تفسير سورة آل عمران

التفسير المنير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

إثبات التوحيد وإنزال الكتاب
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
الإعراب:
الم: أحرف مقطعة مبنية غير معربة، وكذلك سائر حروف الهجاء في أوائل السور، كما قلنا أول البقرة، إلا أنه فتحت الميم هاهنا لسكونها وسكون اللام بعدها. وأما قول من قال: إنها فتحت لالتقاء الساكنين، ففاسد لأنه لو كان كذلك، لوجب فتحها في الم ذلِكَ الْكِتابُ وفي حم وفي ن وفي كل حرف من حروف التهجي التي في أوائل السور.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: الله: مبتدأ، ولا إله: مبتدأ ثان، وخبره محذوف وتقديره: لا إله معبود إلا هو، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول. و «هو» مرفوع لوجهين: أحدهما- لكونه مرفوعا على البدل من موضع: لا إله، والثاني: لكونه خبر: لا إله. ويجوز جعل الجملة في موضع نصب على الحال من الله تعالى، أو حال من ضمير نَزَّلَ.
بِالْحَقِّ جار ومجرور في موضع نصب على الحال وعامله فعل مقدر وتقديره: نزل عليك الكتاب كائنا بالحق.
مُصَدِّقاً حال من ضمير الحق، وتقديره: نزّل عليك الكتاب محققا مصدقا لما بين يديه. وكلتا الحالين مؤكدة.
143
التَّوْراةَ في مذهب البصريين على وزن فوعلة، وأصله: وورية، فأبدلت الواو الأولى تاء، وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. مِنْ قَبْلُ مبني لأنه مقطوع عن الإضافة هُدىً حال بمعنى هادين من الضلالة.
البلاغة:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ عبر عن القرآن بالكتاب، لكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية.
لِما بَيْنَ يَدَيْهِ كناية عما تقدمه من الكتب السماوية، وعبر بذلك لصلته الوثيقة بها ولظهوره واشتهاره.
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أي أنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل، وهو من باب عطف العام على الخاص، حيث ذكر الكتب الثلاثة أولا، ثم عمّ الكتب كلها.
المفردات اللغوية:
الم الحروف المقطعة في أوائل السور للتنبيه مثل ألا ويا، لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها إِلهَ الإله هو المعبود بحق الْحَيُّ ذو الحياة، وهي صفة تستلزم الاتصاف بالعلم والإرادة الْقَيُّومُ القائم على كل شيء بحفظه ورعايته.
نَزَّلَ عَلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القرآن مقترنا بالحق أي الصدق في أخباره فكل ما فيه حق لا شك فيه. ونزل: تفيد التدرج، والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث.
التَّوْراةَ كلمة عبرية معناها الشريعة، وتشتمل على خمسة أسفار هي «سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع» ويقول اليهود: إن موسى كتبها، ويسميها النصارى: العهد القديم أو العتيق، وفيها حكاية قصص الأنبياء وتاريخ بني إسرائيل قبل المسيح. الْإِنْجِيلَ كلمة يونانية، معناها التعليم الجديد أو البشارة. ويسمى العهد الجديد، ويشتمل في سيرة المسيح عليه السلام وبعض تعاليمه على أربعة أناجيل هي إنجيل متى ويوحنا ومرقس ولوقا وعلى أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب، ورؤيا يوحنا، وهي كلها مكتوبة بعد قرن أو قرنين من وفاة المسيح، وليس لها سند متصل إلى كاتبها.
والتوراة في عرف القرآن: ما أنزل الله على موسى، والإنجيل: ما أوحاه الله إلى عيسى عليه السلام، وفيه البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه هو الذي يتمم الشريعة.
مِنْ قَبْلُ تنزيله هُدىً هادين من الضلالة لِلنَّاسِ ممن تبعهما. وعبر عن
144
التوراة والإنجيل بأنزل، وعن القرآن بنزّل لأنهما نزلا دفعة واحدة، وأما القرآن فنزل تدريجيا، والتعبير عن الوحي بالتنزيل أو بالإنزال للإشارة بأن منزلة الموحي أعلى من منزلة الموحى إليه، فتكرار نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ لاختلاف الإنزال بآيات الله وكيفيته وزمانه، والله كرر اسمه تعالى تفخيما لأن في ذكر الظاهر من التفخيم ما ليس في ذكر المضمر.
الْفُرْقانَ ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين، وهو عموم بعض خصوص ليعم ما عدا الكتب الثلاثة. بِآياتِ اللَّهِ القرآن وغيره وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده ذُو انْتِقامٍ عقاب شديد ممن عصاه، لا يقدر على مثله أحد.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ كائن في الأرض ولا في السماء، لعلمه بما يقع في العالم من كلي وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يتجاوزهما.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ التصوير: جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والأرحام: جمع رحم، وهو مستودع الجنين من المرأة كَيْفَ يَشاءُ من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وطبائع وأخلاق وغير ذلك.
الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري وابن إسحاق وابن المنذر «١»
أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية نزلت في وفد نصارى نجران، وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا نحو ستين راكبا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم، وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم، وخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وتكلم منهم ثلاثة، فمرة قالوا: عيسى ابن مريم إله لأنه يحيي الموتى وتارة هو ابن الله، إذ لم يكن له أب وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله تعالى:
«قلنا، وفعلنا» ولو كان واحدا، لقال: قلت وفعلت.
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٥٣، البحر المحيط: ٢/ ٣٧٣ وما بعدها.
145
وقالوا على الله الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى أتى عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوّر في الرّحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته، كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّي كما يغذّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟
فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران، إلى بضعة وثمانين آية منها.
التفسير والبيان:
بدأ الله تعالى السورة بإثبات التوحيد أساس الدين لينفي عقيدة التثليث، ثم أبان أنه تعالى أنزل الكتب على الأنبياء، وأن عيسى نبي مثلهم فهو منزل عليه، وأن الله هو صاحب القدرة المطلقة الذي يصور في الأرحام، ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فآدم مخلوق من غير أب ولا أم، والخالق هو الإله، والمخلوق عبد كيفما خلق.
ألم: الحروف المقطعة لتحدي العرب بالإتيان بشيء من مثل القرآن، ما دام هو مكوّنا من لغتهم ومن الحروف التي ينطقون بها وتتركب منها كلماتهم.
الله لا معبود بحق في الوجود سواه لأنه الخالق المسيطر على الكون والنفوس، ولأنه مصدر الخير ودافع الضر، الحي الدائم الحياة التي لا أول ولا نهاية لها، القائم على خلقه بالتدبير والتصريف، وعلى السموات والأرض قبل خلق عيسى، فكيف قامت ودبّرت قبل وجوده وبعد موته؟!
146
والله هو الذي نزّل القرآن عليك يا محمد بالحق الذي لا شك ولا شبهة فيه، مصدقا ومؤيدا ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين، وهو تصديق إجمالي لا تفصيلي في أصل الوحي وأصل الرسالة الداعية إلى توحيد الإله ومكارم الأخلاق، والإخبار والبشارة، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت قديما، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن العظيم عليه.
وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى من قبل القرآن، هداية للناس في زمانهما، وإرشادا، فالله هو الذي أنزل الوحي والشرائع قبل وجود عيسى وبعده، وليس عيسى مصدر الوحي، وإنما هو كغيره من الأنبياء متلقّ للوحي، فكيف يكون إلها؟! وأنزل الله الفرقان: وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بالدلائل والبينات الواضحات، والبراهين القاطعات.
إن الذين كفروا بآيات الله الواضحة الدالة على توحيده وتنزيهه عما لا يليق، أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، لهم عذاب شديد يوم القيامة بسبب كفرهم، والله منيع الجناب عظيم السلطان، ذو انتقام ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام، ينفذ بعزته مراده، وينتقم ممن خالف وحيه.
وإن الله لا يخفى عليه شيء في الكون، فيعلم حال الصادق في إيمانه، وحال الكافر والمنافق والمكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وعيسى وغيره لا يعلم شيئا من ذلك، فكيف يكون إلها؟
والله هو الذي يخلق الإنسان في الرحم كما يشاء، ذكرا أو أنثى، حسنا وقبيحا وغير ذلك من الطبائع والألوان والمقادير والسلامة والعاهة، وعيسى وغيره لا يصوّر أحدا في رحم ولا يخلق شيئا، بل هو مصوّر مخلوق في رحم أمه،
147
وخارج منه، فكيف يكون إلها؟
لا إله إلا هو العزيز الحكيم: أي هو الخالق الموجد المستحق للألوهية وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، المنزه عن الوالد والولد، العزيز الذي لا يغلب، الحكيم المنزه عن العبث الذي يضع الأمور في محالّها على وفق الحكمة.
وهذا دليل صريح بأن عيسى عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر لأن الله صوّره في الرحم، وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلها، كما زعمت النصارى؟ وقد تدرج خلقه، وتنقل من حال إلى حال، كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ، خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر ٣٩/ ٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتب السماوية على الأنبياء، وأن هذه الكتب يصدّق بعضها بعضا لأن غايتها واحدة، وهدفها واحد وهو إرشاد الناس إلى الحق، والإقرار بتوحيد الإله، والاعتراف بوجوده.
وإنزال الكتب، والخلق والإيجاد في الأرحام، والعلم بغيب السماء والأرض دون أن يخفى عليه شيء كلي أو جزئي: أدلة وبراهين ثلاثة قاطعة تثبت الألوهية لله وحده، دون مشاركة أحد من خلقه له، أو اتصاف بشر بما يزعم المبطلون من ألوهية إنسان مخلوق ضعيف بحاجة إلى الخالق في كل أموره، سبحانه لا إله إلا هو، أي لا خالق ولا مصوّر سواه، وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصوّرا وهو بشر مصوّر؟!
148
المحكم والمتشابه في القرآن
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧ الى ٩]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
الإعراب:
مِنْهُ آياتٌ جار ومجرور في موضع نصب على الحال من الكتاب، وتقديره: أنزل عليك الكتاب كائنا منه آيات. وآيات: فاعل لاسم الفاعل: كائن، المقدر. ومحكمات: صفة لآيات.
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ: جملة اسمية في موضع رفع صفة لآيات أيضا. وَأُخَرُ معطوف على قوله: آيات محكمات. وأخر: ممنوع من الصرف للوصف والعدل، معدول عن آخر.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إما مبتدأ، وخبره: آمنا به، وإما عطف على الله تعالى، فكأنه قال: لا يعلم تأويله إلا الله ويعلمه الراسخون. والهاء في تأويله: تعود على المتشابه.
البلاغة:
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ استعارة، شبّه أصول الآيات المحكمات بالأم، وسائر الآيات يتبعها أو يتعلق بها، كما يتعلق الولد بأمه.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استعارة أيضا، شبه المتمكنين في العلم بالأشياء الثقيلة الراسخة في الأرض.
149
المفردات اللغوية:
مُحْكَماتٌ واضحات الدلالة، لا خلاف في معناها، من أحكم الشيء: وثقه وأتقنه، مفردها محكم: وهو ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره أُمُّ الْكِتابِ أصله المعتمد عليه في الأحكام مُتَشابِهاتٌ هي التي لم يظهر معناها ولم يتضح، بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد، كأوائل السور. وقال القرطبي: المتشابه: ما استأثر الله بعلمه دون خلقه، ولم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجال، والدابة التي تكلم الناس إذا وقع القول عليهم، ونحو ذلك.
وجعل الكتاب في آية أخرى: أُحْكِمَتْ آياتُهُ كله محكما: بمعنى أنه ليس فيه عيب، وفي آية أخرى: كِتاباً مُتَشابِهاً كله متشابها: بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق. فلكل آية معنى خاص غير الآخر، فلا تعارض بين الآيات.
زَيْغٌ: ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: طلب الفتنة لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: تفسيره وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ تفسيره ومعرفة حقيقته وبيان ما يؤول إليه في الواقع الرَّاسِخُونَ: المتمكنون في العلم المتفقهون في الدين المتأكدون منه، وهو أبلغ من قول: والثابتون في العلم آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: أي كل من المحكم والمتشابه من عند الله. وَما يَذَّكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه: ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا، كما أزغت قلوب أولئك. بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أرشدتنا إليه وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك رَحْمَةً عناية إلهية وتوفيقا وتثبيتا على الحق.
جامِعُ النَّاسِ جمع الناس: حشرهم للحساب والجزاء لا رَيْبَ فِيهِ لا شك في وقوعه، وهو يوم القيامة لأنك أخبرت به، وقولك الحق، فتجازي الناس بأعمالهم، كما وعدت بذلك. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ موعده بالبعث فيه. فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
والغرض من الدعاء بذلك: بيان أن همهم أمر الآخرة، ولذلك سألوا الثبات على الهداية، لينالوا ثوابها.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أن في القرآن آيات محكمات وآيات متشابهة في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فالمحكم العبارة: هو الواضح الدلالة التي لا التباس فيها
150
على أحد، والمتشابه: هو الذي لم يظهر معناه ولم يتضح المراد منه بسبب التعارض بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منه، أو هو ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة. وهذا الإخبار للرد على النصارى الذين يستدلون ببعض آيات القرآن التي يفيد ظاهرها تميز عيسى على غيره من البشر. والمراد بالكتاب هنا: القرآن باتفاق المفسرين.
والمحكم:
مثل قوله تعالى: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وما بعدها من الآيات [الأنعام ٦/ ١٥١- ١٥٣]، وقوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ والآيات الثلاث بعدها من سورة [الإسراء ١٧/ ٢٣- ٢٦] وقوله عز وجل في شأن عيسى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف ٤٣/ ٥٩]. فهذه الآيات وأمثالها وهي تمثل أغلب القرآن في تبيان أحكام الفرائض وأصول الاعتقاد والأمر والنهي والحلال والحرام، كلها واضحة الدلالة على المعنى المراد ولا تحتمل أي معنى آخر، هي أم الكتاب أي أصل القرآن وعماده ومعظمه، وغيرها متفرع عنها تابع لها، فإن اشتبه علينا آية منها، ردت إلى المحكم وحملت عليه، كقوله تعالى في شأن عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء ٤/ ١٧١] يحمل على قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف ٤٣/ ٥٩] وقوله سبحانه: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران ٣/ ٥٩] أي أننا نؤمن بأن كل الآيات من عند الله، وأنه لا ينافي الأصل المحكم.
والمتشابه:
مثل قوله تعالى في عيسى عليه السلام وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء ٤/ ١٧١]، وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران ٣/ ٥٥]
151
وقوله تعالى عن ذاته: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه ٢٠/ ٥] وقوله:
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح ٤٨/ ١٠].
فهذه الآيات تحتمل عدة معان، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد، فربما وافقت المحكم، وربما وافقت شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
فليس لكم أيها النصارى الاحتجاج بأمثال هذه الآيات التي هي من المتشابه الذي يحتمل أكثر من معنى، وإنما عليكم الوقوف عند محكم التنزيل، مثل قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء ٤/ ١٧٢].
ومعنى المتشابه والمحكم هنا يختلف عن معناه في آيات أخرى، فقد وصف القرآن كله بالمحكم في قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود ١١/ ١] والمراد أنه ليس فيه عيب وأنه كلام حق فصيح الألفاظ صحيح المعاني، أحكم نظمه وأتقن، واشتمل على الحكمة، ووصف القرآن أيضا بالمتشابه في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر ٣٩/ ٢٣] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق والهداية، والسلامة من التناقض والاختلاف، كما قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً
[النساء ٤/ ٨٢].
فأما الذين في قلوبهم زيغ، أي ضلال وميل عن الحق إلى الباطل، فيتبعون أهواءهم، فيأخذون بالمتشابه الذي يتمسكون به، ويمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، ويتركون المحكم الذي لا التباس فيه، بقصد إيقاع الناس في الفتنة في الدين وإضلال أتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على مزاعمهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى: إِنْ هُوَ
152
إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ
[الزخرف ٤٣/ ٥٩] وبقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران ٣/ ٥٩].
وهم يفعلون ذلك أيضا بقصد تأويل القرآن على غير حقيقته، وتحريفه على ما يريدون، متبعين أهواءهم وتقاليدهم وموروثاتهم، وتاركين الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وهو عبودية عيسى لله وإطاعته إياه.
روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الآية، ثم قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّاهم الله، فاحذروهم».
وروى ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه، فآمنوا به».
وما يعلم تأويل المتشابه إلا الله، فهو مما استأثر الله بعلمه، أو ما خالف ظاهر اللفظ فيه المراد منه، فلا يعلم حقيقته إلا الله.
ويرى جماعة من الصحابة كأبي بن كعب وعائشة وابن عباس وابن عمر الوقوف على لفظ الجلالة، فلا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، وأما الراسخون في العلم فكلام مستأنف، يقولون: آمنا به لأنه تعالى وصفهم بالتسليم المطلق لله تعالى، والعارف بالشيء لا يعبر عنه بالتسليم المطلق أو المحض.
ويرى جمهرة من الصحابة كابن عباس، وتبعهم كثير من المفسرين «١» وأهل
(١) هذا رأي ابن كثير، وعكس القرطبي الأمر، فقال: مذهب أكثر العلماء الوقوف التام عند لفظ الجلالة، وتم الكلام عند قوله: «إلا الله». والراسخون مقطوع مما قبله، وهو استئناف كلام آخر.
153
الأصول أنه لا يوقف على لفظ الجلالة، والراسخون معطوف عليه، على معنى:
لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. قال ابن عباس: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. فالمتشابه يعلمه الراسخون لأن الله تعالى ذم الذين يبتغون التأويل بقصد الفتنة والإضلال، ذاهبين فيه إلى ما يخالف المحكم، والراسخون في العلم ليسوا كذلك، فهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه، إذ يفهمون المتشابه بما يتفق مع المحكم.
وأما قوله تعالى: يَقُولُونَ: آمَنَّا فهو كلام مستأنف، لا ينافي العلم، فهم يجعلون المحكم هو الأساس، ويؤمنون بأن كلا من المحكم والمتشابه من عند الله، وكلاهما حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر، ويدل لذلك
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا لابن عباس بقوله: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل».
والحكمة من وجود المتشابه مع العلم بأن القرآن نزل هاديا للناس: هو تمييز الصادق الإيمان من ضعيفة، وبيان فضيلة الراسخين في العلم الذين ينظرون ويبحثون لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به، وإن لم يعلموا بحقائق الأشياء، ولهذا قال تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة، والفهوم المستقيمة. ووصف النبي صلّى الله عليه وسلّم الراسخين في العلم-
فيما يرويه ابن أبي حاتم عن عبيد الله بن يزيد التابعي الذي أدرك أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الراسخين في العلم، فقال: «من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم».
ثم ذكر دعاء هؤلاء الراسخين للثبات على فهم المتشابه وهو:
١- رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا.. الآية، أي إن الراسخين في العلم المؤمنين بالمتشابه يطلبون من الله الثبات على الهداية، والحفظ من الزيغ بعد الهداية،
154
وهبة الرحمة والفضل من الله، والتوفيق إلى الخير والسداد، إنك أنت الوهاب.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يدعو:
«يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».
٢- رَبَّنا، إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ... أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه، ووعدك الحق الذي لا يخلف. وتعليمنا هذا الدعاء لنشعر بالخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلب الرحمة في ذلك اليوم. وفي هذا إقرار بالبعث يوم القيامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن آيات القرآن أكثرها محكم، وبعضها متشابه، وأن المتشابه لا يعلم المراد منه إلا الله والمتمكنون من العلم، لكن علمهم الله طريق العصمة من الزيغ في فهم المتشابه بدعاءين: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا... رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ... وأما الزائغون فيتبعون المتشابه.
وقد أوردت أمثلة من المحكم والمتشابه، وأبنت المراد منهما على الأصح، وسأذكر أمثلة أخرى للمتشابه.
نماذج من المتشابه:
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: ما هو؟ قال: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠١] وقال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٧]. وقال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٤٢] وقال:
155
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات: أَمِ السَّماءُ بَناها... [النازعات ٧٩/ ٢٧] إلى قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات ٧٩/ ٣٠]، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال:
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ... [فصلت ٤١/ ٩] إلى قوله:
أَتَيْنا طائِعِينَ فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم في ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأما قوله: ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين فختم الله على أفواههم، فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء، فسوّاهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها، فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين فذلك قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. فخلقت الأرض في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين.
وقوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يريد نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. ويحك! فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله «١».
(١) تفسير القرطبي: ١٤/ ١٢.
156
متبعو المتشابه:
متبعو المتشابه إما أن يتبعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوامّ، كما فعلته الزنادقة والقرامطة «١» الطاعنون في القرآن وإما أن يتبعوه طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسّمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة، مما ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم، وصورة مصوّرة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك! أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها.
أو يكثروا السؤال عنها.
فهذه أربعة أقسام: أما القسم الأول: فلا شك في كفرهم، ويقتلون في رأي المالكية من غير استتابة، وأما القسم الثاني: فالصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام، وحكمهم كالمرتدين، يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا.
وأما القسم الثالث: فاختلفوا في جواز تأويلها، فمذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، ويؤمنون بها كما جاءت وهو الأولى.
ومذهب آخرين: إبداء تأويلاتها وحملها على مقتضى اللسان العربي من غير قطع بتعيين مجمل منها. وقد قيل: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم.
وأما القسم الرابع: فيعزرون تعزيرا بليغا.
(١) القرامطة: فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة الذين يعتقدون نبوّة زرادشت ومزدك وماني، وكانوا يبيحون المحرمات.
157
عاقبة الكفار المغرورين بالمال والولد ومثال ذلك
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
الإعراب:
كَدَأْبِ... الكاف إما مرفوع خبر مبتدأ محذوف وتقديره: دأبهم كدأب، وإما منصوب بفعل مقدر تقديره: يتوقّدون توقّد آل فرعون، دل عليه ما قبله وهو: فأولئك هم وقود النار.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إما مرفوع مبتدأ والخبر: كَذَّبُوا بِآياتِنا، وإما مجرور بالعطف على آلِ فِرْعَوْنَ.
