تفسير سورة الحجر

معاني القرآن للفراء
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب معاني القرآن للفراء المعروف بـمعاني القرآن للفراء .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

قَالَ الفراء: باطل والصواب:
زَجَّ الْقَلوصِ أبُو مزاده
قوله: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [٥٠] عَامَّةُ القراء مُجْمِعونَ عَلَى أنَّ القطِران حرف «١» واحد مثل الظَّرِبان. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَهَا (مِنْ قَطِرانٍ»
) : قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا، وَهُوَ مِنْ قوله: (قالَ «٣» آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً).
ومن سورة الحجر
قوله عَزَّ وَجَلَّ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [٤] يُقال: كيف دخلت (رب) عَلَى فعل لَمْ يكن لأن مودَّة الَّذِينَ كفروا إِنَّما تكون فِي الآخرة؟ فيقال: إن القرآن نزل وعدُه ووعيده وما كَانَ فِيهِ، حَقًّا «٤» فإنه عِيان، فجرى الكلامُ فيما لَمْ يكن منه كمجراهُ فِي الكائن. ألا ترى قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ تَرى «٥» إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقوله: (وَلَوْ تَرى «٦» إِذْ فَزِعُوا) كأنه ماض وهو منتظر لصدقه فِي المعنى، وأن القائل يقول إذا نَهَى أو أمر فعصاهُ المأمور:
أما والله لرُبّ ندامةٍ لكَ تَذكرُ قولي فيها، لعلمه أَنَّهُ سيندم ويقول: فقول الله عَزَّ وَجَلَّ أصْدق من قول المخلوقين.
(١) هذا مقابل الوجه الآتي فى القراءة عن ابن عباس فانه حرفان: قطر وآن.
(٢) هذا تفسير للآنى. والقطر هو النحاس أو الصفر المذاب.
(٣) الآية ٩٦ سورة الكهف.
(٤) متعلق بقوله: «نزل». [.....]
(٥) الآية ١٢ سورة السجدة.
(٦) الآية ٥١ سورة سبأ.
وقوله: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [٤] لو لَمْ يكن فِيهِ الواو كَانَ صَوَابًا كما قَالَ فِي موضع آخر: (وَما أَهْلَكْنا «١» مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) وهو كما تَقُولُ فِي الكلام:
مَا رأيتُ أحدًا إلا وَعَلَيْهِ ثياب وإن شئت: إلا عَلَيْهِ ثياب. وكذلك كل اسم نكرة جاء خبره بعد إلَّا، والكلام فِي النكرة تام فافعل ذَلِكَ بصلتها بعد إِلَّا. فإن كَانَ الَّذِي وقع عَلَى النكرة ناقصًا فلا يكون إلا بطرح الواو. من ذَلِكَ، ما أظن درهمًا إلا كافيَك ولا يَجوز إلا وهو كافيك، لأن الظنّ يَحتاجُ إلى شيئين، فلا تعترض بالواو فيصير الظن كالمكتفي من الأفعال باسم واحد. وكذلك أخوات ظننت وَكَانَ وأشباهُها وإن وأخواتها (وإنّ «٢» ) إذا جاء الفعلُ بعد (إلَّا) لَمْ يكن فِيهِ الواو. فخطأ أن تَقُولُ: إن رجلًا وهو قائم، أو أظن رجلًا وهو قائم، أو ما كَانَ رجل إلا وهو قائم.
ويَجوز فِي لَيْسَ خاصة أن تَقُولَ: لَيْسَ أحد إلا وهو هكذا «٣»، لأن الكلام قد يُتوهم تَمامه بليس وبِحرف نكرة ألا ترى أنك تَقُولُ: لَيْسَ أحد، وما من أحد فجازَ ذَلِكَ فيها ولم يَجُز فِي أَظن، ألا ترى أنك لا تَقُولُ مَا أظنّ أَحدًا. وقال الشاعر:
إذا ما سُتورُ البيت أُرْخين لَمْ يكن سراج لنا إلا ووجهُك أنور
فلو قيل: إِلَّا وجهك أَنْور كَانَ صوابًا.
وقال آخر:
وما مَسَّ كفي من يد طاب ريحها من الناس إلا ريحُ كفَّيك أَطيبُ
فجاء بالواو وبغير الواو. ومثله قوله: (وَما «٤» أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ)
(١) الآية ٢٠٨ سورة الشعراء.
