تفسير سورة النجم

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة النجم من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٦٢ وقيل ٦١ آية

سورة النجم
مكية [إلا آية ٣٢ فمدنية] وآياتها ٦٢ وقيل ٦١ آية [نزلت بعد الإخلاص] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
النجم: الثريا، وهو اسم غالب لها. قال:
إذا طلع النّجم عشاء... ابتغى الرّاعى كساء «١»
(١). هذا تقوله العرب عند الشتاء، وتقول عند الصيف:
طلع النجم غدية... وابتغى الراعي شكية
والنجم:
اسم غالب على الثريا، قيل: إنها تخفى في السنة أربعين يوما يسترها ضوء الشمس، وتظهر عند دخول الشتاء عشاء، وعند دخول الصيف صباحا، والكساء: ثوب سابغ. والغدية: تصغير غدوة: وهي أول النهار. والشكية:
تصغير شكوة، وهي قرية صغيرة جرداء، لأنه في الشتاء يطلب كساء بدنية لكثرة البرد، وفي الصيف يطلب قربة يشرب منها لكثرة الحر، والأول كناية عن دخول البرد، والثاني كناية عن دخول الحر.
416
أو جنس النجوم. قال:
فباتت تعد النّجم... في مستحيرة «١»
يريد النجوم إِذا هَوى إذا غرب أو انتثر يوم القيامة. أو النجم الذي يرجم به إذا هوى:
إذا انقض. أو النجم من نجوم القرآن، وقد نزل منجما في عشرين سنة، إذا هوى: إذا نزل.
أو النبات إذا هوى: إذا سقط على الأرض. وعن عروة بن الزبير أنّ عتبة بن أبى لهب وكانت تحته بنت رسول الله ﷺ أراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد، هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله ﷺ وردّ عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، وكان أبو طالب حاضرا، فوجم «٢» لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخى عن هذه الدعوة! فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر
(١).
فقد علموا أنى وفيت لربها... فراح على عنس بأخرى يقودها
قريت الكلابي الذي يبتغى القرى... وأمك إذ يحدى إلينا قعودها
فباتت تعد النجم في مستحيرة... سريع بأيدى الآكلين جمودها
فلما سقيناها العكيس تملأت... مذاخرها وارفض منها وريدها
ولما قضت من ذى الإناء لبانة... أرادت إلينا حاجة لا نريدها
للراعي النميري من بنى قطن بن ربيعة: نزل به أضياف من بنى كلاب وقد غابت إبله، فنحر لهم ناقة من ركابهم، فلما أصبح أقبلت عليه إبله، فأعطى صاحب الناقة مثلها، وأعطاه ثنية زيادة عليها، نذمه خنزر بن أرقم من بنى بدر ابن ربيعة على ذبحها، فأجابه الراعي بقصيدة منها ذلك. والعنس: الناقة الصلبة. وأمك: عطف على الكلابي.
ويحدى: مبنى للمجهول، أى: يساق بالغناء له. والقعود- كصبور-: البكر من الإبل، لأنه لا يمكن الراكب من القعود على ظهره. وروى: إذ يحدى إليك، بدل إلينا. ولعله بعد الضيافة الآتية أو تحريف، فباتت أمك تعد النجم، أى: تحسب صور النجوم، أو تحسب فقاقع المرق في الجفنة، فاستعار لها النجم على سبيل التصريحية.
أو تحسب الثريا، لأن النجم اسم غالب عليها، وهي سبعة نجوم: ترى صورتها في ليالي الشتاء. وقيل: المراد بالعد هنا: الظن، أى باتت تظنا فيها. والمستحيرة: المتحيرة بامتلائها من المرق. ويروى: مستجرة لأنها تجر الناس للأكل منها والعكس: المرق الممزوج باللبن الحليب. وتملأت: امتلأت. ويروى: تمدحت، بالدال المهملة، أى: اتسعت من الشبع. ويروى بالمعجمة، أى: اصطكت واضطربت. والمذاخر: مواضع الذخائر: والمراد بها المعدة والأمعاء. ويروى: خواصرها، أى: جوانبها. وارفض: رشح وترشرش وارتعد ونفر، ويروى:
وازداد رشحا وريدها. أى: باتت تنظر النجوم في جفنة كثيرة المرق والدسم، سريع جمود دسمها على أيدى الآكلين من برد الشتاء، حتى إذا امتلأت بطنها ونفرت عروق عنقها وقضت لبانة، أى: حاجة من صاحب الإناء وهو المرق واللبن: طلبت منا حاجة لا نريدها ولا نرضاها، لأنها فاحشة وكأنه صمن أرادت معنى التضرع أو الميل أو النسبة فعداء بإلى. ويجوز أنها بمعنى من، كما أوضحناه في آخر حرف الباء.