فِئَةٌ إما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره: إحداهما فئة، وإما مجرور بدل من فِئَتَيْنِ وَأُخْرى يجوز فيه الرفع والجر بالعطف على فِئَةٌ بالرفع ولأجر. وجملة يَرَوْنَهُمْ حال من كاف لَكُمْ أو صفة لأخرى بالرفع أو الجر
البلاغة:
مِنَ اللَّهِ فيه إيجاز بالحذف أي من عذاب الله شَيْئاً التنكير للتقليل، أي لن تنفعهم أي نفع ولو قليلا. وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الجملة اسمية للدلالة على ثبوت الأمر وتحققه. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ التفات من الحضور إلى الغيبة، والأصل: (فأخذناهم). لَكُمْ آيَةٌ قدم الجار والمجرور للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وتنكير آية للتفخيم والتهويل، أي آية عظيمة، ومثله تنكير «ورضوان». ويوجد جناس اشتقاق بين يَرَوْنَهُمْ ورَأْيَ الْعَيْنِ.
158
المفردات اللغوية:
لَنْ تُغْنِيَ تنفع. مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله. وَقُودُ النَّارِ: ما توقد به النار من حطب أو فحم ونحوهما. كَدَأْبِ كعادة، أي دأبهم كدأب. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أهلكهم بها، والجملة مفسرة لما قبلها. الْمِهادُ الفراش.
آيَةٌ علامة على صدق ما يقول الرسول.
الْتَقَتا يوم بدر للقتال. مِثْلَيْهِمْ ضعفي المسلمين، بل أكثر منهم، إذ كانوا نحو ألف، والمسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا. رَأْيَ الْعَيْنِ أي رؤية ظاهرة معاينة. يُؤَيِّدُ يقوي. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي البصائر، أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنوا.
سبب النزول: نزول الآية (١٢- ١٣) :
روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك، والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ إلى قوله:
لِأُولِي الْأَبْصارِ «١»
المناسبة:
ذكر الله تعالى في مطلع السورة مبدأ التوحيد والكتب الناطقة به وبخاصة القرآن وإيمان العلماء الراسخين به كله، ثم ذكر حال الكفرة وسبب كفرهم وهو اغترارهم في الدنيا بالمال والولد، وبيّن أنها لن تغني عنهم شيئا في الآخرة والدنيا.
(١) البحر المحيط: ٢/ ٣٩٢
159
وضرب على ذلك المثل بغزوة بدر حيث التقى جند الإيمان والرحمن بجند الكفر والشيطان، فانتصرت الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكثيرة، فلم تنفعهم كثرة الأموال والأولاد والسلاح.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار يوم القيامة، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، كما قال تعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ، وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة ٩/ ٨٥]. وقد كانوا يقولون: نحن أكثر أموالا وأولادا، وما نحن بمعذبين، فرد الله عليهم بقوله:
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [سبأ ٣٤/ ٣٧].
ومعنى قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كذبوا بآياته ورسله وخالفوا كتابه ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه، وذلك يشمل وفد نجران والنصارى واليهود والمشركين، وكل كافر.
فهؤلاء كلهم لن تنجيهم أموالهم ولا أولادهم، وأولئك المبعدون هم وقود النار وأهلها، وحطبها الذي تسجر به وتوقد به، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء ٢١/ ٩٨].
وصنيعهم وحالهم في تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم وشريعته كحال آل فرعون ومن قبلهم من المؤتفكات كقبائل عاد وثمود، كذبوا بآيات الله، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، والله شديد العقاب قوي العذاب.
ثم هددهم الله وتوعدهم بالعقاب في الدنيا، فقال: قل يا محمد للكافرين ومنهم اليهود ستغلبون في الدنيا، وتحشرون يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد الذي
160
مهدتم لأنفسكم، أي يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.
والآية أي الدلالة والعلامة على أنكم مغلوبون، وأن الله معزّ دينه، وناصر رسوله: التقاء جماعتين، إحداهما معتزة بكثرة مالها، مغترة بعددها، كافرة بالله، تقاتل في سبيل الشيطان، وهم مشركو قريش يوم بدر والأخرى فئة قليلة العدد، مؤمنة بالله، تقاتل في سبيل الله، وهم المسلمون في معركة بدر.
فقد كان المؤمنون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا، معهم فرسان، وست أدرع، وثمانية سيوف، وأكثرهم رجالة مشاة. وكان الكافرون نحو ألف، أي ثلاثة أمثال المسلمين في الواقع.
روى محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش، قال:
كثير، قال: «كم تنحرون كل يوم؟» قال: يوما تسعا ويوما عشرا، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «القوم: ما بين تسعمائة إلى ألف».
لكن في رأي العين- وهي الرؤية المكشوفة الظاهرة لهم كسائر المعاينات- دلت الآية على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين فقط، أي ضعفيهم في العدد، وإن كانوا ثلاثة أمثالهم في العدد، لأن الله قللهم في أعينهم، حتى يقاتل الرجل المسلم رجلين، كما في قوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ، بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الانفعال ٨/ ٦٦] أي أن الله تعالى أراهم الكفار على غير عدتهم، لتقوى قلوبهم بذلك، وليطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل ورأى المشركون المؤمنين مثلي عددهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع.
هذا في بدر، أيد الله المؤمنين بنصره، وكذلك صدق الله وعده، فقتل
161
المسلمون يهود بني قريظة الذين خانوا العهد، ونقضوا الميثاق، ودخلوا مع المشركين في غزوة الأحزاب (أو الخندق) وأجلى المسلمون بني النضير المعتدين على حرمات الإسلام والمسلمين، وفتحوا خيبر، وفرضوا الجزية على من عداهم حينما قاتلوا المسلمين وبدؤوهم بالعدوان.
والله دائما يؤيد ويدعم بمعونته من يشاء، كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو، وتقليل الأعداء في عين المسلمين، كما قال تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «١»، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الأنفال ٨/ ٤٤] وقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ..
[آل عمران ٣/ ١٢٣].
إن في هذا النصر الحاصل في بدر مع قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر، وأعمل البصيرة والفكر، ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، بشرط نصرة دين الله، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧] وقوله: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم ٣٠/ ٤٧] والمؤمن:
هو من يشهد له القرآن بإيمانه، لا من يدعي الإيمان بلسانه، وأخلاقه وأعماله تكذب دعواه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشد الآيات إلى مبادئ ثلاثة كبري في ميزان الله وهي:
١- تأكد وقوع العذاب للكفار في نار جهنم، دون أن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.
(١) أي ليفرق بين الحق والباطل، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان، ويعز المؤمنين، ويذل الكافرين.
162
٢- الشأن والعادة المقررة: توجيه المؤاخذة وإيقاع العقاب الشديد بسبب الذنوب والتكذيب بآيات الله المتلوة، فلا يختلف الحكم بين كفار قريش وبين آل فرعون ومن قبله من قوم لوط وعاد وثمود غيرهم، كما قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا.. وقال: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر ٤٠/ ٤٥- ٤٦] وقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. [الانفعال ٨/ ٥٤].
٣- النصر منوط بإرادة الله على وفق الحكمة الإلهية، ولمكافأة المؤمنين الممتثلين أوامر ربهم، وليست موازين النصر بالكثرة العددية أو بالتفوق في السلاح، وإنما بمقدار الإيمان والثقة بالله، فقد ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٤٩] ودلت الآية على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجهين:
الأول- غلبة الفئة القليلة العدد الفئة الكثيرة العدد، وذلك على خلاف مجرى العادة، لما أمدهم الله به من الملائكة.
والثاني- أن الله تعالى كان قد وعدهم إحدى الطائفتين، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة، وقال: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم.
محبة الشهوات في الدنيا
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
163
الإعراب:
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ: الله مبتدأ مرفوع، وحسن: مبتدأ ثاني، وعنده: خبر المبتدأ الثاني. والمبتدأ الثاني وخبره: خبر عن المبتدأ الأول. والمآب: مضاف إليه، أصله مأوب على وزن مفعل: من آب يئوب، إلا أنه نقلت حركة الواو إلى الهمزة، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها وقلبت ألفا نحو: مقام ومقال.
البلاغة:
حُبُّ الشَّهَواتِ أي المشتهيات، وعبّر بالشهوات عن الأعيان المشتهاة، مبالغة في كونها مشتهاة، محروصا على الاستمتاع بها. والقصد تخسيسها، وأن المزيّن لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير. ويوجد جناس ناقص بين الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ.
المفردات اللغوية:
زُيِّنَ حبّب لهم، والمزين: هو الله للابتلاء، أو الشيطان بوسوسته وتحسينه الميل إليها الشَّهَواتِ جمع شهوة: وهي ما تشتهيه النفس وتميل إليه وتستلذه، والمراد بها المشتهيات، كما يقال: شهوة فلان: الطعام، أي ما يشتهيه. وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار: وهو المال الكثير، وعن سعيد بن جبير: مائة ألف دينار. ولقد جاء الإسلام وفي مكة: مائة رجل قد قنطروا الْمُقَنْطَرَةِ المجمعة الْمُسَوَّمَةِ الحسان المعلمة، من السومة: وهي العلامة، أو المرعية في المروج والمراعي: من أسام الدابة وسوّمها: رعاها وَالْأَنْعامِ: الإبل والبقر والمعز والغنم وَالْحَرْثِ الزرع والنبات ذلِكَ أي المذكور أو المتقدم ذكره مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتمتع به فيها ثم يفنى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره.
المناسبة:
ذكر في الآيات السابقة عاقبة الغرور بالمال والولد، ثم ذكر هنا وجه الغرور وسببه، تحذيرا للناس من استعباد الشهوات لأنفسهم، والانشغال بها عن أعمال الآخرة.
164
التفسير والبيان:
حببت الشهوات للناس وحسّنت في أعينهم وقلوبهم، حتى صار حبها غريزة أو فطرة عندهم، فمن أحب شيئا ولم يزين له، يوشك أن يعدل عنه يوما ما، ومن زين له حبه، فلا يكاد يعدل عنه. ولقد عبر القرآن عن الأشياء المشتهاة بالشهوة ذاتها مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها، وإشارة إلى أن الشهوة مذمومة حتى يعتدل الإنسان في حبه لها، ويعدّل غريزته نحوها، ولا يحمله حبّه الدنيا حبا أعمى، وتعلقه بالزعامة الموقوتة، والمال الزائل على طمس معالم الحق وعدم الإيمان بدين الحق، الذي عرفوه كما عرفوا أبناءهم، مثل وفد نصارى نجران وغيرهم من زعماء الكفر.
ومن المزين للشهوات؟ قيل: المزين هو الله للابتلاء والاختبار، بمعنى أن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات، كما قال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف ١٨/ ٧] وقال: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام ٦/ ١٠٨].
وقيل: المزين هو الشيطان بالوسوسة وتحسين الميل للشهوات للإضلال، كما قال تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال ٨/ ٤٨].
وعلى أي حال، الإسلام دين ودنيا، فلا يقصد من هذه الآية المنع من مجرد حب معتدل للشهوات، وإنما الممنوع المبالغة في الحب والإسراف في الشهوات، والاشتغال بها، حتى تطغى على العقيدة والدين، ويهمل أمر الآخرة، بدليل قوله تعالى: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف ٧/ ٣٢].
ثم ذكر الله تعالى أصنافا ستة من المشتهيات والملاذ وهي:
165
١- النساء:
فإن الرجل متعلق بالمرأة، ميال إليها، فهي مطمح النظر، وموضع العناية، وإليها تسكن نفسه: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم ٣٠/ ٢١] وعليها ينفق ماله بسخاء. وبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد،
كما ثبت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» «١».
وقدم النساء على الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول، وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا غلو ولا إسراف فيه، كحب المرأة.
أما إذا كان القصد بتعلق الرجل بالمرأة هو الإعفاف وكثرة الأولاد، فهو مطلوب، مرغب فيه، مندوب إليه شرعا،
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا: المرأة الصالحة» «٢».
وفي رواية: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة: إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله».
ولم يمنع النبي صلّى الله عليه وسلّم من حب المرأة حبا معقولا
فقال: «حبّب إلي من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» «٣».
٢- البنون:
أي الأولاد مطلقا، فهم فلذة الأكباد، وقرة الأعين. لكنهم مع الأموال فتنة تتطلب الحذر، كما قال تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التغابن ٦٤/ ١٥] والفتنة بالأولاد: الابتلاء بجمع المال لأجلهم.
(١) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه (الجماعة) عن أسامة بن زيد.
(٢) رواه أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو.
(٣) رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك.
166
وسبب حب الأولاد والزوجات واحد: هو بقاء النوع الإنساني، وحب بقاء الأثر والسمعة والذّكر.
وعبر بالبنين ويشمل البنات من باب التغليب إذ أن حب الابن عادة أقوى من حب البنت لأن بقاء الذّكر والسمعة بين الناس يكون عن طريق البنين، ولأن الأنثى تنفصل من عشيرتها وتلتحق بعشيرة أخرى، ولأن الأمل بدعم الولد لوالده وكفالته له حين الحاجة يتعلق بالابن، ولأن مخاطر الأنثى أكثر من مخاطر الذكر.
٣- القناطير المقنطرة من الذهب والفضة:
المراد المال الكثير لأن العرب تريد بالقناطر المال الكثير، والمقنطرة تأكيد. وحب المال غريزة في البشر لأنه وسيلة لتحقيق الحوائج وتلبية الرغبات.
جاء في السنة: «لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» «١».
وذم المال ليس لذاته، فهو نعمة من الله، وإنما لما يؤديه من طغيان وتكبر وفسوق كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق ٩٦/ ٦- ٧]، أما إذا أدى المسلم فيه حقوق الله والناس، وشكر النعمة، ووصل به الرحم، وأنفق منه في سبيل الله، كان خيرا وسببا للسعادة والتقرب من الله،
جاء في الحديث الثابت المتقدم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».
(١) رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس بن مالك، ورواه أحمد والشيخان أيضا عن ابن عباس. [.....]
167
٤- الخيل المسوّمة:
المعلمة أو التي ترعى في المراعي أو المطهّمة الحسان الأصيلة التي يقتنيها السادة والأغنياء: من المتع التي يفاخر بها الناس بعضهم، ويتنافسون فيها، وهي مذمومة إن كانت سببا للشر والبعد عن الله وإهمال واجبات الله. وتكون محمودة إن استخدمت للجهاد في سبيل الله، عملا بقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال ٨/ ٦٠]. قال العلماء أخذا بحديث: حب الخيل على ثلاثة أقسام: تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله، فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر، وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها، فهذه لصاحبها ستر.
٥- الأنعام:
وهي ثروة الناس الأصلية إلى عهد قريب، وبها معايشهم، وتفاخرهم وتكاثرهم، وهي زينة، فإن اقتناها صاحبها بقصد المعيشة كانت خيرا، وإن اقتناها مفاخرة ورياء، كانت شرا.
٦- الحرث:
الزرع والنبات: هو مصدر دائم للحياة في البادية والحضر، والحاجة إليه أشد من الحاجة لما سواه من الأنواع السابقة، فإن قصد به نفع العباد، كان صاحبه مأجورا، وإن قصد به التكثر والبطر كان عليه شرا.
ثم وصف الله تلك الأصناف الستة وصفا عاما وهو أنها متاع يتمتع به في الدنيا، والله عنده حسن المآب أي المرجع في الحياة الآخرة. فعلى المؤمن ألا يغتر بهذه الشهوات، وإنما يعتني بها بجعلها مجرد وسيلة للمعيشة في الدنيا، ولا تشغله عن واجباته الدينية نحو الآخرة، فالمؤمن يعمل لسعادة الدارين، كما قال تعالى:
168
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة ٢/ ٢٠١].
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية توبيخ لمعاصري محمد صلّى الله عليه وسلّم من اليهود وغيرهم، ممن صرفتهم الأهواء والشهوات عن اتباع دعوة الإسلام، فإذا أراد الإنسان النجاة من حساب الله يوم القيامة، ابتعد عن مزالق الشهوات الممنوعة، فإن اتباع الشهوات مرد في النار ومهلكة،
جاء في صحيح مسلم عن أنس: «حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات»
والمعنى أن الجنة لا تنال إلا بتجاوز المكاره وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها.
والشهوات المذكورة في الآية هي التي يحدث فيها الإفراط أو المغالاة أو التي تكون سببا للتفريط في الواجبات الدينية، فإن قصدت ضمن الحدود المعتدلة المعقولة لم تكن وبالأعلى صاحبها، وقد تكون سببا للثواب وزيادة الأجرة إن قصد بها الخير والصون والعفاف وتسخيرها في سبيل الله ومرضاته. قال العلماء:
ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتموّل به صنف من الناس: أما الذهب والفضة فيتموّل بها التجار، وأما الخيل المسوّمة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الريف والقرى.
ودل قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى، على تزهيد الناس في الدنيا وتحقيرها، والترغيب في الآخرة،
روى ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الدنيا متاع، وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة».
وثبت في
الحديث الصحيح: «ازهد في الدنيا يحبّك الله»
أي ازهد في متاعها من الجاه والمال الزائد
169
على الضروري،
وأخرج الترمذي عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف «١» الخبز والماء».
وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ فيدل على تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة.
الجنات التي هي خير من الدنيا ومفاتنها
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥ الى ١٧]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
الإعراب:
جَنَّاتٌ: مبتدأ، وخبره المقدم: للذين اتقوا، كقولك: لله الحمد. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ: جملة فعلية في موضع رفع صفة: جنات. خالِدِينَ فِيها منصوب على الحال من الَّذِينَ المجرور باللام.
الَّذِينَ يَقُولُونَ الذين: بدل مجرور من قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ.
الصَّابِرِينَ إما منصوب على المدح، وتقديره: أمدح الصابرين، وإما مجرور بدل من الذين، أو وصف للذين أو وصف للعباد.
(١) الجلف: الخبز وحده لا أدم معه.
170
البلاغة:
أَأُنَبِّئُكُمْ استفهام تقرير.
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ إبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق لمعرفته.
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ عبّر بكلمة الرب، وأضافها لضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم.
المفردات اللغوية:
أَأُنَبِّئُكُمْ أخبركم مِنْ ذلِكُمْ المذكور من الشهوات لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك مُطَهَّرَةٌ طاهرات من الفواحش والحيض والنفاس وَرِضْوانٌ رضا كثير وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بهم، فيجازي كلا منهم بعمله.
الصَّابِرِينَ على الطاعة وعن المعصية، والصبر: حبس النفس عند كل مكروه يشق عليها احتماله وَالصَّادِقِينَ في الإيمان. والصدق يكون في القول والعمل، والصفة كالحب وَالْقانِتِينَ المداومين على الطاعة والعبادة.
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أي المصلين وقت السحر، القائلين: اللهم اغفر لنا.
بِالْأَسْحارِ أواخر الليل، جمع سحر: وهو الوقت الذي يختلط فيه ظلام آخر الليل بضياء النهار.
المناسبة:
هذه الآية تفضيل وتفصيل، فهي تبين الأفضل من زخارف الدنيا وزينتها التي تشتمل على فضيلة إن استعملت في خير وحق ولم تؤد إلى إهمال الواجب نحو الله. وهي تفصل المراد من قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ الذي أبهم فيه الخير تفخيما لشأنه وتشويقا إليه، ثم وضح بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ.
التفسير والبيان:
قل لهم يا محمد: أأخبركم بما هو خير من جميع الأصناف المذكورة للشهوات؟
171
وعبر بالاستفهام التقريري لاجتذاب الأنظار وتشويق النفوس إلى الجواب. ثم أجاب عن الاستفهام: للمتقين: جنات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وزوجات طاهرات من النقائص والفواحش والشوائب كالحيض والنفاس.
وهذا نعيم جسدي مادي: وهو الجنة، ولهم أيضا نعيم روحاني وهو رضوان الله الذي لا يشوبه شيء، وهو أعظم وأكبر من كل نعمة ولذة مادية. وقد بدأ بذكر المقر وهو الجنات، ثم ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة، ثم ذكر ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني حيث علم برضا الله عنه.
وقوله: للذين اتقوا عند ربهم جنات: جواب عن الاستفهام، وكلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من أصناف الشهوات، سواء استعملت في محالها ومواضعها التي خلقت من أجله: وهي تحقيق حوائج الناس، أو أسيء استعمالها، وقرن بها الشر والفساد، كما تقول: هل أدلك على رجل عالم، أو تاجر صدوق في السوق؟ هو فلان.
هذه الآية التي اشتملت على بيان نوعين من الجزاء: المادي وهو الجنة والأزواج، والروحي وهو رضوان الله، تشبه قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة ٩/ ٧٢] وقوله: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد ٥٧/ ٢٠].
ثم ختمت الآية بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي خبير بأحوالهم، وبأسرارهم، وحقيقة تقواهم، فيجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وفي هذا إيماء ليحاسب كل إنسان نفسه على التقوى، فليست التقوى بالمظاهر، وإنما
172
المتقي: من يعلم منه ربه التقوى. وهذه الجملة وعد ووعيد. ولما ذكر المتقين ذكر شيئا من صفاتهم.
فذكر الله تعالى أوصاف المتقين، وهم الذين يقولون: ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا ثابتا راسخا في القلب، مهيمنا على كل أعمالنا، فاستر ذنوبنا بعفوك، وادفع عنا عذاب النار، إنك أنت الغفور الرحيم.
وهم أيضا الصابرون على أداء الطاعات وترك المعاصي، الراضون بقضاء الله وقدره، ولا شك أن الصبر يقوي الإرادة، ويعصم النفس عن الانزلاق في الأهواء والشهوات والمنكرات.
وهم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم، يترجمون عنه بكل شيء حميد وخلق عال، كما قال تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ، وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الزمر ٣٩/ ٣٣- ٣٤].
وهم القانتون المداومون على الخشوع والطاعة والضراعة إلى الله، وذلك لب العبادة وروحها. والمنفقون أموالهم في سبيل الله نفقة واجبة أو مستحبة.
والمستغفرون بالأسحار بالتهجد في آخر الليل، والدعاء بالمغفرة والرضا.
والاستغفار المطلوب: ما يقرن بالتوبة النصوح والعمل على وفق حدود الدين، ولا يكفي الاستغفار باللسان مع الإقامة على المعصية، فإن المستغفر من الذنب، وهو مقيم على معصيته، كالمستهزئ بربه.
وأفضل صيغة للاستغفار:
ما رواه البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: سيد الاستغفار أن تقول: «اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
173
فقه الحياة أو الأحكام:
إن نظرة الإنسان في الغالب آنية وقتية، لا ينظر إلى المستقبل البعيد، ولا يقارن بين الباقي الدائم والمنقطع الموقت، لذا كان القرآن أكبر مساعد للعقل على التزام جادة التفكير السوي والاستقامة. فإن الخالد المستمر أفضل من الذي يزول بسرعة، وهكذا كانت هذه الآية مع الآية السابقة مقارنة مبينة ما هو الأصلح للإنسان، تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها.