(٢) كذا فى الأصول. ويظهر أنها زيادة من الناسخ.
(٣) ش: «كهذا».
(٤) الآية ٢٠ سورة الفرقان.
فهذا الموضع لو كَانَ فِيهِ الواو صَلح ذَلِكَ. وإذا أدخلت فِي (كَانَ) جَحْدًا صلح ما بعد (إِلَّا) فيها بالواو وبِغير الواو. وإذا أدخلت الاستفهام وأنت تنوي بِهِ الجحد صلح فيها بعد (إلا) الواو وطرح الواو. كقولك: وَهل كَانَ أحد إِلا وله حرص عَلَى الدُّنْيَا، وإلا لَهُ حرص عَلَى الدُّنْيَا.
فأمّا أصبح وأمسى ورأيت فإن الواو فيهنّ أسهل، لأنهن/ ٩١ اتوامّ (يعني «١» تامّات) فِي حال، وَكَانَ وليس وأظن بُنينَ عَلَى النقص. ويَجوز أن تَقُولُ: لَيْسَ أحد إلا وله معاش: وإن ألقيت الواو فصواب، لأنَّكَ تَقُولُ: لَيْسَ أحد فتقف فيكون كلاما. وكذلك لا فى التبرئة وغيرها. تَقُولُ:
لَا رجل ولا مِن رجل يَجوز فيما يعود بذكره بعد إِلَّا الواو وغير الواو فِي التمام ولا يجوز ذَلِكَ فِي أظن من قبل أن الظن خِلْقته الإلغاء: أَلَا ترى أنك تَقُولُ: زيد قائم أظن، فدخول (أظن) للشك فكأنه مستغنى عَنْهُ، وليس بنفي ولا يكون عَن النفي مُستغنيًا لأنّك إنّما تُخبر بالخبر عَلَى أَنَّهُ كائن أو غير كائن، فلا يُقال للجحد: إنه فَضل من الكلام كما يُقال للظن.
وقوله: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [٥] ولم يقل (تستأخر) لأن الأمَّة لفظها لفظٌ مؤنَّثٌ، فأُخرج أول الكلام عَلَى تأنيثها، وآخره عَلَى معنى الرجال. ومثلها (كُلَّ مَا جاءَ «٢» أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) ولو قيل: كذبته كَانَ صوابًا وهو كَثِير.
وقوله: لَوْ ما تَأْتِينا [٧] ولولا ولو ما لغتان فِي الخبر والاستفهام فأمّا الخبر فقوله (لَوْلا «٣» أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).
وقال الشاعر:
لو ما هوى عرس كميت لم أبل
(١) سقط ما بين القوسين فى ا.
(٢) الآية ٤٤ سورة المؤمنين.
(٣) الآية ٣١ سورة سبأ.
وهما ترفعانِ ما بعدهما.
وأمّا الاستفهام فقوله: (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) وقوله (لَوْلا أَخَّرْتَنِي «١» إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وَالمعنى- وَاللهُ أعلم-: هلّا أَخَّرْتني.
وقد استعملت العرب (لولا) فى الخبر وكثربها الكلام حَتَّى استجازوا أن يقولوا: لولاك ولولاي، والمعنى فيهما كالمعنى فِي قولك: لولا أنا ولولا أنت فقد توضع الكاف عَلَى أنها خفض والرفع فيها الصواب. وَذَلِكَ أنا لَمْ نَجد فيها حرفًا ظاهرًا خُفِض، فلو كَانَ مِمّا يخفض لأوشكت أن ترى ذَلِكَ فِي الشعر فإنه الَّذِي يأتي بالمستجاز: وإنّما دعاهم إلى أن يقولوا: لولاك فِي موضع الرفع لأنهم يجدونَ المكنّى يستوي لفظه فِي الخفض والنصب، فيقال: ضربتك ومررت بك ويَجدونه يستوي أيضًا فِي الرفع والنصب والخفض، فيقال ضربنا ومريّنا، فيكون الخفض والنصب بالنون ثُمَّ يُقال قمنا ففعلنا فيكون الرفع بالنون. فلمّا كَانَ ذَلِكَ استجازوا أن يكون الكاف فِي موضع (أنت) رفعًا إذْ كَانَ إعراب المكنّى بالدلالات لا بالحركات.
