تفسير سورة فصّلت

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَة فُصِّلَتْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢)
(تَنْزِيلٌ) رفع بالابتداء، وخبره (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ).
هذا مذهب البصريينَ.
وقال الفَرَّاءُ يجوز أن يكون (تَنْزِيلٌ) مرتفعاً بِـ (حم)، ويجوز أن يرتفع
بإضمار هذا. المعنى هذا تنزيل من العزيز الرحيم، أي هو تنزيل.
(قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)
نصب (قُرْآنًا) على الحال.
المعنى بينت آياته قرآناً، أي بينت آياته في حال جمعه عربياً.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي بيَّنا لمن يعلم.
* * *
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا)
من صفته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥)
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ)
فِي غُلُفِ، أي ما تدعونا إليه لا يصل إلى قلوبنا لأنها في أغطية، وواحد
الأكِنةِ كِنَان.
(وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ).
أيْ صَمَمٌ وقفل يمنع من الاستماع لقولك أي نحن في ترك القبول
منك بمنزلة من لا يستمع قولك.
(وَمِنْ بَيْينَا وَبَييكَ حِجَابٌ).
أي حاجز في النِحْلَةِ والدِّينِ.
وهو - مثل (قُلوِبنَا في أَكِنةٍ) إلا أن معنى هذا أَنا لا نُجامِعُك فِي مَذْهِبٍ.
(فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).
أي على مذهبنا، وأنت عامل على مَذْهَبَكَ.
ويَجُوزُ أَنْ يكونَ فاعمل في إبطال مذهبنا إنا عاملون في إبطال أَمْرِكَ.
* * *
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
(٧)
أي لا يرونها واجبة عليهم، وَلاَ يُعْطُونها.
* * *
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩)
لو أراد - جل وعَلَا - أنْ يخلقها في لَحظَةٍ لَفَعَلَ ولكان ذلك سائغا في
قُدْرَتِهِ، ولكنه أحب أن يُبْصِرَ الخَلْقُ وُجُوهَ الأناةِ والقُدْرَةِ على خلق السَّمَاوَات والأرض في أيام كثيرة وفي لحظةٍ وَاحِدَةٍ لأن المخلوقين كلهُم والملائِكَةَ المقَربِينَ لو اجتمعوا على أن يخلقوا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْهَا مَا خَلَقُوا.
وجاء في التفسير أن ابتداء خلق الأرْضِ كان في يوم الأحَدِ واستقام
خلقها في يوم الاثنين.
* * *
(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
(وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا).
في الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أَربعة أَيَّام، فذلك قوله: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ).
أي في تتمة أرْبَعةِ أَيَّام.
(سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ).
وَسَواءٍ، ويجوز الرفعُ. فمن خفض جَعَلَهُ صفَةً للأيَّامِ.
المعنى في أربعة أَئامٍ مسْتَوَياتٍ، ومن - نصب فعلى المصدر، على
معنى استوت سَواءً، واسْتِوَاءً.
ومَنْ رَفَع فعلى معنى هي سَوَاء (١).
ومعنى (لِلسَّائِلِينَ)، مُعَلًق بِقَوْله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) لكل محتاج إلى
القوتِ.
وَإنما قِيلَ (لِلسَّائِلِينَ) لأن كُلًّا يَطْلُبُ القُوتَ وَيَسْألُه.
ويجوز أن يكون للسائلين لمن سأل في كم خُلِقَت السماواتُ والأرَضُونَ؛ فقيل: خُلِقَتْ الأرْضُ في أربعة أيام سَوَاء لَا زيادَةَ فِيهَا وَلاَ نقصانَ جَوَاباً لِمَنْ سَأل.
* * *
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١)
معنى استوى عَمَدَ إلى السماءِ وَقَصَدَ.
(قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
على الحال مَنْصُوبٌ، وإنما قِيلَ طَائِعين دُونَ طَائِعَات، لِأنَّهُنَّ جَرَيْن
مَجْرَى ما يَعْقِل وُيميزُ، كما قيل في النجوم: (وَكُل في فَلَكَ يُسْبَحُونَ)
وقد قِيلَ (قَالَتَا أَتَيْنَا) أَيْ، نَحْنُ وَمَنْ فينَا طَائِعِينَ.