وهذه الآية والتي قبلها نظير
قوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لأربع: لما لها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» «١».
والذي هو خير من الدنيا وشهواتها وكل ما فيها هو جنان الخلد وما فيها من متع خالصة كالحور العين والولدان المخلدين، وعبر عن الحور بالأزواج المطهرة المبرأة من عيوب نساء الدنيا خلقا وخلقا، وهو أيضا الفوز برضوان الله، وهو أعظم المتع كلها في الآخرة عند أهل التقوى،
فإذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى لهم: «تريدون شيئا أزيدكم؟» فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: «رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «٢».
والجمع بين الجنات والرضوان الإلهي يشير إلى أن أهل الجنة درجات، كما أن أهل النار في دركات، فمن أهل الجنة: من يرغب في لذات الدنيا الحسية، ومنهم من ارتقى إدراكه واشتد اهتمامه بقربه من ربه، فيتمنى رضاه ويفضله على أي شيء سواه.
(١) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة، ومعنى: تربت يداك: افتقرت، ولا يراد بها الدعاء، وإنما يراد الحث والتحريض.
(٢) أخرجه مسلم.
174
والقصد من قوله: آمَنَّا في دعاء المتقين: الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذا الإيمان: اعتقاد وقول وعمل.
وصرحت الآية بصفات المتقين: وهي الإيمان، والصبر، والصدق، والقنوت (الخشوع والطاعة) والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار:
وهو الصلاة في آخر الليل (أي التهجد) وسؤال المغفرة، فإن المستغفرين بالأسحار يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر لأنه مظانّ القبول ووقت إجابة الدعاء.
سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل: «أي الليل أسمع؟» فقال:
«لا أدري غير أن العرش يهتزّ عند السحر».
والسحر: من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر، وقيل: هو سدس الليل الأخير. والأصح من هذا:
ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني، فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» «١».
ووضحت وقت السحر
رواية النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد: «إن الله عز وجل يمهل، حتى يمضي شطر الليل الأول..»
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح «٢».
والاستغفار: طلب المغفرة باللسان مع حضور القلب لأن الله لا يستجيب دعاء غافل، لاه، معرض قلبه عن الله.
(١) هذا لفظ مسلم، وتأول القرطبي أول الحديث: «ينزل الله..» بأنه من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا، فيقول. ويرى أهل السلف: أن هناك نزولا يليق بذات الله من غير تحديد بمكان وكيفية، وهو أولى.
(٢) رواه ابن أبي حاتم.
175
الشهادة بوحدانية الله وقيامه بالعدل ونوع الدين المقبول عند الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
الإعراب:
قائِماً بِالْقِسْطِ حال مؤكدة من هُوَ.
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الدين اسم إن والإسلام خبره. ومن قرأ إِنَّ بفتحها، فهي بدل منصوب من قوله: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بدل الشيء من الشيء، ويجوز أن يكون بدل الاشتمال، على تقدير اشتمال الثاني على الأول لأن الإسلام يشتمل على شرائع كثيرة، منها التوحيد، ويجوز كونها بدلا مجرورا من بِالْقِسْطِ في قوله: قائِماً بِالْقِسْطِ بدل الشيء من الشيء.
بَغْياً بَيْنَهُمْ في نصبه وجهان: إما لأنه مفعول لأجله أو لأنه حال من الذين.
وَمَنْ يَكْفُرْ من: شرطية مبتدأ، وخبره: جملة، فإن الله سريع الحساب، والعائد من الجملة إلى المبتدأ مقدر، وتقديره: فإن الله سريع الحساب لهم.
وَمَنِ اتَّبَعَنِ إما مرفوع بالعطف على تاء أَسْلَمْتُ أو مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: ومن اتبعن أسلم وجهه لله متبعا.
176
أَأَسْلَمْتُمْ لفظة استفهام، والمراد به الأمر، أي أسلموا، مثل فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أي انتهوا.
البلاغة:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الجملة معرفة الطرفين، فتفيد الحصر، أي لا دين إلا الإسلام.
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ التعبير بذلك عن أهل الكتاب لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم.
بِآياتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة وإلقاء الروعة في النفوس.
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أطلق الوجه، وأراد الكل، فهو مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
المفردات اللغوية:
شَهِدَ اللَّهُ الشهادة: الإخبار المقرون بالعلم والإظهار والبيان إما بالمشاهدة الحسية، وإما بالمشاهدة المعنوية وهي الحجة والبرهان. والمراد: بيّن وأعلم الله تعالى لخلقه بالدلائل والآيات والبراهين «١» أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود في الوجود بحق إلا هو وَأُولُوا الْعِلْمِ هم أهل البرهان القادرون على الإقناع، وهم الأنبياء والمؤمنون، بالاعتقاد واللفظ قائِماً بتدبير مصنوعاته، أي تفرد بِالْقِسْطِ بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره تأكيدا الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه إِنَّ الدِّينَ أي الملة والشرع، والمراد: الدين المرضي هو «الإسلام» أي الشرع المبعوث به الرسل المبني على التوحيد.
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى، في الدين، بأن وحّد بعض وكفر بعض إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بالتوحيد بَغْياً حسدا أو ظلما من الكافرين سَرِيعُ الْحِسابِ المجازاة له.
حَاجُّوكَ خاصمك الكفار يا محمد في الدين أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ انقدت له، وخص الوجه بالذكر، لشرفه، فغيره أولى أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ مشركي
(١) قال الواحدي: شهادة الله: بيانه وإظهاره، والشاهد: هو العالم الذي بين ما علمه، والله تعال بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق.
177
العرب أَأَسْلَمْتُمْ أي أسلموا الْبَلاغُ التبليغ للرسالة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ خبير بأعمالهم، فيجازيهم عليها، وهذا من قبيل الأمر بالقتال.
سبب النزول:
لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم، قالا: إنا نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله تعالى على نبيه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ فأسلم الرجلان، وصدّقا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١».
التفسير والبيان:
بيّن الله تعالى لجميع الخلائق وحدانيته أو أنه المتفرد بالألوهية بالدلائل التكوينية والتصرفية في الآفاق والأنفس. وأخبر الملائكة الرسل بهذا، وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم بدهي، وكذلك أخبر أولو العلم بذلك، وبينوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدليل والحجة، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة.
وأنه القائم بالعدل في جميع الأحوال من العقائد والعبادات والآداب والأعمال وفي الكون والخليقة، ومن صفة العدل أنه يأمر حقا بالعدل في الأحكام، كما تقرر في نحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل ١٦/ ٩٠] وقوله:
(١) أسباب النزول للنيسابوري: ص ٥٤
178
وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء ٤/ ٥٨]، فالله عادل في الشريعة وفي الكون، حيث إنه أتقن نظام الكون وعدل بين القوى الروحية والمادية، وأقام التوازن الدقيق في الأحكام بين الإنسان والخالق، وبين الفرد والجماعة، وبين الإنسان وأخيه، وبين فئات الناس في مجتمع ما، بين الغني والفقير ونحو ذلك.
ثم أكد سبحانه انفراده بالألوهية بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والعزيز: هو القوي الذي لا يغلب، الكامل القدرة، السامي العظمة والكبرياء. والحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح، سواء في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
ثم ذكر نوع الدين الذي ارتضاه لعباده من بدء الخليقة إلى يوم القيامة:
وهو دين الإسلام لا غيره، فهذا إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد، سوى الإسلام: وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أي اتباع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء والمرسلون، فهم إن اختلفوا في الفروع، لم يختلفوا في الأصول وجوهر الدين: وهو التوحيد والسلام، والعدل في كل شيء. فمن لقي الله بعد بعثه محمد صلّى الله عليه وسلّم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران ٣/ ٨٥].
ومعنى الإسلام: السلام والصلح، والخضوع والانقياد لله، كما قال تعالى:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النساء ٤/ ١٢٥].
وتشريع الدين له هدفان: تصحيح الاعتقاد وحصر معنى الألوهية والربوبية بالله تعالى، وإصلاح النفوس بالنية الخالصة لله وللناس وبالعمل الصالح.
179
ثم أخبر الله تعالى بأن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، وبأن محمدا هو خاتم الأنبياء وهو المبشر به عندهم: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة ٢/ ١٤٦].
فصاروا شيعا ومذاهب يقتتلون في الدين، وتفرقت كلمتهم في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد ما جاءهم العلم اليقيني بنبوته، وبأن الدين واحد لا مجال للاختلاف فيه، إلا بسبب البغي والحسد، فكان ذلك سببا للفرقة، وكان اختلافهم في شأن محمد حسدا من عند أنفسهم، وبغيا بينهم، وحرصا على الدنيا وما فيها.
والخلاصة: أن اختلافهم في أصل الدين الحق وفي نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم كان بسبب بغي بعضهم على بعض، وتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فخالف بعضهم البعض الآخر في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقا.
ثم هدد تعالى بأن من أنكر آيات الله التكوينية في الأنفس والآفاق وجحد ما أنزل الله في كتابه مما يوجب الاعتصام بالدين ووحدته، فإن الله سيجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه.
ثم حسم الله تعالى مجادلة أهل الكتاب وغيرهم في التوحيد، فقال: فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم في التوحيد، فقل: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له، ولا ندّ له، ولا ولد له، ولا صاحبة له، وهذا مبدئي ومبدأ من اتبعني على ديني من المؤمنين، كما قال تعالى: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي، أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف ١٢/ ١٠٨] فلا فائدة في الجدل مع أمثال هؤلاء، بعد أن قامت الأدلة على وجود الله ووحدانيته، وبطلت شبهات الضالين.
ثم قال تعالى آمرا عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به، أهل الكتاب ومشركي العرب، فيقول لهم:
180
أسلموا، فإن أسلموا فقد اهتدوا إلى الصراط المستقيم، وتركوا الضلال، وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتهم عنه، فلن يضيرك شيء، إذ ما عليك إلا البلاغ فقط، والله خبير بعابده عليم بحالهم وبمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، فيحاسبهم ويجازيهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآية (١٨) : إثبات وحدانية الله بالأدلة التكوينية التي أبانها الله في الآفاق والأنفس وإنزال آيات التشريع، وأخبر الملائكة والعلماء بذلك وبينوه، قال القرطبي: دلت الآية على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن اسم العلماء.
ويؤكده أنه تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستزيد من العلم، بقوله: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء في السنن: «العلماء ورثة الأنبياء»
وقال: «العلماء: أمناء الله على خلقه» «١».
وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحلّ لهم في الدّين خطير «٢».
روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قرأ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، عند منامه، خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة».
وأعلنت الآية (١٩) أن الدين المرضي عند الله هو الإسلام فقط، والإسلام هو الإيمان بالله وإطاعة أوامره، وهو شيء واحد متفق عليه بين جميع الأنبياء. وأما الخلاف في الدين أي الملة فحاصل من قبل الأتباع والأنصار، حسدا وظلما.
ويكون القصد من الآية نبذ الفرقة والخلاف في الدين، والابتعاد عن التفرق فيه إلى شيع ومذاهب لأن اختلاف أهل الكتاب في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا، فقد أبانت كتبهم صفته ونبوته،
(١) رواه القضاعي وابن عساكر عن أنس، وهو حسن.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٤١
181
وأوضحت أن الله إله واحد، وأن جميع الخلائق عبيده، لذا وجب على أهل الإيمان الصادق نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق بين أتباع الدين، بالاعتقاد بوحدانية الله، والتصديق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع البشر، كما دل عليه القرآن والسنة في غير ما آية وحديث، منها قوله تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف ٧/ ١٥٨] ومنها أيضا: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ١]. وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة: أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم، من عربهم وعجمهم، كتابيهم ومشركهم، امتثالا لأمر الله بذلك.
وروى مسلم وعبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار».
وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الثابت: «بعثت إلى الأحمر والأسود»
وقال فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».
وروى البخاري عن أنس: أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلّى الله عليه وسلّم وضوءه، ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عليه، وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان، قل: لا إله إلا الله» فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: «الحمد لله الذي أخرجه بي من النار».
182
جزاء قتل الأنبياء
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
الإعراب:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ. ودخلت الفاء في الخبر، لشبه اسمها الموصول بالشرط، أي ضمّن معنى الشرط، أو للإبهام الذي في الَّذِينَ مع كون صلته جملة فعلية. ولا يجوز أن تدخل الفاء في خبر الذي إذا وقع مبتدأ حتى يكون صلته جملة فعلية، ولم يغيّر العامل معناها. فلو كانت صلته جملة اسمية نحو: الذي أبوه منطلق فقائم، أو غيّر العامل معناها نحو: ليت الذي انطلق أبوه فقائم، لم يجز دخول الفاء في خبره.
البلاغة:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ استعمل البشارة في الشّر، والأصل أن تكون في الخير، للتهكم ويسمى «الأسلوب التهكمي» مثل قوله: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً حيث نزل الإنذار منزلة البشارة.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ المراد بهم اليهود خاصة. بِغَيْرِ حَقٍّ أي بغير شبهة لديهم.
بِالْقِسْطِ بالعدل. مِنَ النَّاسِ وهم اليهود، روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيّا، فنهاهم مائة وسبعون من عبّادهم، فقتلوهم من يومهم كما ذكر السيوطي. فَبَشِّرْهُمْ أعلمهم، والبشارة: الخبر السّارّ، واستعمالها في الشّر من باب التّهكم بهم والسّخرية. بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.
حَبِطَتْ بطلت. أَعْمالُهُمْ ما عملوا من خير، كصدقة وصلة رحم.
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مانعين من العذاب.
183
سبب النزول:
قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل، جاءهم النّبيون يدعونهم إلى الله عزّ وجلّ، فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين، فأمروهم بالإسلام، فقتلوهم ففيهم نزلت هذه الآية.
وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية.
ذكره المهدي وغيره.
فهذه الآية جاءت وعيدا لمن كان في زمانه صلّى الله عليه وسلّم.
التفسير والبيان:
كانت الآيات السابقة في تبيان اختلاف أهل الكتاب الذي نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم اليقيني، وفي محاجّة أهل الكتاب والمشركين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ذكر هنا موقف اليهود من الأنبياء، ومنهم النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي همّوا أيضا بقتله زمن نزول الآية، ويتمثّل موقفهم فيما يأتي:
إن الذين يجحدون من اليهود بآيات الله بعد معرفتها في كتبهم، ويقتلون الأنبياء، كما فعلوا بزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم، ولا حق ولا ذنب إلا أنهم قالوا: ربّنا الله، وجهروا بالحق، وبلغوا الرّسالة، ويقتلون الحكماء الذين يأمرون الناس بالعدل والقسط، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلي مرتبة الأنبياء، أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدّنيا والآخرة. هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الجرائم الشنيعة، البعيدون في الضلال، بطلت أعمالهم في الدّنيا والآخرة، وما لهم في الآخرة من ناصرين ينصرونهم من
184
بأس الله وعذابه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء ٢٦/ ٨٨].
والإخبار عن اليهود السابقين، ونسبة الكفر إلى اليهود المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم راضون عنه، بل إنهم همّوا بمثل فعل آبائهم بقتل النّبي صلّى الله عليه وسلّم إمعانا في الفساد والضلال.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى وقائع خطيرة وأحكام مهمة متعلقة باليهود وغيرهم:
١- اليهود كانوا قتلة الأنبياء والحكماء أو العلماء، وكفروا بآيات الله وشرائعه التي بلّغتها إياهم الرّسل، استكبارا عليهم وعنادا لهم، وتعاظما على الحق، واستنكافا عن اتّباعه، فذمّهم الله على مآثمهم.
٢- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النّبوة. قال الحسن: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه».
وجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فارقا بين المؤمنين والمنافقين، فقال: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة ٩/ ٦٧]. ثم قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة ٩/ ٧١]. فدلّ على أن أخصّ أوصاف المؤمن: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ورأسها الدعوة إلى الإسلام والقتال عليه.
وهناك أحكام أخرى متعلقة بمبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها:
أ- ليس من شرط النّاهي أن يكون عدلا، عند أهل السّنة لأن الأمر
185
بالمعروف والنّهي عن المنكر عام في جميع الناس.
ب- أجمع المسلمون- فيما ذكر ابن عبد البر- أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدّى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه، فقد أدّى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. والأحاديث في هذا المبدأ ومراحل تطبيقه كثيرة جدا، ولكنها مقيدة بالاستطاعة.
روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوامّ الناس.
ويبدأ بإزالة المنكر بالأخف فالأخف، باللسان أولا، ثم بالعقوبة، أو بالقتل. وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره، فله ذلك ولا شيء عليه.
ج- متى يترك؟
أخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قيل:
يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم»، قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟
قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم»
، قال زيد:
تفسير معنى
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «والعلم في رذالتكم»
إذا كان العلم في الفسّاق.
٣- قد جعل الله وعيد الكفار ومنهم اليهود ثلاثة أنواع:
أ- إيقاع العذاب الأليم في الدّنيا والآخرة، الألم والقلق والاضطراب في الدّنيا، ونار جهنم في الآخرة.
ب- إحباط الأعمال في الدّنيا والآخرة، ففي الدّنيا الذّم والخزي واللعن،
186
وفي الآخرة العذاب كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
ج- دوام هذا العذاب لقوله تعالى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ.
والخلاصة: ذكرت هذه الآية ثلاثة أوصاف لليهود:
أولها- الكفر بآيات الله، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة.
وثانيها- قتل من أظهر آيات الله واستدلّ بها.
وثالثها- قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر «١».
إعراض أهل الكتاب عن حكم الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
الإعراب:
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ كيف: استفهام عن الحال، وهو هاهنا بمعنى التهديد والوعيد، وهي منصوبة بفعل مقدّر، وتقديره: في أي حال يكونون إذا جمعناهم. وإذا: منصوب
(١) البحر المحيط: ٢/ ٤١٣
187
على الظرف. ولِيَوْمٍ اللام تتعلق بجمعناهم. ولا رَيْبَ فِيهِ في موضع جرّ صفة ليوم.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ استفهام للتعجب من حالهم. نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظّا من التّوراة، والمراد: أحبار اليهود أو اليهود أنفسهم، ومن: إما للتبعيض، وإما للبيان. يُدْعَوْنَ يطلبون، وهو حال والداعي هو النّبي صلّى الله عليه وسلّم كِتابِ اللَّهِ التوراة أو القرآن. لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليفصل بين اليهود. ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض بالبدن أو بالقلب. مُعْرِضُونَ عن قبول حكمه.
ذلِكَ التولي والإعراض. يَفْتَرُونَ يختلقون ويكذبون. لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ فيه، وهو يوم القيامة. ما كَسَبَتْ عملت من خير أو شرّ. وَهُمْ أي الناس. لا يُظْلَمُونَ بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
سبب النزول: نزول الآية (٢٣- ٢٤) :
أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المدراس «١» على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: «على ملّة إبراهيم ودينه»، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«فهلمّا إلى التّوراة، فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى قوله: يَفْتَرُونَ.
المناسبة:
الآيات استمرار في تعداد قبائح اليهود، ولكنها خطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يستدعي التّعجب من شأنهم، وهو أنهم يرفضون التّحاكم إلى كتابهم، بدافع الغرور والكبرياء، واغترارهم باتّصال نسبهم بالأنبياء، وزعمهم النّجاة من عذاب الله يوم القيامة، فردّ الله عليهم بأن الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب.
(١) مدرسة اليهود لدراسة التّوراة.
188
التفسير والبيان:
انظر يا محمد وتعجّب من صنع هؤلاء اليهود الذين يحفظون بعض كتابهم الذي أوحاه الله لنبيّهم موسى عليه السلام، وفقدوا سائره أو حرّفوه وغيّروه لأن التّوراة كتبت بعد موسى بخمسمائة سنة، وبقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وموضع العجب: أنهم يرفضون قبول حكم كتابهم، حينما زنى بعض أشرافهم، وحكّموا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم بمثل حكم التّوراة، فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه. وعمم ابن كثير الآية وجعلها إنكارا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم، وهما التّوراة والإنجيل «١».
فإذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم أي بعد تردّد في قبول الحكم، ثم أدبروا وهم معرضون. وفي قوله: فَرِيقٌ مِنْهُمْ إشارة إلى أن منهم طائفة متمسكة بالحق كعبد الله بن سلام وغيره، كما قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٩]. وفي قوله: وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى دوام إعراضهم.
ثم ذكر الله تعالى سبب هذا التّولي والإعراض أو العناد والجحود: وهو اعتقادهم النّجاة، فاليهودي يعتقد أنه مهما فعل لن يدخل النار إلا أياما معدودة، ثم يدخل الجنة، فلم يبالوا بارتكاب المعاصي والذنوب، اعتمادا على اتّصال نسبهم بالأنبياء. وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ [البقرة ٢/ ٨٠].
ولم يثبت في عدد الأيام التي يدخلون فيها النار شيء، وقيل: هي أربعون يوما، وهي مدّة عبادتهم للعجل.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٥٥
189
وغرهم افتراؤهم في الدين أي خدعهم ما كانوا يختلقونه في الدّين، كقولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه، وسيشفع لنا الأنبياء، ونحن أولاد الأنبياء، وشعب الله المختار، وإن الله وعد يعقوب ألا يعذّب أبناءه إلا تحلّة القسم أي مدّة قصيرة.
فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا شك فيه، يوم تتقطع فيه الأنساب، ولا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم توفّى كل نفس ما عملت من خير أو شرّ، دون نقص، وهم لا يظلمون فلا يزاد في العذاب شيء، كما قال تعالى:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
توجب الآيات الالتزام في الأحكام الشرعية وأحكام القضاء بما أمر الله به في كتابه، وتندّد بفعل اليهود وغيرهم الذين إذا دعوا إلى التّحاكم بكتاب الله، وما فيه من اتّباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، تولوا وهم معرضون عن حكم الله. وهذا في غاية ما يكون من ذمّهم ووصفهم بالمخالفة والعناد.
وتندّد الآيات أيضا بمزاعم اليهود أنهم ناجون يوم القيامة من النّار، وأنهم يعتمدون على الأنساب، وكونهم من سلالة الأنبياء، وأنهم شعب الله المختار.
والحقيقة أن الجزاء يكون على قدر العمل من خير أو شرّ.