قَالَ الشاعر:
أيطمعُ فينا مَنْ أراقَ دماءَنا وَلَوْلاكَ لَمْ يعرض لأحسابنا حَسَمْ
وقال آخر:
وَمنزلةٍ لولَايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى بِأَجْرامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيق مُنْهوِي «٢»
وقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [٩] يُقال: إنَّ الْهَاء التي فِي (لَهُ) يُراد بِهَا القرآن (حافِظُونَ) أي راعون: ويُقال: إن الْهَاء لِمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وإنا لمحمد لحافظون.
وقوله: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [١٢] الْهَاء فِي (نَسْلُكُهُ) للتكذيب أي كذلك نسلك التكذيب. يقول: نجعله فِي قلوبِهم ألَّا يؤمنوا.
(١) الآية ١٠ سورة المنافقين.
(٢) من قصيدة ليزيد بن الحكم الثقفي يعاتب فيها ابن عمه عبد الرحمن بن عثمان. وانظر كتاب سيبويه ١/ ٣٨٨.
وقوله: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا [١٤] يعني الملائكة فظلَّت تصعد من ذَلِكَ الباب وتنزل (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ويقال (سكرت «١» ) ومعناهما متقارب. فأما سكّرت فحبست، العرب: تَقُولُ: قد سَكَرت الريحُ إذا سَكَنَت وركدت. ويُقال: أُغشيت، فالغشاء والحيس قريبٌ من السّواء.
وقوله: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [١٨] يقول: لا يخطنه، إِمّا قَتَلَهُ وَإِمَّا خبَّله.
وقوله: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [١٩] أي دَحَوْنَاها وهو الْبَسْطُ (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها) أي فِي الجبال (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: من الذهب والفضَّة والرَّصَاص والنّحاس والحديد فذلك الموزون.
وقوله: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ [٢٠] أراد الأرض (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) فمن فِي موضع نصب يقول: جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء.
قد جاء أنَّهم الوحوش والبهائم و (مَن) لا يُفرد بِهَا البهائم ولا ما سوى الناس. فإن يَكن ذَلِكَ عَلَى ما رُوي فَنَرى أنهم أُدخل فيهم المماليك، عَلَى أنا ملّكنا كم العبيد والإبل والغنم وما أشبه ذَلِكَ، فجازَ ذَلِكَ.
وقد يُقال: إن (مَن) فِي موضع خفض يُراد: جعلنا لكم فيها معايش ولِمن. وما أقلّ ما ترد العرب مخفوضًا عَلَى مخفوض قد كُنِيَ عَنْهُ. وقد قَالَ الشاعر «٢» :
تُعلَّق فِي مثل السواري سُيُوفنا وما بينها والكَعْبِ غَوْط نفانف
فردّ الكعب عَلَى (بينها) وقال آخر:
هلَّا سألت بذي الجماجم عنهم وأبى نعيم ذى اللّواء المحرق
(١) هى قراءة بن كثير.
(٢) هو مسكين الدارمي كما فى الحيوان. والسواري جمع سارية وهى الأسطوانة يريد أنهم طوال القامات. والغوط:
المتخنض من الأرض. والنفانف جمع نفنف وهو الهواء بين الجبلين.
فردّ (أبي نعيم) عَلَى الْهَاء فِي (عنهم).
وقوله: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [٢٢] وتقرأ (الريح) قرأها حَمْزَةُ «١». فمن قَالَ الرِّيحَ لَوَاقِحَ) فجمع اللواقحَ والريحُ واحدة لأن الريح فِي معنى جَمع ألا ترى أنك تَقُولُ: جاءت الريح من كل مكان، فقيل: لواقح لذلك. كما قيل: تركته فِي أرض أغفال وسَبَاسب «٢» (قَالَ «٣» الفراء: أغفال: لا علم فيها) ومهارق «٤» وثوب أخلاق. ومنه قول الشاعر:
جاء الشتاءُ وقمِيصِي أخلاقْ شراذمٌ يضحكُ مِنْه التَّواقْ «٥»
وأمّا من قال (الرياح لواقح) فهو بَيّن. ولكن يُقال: إِنَّما الريح مُلَقِحة تُلْقِح الشجر.