وَمَعْنَى (طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) على معنى أَطِيعَا لما أَمَرت طَوْعاً، بمنزلة أَطِيعَا الطَاعَةَ أو تُكْرَها إكراهاً.
* * *
(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
(فَقَضَاهُنَّ).
فَخَلَقَهُنَّ وَصَنَعُهُنَّ.
قَالَ أَبُو ذُؤيبٍ.
(١) قال السَّمين:
قوله:» سواءً «العامَّةُ على النصبِ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: استَوتْ استواءً، قاله مكي وأبو البقاء. والثاني: أنه حالٌ مِنْ» ها «في» أقواتها «أو مِنْ» ها «في» فيها «العائدةِ على الأرض أو من الأرض، قاله أبو البقاء.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى: إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ، لا وصفُ الأرضِ بذلك، وعلى هذا جاء التفسيرُ. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ»
سَواءٍ «بالجرِّ صفةً للمضافِ أو المضافِ إليه. وقال السدي وقتادة: سواءً معناه: سواءً لمن سألَ عن الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه، وأرادَ العِبْرَةَ فيه، فإنه يَجِدُه كما قال تعالى، إلاَّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء، فإنهم قالوا: معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين.
وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد»
سَواءٍ «بالخفضِ على ما تقدَّمَ، وأبو جعفرٍ بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ. وقال مكي:» هو مرفوعٌ بالابتداء «، وخبرُه» للسائلين «. وفيه نظرٌ: من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ مُسَوِّغٍ، ثم قال:» بمعنى مُسْتوياتٍ، لمن سأل فقال: في كم خُلِقَتْ؟ وقيل: للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى «.
قوله:»
للسَّائلين «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلقٌ ب» سواء «بمعنى: مُسْتويات للسائلين. الثاني: أنه متعلِّقٌ ب» قَدَّر «أي: قَدَّر فيها أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين. الثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ كأنه قيل: هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل: في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وعليهما مسرودتان قضاهما... داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
معناه عملهما وَصَنَعُهَما.
(وَأوُحَى فِي كُلَ سَمَاءٍ أَمْرَهَا).
قِيلَ ما يُصْلِحُهَا، وَقِيلَ مَلَائِكَتُهَا.
(وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا).
معناه وحفظناها مِنَ اسْتِمَاعِ الشياطِين بالكواكب حِفْظاً فقال:
(قل أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) بمن هذه قدرته (وتجعلون له أنداداً) أي أصناماً
تنحتونها بَأيْدِيكم.
(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
أي الذي هذه صفته وله هذه القدرة رَبُّ العَالَمِينَ.
* * *
ثم قال: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ
(١٣)
أي فإن لم يقبلوا رسالتك بعد هذه الإبَانَةَ ويوحدوا اللَّه.
(فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).
أي أنذرتهمْ بأنْ يَنْزِلَ بكم ما نزل بمن كفر من الأمَمِ قَبلَكُمْ، ثم قصَّ
قصة كُفْرِهِمْ والسبَب في عُتُوِّهِمْ وإقامتهم على ضلالتهم فقال:
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)
فأرسل اللَّه عليهم ريحاً صَرْصَراً فقال:
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
(نَحِسَاتٍ)
ويروى نَحْسَاتٍ.
قال أبو عبيدة: الصرْصَر الشديدة الصوْتِ.
وجاء في
التفسير الشديدة البَرْدِ، وَنَحِسَاتٍ مشئومَاتٍ واحدها نحِسٌ.
ومن قرأ نَحْسَات فَواحدها نَحْسٌ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -:
(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩). (١)
* * *
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
الجَيِّدُ إسقاط التنوين، ويقرأ ثَمودٌ - بالتنوين - ويجوز ثَمُوداً بِالنًصْبِ.
بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره.
ومعنى (هَدَيْنَاهُمْ) قال قَتَادَةُ بَينَّا لَهُمْ طريق الهُدَى وطَريق الضًلاَلَةِ.
(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
والاختيار رفع ثمود على الابتداء والخبر، وهذا مذهب جميع النحويين.
اختيار الرفع، وكلهم يجيز النصْبَ.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ).
فَالهونُ والخزيُ الذي يهينهم ويخزيهم.