وفي الآية دليل على أن من دعي إلى مجلس الحاكم ليحكم بينه وبين خصمه بكتاب الله، وجب عليه أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه، فإن لم يجب زجر وعزر.
واستنبط المالكية من الآية أنها تدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا، إلا ما علمنا نسخه، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا إذا ثبتت من طريق المسلمين بنقل صحيح. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لأن من هي في يده
190
غير أمين عليها، وقد غيّرها وبدّلها، بل ولم يثبت نقلها إلى موسى عليه السلام، وإنما كتبت بعده بخمسة قرون. ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغيّر ولم يتبدّل، جاز لنا قراءته.
والبرهان القاطع الساطع المصادم أن هؤلاء الكتابيين المعتمدين على مجرد الأوهام والمزاعم والأباطيل، كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادّعوها في الدّنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم. وهذا تهديد ووعيد.
دلائل قدرة الله وعظمته وتصرفه في خلقه والتفويض إليه
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
الإعراب:
الجمل كلها في الآية الأولى جمل فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير مالِكَ، ويجوز كونها في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: أنت تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وكذلك الجمل في الآية الثانية مثل الآية الأولى في النصب والرفع.
البلاغة:
يوجد طباق بين تُؤْتِي وتَنْزِعُ، وتُعِزُّ وتُذِلُّ، واللَّيْلَ والنَّهارِ، والْحَيَّ والْمَيِّتِ. ويوجد جناس ناقص بين مالِكَ والْمُلْكِ.
191
وهناك ما يسمى بردّ العجز على الصدر في تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ووَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.
والتّكرار في جمل تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ للتفخيم والتعظيم.
والإيجاز بالحذف في قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أي من تشاء أن تؤتيه. وكذا في قوله: تَنْزِعُ وتُعِزُّ وتُذِلُّ.
وفي قوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ استعارة لإدخال هذا على هذا، وهذا على هذا، فما ينقصه الليل يزيده في النهار والعكس. ولفظ الإيلاج أبلغ في التعبير عن الإدخال.
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... الحيّ والميّت مجاز عن المؤمن والكافر، شبه المؤمن بالحيّ والكافر بالميّت.
بِيَدِكَ الْخَيْرُ أي والشر خلقا وتقديرا: قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ولكنه ذكر الخير دون الشّر تأدّبا مع الله، فلا ينسب له الشّر أدبا.
المفردات اللغوية:
اللَّهُمَّ أي يا الله. الْمُلْكِ السلطة والتصرف في الأمور. تُؤْتِي تعطي.
تَنْزِعُ تقلع وتخلع. مَنْ تَشاءُ أي من خلقك. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بإيتائه. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بنزعه منه. بِيَدِكَ الْخَيْرُ بقدرتك الخير، أي والشرّ خلقا وتقديرا، لا كسبا وعملا.
تُولِجُ تدخل، ويراد به زيادة زمان النهار في الليل وبالعكس بحسب الفصول والبلاد، فيزيد كلّ منهما بما نقص في الآخر.
قال السيوطي: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كإخراج الإنسان من النطفة، والطائر من البيضة. وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ كالنطفة والبيضة. بِغَيْرِ حِسابٍ أي رزقا واسعا.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل ربّه أن يجعل ملك الرّوم وفارس في أمته، فأنزل الله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الآية.
192
وقال ابن عباس وأنس بن مالك: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة، ووعد أمته ملك فارس والرّوم، قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والرّوم؟ هم أعزّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة، حتى طمع في ملك فارس والرّوم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
هذه الآية بقصد تسلية النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمام موقف المشركين وأهل الكتاب بإنكار دعوته فيما ذكرته الآيات السابقة، والتذكير له بقدرته تعالى على نصرة دينه وإعلاء كلمته، فكان المشركون ينكرون النّبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأهل الكتاب ينكرون النّبوة في غير بني إسرائيل.
التفسير والبيان:
إذا أعرض المشركون وأهل الكتاب كوفد نجران عن قبول دعوتك يا محمد، فالجأ إلى الله مالك الملك وصاحب الأمر، وتوجه إليه وقل: يا الله، يا مالك الملك، لك السلطان المطلق، وأنت المتصرف في خلقك، الفعّال لما تريد، ومدبّر الأمور على وفق حكمتك، فأنت المعطي وأنت المانع، تؤتي الملك والنّبوة من تشاء من عبادك، وتنزع الملك ممن تشاء من خلقك، كما نزعت النّبوة من بني إسرائيل ببعثة رسولك العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن.
والظاهر المتبادر أن المراد بالملك: السلطة والتصرف في الأمور، وأنه تعالى صاحب السلطان المطلق في تدبير الأمور وتحقيق التوازن في الكائنات.
والله يعطي من يشاء إما النّبوة فقط كهود ولوط، وإما الملك فقط كالملوك الغابرين والمعاصرين، وإما الملك والنّبوة كآل إبراهيم ومنهم داود وسليمان:
193
فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء ٤/ ٥٤]، وهكذا يعطي النّبوة لمن يريد، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤]، وقال: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الإسراء ١٧/ ٢١].
وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء، وللعزّة والذلّة مظاهر وآثار، ولا يتوقف ذلك على الملك أو المال، فكم من ملك ذليل، وكم من غني مهين، وكم من فقير عزيز. ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلّتها، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم والفئة القليلة المؤمنة، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا، كما قال تعالى: يَقُولُونَ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون ٦٣/ ٨].
بقدرتك وحدك الخير كلّه، تتصرّف فيه بحسب مشيئتك، فكل ما كان أو يكون فيه الخير والنعمة إما لصاحبه أو للجماعة، إنك صاحب القدرة المطلقة على كل شيء، خير أو شرّ، فأنت المفوض إليك كل شيء، ونحن المتوكّلون عليك.
وذكر الخير، مع أنّ كلّا من الخير والشّر بقدرته، لمناسبته للمقام، بتحويل النّبوة والملك من قوم إلى قوم ومن شخص إلى شخص.
والخير: شامل للنصر والغنيمة والعزّة والجاه والمال ونحو ذلك مما يرغب به الإنسان ويحرص عليه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ.
ومن مظاهر القدرة الإلهية وإبراز تمام الملك والعظمة إدخال الليل في النهار، زيادة ونقصا، فتأخذ من طول هذا، فتزيده في قصر هذا، فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا، فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وقد يطول التفاوت جدا في بعض البلاد والأوقات، وهكذا يتفاوت طول الليل والنهار وقصره بحسب فصول
194
السنة ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء، وبحسب مواقع البلدان الجغرافية، فقد يكون الليل ستة أشهر والنهار كذلك، وقد يطول النهار إلى ثماني عشرة أو عشرين ساعة، وقد تطلع الشمس في بعض البلاد والأزمان بعد غروبها بساعة أو أكثر. بيده تعالى أمر الزمان، كما قال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر ٣٩/ ٦٧]. وهو الذي خلق الأرض مكورة يلف عليها الليل والنهار: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر ٣٩/ ٥]، والتّكوير: اللف على الجسم المستدير، وجعل الشمس دليلا على النّهار.
وتخرج الحيّ من الميّت إما إخراجا ماديا كالنخلة من النواة، والزرع من الحب، والإنسان من النّطفة، والطائر من البيضة، أو إخراجا معنويا كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر.
وتخرج الميّت من الحيّ ماديا ومعنويا أيضا كالنّواة من النّخلة، والبيضة من الطائر، والجاهل من العالم، والكافر من المؤمن.
وفسّر بعض الأطباء إخراج الحيّ من الميّت: بأن الحيّ ينمو بأكل أشياء ميتة، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء شيء ميّت. وأما إخراج الميت من الحيّ فهو الإفرازات مثل اللبن، فهو سائل ليس فيه حياة، ومثله اللحوم ومنتجات الزروع والنباتات، بخلاف النّطفة فإن فيها حيوانات حيّة، وهكذا ينمو الحيّ من الميّت، ويخرج الميّت من الحيّ.
وترزق من تشاء بغير حساب، أي تعطي من شئت من المال والرّزق بغير عدّ ولا حصر ولا إحصاء، ولا إعياء ولا تعب «١»، فلك خزائن السّموات والأرض،
(١) كلمة الحساب في القرآن: إما بمعنى العدد، مثل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ، وإما بمعنى التعب في هذه الآية، وإما بمعنى المطالبة، مثل: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
195
وتقتّر على آخرين على وفق حكمتك وإرادتك ومشيئتك. فقوله: بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تضييق ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، كأنه لا يحسب ما يعطي.
وأنت القادر على انتزاع الملك من العجم إلى العرب، والنّبوة من بني إسرائيل إلى العرب.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على أن الله تعالى صاحب السلطان المطلق، والقدرة الشاملة، والإرادة والمشيئة العليا، بيده الخير والشّر خلقا وتقديرا، لا كسبا، فالخير منه مطلقا، والشّر لا ينسب إليه أدبا، وإنما ينسب لفاعله.
وإنّ النّبوة والملك والرّزق بيده تعالى، يمنحها بحسب الإرادة ومقتضى الحكمة البالغة، والحجة التامة.
وإنّ إدخال الليل بالنهار وإدخال النهار بالليل دليل على كروية الأرض ودورانها لأن تعاقب الليل والنهار، وتفاوت مقدارهما بحسب الفصول والأزمنة والأمكنة يشير إلى الكروية والدوران.
ويخرج الله الحيّ من الميّت، والميّت من الحيّ بكلّ من المعنى المادي والمعنوي المتقدم. وإنعامه عام يتولى من يشاء، والرزق على الله مضمون، يعطي منه ما يشاء ويمنع بمقتضى الحكمة والإرادة والمشيئة.
روى الطبراني عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب: في هذه الآية من آل عمران: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
196
موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
الإعراب:
لا يَتَّخِذِ لا ناهية، فالفعل مجزوم، أو نافية، فالفعل مرفوع، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي.
فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ليس من دين الله أو ثواب الله في شيء، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. مِنَ اللَّهِ في موضع نصب على الحال لأن التقدير: فليس في شيء كائن من دين الله. فلما قدم صفة النكرة عليها انتصب على الحال. وفِي شَيْءٍ: في موضع نصب، خبر ليس. وتُقاةً منصوبة على المصدر. وأصلها وقية فأبدل الواو تاء ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت تقاة.
يَوْمَ تَجِدُ يوم: منصوب بفعل مقدر، وتقديره: اذكر يوم تجد كل نفس.
وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ما: إما بمعنى الذي، وهي معطوفة بالنصب على ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وجملة: تودّ منصوبة على الحال، أو هي مرفوعة مبتدأ وخبره: تَوَدُّ. وإما أن تكون ما شرطية مبتدأ، وعملت: فعل الشرط، وتَوَدُّ: جواب الشرط خبر المبتدأ.
البلاغة:
يوجد طباق في تُخْفُوا وتُبْدُوهُ، وفي مِنْ خَيْرٍ ومِنْ سُوءٍ، وفي مُحْضَراً وبَعِيداً.
197
المفردات اللغوية:
أَوْلِياءَ مفرده ولي وهو النصير والمعين. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي يواليهم. فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ أي ليس من دين الله في شيء. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر تقية، أي تخافوا مخافة، فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. وهذا في حال ضعف المسلم بأن يكون في بلد ليس قويا فيها. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يخوّفكم الله أن يغضب عليكم إن واليتموهم. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيجازيكم. مُحْضَراً حاضرا لديها. أَمَداً بَعِيداً الأمد: المدة التي لها حدّ محدود، والمراد: غاية في نهاية البعد، فلا يصل إليها. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرر للتأكيد.
سبب النزول: نزول الآية (٢٨) :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد- وهؤلاء كانوا من اليهود- قد بطنوا (لازموا) بنفر من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيتمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم (ملازمتهم)، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبوا، فأنزل الله فيهم: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ.. الآية.
أي أن هذه الآية نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود، فحذرهم جماعة من المؤمنين من تلك الموالاة أو المخالطة والمصاحبة، فأبوا النصيحة، وظلّوا على ملازمة اليهود ومباطنتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي أيضا عن ابن عباس: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري البدري النقيب، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الآية.
198
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن الأمر بيد الله، وأنه مالك الملك، المعزّ والمذلّ، المعطي والمانع، وأنه على كلّ شيء قدير، نبّه المؤمنين إلى أنه يجب الالتجاء إليه وحده والاستعانة بأوليائه دون أعدائه، وأنه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه، أو يستعينوا بهم لقرابة أو صداقة قديمة.
وقد جاء في هذا المعنى آيات كثيرة، منها: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران ٣/ ١١٨]، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة ٥٨/ ٢٢]، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة ٥/ ٥١]، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [النساء ٤/ ١٤٤]، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ...
إلى قوله: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة ٦٠/ ١]، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال ٨/ ٧٣].
وفي مقابل ذلك قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة ٩/ ٧١].
التفسير والبيان:
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، ثم توعّد على ذلك بقوله:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فلا يحلّ للمؤمنين اتّخاذ الكافرين أولياء لقرابة أو صداقة أو جوار ونحو ذلك، يطلعونهم على أسرارهم، ويودونهم، ويقدمون مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، وإن كان في ذلك مصلحة خاصة،
199
فالمصلحة العامة أولى وأحقّ بالمراعاة. فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين، فلا مانع منها، فقد حالف النّبي صلّى الله عليه وسلّم خزاعة، وهم على شركهم.
وإنما الواجب موالاة المؤمنين بعضهم بعضها، والاعتماد عليهم في الشؤون العامة. قال ابن عباس: نهى الله أن يلاطفوا الكفار، فيتّخذوهم أولياء.
ومعنى الموالاة الممنوعة: الاستنصار بهم والتعاون معهم والاستعانة بهم لقرابة أو محبة، مع اعتقاد بطلان دينهم لأن الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم، والموالاة بمعنى الرّضا بكفرهم كفر، لأن الرّضا بالكفر كفر.
أما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدّنيا بحسب الظاهر، مع عدم الرّضا عن حالهم، فليس ممنوعا منه.
ومن يوالي الكافرين من غير المؤمنين أي يتجاوز المؤمنين إلى الكفار، كأن يكون جاسوسا للكفار، فليس من دين الله ولا من حزبه أو من ولاية الله في شيء، أي يكون بينه وبين الله غاية البعد، ويطرد من رحمته، ويكون منهم، ولا يكون مطيعا لدينه، كما قال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وقوله:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ: إشارة إلى اتّخاذهم أولياء، وهذا يدلّ على المبالغة في ترك الموالاة إذ نفى عن متوليهم أن يكون في شيء من الله.
ثم استثنى سبحانه حالة تجوز فيها موالاة الكفار، وهي حالة الخوف من شيء، يجب اتّقاؤه منهم، كالقتل مثلا أي حال اتّقاء الضّرر فتجوز موالاتهم حينئذ لأن «درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح». وإذا جازت موالاتهم لدفع الضّرر، فتجوز لنفع الإسلام والمسلمين. ويكون ذلك للضّرورة، مثل النّطق بالكفر حال الإكراه:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل ١٦/ ١٠٦].
ويحذركم الله عقابه، وفي ذكر نَفْسَهُ إشارة إلى أن الوعيد صادر منه
200
تعالى، وأنه القادر على إنفاذه، ولا يعجزه شيء عنه. وهذا تهديد شديد على المخالفة.
وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيحاسب كل امرئ بما عمل، ويجازيه بما فعل.
ثم بيّن تعالى سعة علمه بالمخلوقات، فإن تخفوا ما صدوركم وتكتموه، أو تبدوه وتظهروه، فالله يعلمه ويجازي عليه، وهو يعلم كل شيء في السّموات والأرض، ومنه الميل إلى الكفار أو البعد عنهم.
والله قدير على عقوبتكم، فلا تعصوا نواهيه، إذ ما من معصية ظاهرة أو خفية إلا يعلمها.
واحذروا يوم الآخرة الذي تجد فيه كل نفس ما عملت في الدّنيا من خير حاضرا لديها، فتسرّ وتنعم بما عملت، وتجد ما عملت من شرّ صغر أو كبر حاضرا أيضا، فتساء وتندم، وادّة أن يكون بينها وبين عملها بعد طويل ومسافة كبعد المشرقين.
ثم أكّد تعالى تحذيره، فيحذركم الله عقابه وسخطه من ارتكاب المخالفات، وعليكم ترجيح جانب الخير على الشّر. والله بهذا التحذير والتهديد رؤف بعباده، إذ أنذرهم عاقبة أمرهم، وعرّفهم جزاءهم ومصيرهم. قال الحسن البصري:
ومن رأفته أن حذّرهم نفسه، وعرّفهم كمال علمه وقدرته لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة، دعاهم ذلك إلى طلب رضاه، واجتناب سخطه.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- دلّت الآية على تحريم الاطمئنان إلى الكفار أو الثقة بهم والرّكون إليهم في أمر عام، والتّجسس لهم، واطّلاعهم على أسرار المسلمين الخاصة بمصلحة
201
الدّين، واتّخاذهم أولياء وأنصارا في شيء تقدّم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة لأن فيه إعانة للكفر على الإيمان.
وقصة حاطب المسندة في الصحيحين وغيرهما ملخصها: «أن حاطبا كتب كتابا لقريش يخبرهم فيه باستعداد النّبي صلّى الله عليه وسلّم للزّحف على مكة، إذ كان يتجهّز لفتحها، وكان يكتم ذلك، ليبغت قريشا على غير استعداد منها، فتضطر إلى قبول الصلح- وما كان يريد حربا- وأرسل حاطب كتابه مع جارية وضعته في عقاص شعرها، فأعلم الله نبيّه بذلك، فأرسل في أثرها عليّا والزّبير والمقداد، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فلما أتي به، قال:
يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ! إنّي كنت حليفا لقريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاني ذلك من النّسب فيهم أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما إنه قد صدقكم»
، واستأذن عمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قتله فلم يأذن له، قالوا: وفي ذلك نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة ٦٠/ ١].
أي أن آية: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.. لم تنزل في قصة حاطب، وإنما هذه الآية وما نزل في قصة حاطب يشتركان في النهي عن موالاة الكافرين.
ولا تمنع هاتان الآيتان وأمثالهما التّحالف أو الاتّفاق بين المسلمين وغيرهم، وإن كان التّحالف أو الاتّفاق لمصلحة غير المسلمين لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان محالفا خزاعة، وهم على شركهم.
202
كما لا تمنع الآيات في هذا الموضوع موادّة ومجاملة غير الحربيين من غير المسلمين في الظاهر مع عدم الرّضا بكفرهم في الحقيقة والباطن، ولا تمنع معاملة غير المسلم أو معاشرته أو الثقة به في أمر خاص من الأمور، لا يمسّ مصلحة المسلمين العامة، بدليل آيات: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة ٦٠/ ٧- ٩].
فالكفار الحربيون الذين آذوا المسلمين أو ظاهروا على إخراجهم من بلادهم أو اغتصبوا بعض بلادنا كفلسطين، لا تحلّ موالاتهم بل تجب معاداتهم، للآية المتقدّمة.
٢- وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب، وإليه ذهب بعض المالكية،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن عائشة- لرجل تبعه يوم بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك»
، ولأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم على الغدر إلا عند الاضطرار.
وأجاز الأكثرون من أتباع المذاهب الأربعة الاستعانة بالكافر على الكفار، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، وقيّد الشافعية ذلك أيضا بالحاجة لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم- استعان بصفوان بن أمية يوم حنين لحرب هوازن، وتعاونت خزاعة مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم عام فتح مكة، وخرج قزمان- وهو من المنافقين- مع الصحابة يوم أحد، وهو مشرك. وأما حديث «ارجع فلن أستعين بمشرك» فهو منسوخ بدليل استعانته صلّى الله عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه لهم من الغنيمة.
٣- وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التّقية: وهي المحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.
203
والواقع أن التّقية نوعان بحسب نوع العدوّ: عدو في الدّين، وعدوّ في الأغراض الدّنيوية كالمال والمتاع والإمارة.
أما النوع الأول: فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه، وهذا يجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه فيه. أما إن كان من المستضعفين وهم الصبيان والنساء والعجزة فيجوز له البقاء في ديار الكفر وموافقة الكافرين في الظاهر بقدر الضرورة، مع السّعي في حيلة للخروج والفرار بدينه، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً [النساء ٤/ ٩٧- ٩٩].
والموافقة حينئذ للكفار رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة، فلو مات فهو شهيد، بدليل
ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، ثم قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه ثم دعا الثاني وقال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما هذا المقتول، فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة فهنيئا له، وأما الآخر، فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه» «١».
وأما النوع الثاني- وهو من كانت عداوته بسبب المال ونحوه، فقد اختلف
(١) التلخيص الحبير: ٤/ ١٠٣ [.....]
204
العلماء في وجوب هجرة صاحبه من ديار الأعداء، فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة ٢/ ١٩٥] وللنهي عن إضاعة المال،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، وابن حبان عن سعيد بن زيد: «من قتل دون ماله فهو شهيد».
وقال آخرون: لا تجب لأنها مصلحة دنيويّة ولا تضرّ بالدّين. ولكن الراجح أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك عرضه.
٤- مداراة الناس بإظهار المحبة والولاء والموافقة: إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير، كما أنها لا تخالف أصول الدّين، فهي جائزة. وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزّور، فلا تجوز. قال الحسن البصري: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل.
٥- ينبغي دوام الحذر من عقاب الله وغضبه، حتى يكون الإنسان على طهر من المعاصي، ويحرص على زيادة القربات إلى ربّه، فهي التي تنفعه يوم القيامة، فيجازي كل إنسان بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
٦- علم الله واسع شامل، يعلم كل شيء كبيرا أو صغيرا، ويعلم ما في السموات والأرض، ويعلم خفيات النفوس وجلياتها، فسواء أظهر الإنسان شيئا أو أخفاه في صدره، فإن الله تعالى عالم به علما دقيقا تامّا، لا يختلف عليه شيء.
محبّة الله باتّباع الرّسول وطاعته
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
205
البلاغة:
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أقام الظاهر وهو اسم الجلالة مقام المضمر، لتربية المهابة والرّوعة وتعظيم الله في النفوس.
ويوجد جناس مماثل في تُحِبُّونَ ويُحْبِبْكُمُ، وجناس مغاير في تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وفي يَغْفِرْ لَكُمْ وغَفُورٌ.