(٢). قوله «فوجم لها» أى اشتد حزنه. أفاده الصحاح. (ع)
417
قريش هذه الليلة، فإنى أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم، حتى ضرب عتبة فقتله «١». وقال حسان:
من يرجع العام إلى أهله... فما أكيل السّبع بالرّاجع «٢»
ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم: والخطاب لقريش، وهو جواب القسم، والضلال: نقيض الهدى، والغى نقيض الرشد، أى: هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغى، وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه، وإنما هو وحى من عند الله يوحى إليه. ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى شَدِيدُ الْقُوى ملك شديد قواه، والإضافة غير حقيقية، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهو جبريل عليه السلام، ومن قوّته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف «٣»، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على
(١). أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عروة عن أبيه فذكر مثله. إلا أنه قال «فضربه الأسد بذنبه ضربة واحدة فمات مكانه» ورواه البيهقي في الدلائل والطبراني من طريق سعيد عن قتادة مطولا نحوه. لكن قال عنبسة: ورواه الحاكم والبيهقي في الدلائل أيضا. من رواية أبى نوفل بن أبى عقرب عن أبيه. قال «كان لهب بن أبى لهب» فذكره مختصرا. وقال البيهقي: هكذا قال عباس بن الفضل الأزرق. وليس بالقوى. وأهل المغازي يقولونه عتبة أو عتيبة. [.....]
(٢).
لا يرفع الرحمن مصروعكم... ولا يوهن قوة الصارع
وكان فيه لكم عبرة... السيد المتبوع والتابع
من يرجع العلم إلى أهله... فما أكيل السبع بالراجع
من عاد فالليث له عائد... أعظم به من خبر شائع
لحسان بن ثابت. روى عن عروة بن الزبير أن عتبة بن أبى لهب كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وقال: إنه كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم تفل في وجهه وطلق ابنته وخرج إلى الشام فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، فبينما هم يحرسونه ذات ليلة في سفر، إذ جاء أسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله، فقال حسان ذلك، والفعلان مجزومان بلا الدعائية. ويوهن بالتشديد، والمعنى الدعاء على القتيل والدعاء للقاتل. والمصروع: المطروح. والعبرة: الاعتبار أو ما يعتبر به. والتابع عطف على السيد.
من يرجع في هذا العام إلى أهله فلن يوجب رجوع غيره، لأن من أكله السبع لا يرجع فلا يتمن أهله رجوعه، لاستحالته وسكون السبع لغة، ثم قال: من عاد لمثل فعل عتبة فالأسد عائد له، وأعظم به: صيغة تعجب، من خبر: تمييز مقترن بمن، شائع: ذائع منتشر.
(٣). قوله «في أوحى من رجعة الطرف» أى: أسرع من الوحى وهو السرعة، يمد ويقصر، كذا في الصحاح. وفيه أيضا: نفحت الناقة: ضربت برجلها، ونفحه بالسيف: تناوله. (ع)
418
بعض عقاب الأرض المقدّسة، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند ذُو مِرَّةٍ ذو حصافة في عقله «١» ورأيه ومتانة في دينه فَاسْتَوى فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل في صورة دحية، وذلك أنّ رسول الله ﷺ أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق «٢». وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد ﷺ مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء «٣» ثُمَّ دَنا من رسول الله ﷺ فَتَدَلَّى فتعلق عليه في الهواء. ومنه: تدلت الثمرة، ودلى رجليه من السرير.
والدوالي: الثمر المعلق. قال:
تدلّى عليها بين سب وخيطة «٤»
ويقال: هو مثل القرلى: إن رأى خيرا تدلى، وإن لم يره تولى قابَ قَوْسَيْنِ مقدار قوسين عربيتين: والقاب والقيب، والقاد والقيد، والقيس: المقدار. وقرأ زيد بن على: قاد. وقرئ:
قيد، وقدر. وقد جاء التقدير بالقوس والرمح، والسوط، والذراع، والباع، والخطوة، والشبر، والفتر، والأصبع. ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» «٥». وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها «٦» » والقدّ: السوط.
