ﰡ
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢).
ظاهر هذا أن تفسير (حم) هو قوله: (تَنْزِيلٌ)، وحم خبر لمبتدأ محذوف مقدر (تَنْزِيلٌ) مبتدأ من: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)؛ وكذلك قوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، والأصل في حواميم وسائر الحروف المقطعة: أنها تبعث سامعها على التفكر والتأمل؛ لأنه لا يفهمها وقت قرعها السمع حتى يتأمل ويتفكر فيها؛ لأنها كلام لم يسمعوه قبل ذلك، فيحملهم ذلك على الاستماع والتفكر فيها والنظر، فيقع ما هو المقصود من الخطاب في سماعهم ويعرفوا وجه الإعجاز؛ فيتوصلوا بذلك إلى الحق، وقد ذكرنا في الحروف المقطعة وجوهًا أخر فيما تقدم.
ثم ذكر هاهنا رحمته ورأفته؛ ليرغبهم فيما يرحمهم ويرأف بهم، وهو قوله: (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وذكر في السورة الأولى عزه وقدرته وسلطانه وعلمه؛ ليحذروا مخالفته وعصيانه ظاهرا وباطنًا حيث قال: (حمَ. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، ليطلبوا العز من عنده.
وقوله: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)
قال أهل التأويل: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي: ثبت فيه من الحلال والحرام، وما لهم وما عليهم، وما يؤس وما يتقى ونحوه.
وعندنا يحتمل قوله: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) وجهين:
أحدهما: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي: فرقت كل آية من الأخرى، من نحو: آية التوحيد فرقت من آية الرسالة، وفرقت آية البعث من غيرها، فرق كل آية من الأخرى.
والثاني: يحتمل التفريق في الإنزال، أي: فرقت آياته في الإنزال، لم يجمع بينها في الإنزال، ولكن فرق في أوقات متباعدة.
وعندنا يحتمل قوله :﴿ فُصّلت آياته ﴾ وجهين :
أحدهما :﴿ فصّلت آياته ﴾ أي فُرّقت كل آية من الأخرى : من نحو آية التوحيد، فرّقت من آية الرسالة، وفُرّقت آية البعث من غيرها.
والثاني : يحتمل التفريق في الإنزال، أي فُرّقت آياته في الإنزال ؛ لم يجمع بينها في الإنزال، ولكن فرّقها٢ في أوقات متباعدة.
ويحتمل قوله :﴿ فصّلت آياته ﴾ بُيّنت على غير ما قاله أهل التأويل، وهو أن بُيّنت آياته بالحجج والبراهين حتى يُعلم أنها آيات من الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي أنزله بلسان يعلمونه، ويفهمونه، لا بلسان لا يعلمونه، ولا يفهمونه، أي أنزله بلسانهم.
ويحتمل ﴿ لقوم يعلمون ﴾ أي ينتفعون بعلمهم، أي [ جعل ]٣ إنزاله لقوم ينتفعون. فأما من لم ينتفع به فلم يجعل الإنزال به، والله أعلم.
وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه : قرآنا عربيا لقوم يعقلون.
٢ في الأصل وم: فرق..
٣ ساقطة من الأصل وم..
وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
أي: أنزله بلسان يعلمونه ويفهمونه لا بلسان لا يعلمونه ولا يفهمونه، أي: أنزله بلسانهم. ويحتمل (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: ينتفعون بعلمهم، أي: حصل إنزاله لقوم ينتفعون، فأما من لم ينتفع به، فلم يحصل إلا الإنزال له، واللَّه أعلم.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قرآنا عربيا لقوم يعقلون).
وقوله: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)
البشارة والنذارة هي بيان ما يكون في العاقبة من الخير والشر، أو يقال: البشارة هي الدعاء إلى ما يوجب لهم من الحسنات والخيرات في العاقبة، والنذارة هي الزجر عما يوجب لهم من السيئات والمكروهات في العاقبة، والنذارة هي الزجر؛ فصار معنى الآية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أرسل داعيًا إلى الحسنات وزاجرًا عن السيئات، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ).
يحتمل إعراضهم عنه وجهين:
أحدهما: أي: أعرضوا عن التفكر فيه والتأمل.
والثاني: أعرضوا عن اتباعه بعدما تأملوا فيه وتفكروا، وعرفوا أنه حق وأنه من الله تعالى، لكنهم تركوا اتباعه عنادًا منهم ومكابرة؛ حذرا عن ذهاب الرياسة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ).
أي: لا يجيبون على ما ذكرناه.
قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥)
لا شك أن قلوبهم على ما ذكروا أنها في أكنة وفي آذانهم وقر؛ لأنه ذكر - جل وعلا - أنه جعل على قلوبهبم أكنة وفي آذانهم وقرا؛ حيث قال تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)، على ما أخبروا أن قلوبهم في أكنة وغطاء، وفي آذانهم وقر، لا يفقهون ما يدعون إليه، ولا يسمعون ذلك وإن كانوا يفقهون غيره ويسمعون؛ لأنهم كذلك قالوا: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ).
وقوله: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ).
إن ثبت ما ذكر بعض أهل التأويل: أن ثوبًا فيما بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: كن أنت يا مُحَمَّد في جانب، ونكون نحن في جانب آخر، ونحوه من الكلام - فهو ذلك،
وقوله تعالى :﴿ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ إن ثبت ما ذكر بعض أهل التأويل أن ثوبا رفعوا في ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : كن أنت يا محمد في جانب، ونكون نحن في جانب آخر، ونحوه من الكلام، فهو ذلك، وإلا احتمل أن يكون قوله :﴿ ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ هو ما حجبتهم ظلمة الكفر، وغطّتم، عن فهم ما دعوا إليه وعلم ما دعاهم إليه محمد٣ صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : اعمل أنت بدينك فإننا عاملون بديننا كقوله تعالى :﴿ لكم دينكم ولي دين ﴾ [ الكافرون : ٦ ].
والثاني : فاعمل أنت في كيدنا فإنا عاملون [ في كيدكم والمكر بكم، والله أعلم.
[ ويحتمل أن يقولوا : اعمل أنت لإلهك فإننا عاملون ]٤، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: وغطاء..
٣ من م، في الأصل: وعلم..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله: (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)، هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: اعمل أنت بدينك فإنا عاملون بديننا؛ كقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
والثاني: فاعمل أنت في كيدنا فإنا عاملون في كيدكم والمكر بكم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يقولوا: اعمل أنت لإلهك فإنا عاملون لإلهنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦)
هذا الحرف يخرج على وجهين:
أحدهما: كأنه يقول لهم: إنما أنا بشر مثلكم أفهم وأعقل يُوحَى إِلَيَّ وأسمع ذلك، فأنتم في قولكم: إن قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر - لا عذر لكم في ذلك؛ لأنه إنما يحجبكم عن ذلك ويغطي قلوبكم عن فهم ذلك الكفرُ الذي أنتم عليه والضلال الذي أنتم فيه، فاتركوا ذلك حتى تفهموا وتعقلوا ما تدعون إليه وتؤمرون به، كما أفهم أنا وأعقل إذ أنا بشر، واللَّه أعلم.
والثاني: يقول: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)، أي: إنما أنا بشر مثلكم أمرت أن أبلغ إليكم أن إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه، وإلا لو لم أؤمر بتبليغ الرسالة إليكم إنما إلهكم إله واحد - لكنت أترككم وما أنتم عليه؛ لقولكم: إن قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر فاعمل إننا عاملون. على هذين الوجهين تأويل الآية، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فاستقيموا إليه بالطاعة.
وقيل: أي: استقيموا إلى ما دعاكم إليه من التوحيد.
وقوله: (وَاسْتَغْفِرُوهُ).
أي: انتهوا عما أنتم عليه من الكفر والضلال؛ ليغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر؛ كقوله تعالى: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
ويحتمل: أي: كونوا على حال بحيث يقبل استغفاركم وطلب تجاوزكم.
وقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ).
والإشكال: أنه لماذا خص المشرك الذي لم يؤتِ الزكاة، وينكر الآخرة -بالويل، وقد
ويحتمل قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (٧) هو لا على زكاة الأموال، ولكن على زكاة الأنفس؛ كأنه يقول: وويل للمشركين الذين لا يعلمون ولا يسمعون فيما به تركوا أنفسهم ويشرف ذكرها ويصلح أعمالهم به ولا ما يجزون به في الآخرة، أي: ويل لمن لا يعمل ذلك، واللَّه أعلم.
وهذان الوجهان جواب عمّن تعلق بظاهر هذه الآية على أن الكفار يخاطبون بالشرائع؛ حيث ألحق الوعيد بهم بترك إيتاء الزكاة، والزكاة من الشرائع، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
أي: غير مقطوع وذلك في الآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: غير ممتن عليهم، وذلك في الآخرة أيضًا، ومعناه - والله أعلم -: أنه يزاد لهم في الآخرة على قدر أعمالهم، ولا يمن عليهم في تلك الزيادة، وقال بعضهم: (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي: غير منقوص ولا ممنوع، وذلك - واللَّه أعلم - أن من كان يعمل في حال شبابه وقوته الصالحات والطاعات، ثم كبر وعجز عن إتيانها أنه لا يمنع ولا ينقص منه الأجر الذي كان مُجرى عليه ويكتب له في حال شبابه وقوته، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ
وقال بعضهم : أي غير محسوب. وقال بعضهم :﴿ غير ممنون ﴾ أي غير ممتنّ عليهم، وذلك في الآخرة أيضا، ومعناه، والله أعلم، أنه يُزاد لهم في الآخرة على قدر أعمالهم، ولا يُمنّ عليهم بتلك الزيادة.
وقال بعضهم :﴿ غير ممنون ﴾ أي غير منقوص ولا ممنوع. وذلك، والله أعلم، أن من كان يعمل في حال شبابه وقوته الصالحات والطاعات، ثم كبر، وعجِز عن إتيانها فإنه١ لا يُمنع، ولا ينقص منه الأجر الذي كان يجرى عليه، ويكتب له في حال شبابه وقوته، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩)
تأويل هذه الآية كما ذكرنا في قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ...) الآية، وهو يخرج على وجوه:
أحدها: كيف تنكرون وحدانيته وتكفرونه، وهو الذي أحياكم لا الأصنام التي تعبدونها؟!
والثاني: تنكرون قدرة اللَّه في البعث، وقد رأيتم قدرته في ابتدائه إنشاءكم وتقليبكم من حال إلى حال؟!
والثالث: كيف تكفرون رسوله وقد خلقكم اللَّه تعالى وامتحنكم بأنواع المحن، وكلفكم وأمركم بأوامر ونواهٍ ما لو لم يكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يمكنكم القيام بأكثرها وكان خلقه إياكم عبثًا؟! فعلى هذه الوجوه يخرج قوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الآية، أي: أئنكم لتكفرون وحدانية اللَّه تعالى وقد خلق الأرض في يومين وما ذكر.
والثاني: إنكم لتكفرون وتنكرون قدرته على البعث وقد خلق الأرض في يومين على بعد أطرافها وسعتها، فكيف تنكرون قدرته على البعث وقد رأيتم قدرته على خلق ما ذكر؟!
والثالث: أئنكم لتكفرون نعمة اللَّه التي أنعمها عليكم من خلق ما ذكر من الأرض وغيرها وما أنعم عليكم من بعث الرسول، فكيف تصرفون شكرها إلى الذي لم يفعل ذلك
أحدها: في إنكار وحدانية اللَّه وألوهيته.
والثاني: إنكار قدرته على البعث.
والثالث: في إنكارهم رسالة الرسول، وصرفهم شكر نعمه إلى غيره بعبادتهم غير اللَّه.
ثم الحكمة في خلق الأرض وجعله الحد الذي ذكر يومين، وإن كان قادرًا على خلق كل شيء بلا تحديد ولا توقيت - فقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه تعريفه الخلق والتعليم لهم الأناة -أي: التأني- في الأمور وترك الاستعجال فيها.
والأصل في ذلك عندنا: أن اللَّه - جل وعلا - جعل أمر الدنيا وأمر هذا العالم على التحديد والتقليب من حال إلى حال نحو ما ذكر من تقليبه وتغييره من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن حال العلقة إلى حال المضغة، ومن حال المضغة إلى حال تركيب الجوارح ثم إلى حال الإنسان، ثم من تلك الحال إلى أن يكبر يقلبه من حال إلى حال أخرى؛ وكذلك أمر الدنيا وما فيها من الفواكه والنبات وغير ذلك ينشئها ويحدثها في كل عام، وإن كان لو شاء أحدثها في عام واحد وأبقاها إلى آخر الأبد، لكن لم يفعل ذلك؛ لما بني أمر هذا العالم على الفناء والفساد؛ فيستدل بطريان هذه الأحوال عليها على أصل الوضع؛ ولذلك ركب فيهم المرض والسقم والسلامة والصحة، وبنى أمر الآخرة على البقاء والدوام؛ فعلى ذلك من التحديد والتوقيت في خلق الأرض.
ويحتمل أن يقال: جعل ذلك على التحديد والتقدير؛ لأنها دار محنة وابتلاء، والابتلاء إنما يقع على التوقيت والتقدير في أوقات متباينة وأسباب مختلفة، فأما الآخرة فلا محنة فيها ولا بلية، فهي على الدوام والبقاء؛ لذلك كان ما ذكر.
وقوله: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
أي: جعل في الأرض جبالا أرسى بها الأرض وأثبتها؛ لأنه ذكر أن الأرض كانت على الماء وكانت تميد بأهلها، لكنه أرساها بالجبال وأقرها بها.
وفيه نوع لطف منه؛ لأنه معلوم أن الجبال التي أثبت بها الأرض، وأقر بها كانت تزيد في ثقل الأرض، فالسبيل في التسرب في الماء والانحدار فيه لا الإثبات بها
وقوله: (وَبَارَكَ فِيهَا).