المفردات اللغوية:
تُحِبُّونَ اللَّهَ المحبّة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، قال ابن عرفة: المحبّة عند العرب: إرادة الشيء على قصد له. وقال الأزهري: محبّة العبد لله ورسوله: طاعته لهما واتّباعه أمرهما، ومحبّة الله للعباد: إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يغفر لهم.
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي يثيبكم. وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يتجاوز عن سيئاتكم وأباطيلكم.
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فيما يأمركم به من التوحيد. فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الطاعة، ولم يجيبوا دعوتك فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي يعاقبهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٣١) :
أخرج ابن المنذر عن الحسن البصري قال: قال أقوام على عهد نبيّنا: والله يا محمد، إنا لنحبّ ربّنا، فأنزل الله: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الآية.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادّعوه في عيسى حبّ لله عزّ وجلّ.
وقال ابن عباس: إن اليهود لما قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.
206
وعلى كلّ فالخطاب في الآية عام يشمل كل من ادّعى حبّ الله، أي طاعته واتّباع أمره، ولم يتّبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبّة الله، وليس هو على الطريقة المحمديّة، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتّبع الشّرع المحمدي والدّين النّبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت
في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ».
المناسبة:
بعد أن نهى الله المؤمنين عن موالاة الكافرين، أوضح هنا أن طريق محبّة الله تعالى متابعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وامتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه.
التفسير والبيان:
قل يا محمد لهم: إن كنتم تطيعون الله وترغبون في ثوابه، فامتثلوا ما أنزل الله علي من الوحي، يرض الله عنكم، ويغفر لكم ذنوبكم، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبّتكم إياه، وهو محبّته إياكم، وهو أعظم من الأوّل.
والله غفور لمن أطاعه، واتّبع دينه، رحيم به في الدّنيا والآخرة، والطاعة تكون باتّباع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
روي أنه لما نزل قوله: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ.. قال عبد الله بن أبيّ زعيم المنافقين: إنّ محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبّه، كما أحبّ النصارى عيسى، فنزل قوله: قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ.
أي قل لهم: أطيعوا الله باتّباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا الرّسول باتّباع سنّته والاهتداء بهديه واقتفاء أثره. وهذا يدلّ على أنّ الله إنما أوجب عليكم متابعة نبيّه لأنه رسوله، لا كما يقول النّصارى في عيسى عليه السلام.
207
فإن تولوا وأعرضوا، وخالفوا أمره، ولم يجيبوا دعوته غرورا منهم، بادّعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه، أي محبون لله، فإنّ الله يجازي الكافرين ولا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم ويغضب عليهم لأنهم اتّبعوا أهواءهم، ولم يهتدوا إلى الدّين الحنيف. وهذا دليل على أنّ مخالفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الطريقة والمنهج كفر، والله لا يحبّ من اتّصف بذلك، وإن ادّعى وزعم في نفسه أنه محبّ لله ويتقرّب إليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن محبّة الله والرّسول تتجلّى في اتّباع الإسلام وإطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والعمل بشريعته، واتّباع أوامره واجتناب نواهيه.
ومحبة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لا لذاته وإنما لكونه رسولا مرسلا من عند الله إلى جميع الثقلين: الجنّ والإنس.
فاتّباع شرع النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم هو دليل الحبّ الصادق، كما قال الورّاق:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
وقال سهل بن عبد الله: علامة حبّ الله: حبّ القرآن، وعلامة حبّ القرآن: حبّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلامة حبّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: حبّ السّنّة، وعلامة حبّ الله وحبّ القرآن وحبّ النّبي وحبّ السّنّة: حبّ الآخرة، وعلامة حبّ الآخرة: أن يحبّ نفسه، وعلامة حبّ نفسه: أن يبغض الدّنيا، وعلامة بغض الدّنيا: ألا يأخذ منها إلا الزّاد والبلغة.
وروى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل فقال: إني أحبّ فلانا فأحبّه، قال: فيحبّه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه، قال: فيحبّه أهل السماء، وإذا
208
أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض».
اصطفاء الأنبياء وقصة نذر امرأة عمران ما في بطنها لعبادة الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
الإعراب:
ذُرِّيَّةً منصوب على الحال من الأسماء المتقدمة. إِذْ ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر تقديره: اذكر يا محمد إذ قالت، أو متعلق بقوله: سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
مُحَرَّراً حال من ما. وعبر ب ما عمن يعقل للإبهام، مثل: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.
209
وَضَعَتْها الهاء عائدة على «ما» حملا على المعنى، ومعناها التأنيث.
أُنْثى منصوب على الحال من ضمير وَضَعَتْها.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا بالتشديد، وزكريا مفعول به، ومن قرأها بالتخفيف رفع زكرياء لأنه فاعل. والهمزة في زكرياء للتأنيث.
البلاغة:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جملتان معترضتان لتعظيم الأمر.
أُعِيذُها التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجديد.
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً شبه تربيتها الصالحة ونموها بالزرع الذي ينمو شيئا فشيئا عن طريق الاستعارة التبعية، بحذف المشبه والإتيان بشيء من لوازمه.
المفردات اللغوية:
اصْطَفى اختار. ذُرِّيَّةً الذرية في الأصل: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، وللواحد والكثير، والمراد: ذرية يشبه بعضها بعضا. امْرَأَتُ عِمْرانَ اسمها حنة بنت فاقود. مُحَرَّراً عتيقا خالصا من شواغل الدنيا، مخصصا للعبادة وخدمة البيت المقدس (المسجد الأقصى). فَتَقَبَّلْ مِنِّي خذه على وجه الرضا والقبول.
أُعِيذُها بِكَ أي أمنعها وأحفظها بحفظك، وأصل التعوذ والاستعاذة بالله: الالتجاء إليه، والاستجارة به، واللجوء إليه بالدعاء والرجاء. مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود.
مَرْيَمَ بالعبرية: خادم الرب أي العابدة. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً رباها بما يصلح أحوالها.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا جعل زكريا كافلا لها. وزكريا: من ولد سليمان بن داود عليهما السلام.
الْمِحْرابَ: الغرفة وهي أشرف المجالس، وتسمى عند أهل الكتاب بالمذبح: وهي مقصورة في مقدم المعبد، ذات باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. أَنَّى لَكِ هذا من أين لك هذا، والزمان زمان قحط وجدب. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يأتيني به من الجنة. بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته، فهو رزق واسع بلا تبعة.
210
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن محبته تستلزم محبة رسوله واتباعه وطاعته، وأن طاعة الله مقترنة بطاعة الرسول، ناسب أن يذكر من أحبهم واصطفاهم من الرسل وذرياتهم الذين يبينون للناس طريق المحبة: وهي الإيمان بالله مع طاعته وطاعة رسله الكرام.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة فيهم، فاختار آدم أبا البشر، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد الملائكة له، وعلمه أسماء الأشياء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة، وتاب عليه واجتباه، كما قال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ، وَهَدى [طه ٢٠/ ١٢٢] وكان من ذريته الأنبياء والمرسلون.
واصطفى من بعده نوحا أبا البشر الثاني، الذي جعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض فهو شيخ المرسلين، لما عبدوا الأوثان، وانتقم له بإغراقهم بالطوفان، ونجاه هو ومن تبعه من المؤمنين في الفلك العظيم، وكان من ذريته كثير من الأنبياء والمرسلين، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات.
واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران: وهم عيسى وأمه مريم بنت عمران التي ينتهي نسبها إلى يعقوب عليه السلام.
والمراد بعمران هذا: هو والد مريم أم عيسى عليه السلام، وهو عمران بن
211
ياشم، ابن ميشا بن حزقيا بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام. فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم.
اختار الله هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وجعل النبوة والرسالة فيهم. فهم ذرية واحدة وسلالة واحدة، ويشبه بعضها بعضا في الفضل والمزية والتناصر في الدين، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحاق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح، ونوح من آدم. وآل عمران: وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم. واصطفاؤهم على جميع الخلق كلهم، فهم صفوة الخلق، فأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق،
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الحاكم وابن عساكر عن أبي هريرة: «إنما أنا رحمة مهداة»
يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله، وقوله «مهداة» أي هدية من الله للخلق.
هذه الذرية هم المذكورون بمناسبة الكلام عن إبراهيم: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا.. [الأنعام ٦/ ٨٤- ٨٧].
وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن جميع الأنبياء والرسل من نسلهم.
والله سميع لأقوال العباد، عليم بنياتهم وضمائرهم.
واذكر وقت أن قالت امرأة عمران (وهي أم مريم واسمها حنّة بنت فاقود) وكانت عاقرا لم تلد، واشتاقت للولد، فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فلما تحققت الحمل قالت: رب إني نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك الكريم، متفرغا للعبادة وخدمة بيت المقدس وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على الولد الطاعة. ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر، وهو
212
السميع لكل قول ودعاء، العليم بنية صاحبه وإخلاصه، وهذا يستدعي تقبل الدعاء، فضلا منه وإحسانا، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى. والنذر:
هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه. فهو لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه.
ويلاحظ أن المراد بعمران أولا في قوله: آلَ عِمْرانَ هو أبو موسى عليه السلام، وثانيا في قوله امْرَأَتُ عِمْرانَ هو أبو مريم، وبينهما نحو ألف وثمانمائة عام (١٨٠٠) تقريبا.
فلما وضعت بنتا، قالت متحسرة حزينة: إني وضعتها أنثى، وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور لأن الأنثى تحيض وتلد، فلا تصلح لهذا، والله أعلم بما وضعت وبمكانتها، وفي هذا تعظيم لشأن الأنثى، وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر. أما قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فهو من كلام الله عز وجل. وقرئ بضم تاء «وضعت» فيكون من كلام امرأة عمران عن طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وأما: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فهو من كلام الله بالمعنى المذكور. ويجوز كونه من كلام امرأة عمران، قالته معتذرة إلى ربها من ولادة أنثى على خلاف ما قصدته من خدمة المسجد لأنه أنثى لا تصلح للخدمة بسبب كونها عورة.
وقالت امرأة عمران: إني سميتها مريم، أي خادمة الرب، وإني أجيرها وأعيذها بحفظك ورعايتك من شر الشيطان المطرود من الخير، وأدعوك أن تقيها وذريتها وهو عيسى عليه السلام من الشيطان وسلطانه عليهما، فاستجاب الله دعاءها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل بني آدم
213
يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» «١»
أي أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها.
فتقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن، ورضي أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت على صغرها وأنوثتها، ورباها ونماها بما يصلح أحوالها تربية عالية تشمل الجسد والروح، كما يربى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزارع إياه بالسقي والتسميد والعزق وقلع الأعشاب الضارة من حوله.
وجعل زكريا- وكان زوج وخالتها وكان معروفا بالخلق والتقوى- كافلا لها وراعيا مصالحها حتى شبت وترعرعت. وإنما قدر الله كون زكريا كفيلها لسعادتها، لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا.
وكان كلما دخل زكريا عليها المحراب، وجد عندها خيرا كثيرا ورزقا وافرا، وألوانا من الطعام لا توجد في مثل ذلك الوقت، قال جماعة من مفسري التابعين: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
فيقول لها: يا مريم، من أين لك هذا؟ والأيام أيام جدب وقحط، قالت: هو من عند الله الذي يرزق الناس جميعا، بتسخير بعضهم لبعض، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب. قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد.
فقه الحياة أو الأحكام:
كان المشركون وأهل الكتاب ينكرون نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه بشر مثلهم، ولأنه ليس من بني إسرائيل، فرد الله عليهم: إن الله اصطفى آدم أبا البشر.
(١)
وفي لفظ: «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مسّه إياه، إلا مريم وابنها»
ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
214
ونوحا الأب الثاني، واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم، واختار آل عمران من آل إبراهيم. وآل عمران هم من سلالة بني إسرائيل حفيد إبراهيم. فإذا كان الاصطفاء لله فهو يصطفي أيضا نبيا من العرب وهو سليل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
فكانت هذه القصة لتقرير نبوة النبي العربي صلّى الله عليه وسلّم، ودحض شبهة أهل الكتاب الذين حصروا النبوة في بني إسرائيل، وإبطال شبهة المشركين الذين تصوروا كون النبي غير بشر، وهو لا يكون إلا بشرا من جنس المبعوث إليهم.
وفي القصة إرهاص بنبوة عيسى، إذ ولدت أمه من أم عاقر كبيرة السن، على خلاف المعهود، وقبلت الأنثى في خدمة بيت المقدس، لتكون سيرتها الطاهرة عنوانا على كون ولدها من روح الله وكلمته.
ودل قوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ على جواز التسمية يوم الولادة، وهو شرع من قبلنا، وأكده
ما ثبت في السنة عند البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي: إبراهيم».
وكان من أثر دعاء امرأة عمران الذي قبله الله بصون مولودها وذرريتها من مس الشيطان أن صان عيسى عليه السلام من إغواءات الشيطان، كما يصون الله تعالى سائر أنبيائه الكرام من وساوس الشياطين وسلطانهم، فكم تعرّض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر ١٥/ ٤٢ والإسراء ١٧/ ٦٥].
ووجود الرزق الكثير عند مريم مما ليس كالعادة دليل على كرامات الأولياء، كما ذكر ابن كثير «١».
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٦٠
215
قصة زكريا ويحيى (دعاء زكريا وطلبه الولد الصالح وإنجاب يحيى)
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
الإعراب:
هُنالِكَ الأصل أن يكون ظرف مكان، ولكنه استعمل هنا ظرف زمان، وقيل: بهما في هذه الآية أي في ذلك المكان والوقت، وهو متعلق بدعاء أي دعا زكريا في ذلك الوقت، وهذا الاستعمال جائز على سبيل التوسع، ويعرف المراد بدلالة الحال، وقد تجيء هُنالِكَ محتملة الزمان والمكان، كما في قوله تعالى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ. والظرف منه «هنا» واللام للتأكيد، والكاف للخطاب، لا موضع لها من الإعراب.
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أي جماعة الملائكة. ومن قرأ «فناداه» أراد جمع الملائكة إذ يجوز في فعل الجماعة التذكير والتأنيث، سواء كانت الجماعة للمذكر أو المؤنث، نحو: قال الرجال وقالت الرجال، وقال النساء وقالت النساء، فالتذكير بالحمل على معنى الجمع، والتأنيث بالحمل على معنى الجماعة. وَهُوَ قائِمٌ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من هاء فَنادَتْهُ. أَنَّ اللَّهَ مفعول ثان لنادته، ومن قرأها بالكسر فعلى الابتداء، على تقدير: قال: إن الله يبشرك.
مُصَدِّقاً حال من يحيى، وكذلك: سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا. وَامْرَأَتِي عاقِرٌ إنما جاء بغير تاء لأنه أراد النّسب، أي: ذات عقر أي عقم، مثل طالق وحائض.
216
البلاغة:
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ المنادي جبريل، وعبر عنه باسم الجماعة تعظيما له لأنه رئيسهم.
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ فيه طباق وهو أحد المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
هُنالِكَ أي لما رأى زكريا ذلك، وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء من غير حينه قادر على الإتيان بالولد على الكبر، وكان أهل بيته انقرضوا ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ولدا صالحا مباركا.
الذرية: الولد، وتقع على الواحد والكثير وهو هنا واحد، والطيب: ما تستطاب أفعاله سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيبه وقابله، كما يقال: سمع الله لمن حمده، إذ من لم يجب، فكأنه لم يسمع مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي يصدق بعيسى أنه روح الله، فهو قد وجد بكلمة كائنة من الله، وكلمة الله:
عيسى عليه السلام، وسمي كلمة لأنه خلق بكلمة: كن، قال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى بن مريم. وَسَيِّداً السيد: الرئيس المتبوع الذي يسود قومه. وَحَصُوراً قال السيوطي وغيره: ممنوعا من النساء، من الحصر: وهو المنع، فهو لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن تعففا وزهدا. وقال آخرون: منوعا نفسه من ارتكاب ما يعاب عليه، أو أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها، كأنه حصور عنها، كما قال القاضي عياض. وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي من أصلابهم، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها أَنَّى كيف غُلامٌ ولد وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي بلغت نهاية السن، مائة وعشرين سنة وَامْرَأَتِي عاقِرٌ عقيم لا تلد بلغت ثمانيا وتسعين سنة.
كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أي من خلق الله غلاما منكما اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ: لا يعجزه عنه شيء.
آيَةً علامة على حمل امرأتي أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي تمتنع من كلامهم ما عدا ذكر الله تعالى رَمْزاً إشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وسمي الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه بِالْعَشِيِّ الوقت من الزوال إلى الليل. وَالْإِبْكارِ من طلوع الفجر إلى الضحى، فشمل قوله: بالعشي والإبكار: أواخر النهار وأوائله.
التفسير والبيان:
حينما رأى زكريا حال مريم وتفرغها للعبادة وتفضل الله عليها بالأرزاق الوفيرة، دعا ربه أن يرزقه ولدا صالحا مثلها من ولد يعقوب عليه السلام،
217
قائلا: إنك يا رب سميع لكل قول، مجيب لكل دعاء صالح لأن رؤية الأولاد النجباء تشوق النفس لو يكون له مثلهم.
فخاطبته الملائكة شفاها، والمخاطب في رأي الجمهور: هو جبريل عليه السلام «١»، والأظهر في رأي القرطبي: ناداه جميع الملائكة، أي جاء النداء من قبلهم.
وهو قائم يدعو الله ويصلي في محراب عبادته، وقالت له: إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم ١٩/ ٧] وهو معرّب يوحنا، ويطلق عليه في إنجيل متى: «يوحنا المعمداني» لأنه كان يعمّد الناس في زمانه. وهو أول من يصدق بعيسى بن مريم عليه السلام المسمى (كلمة الله) لأنه ولد ونشأ بكلمة الله: كُنْ، لا بالطريقة المعتادة من الولادة من أب وأم.
ويحيى أيضا سيد قومه، ومعصوم من الذنوب، ومانع نفسه من شهواتها، ونبي يوحى إليه- وهذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى- وهو صالح ناشئ من أصلاب الصالحين: أنبياء الله الكرام صلوات الله عليهم.
ولكن زكريا تعجب قائلا: كيف يكون لي غلام، وقد أصبحت كبير السن، وامرأتي عقيم لا تلد، فأجابه الله تعالى من طريق الملائكة: كذلك الله يفعل ما يشاء، أي مثل ذلك الخلق غير المعتاد الحاصل مع امرأة عمران، يفعل
(١) في التنزيل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ يعني جبريل، والروح: الوحي. وجائز في العربية: أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني: نعيم بن مسعود.
218
الله ما يشاء في الكون، فمتى شاء أمرا أوجده، سواء بسبب معروف أو بغير سبب، ومنه إيجاد الولد والمرأة عاقر.
فطلب زكريا من ربه أن يجعل له علامة تدله على الحمل ووجود الولد منه، استعجالا للسرور، أو ليشكر تلك النعمة، فجعل الله علامة ذلك ألا يقدر على كلام الناس مدة ثلاثة أيام متوالية إلا بالإشارة والرمز بيد أو رأس أو نحوهما. وأمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال طوال الوقت، وعلى التخصيص في الصباح والمساء.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت هذه الآية على مشروعية طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصدّيقين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد ١٣/ ٣٨] وقال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان ٢٥/ ٧٤] وقال مخبرا عن إبراهيم الخليل:
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء ٢٦/ ٨٤]،
وروي من حديث أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيّ رجل مات، وترك ذرّية طيبة، أجرى الله له مثل أجر عملهم، ولم ينقص من أجورهم شيئا».
وخرّج ابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «النكاح من سنّتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
وأخرج أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم».
والأخبار في هذا المعنى كثيرة، تحث على طلب الولد وتندب إليه لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته،
روى مسلم وغيره أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر: أو ولد صالح يدعو له»
ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
219
ودلت الآية أيضا على أن الواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه وطلب التوفيق لهما، والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونوا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه.
ألا ترى قول زكريا: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم ١٩/ ٦] وقال: ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وقال: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان ٢٥/ ٧٤]،
ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنس، فقال فيما رواه البخاري ومسلم: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه».
ومن مهام الملائكة البشارة، كما بشرت بيحيى عليه السلام، والأنبياء معصومون من الذنوب والمعاصي الكبيرة والصغيرة قبل النبوة وبعدها، وقد يعصمون ويمنعون عن الشهوات المباحة، كما حصل ليحيي عليه السلام أنه كان حصورا، ولعل هذا كان شرعه، فأما شرعنا فالنكاح. وكان يحيى أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، ويقال بستة أشهر.
واستبعاد زكريا عليه السلام وتعجبه كان على وفق المعتاد أن حاله وحال امرأته لا يولد لمثلهما، لا أن ذلك ليس من مقدور الله. وقد طلب إتمام النعمة بأن يجعل له آية تكون دليلا على زيادة النعمة والكرامة.
وفي هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات:
ما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم من أمر السوداء حين قال لها: «أين الله؟» فأشارت برأسها إلى السماء، فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة»
فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك.
وهذا قول عامة الفقهاء، قال مالك: إن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه
220
يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه، فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس، وإنما هو استحسان.
وقد منع زكريا الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة. أما عن ذكر الله فلا، فقد أمره الله بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه. قال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر، لرخص لزكريا بقول الله عز وجل: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الأنفال ٨/ ٤٥].
وكذلك الصلاة لا تترك لأن معنى قوله: وَسَبِّحْ أي صلّ، سميت الصلاة سبحة، لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء.
قصة زكريا عليه السلام:
ذكر زكريا في القرآن الكريم ثماني مرات في آل عمران وفي الأنعام وفي مريم وفي الأنبياء. ويظهر أن لزكريا أبي يحيى شركة في خدمة الهيكل، فهو «لاوي» وهو زوج خالة «مريم».
لما رأى زكريا آيات الله الباهرات وإكرامه تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، فدعا ربه ليرزقه ذرية طيبة مباركة تلي أمور بني إسرائيل لأنه كان يخشى ابتلاءهم بمواليه الذين لم يكونوا متمسكين بالشريعة، فحملت زوجه بيحيى وبشره الله بنبوته، وأعلمه أن آية ذلك أن يعجز عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام لا يكلمهم إلا رمزا. وقتل زكريا وابنه يحيى في حادث واحد.
221
قصة يحيى عليه السلام:
ذكر يحيى في مواضع أربعة من القرآن الكريم: في آل عمران، وفي الأنعام، وفي مريم، وفي الأنبياء.