فكيفَ قيل: لواقح؟ ففي ذَلِكَ معنيان أحدهما أن تَجعل الريح هي التي تَلْقَح بِمرورها عَلَى التراب والماء فيكون فيها اللَّقَاح، فيقال: ريح لاقح. كما يُقال: ناقة لاقح. ويشهد عَلَى ذَلِكَ أنَّهُ وصف ريح العذاب فقال:
(عليهم «٦» الريح العقيم) فجَعلها عقيمًا إِذْ لَمْ تَلْقَح. والوجهُ الآخر أن يكون وصفها باللَّقْح وإن كانت تُلِقح كما قيل: ليل نائم والنوم فِيهِ، وسرّ كاتم وكما قيل:
الناطق المبروز والمختوم «٧»
(١) وهى أيضا قراءة خلف. [.....]
(٢) جمع سبسب. وهى المفازة أو الأرض البعيدة المستوية.
(٣) سقط ما بين القوسين فى ش.
(٤) جمع مهرق. وهو هنا: الصحراء الملساء.
(٥) فى اللسان (خلق) أن التواق ابن الراجز.
(٦) الآية ٤١ سورة الذاريات.
(٧) هذا عجز بيت للبيد وصدره:
أو مذهب جدد على ألواحه
وقبله:
فكأن معروف الديار بقادم براق غول فالرجام وشوم
فقوله: «أو مذهب» عطف على قوله: «وشوم» فقد شبه معروف الديار فى دقته بالوشوم أو بالمذهب أي لوح كتابة مطلى بالذهب عليه خط بارز أو مبرز، وخط مختوم: غير واضح. وانظر الخصائص ١/ ١٩٣.
فجعله مبروزًا عَلَى غير «١» فعل، أي إن ذلك من صفاته فجاز مفعول لمُفْعَل، كما جازَ فاعِل لِمفعول إذ لَمْ «٢» يردَّ البناء عَلَى الفعل.
وقوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [٢٤] وَذَلِكَ أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إن الله وملائكته يُصلُّونَ عَلَى الصفوف الْأُوَلِ فِي الصلاة، فابتدرها الناس وأراد بعض المسلمين أن يبيع داره النائية ليدنو من المسجد فيدركَ الصفّ الأول فأنزل الله- عَزَّ وَجَلَّ- (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) «٣» فإنَّا نجزيهم عَلَى نيّاتِهم فقرَّ الناسُ.
[قوله: مِنْ صَلْصالٍ [٢٦]].
ويُقال: إن الصلصال طين حُرّ خُلِطَ برمل فصار يصلصل كالفَخَّار والمسْنون: المتغير والله أعلم أخذ من سَنَنْتُ الْحَجَر عَلَى الحجر، والذي يَخرج مما بينهما يُقال لَهُ: السَّنين.
وقوله: مِنْ نارِ السَّمُومِ [٢٧].
يُقال: إنَّها نارُ دونها الْحِجَاب. قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي حبان عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- الْجَانَّ أَبَا الْجِنِّ مِنْ نَارِ السَّمُومِ وَهِيَ نَارٌ دُونَهَا الْحِجَابُ (وَهَذَا الصَّوْتُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ عِنْدَ الصَّوَاعِقِ مِنَ انْعِطَاطِ «٤» الْحِجَابِ).
وقوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [٢٩].
سُجود تَحيَّة وطاعة لا لربوبيّة وهو مثل قوله فى يوسف (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) «٥».
(١) ولو جاء على الفعل لقال: «مبرز» من أبرزه، ولا يقال: برزه.
(٢) هذا الضبط من ا، وهو من الرد. ولو ضبط «يرد» من الإرادة كان له وجه.
(٣) ا: «وإنا».
(٤) سقط ما بين القوسين فى ش. والانعطاط: الانشقاق.
(٥) الآية ١٠٠ سورة يوسف
وقوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [٤٠] ويقرأ (الْمُخْلِصِينَ) «١» فمَن كسر اللام جعل الفعل لَهُم كقوله تبارك وتعالى (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) «٢» ومن فتح فالله أخلصهم كقوله: (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ «٣» بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) وقوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [٤١].
يقول: مرجعهم إليّ فأجازيهم. وهو كقوله تبارك وتعالى (إِنَّ رَبَّكَ «٤» لَبِالْمِرْصادِ) فِي الفجر.