يحتمل (وَبَارَكَ فِيهَا) أي: في الجبال، فقد جعل اللَّه فيها البركات الكثيرة: منها المياه التي أخرجت منها والعيون، ومنها الذهب والفضة وغيرهما، ومنها الثمار والأشجار التي ينتفع بها وأنواع النبات التي تصلح للأدوية، وغير ذلك من المنافع التي يكثر عدها وإحصاؤها.
ويحتمل قوله: (وَبَارَكَ فِيهَا) أي: في الأرض، فقد جعل اللَّه تعالى في الأرض البركات والخيرات من المياه التي تخرج منها وأنواع النبات والثمار وغير ذلك مما به قوام الخلق جميعًا وغذاؤهم من البشر والدواب، واللَّه أعلم.
والبركة: هي أسم كل خير يكون أبدًا على الزيادة والنماء.
وقوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ).
أي: قدر في الأرض أقوات أهلها وأرزاقهم في أربعة أيام سواء للسسائلين.
قال الزجاج في قوله: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) ثلاث لغات: النصب والرفع والخفض.
فمن خفضه: (سَوَاءٍ) صيره صفة ونعتًا للأيام، كأنه قال: في أربعة أيام سواء، أي: مستويات ليس بعضها أطول من بعض.
ومن قرأ بالنصب: (سَوَاءً) صيره مصدرا، أي: سواء وتسوية.
ومن قرأ بالرفع [(سَوَاءٌ)] صيره على الابتداء، يقول - واللَّه أعلم -: أي ذلك الأقوات التي قدرها سواء للمحتاجين، أي: كفاية لهم على قدر حاجتهم.
ثم اختلف في قوله: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ):
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " من سأل عن ذلك وحده كما قال اللَّه تعالى، ويقول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا من السائلين " فكأن قول ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - ما ذكرنا، أي: كفاية للسائلين المحتاجين على السواء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عدلا للسائلين، والعدل يخرج على وجههين:
والثاني عدلا للسائلين، أي: سواء، يقول لمن يشاء الرزق من السائلين.
وقال الحسن: في أربعة أيام سواء لمن يسأل عن خلقه في أربعة للسائلين أو كلام نحوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من تقاديم الكلام يقول: قدر فيها أقواتها سواء في أربعة أيام للسائلين تلك الأقوات والأرزاق سواء، واللَّه أعلم.
ثم في هذا مسألتان:
إحداهما: في تكوين الخلق وإحداثه وما ذكر من تقدير الأقوات في الأوقات، فعندنا أن اللَّه - تعالى - لم يزل مكونًا محدثًا، وأن ما كان ويكون إلى آخر الأبد إنما يكون بتكوين كان منه في الأول، لا بتكوين يحدث منه في كل وقت يحدث المكون والخلق، والأصل في ذلك ما ذكرنا فيما تقدم: أنه إذا أضيف الأوقات إلى فعله فتكوين التوقيت للخلق أعني: المفعول لا لفعله؛ لما ذكرنا أنه لا حاجة تقع له في المعونة بشيء مما ذكر من التوقيت، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم قدم المفعول والخلق، وليعلم أنه محدث.
ومسألة أخرى في ذكر التحديد والتوقيت في خلق ما ذكر؛ لحكمة جعل في ذلك من غير أن يصعب عليه خلق ذلك في ساعة أو طرفة عين؛ إذ المعنى في خلق ما ذكر في أيام وأوقات ذلك غيرُ موجود على السواء، وهو أن اللَّه تعالى عالم بذاته قادر بذاته له قدرة ذاتية وعلم ذاتي لا مستفاد، فالأوقات إنما يحتاج إليها من كان يعمل بقدرة مستفادة وعلم مستفاد استعانة له بذلك، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - ما يكون منه إنما يكون بقدرة ذاتية وعلم ذاتي لا حاجة تقع إلى الاستعانة بشيء من ذلك؛ لذلك كان ما ذكرنا.
ثم قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ).
الأربعة الأيام التي ذكر هي مع خلق الأرض: يومين لخلق الأرض، ويومين لتقدير الأقوات لأهلها والأرزاق فيكون أربعة، ثم ذكر لخلق السماوات يومين، فإذا جمع يكون ستة أيام، وهو ما ذكر في آية أخرى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، فكان تمام ذلك في ستة أيام، وقد ذكرنا معتى سنة أيام في غير موضع.
وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ... (١١) يخرج على وجهين:
أي ثم استوت المنافع والأقوات التي قدرها في الأرض، وجعلها معايش أهلها بالسماء؛ لأنه جعل منافع الأرض متصلة بمناقع السماء، ما لولا السماء لم يستو منافع الأرض وما قدر لهم فيها، فبالسماء استوى ذلك لهم، أي: تم بذلك، واللَّه أعلم.
ومنهم من يصرف الاستواء إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ومعنى ذلك: استوى أمره وملكه بخلق السماء، أو استوى المقصود بخلق الأرض وأهلها وما فيها بخلق السماء.
وأما التأويلان اللذان ذكرناهما يتوجهان إلى غير ذلك: أحدهما: رجع إلى استواء الهواء، والثاني: إلى استواء ما جعل في الأرض، وعلى هذا يخرج ما سئل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندما روي أن رجلا سأل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " قرأت آيتين إحداهما تخالف الأخرى، فقال له: من قبل رأيك أتيت، ما هما؟ فقال ذلك السائل: قوله - تعالى -: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، وقوله تعالى: (السَّمَاءُ بَنَاهَا)، إلى قوله: (دَحَاهَا)، فمراد السائل أن ظاهر الآية الأولى أنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، وفي ظاهر الآية الثانية: أنه خلق السماء ثم خلق الأرض، فقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " خلق اللَّه تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء، فدحى الأرض بعدما خلق السماء، واللَّه أعلم "، أراد به: بسط الأرض بعد خلق السماء، فأما خلق أصل الأرض قبل خلق السماء.
وعندنا أن ليس بين ظاهر هاتين الآيتين مخالفة، ولا فيه بيان أنه خلق الأرض قبل السماء ولا هذا بعد هذا؛ لأنه ذكر هاهنا أنه خلق الأرض في يومين ثم قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ذكر الاستواء إلى السماء ليس فيه أنه خلقها بعد خلق الأرض، بل فيه أنما استوى إليها بعد خلقها وليس فيه إثبات خلقها قبل ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَهِيَ دُخَانٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: دل قوله: (وَهِيَ دُخَانٌ) على أنه كان هناك نار حتى خلق السماء بدخانها، لكن لا نعلم ذلك إلا بالسمع.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَهِيَ دُخَانٌ)، أي: شبه الدخان، لا حقيقة الدخان، ومنه خلق السماء والأرض.
وقوله: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ائْتِيَا): أعطيا ما جعل فيكما من المنافع والأقوات طوعًا أو
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك على التكوين والتسخير خلقه، أي: إنشاؤهما وخلقهما على إخراج ما فيهما من المنافع والأقوات والأرزاق التي جعل فيهما، وكذلك ما ذكر من الطوع والكره لا قولا منه لهما وأمرا، لكنه طبعهما وأنشأهما كذلك على حقيقة القول والأمر منه لهما؛ نحو ما ذكر لكل شيء من الجبال وغيرها: أنه يسبح لله - تعالى - على الوجهين، لكن شرط خلق الحياة التي لا بد منها للنطق والسماع؛ فعلى ذلك هاهنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا): أي ائتيا عبادتي ومعرفتي، وذلك أن اللَّه تعالى حين خلقهما عرض عليهما الطاعة والشهوة واللذات على الثواب والعقاب (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا...) الآية، فهذا الإباء والإعطاء هو إعطاء الخلقة والتكوين على ما ذكرنا.
وقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
أي: خلقهن في يومين، هو موصول بقوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)، وكذلك قوله - تعالى -: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)، وقد ذكرنا الوجوه في ذلك.
ثم الأعجوبة في خلق السماوات ورفعها أعظم وأكبر من خلق الأرض، وقد ذكر في خلق السماوات من الوقت مثل الوقت الذي ذكر في الأرض، وهو يومان؛ ليعلم أن الوقت الذي ذكر في ذلك، ليس لما يتعذر عليه ذلك، ويصعب بدون ذلك الوقت، ولكن لحكمة جعل في ذلك لم يطلع الخلق على ذلك أو كانت الحكمة فيه ما ذكرنا. وقوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا).
وهم الملائكة الذين جعلهم أهلا لها.
وقال قائلون: أي: أمر كل أهل سماء أمرها وامتحنهم بمحنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مما أمر به وأراد؛ وهما واحد.
وقوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ).
أي: بالكواكب، وقوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) التي دنت منكم هي مقابل القصوى من الدنو، ليس أن هذه السماء التي نراها ونشاهدها مزينة بالكواكب هي سماء الدنيا فانية وغيرها من السماء الآخرة لا يفنى، بل كلها تفنى يعني: هذه وغيرها بقوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، وقوله: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)
وقوله: (وَحِفْظًا)، يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: حفظناها وجعلناها محفوظة بما ذكر من أن يسترق الشياطين والجن أسماعهم إلى خبر السماء، وما يتحدث به الملائكة فيما بينهم فيلقون ذلك على أسماع أهل الأرض، على ما كانوا يفعلون من قبل، أي: حفظناها بالكواكب التي جعل فيها؛ لترميهم الكواكب وتقذفهم؛ ليكون سماع ذلك من جهة الوحي عن لسان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دون إلقاء من ذكر، وهو كما ذكر في آية أخرى حيث قال: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ...) الآية.
ويحتمل وجها آخر: (وَحِفْظًا) أي: حفظناها على ما هي حتى لا تسقط على الخلق؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا)، وقوله تعالَى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ)، ونحوه.
وقوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
يقول: ذلك الذي ذكر كله وصنع هو تقدير العزيز العليم، أي: تقدير من لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.
ويحتمل قوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي: تقدير من له العز الذاتي والعلم الأزلي، لا أنه قدر ذلك وصنع ليستفيد بذلك العز أو العلم؛ إذ هو عزيز بذاته وعليم بذاته، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣)
كانت معروفة عندهم ظاهرة أنها نزلت بهم؛ دل قوله تعالى: (أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) أن صاعقة عاد كانت معروفة عندهم ظاهرة أنها نزلت بهم؛ لتكذيبهم الرسل وتركهم إجابتهم إلى ما دعوا إليه، حيث خوف هَؤُلَاءِ بذلك كأنه يقول: أنذرتكم بتكذيبكم إياه وترككم إجابتي إلى ما دعوتكم إليه بالذي نزل بعاد وثمود، وتكذيبهم الرسول الذي أرسل إليهم وتركهم الإجابة إلى ما دعوا إليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) لم يرد به عين عذاب أُولَئِكَ ومثله في رأي العين، ولكن مثله في الهلاك والاستئصال؛ ألا ترى أن عذاب عاد وثمود كان مختلفا في رأي العين: عذاب عاد خلاف عذاب ثمود وهما في المعنى واحد؟! فعلى ذلك ما أوعد هَؤُلَاءِ بمثل عذاب عاد وثمود، لم يرد مثله في رأي العين، ولكن في المعنى، وهو
وقوله: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (١٤) هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بنبأ من كان قبلهم، ونبأ من كان بعدهم أنهم جميعًا قالوا لقومهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ).
والثاني: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بالوعيد والتخويف بعذاب ينزل بهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ)، أي: من حيث يرونه ويعلمونه (وَمِنْ خَلْفِهِمْ)، أي: من حيث لا يرونه ولا يعلمون؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)، ونحوه.
وقيل: يبعث اللَّه الرسل قبلهم وبعدهم بالذي ذكر، وهو الدعاء إلى توحيد اللَّه وجعل العبادة له، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ).
هذا القول منهم يناقض قولهم وتكذيبهم الرسل وإنكارهم رسالة البشر وطمعهم رسالة الملائكة؛ لأنهم ما عرفوا الملائكة ولا عاينوا، فإنما عرفوا الملائكة وعلموا بمكانهم برسل البشر، فكيف أنكروا رسالتهم مع ما لو كان الرسل إليهم الملائكة، لم يعرفوا أنهم ملائكة إلا بقولهم؛ لما لم يتقدم لهم المعرفة بالملائكة، فهذا يناقض إنكارهم الرسل من البشر؟!
والثاني: ما قالوا: (فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) قد أقروا رسالتهم حيث قالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)؛ لأنهم لم يقولوا: إنا بما أرسلتم إلينا كافرون، ولكن قالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ) فذلك مما يناقض قولهم ويرد تكذيبهم، وإنما قالوا ذلك -أعني: قولهم: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) - تعنتًا منهم وعنادا، وإلا قد علموا أنهم رسل الله فيناقضون بما قالوا على التعنت منهم، واللَّه أعلم.
جائز أن يكون استكبارهم في الأرض بغير الحق على أهل الأرض بما ذكروا من فضل القوة لهم وشدتها من بين غيرهم؛ كقوله تعالى: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) فهم ذكروا ذلك، فجائز أن يكون استكبارهم على أهل الأرض بغير الحق؛ لشدة بطشهم وقوتهم على غيرهم.
ويشبه أن يكون استكبارهم رفض اتباع الرسل، فلم يروا أنفسهم أن يجعلوها تحت تدبير الرسل وأمرهم، وأن يخضعوا لهم ويستسلموا لما دعوهم إليه، وقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).
ثم قال اللَّه تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).
هذا استفهام على طريق التقرير، معناه: قد رأوا وعلموا أن اللَّه الذي خلقهم هو أشد قوة، والرسل - عليهم السلام - لم يكونوا يوعدونهم بقوى أنفسهم ولا بعذاب يكون منهم حتى قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، ولكن إنما كانوا يوعدونهم ويخوفونهم بعذاب ينزل من عند اللَّه، وبقوته وسلطانه يوعدونهم وقد عرفوا قوته وسلطانه؛ لذلك قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).
وقوله: (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).
دل هذا على أنهم قد كذبوا هودًا، وأنكروا آياته، وذلك قولهم: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)، وإنه قد أتاهم بآيات رسالته.
وقوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
ذكر ما أهلكهم من العذاب، وهو الريح الصرصر الباردة؛ كذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ.
وقوله: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ).
وهو ما ذكر في سورة الحاقة حيث قال: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا)، وقال في موضع: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ). ثم اختلف في تأويلها:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (نَحِسَاتٍ) مشؤمات نكدات؛ وهذا قول الْقُتَبِيّ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نَحِسَاتٍ) أي: شداد.
وقيل: (نَحِسَاتٍ) من النحس، يقال نحس يوْمُنا، والنحس: الغبار في الأصل.
وقوله تعالى :﴿ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ﴾ وهو ما ذكر في سورة الحاقة حيث قال :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [ الحاقة : ٦ و٧ ] وقال في موضع آخر ﴿ في يوم نحس مستمر ﴾ [ القمر : ١٩ ]
ثم اختلف في تأويلها : قال بعضهم :﴿ نحِسَاتٍ ﴾ مشؤومات نكدات، وهو قول القتبي. وقال بعضهم :﴿ نحسات ﴾ أي شداد. وقيل ﴿ نحسات ﴾ من النّحس، يقال : نحس فلان١. والنّحس الغبار في الأصل.
وقوله تعالى :﴿ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي عذابا يُذلّهم، ويفضحهم عند الخلق جميعا.
قوله تعالى :﴿ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى ﴾ عليهم أذلّ وأفضح وأشد من عذاب الدنيا.
وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ يحتمل لا ينصرون بقوتهم التي كانت لهم، [ واعتمدوا عليها بقولهم ]٢ :﴿ من أشد منا قوة ﴾ ويحتمل لا يُنصرون بالأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم والشفاعة.
٢ في الأصل وم: واعتمدت عليهم بقوتهم..
أي: عذابًا يذلهم ويفضحهم عند الخلق جميعًا.
وقوله: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ).
عليهم أذل وأفضح وأشد من عذاب الدنيا.
وقوله: (وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ).
يحتمل: لا ينصرون بقوتهم التي كانت لهم، واعتمدوا عليها بقولهم: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).
ويحتمل: لا ينصرون بالأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم والشفاعة.
وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
يحتمل ما ذكر من الهداية لهم حقيقة الهدى، وهو التوفيق، وحقيقة خلق الاهتداء فيهم، فصاروا مهتدين، وهو ما سألوا من الآية، وهي الناقة، فلما أتاهم على ما سألوا، آمنوا به وصدقوه، ثم كفروا به بعد ذلك وكذبوه وعقروا الناقة على ما ذكر.
ويحتمل قوله: (فَهَدَيْنَاهُمْ).
أي: بينا لهم غاية ما يبين الحق من الباطل بما يعرفه كل ذي لب وعقل أنها آية، وأنها من اللَّه تعالى؛ حيث جاءتهم الآية التي سألوها على الإشارة والتعيين وهي الناقة.
وقوله: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
أي: اختاروا الكفر على الهدى، واختاروا ما به يعمون على ما يبين لهم.
ثم أخبر عما نزل بهم من العذاب باختيارهم العمى على الهدى، وهو ما قال: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ).
أي: عذاب يهانون فيه، وهو من الهوان والإذلال، وكل عذاب اللَّه صاعقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
أي: أنجينا الذين اختاروا الهدى على العمى، وكانوا يتقون اختيار العمى على الهدى.
* * *
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ
وقوله: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ... (١٩)
أي: نجمع، والحشر: الجمع، يجمعون في النار؛ وهو كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ).
وقوله: (فَهُمْ يُوزَعُونَ).
أي: يساقون؛ كقوله - تعالى - (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُوزَعُونَ) أي: يدفعون؛ كقوله تعالى: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، والوزع: الدفع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُوزَعُونَ) أي: يحبسون، أي: يحبس أولهم على آخرهم، حتى إذا اجتمعوا جميعًا فعند ذلك يجعلون في النار؛ كقوله - تعالى -: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...) الآية.
وقوله: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)
كأنهم يوقفون ويحبسون في مكان، فيعاينون النار، فيسألون عما كانوا يعملون؛ وهو كقوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)، فينكرون ما كان منهم؛ كقوله تعالى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقوله: (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا)، فعند ذلك ينطق اللَّه جوارحهم فتشهد عليهم بما عملوا وما كان منهم، وهو قوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (جُلُودُهُمْ): كناية عن الفروج؛ وهو قول الحسن.
وقوله: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) يَنْطِقُ، إذ لا كل شيء ينطق، ذكروا (كُلَّ شَيْءٍ)، وأرادوا به الخاص لا العام، واللَّه أعلم.
وكان غير هذا أقرب، يقولون: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يعصون به الله تعالى، وهو ما ينطق اللَّه الأشياء التي بها عصوا ربهم، وهي الأصنام التي عبدوها وغيرها مما عبدوا دون الله؛ كقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...) الآية وقوله: (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)، وما ذكر من إخبار الأرض وحديثها بما عملوا عليها بقوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)،
وقال بعضهم ﴿ وجلودهم ﴾ كناية عن الفروج، وهو قول الحسن.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: ما ينطق الله..
٤ في الأصل وم: نحشرهم، انظر معجم القراءات القرآنية ٤/٢٧٧..
وقوله: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما كنتم تعلمون وتستيقنون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ظننتم أن اللَّه لا يعلم كثيرًا مما تعملون، الظن هاهنا على هذا التأويل: حقيقة الظن، أو الجهل، أي: ولكن جهلتم أن اللَّه يعلم كثيرًا مما تعملون، فلو كان تأويل الآية ما ذكر هَؤُلَاءِ ففيه دلالة أن العذاب قد يلزم ويجب وإن جهل ذلك ولم يتحقق عنده العلم به، إذا كان يحيث إمكان الوصول إلى علم ذلك ومعرفته بالنظر والتأمل والتفكر بغير ذلك من الأسباب، لكنه ترك التأمل فيه، فلم يعلم ذلك؛ فلم يعذر يجهله، وهكذا العلم أن من مكن له العلم وأسباب المعرفة فلم يتكلف معرفته، لم يعذر في جهله؛ ولهذا قال أبو حنيفة في الأطفال أن: لا علم لي بهم؛ لما لا يعلم أنهم قد بلغوا المبلغ الذي يدركون الأشياء بالتأمل والتفكر أم لا؟!
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ)، أي: كنتم لا تقتدرون أن تستتروا من سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، فأحد لا يستطيع أن يستتر من نفسه إذا عمل شيئًا، فذلك ظنكم أن ظنتتم أن اللَّه لا يعلم كثيرًا مما تعملون في السر.
وقوله: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)
أي: وذلكم جهلكم على ما ظننتم بأن اللَّه - تعالى - لا يعلم ذلك، وهو لا يخفى عليه خافية، فظنكم ذلك أرداكم، أي: أغواكم وأضلكم عن الهدى.
وقال قتادة: يا ابن آدم، إن عليك لشهودا غير متهمة: من بدنك، فراقبهم، واتق الله في سر أمرك وعلانيتك؛ فإنه لا يخفى عليه خافية: الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، ومن استطاع أن يموت وهو باللَّه حسن الظن ولا قوة إلا باللَّه.
ثم قال: الظن ظنان: ظن منجٍ، وظن مردٍ، فأما المنجي فقوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) الآية، وما قال: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)، وأمَّا الظن المردي فقوله: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ)، وقوله: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
وقال قتادة : يا ابن آدم إن عليك لشهودا غير مُبهمَة من يديك، فراقبهم، اتق الله في سرّ أمرك وعلانيتك فإنه لا تخفى عليه خافية : الظلمة عنده ضوء والسّر عنده علانية، ومن استطاع أن يموت، وهو بالله حسن الظن، فليفعل، ولا قوة إلا بالله. ثم قال : الظّن ظنّان : ظنٌّ مُنَجٍّ، وظنّ مُرْدٍ ؛ فأما المُنجّي فقوله :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾ [ البقرة : ٤٦ ] وما قال :﴿ إني ظننت أني ملاقٍ حسابية ﴾ [ الحاقة : ٢٠ ].
وأما الظن المُردي فقوله :﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ فصلت : ٢٣ ] وقوله :﴿ إن نظن إلا ظنا ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ] ونحوه.
وقال٢ : وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول، ويحدّث ذلك عن ربه :( عبدي أنا عند ظنك بي وأنا معك إذا دعوتني ) [ الحاكم في المستدرك ١/٤٩٧ ].
وقال الحسن : إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم. فأما المؤمن فأحسن بربه الظن، فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن، فأساءا العمل، ثم تلا قوله عز وجل :﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ﴾ الآية، وقال : الجلود كناية عن الفروج. وفي حرف حفصة : وما كنتم تخشون، وفي حرف أبيّ وابن مسعود : ولكن زعمتم أن الله لا يعلم كذا، وكذا في حرفهما : فذلكم زعمكم الذي زعمتم، والزعم في كلام العرب الكذب، وفيه يُستعمل.
وقوله تعالى :﴿ أرداكم ﴾ قال بعضهم : أهلككم، والرّدى الهلاك. وقيل : أُورِدوا٣ المهالك. ويحتمل ﴿ أرداكم ﴾ أي أغواكم، وأضلّكم على ما ذكرنا.
٢ الواو ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: أورد..
قال: وذكر أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ويحدث ذلك عن ربه تعالى: " عبدي، أنا عند ظنك بي، وأنا معك إذا دعوتني ".
وقال الحسن: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بربه الظن، فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق، فأساء به الظن؛ فأساء العمل، ثم تلا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ...) الآية، وقال: الجلود: كناية عن الفروج.
وفي حرف حفصة: (وما كنتم تخشون)، وفي حرف أُبي وابن مسعود: (ولكن زعمتم أن اللَّه لا يعلم) كذا؛ وكذلك في حرفهما: (فذلكم زعمكم الذي زعمتم) والزعم في كلام العرب: الكذب، وفيه يستعمل.
وقوله - تعا لي -: (أَرْدَاكُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أهلككم، والردى: الهلاك، وقيل: أورد المهالك.
ويحتمل (أَرْدَاكُمْ) أي: أغواكم وأضلكم على ما ذكرنا.
وقوله: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ... (٢٤) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: فإن يصبروا على ما هم عليه من الأعمال إلى أن ختموا به، فالنار مثوى لهم في الآخرة.
والثاني: أي: فإن يصبروا في الآخرة فالنار مثوى لهم، أي: لا ينفعهم الصبر على ذلك، ولا يكون الصبر سبب الفرج عن ذلك؛ وهو كقوله - سبحانه وتعالى - خبرا ضهم: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)، فيكون أحد التأويلين في الدنيا والثاني في الآخرة.
وقوله: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ).
معناه - واللَّه أعلم -: وإن يستقيلوا ما كان منهم فما هم من المقالين، أي: أثقال ذلك منهم ولا يرضى عنهم وإن استرضوا.
وقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ).
كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا...) الآية.
ثم اختلف في قوله: (وَقَيَّضْنَا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: هيأنا لهم في الدنيا قومًا من الشياطين وغيرهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مكَّنَّا للشياطين حتى يقذفوا في قلوبهم من الوساوس وغيرها أو كلام نحوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: خلينا بينهم وبين الشياطين حتى عملوا بهم ما ذكر.
وقوله: (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، اختلف في قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي: حسنوا لهم التكذيب بالآخرة والحساب والثواب والعقاب، أن ليس ذلك.
وقوله: (وَمَا خَلْفَهُمْ)، أي: حسنوا لهم أمر الدنيا وأنها دائمة باقية.
وقيل: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، أي: ما عملوا، (وَمَا خَلْفَهُمْ) أي: وما يريدون أن يعملوا من بعد.
والثالث: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما عملوا بأنفسهم، (وَمَا خَلْفَهُمْ) وما سنوا لغيرهم من بعدهم، كقوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ).
يحتمل: وجب عليهم القول بالعذاب أو السخط.
وقوله: (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
أي: مع أمم، وذلك جائز.
وقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: من قبل هَؤُلَاءِ من الإنس والجن من الأمم الخالية (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ).
أي: لا تسمعوا أنتم بأنفسكم والغوا فيه؛ لئلا يسمع منه قراءته ولا صوته، دل هذا القول على أنهم قد عرفوا أنه حجة، وأنه من عند اللَّه جاء، وأن من سمع ذلك أذعن له وأطاع إذا لم يكابر عقله؛ ولهذا قالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)؛ لئلا يذعن له ولا يطاع (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) بالمكاء والتصدية، وكانوا يفعلون ذلك؛ ليخلطوا عليه صلاته وقراءته لعلكم بالمكاء والتصدية قولهم: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً).
وقوله: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧)
أي: يذيقن الذين كفروا وداموا على الكفر حتى ماتوا على ذلك، فأما من كفر في وقت ثم ترك ذلك، وأسلم، فليس له ذلك.
ثم من الناس من يقول: إن قوله: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا) أراد به في الدنيا، وقوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، في الآخرة، يجعل أحد العذابين في الدنيا والآخر في الآخرة.
وجائز أن يكون كله في الآخرة.
ثم دل قوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: لهم محاسن في الدنيا، لكن تلك المحاسن تبطل ولا يجزون بها شيئًا، وإنما يجزون على المساوئ التي عملوها في الدنيا؛ لأن المحاسن إنما تثبت وتبقى ويستوجب بها الجزاء إذا أتوا بالإيمان والتوحيد، فأما إذا لم يأتوا به لم ينتفعوا بتلك المحاسن، ولم يجزوا بها، وقد ذكر للمؤمنين مقابل ذلك: أن يكفر عنهم سيئاتهم ويجزوا بأحسن ما كانوا يعملون، وهو قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ).
وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وعد للمؤمنين تكفير المساوئ التي عملوا في الدنيا والجزاء لهم بالمحاسن التي عملوها، ووعد للكافرين إسقاط محاسنهم والجزاء على مساوئهم لما لم يأتوا بالإيمان، واللَّه أعلم.
