تفسير سورة المدّثر

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وهي ست وخمسون آية

استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعنى المفروضة والزكاة الواجبة وقيل: زكاة الفطر، لأنه لم يكن بمكة زكاة. وإنما وجبت بعد ذلك، ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يجوز أن يريد: سائر الصدقات وأن يريد: أداء الزكاة على أحسن وجه: من إخراج أطيب المال وأعوده على الفقراء، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله، والصرف إلى المستحق، وأن يريد: كل شيء يفعل من الخيز مما يتعلق بالنفس والمال خَيْراً ثانى مفعولي وجد. وهو فصل. وجاز وإن لم يقع بين معرفتين، لأنّ أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. وقرأ أبو السمال: هو خير وأعظم أجرا، بالرفع على الابتداء والخبر:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المزمّل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة» «١».
سورة المدثر
مكية، وهي ست وخمسون آية [نزلت بعد المزمل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)
الْمُدَّثِّرُ لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار: وهو الثوب الذي يلي الجسد. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الأنصار شعار والناس دثار» «٢» وقيل: هي أوّل سورة نزلت. وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد، إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى ويساري فلم أر شيأ، فنظرت فوقى فرأيت شيأ» «٣». وفي
(١). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى رضى الله عنه.
(٢). تقدم في آل عمران.
(٣). متفق عليه من رواية أبى سلمة عنه وأتم منه.
644
رواية عائشة: «فنظرت فوقى فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض- يعنى الملك الذي ناداه- فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني، فنزل جبريل وقال: «يا أيها المدثر» »
وعن الزهري: أوّل ما نزل: سورة اقرأ باسم ربك إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ فحزن رسول الله ﷺ وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال: إنك نبىّ الله، فرجع إلى خديجة وقال: دثروني وصبوا علىّ ماء باردا، فنزل: يا أيها المدثر «٢». وقيل: سمع من قريش ما كرهه فاغتم، فتغطي بثوبه مفكرا كما يفعل المغموم. فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه.
وعن عكرمة أنه قرأ على لفظ اسم المفعول. من دثره. وقال: دثرت هذا الأمر وعصب بك، كما قال في المزمّل: قم من مضجعك. أو قم قيام عزم وتصميم فَأَنْذِرْ فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. والصحيح أنّ المعنى: فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ واختص ربك بالتكبير: وهو الوصف بالكبرياء، وأن يقال: الله أكبر. ويروى أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحى، وقد يحمل على تكبير الصلاة، ودخلت الفاء لمعنى الشرط. كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات، لأنّ طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا. وقيل: هو أمر بتقصيرها، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك ما لا يؤمن معه إصابة النجاسات. وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات. يقال: فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل والأردان إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق. وفلان دنس الثياب للغادر، وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه، فكنى به عنه. ألا ترى إلى قولهم: أعجبنى زيد ثوبه، كما يقولون: أعجبنى زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه، والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عنى بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهر في كل شيء وَالرُّجْزَ قرئ بالكسر والضم، وهو العذاب، ومعناه: اهجر ما يؤدى إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى: الثبات على هجره، لأنه كان بريئا منه.
(١). لم أره عن عائشة. وإنما هو قصة حديث جابر. ولعل الزمخشري قصد بقوله «وفي رواية عائشة لفظة منه وإلا فالجميع من حديث جابر رضى الله عنه قلت: يوجد ما ذكره الزمخشري من رواية النعمان بن راشد عن الزهري عن عروة عن عائشة عند الطبري. [.....]
(٢). أخرجه الطبري من رواية محمد بن ثور عن معمر عن الزهري قال «كان أول شيء نزل على النبي ﷺ اقرأ- فذكره وأتم منه. رواه الحاكم من طريق محمد بن سيرين عن الزهري عن عروة عن عائشة رضى الله عنها.