فيجوز فِي مثله من الكلام أن تَقُولَ لِمَن أوعدته: طريقك عَليّ وأنا عَلَى طريقك: ألا ترى أَنَّهُ قَالَ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فهذا كقولك: أنا على طريقك. (صِراطٌ عَلَيَّ) أي هَذَا طريقٌ عَليّ وطريقُك عَليّ. وقرأ بعضهم «٥» (هَذَا صِرَاطٌ عَليٌّ) رَفع يجعله نعتًا للصراط كقولك: صراط مرتفع مستقيم.
وقوله: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ [٤٤] يعنى: من الكفّار (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) يقول:
نصيب معروف. والسبعة الأبواب أطباق بعضها فوق بعض. فأسفلها الهاوية، وأعلاها جهنم.
وقوله: أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ [٥٤] لو لَمْ يكن فيها (عَلَى) لكان صوابًا أيضًا.
ومثله (حَقِيقٌ «٦» عَلى أَنْ لا أَقُولَ) وَفِي قراءة عبد الله (حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ) ومثله فِي الكلام أتيتك أنك تعطي فلم أجدك تُعطي، تريد: أتيتكَ عَلَى أنك تعطي فلا أراك كذلك.
وقوله: (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) النون منصوبة لأنه فعل لَهُم لَمْ يذكر مفعول «٧». وهو جائز فى الكلام.
(١) كسر اللام لغير نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبى جعفر وخلف كما فى الإتحاف
(٢) الآية ١٤٦ سورة النساء.
(٣) الآية ٤٦ سورة ص. [.....]
(٤) الآية ١٤.
(٥) هى قراءة يعقوب والحسن كما فى الإتحاف.
(٦) الآية ١٠٥ سورة الأعراف.
(٧) كذا. والأولى: «مفعوله» أو سقط «له» والأصل: «له مفعول».
وقد كَسَر أهل «١» المدينة يريدونَ أن يجعلوا النون مفعولًا بِهَا. وكأنّهم شدّدوا النون فقالوا (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا) ثم خفّفوها والنِّيَّة عَلَى تثقيلها كقول عَمْرو بن معدي كرب:
رأته كالثُّغَام يُعَلُّ مِسْكًا يسوء الفالياتِ إذا فَلَيْنِي «٢»
فأُقسم لو جعلتُ عَليّ نَذْرًا بطعنةِ فارس لقضَيتُ دَيْنِي
وقد خففت العرب النون من أن الناصبة ثُمَّ أنفذوا لَهَا نصبها، وهي أشد من ذا. قَالَ الشاعر:
فلو أَنْكِ فِي يوم الرخاء سألتني فراقَكِ لَمْ أبخل وأنت صديق
فما رُدَّ تزويج عَليه شهادة وما رُدَّ من بعد الْحَرار عَتِيقُ «٣»
وقال آخر «٤» :
لقد علم الضَّيْفُ والْمُرْمِلُونَ إذا اغبرَّ أُفْقٌ وهبَّتْ شَمَالا
بأنْك الربيعُ وغيث مَرِيع وقدْمًا هناك تكون الثِّمَالا
وقوله: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [٦٦] أنَّ مفتوحة عَلَى أن ترد عَلَى الأمر فتكون فِي موضع نصب بوقوع القضاء عليها. وتكون نَصْبًا آخر بسقوط الخافض منها أي قضينا ذَلِكَ الأمر بِهذا. وهي فِي قراءة عبد الله (وَقُلْنَا إِنّ دابِرَ) فعلى هَذَا لو قرىء بالكسر لكان وجها.
وأما (مُصْبِحِينَ) إذا أصبحوا، ومشرقين إذا أشرقوا. وَذَلِكَ إذا شرقت الشمس. والدابر: الأصل.
شرقت: طلعت، وأشرقت: أضاءت.
(١) يريد نافعا.
(٢) الهاء فى (رأته) لشعره، الثغام ثنت له نور أبيض شبه به الشيب. ويعل: يطيب شيئا بعد شىء. وانظر سيبويه ٢/ ١٥٤، والخزانة ٢/ ٤٤٥.