وقوله: (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ... (٢٨)
هذا يدل على أن ذلك في الآخرة.
ثم من الناس من يقول : إن قوله ﴿ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ أراد به في الدنيا وقوله ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي لهم محاسن في الدنيا. لكن تلك المحاسن تبطُل، ولا يُجزَون بها شيئا، وإنما يُجزَون على المساوئ التي عملوها في الدنيا، لأن المحاسن إنما تثبت، وتبقى، ويُستوجب بها الجزاء إذا أتوا بالإيمان والتوحيد، فإذا لم يأتوا به لم ينتفعوا بتلك المحاسن، ولم يُجزَوا بها.
وقد ذكر للمؤمنين مقابل ذلك أنه١ يكفّر عنهم سيئاتهم، ويجزيهم٢ بأحسن ما كانوا يعملون، وهو قوله ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ [ الأحقاف : ١٦ ] وقوله ﴿ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٥ ].
وعد المؤمنين تكفير المساوئ التي عملوا في الدنيا والجزاء لهم بالمحاسن التي عملوها، وأوعد٣ الكافرين إسقاط محاسنهم والجزاء على مساوئهم لما لم يأتوا بالإيمان، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: يجزوا..
٣ في الأصل وم: ووعد..
وقوله تعالى :﴿ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ قوله :﴿ دَارُ الْخُلْدِ ﴾ أي دار البقاء ؛ يبقون فيها أبدا، فيكون اسما للجنة. ويحتمل أن يكون في الجنة دار وموضع، يسمى دار الخُلد، فيكون اسم موضع خاص، والله أعلم.
قوله: (دَارُ الْخُلْدِ)، أي: دار البقاء يبقون فيها أبدًا، فيكون اسمًا للجنة، ويحتمل أن يكون في الجنة دار أو موضع يسمى: دار الخلد فيكون اسم موضع خاص، واللَّه أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
قَالَ بَعْضُهُمْ: الذي أضلهم من الجن هو إبليس؛ لأنه أول من عصى اللَّه تعالى وسن لهم ذلك، ومن الإنس ولد آدم الذي قتل أخاه؛ لأنه أول من سن القتل، ولكن عندنا أنهم سألوا أن يريهم الذي أضلهم كل جني يوسوس ويقذف في قلوبهم الوساوس والمساوي، وكل إنسي يدعوهم ظاهرًا إلى الضلال، وهكذا كل ضال وكافر إنما كان ذلك الضلال والكفر لوساوس من جني أو تلقين من إنسي بلسانه. سألوا اللَّه تعالى أن يجعلهم ظاهرين فيجعلوهم تحت أقدامهم؛ لما يكون العذاب في كل ما كان أسفل أشد؛ لذلك سألوا ذلك وهو ما سألوا ربهم زيادة العذاب لهم في آية أخرى حيث قال: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).
* * *
وقوله: (فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ)، فعلى ذلك سؤال هَؤُلَاءِ.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما نزلت هذه الآية قال: " أمتي أمتي؛ لأن اليهود قالوا: ربنا اللَّه، ثم قالوا؛ عزير ابن اللَّه، وأن النصارى قالوا: ربنا اللَّه، ثم قالوا: المسيح ابن اللَّه، وأن أمتي قالوا: ربنا اللَّه، ولم يشركوا به أحدًا "، وكذلك روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: " هم الذين لم يشركوا باللَّه شيئًا " فإن ثبت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو تفسير الاستقامة التي ذكر، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثم استقاموا على أداء الفرائض والشرائع والحدود.
وقيل: ثم استقاموا في الطاعات له.
والاستقامة وجوه ثلاثة:
أحدها: في الاعتقاد، اعتقدوا ألا يعصوه ويجتنبوا جميع ما يخالف أمره ونهيه.
والثاني: استقاموا في اجتناب جميع ما يخالف ما أعطوا بلسانهم: أنه ربنا اللَّه، وقاموا بوفاء ما أعطوا بلسانهم قولا وفعلا.
والثالث: قاموا في جميع الأعمال مخلصين لله تعالى لم يشركوا فيها أحدًا لأحد فيها نصيبًا من المراءاة غيرها، بل خالصًا لله تعالى سالمًا، واللَّه أعلم بما أراد بذلك.
وقوله: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا):
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك عند قبضهم الأرواح في الدنيا يبشر لهم بما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تقول لهم الملائكة يوم القيامة عند معاينتهم الأهوال والأفزاع؛ ليسكن بذلك قلوبهم عند تلك الأهوال والشدائد، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في قوله: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أي: لا تخافوا ما أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم من الأهل والأولاد.
وقيل: لا تخافوا ما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أهل أو دين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تخافوا من العذاب ولا تحزنوا على فوت ما وعدتم من النعيم؛ فإنها دائمة لا يفوت ولا ينقطع أبدًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ):
فإن ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو تفسير الاستقامة التي ذكر، والله أعلم.
وقال بعضهم : أي ﴿ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ في الإخلاص العمل له والقيام بذلك.
وقال بعضهم :﴿ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ على أداء الفرائض والشرائع والحدود.
وقيل :[ قوله ]٢ ﴿ ثم استقاموا ﴾ في الطاعات له والاستقامة [ يحتمل ]٣ وجوها ثلاثة :
أحدها : في الاعتقاد : اعتقدوا ألا يعصوه، ويجتنبوا جميع ما يخالف أمره ونهيه.
والثاني : استقاموا في اجتناب ما أعطوا بلسانهم : أنه ربنا الله، وقاموا بوفاء ما أعطوا بلسانهم قولا وفعلا.
والثالث : قاموا في جميع الأعمال مُخلصين لله تعالى، لم يشركوا فيها [ أحد ولا أعطوا ]٤ لأحد نصيبا من المُراآة غيرها، بل [ جعلوه ]٥ خالصا لله تعالى سالما، والله أعلم بما أراد بذلك.
وقوله تعالى :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ اختُلف فيه : قال بعضهم : ذلك عند قبضهم الأرواح في الدنيا يبشّرونهم٦ بما ذكر. وقال بعضهم : تقول لهم الملائكة يوم القيامة عند معاينتهم الأهوال والأفزاع لتسكُن بذلك قلوبهم عند تلك الأهوال والشدائد، والله أعلم.
ثم اختلف في قوله :﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ أي لا تخافوا ما أمامكم، ولا تحزنوا على ما خلّفتكم من الأهل والأولاد. وقيل : لا تخافوا ما تُقدِمون عليه من الموت وأمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلّفتم ٧ من أهل أو دين. وقال بعضهم : لا تخافوا من العذاب، ولا تحزنوا على فوت ما وعدتم من النعيم، فإنها دائمة، لا تفوت، ولا تنقطع أبدا.
وقوله تعالى :﴿ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ على ألسُن الأنبياء والرسل عليهم السلام فمن قال : إن البشارة التي ذكر في الدنيا عند قبض الأرواح، وقد٨ ذكر في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) [ مسلم ٢٩٥٦ ] لأن المؤمن، تُرى له الجنة، ويُبشَّر لها في ذلك الوقت، فتصير الدنيا له سجنا لما عاين مما هُيّئ له، وجُعل له الثواب، والكافر لما أُرِي٩ له مكانه في النار، أو بُشّر به١٠ في ذلك الوقت، صارت له الدنيا جنة.
وعلى ذلك قوله عليه السلام ( من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره لقاءه ) [ البخاري : ٦٥٠٧ و٦٥٠٨ ] والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ من م، في الأصل: أحد..
٥ في الأصل وم: يبشر لهم..
٦ في الأصل وم: يبشر لهم..
٧ في الأصل وم: خلفتموا..
٨ في الأصل وم: فلما..
٩ في الأصل وم: رأى..
١٠ في الأصل وم: له..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١)
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يشبه أن يكون هذا القول من الذين بشروهم بما بشروا يقولون: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وجائز أن يكونا ذلك من اللَّه تعالى، وإن كان المذكور على أثر البشارة الملائكة؛ وذلك كقوله - تعالى -: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَ)، ثم إن كان ذلك من اللَّه - سبحانه وتعالى - فيكون تأويله (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ) في عصمتكم في الدنيا، وأولى بكم في الآخرة في المعونة، أو نقول: نحن أولى بكم في النصر والتوفيق في الدنيا والجزاء والثواب في الآخرة، والله أعلم. وإن كان ذلك من أُولَئِكَ الذين بشروهم يقولون: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا بالصحبة، فكذلك يكون في الآخرة.
وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي: لكم ما ترغب به أنفسكم وتتوق إليه.
أو لكم فيها ما تتلذذ به أنفسكم وتتنعم بها.
وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ).
قيل: ما تتمنون وتسألون، أو يقول: ما تدعون من الدعوى.
قال بعضهم: (نُزُلًا) أي: رزقًا من غفور رحيم وهو من الإنزال، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نُزُلًا) أي: إنزالا في المنزل من غفور رحيم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)
كأنه يقول: ومن أحسن مذهبًا ومسيرة ممن دعا إلى اللَّه، أي: إلى توحيد اللَّه ودينه، أو دعا إلى المعروف والنهي عن المنكر، أي: دعا غيره إلى ذلك وعمل بنفسه، وهذا الحرف يجمع جميع الخيرات والطاعات، فإن كان قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا) على ما ذكرنا من المذاهب والسيرة فكأنه يقول: ومن أحكم وأتقن مذهبًا وسيرة ممن ذكر، وإن كان على حقيقة القول فيكون قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا) أي: ومن أصدق قولا ممن قال ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
أي: اختار الانتساب إلى الإسلام من بين غيره من الأديان والمذاهب، وقد أبي سائر الفرق الانتساب إلى الاسلام سوى أهل الإسلام.
والثاني: انتسب إلى ما خص اللَّه سبحانه وتعالى تسميتهم به وهو الإسلام؛ كقوله تمعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، وقوله: (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، وقال في حق إبراهيم - عليه السلام -: (أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ويكون اسم المؤمن خاصًّا لأهل الحق؛ فإن اليهود والنصارى سلموا أنفسهم مؤمنين، ولا يمتنعون عن إطلاق اسم المؤمن ويمتنعون عن إطلاق اسم المسلم؛ ولهذا يقال: دار الإسلام، ولا يقال: دار الإيمان، وإن كان الإسلام والإيمان واحدًا؛ لاختصاص هذا الاسم بهَؤُلَاءِ، واللَّه أعلم.
أو يقال: إنه اختار النسبة إلى الإسلام، وغيرهم من الناس انتسبوا إلى ما لهم من العز في الدنيا والشرف فيها، وغير ذلك من الأسباب التي كانت لهم في الدنيا.
ثم اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المؤذنون، وعلى ذلك رويت الأخبار أنها نزلت في المؤذنين.
وهذا الحرف يجمع جميع الخيرات والطاعات.
فإن كان قوله :﴿ ومن أحسن قولا ﴾ على ما ذكرنا من المذاهب والسيرة فكأنه يقول : ومن أحكم وأتقن مذهبا وسيرة ممن ذكر ؟
وإن كان على حقيقة القول فيكون قوله :﴿ ومن أحسن قولا ﴾ أي ومن أصدق قولا ممن قال ما ذكر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ يحتمل وجوها :
أحدها : أنه ]٢ اختار الانتساب إلى الإسلام من بين غيره من الأديان والمذاهب. وقد أبى سائر الفِرَق الانتساب إلى الإسلام سوى أهل الإسلام.
والثاني : انتسب إلى ما خص الله سبحانه تعالى تسميتهم به، وهو الإسلام كقوله تعالى :﴿ هو سمّاكم المسلمين ﴾ [ الحج : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ]
وقال في حق إبراهيم عليه السلام :﴿ أسلم قال أسلمت لربّ العالمين ﴾ [ البقرة : ١٣١ ].
ويكون اسم المؤمن خاصا لأهل الحق ؛ فإن اليهود والنصارى سمّوا أنفسهم مؤمنين، ولا يمتنعون عن إطلاق اسم المؤمن، ويمتنعون عن إطلاق اسم المسلم.
ولهذا يقال : دار الإسلام، ولا يقال دار الإيمان وإن كان الإسلام والإيمان واحدا لاختصاص هذا الاسم بهؤلاء، والله أعلم.
[ والثالث :]٣ أنه اختار النسبة إلى الإسلام، وغيره٤ من الناس انتسبوا إلى ما هم من العزّ في الدنيا والشرف فيها وغير ذلك من الأسباب التي كانت لهم في الدنيا.
ثم اختُلف فيه : قال بعضهم : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : هم المُؤذّنون، وعلى ذلك رُوِيت الأخبار أنها نزلت في المُؤذّنين. وقال بعضهم : ذلك في كل مؤمن دعا الخلق إلى طاعة الله تعالى ﴿ وعمل صالحا ﴾ بنفسه، والله أعلم.
وعن الحسن أنه تلا قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ وقال٥ : هذا صفوة الله، هذا خِيرَة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله تعالى : أجاب في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ﴿ وعمل صالحا ﴾ في إجابته ﴿ وقال إنني من المسلمين ﴾ بربهم٦، هذا خليفة الله تعالى.
٢ في الأصل وم: أي..
٣ في الأصل وم: أو يقال..
٤ في الأصل وم: وغيرهم..
٥ الواو ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: بربه..
وعن الحسن أنه تلا قوله - تعالى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا) قال: هذا صفوة اللَّه، هذا خِيرة اللَّه، هذا أحب أهل الأرض إلى اللَّه تعالى، أجاب في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب اللَّه فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، قال إنني من المسلمين لربه، هذا خليفة اللَّه تعالى.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ).
قيل: (لا) الأخير هاهنا زائدة كأنه قال: ولا تستوي الحسنة والسيئة، وقد يزاد حرف (لا) في الكلام وقد ينقص؛ فعلى ذلك هذا.
