تفسير سورة الفتح

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها تسع وعشرون
بسم الله الرحمان الرحيم
نزلت في السفر بين مكة والمدينة بعد منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة عند كراع الغميم ١ أو عند ضجنان ٢. فقرأها صلى الله عليه وسلم على الناس وهو على راحلته وقال :( لقد أنزلت على الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها ). وقد طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الموادعة على إثر مناوشات ظهر لهم فيها أن المصلحة في الصلح، وتم على شروط قد تبدو في ظاهرها مجحفة بالمسلمين ؛ ولكنها في الواقع كانت خيرا عظيما لهم، وشرا على الشرك والمشركين.
١ موضع على ثلاثة أميال من عسفان التي على مرحلتين من مكة..
٢ بوزن عطشان، جبل قرب مكة..

﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ إخبار عن صلح الحديبية : عند الجمهور. وسمي هذا الصلح فتحا لاشتراكهما في الظهور على المشركين، فإنهم ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم ورموهم بسهام وحجارة. وقيل : هو إخبار عن فتح مكة : والتعبير عنه بالماضي قبل وقوعه لتحققه. قال ابن عطية : والقول الأول هو الصحيح.
﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر... ﴾ هو كناية عن عدم المؤاخذة. أو المراد بالذنب : ما فرط خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه صلى الله عليه وسلم ؛ فهو من باب : حسنات الأبرار سيئات المقربين. أو المراد بالغفران : الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها، فلا يصدر منه ذنب ؛ لأن الغفر هو الستر. والستر إما بين العبد والذنب، وهو اللائق بمقام النبوة. أو بين الذنب وعقوبته، وهو اللائق بغيره. واللام في " ليغفر " للعلة الغائية : أي أن مجموع المتعاطفات الأربعة غاية للفتح المبين ومسبب عنه لا كل واحد منها. والمعنى : يسترنا لك هذا الفتح لإتمام النعمة عليك، وهدايتك إلى الصراط المستقيم، ولنصرك نصرا عزيزا. ولما امتن الله
عليه بهذه النعم صدرها بما هو أعظم، وهو المغفرة الشاملة ؛ ليجمع له بين عزى الدنيا والآخرة. فليست المغفرة مسببة عن الفتح.
﴿ أنزل السكينة... ﴾ أوجد الطمأنينة والثبات في قلوبهم بهذا الصلح الذي ترتب عليه الأمن بعد الخوف ؛ " ليزدادوا يقينا على يقينهم. ﴿ ولله جنود السموات والأرض ﴾ يدبر أمرها كما يشاء ؛ فيسلط بعضها على بعض تارة، ويوقع بينها السلم والصلح أخرى ؛ حسبما تقتضيه مشيئته. ومن ذلك هذا الصلح العظيم
﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات... ﴾ أي دبر ما دبر ليشكر المؤمنون نعمته تعالى فيدخلهم الجنة، ولينغيظ أعداؤهم فيعذبهم بالنار. ﴿ ويكفر عنهم سيئاتهم ﴾ يغطيها، والمراد يمحو أثرها ولا يعاقب عليها.
﴿ الظانين بالله ظن السوء ﴾ أي ظن الأمر الفاسد المذموم، وهو أن الله تعالى لا ينصر رسوله والمؤمنين، وأنهم لا يرجعون إلى المدينة أبدا لاستئصالهم بمكة. ﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ دعاء عليهم بأن يحيق بهم ما تربصوه بالمؤمنين. والدائرة في الأصل : الخط المحيط بالمركز، ثم استعملت في النازلة المحيطة بمن نزلت به، إلا أن أكثر ما تستعمل في المكروه.