وحملت زوجة زكريا، واسمها «اليصابات» في الزمن الذي حملت فيه مريم بعيسى، وولد يحيى ثم شب ونشأ بارعا في الشريعة الموسوية ومرجعا مهما لكل من يستفتي في أحكامها.
وكان «هيرودس» أحد حكام فلسطين، وله بنت أخ تسمى «هيروديا» بارعة الجمال، أراد أن يتزوج منها، وأرادت البنت وأمها ذلك، فلم يرض يحيى عن هذا الزواج لأنه حرام. فانتهزت الأم ليلة الزفاف بين العم وابنة أخيه، فرقصت العروس في زينتها أمامه، فسر منها، وطلب منها أن تقول ما تتمناه، ليعمله لها، فطلبت منه- عملا بمشورة أمها- رأس يحيى بن زكريا في هذا الطبق، فوفى لها عمها الحاكم بذلك وقتل يحيى.
وامتاز يحيى منذ صباه بأكمل أوصاف الصلاح والتقوى، وأوتي النبوة وهو صبي قبل بلوغ الثلاثين، كما قال تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم ١٩/ ١٢] وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمّدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، وقد عمّد المسيح، ويسميه المسيحيون «يوحنا المعمدان».
ولما قتل يحيى، جهر المسيح بدعوته، وبدأ في وعظ الناس.
قصة مريم
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
222
الإعراب:
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأ وخبر، والجملة منصوبة بفعل مقدر، تقديره: ينظرون أيهم يكفل مريم.
البلاغة:
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ المراد جبريل، على سبيل المجاز المرسل من إطلاق الكل، وإرادة البعض.
اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ تكرار لفظ اصْطَفاكِ ولفظ مَرْيَمَ من باب الإطناب.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي جبريل يا مَرْيَمُ مريم في لغتهم: العابدة، وسميت بذلك تفاؤلا لها بالخير. اصْطَفاكِ اختارك. وَطَهَّرَكِ من الحيض والنفاس، ومن مسيس الرجال، ومن سفساك الأخلاق. وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ أي أهل زمانك. والاصطفاء الأول: قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال. والاصطفاء الثاني:
الاختصاص بولادة نبي من غير أن يمسها رجل، وذلك بمعنى أنها مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود.
اقْنُتِي أطيعي، والقنوت: الطاعة مع الخضوع. وَاسْجُدِي تذللي. وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ صلي مع المصلين، والمراد من السجود والركوع لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة.
نُوحِيهِ الوحي: تعريف الموحى إليه بأمر خفي، وقد جاء الوحي في القرآن لمعان:
لكلام جبريل للأنبياء كما هنا، ومثل: نُوحِي إِلَيْهِمْ، وللإلهام مثل: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص ٢٨/ ٧] ولإلقاء المعنى المراد مثل: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة ٩٩/ ٥] وللإشارة مثل: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم ١٩/ ١١].
أَنْباءِ الْغَيْبِ أخبار ما غاب عنك. أَقْلامَهُمْ قداحهم المبرية التي يقترعون بها،
223
وتسمى السهام. أما الأزلام: فهي التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها.
إِذْ يَخْتَصِمُونَ يتنازعون في كفالتها.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة ولادة يحيى من أب كبير وأم عاقر، وذلك شيء خارق للعادة، أعقبه بذكر قصة ولادة عيسى من غير أب، وهو شيء أغرب من الأول. وغاية القصة: الرد على النصارى الذين ادعوا ألوهية عيسى، فذكر ولادته من مريم ليدل على بشريته.
التفسير والبيان:
أخبرت الملائكة مريم عليها السلام أن الله اختارها لكثرة عبادتها وزهدها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس ومن سفساف الأخلاق وذميم الصفات (وهو التطهير المعنوي) ثم اصطفاها ثانيا بالتطهير الحسي كعدم الحيض والنفاس والولادة من غير جماع، وفضلها على نساء عالمي زمانها، فهي طاهرة من الأدناس والأرجاس من الحيض والنفاس وغيرهما، ومن العيوب والنقائص البشرية الحسية والمعنوية. ومثلها السيدة فاطمة الزهراء التي ما كانت تحيض، ولذلك لقبت بالزهراء.
يا مريم الزمي الطاعة مع الخضوع لله، واسجدي له مع الخشوع، وصلي جماعة مع المصلين، لا وحدك. فالقنوت: الطاعة في خشوع، كما قال تعالى:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الروم ٣٠/ ٢٦]. والسجود:
التذلل، والركوع: الانحناء، والمراد: ما يلزمه وهو التواضع والخشوع في العبادة.
تلك القصص التي أخبرناك عنها من أخبار زكريا ويحيى ومريم، هي من أخبار الغيب التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك، وإنما هي بالوحي
224
الذي نوحيه إليك على يد جبريل الروح الأمين، لتكون دليلا على صحة نبوتك، وإلزام المعاندين لك. فهذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى، والمعلم به قصتان: قصة مريم، وقصة زكريا.
وما كنت حاضرا معهم حينما جاءت امرأة عمران، وألقت مريم في بيت المقدس، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها، فهي بنت سيدهم وكبيرهم، وأخذوا يستهمون (يقترعون) في ذلك، فجاءت القرعة لزكريا، فكان كافلها.
وما كنت شاهدا عليهم إذ يتنازعون ويتخاصمون في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة. وإذ لم تعلم بهذه القصة ولا قومك لأنك أمي مثلهم، فلم يبق لك طريق للعلم إلا الوحي من الله تعالى. أما المشاهدة للخصومة فقد نفاها الله تعالى على سبيل التهكم. وهي كما قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود ١١/ ٤٩].
وأما تعليم البشر- كما زعموا- فرده الله تعالى بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل ١٦/ ١٠٣] وهو النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب.
وهذه الآية مثل المذكور عقب قصة نوح عليه السلام: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود ١١/ ٤٩] والمذكور بعد قصة موسى وشعيب: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص ٢٨/ ٤٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى تفضيل السيدة مريم عليها السلام على نساء العالمين أجمع في قول الزجاج وغيره، وعلى عالمي زمانها في قول أكثر المفسرين. وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول: الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى.
225
روى مسلم والجماعة إلا أبا داود عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
والكمال: هو التناهي والتمام، وكمال كل شيء بحسبه، والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان: الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين.
وروي من طرق صحيحة أنه عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة وأنس بن مالك: «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»
وفي رواية أخرى: «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم: فاطمة وخديجة».
فهذه الأحاديث تدل على فضيلة مريم وأن روح القدس كلمها، وظهر لها، ونفخ في درعها، ودنا منها للنفخة، وصدقت بكلمات ربها، ولذلك سماها الله في تنزيله صدّيقة فقال: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ وقال: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم ٦٦/ ١٢].
ودلت الآية على أن مريم كانت كثيرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل، مما هيأها لمحنة لها ورفعة في الدارين.
ودل قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حيث أخبره الله عن قصة زكريا ومريم، ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر الناس عن ذلك، وصدّقه أهل الكتاب بذلك. والإيحاء هنا: الإرسال إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
واستدل بعض علماء المالكية بهذه الآية وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ...
على إثبات القرعة، وهي في أصل شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي
226
سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظّنّة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. وردّ العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.
وأجيبوا بالآثار والسنة، قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء:
يونس وزكريا ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» «١»
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه.
ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدّة،
وقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابنة حمزة- واسمها أمة الله- لجعفر، وكانت عنده خالتها، وقال فيما رواه الترمذي والشيخان عن البراء: «الخالة بمنزلة الأم»
وكان زكريا قد قال لأحبار بيت المقدس: ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فأبوا واقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا، فكفلها.
وكيف تمت القرعة؟ لما نذرت امرأة عمران والدة مريم ما في بطنها لخدمة الهيكل، جاءت بها إلى خدام الهيكل، فكل واحد منهم أراد أن يكفلها وألقوا قرعة على ذلك، فكانت مريم نصيب زكريا، فقام بأمرها كما قال تعالى:
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا.
قال بعض العلماء: الحكمة في أنّ الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا (مريم) :
هي الإشارة من طرف خفي إلى رد ما قاله النصارى من أنها زوجته، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس، ولينسب إليها عيسى باعتبار عدم وجود أب له، ولهذا قال في الآية التالية: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
(١) حديث صحيح رواه أحمد والشيخان والنسائي.
227
قصة عيسى عليه السلام
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
الإعراب:
إِذْ ظرف زمان ماض، وهو بدل من قوله: إِذْ يَخْتَصِمُونَ في الآية السابقة.
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اسمه المسيح: جملة اسمية في موضع صفة لكلمة. وعِيسَى:
بدل من المسيح.
228
ابْنُ مَرْيَمَ إما بدل من عِيسَى أو خبر مبتدأ محذوف وتقديره: هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون وصفا لعيسى لأن اسمه عيسى فقط، وليس اسمه: عيسى بن مريم. وإذا كان كذلك وجب إثبات الألف في الخط من قوله: ابن مريم لأن الألف من ابْنُ إنما تسقط إذا وقعت وصفا بين علمين، ولا يجوز أن يكون هاهنا وصفا، فوجب أن تثبت.
وَجِيهاً وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ: كل ذلك أحوال من عيسى.
أَنِّي أَخْلُقُ فيه ثلاثة أوجه: الجر بدلا من بِآيَةٍ والرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره:
هو أني أخلق، والنصب بدلا من «أن» في قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وهي في موضع نصب، وتقديره: جئتكم بأني قد جئتكم، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به. كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره: خلقا مثل هيئة الطير. وهاء فِيهِ إما أن تعود على الهيئة وهي الصورة بمعنى المهيأ، أو تعود على المخلوق لدلالة: أخلق عليه، أو تعود على الكاف في: كهيئة الطير لأنها بمعنى «مثل».
وَمُصَدِّقاً منصوب على الحال من تاء جِئْتُكُمْ أي جئتكم مصدقا.
البلاغة:
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ كناية عن الجماع، مثل الكناية عنه بالحرث واللباس والمباشرة.
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يوجد طباق بين لفظي لِأُحِلَّ وحُرِّمَ.
المفردات اللغوية:
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ المراد بها عيسى، وسمي بالكلمة لأنه وجد بكلمة كُنْ فَيَكُونُ.
الْمَسِيحُ لفظ معرب من العبرانية، وأصله: مشيحا لأنه مسح بالبركة أو بالدهن الذي يمسح به الأنبياء، وهو دهن طيب الرائحة. وعيسى: معرب يسوع بالعبرانية.
وَجِيهاً ذا جاه وكرامة في الدارين فِي الدُّنْيا بالنبوة وَالْآخِرَةِ بالشفاعة والدرجات العلا وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله فِي الْمَهْدِ مقر الصبي حين الرضاع وَكَهْلًا الكهل: الرجل التام السوي، وهو من بلغ الأربعين فأكثر قَضى أراد شيئا الْكِتابَ الكتابة والخط وَالْحِكْمَةَ العلم النافع وهو الذي يبصّر الإنسان بفقه الأحكام وسر التشريع.
وَالتَّوْراةَ كتاب موسى وَالْإِنْجِيلَ كتاب عيسى الذي أوحي إليه به.
229
أَنِّي أَخْلُقُ أصور، والخلق: التصوير والتكوين على مقدار معين، لا الإنشاء والاختراع كَهَيْئَةِ مثل صورة الطير الْأَكْمَهَ: من ولد أعمى الْأَبْرَصَ: الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا ويحيى أقارب عيسى، وذكر قصة أمه، ناسب أن يذكر قصة عيسى وكيفية ولادته.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد لقومك وقت أن قال جبريل من الملائكة: إن الله يبشرك يا مريم بعيسى الموصوف بالكلمة على معنى: نبشرك بمكون منه أو بموجود من الله، إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادي، استحق أن يوصف بهذه الصفة، وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات وجدت بكلمة الله كما ذكر عقب خلق عيسى بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ وذكر في مكان آخر:
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢] لكن في العرف تنسب الأشياء الأخرى إلى الأسباب العادية، وأطلق اسم الكلمة على عيسى مجازا كما قال تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء ٤/ ١٧١].
والمراد من الملائكة هنا جبريل، لقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مريم ١٩/ ١٧] وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم.
اسمه المسيح الذي جاء لرفع الظلم وهداية الناس وإشاعة الأخوة الصادقة فيما بينهم، وكانت مملكته روحانية لا جسدية. والمسيح: لقب الملك عندهم، فهو من ألقاب المدح. وقال القرطبي: معناه الصدّيق.
وإنما قيل: ابن مريم، مع أن الخطاب لها، إشارة إلى أنه ينسب لها، لولادته من غير أب، وليظل هذا الوصف ثابتا مقررا في الأذهان في كل زمان،
230
وردا على من ألّهه، وبيانا لمكانتها وتكريما لها.
وهو ذو وجاهة في الدنيا لما له من مكانة عند أتباعه والمؤمنين، وفي الآخرة بين الناس، ومن المقربين إلى الله يوم القيامة.
ويمتاز أيضا بأنه يكلم الناس وهو رضيع في المهد، وفي حال الكهولة وتمام الرجولة، كلاما متزنا معقولا. وهذا يشير إلى أنه سيكون رجلا سويا. قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصة الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام. وكانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.
وهو كذلك من الصالحين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والاستقامة وصلاح الحال. ولما بشرت مريم بعيسى المتصف بما ذكر، قالت متعجبة: كيف يكون لي ولد، وليس لي زوج؟ فأجابها الله: مثل هذا الخلق المتعجب منه وهو خلق الولد بغير أب، يخلق الله ما شاء، فخلق السماء والأرض، وخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق جميع الموجودات في الأصل من غير سبب ظاهر.
وسبب التعبير في قصة زكريا وابنه يحيى بقوله تعالى: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وفي قصة خلق عيسى بقوله: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ: هو أن إيجاد يحيى من شيخين عجوزين كإيجاد سائر الناس في العادة، فعبر عنه بالفعل، وأما إيجاد عيسى فهو من أم بلا أب، خلافا للمعتاد في التوالد، بل بمحض القدرة الإلهية، وهو أبلغ من إيجاد يحيى، فناسب التعبير عنه بالخلق والإيجاد والإبداع، لكونه من غير سبب عادي.
ثم أعقبه بما يناسبه ويؤكده فقال: إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني، لا الأمر التكليفي في مثل قوله تعالى:
أَقِيمُوا الصَّلاةَ وهذا تبيان لعظمة الله، ونفاذ أمره ومشيئته، وسرعة إنجاز مطلوبه، تقريبا للأذهان، وإلا فالإيجاد أسرع مما هو قائم بين حرفي
231
كُنْ. وهو يشبه قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت ٤١/ ١١].
وهناك خلق آخر أعظم من خلق عيسى وهو خلق آدم من غير أب ولا أم:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران ٣/ ٥٩].
فهذه الأحوال في الخلق على نحو غير عادي دليل على قدرة الله المطلقة، وإرادة تكميل الكون بعجائب المخلوقات.
ومن أوصاف عيسى: أن الله يعلمه الكتابة والخط، والعلم النافع الذي يبعث النفس إلى تنفيذ الفعل ويرشد إلى أسرار الأحكام، ويعرفه التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أوحي إليه.
وأنه رسول مرسل إلى بني إسرائيل، مؤيد بآيات تدل على صدق رسالته وهي:
١- أنه يصور من الطين صورة على قدر معين كصورة الطير، لا ينشئ ويخترع من الطين هيئة جديدة، فينفخ فيه، فيكون طيرا بقدرة الله ومشيئته، لا بقدرته وأمره، فإنه مخلوق لا يقدر على هذا.
روي أنهم طالبوه بخلق خفّاش، فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير، وهم ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى، وليعلم أن الكمال لله. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز من خلق الله.
٢، ٣- ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله: وتخصيصهما بالذكر لأن مداواتهما أعيت الأطباء، علما بأن الطب كان متقدما في زمن عيسى، فأراهم
232
الله المعجزة من جنس الطب. قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب في مصر على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند الله العظيم الجبار، انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره. وقد أحيا صديقا له اسمه عازر، وابن العجوز، وابن العاشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال.
وكذلك محمد صلّى الله عليه وسلّم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتحليق الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، لم يستطيعوا أبدا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وما ذاك إلا أن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا.
٤- وأخبركم بما تأكلونه، وما تخبئونه وتحفظونه للمستقبل في بيوتكم.
والفرق بين إخبار النبي بالمغيباب وإخبار المنجمين والكهنة: أن النبي يخبر بإعلام الله من غير اعتماد على شيء آخر، أما الكاهن والمنجم فيعتمد على طرق الاحتيال واستخدام بعض الأسباب المؤدية إلى معرفته كالنجوم والجن وبعض الإنس.
إن في ذلك لدليلا قاطعا على صدق رسالتي، إن كنتم مصدقين بآيات الله الباهرة، مقرين بتوحيده وبقدرته الكاملة على كل شيء.
٥- وجئتكم مصدقا لما تقدم من التوراة، لا ناسخا لها، ولا مخالفا أحكامها إلا ما خفف الله في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، كما قال تعالى: وَلِأُحِلَّ
233
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
أي بعض الطيبات التي كانت محرمة على بني إسرائيل بظلمهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء ٤/ ١٦٠] قيل: من ذلك: السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.
وما عدا ذلك جئت متفقا مع التوراة في أصول الدين كالتوحيد والبعث وفضائل الأخلاق، جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام: «ما جئت لأنقض الناموس- أي شريعة التوراة- ولكن لأكمله».
٦- وجئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقي وصحة رسالتي. كرر ذلك للتأكيد وليبني عليه الأمر بالتقوى. وقد وحد الآية وهي آيات لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته.
فاتقوا الله في المخالفة، وأطيعوا فيما أدعوكم إليه وهو توحيد الإله: إن الله ربي وربكم، فاعبدوه، وهذا هو الطريق السوي الذي اتفقت عليه الرسل قاطبة، وهو المؤدي إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن تعدى ذلك فهو في ضلال.
ففي هذا تلخيص لمهمة الرسالة وهي الأمر بالتقوى وإطاعة الله، والإقرار بالتوحيد: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، والاعتراف بالعبودية والخضوع لله، وهو منهج الحق المبين في مريم وابنها.
وهذا موجود في الإنجيل لأن فيه: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.
والأب: السيد في تلك اللغة، بدليل أنه قال: وأبي وأبيكم، فعلم أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكرت الآيات بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بأنه سيوجد منها ولد
234
عظيم، له شأن كبير، يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له: كن فيكون، واسمه المسيح مشهور في الدنيا يعرفه المؤمنون، وله وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب والحكمة، وله وجاهة في الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه أولي العزم من الرسل عليهم السلام.
ويدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه، وهو صالح القول والعمل.
روى محمد بن إسحاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى وصاحب جريج».
وروى مسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاث: عيسى، وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر».
وهذا حصر نسبي في وقت ما، ثم أخبر الله نبيه في وقت آخر بآخرين، ومجموعهم سبعة: شاهد يوسف، وصبي ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج، وصاحب الجبار، وصبي قصة الأخدود: وهو- كما في مسلم وغيره- أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي يرضع، فتقاعست أن تقع فيها، فقال الغلام: يا أمّه، اصبري، فإنك على الحق.
ودل قوله تعالى: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ على أن أمر الله عظيم لا يعجزه شيء. وأكده بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فلا يتأخر شيئا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر ٥٤/ ٥٠]. أي إنما نأمر مرة واحدة دون تكرار ولا تثنية، فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر.
ودلت الآيات على خصائص عيسى عليه السلام وما أيده الله به من معجزات
235
خارقة للعادة، وهي كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة.
وكان عيسى أحد الرسل إلى بني إسرائيل. روي أن الوحي أتاه وهو ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفع إلى السماء.
ولا تختلف دعوة عيسى عن دعوات سائر الأنبياء، كما أوضحت هذه الآيات، فهو يدعو إلى تقوى الله وطاعته فيما جاء به عنه، ويأمر بالتوحيد والاعتراف بالعبودية لله، وذلك هو الصراط المستقيم أي أقرب طريق موصل إلى الله تعالى.
عيسى مع قومه المؤمنين والكفار
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٨]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
236
الإعراب:
إِذْ قالَ اللَّهُ إذ: تتعلق بفعل مقدر، تقديره: اذكر أني متوفيك ورافعك إليّ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وجهان: إما أنه معطوف على ما قبله، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما قبله خطاب لعيسى، وإما أنه معطوف على مُتَوَفِّيكَ وكلاهما لعيسى.
مِنَ الْآياتِ حال من الهاء في نَتْلُوهُ وعامله ما في ذلك من معنى الإشارة.
البلاغة:
فَلَمَّا أَحَسَّ استعارة، إذ الكفر ليس بمحسوس وإنما يعلم ويفطن به.
وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ من باب المشاكلة. ويوجد جناس اشتقاق بين مَكَرُوا والْماكِرِينَ.
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، تنويعا للفصاحة.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب.
المفردات اللغوية:
أَحَسَّ علم علما لا شبهة فيه، كعلم ما يدرك بالحواس. واستعمالها في إدراك الأمور المعنوية مجاز مَنْ أَنْصارِي أعواني إِلَى اللَّهِ أي مع الله، فإلى بمعنى مع، أو من أعواني في السبيل إلى الله لأنه دعاهم إلى الله عز وجل، أو من يضم نصرته إلى نصرة الله عز وجل.
قالَ الْحَوارِيُّونَ: واحدهم حواري، وحواري الرجل: صفيّه وناصره، فالحواريون: هم أصحاب عيسى وأنصاره وأصفياؤه. والحور: البياض الخالص، وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم «١».
ورد في الصحيحين: «لكل نبي حواري، وحواريّ الزبير».
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أعوان دينه، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا.
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ منقادون لما تريده منا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق.
(١) وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها.
237
وَمَكَرُوا المكر: تدبير خفي يفضي بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب، وغلب استعماله في التدبير السيء. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أعلمهم به وأعرفهم بالتدابير، وهو المجازي على المكر.
وكان مكر كفار بني إسرائيل بعيسى: أن وكلوا به من يقتله غيلة، ولكن الله ألقى شبه عيسى على من قصد قتله، فقتلوه، ورفع عيسى إلى السماء.