ويقال: بينهما خطوات يسيرة. وقال:
(١). قوله «ذو حصافة في عقله» أى: استحكام» أفاده الصحاح. (ع)
(٢). لم أجده هكذا. وفي الصحيحين من رواية مسروق عن عائشة «أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي رأيته عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» وللترمذي وابن حبان «ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين:
مرة عند سدرة المنتهى. ومرة في أجياد، له ستمائة جناح، وقد سد الأفق»
.
(٣). لم أجده. هكذا. وذكر المرتين، تقدم في الذي قبله.
(٤).
تدلى عليها بين سب وخيطة تدلى دلو المائج المنشمر
يروى لأبى ذؤيب بدل الشطر الثاني: بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها. والسب- بالكسر-: الحبل، والخمار، والعمامة، والخيطة كذلك الوتد ونحوه: في لغة هذيل. والمائح: مالئ الدلو من أسفل البئر. والمائح- بالتاء-:
المستقى، يصف جانى العسل بأنه تدلى على النحل أو العسل، لأنه يؤنث أيضا، أى: نزل متمسكا بحبل مشدود في وتد، كتدلى دلو المالئ النشيط. والجرداء: فرس قليلة الشعر. والوكف: النطع. وكبا الجواد يكبو: سقط على وجهه. وغراب الدابة: أعلى ظهرها، أى: كأن غرابها ينحدر لسرعة سيرها.
(٥). أخرجه الحاكم من حديث عمرو بن عبسة في حديث طويل ورواه إسحاق والدارقطني من حديث كعب بن مرة نحوه في حديث، ورواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف مختصرا.
(٦). أخرجه البخاري من طريق حميد عن أنس أتم من هذا.
419
وقد جعلتني من حزيمة أصبعا «١»
فإن قلت: كيف تقدير قوله فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ؟ قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين «٢»، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو على في قوله:
وقد جعلتني من حزيمة أصبعا
أى: ذا مقدار مسافة أصبع أَوْ أَدْنى أى على تقديركم، كقوله تعالى أَوْ يَزِيدُونَ. إِلى عَبْدِهِ
إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر، لأنه لا يلبس، كقوله عَلى ظَهْرِها. ما أَوْحى
تفخيم للوحى الذي أوحى «٣» إليه: قيل أوحى إليه «إنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ما كَذَبَ فؤاد محمد ﷺ ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أى: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا، لأنه عرفه، يعنى: أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أنّ ما رآه حق وقرئ: ما كذب، أى صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته أَفَتُمارُونَهُ من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة، «٤» كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. وقرئ: أفتمرونه: أفتغلبونه في المراء، من ماريته فمريته، ولما فيه من معنى الغلبة عدّى بعلى، كما تقول: غلبته على كذا: وقيل: أفتمرونه: أفتجحدونه. وأنشدوا:
لئن هجوت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا «٥»
(١).
فأدرك إبقاء العراوة ظلعها وقد جعلتني من حزيمة أصبعا
للكلحية، وهو لقب لعبد الله بن هبيرة. وقيل: جرير بن هبيرة. وقيل: هبيرة بن عبد مناف. وقيل: هو للأسود بن يعفر. وقيل: لرؤبة وليس بشيء. والإبقاء: ما تبقيه الفرس من الهمة لتبذله قرب بلوغ المقصد.
والعراوة كجرادة. وقيل: بالكسر اسم فرسه. والظلع- بالفتح-: غمز في المشية من وجع الرجل، أى: أدرك الظلع ما أبقته الفرس فلم تقدر على بذله، والحال أنها جعلتني قريبا من عدوى حزيمة بمهملة مفتوحة فمعجمة مكسورة:
رجل كان قد أغار على إبل الشاعر فتبعه. وقيل: قبيلته وليس بذاك. ويروى: فأدرك إرقال العراوة. والإرقال:
الاسراع في السير، أى: أبطل إسراعها العرج، ولا بد من تأويل قوله: جعلتني أصبعا أى: جعلتني ذا مسافة أصبع. أو جعلت مسافتي مقدار أصبع.