﴿ وتعزروه وتوقروه ﴾ تنصروه وتعظموه. وقيل : التعزير : النصرة مع التعظيم. والتوقير : التعظيم والإجلال والتفخيم. والضميران لله تعالى ؛ بقرينة قوله :﴿ وتسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ أي تنزهوه عما لا يليق به. أو تصلوا له تعالى غدوة وعشيا، والمراد ظاهرهما أو جميع النهار. ويكنى عن جميع الشيء بطرفيه ؛ كما يقال : شرقا وغربا لجميع الدنيا.
﴿ إن الذين يبايعونك ﴾ بيعة الرضوان بالحديبية على ألا يفروا. ﴿ إنما يبايعون الله ﴾ أي يطيعونه ؛ لأن المقصود من البيعة طاعة الله وامتثال أمره، وعبر عن ذلك بالبيعة مشاكلة. ﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ مذهب السلف في هذه الآية ونظائرها من آيات الصفات ما بيناه في المقدمة. والخلف يؤولون اليد بالقوة ؛ أي قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم ؛ كما يقال : اليد لفلان ؛ أي الغلبة والنصرة والقوة له. أو يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم ؛ كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما. ﴿ فمن نكث ﴾ نقض العهد بعد إبرامه ؛ كما تنكث خيوط الصوف المغزول بعد إبرامه. وأصله من النكث – بالكسر – وهو أن تنقض أخلاق الأكسية البالية فتغزل ثانية. ﴿ ومن أوفى ﴾ يقال : وفى بالعهد وأوفى به، إذا تممه. ﴿ عاهد عليه الله ﴾ بضم الهاء في " عليه " ؛ توصلا إلى تفخيم لفظ الجلالة، الملائم لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام وقرئ بكسرها لمناسبة الياء ؛ نقله العلامة الآلوسي.
﴿ المخلفون من الأعراب ﴾ أي الذين خلفهم الله عن صحبتك، والخروج معك إلى مكة معتمرا عام الحديبية ؛ حين استنفرتهم ليخرجوا معك حذرا من قريش أن يعرضوا لك بحرب أو يصدوك عن البيت. فتثاقلوا عنك وتخلفوا، وخافوا القتال وقالوا : لن يرجع محمد وأصحابه من هذه السفرة. ففضحهم الله بهذه الآية، وأعلم رسوله بقولهم واعتذارهم قبل أن يرجع إليهم ؛ فكان كذلك. و " المخلفون " جمع مخلف، وهو المتروك في مكان خلف الخارجين من البلد كالنساء والصبيان. والأعراب : سكان البادية. والمراد بهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل.
﴿ وكنتم قوما بورا ﴾ أي وكنتم في علم الله تعالى قوما هالكين فاسدين، لا تصلحون لشيء من الخير، من بار الشيء : هلك وفسد. وبور في الأصل : مصدر كالهلك، يوصف به المفرد والمثنى والجمع. والمذكر والمؤنث، واستعمل هنا مؤولا باسم الفاعل. وقيل : جمع بائر ؛ كحائل وحول.
﴿ سعيرا ﴾ نارا مسعورة، موقدة ملتهبة. يقال : سعرت النار – من باب منع – أوقدتها وهيجتها ؛ كسعّرتها وأسعرتها.
﴿ سيقول المخلفون... ﴾ وعد الله أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئا. وقد رجع منها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الصلح في ذي الحجة، وأقام بالمدينة بقيته وأوائل المحرم من سنة سبع، ثم غزا بمن شهد الحديبية ففتحها، وغنم أموالا كثيرة ؛ فخصمهم كما أمره الله تعالى. أي سيقول أولئك الأعراب المتخلفون عن الخروج معك إذا انطلقتم إلى مغانم خيبر لتأخذوها : دعونا نتبعكم ونشهد معكم قتال أهلها. تقول : ذره، أي دعه. وهو يذره : أي يدعه. ولم يستعمل منه الماضي واسم الفاعل ؛ اكتفاء بقولهم : تركه تركا وهو تارك.