645

[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٦ الى ٧]

وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧)
قرأ الحسن: ولا تمنّ. وتستكثر، مرفوع منصوب المحل على الحال، أى: ولا تعط مستكثرا رائيا لما تعطيه كثيرا، أو طالبا للكثير: نهى عن الاستغزار: وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب، وهذا جائز. ومنه الحديث «المستغزر يثاب من هبته» «١» وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون نهيا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم:
لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق. والثاني: أن يكون نهى تنزيه لا تحريم له ولأمّته. وقرأ الحسن: تستكثر، بالسكون. وفيه ثلاثة أوجه، الإبدال من تمنن. كأنه قيل: ولا تمنن لا تستكثر، على أنه من المنّ في قوله عز وجل ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لأنّ من شأن المنان بما يعطى أن يستكثره، أى: يراه كثيرا ويعتدّ به، وأن يشبه ثرو بعضد، فيسكن تخفيفا، وأن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار «أن» كقوله:
ألا أيّهذا الزّاجرى أحضر الوغى «٢»
وتؤيده قراءة ابن مسعود: ولا تمنن أن تستكثر. ويجوز في الرفع أن تحذف «أن» ويبطل عملها، كما روى: أحضر الوغى بالرفع، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ولوجه الله، فاستعمل الصبر. وقيل:
على أذى المشركين. وقيل: على أداء الفرائض. وعن النخعي: على عطيتك، كأنه وصله بما قبله، وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار. والوجه أن يكون أمرا بنفس الفعل، وأن يتناول على العموم كل مصبور عليه ومصبور عنه، ويراد الصبر على أذى الكفار، لأنه أحد ما يتناوله العام.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٨ الى ١٠]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
والغاء في قوله فَإِذا نُقِرَ للتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في فَذلِكَ للجزاء. فإن قلت:
بم انتصب إذا، وكيف صح أن يقع يَوْمَئِذٍ ظرفا ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دلّ
(١). تقدم في الروم من قول شريح.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٥٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
عليه الجزاء، لأنّ المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، والذي أجاز وقوع يَوْمَئِذٍ ظرفا ليوم عسير: أنّ المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأنّ يوم القيامة يأتى ويقع حين ينقر في الناقور. واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية. ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل، بدلا من فَذلِكَ ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. فإن قلت: فما فائدة قوله غَيْرُ يَسِيرٍ وعَسِيرٌ مغن عنه؟ قلت: لما قال عَلَى الْكافِرِينَ فقصر العسر عليهم قال: غَيْرُ يَسِيرٍ ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم.
ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسر العسير من أمور الدنيا.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١١ الى ٢٥]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)
ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)
وَحِيداً حال من الله عز وجل على معنيين، أحدهما. ذرني وحدي معه، فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو حال من المخلوق على معنى: خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد، كقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وكان يلقب في قومه بالوحيد، ولعله لقب بذلك بعد نزول الآية، فإن كان ملقبا به قبل فهو تهكم به وبلقبه، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه- من مدحه، والثناء عليه بأنه وحيد قومه لرياسته ويساره وتقدّمه في الدنيا- إلى وجه الذم والعيب: وهو أنه خلق وحيدا لا مال له ولا ولد، فآتاه الله ذلك، فكفر بنعمة الله وأشرك به واستهزأ بدينه مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا: أو ممدّا بالنماء، من مدّ الهر ومدّ نهره آخر. قيل: كان له الزرع والضرع والتجارة. وعن ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال. وقيل: كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره صيفا وشتاء.
وقيل: كان له ألف مثقال. وقيل: أربعة آلاف. وقيل تسعة آلاف. وقيل: ألف ألف. وعن ابن
647
جريج: غلة شهر بشهر وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكة لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة، لأنهم مكفيون لوفور نعمة أبيهم واستغنائهم عن التكسب وطلب المعاش بأنفسهم، فهو مستأنس بهم لا يشتغل قلبه بغيبتهم، وخوف معاطب السفر عليهم ولا يحزن لفراقهم والاشتياق إليهم. ويجوز أن يكون معناه: أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل. أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه. وعن مجاهد: كان له عشرة بنين. وقيل: ثلاثة عشر. وقيل:
سبعة كلهم رجال: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس:
أسلم منهم ثلاثة: خالد، وهشام، وعمارة وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه، فأتممت عليه نعمتي المال والجاه واجتماعهما: هو الكمال عند أهل الدنيا. ومنه قول الناس: أدام الله تأييدك وتمهيدك، يريدون: زيادة الجاه والحشمة. وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم، ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش ثُمَّ يَطْمَعُ استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه «١»، يعنى أنه لا مزيد على ما أوتى سعة وكثرة. وقيل: إنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي كَلَّا ردع له وقطع لرجائه وطمعه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأن قائلا قال: لم لا يزاد؟ فقيل: إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته، والكافر لا يستحق المزيد: ويروى: أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقة المصعد: وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت «٢»، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت» وعنه عليه السلام: الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا «٣»، إِنَّهُ فَكَّرَ تعليل الوعيد، كأن الله تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى، والذل بعد العز في الدنيا بعناده، ويعاقب في الآخرة بأشدّ العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد غايته وأقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحرا. ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة بقوله سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
(١). قال محمود: «دخلت ثم استبعادا لطمعه وحرصه على الزيادة، واستنكارا لذلك فرد الله طمعه خائبا... الخ» قال أحمد: لأن الكلمة الشنعاء لما خطرت بباله بعد إمعانه النظر: لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.