(٣) مخاطب أو أنه وقد سألته الطلاق. ويريد بيوم الرخاء، ما قبل إحكام عقد لنكاح والحرار الحرقة والخلوص من الرق. وانظر الخزانة ٢/ ٤٦٥.
(٤) أي شخص آخر وهو جنوب أخت عمرو ذى الكلب ترثيه. والمرملون: الذين نفدت أزوادهم ويقال:
أرمل، واغبرار الأفق يكون فى الشتاء لكثرة الأمطار وهو زمن الجدب. والمريع الخصيب. والشمال الغياث. وانظر الخزانة ٤/ ٣٥٢.
وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [٨٥] يُقال: للمتفكرين. ويُقال للناظرين المتفرسين.
قوله: الأَيْكَةِ [٧٨] قرأها الأعمش وعاصم والحسن البصرىّ: (الأيكة) بالهمز فِي كل القرآن. وقرأها أهلُ المدينة كذلك إلا فِي الشعراء وَفِي ص فإنَّهم جَعلوها بغير ألف ولام ولم يُجروها.
ونرى- والله أعلم- أنّها كتبت فِي هذين الموضعين عَلَى ترك الْهَمْز فسقطت الألف لتحرك اللام.
فينبغي أن تكون القراءة فيها بالألف واللام لأنَّها موضع واحد فِي قول الفريقين، والأيكة:
الغيضة.
وقوله: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [٧٩] يقول: بطريق لَهم يَمرونَ عليها فِي أسفارِهم. فجعل الطريق إمامًا لأنّه يُؤَمّ ويُتَّبع.
وقوله تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمنين [٨٢] أن تَخرَّ عليهم. ويُقال: آمنين للموت.
وقوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [٨٧] يعني فاتحة الكتاب وهي سبع آيات فِي قول أهل المدينة وأهل العراق. أهل المدينة يعدون «١» (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم آيَةٌ مِنَ الْحَمْدِ. وَكَانَ حَمْزَةُ يَعُدُّهَا آيَةً وَآتَيْنَاكَ (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).
وقوله: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [٨٩] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [٩٠] يقول: أنذرتكم ما أُنزل بالمقتسِمين. والمقتسمون رجال من أهل مكَّة بعثهم أهل مكَّة عَلَى عِقَابَها «٢» أيَّام الحج فقالوا: إذا سألكم الناس عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقولوا: كاهن. وقالوا لبعضهم قولوا: ساحر، ولبعضهم: يفرق
(١) أي لما لم يعدوا البسملة آية من الفاتحة عدوا أنعمت عليهم آية وبذلك كانت الآيات سبعا أما من عد البسملة آية فلا يعد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية.
(٢) العقاب جمع عقبة وهى المرقى فى الجبل أو الطريق فيه.
91
بين الاثنين ولبعضهم قولوا: مجنون، فأنزلَ الله تبارك وتعالى بِهم خزيًا فماتوا أو خمسة منهم شرَّ مِيتة فسمّوا المقتسمين لأنَّهم اقتسموا طرق مكّة.
وقوله: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [٩١] يقول: فَرَّقُوه إذ جعلوه سِحرًا وكذبًا وأساطيرَ الأولين. والعِضُونَ فِي كلام العرب: السحر بعينه. ويُقال: عضَّوهُ أي فَرَّقُوهُ كَما تُعضَّى الشاة والْجَزور. وواحدة الْعِضِين عِضَة رفعها عِضُون ونصبها وخفضها عِضِين. ومن العرب من يجعلها بالياء عَلَى كل حال ويُعْرِبُ نونها فيقول: عِضِينُك، ومررتُ بعضِينِك وسنينك وهي كثيرة فِي أَسَد وَتَمِيم. وَعَامِر. أنشدني بعض بني عَامِر:
ذرانِي من نَجْدٍ فإن سِنِينَه لعبنَ بنا شِيبا وشَّيبننا مُرْدا
مَتى نَنج حَبْوًا من سنينٍ ملحّة نشمّر لأخرى تنزل الأعصم الفردا «١»
وأنشدنى فِي بعض بني أسد:
مثل الْمَقَالِي ضُربت قُلينُها «٢»
من القلة وهي لُعبة للصبيان، وبعضهم:
إلى بُرين الصُّفْر الْمَلْويات «٣»
وواحد الْبُرِينِ بُرة. ومثل ذَلِكَ الثُّبين «٤» وعِزِينٌ «٥» يَجوز فِيهِ ما جاز فى العضين والسنين.