﴿ كلام الله ﴾ وعده أهل الحديبية خاصة بغنائم خيبر : كما قال تعالى : " وأثابهم فتحا قريبا. ومغانم كثيرة يأخذونها ".
﴿ أولى بأس شديد ﴾ ذوي نجدة وشدة في الحرب ؛ وهم فارس أو الروم، أو هوازان وغطفان يوم حنين. أو بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب.
﴿ ليس على الأعمى حرج... ﴾ ليس على هؤلاء إثم في التخلف عن الجهاد ؛ لما بهم من الأعذار والعاهات المرخصة لهم في التخلف عنه.
﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ هم أهل الحديبية ؛ إلا جد بن قيس المنافق الذي لم يبايع. وكانت عدتهم أربعمائة وألفا في قول. وتسمى هذه البيعة بيعة الرضوان ؛ أخذا من هذه الآية.
والشجرة كانت سمرة، والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها ؛ فأمر عمر بقطعها خشية الافتتان بها لقرب العهد بالجاهلية. ﴿ وأثابهم فتحا قريبا. ومغانم كثيرة يأخذونها ﴾ هو فتح خيبر وغنائمها، وكان إثر انصرافهم من الحديبية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨:﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ هم أهل الحديبية ؛ إلا جد بن قيس المنافق الذي لم يبايع. وكانت عدتهم أربعمائة وألفا في قول. وتسمى هذه البيعة بيعة الرضوان ؛ أخذا من هذه الآية.
والشجرة كانت سمرة، والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها ؛ فأمر عمر بقطعها خشية الافتتان بها لقرب العهد بالجاهلية. ﴿ وأثابهم فتحا قريبا. ومغانم كثيرة يأخذونها ﴾ هو فتح خيبر وغنائمها، وكان إثر انصرافهم من الحديبية.

﴿ وكف أيدي الناس عنكم ﴾ أي أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان حين خفوا لنصرتهم ؛ فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا على أعقابهم مدبرين.
﴿ وأخرى لم تقدروا عليها ﴾ أي وعجل لكم مغانم أخرى، وهي مغانم هوزان في غزوة حنين ؛ لم تقدروا عليها لما كان فيها من الجولة قبل ذلك﴿ قد أحاط الله بها ﴾ قدر عليها واستولى ؛ فأظهركم عليها وأظفركم بها.
﴿ ببطن مكة ﴾ أي بالحديبية. والمراد بمكة : الحرم والحديبية منه. أو هي ملاصقة له.
﴿ والهدى ﴾ أي وصدوا الهدي وهو ما يهدى إلى البيت المعظّم، وكان سبعين بدنة على المشهور. وقيل : كان مائة بدنة. ﴿ معكوفا ﴾ محبوسا. يقال : عكفه يعكفه ويعكفه عكفا، حبسه. وعكف عليه عكوفا : أقبل عليه مواظبا. ﴿ محله ﴾ أي مكانه المعهود. وللفقهاء فيه تفصيل. ﴿ ولولا رجال مؤمنون... ﴾ أي ولولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني الكفار بمكة جاهلين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كفّ أيديكم عنهم. وكان بمكة من ضعفاء المؤمنين تسعة نفر : سبعة رجال وامرأتان. ولو لم يكفّ الله أيدي المؤمنين عن كفار مكة في ذلك اليوم، لانجرّ الأمر إلى إهلاك هؤلاء بين ظهرانيهم فيصيب المؤمنين من ذلك مكروه. ﴿ أن تطئوهم ﴾ أي تدوسوهم. والمراد تهلكوهم، بدل من ضمير " تعلموهم ". و " معرة " أي مكروه وأذى. والمراد به : السّبّة : إذ يقول المشركون : إنهم قتلوا من هم على دينهم. يقال : عرّه يعرّه عرّا، إذا أصابه بمكروه ؛ والمعرّة مفعلة منه. وجواب " لولا " محذوف تقديره ما ذكرنا. ﴿ ليدخل الله في رحمته من يشاء ﴾ أي فعل ما ذكر من الكفّ رحمة بأولئك المستضعفين الذين كانوا بمكة بين ظهراني المشركين، فيتمّم لهم أجورهم بإخراجهم من بينهم، وفكّ أسرهم، ورفع العذاب عنهم.