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ التوفي: أخذ الشيء وافيا تاما، ثم استعمل بمعنى الإماتة، كما قال تعالى:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر ٣٩/ ٤٢] فمعنى مُتَوَفِّيكَ قابضك. وَرافِعُكَ إِلَيَّ من الدنيا من غير موت، فإذا كان عيسى حيا حين الرفع كان في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: أني رافعك إليّ ومتوفيك، والواو لا تدل على الترتيب. وقيل: معنى: إني متوفيك:
قابضك ورافعك إلي، أي إلى كرامتي.
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مبعدك، وتطهيره من الذين كفروا: براءته مما كانوا يزمونه به بتهمة أمه بالزنا. وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وهم اليهود، والفوقية بمعنى العلو عليهم بالحجة والسيف. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يشمل المسيح والمختلفين معه والاختلاف بين أتباعه والكافرين به.
عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والجزية وَالْآخِرَةِ بالنار ناصِرِينَ مانعين منه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يعاقبهم ذلِكَ المذكور من أمر عيسى نَتْلُوهُ نقصه وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ المحكم أي القرآن.
سبب النزول: نزول الآية (٥٨) :
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راهبا نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعجل حتى يؤامر ربه، فنزل عليه ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إلى قوله مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
وسيأتي بيان روايات أخرى في بيان سبب نزول آية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إلى قوله مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى معجزات وخصائص عيسى عليه السلام، ذكر هنا
238
قصته مع قومه، حيث دعاهم للإيمان، فآمن به بعضهم، وأعرض الآخرون، وما لقيه منهم من إيذاء وعزم على قتله، وإنجائه منهم برفعه إليه، وإنذار الكافرين بالعذاب الشديد، ومجازاة المؤمنين الذين عملوا الصالحات. وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن الأدلة وحدها لا تؤدي إلى الإيمان، وإنما لا بد من هداية الله وتوفيقه.
التفسير والبيان:
لما شعر عيسى من قومه بني إسرائيل بالتصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال، وتحقق من ذلك، أراد التعرف صراحة عن المؤمنين بدعوته، فقال:
من يتبعني إلى الله، ومن ينصرني ملتجئا إلى الله؟ والظاهر أنه يريد: من أنصاري في الدعوة إلى الله،
كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مراسم الحج قبل أن يهاجر: «من رجل يؤويني حتى أبلّغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي؟»
فوجد الأنصار، فآووه ونصروه وهاجر إليهم، فواسوه ومنعوه من الأعداء.
وهكذا عيسى انتدب طائفة من بني إسرائيل لنصرته، فآمنوا به وآزروه ونصروه، كما جاء في آية أخرى: «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ [الصف ٦١/ ١٤].
قال الحواريون أي الأنصار: نحن أنصار دين الله وجنوده المخلصون المؤيدون دعوتك، آمنا بوجود الله وبوحدانيته إيمانا صادقا، واشهد بأنا مسلمون، أي خاضعون منقادون لأوامره، وجوهر الإسلام متفق عليه بين كل الأديان.
ثم تضرعوا إلى الله قائلين: ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك
239
بالصدق. وذكر الاتباع في قولهم دليل على صحة الإيمان، لأن الإيمان يقتضي العمل.
ثم أخبر الله تعالى عن مؤامرة جماعة من بني إسرائيل على قتل عيسى، فوشوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافرا: أن هنا رجلا يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، وهذا هو مكرهم بتوكيل من يقتله غيلة، فأبطل الله مكرهم وأفسد تدابيرهم، إذ بعث الملك في طلبه لأخذه وصلبه والتنكيل به، فلما أحاطوا بمنزله، وظنوا أنهم قد ظفروا به، بإلقاء شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، نجّاه الله تعالى من بينهم، ورفعه إلى السماء.
والله خير المدبرين، وأنفذهم خطة، وأحكمهم وأقواهم صنعا، وأقدرهم على إضرارهم، وإتمام حكمته، وإنفاذ مشيئته، وتركهم في ضلالهم يعمهون:
يعتقدون أنهم قد ظفروا بمطلبهم، وحققوا مأربهم.
وقال أبو حيان: معناه: أي المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل لأنه فاعل حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب «١».
ثم ذكر الله رفع عيسى إلى السماء مخاطبا نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقائلا: اذكر يا محمد حين قال الله لعيسى: إني موفيك أجلك كاملا، ورافعك إلي، وهذه بشارة له بنجاته من كيدهم وتدبيرهم.
وللمفسرين رأيان في تأويل هذه الآية:
١- إن في الآية تقديما وتأخيرا: والتقدير: إني رافعك إلي ومطهرك من
(١) البحر المحيط: ٢/ ٤٧٢
240
الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، أي أنه رفعه إلى السماء حيا بجسمه وروحه، وسينزل في آخر الزمان، فيحكم بشريعة الإسلام، ثم يميته الله. وهذا ما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».
٢- التوفي: الإماتة العادية، والرفع: رفع الروح والمكانة، لا المكان، كما قال تعالى في شأن إدريس عليه السلام: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم ١٩/ ٥٧] وقال في شأن المؤمنين: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر ٥٤/ ٥٥] ويكون المعنى: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان علي رفيع.
ويؤيد التأويل الأول أكثر العلماء، وقال بعضهم وهو الربيع بن أنس:
المراد بالوفاة هاهنا: النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام ٦/ ٦٠] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر ٣٩/ ٤٢]
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا، بعد ما أماتنا».
وقال القرطبي: والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس.
وذكر الله تعالى قصة صلب عيسى ورفعه في آيات أخرى هي: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [النساء ٤/ ١٥٦- ١٥٩]. والضمير في قوله قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
241
بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
ثم أبان الله تعالى بعض وجوه أخرى من إكرام عيسى عليه السلام، فقال:
وجاعل الذين آمنوا بأنه عبد الله ورسوله، وصدقوه في قوله، واتبعوا دينه فوق الذين كفروا أي أعلى منهم، وهي إما فوقية روحانية: وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد عن الباطل، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم، وليس ذلك أمرا مطردا دائما في كل وقت، مما يرجح كون الفوقية روحانية ومعنوية وأدبية.
هذه الفوقية في صحة العقيدة وسمو الآداب والأخلاق وقوة الحجة وعلو القدر تدوم لأهل الإيمان إلى يوم القيامة.
ثم مصيركم جميعا إلى يوم البعث، فأحكم بينكم فيما اختلفتم فيه من أمور الدين.
ثم بيّن الله جزاء المحق والمبطل: فأما الذين كفروا بعيسى وكذبوه وهم اليهود فلهم عذاب في الدنيا بذنوبهم بالإذلال والقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، وعذاب في الآخرة بنار جهنم، وما لهم في الآخرة من نصير ولا معين.
وأما الذين آمنوا بعيسى وصدقوا بنبوته وبما جاء به من عند الله، وعملوا صالحا بتنفيذ الأوامر وترك النواهي، فيعطيهم الله أجورهم كاملة غير منقوصة.
ثم أكد تعالى جزاء الكافرين فقال: والله لا يحب الظالمين أي يعاقبهم ويجازيهم بما يستحقون، أو لا يريد ظلم الظالمين.
هذه الأخبار عن عيسى نتلوها عليك يا محمد، وهي من الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتك، وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبرة والحكمة
242
والعظة في الأخبار والأحكام، فيهتدي المؤمنون بها إلى الحق ومعرفة سر الشريعة وجوهر الدين. وشبيه ذلك قوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [مريم ١٩/ ٣٤- ٣٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
أصحاب الدعوات الإصلاحية وعلى رأسهم الأنبياء يتعرضون بسبب دعوتهم إلى مختلف أنواع الأذى والطرد ومحاولة الاغتيال. ولكن اقتضت الحكمة الإلهية ألا ينضب الخير والفلاح بين الناس، فيهيّئ أناسا يؤازرون المصلحين، ويحتاج القائد إلى أن يتعرف على أتباعه وأنصاره المخلصين، كما فعل عيسى عليه السلام بالتعرف على الحواريين، ليعتمد عليهم وقت الشدة والأزمة، ويساعدونه في تحمل عبء الدعوة إلى الله، وهذا هو المراد بقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ.
ولما أخرج بنو إسرائيل عيسى وأمه من بين أظهرهم، عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهموا بقتله، وتواطؤوا على الفتك به، فذلك مكرهم. ومكر الله في رأي الفراء: استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، وفي رأي الزجاج: مكر الله: مجازاتهم على مكرهم، فسمى الجزاء باسم الابتداء، كقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَهُوَ خادِعُهُمْ
وهذا على طريق المشاكلة، وهو الرأي المشهور بين العلماء: رأي الجمهور.
والصحيح لدى المحققين من العلماء أن الله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء من غير وفاة ولا نوم. وسينزل في آخر الزمان.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركنّ القلاص «١»،
(١) القلاص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
243
فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعونّ إلى المال، فلا يقبله أحد».
وأما تطهيره من الذين كفروا: فهو إنجاؤه مما كانوا يرمونه به، أو يرومونه منه، ويريدونه به من الشر.
وأما قوله وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ففيه رأيان: قال الضحاك ومحمد بن أبان: المراد الحواريون. وقال آخرون:
الخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والفوقية: بالحجة وإقامة البرهان، وقيل: بالعز والغلبة.
والتفوق بالحجة على صحة دين الإسلام بالمعنى العام الذي يتفق عليه جميع الأنبياء وأتباع عيسى وموسى وغيرهم من أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم: هو الأولى، مثل آية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. [النور ٢٤/ ٥٥].
وجزاء الكافرين: النار في الآخرة، والقتل والصلب والسبي والإذلال في الدنيا. وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات: السعادة والاطمئنان في الدنيا، والجنة في الآخرة، فهي سعادة في الدارين.
الرّدّ على من زعم ألوهية عيسى والمباهلة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
244
الإعراب:
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للمثل، وهي موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل:
ما المثل؟ فقال: خلقه من تراب، أي المثل خلقه من تراب. ولا يجوز أن يكون وصفا لآدم لأن آدم معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف بالنكرة. ولا يجوز أيضا أن يكون حالا لأن خَلَقَهُ فعل ماض، والفعل الماضي لا يكون حالا.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا الحقّ من ربّك، أو هو الحقّ، أي أمر عيسى.
وَما مِنْ إِلهٍ من: زائدة للتوكيد.
البلاغة:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أتى بوصف الربوبية وأضافه إلى الرّسول عليه الصلاة والسلام لتشريفه.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ هذا من باب الإثارة والإلهاب، لزيادة التّثبيت.
المفردات اللغوية:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى المثل: الشأن الغريب والحال المدهشة. عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي كشأنه في خلقه من غير أم ولا أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أوقع في النفس وأقطع لقول الخصم.
والمراد أنّ شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق، كشأن آدم في ذلك، ثم فسّر هذا المثل بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي خلق قالبه وقدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميّت أصابه الماء، فكان طينا لازبا لزجا. ثم قال له: كن بشرا، فكان، وكذلك عيسى قال له:
كن من غير أب فكان.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فيه، الامتراء: الشّك. فَمَنْ حَاجَّكَ جادلك من النصارى. ثُمَّ نَبْتَهِلْ نتضرّع في الدّعاء، وابتهل القوم: تلاعنوا، والبهلة: اللعنة. فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ بأن نقول: اللهمّ العن الكاذب في شأن عيسى.
وقد دعا صلّى الله عليه وسلّم وفد نجران لذلك، لما حاجوه به، فقالوا: حتى ننظر في أمرنا، ثم نأتيك، فقال ذو رأيهم- مستشارهم، واسمه «العاقب» :«لقد عرفتم نبوّته، وأنه ما باهل قوم نبيّا إلا هلكوا»، فودّعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد خرج، ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي، وقال لهم: إذا دعوت، فأمّنوا، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية. رواه نعيم.
245
الْقَصَصُ الخبر. الْحَقُّ الذي لا شكّ فيه. الْعَزِيزُ أي ذو العزّة الذي لا يغالبه أحد في ملكه. الْحَكِيمُ ذو الحكمة الذي لا يساميه أحد في صنعه.
سبب النزول:
قال المفسّرون: إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد، قال: أجل، إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية «١».
المناسبة:
ذكر الله تعالى سابقا قصة عيسى وأمه، وإيمان بعض قومه به، وكفر بعض آخر، وهنا ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه «كلمة الله وروح الله» : أنّ الله حلّ في أمه، وأن كلمة الله تجسّدت فيه، فصار إنسانا وإلها ذا طبيعة مزدوجة، فردّ الله عليهم بأن خلق آدم أعجب من خلق عيسى.
التفسير والبيان:
إن صفة عيسى في قدرة الله حيث خلقه من غير أب كمثل آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل خلقه من تراب، وقدره جسدا من طين، ثم قال له:
كن فيكون أي أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه. شبّه الغريب بالأغرب منه، والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب، والشيء قد يشبّه بالشيء لاتّفاقهما في وصف واحد، وإن اختلفا في أمور أخرى.
فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى،
(١) البحر المحيط: ٢/ ٤٧٧
246
وإن جاز ادّعاء النبوّة في عيسى، لكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ادعائها في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتّفاق أن ذلك باطل، فدعوى النبوّة في عيسى أشدّ بطلانا.
ولكن الله تعالى أراد أن يظهر قدرته للناس حين خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى. ولهذا قال تعالى في سورة مريم: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [٢١]، وقال هنا: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
هذا الذي أخبرتك به من شأن عيسى ومريم هو القول الحق، لا ما اعتقده النصاري في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النّجار.
فلا تشكنّ في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به. وهذا النهي يثير في النّبي وأمّته ضرورة الاعتصام باليقين واطمئنان النفس إلى الخبر الإلهي. أي واظب على يقينك وطمأنينة نفسك إلى الحقّ والبعد عن الشّك فيه، أو أن الخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن شاكّا في أمر عيسى عليه السّلام.
فمن جادلك في شأن عيسى عليه السّلام بعد معرفة الحقّ واليقين فادعهم إلى المباهلة أي الملاعنة: بأن نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته. وهذه الآية تسمى آية المباهلة.
وقد ثبت أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم دعا نصارى نجران للمباهلة، فأبوا.
جاء في سيرة ابن إسحاق: أنه قدم سنة تسع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد نصارى نجران ستون راكبا: فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم، منهم: «العاقب» واسمه عبد المسيح، وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. ومنهم السيّد وهو الأيهم، وكان عالمهم، ومنهم أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وكان أسقفهم. فدخلوا بعد العصر
247
مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلوا صلاتهم إلى المشرق، ثمّ كلّموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا عن عيسى: هو الله، هو ولد الله، هو ثالث ثلاثة، فنزل القرآن للرّدّ عليهم.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: أنه جاء العاقب والسيّد صاحب نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيّا، فلاعناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقال: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حق أمين، قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح، فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا أمين هذه الأمّة.
وروي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما: الحسن والحسين، وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت، فأمّنوا أنتم.
وبعد أن رفضوا المباهلة صالحوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم على الجزية: وهي دفع ألف حلّة في صفر، وألف في رجب ودراهم.
وهذا يدلّ على قوة اليقين والثّقة بما يقول، وعلى أن امتناعهم عن المباهلة فيه تقرير للخطر وكونهم على غير بيّنة فيما يعلنون، فما أمكنهم الإقدام على المباهلة.
إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو القصص الحق الذي لا مرية فيه ولا جدال، لا ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدّعيه اليهود من كونه ابن زنا. وسمّيت قصصا لأن المعاني تتابع فيها.
وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغلبه أحد، الحكيم: ذو الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح المناسب له.
فإن أعرضوا بعد هذا عن اتّباعك وتصديقك، ولم يعلنوا وحدانية الله، ولم يجيبوا
248
إلى المباهلة، فإن الله عليم (واسع العلم) بحال المفسدين، وسيجازيهم على أعمالهم شرّ الجزاء. وكلّ من عدل عن الحقّ إلى الباطل فهو المفسد، والله قادر عليه لا يفوته شيء.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن عجائب الخلق وخلق الكائنات وأمر الخليقة تدلّ على وجود الخالق وهو الله تعالى، كما قال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام ٦/ ٧٣]. ومن خلقه تعالى: خلق الناس على وفق قوانين عادية، أو على غير العادة، مثل خلق آدم، وحواء، وعيسى. وعقد الشّبه بين آدم وعيسى هو في أنهما خلقا من غير أب، وذلك للرّدّ على وفد نجران الذين أنكروا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: إن عيسى عبد الله وكلمته، فقالوا: أرنا عبدا خلق من غير أب؟!
فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: آدم، من كان أبوه؟ أعجبتم من عيسى ليس له أب؟ فآدم عليه السّلام ليس له أب ولا أم.
وآية المباهلة حدّ فاصل في الجدال لأن اللعنة محقّقة فيها على الكاذب.
وهذه الآية من أعلام نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه دعاهم إلى المباهلة، فأبوا ورضوا بالجزية، بعد أن أعلمهم كبيرهم: العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا، فإن محمدا نبيّ مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى فتركوا المباهلة، وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلّة في صفر، وألف حلّة في رجب، فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك بدلا من الإسلام.
ودلّ قوله تعالى: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحسن: «إنّ ابني هذا سيّد» «١»
على خصوصية تسمية الحسن والحسين: ابني النّبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيرهما،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي» «٢».
(١) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي بكرة.
(٢) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر.
249
الدّعوة إلى توحيد الله وعبادته وملّة إبراهيم
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٤ الى ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
الإعراب:
سَواءٍ صفة لكلمة، أي كلمة مستوية. أَلَّا نَعْبُدَ بدل مجرور من كلمة. ويجوز رفعه خبرا لمبتدأ محذوف وتقديره: هي ألا نعبد إلا الله، أو جعله مبتدأ، أي بيننا وبينكم ترك عبادة غير الله. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه، وأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: خبره. حاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبيّنة للجملة الأولى أي أنتم هؤلاء أنكم جادلتم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: خبر إن. وَهذَا عطف عليه. النَّبِيُّ صفة لهذا أو بدل منه أو عطف بيان.
البلاغة:
كَلِمَةٍ مجاز إذ أطلق الواحد على الجمع. أَرْباباً فيه تشبيه طاعتهم لرؤساء الدّين في أمر التحليل بالرّب المستحق وحده للعبادة. أَوْلَى وأَوْلَى فيه جناس اشتقاق.
250
المفردات اللغوية:
يا أَهْلَ الْكِتابِ هم اليهود والنصارى. تَعالَوْا أقبلوا. سَواءٍ مستو أمرها بين الفريقين، والسّواء: العدل والوسط الذي لا تختلف فيه الشرائع. أَرْباباً جمع ربّ: وهو السّيّد المربي المطاع فيما يأمر وينهى، ويراد به هنا: ما له حق التشريع من تحريم وتحليل. أما الإله:
فهو المعبود الذي يدعى حين الشدائد ويقصد عند الحاجة لأنه مصدر الفرج.
مُسْلِمُونَ منقادون لله مخلصون له موحدون.
تُحَاجُّونَ تخاصمون وتجادلون. حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائفة الباطلة إلى الدّين الحق القيّم. مُسْلِماً موحّدا مخلصا مطيعا له.
إِنَّ أَوْلَى أحق. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ناصرهم وحافظهم.
سبب النزول:
نزول الآيات (٦٥- ٦٧) :
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا، فأنزل الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ الآية».
نزول الآية (٦٨) :
سأل اليهود قائلين: والله يا محمد، لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وإنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لكلّ نبيّ ولاة من النّبيين، وإن وليي أبي وخليل ربي، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ الآية.
251
المناسبة:
أقام القرآن الحجة على النصارى في ادّعائهم ألوهية المسيح، ثم دعا هنا اليهود والنصارى إلى أصل الدّين وروحه الذي اتّفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو توحيد الله وعبادته، والاقتداء بإبراهيم أبي الأنبياء عليهم السّلام إذ أن ملّته ملّة الإسلام، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا.
التفسير والبيان:
قل يا محمد: يا أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى جميعا، أقبلوا وهلمّوا إلى كلمة عادلة وسطى سواء بين الفريقين اتّفقت عليها جميع الشرائع والرّسل والكتب التي أنزلت إليهم، فأمرت بها الصّحف والكتب الأربعة: التّوراة والزّبور والإنجيل والقرآن، وهي كلمة التّوحيد: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وعبادة الله وتفويض سلطة التشريع والتحليل والتحريم إليه، وعدم الشرك به شيئا، وعدم اتّخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، كالوثن والصليب والصنم والطاغوت والنار.
هذه الآية حوت وحدانية الألوهية في قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، ووحدانية الرّبوبية في قوله: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وهذه دعوة جميع الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، قال الله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
وكان اليهود موحدين، ولكن مفهوم الإله فيهم أصبح ليس هو الإله الحق، واتبعوا رؤساء الدين فيما يخترعون من أحكام، وكذلك كان النصارى موحدين وما زالوا يدعون الوحدانية، لكنهم انتقلوا من ادعاء نبوة عيسى لله والتثليث إلى
252
ادعاء ألوهيته وأن الثلاثة واحد، وهو عيسى، ورفضت فرقة الإصلاح «البروتستانت» فكرة ألوهية عيسى.
روى عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [٣١] فقلت له: يا رسول الله، لم يكونوا يعبدونهم، فقال: ما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال:
نعم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: هو ذاك»

، وعلى هذا خوطب أهل الكتاب بهذا الخطاب لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب.
فإن أعرضوا عن هذه الدعوة أو التحكيم، وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، فقولوا لهم: إنا مسلمون حقا، منقادون لله، مخلصون له الدّين، لا نعبد أحدا سواه، ولا نطلب النّفع أو دفع الضّرر من غيره، ولا نحلّ إلا ما أحلّه الله، ولا نحرّم إلا ما حرّمه الله.
وهذه الآية هي جوهر رسائل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وكتبه إلى ملوك وأمراء العالم من أهل الكتاب وغيرهم، مثل كسرى ملك الفرس الوثنيين، وهرقل ملك الرّوم النصارى، والنّجاشي النّصراني والمقوقس عظيم أقباط مصر وغيرهم. واشتملت كل تلك الكتب على هذه الآية، وهنا أذكر كتابه إلى هرقل،
جاء في صحيح مسلم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم. سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين- أي الشعب من فلاحين وخدم وأتباع وغيرهم، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».
253
المحاجّة في انتماء إبراهيم:
أيها اليهود والنصارى، لم تتنازعون في إبراهيم الخليل عليه السلام ويدّعي كل منكم أنه كان منكم على دينه؟ كيف تدّعون أيها اليهود أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟
فما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأزمان طويلة، قيل: كان بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالي ألف سنة.