(٢). أخرجه البزار والطبرانى في الأوسط والبيهقي في الشعب والطبري وابن أبى حاتم. كلهم من طريق شريك عن عمار الدهني عن عطية عن أبى سعيد مرفوعا. قال البزار: لا نعلمه رفعه إلا شريك. وبه جزم الطبراني.
ورواه البزار والبيهقي من رواية ابن عيينة عن عمارة مرفوعا.
(٣). أخرجه الترمذي من طريق أبى لهيعة عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد مرفوعا انتهى. وقد رواه الحاكم والطبري والبيهقي في الشعب من رواية عمرو بن الحارث عن دراج. ورواه ابن مردويه من رواية رشدين ابن سعد عن دراج أيضا.
648
ردّا لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له، وإخبارا بأنه من أشدّ أهل النار عذابا، ويعلل ذلك بعناده، ويكون قوله إِنَّهُ فَكَّرَ بدلا من قوله إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً بيانا لكنه عناده. ومعناه فكر ماذا يقول في القرآن وَقَدَّرَ في نفسه ما يقول وهيأه فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحز. ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به. أو هي حكاية لما كرروه من قولهم. قتل كيف قدّر تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله. ومعنى قول القائل: قتله الله ما أشجعه. وأخزاه الله ما أشعره: الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك. روى أنّ الوليد قال لبنى مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط، وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب، فقالوا في كل ذلك: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا ساحر. أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه ثُمَّ نَظَرَ في وجوه الناس «١»، ثم قطب وجهه «٢»، ثم زحف مدبرا، وتشاوس مستكبرا لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء، وهمّ بأن يرمى بها وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط، استهزاء به. وقيل: قدّر ما يقوله، ثم نظر فيه، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل: قطب في وجه رسول الله ﷺ ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق وَاسْتَكْبَرَ عنه فقال ما قال. وثُمَّ نَظَرَ عطف على فَكَّرَ وَقَدَّرَ والدعاء: اعتراض بينهما. فإن قلت: ما معنى ثُمَّ الداخلة في تكرير الدعاء؟
قلت، الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من الأولى. ونحوه قوله.
ألا يا أسلمي ثمّ أسلمي ثمّت أسلمي
(١). قوله «ثم نظر في وجوه الناس، أى نظر بمؤخر عينه تكبرا أو تغيظا، كما في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «ثم قطب وجهه»
في الصحاح: قطب وجهه تقطيبا: عبس. وفيه أيضا: عبس عبوسا كلح، وبسر بسورا: كلح. يقال: عبس وبسر اه. (ع)
649
فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت، الدلالة على أنه قد تأتى في التأمّل وتمهل، وكأنّ بين الأفعال المنناسقة تراخ وتباعد. فإن قلت: فلم قيل فَقالَ إِنْ هذا بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.
فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٢٦ الى ٣١]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بدل من سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. لا تُبْقِي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد. أو لا تبقى على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة لَوَّاحَةٌ من لوح الهجير. قال:
تقول ما لاحك يا مسافر يا ابنة عمّى لاحنى الهواجر «١»
قيل. تلفح الجلد لفحة فتدعه أشدّ سوادا من الليل. والبشر: أعالى الجلود. وعن الحسن.
تلوح للناس، كقوله ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ وقرئ: لواحة، نصبا على الاختصاص للتهويل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أى يلي أمرها ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكا. وقيل: صنفا من الملائكة.
وقيل: صفة. وقيل: نقيبا. وقرئ: تسعة عشر، بسكون العين لتوالى الحركات في ما هو في حكم
(١). لاحه الحر لوحا: غيره وسوده. والهاجرة: شدة الحر. وأهجر القوم وهجروا بالتشديد وتهجروا: ساروا في الهاجرة، وفيه النفات، كأنه خاطب غيرها أولا. وعجبه من استفهامها عن الشيء الظاهر سببه وهو السفر، بل هي معترفة أنه مسافر كما قالت، ومن قساوة قلبها عليه، ثم التفت إليها بجواب سؤالها. وفي ندائها معنى التنبيه والإيقاظ والاستعطاف.