(٢). قال محمود: «تقديره: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين إلى آخره» قال أحمد: وقد قال بعضهم:
إنه كناية عن المعاهدة على لزوم الطاعة، لأن الحليفين في عرف العرب إذا تحالفا على الوفاء والصفاء ألصقا وترى قوسيهما» قال أحمد: وفيه ميل لقوله أَوْ أَدْنى.
(٣). قال محمود: «هذا تفخيم للوحى الذي أوحى الله إليه» قال أحمد: التفخيم لما فيه من الإبهام، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان، وهو كقوله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى وقوله فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ.
(٤). قوله «من مرى الناقة» في الصحاح: مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر. (ع)
(٥). يقول لصاحبه: لئن ذممت أخا صدق ومكرمة، يعنى: نفسه. ويقال: مرى الناقة، أى: حلبها. ومنه المماراة. كأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. ومنه: فقد مريت أخا صدق، أى: غلبته في الجدال وأنفذت ما عنده، لأن من حلب الناقة يتركها يابسة الضرع، أو جحدت حقه كأنك أخذته منه، أو تسببت في إخراج ما عنده، فيذمك كما ذممته. ما كان يمريك، أى: ما كان يفعل بك كذلك.
420
وقالوا: يقال مريته حقه إذا جحدته، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين نَزْلَةً أُخْرى مرة أخرى من النزول، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة، لأنّ الفعلة اسم للمرّة من الفعل، فكانت في حكمها، أى: نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج. قيل في سدرة المنتهى: هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش: ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيول، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها.
والمنتهى: بمعنى موضع الانتهاء، أو الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة وآخرها. وقيل: لم يجاوزها أحد، وإليها ينتهى علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء جَنَّةُ الْمَأْوى الجنة التي يصير إليها المتقون: عن الحسن. وقيل: تأوى إليها أرواح الشهداء.
وقرأ على وابن الزبير وجماعة: جنة المأوى، أى ستره بظلاله ودخل فيه. وعن عائشة: أنها أنكرته وقالت: من قرأ به فأجنه الله ما يَغْشى تعظيم وتكثير لما يغشاها، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله: أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف. وقد قيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله» «١». وعنه عليه السلام: يغشاها رفرف من طير خضر «٢». وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش من ذهب «٣» ما زاغَ بصر رسول الله ﷺ وَما طَغى أى أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها، وما طغى: وما جاوز ما أمر برؤيته لَقَدْ رَأى والله لقد رأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الآيات التي هي كبراها وعظماها «٤»، يعنى: حين رقى ربه إلى السماء فأرى عجائب الملكوت.
(١). أخرجه الطبري من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قيل له: يا رسول الله، أى شيء رأيت يغشى تلك الشجرة؟ فذكره وأتم منه» وعبد الرحمن ضعيف وهذا معضل. [.....]
(٢). لم أجده.
(٣). أما حديث ابن مسعود فرواه إسحاق بن راهويه من طريق مرة عنه بهذا وأتم منه وأما غيره فرواه [بياض بالأصل].
(٤). قال محمود: «معناه قد رأى من آيات ربه الآيات التي... الخ» قال أحمد: ويحتمل أن تكون الكبرى صفة آيات ربه، لا مفعولا به، ويكون المرئي محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول، وهذا- والله أعلم- أولى من الأول، لأن فيه تفخيما لآيات الله الكبرى، وأن فيها ما رآه وفيها ما لم يره، وهو على الوجه الأول يكون مقتضاه أنه رأى جميع الآيات الكبرى على الشمول والعموم، وفيه بعد، فان آيات الله تعالى لا يحيط أحد علما بجملتها.
فان قال: عام أريد به خاص، فقد رجع إلى الوجه الذي ذكرناه والله أعلم.
421

[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٣]

أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ أصنام كانت لهم، وهي مؤنثات، فاللات كانت لثقيف بالطائف.
وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش، وهي فعلة من لوى، لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة. أو يلتوون عليها «١» : أى يطوفون. وقرئ: اللات، بالتشديد. وزعموا أنه سمى برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثنا، والعزى كانت لغطفان وهي سمرة، وأصلها تأنيث الأعز، وبعث إليها رسول الله ﷺ خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك إنى رأيت الله قد أهانك «٢»
(١). قال محمود: «اشتقاق اللات من لوى على كذا إذا قام عليه لأنهم كانوا... الخ» قال أحمد: الأخرى تأنيث آخر، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجودي، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير، حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلى، بخلاف آخر وآخرة، على وزن فاعل وفاعلة، فان إشعارهما بالتأخير الوجودي ثابت لم يغير. ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا: ربيع الآخر، على وزن الأفعل، وجمادى الأخرى: إلى ربيع الآخر، على وزن فاعل، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة، لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي، لأن الأفعل والفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة، والتزموا ذلك فيهما. وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته، وهو الحق إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون المراد الاشعار بتقدم مغاير في الذكر، مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية، والله أعلم.
(٢). لخالد بن الوليد رضى الله عنه. وعز: مرخم عزى. وترخيمه شاذ، لأنه ليس رباعيا ولا مؤنثا بالهاء، وهي شجرة كانت نعبدها الجاهلية، فضربها بسيقه فخرجت منها جنية صارخة، فقال لها ذلك البهت. وقيل: ضربها بالفأس حتى قطعها وقتل الجنية. وكفرانك: نصب بمحذوف وجوبا، كسبحان، أى: أكفر كفرانا بك، لا أنزه تنزيها لك، فهما مصدران مغنيان عن اللفظ بفعليهما. والاهانة: الا ذلال.
422
ورجع فأخبر رسول الله ﷺ فقال عليه السلام تلك العزى ولن تعبد أبدا «١». ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لثقيف. وقرئ:
ومناءة، وكأنها سميت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها، أى: تراق، ومناءة مفعلة من النوء، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. والأخرى ذمّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار، كقوله تعالى قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ أى وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم.
ويجوز أن تكون الأوّلية والتقدّم عندهم للات والعزى. كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات، فقيل لهم أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ويجوز أن يراد: أنّ اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهنّ لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله وتسمونهنّ آلهة قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة، من ضازه يضيزه إذا ضامه، والأصل: ضوزى «٢». ففعل بها ما فعل ببيض، لتسلم الياء. وقرئ: ضئزى، من ضأزه بالهمز. وضيز: بفتح الضاد هِيَ ضمير الأصنام، أى ما هي إِلَّا أَسْماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشدّه منافاة لها. ونحوه قوله تعالى ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أو ضمير الأسماء وهي قولهم، اللات والعزى ومناة، وهم يقصدون بهذه الأسماء الآلهة، يعنى: ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها بهواكم وشهوتكم، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به. ومعنى سَمَّيْتُمُوها سميتم بها، يقال: سميته زيدا، وسميته بزيد إِنْ يَتَّبِعُونَ وقرئ بالتاء إِلَّا الظَّنَّ إلا توهم أنّ ما هم عليه حق، وأنّ آلهتهم شفعاؤهم، وما تشتهيه أنفسهم، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أنّ دينهم باطل.
(١). أخرجه ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن السائب الكلبي عن أبى صالح وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ بعث خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها. وكانت بنخلة عليها سادن فجاءها خالد فهدمها فذكر نحوه إلى آخره ورواه الواقدي في المغازي والأزرقى في التاريخ من طريقه عن عبد الله بن يزيد الهذلي عن سعيد بن عمرو الهذلي قال «قدم رسول الله ﷺ مكة فذكر القصة وفيها: فبعث خالد ابن الوليد إلى العزى يهدمها فذكر القصة. وكذا ذكره ابن سعد في الطبقات في السرايا وأصل هذه القصة رواها النسائي وأبو يعلى والطبراني وأبو نعيم في الدلائل من حديث أبى الطفيل قال «لما فتح رسول الله ﷺ مكة- بعث خالد بن الوليد إلى نخلة- وكانت بها العزى فأتاها خالد، وكانت على ثلاث شجرات فقطع الشجرات».