* * *
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩)
يقرأ إلى النارِ - بفتح النون والتفخيم - وقراءة أبي عَمْرٍو - إلى النارِ -
على الإمالة إلى الكسر - وإنَّما يختار ذلك مع الراءِ - يعني الكسر - لأنها حرف فيه تكريرٌ، فلذلك آثَرَ أَبُو عَمْرٍ الكسرَ.
(فَهُمْ يُوزَعُونَ).
جاء في التفسير يُحْبَسُ أَوَّلُهم على آخِرِهِمْ، وأصله من وزعْتُهُ إذا
كففته، وقال الحسن البَصْرِي حين وَليَ القضاءَ: لَا بُدَّ للناس من وَزَعةٍ.
أي لا بد لهم من أَعْوانٍ يَكُفُّونَ الناس عَنِ التعَدِّي.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿صَرْصَراً﴾: الصَّرْصَرُ: الريحُ الشديدة فقيل: هي الباردةُ مِن الصِّرِّ، وهو البردُ. وقيل: هي الشديدةُ السَّمومِ. وقيل هي المُصَوِّتَةُ، مِنْ صَرَّ البابُ أي: سُمِع صريرُه. والصَّرَّة: الصَّيْحَةُ. ومنه: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: ٢٩]. قال ابن قتيبة: «صَرْصَر: يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة، وهي الصيحةُ، ومنه: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: ٢٩]. وقال الراغب:» صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ «.
قوله:»
نَحِساتٍ «قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ، والباقون بسكونِها. فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال: نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ. وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم.
وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ، وفيه توافُقُ القراءتين. والثاني: أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ. إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل. والثالث: أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ. ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ، وحَوِرَ فهو أحورُ، وشَبعَ فهو شبعانُ، وسَلِمَ فهو سالمٌ، وبَلي فهو بالٍ.
وفي معنى»
نَحِسات «قولان، أحدهما: أنها مِن الشُّؤْم. قال السدِّي: أي: مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف. والثاني: أنها شديدةُ البردِ. وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ:
٣٩٥٤ يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا... نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا
وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ:
٣٩٥٥ كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ... يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا
ومنه:
٣٩٥٦ قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ... للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ
وقيل: يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي: قليلِ الغبار، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ. و»
نَحِسات «نعتٌ لأيَّام، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)
جاء في التفسير (جُلُودُهُمْ) كناية عن الفَرج، المعنى شَهِدَتْ فروجهم
بمعاصيهم.
* * *
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
أي جَعَلنا اللَّه شهوداً.
* * *
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ).
مرفوع بخبر الابتداء، و (أرْدَاكمْ) خبر ثانٍ.
ويجوز أن يكون (ظَنُّكُمُ). بَدَلاً مِنْ (ذَلِكُمْ).
ويكون المعنى وظنكم الذي ظننتم بِرَبكُمْ أرْداكم.
ومعنى (أرْدَاكُمْ) أهْلَكَكُمْ.
* * *
(وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (٢٥)
(وَقَيَّضْنَا):
وسببنا من حيث لا يَحْتَسِبُونَ.
(لَهُمْ قُرَنَاءَ).. الآية.
يقول زينوا لهم أعْمَالَهُم الًتِي يَعْمَلُونَها ويشاهدونها.
(وَمَا خَلْفَهُمْ) وما يَعْزمُونَ أَنْ يَعْمَلُوه.
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
(٢٦)
أي عارضوه بكلام لَا يُفهَم يكون ذلك الكلام لَغْواً، يقال: لغا يَلْغُو
لَغْواً، ويقال لَغِيَ يلْغَى لَغْواً إذا تكلم باللغو، وهو الكلام الذي لَا يُحَصّل ولا تفهم حقيقته (١).
* * *
(ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨)
(ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ)
هذا يدل على رفعه.
قوله: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا).
المعنى ذلك العذاب الشديد جزاء أعداء اللَّه.
(النَّارُ) رفع بدل من (جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿والغوا﴾: العامَّةُ على فتحِ الغين. وهي تحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى. وفيها معنيان، أحدُهما: مِنْ لَغِيَ إذا تكلَّم باللَّغْوِ، وهو ما لا فائدةَ فيه. والثاني: أنه مِنْ لَغِي بكذا، أي: رَمى به فتكونُ «في» بمعنى الباء أي: ارْمُوا به وانبِذُوه. والثاني من الوجهين الأوَّلين: أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً، حكاه الأخفش، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو. وفي الحديث: «فقد لَغَوْتَ»، وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وإن شِئت رفعت (النَّارُ) على التفسير، كأنَّه قيل ما هو فقيل هي
النارُ (١).
(لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ).
أي لهم في النارِ دار الخلد، والنار هي الدار، كما تقول: لك في هذه
الدارِ دَارُ السرور، وأنت تعني الدار بِعَيْنها
كما قال الشاعر:
أَخُو رَغائِبَ يُعْطِيها ويَسْأَلُها... يَأْبَى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ
(١)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
(أَرِنَا)
بكسر الراء وبإسكانها - لثقل الكسرة كما قالوا في فَخِذٍ فَخْذ، ومن كسر
فعلى الأصل، والكسر أَجْوَدُ لأنه في الأصْلِ أَرْئِنَا - فحذفت الهمزة وبقيت
الكسرةُ دليلاً عليها والكسر أجود.
ومعنى الآية فيما جاء من التفسير أنه يعني بهما ابن آدم قابيل الذي قتل
أخاه، وإبليس، فقابيل مِنَ الإنس وإبليس مِنَ الجِنِّ.
ومعنى: (نجعلْهُمَا تحت أَقْدَامِنَا).
أي يكونان - في الدَّرْك الأسفل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)
أي: وحدوا اللَّه، واستقاموا: عملوا بِطَاعَتِهِ ولزموا سنة نبيِّهِ.
(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ).
بُشَراءَ يبشرونهم عند الموت وفي وقت البعث فلا تَهُولُهم أهَوالُ القيامة.
* * *
وقوله: (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿ذَلِكَ﴾: فيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ و «جزاءُ» خبره. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك و ﴿جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار﴾ جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها.
قوله: «النارُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ مِنْ «جزاء»، وفيه نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، فيصيرُ التقديرُ: ذلك النار. الثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ. الثالث: أنها مبتدأٌ، و ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ﴾ الخبر. و «دارُ» يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ.
وقوله: ﴿فِيهَا دَارُ الخُلْدِ﴾ يقتضي أَنْ تكونَ «دارُ الخلد» غيرَ النارِ، وليس الأمرُ كذلك، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ. وأُجيب عن ذلك: بأنَّه قد يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ، كأنَّ ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ الإِخبارِ به عنه، ومثلُه قولُه:
٣٩٥٩............................. وفي اللَّهِ إنْ لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
وقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، والرسولُ عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ. كذا أجابوا. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ، والنارُ مُحيطةٌ بها.
قوله: «جَزاءً» في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي: يُجْزَوْن جزاءَ. الثاني: أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ الذي قبلَه، وهو ﴿جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله﴾، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله: ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً﴾ [الإسراء: ٦٣]. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، و «بما» متعلِّقٌ ب «جَزاء» الثاني، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً، وبالأول إن كان، و «بآياتِنا» متعلِّقٌ ب «يَجْحَدون». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
معناه وأبشروا بالجنة تنزلُونها نُزُلاً.
قال أبو الحسن الأخفش: (نُزُلًا) منصوب من وجهين:
أحدهما أن يكون مَنْصُوباً على المصدَرِ، على معنى لكم
ْفيها ما تشتهي أنفسكم أنزَلْناهُ نُزُلاً.
ويجوز أنْ يكون منصوباً على الحال على معنى لكم فيها ما تشتهي أَنْفُسُكُمْ منزلا نُزُلًا، كما تقول جاء زيد مشياً في معنى جاء زيد ماشياً (١).
* * *
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا)
منصوب على التفسير كما تقول زيد أحسن منك وجهاً، وجاء في
التفسير أنه يعنى به محمد - ﷺ - لأنه دعا إلى توحيد اللَّه، وجاء أيضاً في التفسير عن عائشة وغيرها أنها نزلت في المؤذنين.
* * *
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)
و" لا " زائدة مؤكدة، المعنى لا تستوي والسيئة.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
معناه ادفع السيئة بالتي هي أحسن.
(كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ): الحميم القريب.
* * *
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
أي ما يلقى مجازاة هذا أي وما يلَقى هذه الفعلة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي
إِلَّا الَّذِينَ يكظمون الغيظ.