650
اسم واحد. وقرئ: تسعة أعشر، جمع عشير، مثل: يمين وأيمن. جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد الخلق بأسا وأقواهم بطشا. عن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم. «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، «١» يجرون أشعارهم، لأحدهم مثل قوّة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم في النار ويرمى بالجبل عليهم» «٢». وروى أنه لما نزلت عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال أبو جهل لقريش. ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبى كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش. أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أى ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون. فإن قلت: قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سببا لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين، «٣» فما وجه صحة ذلك؟ قلت. ما جعل افتتانهم بالعدة سببا لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، وذلك أن المراد بقوله وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا موضع تِسْعَةَ عَشَرَ لأن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين. أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفى عليه وجه الحكمة، كأنه قيل.
ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان
(١). قوله «الصياصي» هي الحصون، واحدها صيصية. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). لم أجده.
(٣). قال محمود: «إن قلت قد جعل افتتان الكافرين بعدة الزبانية سببا... الخ» قال أحمد: ما جعل افتتانهم بالعدة سببا لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، لأن المراد: وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا موضع ذلك، لأن حال هذه العدة الناقصة واحدا من العشرين: أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ولا يذعن، وإن خفى عليه وجه الحكمة كأنه قيل: لقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب. قال أحمد: السائل جعل الفتنة التي هي في تقدير الصفة العدة، إذ معنى الكلام ذات فتنة سببا فيما بعدها، والمجيب جعل العدة التي عرضت لها هذه الصفة سببا لا باعتبار عروض الصفة لها. ويجوز أن يكون لِيَسْتَيْقِنَ راجعا إلى ما قبل الاستثناء، كأنه قيل: جعلنا عدتهم سببا لفتنة الكافرين وسببا ليقين المؤمنين، وهذا الوجه أقرب مما ذكره الزمخشري، وإنما ألجأه إليه اعتقاد أن الله تعالى ما فتنهم ولكنهم فتنوا أنفسهم، بناء على قاعدة التبعيض في المشيئة وبئست القاعدة فاحذرها.
651
أهل الكتاب، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله، وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل، ولما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك. فإن قلت: لم قال وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ والاستيقان وازدياد الإيمان دالا على انتفاء الارتياب؟ قلت. لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين ونفى الشك. كان آكد وأبلغ لوصفهم «١» بسكون النفس وثلج الصدر، ولأن فيه تعريضا بحال من عداهم، كأنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر. فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت: معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة وَالْكافِرُونَ بمكة ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب، وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب. فإن قلت: قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان وانتفاء الارتياب وقول المنافقين والكافرين ما قالوا، فهب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا غرضين، فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضا؟ قلت: أفادت اللام معنى العلة والسبب، ولا يجب في العلة أن تكون غرضا، ألا ترى إلى قولك: خرجت من البلد لمخافة الشر، فقد جعلت المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك. مَثَلًا تمييز لهذا، أو حال منه، كقوله هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. فإن قلت: لم سموه مثلا؟ قلت: هو استعارة من المثل المضروب. لأنه مما غرب من الكلام وبدع، استغرابا منهم لهذا العدد واستبداعا له. والمعنى: أى شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأى غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين سواء، ومرادهم إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص.
الكاف في كَذلِكَ نصب، وذلك: إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى، أى:
مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدى المؤمنين، يعنى: يفعل فعلا حسنا مبنيا على الحكمة والصواب، فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة فيزيدهم إيمانا، وينكره الكافرون ويشكون. فيه فيزيدهم كفرا وضلالا
(١). قال محمود: «وقوله تعالى وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بعد قوله لِيَسْتَيْقِنَ ليحصل لهم فائدة الجمع بين إثبات اليقين... الخ» قال أحمد: أطلق الغرض على الله عز وجل، مع أنه موهم ولم يرد فيه سماع.