ثم جائِز أن يكون قوله: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)، وقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كل واحد منها موصولاً بالآخر، يقول: لا تستوي الحسنة، وجائز أن يكون كل واحد منها مقطوعًا من الآخر على الابتداء، فإن كان أحدهما موصولا بالآخر يقول: لا تستوي الحسنة والسيئة في جلب حب القلوب واللين والعطف لها، بل الحسنة تجلب حب القلوب والميل إليها لا السيئة.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي: ادفع بالحسنة دون السيئة؛ وهو كقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) الآية؛ فعلى ذلك يقول هاهنا أنْ: لا تستوي الحسنة والسيئة في الطاعة والميل وجلب حب القلوب، بل هما مختلفان مفترقان فادفع سيئتهم بالحسنة، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكونا جميعًا على الابتداء لا اتصال لأحدهما بالآخر، فإن كان الابتداء فمعناه - واللَّه أعلم -: أنكم تعلمون بعقولكم أن لا استواء بين الحسنة والسيئة ولا بين المحسن والمسيء، وكذا لا استواء بينهما في الحكمة، وقد رأيتم أنهما قد استويا في هذه الدنيا في جميع منافعها ولذاتها، وجمع بينهما في هذه، وفي الحكمة والعقول التفريق بينهما، دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما في الجزاء والثواب فيهما - واللَّه أعلم - وهو
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
صرف عامة أهل التأويل ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإلى أبي جهل - لعنه اللَّه - أنه أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يدفع سيئة أبي جهل بالحسنة، لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه لم يذكر أن أبا جهل صار لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما ذكر حيث قال: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، بل دامت عداوته إياه إلى أن خرج على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر وأغرى الناس عليه، فرجع ذلك الإغراء إليه فقتل في ذلك اليوم؛ فدل أنه لا وجه لصرف الآية إلى هذا.
ثم يخرج قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على وجهين:
أحدهما: ادفع سيئتهم في حادث الوقت بحسنة تكون منك إليهم، أي: إذا أحسنت إليهم كفوا هم عن الإساءة إليك في حادث الوقت - واللَّه أعلم - فيكون كقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
والثاني: أي ادفع سيئتهم بالعفو والصفح عنهم، أي: لا تكافئهم بمساويهم ولكن تجاوز عنهم واصفح، فإذا فعلت ذلك يصير الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، أي: لا يعاد ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
على أمر اللَّه تعالى والقيام بجميع أموره، أو يقول: لا يعطى ولا يؤتى المعاملة التي ذكر ولا يوفق لذلك إلا من عزم على الصبر على ما أمر اللَّه تعالى والصبر على ذلك.
وقوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
يقول: ولا يعطى هذه المعاملة التي ذكر من الدفع بالحسنة والصفح عن المجرم إلا من كان له حظ ونصيب عظيم عند اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون الاستعاذة التي ذكر هي مباشرة الأسباب التي بها يدفع نزغ الشيطان ووساوسه، أمره أن يأتي بالأسباب التي يتهيأ له أن يدفع بها نزغاته وغمزاته،
أحدهما : جائز ن تكون الاستعاذة التي ذكر، هي مباشرة الأسباب التي بها يدفع نزغ الشيطان ووساوسه. أمره أن يأتي بالأسباب التي تتهيأ له، أن يدفع بها نزغاته وهمزاته. وهذا الاستغفار الذي أمر به ليس، هو أمر بمباشرة أسباب، تقع، وتجب لهم المغفرة بها. فعلى ذلك الاستعاذة.
والثاني : جائز أن يكون أمره بالاستعاذة إياه أمرا له بسؤال لطف من عند الله، يدفع به نزغاته وهمزاته، والله أعلم.
وعلى قول المعتزلة : لا تصح الاستعاذة منه، لأنهم يقولون : إنه قد أعطى كلاّ ما به يدفع نزغاته وهمزاته حتى لم يبق عنده شيء يملك إعطاءه إياهم من اللطف وغيره والله الهادي.
والثاني: جائز أن يكون أمره بالاستعاذة إياه أمرًا له بسؤال لطف من عند اللَّه يدفع به نزغاته وهمزاته، واللَّه أعلم.
وعلى قول المعتزلة لا يصح الاستعاذة منه؛ لأنهم يقولون: إنه قد أعطى كلامًا به يدفع نزغاته وهمزاته متى لم يبق عنده شيء يملك إعطاءه إياهم من اللطف وغيره، والله الهادي.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ
وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إن الشمس والقمر آيتان من آيات ألوهيته تعالى ووحدانيته كالليل والنهار أنهما آيتان من آيات اللَّه تعالى، فإذا لم تعبدوا الليل والنهار فكيف عبدتم الشمس والقمر؟! واللَّه أعلم.
أو نقول: إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه تعالى، سخرهما لمنافع الخلق كالليل والنهار مسخرات للخلق والمنافع التي جعل فيها للخلق إن لم يكن أكثر لم يكن دون منافع الشمس والقمر، فإذا لم تعبدوا الليل والنهار فكيف عبدتم هاتين؟! يذكر هذا لأن منهم من كان يعبد الشمس ومنهم من كان يعبد القمر ونحوه، يذكر سفههم بعبادة غير اللَّه تعالى.
وقوله: (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ).
أي: اسجدوا لله الذي أنشأ هذه الأشياء وسخرها لكم.
(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
أي: إن كنتم بعبادتكم هذه الأشياء تقصدون القربة عند اللَّه تعالى، أو إن كنتم بعبادتكم هذه الأشياء إياه تريدون؛ لأنهم كانوا يعبدون هذه الأشياء دون اللَّه تعالى رجاء القربة عنده والزلفى لقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبوُنَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، يقول: إن كنتم إياه تقصدون بعبادة هذه الأشياء فاسجدوا له واعبدوا؛ لما أمركم بالسجود له والعبادة، واللَّه الموفق.
قد ذكرنا فيما تقدم أن لا أحد يقصد قصد الاستكبار على اللَّه تعالى. ثم يخرج هذا على وجهين:
أحدهما: أنهم قد أمروا بطاعة الرسل - عليهم السلام - فاستكبروا عن الائتمار لهم لما دعوهم إليه؛ فيصير استكبارهم عليه كالاستكبار على اللَّه تعالى.
والثاني: لما تركوا عبادة اللَّه تعالى وجعل في أنفسهم دلالة العبادة لله تعالى؛ فإذا تركوا العبادة لله تعالى فقد تركوا الائتمار بأمره، لم يعتقدوا الائتمار لذلك الأمر فيكون استكبارًا عليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ).
يقول - واللَّه أعلم -: فإن استكبر هَؤُلَاءِ على عبادة اللَّه تعالى فأوحشك ذلك، فاذكر عبادة من عنده من الملائكة بالليل والنهار حتى تستأنس بذلك، واللَّه أعلم. وهو كقوله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)، كان يستوحش باستهزائهم به؛ فذكر له استهزاء أُولَئِكَ بإخوانه لِيَقِل ذلك فيه؛ لما علم أنه ليس أول من استهزئ به، فهذا مثله.
والثاني: فإن استكبر هَؤُلَاءِ على عبادة اللَّه وقد عبدوا الملائكة والأصنام وغيرهم، فالذين هم عند ربك ممن عندهم هَؤُلَاءِ لم يستكبروا؛ بل هم مسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون، وهو كقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية؛ وكقوله - تعالى -: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)، يقول: إن استنكف هَؤُلَاءِ عن أن يكونوا عُبُدًا لله، فالمسيح ومن ذكر لم يستنكفوا عن ذلك.
وقوله تعالى: (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ).
يخبر أنهم لا يسأمون عن عبادته كما يسأم البشر أحيانًا عن عبادته، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
وقال فيما تقدم: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فيما ذكر من الآيات آيات وحدانيته، وآيات قدرته وعلمه وتدبيره، وآيات حكمته:
أما آيات وحدانيته في الليل والنهار والشمس والقمر: هو أنه إذا كان سلطان أحدهما ليل أو نهار أو شمس أو قمر لم يمنع عن كون الآخر، ولو كان ذلك فِعْلَ عددٍ لكان منع الآخر عن إتيان ما يذهب سلطانه؛ فإذا لم يكن دل أنه فِعْلُ واحدٍ.
ودل سيرهما وجريانهما في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة كذا وكذا عاما على أن منشئهما قادر له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء؛ إذ القدرة المستفادة والمكتسبة لا تبلغ ذلك.
وكذلك في إحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات منها دلالة ذلك كله: من دلالة الوحدانية، ودلالة العلم الذاتي والقدرة الذاتية والحكمة والتدبير؛ لأنه لما أحياها بعد موتها، وأماتها بعد إحيائه إياها دل أنه فِعْلُ واحدٍ لا عدد؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أحيا هذا منع الآخر عن الإماتة، وهكذا إذا مات هذا منع الآخر على أن يكون من فعل ذي عدد من ملوك الأرض؛ فإذ لم يمنع ذلك دل أنه فعل واحد، ودل جريان ذلك كله في كل عام على مجرى واحد وسنن واحد وعلى مقدار واحد من النبات وغيره على أنه إنما كان بعلم ذاتي وحكمة ذاتية، ودلت القدرة على إحيائها بعد موتها وإماتتها بعد حياتها أن له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء من البعث وغيره.
ثم جعل - جل وعلا - في الماء معنى، يوافق ذلك المعنى جميع النبات الخارج من الأرض على اختلاف أجناسها وجواهرها؛ حتى يكون حياة كل شيء من ذلك به: أن ذلك كان كذلك بلطف منه لا يبلغه فهم البشر ولا علمهم، ثم ذلك النبات مع لينه وضعفه ورقته يشق تلك الأرض مع شدتها وصلابتها ويخرج منها ما لا يتوهم خروج أشد الأشياء منها بفعل أحد سواه، دلَّ ذلك على قدرته ولطفه، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً) أي: ميتة.
(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ) أي: تحركت نباتُها وتزينت وصارت حية.
وقوله: (وَرَبَتْ) أي: تربو ويزيد ما عليها من النبات.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: اهتزت بالنبات، ربت: علت وانتفخت.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: اهتزت أي: فُرجت، وربت: من الزيادة.
وقوله: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى).
هو ما ذكرنا: أن الذي ملك وقدر على إحيائها لقادر على إحياء الموتى بعد موتهم.
(إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي: لا يعجزه شيء.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
أما آيات وحدانيته في الليل والنهار والشمس والقمر [ فهي أنها ]٢ إذا كان سلطان أحدهما [ على ]٣ ليل أو نهار أو شمس أو قمر لم يمنع عن كون الآخر، ولو كان ذلك فعل عدد لكان منع الآخر عن إتيان ما يذهب بسلطانه.
فإذا لم يكن دل أنه فعل واحد، ودل جريان ما ذكر من الليل والنهار والشمس والقمر على سياق واحد وسنن واحد مُذ كانا إلى آخر ما يكونان٤ على أن مُنشئَهما عليم مدبِّر، علمه٥ ذاتيّ، وتدبيره٦ ذاتيّ، ليس بمستفاد، ولا مكتسب، ودل سيرهما وجريانهما في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة كذا وكذا عاما على أن منشئهما قادر، له قدرة ذاتية، لا يعجزه شيء، إذ القدرة المستفادة والمكتسبة لا تبلغ ذلك، وكذلك في إحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات منها.
دلالة ذلك كله من دلالة الوحدانية ودلالة العلم الذاتي والحكمة والتدبير، لأنه لما أحياها بعد موتها، وأماتها بعد إحيائه إياها دل أنه فعل واحد لا عدد [ لأنه لو كان فعل عدد ]٧ لكان إذا أحيى هذا منع الآخر عن الإماتة، وكذا إذا أمات هذا منع الآخر عن الإحياء على ما يكون من فعل ذي عدد من ملوك الأرض فإذا لم يمنع ذلك دلّ أنه فعل واحد. ودلّ جريان ذلك كله في كل عام على مجرى واحد وسنن واحد وعلى مقدار واحد من النبات وغيره على أنه كان بعلم ذاتيّ وحكمة ذاتيّة.
ودلت القدرة على إحيائها بعد موتها وإماتتها بعد حياتها أن له قدرة ذاتية، لا يعجزه شيء من البعث وغيره ثم جعل، جل، وعلا، في الماء معنى يوافق ذلك المعنى جميع النبات الخارج من الأرض على اختلاف [ أجناسه وجواهره ]٨ حتى تكون حياة كل شيء من ذلك به. إن ذلك كان كذلك بلطف منه، لا يبلُغه فهم البشر ولا علمهم. ثم ذلك النبات مع لينه وضعفه ورقّته يشُقّ تلك الأرض مع شدتها وصلابتها، ويخرج منها ما لا يتوهّم خروج أشد الأشياء منها بفعل أحد سواه [ دلّ ]٩ ذلك على قدرته ولطفه، والله أعلم.
ثم قوله تعالى :﴿ أنك ترى الأرض خاشعة ﴾ أي ميّتة خشنة ﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت ﴾ أي تحركت بنباتها [ ﴿ ورَبَت ﴾ أي صارت ]١٠ حية.
وقوله تعالى :﴿ وربت ﴾ أي تربو، وتزيد بما١١ عليها من النبات.
قال القتبي :﴿ اهتزّت ﴾ بالنبات ﴿ وربت ﴾ علت، وانتفخت. وقال أبو عوسجة :﴿ اهتزت ﴾ أي فرحت ﴿ وربت ﴾ من الزيادة.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ هو ما ذكرنا : أن الذي ملك، وقدر، على إحيائها قادر على إحياء الموتى بعد موتهم ﴿ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي لا يعجزه شيء.
٢ في الأصل وم: هو أنه..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ من م، في الأصل: يكون..
٥ في الأصل وم: علم..
٦ في الأصل وم: وتدبير..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
٨ في الأصل وم: أجناسها وجواهرها..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: وتزينت وصارت..
١١ الباء ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا... (٤٠)
قرأ بعضهم: (يُلْحِدُونَ) برفع الياء، وقرأ بعضهم بنصبها:
فمن قرأ بالرفع، تأويله: إن الذين يميلون عن قبول آياتنا، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإلحاد: الميل، وأخذ اللحد من هذا.