﴿ لو تزيلوا ﴾ أي تميّزوا عن الكفار وخرجوا من مكة. يقال : زلته زيلا، أي مزته. وزيله فنزّيل : فرقه فترّق. ﴿ لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾ بالقتل والسّبي. و " منهم "
للبيان لا للتبعيض. والجملة مقرّرة لما قبلها.
﴿ الحمية ﴾ الأنفة والتكبر. يقال : حمي من الشيء – كرضى – حميّة، أنف منه. ﴿ وألزمهم كلمة التقوى ﴾ أي الكلمة التي يتّقى بها الشرك، والعذاب، وهي كلمة التوحيد والإخلاص وروي أنها : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، " وهو على كل شيء قدير ".
﴿ لقد صدق الله ورسوله... ﴾ أي حقق رؤياه بالحق، وذلك في عمرة القضاء. وكان صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قبل الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصّروا : فأخبر بها أصحابه ففرحوا، " وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك، فلما رجعوا من الحديبية دون أن يدخلوا مكة قال المنافقون : والله ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ؛ فأنزل الله هذه الآية. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المسجد الحرام آمنين في العام القابل، وحلق بعضهم وقصّر بعضهم بعد سعي العمرة، ﴿ فعلم ما لم تعلموا ﴾ من المصلحة في الصلح عام الحديبية وفي عدم دخولكم مكة فيه. ﴿ فجعل من دون ذلك ﴾ أي من قبل دخولكم الحرم﴿ فتحا قريبا ﴾ هو فتح خيبر، يقويكم به على أعدائكم. أو هو صلح الحديبية. أو هما، ورجّحه الطبري.
﴿ سيماهم ﴾ علامتهم، وهو نور يجعله الله يوم القيامة. أو حسن سمت يجعله الله في الدنيا. ﴿ وفي وجوههم ﴾ في جباههم يعرفون به﴿ من أثر السجود ﴾.
﴿ ذلك مثلهم ﴾ أي ذلك المذكر من نعومتهم الجليلة، هو وصفهم العجيب الشأن، الجاري مجرى الأمثال﴿ في التوراة ﴾. ﴿ ومثلهم في الإنجيل ﴾ مبتدأ، خبره﴿ كزرع أخرج شطأه ﴾ والشطء : فروخ الزرع، وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي جانبيه ؛ وجمعه أشطاء وشطوء. يقال : شطأ الزرع وأشطأ، إذا أخرج فراخه. ﴿ فآزره ﴾ أي فقوّى ذلك الشطء الزرع. وأصله من شد الإزار. يقال : أزرته، أي شددت إزاره. وآزرت البناء – بالمد والقصر - : قويت أسافله﴿ فاستغلظ ﴾ فتحول من الدقة إلى الغلظ. ﴿ فاستوى على سوقه ﴾ فاستقام على قصبه وأصوله. جمع ساق ؛ نحو لوب ولابة.
﴿ يعجب الزراع ﴾ لقوته وغلظه وحسن هيئته ؛ وإذا أعجب أهل الزرع أعجب غيرهم بالأولى. وهو مثل ضربه الله للصحابة رضي الله عنهم. قلّوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا ؛ فعظم أمرهم يوما بعد يوم، بحيث أعجب الناس. وقيل : هو مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ فالزرع : النبي صلى الله عليه وسلم، قام وحده حين بعث. والشطء : أصحابه، قواه الله بهم كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها. ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ علّة لما أفاده تشبيههم بالزرع ؛ من نمائهم قوتهم رضى الله عنهم وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. والله أعلم.
Icon