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
الحظ ههنا الجنَّة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
ومعنى (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، أي حَظٍّ عَظِيمٍ في الخير.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿نُزُلاً﴾: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ، أو من عائدِه. والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل، كأنه قيل: ولكم فيها الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا. الثاني: أنَّه حالٌ مِنْ فاعل «تَدَّعُوْن»، أو من الضمير في «لكم» على أَنْ يكونَ «نُزُلاً» جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر، وشارِف وشُرُف. الثالث: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل النزولُ لا النُّزُل. وقيل: هو مصدرُ أَنْزَل.
قوله: «مِنْ غَفَورٍ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نُزُلاً»، وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون، أي: تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في «لكم» من الاستقرارِ أي: استقرَّ لكم مِنْ جهةِ غفورٍ رحيم. قال أبو البقاء: «فيكونُ حالاً مِنْ» ما «. قلت: وهذا البناءُ منه ليس بواضحٍ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ، وليس حالاً مِنْ» ما «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
يقول إن نزغك مِنَ الشيطان ما يصرفك به عن الاحتمال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
من شرِّه وامض على حلمك.
* * *
(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧)
أَي مِنْ عَلاَمَاتِهِ التي تَدُلُّ على أَنه واحد.
وقوله: (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ).
وقد قال: الليلُ والنهار والقمر وهي مُذَكَرَة.
وقال: (خَلَقَهُنَّ) والهاء والنون
يدلان على التأنيث، ففيها وجهان:
أحدهما أَن ضمير غير ما يعقل على لفظ
التأنيث، تقول: هذه كِبَاشُك فسُقْها، وَإنْ شئت فسُقْهُن، وإنَّمَا يكون
" خَلَقَهُمْ " لما يعقل لا غير، ويجوز أن يكون (خَلَقَهُنَّ) راجعاً على معنى الآيات لأنه قال: ومن آياته هذه الأشياء.
(وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (١).
* * *
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨)
هذه خطاب لمحمد - ﷺ -
و (الَّذِينَ) ههنا يعنى به الملائكة، فالمعنى فإن استكبروا وَلَمْ يُوحِّدُوا اللَّهَ ويعْبُدوه ويؤمنوا برسوله، فالملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
(وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ).
لاَ يَملُّون - ثم زَادَهُمْ في الدلالة فقال:
* * *
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
أي مُتَهَشِمَةً متغيرة، وهو مثل هامدة.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿خَلَقَهُنَّ﴾: في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: / أنه يعودُ على الأربعةِ المتعاطفةِ. وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو: «الأقلامُ بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ». وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الإِناثِ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال: الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ، والجذوعُ كَسَرْتُها. والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد. قلت: والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح والأفصح، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ، أو لمَّا قال: «ومِنْ آياته» كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل: خلقهنَّ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً أنه يعود على لفظ الآياتِ. الثالث: أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين جمعٌ، والجمعُ مؤنثٌ، ولقولهم: شموس وأقمار. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).
ويقرأ وَرَبأتْ بالهمز، ومعنى ربت عظمت، ومعنى ربأت ارْتَفَعَتْ لأن
النبت إذا همَّ أن يظهر ارتفعت له الأرض.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)
(يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء، وتفسير يَلْحدُونَ يجعلون الكلام على غير
جِهَتِه، ومن هذا اللَّحْدُ لأنه الحفرُ في جانب القَبْر، يُقال لَحَد وَألْحَدَ، في
معنى وَاحِدٍ.
(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).
لفط هذا الكلام لفظ أَمْرٍ، ومعناه الوعيد والتهدد، وقد بيَّن لهم المجازاة
على الخير والشر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)
فيه وجهان:
أحدهما أن الكتب التي تقدمت لا تبطله وَلَا يأتي بعده كتابُ
يُبْطِلُه.
والوجه الثاني أنه محفوظ من أن يَنقُصَ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو
يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه.
والدليل على هذا قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩).
* * *
(مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
أي تكذيبك كما كُذِبَ الرسُلُِ مِنْ قَبلِكَ، وقيل لهم كما يقول الكفارُ
لك، ثم قال:
(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ): المعنى لمن آمن بك.
(وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ): لِمَنْ كَذبَك.
* * *
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤)
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ)
أي بُيِّنَت.
(أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ).