ومن قرأ بالنصب يقول: يعملون في آياتنا، إن الذين يعملون في دفع آياتنا وإبطالها.
(لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) وعيد منه لهم، يقول: لا يخفون هم وما يفعلون علينا فيجزيهم بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
يشبه أن يكون هذا صلة لآيتين تقدم ذكرهما:
إحداهما: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ...) الآية هذه في المؤمنين، وقال في الكافرين: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا) الآية.
والآية الثانية: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)، يقول: أفمن يلقى في النار بأعماله السوء خير أمن يأتي آمنا عن ذلك بأعماله الحسنة؟! أي: يعلمون أن من يلقى في الآخرة في النار ليس كالذي يأتي آمنا عن ذلك كله، والله أعلم.
وقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: على التخيير؛ لأنه جل وعلا بيِّن السبيلين جميعًا على المبالغة بيانًا شافيًا واضحًا، وبين عاقبة كل سبيل من سلكه إلى ماذا يفضي، ثم قال: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) أي: اسلكوا أي سبيل شئتم، فإن سلكتم طريق كذا فلكم كذا، وإن سلكتم طريق كذا فلكم كذا، واللَّه أعلم.
والثاني: على الوعيد.
وكذا قوله: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) على الوعيد.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١)
[ وقوله تعالى ]٢ :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ يحتمل قوله ﴿ لكتاب عزيز ﴾ أي عزيز، لا يبدّله جحود الجاحدين ولا تكذيب المكذبين، أو يقول :﴿ عزيز ﴾ عند الله تعالى أكرم به محمدا صلى الله عليه وسلم [ أو ]٣ ﴿ عزيز ﴾ يُعزّ من اتّبعه، وعمل به، كما ذكرنا أنه يشرِّف من اتبعه، وعمل بما فيه.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
أحدهما: سماه ذكر؛ لأن من اتبعه وعمل بما فيه صار مذكورًا شريفًا.
أو سماه ذكرا؛ لما يذكر لهم ما نسوا من أحكام اللَّه.
أويذكر ما لله عليهم وما لبعض على بعض.
(وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ).
يحتمل قوله: (لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) أي: عزيز لا يذله جحود الجاحدين ولا تكذيب المكذبين، أو يقول: عزيز عند اللَّه تعالى أكرم به محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعزيز يعز من اتبعه وعمل به، كما ذكرنا أنه يشرف من اتبعه وعمل بما فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)
قال بعض أهل التأويل: أي: لا ينزل كتاب من بعده يكذبه أو يبطله، ولا قبله كتاب يكذبه أو يبطله، بل خرج موافقًا لما قبله من الكتب.
ويحتمل أن يكون قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) أي: إبليس لا يستطيع أن يبطل منه حقًّا، أو يحق منه باطلا، أو ينقص منه حقًّا، أو يزيد فيه باطلا، بل هو على ما ذكرنا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ ما ذكرنا: لا تكذبه الكتب التي كان قبله.
وقوله: (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ).
أي: لا يجيء من بعده كتاب يكذبه، ومعنى هذا: أنهم كانوا يردون ذلك ويدفعونه، وليست لهم حجة من اللَّه في ردهم إياه ولا في دفعه، بل يدفعونه بلا حجة ولا برهان (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
وعن الحسن قال في قوله تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ): إن اللَّه - سبحانه وتعالى - حفظه من الشيطان فلا يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقًّا، ثم قرأ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
ودل قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) على أن كل ما أضيف إليه من اليدين والخلف لا يُفهم منه بذكر اليدين: الجارحتان، أو بذكر الخلف: بقوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)؛ فعلى ذلك ما أضيف إلى اللَّه تعالى من اليدين ومن بين يديه، لا
وقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
أي: هذا القرآن هو تنزيل من حكيم حميد، الحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره أو في حكمه، والحميد: هو الذي لا يلحقه الذم في فعله، واللَّه الموفق.
ثم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) لم يخرج له جواب في هذا الموضع، ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: جوابه ما ذكر في آية أخرى بعد هذا، وهو قوله: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بل جوابه ها ذكر في (حم المؤمن) حيث قال اللَّه - تعالى -: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) يعزِّي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويصبره ليصبر على ما كانوا يقولون له: إنه كذاب وإنه ساحر، وإنه مجنون، وإنه إنما يعلمه بشر، وإنه مفترٍ، وغير ذلك من أنواع الأذى، كانوا يؤذونه وكان يشتد عليه ذلك ويثقل؛ لأنه كان يدعوهم إلى ها به نجاتهم وهم كانوا يستقبلونه بما ذكر، فقال اللَّه - تعالى - له عند ذلك:
(مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ... (٤٣) من التكذيب والنسبة إلى السحر والجنون وغير ذلك، يصبره على ذلك؛ وهو كقوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ.. ،) الآية.
ويحتمل أنه إنما ذكر ذلك له؛ ليسلَّى به عن بعض ما يلحقه من الضجر والوحشة بالذي قالوا فيه؛ بما علم أنه ليس بأول مكذَّب من الرسل، ولا بأول متأذٍّ في ذات اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ).
يقول - واللَّه أعلم -: على أن ذلك إن ربك لذو مغفرة لو تابوا، ورجعوا عن ذلك، وذو عقاب أليم لو ثبتوا وداموا على ذلك.
أو يقول - واللَّه أعلم - على الصلة لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي: إنه لذو مغفرة يغفر لهم ما كان منهم من التكذيب لك والتكذيب للقرآن لو تابوا ورجعوا وصدقوا؛ وذو عقاب أليم إن لم يتوبوا وثبتوا على ذلك، واللَّه أعلم.
أو يذكر هذا، أي: ليس إليك مكافأتهم ومجازاتهم بما كان منهم، إنما ذلك إلينا إن شئت غفرت لهم إذا رجعوا عنه، وإن شئت عاقبتهم؛ وهو كقوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ...) الآية.
وقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ... (٤٤)
وقال في آية أخرى: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)
ويقول أيضًا - واللَّه أعلم -: ولو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعجمين بلسان، فقرأه عليهم -أي على أهل مكة- بلسان العرب بحيث يفهمون - ما كانوا به مؤمنين؛ لأن قرأءة الأعجمي إياه بلسان العرب أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من قراءة العربي بلسان العربية، أي: قراءة كل أحد شيئًا بغير اللسان الذي هو لسانه أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من القراءة بلسان هو لسانه. يقول: لو نزلنا على من لسانه لسان العجم والقرآن عربي، فقرأ الأعجمي ذلك على أهل مكة بلسان العرب؛ فهو أكبر أعجوبة وأعظم في الآية - لكانوا لا يؤمنون به.
فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا) وعاينوا نزول ذلك على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفهمه وأداه وقرأه عليهم بلسان العرب (لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ) يعنون القرآن (وَعَرَبِيٌّ) أي مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - يقولون: القرآن أعجمي ومحمد عربي كيف يكون؟! أي: لا يكون هذا ويكذبونه ولا يؤمنون به؛ وذلك لما ذكرنا: أن أداءه بلسان ليس ذلك لسانه وقراءته بعين ذلك اللسان، أكثر في جعله آية وأعظم في الأعجوبة؛ إذ يمكن الاختلاف من نفسه باللسان الذي هو السانه، وموهوم ذلك إذا لم يكن ذلك لسانه، يخبر عن سفههم وشدة عنادهم في تكذيبهم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما جاء به، والله أعلم.
وقال بعض أهل التأويل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان أحيانا يدخل على رجل أعجمي يقال له أبو فكيهة، فقالوا: إنما يعلمه بشر فأنزل اللَّه تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا) بلسان أعجمي، لقال كفار مكة: (لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) بالعربية، أي: بينت حتى نفقهها ونعلمها ما يقول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولقالوا: أعجمى أنزل عليه القرآن ومُحَمَّد عربي؛ فأنزله عربيًّا ليفقهوه؛ فلا يكون لهم الاعتلال والاحتجاج.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا فصلت آياته حتى يفقهها، أعجمي القرآن وعربيٌّ الرجل؟! وقال أبو معاذ: يكون معنى هذا: أن اللَّه تعالى يستفهم قرآنا أعجميًّا على رجل عربي فلا
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) استفهام من قريش، يكون معناه: لو أنزلناه قرآنا أعجميًّا على رجل عربي لقالوا: أعجمي وعربي كيف يفهم هذا وكيف يعقله؟! لَكنَّا قد ذكرنا أن هذا في الدلالة أكثر وفي الأعجوبة أعظم، والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أنزلت عربية مفصلة بالآي كان التفصيل للسان العرب، لكن لسنا ندري ما يريد بهذا الكلام أن التفصيل للسان العرب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي: هلا فرقت آياته حتى جعل من كل لسان من لسان العجم ولسان العرب؛ حتى يفهمها أهل كل لسان، واللَّه أعلم.
وفي هذه الآية دلالة على أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآنا، وأن اختلاف اللسان لا يغيره ولا يحوله عن أن يكون قرآنا - واللَّه أعلم - فيكون دليلا لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه -: إنه إذا قرأ بالفارسية في صلاته يجوز، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى).
وصف اللَّه تعالى هذا القرآن بالشفاء وللرحمة والهدى، وسماه مرة عزيزًا كريمًا مجيدًا حكيمًا، ونحوه، فهو هدى من الضلالة والحيرة والشك وكل شبهة، وشفاء لكل داء وسقم يكون في الدين والأنفس جميعًا، هو شفاء لذلك كله وهو هدى. ثم يحتمل الهدى وجهين في هذا الموضع:
أحدهما: هو هدى لكل ضلالة، أي: دعاء إلى الذي يضاد الضلال.
والثاني: هدى، أي: جعل بيانًا لكل حيرة وشك وشبهة، من اتبعه وقبله ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل دعاه إلى سبيله ودينه ويخرجه من الضلال، ويكون بيانًا لكل من فيه الحيرة والشك والشبهة، ويخلي له الطريق ويوضح له السبيل ويخرجه من الشبهات، فهو للمؤمنين من الهدى والشفاء؛ لأنهم قبلوه واتبعوه وتكلفوا العمل بما فيه، وأما الكفرة فهو عليهم عمي وحيرة وشك؛ لأنهم لم يقبلوه ولم يتبعوه ونظروا إليه بالاستخفاف والهوان؛ ونبذوه وراء ظهورهم فلم يبصروا ما فيه؛ فهو صار لهم عمى وما ذكر، واللَّه أعلم.
وكذلك قال تعالى: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) سماهم غيبة وإن كانوا بأنفسهم حضورًا شهودًا، وسماهم موتى، وإن كانوا في الحقيقة أحياء، وسماهم صمًّا وبكمًا
وقال في موضع آخر :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [ الأنعام : ٧ ].
يذكر في هذه الآيات كلها سفه أهل مكة وشدة تعنّتهم ؛ يقول : لو نزّلنا عليك الكتاب جملة في قرطاس بحيث يرون نزوله من السماء، ويعاينونه، لقالوا : ما هذا إلا سحر مبين، ويقول أيضا، والله أعلم : ولو نزّلنا هذا القرآن على بعض الأعجميّين بلسان [ العرب ]١ ﴿ فقرأه عليهم ﴾ أي على أهل مكة بلسان العرب بحيث يفهمون ﴿ ما كانوا به مؤمنين ﴾ [ الشعراء : ١٩٩ } لأن قراءة الأعجمي إياه بلسان العرب أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من قراءة العربي بلسان العربية، أي قراءة كل أحد شيئا بغير اللسان الذي، هو لسانه، أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من القراءة بلسان، هو لسانه.
يقول : لو نزّلناه٢ على من لسانه لسان العجم، والقرآن عربيّ، فقرأ الأعجميّ ذلك على أهل مكة بلسان العرب، وهو أكبر أعجوبة وأعظم في الآية، لكانوا لا يؤمنون به.
فعلى ذلك يقول، والله أعلم :﴿ لو جعلناه قرآنا أَعجميًّا ﴾ وعاينوا نزول ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم، وفهِمه، وأدّاه، وقرأه عليهم بلسان العرب ﴿ لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ ﴾ يعنون القرآن ﴿ وعَربيٌّ ﴾ أي محمد صلى الله عليه وسلم ؟
يقولون : القرآن أعجميّ، ومحمد عربيّ ؟ كيف يكون هذا ؟ أي لا يكون هذا، ويكذّبونه، ولا يؤمنون به. وذلك لما ذكرنا أن أداءه بلسان، ليس ذلك لسانه، وقراءته بغير ذلك اللسان أكثر في جعله آية وأعظم الأعجوبة ؛ إذ يكمُن٣ الاختلاف من نفسه باللسان الذي هو لسانه، وموهوم ذلك، وغير موهوم، ذلك إذا لم يكن ذلك لسانه. يخبر عن سفههم وشدة عنادهم في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به، والله أعلم.
وقال بعض أهل التأويل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يدخل على رجل أعجميّ يقال له : أبو فُكَيهة، فقالوا :﴿ إنما يعلّمه بشر ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] فأنزل الله تعالى :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميّا ﴾ بلسان أعجميّ لقال كفار مكة :﴿ لولا فصّلت آياته ﴾ بالعربية، أي بُيّنت حتى يفقهها، ويعلّمها ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ولقالوا :﴿ أأعجميّ ﴾ أُنزل القرآن٤ ومحمد عربيّ ؟ فأنزله عربيّا ليفقهوه، فلا يكون لهم الاعتلال والاحتجاج.
وقال بعضهم :﴿ لولا فصّلت آياته ﴾ حتى يفقهها أعجميّ القرآن وعربيّ اللسان٥.
وقال أبو معاذ : يكون معنى هذا أن الله تعالى يستفهم :﴿ قرآنا أعجميا ﴾ على رجل عربيّ ؟ فلا يفهمونه٦ ؟ فتكون الحجة عليهم٧ بذلك. وهو مثل الأول.