وأورده السؤال على قاعدته بعد ذلك كله في أن الله لم يرد من المنافقين والكافرين أقوالهم، وإنما قالوا على خلاف «ما أراد، وقد عرفت فساد القاعدة فأرح فكرك من هذا السؤال. فالكل مراد، وحسبك تتمة الآية كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
652
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ وما عليه. كل جدد من العدد الخاص من كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة إِلَّا هُوَ ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك كما لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات والأرضين وأيام السنة والشهور والبروج والكواكب وأعداد النصب والحدود والكفارات والصلوات في الشريعة. أو: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها. وقيل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار- إلى قوله- إلا هو: اعتراض. وقوله وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى متصل بوصف سقر وهي ضميرها، أى: وما سقر وصفتها إلا تذكرة لِلْبَشَرِ أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)
كَلَّا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى، لأنهم لا يتذكرون. أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا. و «دبر» بمعنى أدبر «١»، كقبل بمعنى أقبل. ومنه صاروا كأمس الدابر. وقيل: هو من دبر الليل النهار إذا خلفه. وقرئ: إذ أدبر إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جواب القسم. أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد. والكبر: جمع الكبرى، جعلت ألف التأنيث كتائها «٢»، فلما جمعت فعلة على فعل: جمعت فعلى عليها، ونظير ذلك:
السوافي في جمع السافياء، والقواصع في جمع القاصعاء، كأنها جمع فاعلة، أى: لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر، ومعنى كونها إحداهنّ: أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. ونَذِيراً تمييز من إحدى، على معنى: إنها لإحدى الدواهي إنذارا، كما تقول: هي إحدى النساء عفافا. وقيل: هي حال. وقيل: هو متصل بأوّل السورة، يعنى: قم نذيرا، وهو من بدع التفاسير. وفي قراءة أبى: نذير بالرفع
(١). قوله «ودبر بمعنى أدبر» يعنى في قراءة: والليل إذ أدبر. وعبارة النسفي: والليل إذ أدبر: نافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف وغيرهم إذا دبر. ودبر بمعنى أدبر. وقوله الآتي: وقرئ: إذ أدبر، يفيد أن قراءة «دبر» هي المشهورة. (ع) [.....]
(٢). قوله «جعلت ألف التأنيث كتائها» لعله كتائه. (ع)
خبر بعد خبر «لأن» أو بحذف المبتدإ أَنْ يَتَقَدَّمَ في موضع الرفع بالابتداء. ولمن شاء: خبر مقدّم عليه، كقولك: لمن توضأ أن يصلى، ومعناه مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخر أن يتقدّم أو يتأخر، والمراد بالتقدّم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو كقوله فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ويجوز أن يكون لِمَنْ شاءَ بدلا من لِلْبَشَرِ على أنها منذرة للمكلفين الممكنين: الذين إن شاءوا تقدّموا ففازوا، وإن شاءوا تأخروا فهلكوا.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣٨ الى ٤٨]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)
رَهِينَةٌ ليست بتأنيث رهين «١» في قوله كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين، لأنّ فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة:
أبعد الّذى بالنّعف نعف كويكب رهينة رمس ذى تراب وجندل «٢»
(١). قال محمود: «وليست بتأنيث رهين... الخ» قال أحمد: لأنه فعيل بمعنى مفعول، يستوي مذكره ومؤنثه، كقتيل وجديد.
(٢).
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذى تراب وجندل
أأذكر بالبقيا على من أصابنى وبقياى أنى جاهد غير مؤتل
لمسور بن زيادة الحارثي. وقيل: لعبد الرحمن بن زيد، قتل أبوه زيادة فعرض عليه فيه سبع ديات، فأبى إلا الثأر.
