قال القرطبي : في قول الجميع، قال ابن عباس : نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، والممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل أي المختبرة أضيف الفعل إليها مجازا كما سميت براءة المبعثرة والفاضحة، لكشفها عن عيوب المنافقين وعلى هذا فالإضافة بيانية أي السورة الممتحنة، وقيل : بفتح الحاء اسم مفعول إضافة إلى المرأة التي فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله سبحانه :﴿ فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن ﴾. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف والدة إبراهيم بن عبد الرحمن، وعلى هذا فليست الإضافة بيانية، والمعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان.
ﰡ
(تلقون إليهم بالمودة) أي توصلون إليهم المودة على أن الباء زائدة أو هي سببية، والمعنى تلقون إليهم أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب المودة التي بينكم وبينهم، وقال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) وسره بالمودة التي بينكم وبينهم، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته، أو لتفسير موالاتهم إياهم، أو في محل نصب صفة لأولياء وجملة: (وقد كفروا بما جاءكم من الحق) في محل نصب على الحال من فاعل تلقون، أو من فاعل لا تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار.
(أن تؤمنوا بالله ربكم) تعليل للإخراج، أي يخرجونكم لأجل إيمانكم أو كراهة أن تؤمنوا (إن كنتم خرجتم) من مكة (جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي) جواب الشرط محذوف، أي إن كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودة، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، وانتصاب جهاداً وابتغاء على العلة أي إن كنتم خرجتم للجهاد في سبيلي، ولأجل ابتغاء مرضاتي، أو حال كونكم مجاهدين ومبتغين.
(تسرون إليهم بالمودة) مستأنفة للتقريع والتوبيخ، أي تسرون إليهم الأخبار بسبب المودة، وقيل: هي بدل من قوله: (تلقون)، ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء فقال: (وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) أي بما أضمرتم في صدوركم، وما أظهرتم وأعلنتم بألسنتكم، والجملة في محل نصب على الحال؛ والباء في بما زائدة يقال: علمت كذا وعلمت بكذا هذا على أن أعلم مضارع، وقيل: هو أفعل تفضيل، أي أعلم من كل واحد بما تخفون وما تعلنون.
(ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) أي من يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء، ويلقي إليهم بالمودة فقد أخطأ طريق الحق والصواب وضل عن قصد السبيل.
ويجوز أن يتعلق يوم القيامة، أي لن ينفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة، ويبتدأ بقوله: يفصل بينكم، والأولى أن يتعلق يوم القيامة بما بعده، كما ذكرنا قرأ الجمهور يفصل بالتخفيف وبضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرىء بفتح الياء وكسر الصاد مبنياً للفاعل. وقرىء بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة من التفصيل، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد مخففة، وقرىء بالنون وكلها سبعية.
" عن علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنا والزبير والمقداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، فقلنا، لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا النبي ﷺ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فقال: إنه شهد بدراً وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "، ونزلت هذه الآية (١).
وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة، متضمنة لبيان هذه القصة، وأن هذه الآيات إلى قوله، (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم)، نازلة في ذلك ولما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين، والذم لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلاً حين تبرأ من قومه فقال:
_________
(١) رواه مسلم.
(إذا قالوا لقومهم) خبر كان أو متعلق بخبرها قالهما أبو البقاء، ومن جوز في كان أن تعمل في الظرف علقه بها، هذا ما في السمين، وقال الحفناوي: الظرف بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أحسن الأعاريب المذكورة هنا، والمعنى وقت قولهم لقومهم الكفار وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى ولهم فيهم أرحام وقرابات، ومع ذلك لم يبالوا بهم، بل قالوا:
(ومما تعبدون من دون الله) وهي الأصنام (كفرنا بكم) أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم أي لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم (وبدا بيننا وبينكم العداوة) بالأفعال (والبغضاء) بالقلوب (أبداً) أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم (حتى تؤمنوا بالله وحده) وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) هو الاستثناء متصل من قوله في إبراهيم بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء أي قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم كلها، إلا قوله لأبيه إلخ أو من أسوة حسنة، وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة، كأنه قيل: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله، إلا قوله لأبيه، وهذا عندي واضح غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله، إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره، أو من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم يواصله إلا قوله، ذكر هذا ابن عطية أو هو منقطع أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن فلا تتأسوا به فتستغفرون للمشركين فإنه كان عن موعدة وعدها إياه أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة براءة. قال ابن عباس في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك.