(٢). قوله «والأصل قوله ضوزى» لعل صوابه «ضيزى» بكسر الضاد. ويؤيده ما قبله وما بعده اه ملخصا من هامش. (ع)
423

[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها لإنكار، أى: ليس للإنسان ما تمنى، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة، وهو تمنّ على الله في غاية البعد، وقيل: هو قولهم:
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى وقيل: هو قول الوليد بن المغيرة «لأوتين مالا وولدا» وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي ﷺ فلله الآخرة والأولى أى هو مالكهما.
فهو يعطى منهما من يشاء ويمنع من يشاء، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.
[سورة النجم (٥٣) : آية ٢٦]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
يعنى: أنّ أمر الشفاعة ضيق وذلك أنّ الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السماوات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا قط ولم تنفع، إلا إذا شفعوا من بعد أن بأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلا لأن يشفع له، فكيف تشفع الأصنام إليه بعبدتهم «١».
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أى كل واحد متهم تَسْمِيَةَ الْأُنْثى لأنهم إذا قالوا: الملائكة بنات الله، فقد سموا كل واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى بِهِ مِنْ عِلْمٍ أى بذلك وبما يقولون «٢».
وفي قراءة أبىّ: بها، أى: بالملائكة. أو التسمية لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً يعنى إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظنّ والتوهم فَأَعْرِضْ عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكر الله عن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا، ولا تتهالك على إسلامه، ثم قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
(١). قوله «بعبدتهم» لعله لعبدتهم، كعبارة النسفي. (ع)
(٢). قوله «ربما يقولون» لعله أو بما يقولون. (ع)
أى إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب، وأنت لا تعلم، فخفض على نفسك ولا تتعنها، فإنك لا تهدى من أحببت، وما عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ اعتراض أو فأعرض عنه ولا تقابله، إنّ ربك هو أعلم بالضال والمهتدى، وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
قرئ: ليجزي. ويجزى، بالياء والنون فيهما. ومعناه: أنّ الله عز وجل إنما خلق العالم وسوّى هذه الملكوت لهذا الغرض: وهو أن يجازى المحسن من المكلفين والمسيء منهم.
ويجوز أن يتعلق بقوله هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى لأنّ نتيجة العلم بالضال والمهتدى جزاؤهما بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء. وبِالْحُسْنَى بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى كَبائِرَ الْإِثْمِ أى الكبائر من الإثم، لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر، والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة. وقيل: التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها وَالْفَواحِشَ ما فحش من الكبائر، كأنه قال: والفواحش منها خاصة: وقرئ: كبير الإثم، أى: النوع الكبير منه وقيل: هو الشرك بالله. واللمم: ما قل وصغر. ومنه: اللمم المس من الجنون، واللوثة منه.
وألم بالمكان إذا قل فيه لبثه. وألم بالطعام: قل منه أكله: ومنه:
لقاء أخلّاء الصّفاء لمام «١»
(١).
لقاء أخلاء الصفاء لمام وكل وصال الغانيات ذمام
أى: لقاء الأحباب الذين صفت مودتهم لمام، أى: قليل فهو مفاعلة من الإلمام وهو الزيادة بلا تلبث ولا تمكث وكل وصال النساء المستغنيات بجمالهن عن التحلي بالحلى أو المخدرات المقيمات في بيوتهن، من غنى بالمكان كرضى:
أقام به ذمام أى شيء قليل من حقوق الحرمة والذمة، وإطلاقه على ذلك مجاز، وحقيقته: الحرمة والذمة والمعاهدة والعهد الذي يتعاهد به المتعاهدان وما يذم الشخص على إضاعته من العهد، فهو إما مفاعلة من الذمة، وإما اسم آلة: كالحزام والوثاق، وقد يستعمل صفة لبئر قليلة الماء، ويستعمل جمع ذمة. والمعنى أن رؤية الأحباب قليلة إما حقيقة في العادة، وإما ادعاء واستقلالا لها. ورؤية غيرهم كثيرة. وفيه معنى التحزن. ويجوز أن يقرأ: الدمام بالمهملة، وهو ما يطلى به الوجه ليحسن، والمعنى: أن وصالهن مجرد تمويه لا حقيقة له، والمعنى على التشبيه.