والاستفهام إنكارى. والنعف- بالفتح-: الجبل والمكان المرتفع. وقيل: ما يستقبلك من الجبل. وكويكب:
جبل بعينه. وفي هذا الاندال من التفصيل بعد الإجمال: ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال، أى: أبعد قتل أبى المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس. وقيل: رهينة بالجر، بدل من الذي، فهو اسم ملحق بالجوامد بمعنى الرهن. ويقال: رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب، فأطلق المصدر وأريد مكانه، وهو القبر. والجندل: الحجارة، وكررت همزة الاستفهام في قوله «أأذكر» توكيدا للأولى. لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا. ويحتمل أنها داخلة على مقدر، أى: أبعد أبى أفرح بالدية. وروى «أذكر» بالتشديد والبناء للمجهول، فالهمزة الأولى داخلة عليه، ولا شاهد فيه حينئذ. والبقيا: الإبقاء على الشيء، أى: لا أذكر بين الناس بأنى أبقيت على قاتل أبى، والحال أن إبقائى عليه كوني جاهدا ومصمم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك، لأنى لا أحتاج إلى الحلف في تنفيذ أمورى. أو غير مقصر في الاجتهاد، لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير،
654
كأنه قال: رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. وعن على رضى الله عنه أنه فسر أصحاب اليمين بالأطفال، لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هم الملائكة فِي جَنَّاتٍ أى هم في جنات لا يكتنه وصفها يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ يسأل بعضهم بعضا عنهم «١». أو يتساءلون غيرهم عنهم، كقولك: دعوته وتداعيناه. فإن قلت: كيف طابق قوله ما سَلَكَكُمْ وهو سؤال للمجرمين: قوله يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ وهو سؤال عنهم؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم قلت: ما سلككم ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم، لأنّ المسئولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم ما سلككم فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. الخوض: الشروع في الباطل وما لا ينبغي. فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك قلت: توبيخا لهم وتحسيرا، وليكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة للسامعين. وقد عضد بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالأطفال: أنهم «٢» إنما سألوهم لأنهم ولدان لا يعرفون موجب دخول النار. فإن قلت: أيريدون أنّ كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا. فإن قلت: لم أخر التكذيب وهو أعظمها؟ قلت: أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا مكذبين بيوم الدين تعظيما للتكذيب. كقوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والْيَقِينُ الموت ومقدماته، أى: لو شفع لهم الشافعون جميعا من الملائكة والتبيين وغيرهم لم تنفعهم شفاعتهم، لأنّ الشفاعة لمن ارتضاه الله وهم مسخوط عليهم. وفيه دليل على أنّ الشفاعة تنفع يومئذ، لأنها تزيد في درجات المرتضين.
(١). قال محمود: «يتساءلون يعنى يسأل بعضهم بعضا عنهم... الخ» قال أحمد: إنما أورد السؤال ذريعة وحيلة لتحميل الآية الدلالة على أن فساق المسلمين تاركي الصلاة مثلا، يسلكون في النار مخلدين مع الكفار، فجعل كل واحدة من الخلال الأربع توجب ما توجب الأخرى من الخلود. والصحيح في معنى الآية أنها خاصة بالكفار.
ومعنى قولهم لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ: لم نك من أهل الصلاة، وكذلك إلى آخرها، لأنهم يكذبون بيوم الدين، والمكذب لا يصح منه طاعة من هذه الطاعات، ولو فعلها لم تنفعه وقدرت كالعدم، وإنما يتأسفون على ترك فعل هو نافع لهم.
(٢). قوله «أنهم» لعله: بأنهم. (ع)
655

[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٦]

فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
عَنِ التَّذْكِرَةِ عن التذكير وهو العظة، يريد: القرآن أو غيره من المواعظ.
ومُعْرِضِينَ نصب على الحال، كقولك: مالك قائما. والمستنفرة: الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه «١». وقرئ بالفتح: وهي المنفرة المحمولة على النفار: والقسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها. وقيل: الأسد. يقال: ليوث قساور وهي فعولة من القسر: وهو القهر والغلبة، وفي وزنه «الحيدرة» من أسماء الأسد. وعن ابن عباس: ركز الناس وأصواتهم. وعن عكرمة: ظلمة الليل، شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه، بحمر جدت في نفارها مما أفزعها. وفي تشبيههم بالحمر:
مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين، كما في قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل. ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رابها رائب، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدّة سيرها بالحمر، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص صُحُفاً مُنَشَّرَةً قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها. أو كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتى كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتباعك. ونحوه قوله وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ وقال: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ... الآية وقيل: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. وقيل: كانوا يقولون: بلغنا أن الرجل من بنى إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك، وهذا من الصحف المنشرة بمعزل. إلا أن براد بالصحف المنشرة:
الكتابات الظاهرة المكشوفة. وقرأ سعيد بن جبير: صحفا منشرة بتخفيفهما، على أن أنشر الصحف ونشرها: واحد، كأنزله ونزله. ردعهم بقوله كَلَّا عن تلك الإرادة، وزجرهم عن اقتراح الآيات، ثم قال بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء
(١). قوله «في جمعها له وحملها عليه» متعلق بكأنها، لأنه وجه الشبه. (ع)
Icon