، فقال: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: مبتدأ وخبر، أي: لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم، وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، ومدح من لا يستحق المدح، وهجاء من لا يستحق الهجو، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الْغاوُونَ، أي: السفهاء، أو الضالون عن طريق الرشد، الحائرون فيما يفعلون ويذرون، لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون، بخلاف غيرهم من أهل الرشد، المهتدون إلى طريق الحق، الثابتين عليه.
(١) أخرجه البخاري فى (الطب، باب الكهانة، ح ٥٧٦٢) وفى (التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، ح ٧٥٦١)، ومسلم فى (السلام، باب تحريم الكهانة، ٤/ ١٧٥٠، ح ٢٢٢٨)، عن السيدة عائشة، ولفظه: «... تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنىّ، فيقرها فى أذن وليّه، فيخلطون معها مائة كذبة».
169
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ أي: الشعراء فِي كُلِّ وادٍ من الكلام يَهِيمُونَ، أو: في كل فن من الإفك يتحدثون، أو: في كل لغو وباطل يخوضون. والهائم: الذاهب على وجهه لا مقصد له، وهو تمثيل لذهابهم في كل شِعْبٍ من القول، وهو استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، للقصد إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا تختص به رؤية راء دون الآخر، أي: ألم تر أن الشعراء في كل وادٍ من أودية القيل والقال، وفي كل شِعْبٍ من الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال، يهيمون.
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ من الأفاعيل، غير مبالين بما يستتبعه من اللوم، فكيف يتوهم أن ينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن تحوم حوله شائبةُ الاتصافِ بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة، والأخلاق الحميدة، مستقراً على المنهاج القويم، مستمراً على الصراط المستقيم، ناطقاً بكل أمر رشيد، داعياً إِلى صراط العزيز الحميد، مؤيداً بمعجزة قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون من الحِكَم الباهرة، وصنوف المعارف الزاخرة، مستقل بنظم رائق، أعجز كل مِنْطِيقٍ ماهر، وبكت كل مُفْلِقٍ ساحر.
هذا وقد قيل في تنزيهه ﷺ عن أن يكون من الشعراء: أن أتباع الشعراء الغاوون، وأتباع محمد ﷺ ليسوا كذلك، ولا ريب في أنَّ تعليل عدم كونه ﷺ منهم بكون أتباعه ﷺ غير غاوين مما لا يليق بشأنه العلي. هـ.
قاله أبو السعود.
ثم استثنى الشعراء المؤمنين، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كعبد الله بن رواحة، وحسّان، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك. وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي: كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا الشعر قالوا في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والأدب، ومدح الرسول ﷺ والأولياء.
وأحق الخلق بالهجاء من كَذَّبَ رسولَ الله ﷺ وهجاه. وعن كعب بن مالك: أن رسول ﷺ قال: «اهجهم، فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُو أشدُّ عَلَيْهِمْ مِن رَشْقِ النَّبْلِ» «١»، وكان يقول لحسّان: «قل، وروح القدس معك» «٢».
(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٣/ ٤٥٦، ٤٦٠)، والبيهقي فى السنن (١٠/ ٢٣٩)، وعبد الرزاق فى المصنف (كتاب الجامع، باب الشعر والرجز ١١/ ٢٦٣)، وصححه ابن حبّان (موارد الظمآن/ ٤٩٤) ولفظه: أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل فى الشعر ما أنزل، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسى بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل»، وأخرج مسلم فى (فضائل الصحابة، باب فضل حسان بن ثابت، ٤/ ١٩٣٥، ح ٢٤٩٠)، من حديث السيدة عائشة: «اهجوا قريشا فإنه أشدُّ عَلَيْهِمْ مِن رَشْقِ النبال».
(٢) أخرجه البخاري فى (المغازي، مرجع النبي محمد من الأحزاب، ح ١٢٣ ٤، ٤١٢٤). ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب فضائل حسان ابن ثابت رضي الله عنه، ٤/ ١٩٣٣، ح ٢٤٨٦). من حديث البراء بن عازب. ولفظه: «اهجهم، أو هاجهم، وجبريل معك». [.....]