(وما أملك لك من الله من شيء) هذا من تمام القول المستثنى يعني ما أغني عنك وما أدفع عنك من عذاب الله وثوابه شيئاًً والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرن، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا
(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أي إن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة بدل اشتمال من كم بإعادة الجار، قال المحلي: تبعاً للكواشي وقال أبو حيان وغيره: بدل بعض من كل (ومن يتول) أي يعرض عن التأسي بإبراهيم
وعن أبي هريرة قال: أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان ابن حرب، وفيه نزلت هذه الآية، وعن الزهري أن رسول الله ﷺ استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله ﷺ أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، قال: وهو فيمن قال الله فيه (عسى الله أن يجعل) الآية.
وفي صحيح مسلم.
" عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن
(والله قدير) أي بليغ القدرة كثيرها على تقليب القلوب، وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة (والله غفور رحيم) أي بليغهما كثيرهما لمن أسلم من المشركين، ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكافرين وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم، ومن لا يجوز فقال:
_________
(١) رواه مسلم.
" عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وأقط وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله ﷺ فسألته، فأنزل الله هذه الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها "، أخرجه (١) أحمد والبزار وأبو يعلى وغيرهم وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله ﷺ فسألت النبي صلى الله عليه
_________
(١) رواه أحمد.
(وتقسطوا إليهم) أي تفضوا إليهم بالقسط وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم، والبر. يقال: أقسطت إلى الرجل إذا عاملته بالعدل، قال الزجاج: المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد ولا تظلموهم، وإذا نهى من الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم؟
(إن الله يحب المقسطين) أي العادلين، ومعنى الآية أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل، قال ابن زيد كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ، قال قتادة: نسخ بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، وقيل: هذا الحكم كان ثابتاً في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم، وقيل: هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ من بينه وبينه عهد، قاله الحسن وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف، وقال مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقيل: هي خاصة بالنساء والصبيان، وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة، وهو الأولى لحديث أسماء المتقدم المتفق عليه.
ثم بيّن سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته، فقال:
(ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) أي الكاملون في الظلم، لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدواً لله ولرسوله ولكتابه، وجعلوهم أولياء لهم، وفيه مراعاة معنى من بعد مراعاة لفظها، ولما ذكر سبحانه حكم فريقي
وقد أخرج البخاري.
عن " المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله ﷺ لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا) حتى بلغ (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فطلق عُمَر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك " وأخرجه أيضاًً من حديثهما بأطول من هذا وعنه: وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله ﷺ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله ﷺ يرجعها إليهم حتى أنزل بالله في المؤمنات ما أنزل وقد اختلف فيما كان يمتحنهن به فقيل: كان يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لالتماس دنيا بل حباً لله ولرسوله ورغبة في دينه فإذا حلفت كذلك أعطى النبي ﷺ زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها إليه.
" قال ابن عباس: كان إذا جاءت المرأة النبي ﷺ حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت لالتماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله " أخرجه الطبراني وغيره بسند حسن، وقيل: الامتحان هو
واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا على قولين، فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر، وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص.
(الله أعلم بإيمانهن) معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه، ولم يتعبدكم بذلك، وإنما تعبدكم بامتحانهن، حتى يظهر لكم ما يدل على صدق دعوتهن في الرغب في الإسلام (فإن علمتموهن مؤمنات) أي علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به، وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب، وما يفضي إليه القياس، جار مجرى العلم، وصاحبه غير داخل في قوله: (لا تقف ما ليس لك به علم)، وقال الكرخي: المراد بالعلم الظن، وسمي علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به، ففي الكلام استعارة تبعية.