وتقرأ (أَأَعْجَمِيٌّ) بهمزتين وَ (أَعْجَمِيٌّ) بهمزةٍ واحدةٍ وبهمزة بعدها مخففة
تشبه الألف، ولا يجوز أن يكون ألفاً خَالِصَةً لأن بعدها العين وهي ساكنة.
وتقرأ أَعجَمِي وعَرَبي - بهمزة واحدة وفتح العين.
وقرأ الحسن أَعْجَمى بهمزة وَسَكُونِ العَيْن.
والذِي جَاءَ في التفْسِير أَن المعنى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا): هلَّا
بينت آياتِهِ، أقرآنٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي.
فمن قرأ (آأعجمي) فهمزة وألفٍ فَإنهُ مَنْسوبُ إلى اللسَانِ الأعجم، تقول: هذا رَجُل أعجمي إذا كان لا يُفْصِحُ إن
كَانَ مِنَ العَجَمِ أو من العَرَبٍ، وتقول: هذا رجل عَجَمِي إذا كان من
الأعاجم، فصيحاً كان أَمْ غَيرَ فصيح، ومثل ذَلِكَ: هذا رَجُلٌ أعرابي إذا كان من أهل البادية، وكان جنسه من العَرَب أو من غير العَرَبِ، والأجودُ في القرآن أَعْجَمِي بهمزة وأَلِفٍ على جهة النسبة إلى الأعْجَمِ، ألا ترى قوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا)، ولم يقرأ أحَد عَجَميُّا.
فأمَّا قراءة الحسن أعني أَعْجَمى بإسكان العَيْنِ لا على معنى الاستفهام ولكن على معنى هَلَّا بُيِّنَتْ آياتُه، فجعل بعضه بياناً للعجم وبعضه بياناً للعرب، وكل هذه الأوجه الأربعة سائغ في العربية
وعلى ذلك تفسيره (١).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿ءَاعْجَمِيٌّ﴾: قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة، وهشام بإسقاطِ الأولى. والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ. وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه مِنْ قولِه: «أأنذَرْتَهم» في أولِ هذا الموضوع. فمَنْ استفَهْم قال: معناه أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ. وقيل: ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ. وقيل: معناه أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ. ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى. وفيه توافُقُ القراءتين. إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز عند الجمهور، إلاَّ إنْ كان في الكلام «أم» نحو:
٣٩٦٠............................. بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان
فإنْ لم تكنْ «أم» لم يَجُزْ إلاَّ عند الأخفش. وتقدَّم ما فيه، ويحتمل أَنْ يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه: هَلاَّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها أعجمياً تفهمُه العجمُ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ.
والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ، وإن كان مِنَ العرب، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ ودَوَّاريّ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً. وقال الرازيُّ في لوامحه: «فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ». وفَرَّق الشيخُ بينهما فقال: «وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها بخلافِ ياء» أعجميّ «فإنهم يقولون: رجل أَعْجم وأعْجميّ».
وقرأ عمرو بن ميمون «أَعَجَمِيٌّ» بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم، والياءُ فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال: رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً. وقد تقدَّم الكلامُ في الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء.
وفي رفع «أَعْجميّ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ محذوف تقديرُه، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو، أي: القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ. والثالث: أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي: أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ. وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلاَّ في مواضعَ بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ).
يعني القرآن.
(وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ).
أي هم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم.
(وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)
ويقرأ (وهو عَلَيْهِمْ عَمٍ) بِكسر الميم والتنوين، ويجوز (وهو عَليْهِمْ عَمِيَ)
بإثبات الياء وَفَتْحِهَا، ولا يجوز إسكان الياء وترك التنوين (١).
(أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).
يعني من قسوة قلوبهم يُبعَدُ عنهم مَا يُتْلَى عليهم.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)
ْالكلمة وَعْدَهُمُ الساعة، قال عزَّ وجلَّ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)
* * *
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
(وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
أي: على نفسه.
ويدل على أن الكلمة ههنا الساعة قوله: (إلَيْه يُرَد عِلْمُ السَّاعَةِ).
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧)
(وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا).
نحو خروج الطلع من قشره.