وقال بعضهم :﴿ أأعجميّ وعربيّ ﴾ : استفهام من قريش : يكون معناه لو أنزلنا قرآنا /٤٨٦–ب/ أعجميّا على رجل عربيّ لقالوا :﴿ أأعجميّ وعربيّ ﴾ كيف يفهم هذا ؟ وكيف يعقله ؟
لكنا قد ذكرنا أن هذا في الدلالة أكثر، وفي الأعجوبة أعظم، والوجه فيه ما ذكرنا بدءا.
وقال القتبيّ :﴿ لولا فصّلت آياته ﴾ أُنزلت عربية مُفصّلة : للآي كان التفصيل بلسان العرب.
لكن لسنا ندري ما يريد بهذا الكلام أن التفصيل بلسان العرب.
وقال بعضهم :﴿ لولا فصّلت آياته ﴾ أي هلاّ فرّقت آياته حتى جُعل من كل لسان : من لسان العجم ولسان العرب حتى يفهمهما أهل كل لسان، والله أعلم.
وفي هذه الآية دلالة على أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآنا، وأن اختلاف اللسان لا يغيّره، ولا يحوّله عن أن يكون قرآنا، والله أعلم. فيكون دليلا لقول أبي حنيفة، رحمه الله : إنه إذا قرأه [ المرء ]٨ بالفارسية في صلاته تجوز [ صلاته ]٩ والله أعلم.
[ وقوله تعالى ]١٠ :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ وصف الله تعالى هذا القرآن بالشفاء والرحمة والهدى، وسمّاه مرة عزيزا [ بقوله :﴿ وإنه لكتاب عزيز ﴾ [ فصلت : ٤١ ] ومرة كريما بقوله :﴿ إنه لقرآن كريم ﴾ [ الواقعة : ٧٧ ] ومرة مجيدا بقوله ﴿ ق والقرآن المجيد ﴾ [ ق : ١ والبروج : ٢١ ] ومرة حكيما بقوله :﴿ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذّكر الحكيم ﴾ [ آل عمران : ٥٨ ولقمان : ٢ ويس : ٢ ]١١ ونحوه.
فهو هدى من الضلالة والحيرة والشكّ وكل شُبْهَة، وشفاء لكل داء وسُقم يكون في الدين والأنفس جميعا. هو شفاء لذلك كله، وهو هدى. ثم يحتمل الهدى وجهين في هذا الموضع :
أحدهما : هو هدى لكل ضلالة، أي دعاء إلى الذي يضادّ الضلال.
والثاني : هدى، أي جُعل بيانا لكل حيرة وشك وشُبهة ؛ من اتبعه، وقبِله، ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل دعاه إلى سبيله ودينه، ويخرجه من الضلال، ويكون بيانا لكل من فيه الحيرة والشك والشُّبهة، ويُخلي له الطريق، ويوضح له السبيل، ويُخرجه من الشّبهات.
فهو للمؤمنين الهدى والشفاء، لأنهم قبلوه، واتبعوه، وتكفّلوا العمل بما فيه.
وأما الكفرة فهو عليهم عمى وحيرة وشك، لأنهم لم يتقبّلوه، ولم يتّبعوه، ونظروا إليه بالاستخفاف والهوان، ونبذوه وراء ظهورهم، فلم يبصروا ما فيه، فصار١٢ لهم عمى وما ذكر، والله أعلم. ولذلك قال تعالى :﴿ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾.
سمّاهم غيبة، وإن كانوا بأنفسهم حضورا، وسمّاهم ﴿ الموتى ﴾ [ النمل : ٨٠ والروم : ٥٢ ] وإن كانوا في الحقيقة أحياء، وسمّاهم صمًّا وبُكمًا وعُميًا [ البقرة : ١٨ و١٧١ ] وإن كانت لهم هذه الجوارح [ في الحقيقة لما لم ينتفعوا بهذه الجوارح ]١٣ بالذي جُعلت هذه الجوارح له، وأنشِئت، فنفاها عنهم ليُعلَم أن المقصود بإنشاء هذه الجوارح والأنفس لا نفس هذه الجوارح والأنفس ولكن طلب ما غاب عنها، وخفي، إذ أنفسهم في الحقيقة كانت شهودا وحضورا.
سمّاهم غيبة١٤ وسمّاهم موتى وعُميا وما ذكر ليُعلم أنها إنما جُعلت ليكتسبوا بها الحياة الدائمة والبصر الدائم وما ذكر من كل شيء من السمع وغيره. وكذلك هذه النّعم التي جُعلت ليكتسبوا بها النعم الدائمة، فإذا لم يستعملوها في ما جُعلت صاروا كما ذكر، والله أعلم.
وقال بعضهم :﴿ وهو عليهم عمًى ﴾ أي عموا عنه. وقال بعضهم :﴿ وهو عليهم عمى ﴾ أي في الآخرة جزاء بما نسوه في الدنيا كقوله تعالى :﴿ لم حشرتني أعمى ﴾ ﴿ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى ﴾ [ طه : ١٢٥ و١٢٦ ].
وقيل : قوله تعالى :﴿ ينادون من مكان بعيد ﴾ [ عبارة عن قلة أفهامِهم ؛ يقال للرجل الذي لا يفهم : أنت تُنادى من مكان بعيد ]١٥ والله أعلم.
٢ الهاء ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: يمكن، ولعل ما أثبتنا أفضل..
٤ أدرج قبلها في الأصل وم: عليه..
٥ في الأصل وم: الرجل..
٦ الهاء ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: لهم..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ في الأصل وم: كريما مجيدا حكيما..
١٢ في الأصل: صار، في م: فهو صار..
١٣ من م، ساقطة من الأصل..
١٤ أدرج بعدها في الأصل وم: وأحياء وبصراء..
١٥ من م، ساقطة من الأصل..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، أي: عموا عنه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، أي: في الآخرة، جزاء بما نسوه في الدنيا؛ كقوله تعالى: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى).
وقيل: قوله: (يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وعبارة عن قلة أفهامهم؛ يقال للرجل الذي لا يفهم: أنت تنادى من مكان بعيد، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ).
كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إنا قد آتينا موسى الكتاب ما عرفوا أنه إنما نزل من عند الله تعالى؛ حيث شاهدوا نزوله جملة، ومع أنهم عرفوا ذلك، اختلفوا فيه حتى كذبه بعضهم؛ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: لو أنزلنا القرآن عليك أعجميًّا، فأديته إليهم بلسانك العربي، لكذبوك، ولا يصدقونك، وإن كان ذلك في الدلالة أكثر في الأعجوبة وأعظم على ما فعل قوم موسى بالكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، يذكر سفههم وتعنتهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).
ظاهر هذه الآية على أن ما ذكر من المنة والرحمة في تأخير العذاب إنما هو لقوم
ثم ظاهر قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) استدلال واحتجاج لأهل الإلحاد؛ لأن مثل هذا في الشاهد إنما يقال لأحد معنيين: أما لجهل بالعواقب، أو لعجز عن وفاء ما وعد، لكن اللَّه يتعالى عن الوصف بالجهل بعواقب الأمور والوصف بالعجز عن شيء مما أقام من الآيات والبراهين على العلم والقدرة.
ثم قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل الكلمة: الحجة؛ كقوله تعالى: (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، وقوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي)، أي: لحجج ربي، وتكون الكلمة منه: الدِّين؛ كقوله تعالى: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، ونحوه.
وقيل: الكلمة: هي الساعة التي هي آخر عذاب هذه الأمة، فقال: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)، واللَّه أعلم.
وجائز أن تكون الكلمة هاهنا ما سبق من المنة لهذه الأمة ألا يعذبها وقت استحقاقهم العذاب.
أو سبق منه المنة والرحمة بتأخير الهلاك عن وقت اكتسابهم أسباب الهلاك، وهذا على المعتزلة والخوارج؛ لقولهم: إن ليس لله أن يعفو أو يؤخر العذاب عمن وجب عليه أو استحقه أو كلام نحوه، حيث منَّ ورحم هذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى وقت، ولو لم يستحقه العذاب، لم يكن لذكر المنة والرحمة في ذلك معنى؛ وهو كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه إنما امتحنهم لا لمنافع فيه يجرُّ إلى نفسه، أو لمضار يدفعها عن نفسه، ولكنه إنما امتحنهم وأمرهم ونهاهم؛ لمنافع يكتسبون لأنفسهم، ولمضار يدفعون بذلك عن أنفسهم، وليس كملوك الأرض أنهم يمتحنون الخلق ويأمرون وينهون ويستعملونهم لمنافع أنفسهم، ولمضار يدفعونها بذلك عن أنفسهم، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فإنما يمتحن الخلائق لمنافع يجرون إلى أنفسهم ولمضار يدفعون به عن أنفسهم، فلهم حصول منافع ذلك الامتحان والأمر والنهي، وعليهم حصول ضرر ذلك؛ فلأنفسهم يعملون ما يعملون من الخير والطاعة، وعليهم ما يعملون من الشر؛ ولذلك
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧)
أجمع من آمن باللَّه تعالى، وصدق رسله - عليهم السلام - من أهل السماء وأهل الأرض أن ليس عندهم علم بوقت الساعة؛ فإن ذلك خفي عليهم لا يعلمونه، وأن علم ذلك عند اللَّه تعالى، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا...) الآية؛ غير الباطنية والروافض؛ فإن علم ذلك عندهم على مذهبهم وفي زعمهم:
أما الروافض: فإنهم يعدون الأئمة ويقولون: إن الساعة على إمام كذا، وفي زمان كذا.
وأما الباطنية يقولون: إن اسم الساعة والقيامة ونحو ذلك إنما هو اسم قائم الزمان وإنه فلان، فعلى قولهم يظهر وقت قيامها، فهو خلاف ما ذكر في الكتاب، وما أجمع عليه أهل السماء والأرض، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).
جائز أن يكون ما ذكر من إخراج الثمرة من الأكمام وما ذكر من حمل الأنثى ووضعها، وهو موصول بقوله: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ)، فإن كان على ذلك، فمعناه لا يعلم ذلك كله إلا هو، لا يعلم وقت خروجها ولا حدها، وأنها تخرج أو لا، وكذلك الولد لا يعلم كيفية علوقه ولا وقته ولا مقداره، وأنه يعلق أو لا، علم ذلك إلى اللَّه تعالى كعلم الساعة، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) على الابتداء، ليس على الصلة بالساعة، ولكن موصول بما تقدم من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً...) إلى آخر ما ذكر؛ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: ومن آيات ألوهيته ووحدانيته وآيات
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ أَكْمَامِهَا) أي: المواضع التي كانت فيها مستترة، وغلاف كل شيء كمه، كما قيل: كم القميص.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أكمامها: غطاؤها التي يكون فيها قبل أن يتعيق، والتعيق: التشقق؛ يقال: تعيقت الأكمام عن الثمرة، أي: تشققت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي).
يذكرهم، ويخبر عما يسألون يوم القيامة وما يكون من جوابهم لذلك السؤال؛ لعلهم يمتنعون عن ذلك، ويحذرون؛ يقول: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي) أي: أين الذين تزعمون أنهم شركائي في الدنيا؟ أو أين الذين تعبدون في الدنيا وتزعمون أنها آلهة، وأنها شفعاء لكم عندي؟ وإلَّا لا يحتمل أن يقول لهم الرب - جل وعلا -: أين شركائي؟ ولا شريك له ولا إله غيره، ولكن ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (آذَنَّاكَ): أسمعناك.
وقيل: أعلمناك.
والأشبه أن يكون معنى (آذَنَّاكَ): أخبرناك؛ إذ اللَّه تعالى كان عالما بذلك، وإعلام العالم لا يتحقق، أما الإخبار للعالم عن الشيء يتحقق بما علم به، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في ذلك أنه قول من؟: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول أُولَئِكَ الكفرة الذين نودوا يومئذ يقولون: أخبرناك أن لم يكن منا أحد شهيدا بذلك، أو يقولون بالشريك، أو بإلهٍ سواك، يخرج على الإنكار والجحود والكذب أنهم لم يقولوا ذلك، ولم يفعلوا، وهو كما ذكر عنهم في آية أخرى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا...) الآية، فقالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أنكروا ما كان منهم من الإشراك؛ فعلى ذلك قوله: (آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ)، أي: لم نشرك بك أحدا، ولم نتخذ من دونك إلها، واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (آذَنَّاكَ) على هذا التأويل هو ما ذكروا: أن كنا عن عبادتكم لغافلين، واللَّه تعالى أعلم.
ثم إن الكفرة في يوم القيامة مرة أنكروا عبادتهم غير اللَّه، وأحيانا أقروا بها وتبرءوا منها، ومرة سألوا الرجوع إلى المحنة والرد إلى الدنيا على اختلاف الأحوال والأوقات في ذلك اليوم؛ إذ لا تكون هذه إلا الأسئلة المختلفة في وقت واحد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
هو ما ذكر في آية أخرى (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا)؛ وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام في الدنيا؛ رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وتقربهم إلى اللَّه زلفى، فلما أيسوا ما رجوا منها، وقمعوا، قالوا: (ضَلُّوا عَنَّا)، فعلى ذلك قوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا) من قبل في الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)، أي: أيقنوا وعلموا أن لا محيص لهم ولا نجاة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)، أي. مهرب.
* * *
قوله تعالى: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ)، وقال في آية أخرى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)، هاتان الآيتان في ظاهر المخرج: إحداهما: مخالفة للأخرى؛ لأنه ذكر في إحداهما الإياس والقنوت إذا مسه الشر، وفي الأخرى كثرة الدعاء إذا مسه الشدة والبلاء، ومن طباع الخلق والعرف فيهم أنهم إذا أيسوا [وقنطوا] لا يدعون ولا يسألون، بل يتركون
يحتمل: أن كل واحدة من الآيتين في إنسان بعينه يشار إليه سوى الآخر، كان عادة أحدهما -على الإياس والقنوط من الخير- ترك الدعاء والسؤال، وكان عادة الآخر الدعاء والتضرع إليه والسؤال عن كشف ذلك عنه، فأخبر - جل وعلا - رسوله عليه الصلاة والسلام ما أضمر كل واحد منهما: في نفس أحدهما الإياس والقنوت، والآخر الدعاء والسؤال والطمع في الخير؛ ليكون له عليهم دلالة الرسالة وآية النبوة إذ أنبأه عن ضمير كل واحد منهما وما في نفسه؛ ليعلم أنه رسول، وإنما علم ذلك باللَّه جلا وعلا، واللَّه أعلم.