والمراد الصغائر من الذنوب، ولا يخلو قوله تعالى إِلَّا اللَّمَمَ من أن يكون استثناء منقطعا أو صفة، كقوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم، وآلهة غير الله: وعن أبى سعيد الخدري: اللمم هي النظرة، والغمزة، والقبلة: وعن السدّى:
الخطرة من الذنب: وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّا ولا عذابا: وعن عطاء:
عادة النفس الحين بعد الحين إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، «١» والكبائر بالتوبة فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات: أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي، ولا تثنوا عليها واهضموها، فقد علم الله الزكي منكم والتقى أوّلا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا، فنزلت: وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء: فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح: لم يكن من المزكين أنفسهم، لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٣ الى ٥٤]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)
(١). قوله «يكفر الصغائر باجتناب الكبائر» هذا عند المعتزلة، وعند أهل السنة بذلك. أو بمجرد الفضل، وكذا ما بعده. (ع)
426
أَكْدى قطع عطيته وأمسك، وأصله: إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كدية: وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر، ونحوه: أجبل الحافر، ثم استعير فقيل: أجبل الشاعر إذا أفحم. روى أن عثمان رضى الله عنه كان يعطى ما له في الخير، فقال له عبد الله بن سعد بن أبى سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء، فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإنى أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه، فقال عبد الله: أعطنى ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء. فنزلت. ومعنى تَوَلَّى ترك المركز يوم أحد، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل فَهُوَ يَرى فهو يعلم أن ما قال له أخوه من احتمال أوزاره حق وَفَّى قرئ مخففا ومشدّدا، والتشديد مبالغة في الوفاء. أو بمعنى:
وفر وأتم، كقوله تعالى فَأَتَمَّهُنَّ وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية، من ذلك: تبليغه الرسالة، واستقلاله بأعباء النبوّة، والصبر على ذبح ولده وعلى نار نمروذ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه، وأنه كان يخرج كل يوم فيمشى فرسخا يرتاد ضيفا، فإن وافقه أكرمه، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفي به. وعن الهزيل بن شرحبيل «١» : كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده، فأوّل من خالفهم إبراهيم. وعن عطاء بن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقا، فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال. أمّا إليكما فلا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر «٢» النهار، وهي: صلاة الضحى.
وروى: ألا أخبركم لم سمى الله خليله الَّذِي وَفَّى؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ... إلى... حِينَ تُظْهِرُونَ «٣» وقيل: وفي سهام الإسلام: وهي ثلاثون: عشرة في التوبة التَّائِبُونَ... وعشرة في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ... وعشرة في المؤمنين قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ... وقرئ: في صحف، بالتخفيف أَلَّا تَزِرُ أن مخففة من الثقيلة. والمعنى: أنه
(١). قوله «وعن الهزيل بن شرحبيل» لعله: الهذيل. (ع)
(٢). أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وغيرهما من رواية جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعا به وأتم منه.
(٣). أخرجه أحمد والطبراني وابن السنى والطبري وابن أبى حاتم من رواية ابن لهيعة عن زياد عن زيان عن ابن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه به. [.....]
427
لا تزر، والضمير ضمير الشأن، ومحل أن وما بعدها: الجر بدلا من ما في صحف موسى. أو الرفع على: هو أن لا تزر، كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم، فقيل: أن لا تزر إِلَّا ما سَعى إلا سعيه. فإن قلت: أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت، والحج عنه، وبه الإضعاف؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أن سعى غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعى نفسه.
وهو أن يكون مؤمنا صالحا وكذلك الإضعاف- كأن سعى غيره كأنه سعى نفسه، لكونه تابعا له وقائما بقيامه. والثاني، أن سعى غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه ثُمَّ يُجْزاهُ ثم يجزى العبد سعيه، يقال: جزاه الله عمله وجزاه على عمله، بحذف الجار وإيصال الفعل. ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله الْجَزاءَ الْأَوْفى أو أبدله عنه، كقوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قرئ بالفتح على معنى: أن هذا كله في الصحف، وبالكسر على الابتداء، وكذلك ما بعده. والمنتهى: مصدر بمعنى الانتهاء، أى: ينتهى إليه الخلق ويرجعون إليه، كقوله تعالى إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. أَضْحَكَ وَأَبْكى خلق قوتي الضحك والبكاء «١» إِذا تُمْنى إذا تدفق في الرحم، يقال: منى وأمنى. وعن الأخفش: تخلق من منى المانى، أى قدر المقدّر: قرئ: النشأة والنشاءة بالمد. وقال عَلَيْهِ لأنها واجبة «٢» عليه في الحكمة «٣»، ليجازى على الإحسان والإساءة وَأَقْنى وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك الشِّعْرى مرزم الجوزاء «٤» : وهي التي تطلع وراءها، وتسمى كلب الجبار، وهما شعريان الغميصاء والعبور وأراد العبور. وكانت خزاعة تعبدها، سنّ لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم،
(١). قال محمود: «أى خلق قوتي الضحك والبكاء» قال أحمد: وخلق أيضا فعلى الضحك والبكاء على قواعد السنة، وعليه دلت الآية غير مثابرة لتحريفه، والله الموفق.