(فلا ترجعوهن إلى الكفار) أي إلى أزواجهن الكافرين هذا ناسخ لشرط الرد بالنسبة للنساء، على مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن، وقال بعضهم: ليس من قبيل النسخ، وإنما هو من قبيل التخصيص، أو تقييد المطلق، لأن العقد أطلق في رد من أسلم فكان ظاهراً في عموم الرجال مع النساء، فبين الله خروجهن عن عمومه، ويفرق بين الرجال والنساء بأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت لضعف قلبها، وقلة
(لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) تعليل للنهي عن إرجاعهن، والتكرير لتأكيد الحرمة، والجملة الأولى لنفي الحل حالاً، والثانية لنفيه فيما يستقبل من الزمان، وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها (وآتوهم) خطاب لولاة الأمور، والأمر للوجوب، فيكون منسوخاً، أو للندب كما هو مذهب الشافعي فليس منسوخاً، أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن:
(ما أنفقوا) أي مثل ما أنفقوا عليهن من المهور، قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع بلا عوض، عن ابن عباس قال: نزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح، فكان من أسلم من نسائهم تسأل: ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت فراراً من زوجها، ورغبة عنه، ردت وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت، ورد على زوجها مثل ما أنفق، ووجوب الإيتاء أو ندبه إنما هو في نساء أهل الذمة، كما هو مورد الآية، فإنها وردت في شأن أهل مكة الذين هادنهم صلى الله عليه وسلم، وأما نساء الحربيين الذين لم يعقد لهم عهد فلا يجب ولا يسن رد مهورهن اتفاقاً، وبه قال قتادة، والأمر كما قال، ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات فقال:
(ولا جناح عليكم أن تنكحوهن) بشرطه، وهو انقضاء العدة فيما إذا كانت المسلمة مدخولاً بها، والولي والشاهدان وبقية شروط الصحة في المدخول بها وغيرها، لأنهن قد صرن من أهل دينكم، وإن كان أزواجهن الكفار لم يطلقوهن لانفساخ العقد بالإسلام (إذا آتيتموهن أجورهن) أي
(ولا تمسكوا بعصم الكوافر) قرأ الجمهور بالتخفيف من الإمساك، واختارها أبو عبيد لقوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وقرىء بالتشديد من التمسك وهما سبعيتان، والعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والمراد هنا عصمة عقد النكاح، والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب، أو لحقت بدار الحرب مرتدة، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية، والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين، قال النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يزوجون المسلمات، والمسلمون يزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وهذه خاصة بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب، وقيل: عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج الكتابيات منها.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدّة، وقال بعض أهل العلم: يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولاً بها، وأما إذا كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام، إذ لا عدة عليها، عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب وتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله: ولا تمسكوا بعصم الكوافر.
(ذلكم) المذكور من إرجاع المهور من الجهتين (حكم الله) وقوله: (يحكم بينكم) مستأنفة أو حالية (والله عليم حكيم) أي بليغ العلم، لا تخفى عليه خافية، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله، قال القرطبي: وكان هذا مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين، ولما نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون: رضينا بحكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله
(فعاقبتم) أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة قال الواحدي: قال المفسرون أي فغنمتم قال الزجاج: تأويله: وكانت العقبى لكم أي كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم، وقيل: معناه ظهرتم، وكانت العاقبة لكم (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تؤتوه زوجها الكافر سواء كانت الردة قبل الدخول أو بعده، فكان الحكم أنه يجب للزوج من الغنمية جميع المهر، قال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها، وارتفع بعد الفتح بشقيه، فلا يجب دفع مهر من جاءت مسلمة للكفار، ولا مهر من ارتدت لزوجها، وبه قال عطاء ومجاهد وقتادة.
وقال قوم: الآية غير منسوخة، ويرد عليهم ما أنفقوا، وحاصل معناها أن من أزواجكم يجوز أن يتعلق بـ (فاتكم) أي من جهة أزواجكم، ويراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج لأن التفسير ورد أن الرجل المسلم إذا فرت زوجته إلى الكفار، أمر الله المؤمنين أن يعطوا ما غرمه، وفعله النبي ﷺ مع جمع من الصحابة المذكورين في التفاسير، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء، ثم يجوز في شيء أن يراد به المهر، ولكن لا بد على هذا من مضاف محذوف، أي من مهر أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته، ويجوز أن يراد بشيء النساء أي نوع وصنف منهن، وهو ظاهر قوله: (من أزواجكم)، وقوله: (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم)، والمعنى أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت، ولم يرد عليه المشركون مهرها، كما حكم الله مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها من الغنيمة.
(واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أي احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به، يوجب على صاحبه ذلك.
" عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية إلى قوله: (غفور رحيم)، فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك -كلاماً- والله ما مست يده يد امرأة قط من المبايعات، ما بايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك "، وظاهر هذا التركيب أن النساء طلبن المبايعة مع أن المقرر في السير أنه ﷺ ابتدأهن بالمبايعة شارطاً عليهن الشروط الآتية، وبعد أن بايعهن التزمنها، ويمكن على بعد أن يقال: التقدير في الآية: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فبايعهن.
(على أن لا يشركن بالله شيئاً) من الأشياء كائناً ما كان، وهذا كان يوم فتح مكة، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله ﷺ يبايعنه فأمره الله تعالى أن يأخذ عليهن أن لا يشركن به (ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن) هو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات أي دفنهن أحياء لخوف العار والفقر.
(ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) أي لا يلحقن بأزواجهن ولداً ليس منهم، قال الفراء كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها. هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفتري بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها من الزنا إلى زوجها، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا، قال ابن عباس: كانت الحرة تولد لها الجارية فتجعل مكانها غلاماً وعنه قال في الآية لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
ْ (ولا يعصينك في معروف) أي في كل أمر هو طاعة لله، وإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه، والمعروف ما عرف حسنه من قبل الشرع، قال عطاء: في كل بر وتقوى، قال ابن عباس: إنما هو شرط
أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة.
" عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت النبي ﷺ في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئاًً، حتى بلغ (ولا يعصينك في معروف)، فقال فيما استطعتن وأطقتن، فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة "، وفي الباب أحاديث، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي ﷺ فقال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاًً ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاًً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاًً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ".
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وغيرهم:
" عن أم سلمة الأنصارية قالت: قالت امرأة من النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: لا تنحن، قلت: يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي لا بد لي من قضائهن، فأبى عليّ، فعاودته مراراً فأذن لي بقضائهن، فلم أنح بعد، ولم يبق من النسوة امرأة إلا وقد ناحت غيري ".
" عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله ﷺ فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئاًً ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها فقالت: يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها، فلم يقل لها شيئاًً. فذهبت ثم رجعت، فقالت: ما وفت منا امرأة إلا أم سليم وأم العلاء وبنت أبي سبرة امرأة معاذ أو بنت أبي سبرة وامرأة معاذ "، وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح.
(فبايعهن) هذا جواب إذا، والمعنى إذا بايعنك على هذه الأمور فبايعهن أي التزم لهن ما وعدناهن على ذلك من إعطاء الثواب في مقابلة ما ألزمن أنفسهن به من الطاعات، فهو بيع لغوي، والبيع في اللغة مقابلة شيء بشيء على وجه العوضية، وسميت المعاهدة مبايعة تشبيهاً لها بها، كأن كل واحد منهم باع ما عنده بما عند الآخر، ذكر الله عز وجل ورسوله ﷺ في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي في الدين، ولم يذكر في بيعتهن أركان الأمر وهي ستة أيضاًً: الشهادتان والصلاة، والزكاة، والصيام: والحج، والاغتسال من الجنابة لوضوح كون هذه الأمور ونحوها من أركان الدين وشعائر الإسلام ولأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال، فكان الاشتراط للتنبيه على الدائم آكد.
وقيل: إنما خص الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء، ولا يحجزهن عنها شرف النسب، قال ابن الجوزي: وجملة من أحصى من المبايعات إذ ذاك أربعمائة وسبعة وخمسون امرأة، ولم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام بهذه الآية انتهى.
" وعن أسماء بنت يزيد بن السكن أنها قالت: كنت في النسوة المبايعات فقلت: يا رسول الله أبسط يدك نبايعك، فقال: إني لا أصافح النساء،
وروي أن النبي ﷺ كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، ثم غمس يده فيه فغمسن أيديهن فيه، والأول أولى وأصح، وهذا هو البيعة الثانية بالسنة في دين الإسلام، والتي أحللها الصوفية والمشايخ وجهلة المتصوفة، فلا تثبت بدليل شرعي، ولا اعتداد بها، بل هي مصادمة لما ثبت بالكتاب والسنة كما ترى.
(واستغفر لهن الله) أي اطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة لهن منك مما سلف، ومما يقع منهن (إن الله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة بتمحيق ما سلف، وكثير الرحمة لعباده بتوفيق ما ائتنف.
(قد يئسوا من الآخرة) يرد على هذا أنهم طامعون في ثواب الآخرة، لأنهم يعتقدون أنهم على حق وأن تمسكهم بشريعة موسى ينفعهم فلا يكونوا آيسين، ويمكن أن يقال: المراد باليأس الحرمان أي قد حرموا من ثواب الآخرة و (من) لابتداء الغاية أي أنهم لا يوقنون بالآخرة البتة بسبب كفرهم، قال ابن مسعود: أي لا يؤمنون بها ولا يرجونها (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) أي كيأسهم من بعث موتاهم، لاعتقادهم عدم البعث.
(هي أربع عشرة آية وهي مدنية)
وهو المختار، ونسب إلى الجمهور، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وعن ابن عباس أيضاً نزلت بمكة، ولعل هذا لا يصح عنه، وبه قال عكرمة والحسن وقتادة، وجزم به الزمخشري ويؤيد كونها مدنية ما أخرجه أحمد.
" عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله - ﷺ - فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا فأرسل رسول الله - ﷺ - إلينا رجلاً، فجمعنا وقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها " وأخرجه (١) ابن أبي حاتم، وقال في آخره فنزلت فيهم هذه السورة، وأخرجه أيضاً الترمذي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في الشعب والسنن.
_________
(١) رواه الحاكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)