170
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي: ردوا على المشركين، الذين هجوا النبي ﷺ والمؤمنين. وروي أنه لمّا نزلت الآية: جاء حسان، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، يبكون، فقالوا: يا رسول الله: أنزل الله تعالى هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء؟ فقال: «اقرءوا ما بعدها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. هم أنتم وانتصروا، هم أنتم» ».
ومرَّ عمر رضي الله عنه وحسان رضي الله عنه ينشد الشعر في المسجد، فَلَحَظَ إليه، فقال: كنتُ أُنْشِدُ فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أَنْشُدُكَ بالله، أسمعت النبي ﷺ يقول: «أجبْ عني، اللهم أيِّدْه بروح القدس» قال:
اللهم نعم «١».
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي مرجع يرجعون إليه، وهو تهديد شديد، ووعيد أكيد لما في سَيَعْلَمُ من تهويل متعلقة، وفي الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإطلاق والتعميم. وفي أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ من الإيهام والتهويل. وتلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنه حين عهد إليه، وكان السلف يتواعظون بها. والمعنى: سيعلم أهل الظلم ما تكون عاقبتهم، حين يقدمون عليَّ، وأيَّ منقلب ينقلبون، حين يفدون إليّ. اللهم ثبت أقدامنا على المنهاج القويم، حتى نلقاك يا أرحم الراحمين.
الإشارة: هل أنبئكم على قَلْبِ مَنْ تَنَزَّلَتْ الشياطينُ، وسكنت فيه، تنزل على قلب كل أفاك أثيم، خارب من النور، محشو بالوسواس والخواطر، يلقون السمع إلى هرج الدنيا وأخبارها، وهو سبب فتنتها فإن القلب إذا غاب عن أخبار الدنيا وأهلها، سكن فيه النور وتأنس بالله، وإذا سكن إلى أخبار الدنيا وأهلها سكنت فيه الظلمة، وتأنس بالخلق، وغاب عن الحق. ولذلك قيل: ينبغي للمؤمن أن يكون كالفكرون إذا كان وحده انبسط، وإذا رأى أحداً أدخل رأسه معه. وأكثر ما يسمع من هرج الدنيا كذب، وإليه الإشارة بقوله: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، ومن جملة ما يفسد القلب: تولهه بالشعر، وفي الحديث: «لأن يمتلئ جوفُ أحدِكُم قَيْحَاً خيرٌ له من أن يمتلئ شِعْراً» «٢». أو كما قال صلى الله عليه وسلم، إلا من كان شعره في توحيد الله، أو في الطريق، كالزهد في الدنيا، والترهيب من الركون إليها، والزجر عن الاغترار بزخارفها الغرارة، والافتنان بملاذها الفانية، وغير ذلك، أو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، والمشايخ الموصلين إليه تعالى، بشرط أن يكون الغالب عليه ذكر الله.
(١) أخرجه البخاري فى (الصلاة، باب الشعر فى المسجد ح ٤٥٣) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب فضائل حسان ٤/ ١٩٣٢- ١٩٣٣ ح ٢٤٨٥) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر الله، والعلم، والقرآن ح ٦١٥٥)، ومسلم فى (كتاب الشعر، ٤/ ١٧٦٩، ح ٢٢٥٧)، من حديث أبى هريرة.
171
وقوله تعالى: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا، أي: جاروا على نفوسهم بعد ما جارت عليهم، وقهروها بعد ما قَهَرَتْهُمْ. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال ابن عطاء: سيعلم المعرض عنا ما فاته منا. هـ.
وفي الحكم: «ماذا فقد مَن وجدك، وما الذي وجد من فَقَدَكَ؟ لقد خاب مَنْ رَضِي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك مُتحولاً، كيف يُرْجَى سِوَاك وأنت ما قَطَعْتَ الإحسانَ، أم كيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان؟» «١» وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (المناجاة/ ٤٢).
172
Icon