(٢). قال محمود: «إنما قال عليه لأنها واجبة عليه... الخ» قال أحمد: هذا من فساد اعتقاد المعتزلة الذي يسمونه مراعاة الصلاح والحكمة، وأى فساد أعظم مما يؤدى إلى اعتقاد المعتزلة الإيجاب على رب الأرباب، تعالى الله عن ذلك. ومثل هذه القاعدة التي عفت البراهين القاطعة رسمها وأبطلت حكمها لا يكفى فيها كلمة محتملة: هي لو كانت ظاهرة لوجب تنزيلها على ما يوفق بينها وبين القواطع، والذي حملت عليه لفظة عليه غير هذا المعنى: وهو أن المراد أن أمر النشأة الأخرى يدور على قدرته عز وجل وإرادته، كما يقال: دارت قضية فلان على يدي.
وقول المحدثين. على يدي دار الحديث، أى هو الأصل فيه والسند، والله أعلم.
(٣). قوله «لأنها واجبة عليه في الحكمة» هذا عند المعتزلة لا عند أهل السنة. (ع)
(٤). قوله «مرزم الجوزاء» في الصحاح «المرزمان» مرزما الشعريين، وهما نجمان: أحدهما في الشعرى، والآخر في الذراع اه. (ع)
428
وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو كبشة، تشبيها له به لمخالفته إياهم في دينهم «١»، يريد: أنه رب معبودهم هذا. عاد الأولى: قوم هود، وعاد الأخرى: إرم. وقيل:
الأولى القدماء، لأنهم أوّل الأمم هلاكا بعد قوم نوح، أو المتقدمون في الدنيا الأشراف. وقرئ:
عادا لولى. وعاد لولى، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف وَثَمُودَ وقرئ: وثمود أَظْلَمَ وَأَطْغى «٢» لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، وما أثر فيهم دعاؤه «٣» قريبا من ألف سنة وَالْمُؤْتَفِكَةَ والقرى التي ائتفكت بأهلها، أى: انقلبت، وهم قوم لوط، يقال: أفكه فأتفك:
وقرئ: والمؤتفكات أَهْوى رفعها إلى السماء على جناح جبريل، ثم أهواها إلى الأرض أى:
أسقطها ما غَشَّى تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٨]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو للإنسان على الإطلاق، وقد عدد نعما ونقما وسماها كلها آلاء من قبل ما في نقمه من المزاجر والمواعظ للمعتبرين هذا القرآن نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أى إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين، وقال: الأولى على تأويل الجماعة أَزِفَتِ الْآزِفَةُ قربت الموصوفة بالقرب في قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، لَيْسَ لَها نفس كاشِفَةٌ أى مبينة متى تقوم، كقوله تعالى لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أو ليس لها نفس كاشفة، أى: قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، غير أنه لا يكشفها. أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل الكاشفة مصدر بمعنى الكشف: كالعافية. وقرأ طلحة: ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة، وهي على الظالمين ساءت الغاشية.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
(١). هذا وهم، والمعروف أنهم كانوا يقولون له: ابن أبى كبشة، كما في حديث أبى سفيان الطويل في الصحيحين حيث قال: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة أن يخافه ملك بنى الأصفر. يعنى هرقل.
(٢). قوله «وقرئ وثمود أظلم وأطغى» يفيد أن قراءة التنوين أشهر. (ع)
(٣). قوله «وما أثر فيهم دعاؤه» أى دعاؤه إياهم إلى الإسلام. (ع)
Icon