(١) الشعر للصمة بن عبد الله القشيري كما فى شواهد العيني فى مبحث الإعراب ١/ ١٧٠ على هامش الخزانة. والأعصم من الظباء والوعول: ما فى ذراعيه أو إحداهما بياض وسائره أسود أو أحمر. والعصم تسكن أعالى الجبال.
(٢) المقالى جمع المقلى أو المقلاء، والقلون جمع القلة. والقلة والمقلاء عودان يلعب بهما الصبيان. فالقلة خشبة قدر ذراع تنصب والمقلاء يضرب به القلة. وفى شفاء العليل فى حرف الناف أنها كات تسمى فى أيام المؤلف عقلة.
(٣) البرون جمع البرة وهى الحلقة من صفر أو غيره تجعل فى أنف البعير والصفر النحاس.
(٤) جمع ثبة وهى الجماعة والعصبة من الفرسان. وتجمع الثبة أيضا على ثبات. [.....]
(٥) العزون جمع العزة وهى العصبة من الناس.
92
وإنَّما جاز ذَلِكَ فِي هَذَا المنقوص الَّذِي كَانَ عَلَى ثلاثة أحرف فنقصت لامه، فلمّا جَمعوهُ بالنون توهّموا أَنَّهُ فُعُول إذ جاءت الواو وهي وَاوُ جماع، فوقعت فِي موضع الناقص، فتوهّموا أنها الواو الأصلية وأَنَّ الحرف عَلَى فُعُول أَلا ترى أنَّهم لا يقولون ذَلِكَ فِي الصالِحين والمسلمين وما أشبهه.
وكذلك قولهم الثبات واللغات، وربُّما «١» عرَّبوا التاء منها بالنصب والخفض وهي تاء جِمَاع ينبغي أن تكون خفضًا فِي النصب والخفض، فيتوهَّمون أنَّها هاء، وأن الألف قبلها من الفعل. وأنشدني بعضهم:
إذا ما جَلَاها بالأيام تحيرت ثباتا عليها ذلّها واكتثابها «٢»
وقال أَبُو الجراح فِي كلامه: ما من قوم إلا وقد سمعنا لغاتهم- قَالَ قَالَ الفراء: رجع أَبُو الجراح فِي كلامه عَن قول لغاتَهم- ولا يَجوز ذَلِكَ فِي الصالِحات والأخوات لأنّها تامة لَمْ يُنقص من واحدها شيء، وما كَانَ من حرف نُقص من أوّله مثل زِنة ولدة ودِيَة فإنه لا يُقاس عَلَى هَذَا لأن نقصه من أوَّله لا من لامه فما كَانَ منه مؤنثًا أو مُذكرًا فأجرهِ عَلَى التامّ مثل الصالِحين والصالِحات تقولُ رأيت لداتِك ولِدِيكَ ولا تقل لِدِينَك ولا لداتَك إلا أن يغلط بِهَا الشاعر فإنه ربَّما شبّه الشيء بالشيء إذا خرج عَن لفظه، كما لَمْ يُجْرِ «٣» بعضهم أَبُو سمَّان والنون من أصله من السمن لشبهه بلفظ رَيّان وشبهه.
وقوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [٩٤] ولم يقل: بِما تُؤْمر بِهِ- والله أعلم- أراد: فاصدع بالأمر.
ولو كَانَ مكان (ما) مَنْ أو ما مما يرادُ بِهِ الْبَهَائِم لأدخلت بَعدها الباء كما تَقُولُ: اذهب إلى من تؤمر بِهِ واركب ما تؤمر بِهِ، ولكنه فِي المعنى بِمنزلة المصدر ألا ترى أنك تقول: ما أحسن
(١) الأسوغ حذف الواو.
(٢) من قصيدة لأبى ذؤيب الهزلى. والبيت فى الحديث عن مشتار العسل. يقول: إنه اجتلى النحل بالأيام وهو الدخان أي أبرزها وأظهرها حين دخن عليها، وحينئذ تجمعت وتحيرت عصبا وفرقا وهى ذليلة إذ أحست أن المشتار غلبها وانظر ديوان الهذليين ١/ ٧٩.
(٣) أي يصرف وينون.
Icon