(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، و «في آذانِهم» خبرُه و «وَقْرٌ» فاعلٌ، أو «في آذانهم» خبرٌ مقدم «ووقرٌ» مبتدأٌ مؤخر، والجملةُ خبرُ الأول. الثاني: أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ مضمرٍ. والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ: والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ وَعَمَىً عليهم. قال معناه الزمخشري. ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ بدونه. الثالث: أن يكونَ ﴿الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ عطفاً على «الذين آمنوا»، و «وَقْرٌ» عطفٌ على «هدىً» وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ. وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها.
قوله: «عَمَىً» العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى نحو: صَدِي يَصْدَى صَدَىً، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً.
وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة «عَمٍ» بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً وُصِفَ بذلك مجازاً. وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس «عَمِيَ» بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً. وفي الضمير وجهان أظهرُهما: أنه للقرآن. والثاني: أنه للوَقْر والمعنى يأباه، و «في آذانهم» - إنْ لم تجعَلْه خبراً - متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به، لأنَّه مصدرٌ، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ كذلك في قراءة العامَّةِ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق «على» بما بعده؛ إذ ليس بمصدرٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
المعنى أين قولكم أن لي شركاء، واللَّه - جل وعلا - واحدٌ لا شريك له.
وقد بين ذلك في قوله: (أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ).
(آذَناكَ) أَعْلَمْنَاكَ مَا مِنا من شهِيدٍ لَهُمْ.
* * *
(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
(وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).
أَي أيقنوا.
* * *
(لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩)
لا يَمَل الخير الذي يُصيبه، وإذا اختبر بشيء من الشر يئس وقنط.
* * *
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٠)
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)
أي هذا واجب لي، بعملي استحققته، وهذا يعني به الكَافِرُونَ، ودليل
ذلك قوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).
يقول: إني لست أُوقِنُ بالبعث وقيام الساعة، فإن كان الأمر على ذلك إن لي عنده للحسنى.
* * *
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
ويقرأ (ناء) والمعنى مُتَقَارِب، يقول: إذا كان فيْ نعمةٍ تباعَدَ عن ذكر اللَّه
وَدُعَائِه
(وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)
وعريضٌ ههنا كبير، وكذلك لو كان ذو دعاء طويل كانَ معناه كبيرٌ.
* * *
وقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)
أي سنريهم الأعلام التي تدل على التوحيد في الآفاق، وواحدها أُفُق.
يقول: سنريهم آثار مَن مَضَى قبلهم مِمنْ كَذبَ الرسُلَ من الأمم وآثرَ خلقِ اللَّه في كل البلاد
(وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلقَاً ثم مُضَغاً ثم عِظاماً
كُسِيَتْ لحماً، ثم نقلوا إل التمييز والعقل، وذلك كله دَليل على أن الذي فعله واحدٌ ليس كمثلِه شيء.
(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ويجوز " إنَّهُ "، والقراءة " أنَّه " بالفتح.
وموضع (بِرَبِّكَ) في المعنى رفع.
المعنى أولم يكف رَبكَ
وموضع (أنه) نصب، وإن شئتَ كانَ رفعاً.
المعنى في النصب أو لم يكف ربك بأنه على كل شيء شَهِيدٌ.
ومن رفع فعلى البدل، المعنى أوَلم يكف أَنَ رَبَّكَ عَلَى كُلِ شَيء شَهِيدٌ، أي أوَلم يكفهم شهادة ربِّك.
ومعنى الكفاية ههنا أنه قَد بَين لهم ما فيه كفاية في الدلاَلَةِ على تَوْحِيدِهِ وبينت
رُسُلُه (١).
* * *
(أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
في شك.
(أَلَا) كلمة يبتدأ بها ينبَّهُ بِهَا المخاطب توكيداً يَدُلُّ عَلَى صحة
ما بعدها.
(أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ).
أي عالم بكل شيء علماً يحيطُ بما ظَهَر وَخَفِيَ.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أن الباءَ مزيدةٌ في الفاعلِ، وهذا هو الراجحُ. والمفعولُ محذوفٌ أي: أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ. وفي قوله: ﴿أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ مِنْ «بربك» فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه. والثاني: أنَّ الأصلَ بأنَّه، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ. الثاني من الوجهين الأولين: أَنْ يكون «بربك» هو المفعولَ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي: أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه. وقُرئ ﴿أَنَّهُ على كُلِّ﴾ بالكسر، وهو على إضمارِ القولِ، أو على الاستئناف. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
Icon