والثائي: أن الكفرة كانوا فرقا، وكانوا على مذاهب شتى مختلفة:
فرقة كانت تطمئن في حال الرخاء والسعة، وتيأس وتنقلب في حال البلاء والشدة؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ...) الآية.
وفرقة كانت تفزع إلى اللَّه تعالى وتقبل إليه عند إصابة الشدة والبلاء، وتعرض عنه عند كشف ذلك عنهم وتوسيع النعم عليهم؛ نحو قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ...) الآية، ونحوه كثير في القرآن.
وفرقة كانت في الحالين جميعا على الإعراض عنهم، وترك الإقبال إليه والطاعة له، لا يفزعون ولا يقبلون لا في حال الرخاء والسعة ولا في حال البلاء والشدة؛ كقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
وفرقة كانت ترى الحسنة والخير من أنفسهم، وإذا صارت سيئة وشدة تطيروا بالرسل عليهم السلام؛ كقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) وقوله تعالى: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ).
وإذا كانت الكفرة على هذه المذاهب المختلفة وكانت أجناسا شتى، فيكون كل آية منهما في جنس غير الجنس الآخر، وفي أهل مذهب غير أهل مذهب آخر، فأما المسلمون فيكونون في الحالين جميعًا على التوحيد والإقبال إلى اللَّه تعالى في حال الرخاء والسعة، وفي حال البلاء والشدة، وهو على ما استثناهم اللَّه تعالى عند ذكر الكفرة؛ حيث قال: (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية، وأمثال ذلك من الآيات، وصفهم - جل وعلا - بالثبات والقرار على دينهم في الأحوال كلها، واللَّه أعلم.
هاتان الآيتان في ظاهر المخرج إحداهما مخالفة للأخرى، لأنه ذكر في إحداهما الإياس والقنوط إذا مسّته الشدة والبلاء، ومن طباع الخلق والعُرف فيهم أنهم [ إذا ]١ أيِسوا، وقنطوا، لا يدعون ولا يسألون، بل يتركون سؤالهم، وإذا طمعوا، ورجوا، عند ذلك سألوا ودعوا. هذا هو العُرف فيهم.
فدل أن بينهما مخالفة من حيث الظاهر. لكن نقول : إن الآية تخرّج على وجوه :
[ أحدها ]٢ : يحتمل أن كل واحدة من الآيتين في إنسان بعينه، يشار إليه سوى الآخر : كانت عبادة أحدهما على الإياس والقنوط من الخير وترك الدعاء والسؤال، وكانت عبادة الآخر [ على ]٣ الدعاء والتضرّع إليه والسؤال عن كشف ذلك عنه.
فأخبر، جلّ، وعلا، رسوله عليه السلام ما أضمر كل واحد منهما : في نفس أحدهما الإياس والقنوط [ وفي نفس ]٤ الآخر الدعاء والسؤال والطّمع في الخير ليكون له عليهم دلالة الرسالة وآية النبوّة، إذ أنبأ عن ضمير كل واحد منهما وما في نفسه ليُعلَم أنه رسول، وإنما علم ذلك بالله، جلّ، وعلا، والله أعلم.
والثاني : أن الكفرة كانوا فِرقًا، وكانوا على مذاهب شتى مختلفة.
فرقة كانت تطمئن في حال الرخاء والسعة، وتيأس وتتقلّب في حال البلاء والشدة كقوله :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ﴾ الآية [ الحجج : ١١ ].
وفرقة كانت تفزع إلى الله، وتقبل إليه عند إصابة الشدة والبلاء، وتُعرض عنه عند كشف ذلك عنهم وتوسيع النعم عليهم نحو قوله تعالى :﴿ فإذا ركبوا في الفلك ﴾ الآية [ العنكبوت : ٦٥ ] ونحوه كثير في القرآن.
وفرقة كانت٥ في الحالين /٤٨٧–ب/ جميعا على الإعراض عنه وترك الإقبال إليه والطاعة له ؛ لا يفزعون، ولا يُقبَلون لا في حال الرخاء والسعة ولا في حال البلاء والشدة كقوله :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم ﴾ [ الأنعام : ٤٣ ].
وفرقة كانت ترى الحسنة والخير من أنفسهم، وإذا صارت سيئة وشدة تطيّروا بالرسل عليهم السلام كقوله تعالى :﴿ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطّيّروا بموسى ومن معه ﴾ [ الأعراف : ١٣١ ] وقوله تعالى :﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ﴾ [ النمل : ٤٧ ].
وإذا كانت الكفرة على هذه المذاهب المختلفة، وكانت أجناسا شتى فتكون كل آية منها في جنس غير الجنس الآخر وفي أهل مذهب غير أهل مذهب آخر.
فأما المسلمون فيكونون في الحالين جميعا على التوحيد والإقبال على الله تعالى في حال الرخاء والسعة وفي حال البلاء والشدة، وهو على ما استثناهم الله تعالى عند ذكر الكفرة حين٦ قال :﴿ إنه لفرِحٌ فخُور ﴾ ﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ﴾ [ هود : ١٠ و١١ ] وقال تعالى :﴿ والعصر ﴾ ﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ ﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [ العصر ١ – ٣ ] وأمثال ذلك من الآيات. وصفهم عز وجل بالثبات والقرار على دينهم في الأحوال كلها، والله أعلم.
والثالث : وجائز أن يكون ما ذكر من الآيتين على ما ذكر إخبارًا٧ عما طُبِع عليه البشر ؛ أُنشئ البشر، وطُبع على الرغبة في الخير والسعة والنّفار عن الشدة والبلاء والكراهة له. فهذا إخبار عما طُبعوا عليه، وأُنشئوا، ليس على حقيقة إظهار ذلك منهم قولا أو فعلا على ما طُبع كل إنسان راغبا حرّاصًا في السعة والرخاء، وإنه ما ذكر لا يسأم من دعاء الخير كارها نافرا عن البلاء والشدة، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: و..
٥ أدرج بعدها في الأصل وم: قال..
٦ في الأصل وم: حيث..
٧ في الأصل وم: إخبار..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (هَذَا لِي)، أي: أعطانيه من خير علمه مني.
وجائز أن يكون ما ذكرنا أنهم كانوا يتطيرون بالرسل عند البلاء والشدة، والسعة يرونها من أنفسهم؛ حيث قال: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً).
كانوا ينكرون البعث والجزاء لما عملوا في الدنيا، ثم يقولون: ولئن كان يذكر محمد من البعث والجزاء للأعمال والجنة؛ إن ذلك لنا دونهم، وهو قوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، أي: إن رجعت إلى ربي على ما يقوله مُحَمَّد: (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) وهو على ما قالوا في الدنيا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) لما رأوا السعة لأنفسهم في الدنيا دون المؤمنين؛ فعلى ذلك في الآخرة قالوا لنا دونهم، واللَّه الهادي.
ثم أخبر تعالى عما ينزل بهم بأعمالهم في الآخرة، وهو قوله تعالى: (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ).
أي: ننبئنهم بخبر ما عملوا؛ لأن ذلك كان منهم تمنيًا وتشهيًا بمن يذيقهم العذاب الغليظ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
هو ما ذكرنا من دعائهم وسؤالهم الخير وطمعهم ذلك.
وقوله: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) أي: تباعد عما أمر به، (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) أي: كثير الدعاء لا يمل ولا يسأم، وكذا قَالَ الْقُتَبِيُّ.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
وقال أبو عوسجة :﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ أي تباعد عما أُمر به.
وقوله تعالى :﴿ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ أي كثير الدعاء، لا يمل، ولا يسأم، وكذا قال القتبي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ... (٥٢).
يقول: إن كان هذا القرآن من عند اللَّه ثم كفرتم به، وجائز أن يكون على الابتداء ليس بجواب لقوله: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ويكون كأن لم يذكر جواب (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ)؛ لما عرفوا أن من عاند وعادى ما كان من عند اللَّه أنه ما يعمل بهم وما يصنع؛ وهو كقوله تعالى: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، يُذْكر له جواب؛ لما عرفوا أن من تريدون عبدوا دون اللَّه بعد معرفتهم أنه إفك وأنه كذب وليس بإلهٍ، أن اللَّه ماذا يفعل بهم، فلم يُذْكر لهذا جواب؛ لمعرفتهم بما يُفعل بهم؛ فعلى ذلك قوله: (قُل أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) يجوز أنْ لم يذكر له جواب؛ لما عرفوا أنه ما يفعل بهم وما يستوجبون منه بما عاندوه وعادَوْه بعد معرفتهم أنه من عند اللَّه جاء ثم كفروا به، واللَّه أعلم.
وإن كان موصولا فجوابه ما ذكر من قوله: (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)؛ فيكون كأنه يقول - واللَّه أعلم -: أرأيتم إن كان من عند اللَّه ثم كفرتم به، فإذا كفرتم ضللتم، فمن أضل ممن هو في شقاق بعيد؟!
أي: في خلاف وبعد؛ فيكون جوابه كأنه قال: لا أحد أضل ممن عرف أنه من عند الله ثم خالفه وتباعد عنه، على ما ذكرنا في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) أي نريهم عذابنا الذي نزل بالأمم المتقدمة في بلاد عاد وثمود وقوم لوط، كانوا يمرون عليها ويعرفون أنه لماذا نزل بهم ذلك وتكذيبهم الرسل وعنادهم، ونريهم عذابنا أيضًا في أنفسهم ببدر حيث قتل فراعنتهم يومئذ؛ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)؛ يقول): إن القرآن هو الحق من اللَّه؛ لأن فيه الإخبار عن العذاب للذين كذبوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ) هو ظهور مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على البلاد والقرى
وقال بعضهم :﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ ﴾ هو ظهور محمد صلى الله عليه وسلم على البلاد والقرى النائية، وفتحها عليه ﴿ وفي أنفسهم ﴾ أي فتح مكة، وظهوره عليهم على ما وعد له ربه، جل، وعلا، من النصر له وفتح البلاد والقُرى. فيكون هذان التأويلان آية رسالته ونبوّته، والله أعلم.
ويحتمل قوله :﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وفي أنفسهم ﴾ آيات وحدانيته وألوهيته : أما في الآفاق [ ففي وجهين :
أحدهما : ما ]٤ جعل منافع البلاد النائية والقرى المتباعدة متصلة بمنافع أنفسهم ومنافع البلاد القريبة، ومنافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بُعد ما بينهما ليُعلَم أنه تدبير واحد وفعل فرد لا عدد.
[ والثاني :]٥ أن تكون آياته في الآفاق رفع السماء مع غلظها وكثافتها وسعتها بلا سبب ولا تعليق من أعلاها ولا عماد.
[ وأما ]٦ في أنفسهم فما٧ حوّلهم، وقلّبهم في الأرحام من حال النطفة إلى حال العلقة ومن حال العلقة إلى حال المضغة ثم [ من ]٨ حال المضغة إلى حال الإنسان والتصوير والتركيب إلى آخر ما ينتهي إليه أمره ليُعلَم أنه صنع واحد وتدبير فرد، لا تدبير لأحد سواه في ذلك.
فهذان التأويلان في آية الألوهية والوحدانية. والأولان في إثبات الرسالة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ كأنه يقول :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ﴾ شاهدا أنه على ما تقول أنت ؟ أو يقول :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ﴾ ناصرا ومعينا ؟ أو يكون قوله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ﴾ أي أو لم يكفِهم ما جاء من عند الله من البينات والقرآن كقوله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ الآية ؟ [ العنكبوت : ٥١ ] فعلى ذلك يحتمل هذا.
ويحتمل : أو لم يكفِهم آية على رسالتك وآية على وحدانية الله تعالى ما جاء من عند الله ؟ والله أعلم.
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: العذاب..
٤ في الأصل وم: وما..
٥ في الأصل وم: أو..
٦ في الأصل وم: أو..
٧ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٨ من م، ساقطة من الأصل..
فيكون هذان التأويلان آية لرسالته ونبوته، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) آيات وحدانيته وألوهيته:
أما في الآفاق فما جعل منافع البلاد النائية والقرى المتباعدة متصلة بمنافع أنفسهم ومنافع البلاد القريبة، ومنافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما؛ ليعلم أنه تدبير واحد وفعل فرد لا عدد، أو أن يكون آياته في الآفاق رفع السماء مع غلظها وكثافتها وسعتها بلا سبب ولا تعليق من أعلاها ولا عماد من أسفلها.
وفي أنفسهم: ما حوَّلهم وقلَّبهم في الأرحام من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن حال العلقة إلى حال المضغة، ثم من حال المضغة إلى حال الإنسان والتصوير والتركيب، إلى آخر ما ينتهي إليه أمره؛ ليعلم أنه صنع واحد وتدبير فرد لا تدبير لأحد سواه في ذلك.
فهذان التأويلان في آية الألوهية والوحدانية، والأولان في إثبات الرسالة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
كأنه يقول: أولم يكف ربُّك شاهدًا أنه من عنده على ما تقول أنت، أو يقول: أولم يكف ربك ناصرًا ومعينًا، أو يكون قوله: (أَوَلَمْ يَكْفِ) أي: أولم يكفهم ما جاء من عند اللَّه من البينات والقرآن؛ كقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ...) الآية؛ فعلى ذلك يحتمل هذا. ويحتمل: أولم يكفهم آية على رسالتك أو آية على وحدانية اللَّه تعالى ما جاء من عند اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
ألا إن شكهم ومريتهم في البعث هو الذي حملهم على تكذيب ما جاء من عند الله وإنكاره، واللَّه أعلم بالصواب.
* * *