لهذا قال تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أن المتقدم على الشيء لا يكون تابعا له؟ وألا تعقلون ضعف حجّتكم وانهيارها وبطلان قولكم؟
ثم أشار الله تعالى إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه، فقال: ها أنتم هؤلاء تجادلون وتحاجّون فيما لكم به علم ومعرفة من أمر عيسى «١» عليه السّلام مما نطق به التّوراة والإنجيل، وقد قامت عليكم الحجّة وظهر الغلط، فكيف تحاجّون، وعلى أي أساس تجادلون في شأن إبراهيم عليه السّلام أنه كان يهوديا أو نصرانيا، وليس لكم به علم ولا نزل في شأنه شيء في دينكم وكتبكم، فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، وأنتم لا تعلمون إلا ما عرفتم وعاينتم وشاهدتم أو سمعتم؟
فهذا إنكار من الله عليهم مثل تلك الدّعاوى والمحاجّة في إبراهيم والمحاجّة فيما لا علم لهم به، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقيقتها.
(١) وقال القرطبي: يعني في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يعلمونه من نعته في كتابهم.
254
ثم جاء القرار الإلهي الحاسم في شأن إبراهيم، وهو أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك بالله والوثنية، مسلما منقادا لله مطيعا لأوامره، مجتنبا نواهيه، فأهل دينه الذين هم على منهاجه وشريعته هم أهل الإسلام، فهم الصادقون، وأما اليهود والنصارى فهم الكاذبون.
وما كان أيضا من المشركين الذين يسمون أنفسهم الحنفاء، ويدّعون أنهم على ملّة إبراهيم، وهم قريش ومن تبعهم من العرب.
ثم أكّد تعالى ما سبق بقوله: إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته هم المؤمنون بالله وحده لا شريك له، المخلصون له الدّين، وهذا النّبي محمد والذين آمنوا معه، فهم أهل التوحيد المتفقون على وحدانية الله وألوهيته وربوبيته، وهذا هو روح الإسلام، والله ناصر المؤمنين ومؤيدهم، وموفقهم ومتولي أمورهم ومصلح شؤونهم، بإرسال الرّسل إليهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن إطاعة غير الله تعالى من الأحبار وعلماء الدّين في الأحكام الشرعية بالتحليل والتحريم يجعل الأحبار كالأرباب، وهذا يقتضي تخصيص الطاعة لله تعالى.
وإن ملتقى الأديان هو الانصياع تحت راية التوحيد وهي كلمة «لا إله إلا الله» وعبادته وحده، والاعتماد في التشريع على الله تعالى فهو مصدر الشرائع الحقّ. لذا خاطبهم القرآن بقوله: أجيبوا إلى ما دعيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وهي قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ.
ودلّ قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ على أنه لا يجوز اتّباع من سوى الله في تحليل شيء أو تحريمه، إلا فيما حلله الله تعالى،
255
وهو نظير قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣١]، معناه: أنهم أنزلوهم منزلة ربّهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرّمه الله ولم يحلّه الله.
وفي هذا حجّة على أنّ مسائل الدّين كالعبادات والتّحريم والتّحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النّبي المعصوم، لا بقول إمام ولا فقيه، وإلا كان إشراكا في الرّبوبية، وهذا ما ندّد به القرآن في آيات مثل قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى ٤٢/ ٢١]، وقوله: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ، وَهذا حَرامٌ [النحل ١٦/ ١١٦].
أما المسائل الدّنيوية كالقضاء والسياسة فهذه فوّض أمرها إلى أهل الحلّ والعقد وهم أهل الشورى، فما أمروا به وجب تنفيذه وقبوله.
وإن أعرض أهل الكتاب عما دعوا إليه وهي الكلمة السواء نقول: نحن مسلمون أي متّصفون بدين الإسلام، منقادون لأحكامه، معترفون بما لله علينا في ذلك من النّعم، غير متّخذين أحدا ربّا، لا عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة لأنهم بشر مثلنا، ولا نقبل من الرّهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرّمه الله علينا، فنكون قد اتّخذناهم أربابا.
وأبين آية وحجّة على اليهود والنصارى الذين ادّعوا أن إبراهيم كان على دين كل منهم آية: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ... فهي تكذبهم بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده، وذلك قوله: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملّة حادثة بعده؟ هذا فضلا عن أن اليهودية ملّة محرّفة عن ملّة موسى عليه السلام، والنّصرانية ملّة محرّفة عن شريعة عيسى عليه السلام.
ودلّت آية:
256
له. أما الجدال لمن علم وأيقن، والاحتجاج للحقّ فهو جائز، لقوله تعالى:
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥]، ومثاله:
ما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال:
حمر، قال: هل فيها من أورق «١» ؟ قال: نعم. قال: «فمن أين ذلك؟» قال: لعل عرقا نزعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وهذا الغلام لعل عرقا نزعه»
ودلّت هذه الآية على وجوب المحاجّة في الدّين وإقامة الحجّة على المبطلين، كما احتجّ الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام، وأبطل بها شبهتهم.
وإبراهيم كان على الحنيفية الإسلامية، ولم يكن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا، وأحقّ الناس بإبراهيم ونصرته: هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده، وكانوا حنفاء مسلمين مثله غير مشركين، وأيضا هذا النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد. والله ولي المؤمنين، أي ناصرهم.
أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لكل نبيّ ولاة من النّبيين، وإن وليي أبي وخليل ربّي، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ».
محاولة بعض أهل الكتاب إضلال المسلمين والتلاعب بالدين والعصبية الدينية
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٩ الى ٧٤]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
(١) الأورق: الذي لونه بين السواد والغبرة.
257
الإعراب:
أَنْ يُؤْتى مفعول به لتؤمنوا، وتقدير الكلام: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم، فتكون لام لِمَنْ على هذا زائدة وهو اختيار السيوطي، ومن في موضع نصب لأنه استثناء منقطع. ويجوز أن تكون اللام غير زائدة، ومتعلّقة بفعل مقدّر دلّ عليه الكلام لأن معناه: لا تقرّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فتتعلّق الباء واللام (بتقروا).
والتأويل عند الزمخشري: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أي أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم. وجملة قُلْ: إِنَّ الْهُدى..
اعتراضية. وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أَنْ يُؤْتى. والضمير في يُحاجُّوكُمْ عائد لكلمة أَحَدٌ لأنه في معنى الجمع.
البلاغة:
الْحَقَّ وبِالْباطِلِ بينهما طباق.
يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ فيهما جناس تام.
المفردات اللغوية:
وَدَّتْ أحبّت ورغبت. طائِفَةٌ جماعة وهم الأحبار والرؤساء. يُضِلُّونَكُمْ
258
يوقعونكم في الضلال بالرّجوع عن دين الإسلام والمخالفة له، والضلال: نوع من الهلاك.
وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن إثم إضلالهم عليهم، والمؤمنون لا يطيعونهم فيه.
بِآياتِ اللَّهِ ما يدلّ على صدق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو القرآن المشتمل على نعته عليه الصلاة والسلام.
تَلْبِسُونَ تخلطون الحقّ بالباطل، بالتّحريف والتّزوير. وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي نعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق.
وَجْهَ النَّهارِ أوله. لَعَلَّهُمْ أي المؤمنين. يَرْجِعُونَ عن دينهم.
وَلا تُؤْمِنُوا تصدقوا.
قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام، والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والجملة اعتراضية.
إِنَّ أي بأن، وأن: مفعول تؤمنوا. مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكتاب والحكمة والفضائل.
أَوْ يُحاجُّوكُمْ أي بأن يحاجّوكم وهم المؤمنون، أي يغلبوكم بالحجّة.
الْفَضْلَ الزيادة، والمراد به هنا النّبوة.
سبب النزول:
نزول الآية (٦٩) :
نزلت في معاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان حين دعاهم اليهود إلى دينهم.
نزول الآية (٧٢) :
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل الله على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعوا عن دينهم، فأنزل الله فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إلى قوله: واسِعٌ عَلِيمٌ.
259
وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي عن أبي مالك قال: كانت اليهود تقول أحبارهم للذين من دونهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فأنزل الله: قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ.
المناسبة:
ذكر الله تعالى سابقا موقفا لأهل الكتاب وهو الإعراض عن الحق، وذكر هنا موقفا آخر وهو شدّة حرصهم على إضلال المؤمنين.
التفسير والبيان:
أحبّت طائفة من الأحبار والرؤساء إيقاع الضلال بين المسلمين، بزرع الشّبهات ومحاولة كسب بعض المسلمين بإدخالهم في دينهم، ولكنهم خائبون، فهم لا يضلون إلا أنفسهم وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، إذ شغلوها بما لا يجدي، بل بما يضرّ، ويوقعهم في الإثم والمعصية، وما يشعرون بذلك وما يفطنون إلى سوء حالهم، وفي هذا نهاية الذّم والاحتقار لهم. والآية نظير قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً.. [البقرة ٢/ ١٠٩].
يا أهل الكتاب (اليهود والنصارى) : لأي سبب تكفرون بالآيات الدّالة على صدق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنتم تشهدون بصحّتها، بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به.
يا أهل الكتاب لم تخلطون الحقّ الذي جاء به الأنبياء بالباطل الكذب الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وبإلقاء الشّبه، والتّحريف والتّبديل، وأنتم تكتمون شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو مكتوب عندكم في التّوراة والإنجيل وهو البشارة بنبيّ من بني إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة، وأنتم تعلمون أنكم مخطئون مبطلون، وتفعلون ذلك حسدا وعنادا.
260
ثمّ ذكر نوعا آخر من مكرهم وكيدهم: وهو أن طائفة منهم كما بان في سبب النزول المتقدم أظهروا الإسلام في أول النّهار فصلّوا مع المسلمين صلاة الصّبح، ثم ارتدّوا عنه في آخره، ليلبسوا على الضعفاء والجهلة من الناس أمر دينهم، فيقولوا: إنما ردّهم إلى دينهم اطّلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عنه. ولم يدروا أن من عرف الحقّ لم يرجع عنه، سأل هرقل أبا سفيان عن شؤون محمد صلّى الله عليه وسلّم: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟
فقال أبو سفيان: لا.
ومن تتمة كلام اليهود أن قالوا لبعضهم زعما منهم أنّ النّبوة لا تكون إلا فيهم «١» : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم، دون المسلمين، لئلا يزيدهم ثباتا على دينهم، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام، أي أن المعنى كتم التصديق بأن للمسلمين من كتاب الله مثل أهل الكتاب. وقال ابن كثير: لا تطمئنوا أو تظهروا سرّكم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به ويحتجّوا به عليكم، فالمعنى حجب أسرارهم عن المسلمين.
ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجّونكم يوم القيامة بالحق، ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجّة. وقال ابن كثير في تفسير ذلك: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلّموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدّة الإيمان به، أو يتّخذوه حجّة عليكم بما في أيديكم، فتقوم به عليكم الدّلالة، وتترتب الحجة في الدّنيا والآخرة.
وتخلل ذلك جملة اعتراضية: وهي أن الهدى هدى الله، فمن شاء الله هدايته
(١) قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: من جملة قول اليهود لأنه معطوف على كلامهم، وهو الظاهر، قال ابن عطية: ولا خلاف في ذلك.
261
إلى الإيمان آمن بما أنزله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات البيّنات والدّلائل القاطعات والحجج الواضحات، ولا يؤثر كيدكم وخبثكم وحيلكم وكتمكم شيئا، فسواء أظهرتم الحق، أم كتمتم أيها اليهود ما عندكم من صفة محمد النّبي الأميّ في كتبكم، فلن يغيّر ذلك شيئا من نعمة الهداية الإلهية على أحد من الناس.
ثم ردّ الله على اليهود ردّا قاطعا لزعمهم أنّ النّبوة لا تكون إلّا فيهم فقال: إن الأمور كلها ومنها أمر النّبوة تحت تصرفه، وليس إليكم، وإنما بيد الله وحده، فهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم، ويضلّ من يشاء فيعمي بصيرته وبصره ويختم على قلبه وسمعه، وهو صاحب الفضل المطلق، والخير كله بيده، يؤتيه من يشاء من عباده، يختصّ برحمته أي بالنّبوة من شاء، ويختصّ المؤمنين بالفضل بما لا يحدّ ولا يوصف، وفضله واسع عظيم، ورحمته وسعت كل شيء، فلا حدّ لها، ولا حصر لآثارها، ولا قصر للنّبوة على بني إسرائيل على حدّ زعمهم، ولا لنسب أو شرف معين.
فقه الحياة أو الأحكام:
يحسد اليهود المؤمنين ويبغون إضلالهم، ولكن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم، وهم لا يشعرون. وهكذا يحلم الكفار قديما وحديثا بردّ المسلمين عن دينهم، إلى دين اليهودية أو النصرانية، أو أن يصبحوا من غير دين، ولكنهم خابوا وخسروا، وأثبتوا أنهم ضعاف العقول، سفهاء الأحلام فإن العقيدة الإسلامية في قلب المسلم أثبت من رواسخ الجبال، وهم لا يعلمون بصحّة الإسلام، وواجب عليهم أن يعلموا لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة على وحدانية الله، وعلى صحّة الشريعة ونضارتها وأصالتها ووفائها بالحاجات وسمّوها وتفضيلها على كلّ شرائع العالم قاطبة لأنها شرع الله ودينه.
ومن المستنكر عقلا وعادة أن يخلط أهل الكتاب الحقّ بالباطل، أو يكتموا
262
الحقّ الأبلج، وهم به عالمون.
ومحاولة التّدليس والخداع في إظهار أناس إيمانهم فترة ما، للتضليل والتشكيك، ثم العودة إلى الكفر هي محاولة صبيانية طائشة، لا يغترّ بها إلا السّذّج أمثالهم لأن التلاعب بالدّين والإيمان ليس من سمة المخلصين، ولأن الإيمان إذا وقر في القلب عن دليل وبرهان، استحال نزعه وسلخه من صاحبه إلا بالموت أو القتل.
والنّبوات ليست قصرا على أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، وإنما يختص الله برحمته من يشاء، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو صاحب السلطان المطلق والأمر المبرم، ينزّل الوحي أو الملائكة على من يشاء من عباده، فليس لليهود أن يقولوا: إن النّبوات محصورة فيهم، أو أن تفوق الحجة عند الله لهم، فهم لا حجّة لهم، والإسلام أصح من معتقداتهم، والمسلمون أصحّ منهم دينا.
وإن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عزّ وجلّ بيد الله جلّ ثناؤه، يؤتيه أنبياءه، فليس لأهل الكتاب أن ينكروا أن يؤتى أحد مثلما أوتوا، فإن أنكروا يقال لهم: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فالأمور كلها تحت تصرف الله، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتّصرف التامّ، ويضلّ من يشاء، فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجّة التّامة والحكمة البالغة.
أداء الأمانة والوفاء بالعهد عند بعض أهل الكتاب
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
263
الإعراب:
بَلى إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل فيهم. مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدّت مسدها. والضمير في بِعَهْدِهِ راجع إلى مَنْ أَوْفى. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى.
البلاغة:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا أشار إليهم بالبعيد لازدياد غلوهم في الشّر والفساد.
لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ مجاز بالحذف أي ليس علينا في أكل الأموال سبيل.
يَشْتَرُونَ فيه استعارة، استعار لفظ الشراء للاستبدال أي يستبدلون.
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ مجاز عن شدّة الغضب والسخط الإلهي.
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، تقول: «فلان لا ينظر إلى فلان» أي لا يعتدّ به.
وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يحسن إليهم ولا يثني عليهم، فهو مجاز عن معنى الإحسان.
يوجد جناس اشتقاق بين اتَّقى والْمُتَّقِينَ.
المفردات اللغوية:
تَأْمَنْهُ أي تأتمنه، وهو من فعل أمنته. بِقِنْطارٍ المراد العدد الكثير، وقيل: هو المعيار الذي يوزن به، ومقداره عند أهل الشام مائة رطل، والرطل كيلوان ونصف. بِدِينارٍ المراد العدد القليل. فِي الْأُمِّيِّينَ أي العرب. سَبِيلٌ مؤاخذة وذنب أو تبعة. بَلى
264
كلمة تقع جوابا عن نفي سابق، لإثباته، أي عليهم فيه سبيل. بِعَهْدِهِ العهد: ما تلتزم الوفاء به لغيرك، وإذا كان الالتزام من جانبين يقال: عاهد فلان غيره عهدا. ويَشْتَرُونَ يستبدلون. بِعَهْدِ اللَّهِ ما أنزله في كتابه من الإيمان بالنّبي وأداء الأمانة. وَأَيْمانِهِمْ جمع يمين: وهي الحلف بالله، والمراد هنا: أيمانهم الكاذبة أو حلفهم بالله تعالى كاذبين. ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يأخذونه من الدّنيا، أو رشوة، وهو قليل لأن المال الذي يكون سببا في العقاب قليل مهما كثر.
لا خَلاقَ لَهُمْ لا نصيب لهم. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي يغضب عليهم. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أي يسخط عليهم ولا يرحمهم. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يثني عليهم ولا يطهرهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
سبب النزول: نزول الآية (٧٧) :
روى الشيخان وغيرهما أن الأشعث قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألك بيّنة؟ قلت: لا، فقال لليهودي: احلف، فقلت: يا رسول الله، إذن يحلف، فيذهب مالي، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا.
وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلا أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله، لقد أعطي بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ.. الآية.
قال الحافظ ابن حجر في (شرح البخاري) : لا منافاة بين الحديثين، بل يحمل على أن النزول كان لسببين معا.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن الآية نزلت في حييّ بن الأخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة وبدلوه، وحلفوا أنه من عند الله. وقيل: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق
265
وحيي بن أخطب: حرّفوا التّوراة، وبدّلوا صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخذوا الرّشوة على ذلك «١».
قال الحافظ ابن حجر: والآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح.
المناسبة:
تتابع الآيات في تبيان أوصاف أهل الكتاب، فمنهم الأمين، ومنهم الخائن، ومنهم المستحل أموال غير اليهود بالباطل بتأويلات واهية، لذا فإن القرآن يحذر المؤمنين من الاغترار بهم.
التفسير والبيان:
لقد أنصف القرآن في وصف أهل الكتاب، فمنهم طائفة تؤتمن على الأموال القليلة والكثيرة، والودائع أو الأمانات، مثل عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأدّاها إليه، ومثل السموءل بن عاديا اليهودي المشهور بالوفاء.
ومنهم طائفة أخرى تخون الأمانة، وإن كانت قليلة، ويتعذر استردادها منهم إلا بمتابعة المطالبة والتحصيل، أو باللجوء إلى التقاضي والمحاكمة وإقامة البيّنة عليهم، مثل كعب بن الأشرف أو فنحاص بن عازوراء، استودعه رجل قرشي دينارا، فجحده وخانه.
والذي حمل هذه الطائفة من اليهود على الخيانة: زعمهم أن التوراة تبيح لهم أكل أموال الأميين وهم العرب، قائلين: إنه لا تبعة ولا إثم عليهم في أكل أموال العرب بل وكل ما عدا اليهود، إذ هم شعب الله المختار، فلهم السمو والتفوق
(١) البحر المحيط: ٢/ ٥٠١ [.....]
266
العنصري على غيرهم، وأما من سواهم فلا حرمة له عند الله، فهو مبغوض عنده، محتقر لديه، ولا حق له ولا حرمة، روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام، وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية مانعة من ذلك «١».
وهذا أمر مرفوض في شرعة الله التي لا تفرق في أداء الحقوق بين المؤمن والكافر، ولكنهم اليهود الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويتأوّلون النصوص على وفق أهوائهم. ومن أمثلة ذلك أيضا: ما رواه ابن جرير الطبري: أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن، فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
فليحذر أتباع شرع مثل فعل اليهود، روى عبد الرزاق وأبو إسحاق أنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة: الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فماذا تقولون؟ قال: نقول: ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ إنهم إذا أدّوا الجزية، لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر»
هذا ردّ عليهم.
وردّ الله عليهم أيضا بأنهم يكذبون على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم، وهم يعلمون كذبهم الصريح فيه لأن التوراة خالية من هذا الحكم الجائر وهو خيانة الأميين.
(١) البحر المحيط: ٢/ ٥٠٠
267
بل إن حكم التوراة عكس ذلك، فإنها توجب الوفاء بالعقود، وتأمر بوفاء الأمانات، وقال الله لهم: بلى عليهم في الأميين سبيل العذاب بكذبهم، واستحلالهم أموال العرب، فمن اقترض إلى أجل، أو باع بثمن مؤجل، أو اؤتمن على شيء مثلا، وجب عليه الوفاء به، وأداء الحق لصاحبه في حينه، دون حاجة إلى إلحاح في الطلب أو تقاض، وهكذا فإن كل من أوفى بما عاهد عليه، واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإن الله يحبه ويرضى عنه لأن الله عهد إلى الناس في كتبه أن يلتزموا الصدق والوفاء بالعهود والعقود.
وليس العهد مقصورا على الوفاء بالعقود والالتزامات وأداء الأمانات وإنما يشمل أيضا عهد الله تعالى: وهو الوفاء بما التزم به المؤمن من تكاليف وأوامر وواجبات شرعية. ولو وفي اليهود بعهودهم لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أنصفوا لما فرقوا في وفاء العهد بين اليهودي وغيره.
ثم بيّن الله تعالى جزاء الذين يخونون العهد، ويكتمون ما أنزل الله، ويبدلون بالحق الباطل، ويستبدلون بكلام الله وأوامره عوضا حقيرا، وثمنا قليلا: وهو متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك، ذلك الجزاء هو خسارة نعيم الآخرة، واستحقاق غضب الله وسخطه، وعدم الثناء عليهم، وانعدام الإحسان إليهم والرحمة بهم، والاستهانة بأحوالهم وأوضاعهم، ولهم عذاب مؤلم شديد في نار جهنم.
وقد عبر الله تعالى عن كل ذلك بطريق المجاز، فجعل نكث العهد وأخذ شيء مقابله بمثابة الشراء والمعاوضة، ولكنها صفقة خاسرة لأن المقابل أو الثمن مهما كان كثيرا، فهو في الواقع قليل إذا قيس بعظم الجرم والذنب وشدة العقاب الذي يلقاه في الآخرة.
268
فقه الحياة أو الأحكام:
أخبر الله تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يستطيعون التمييز بينهم، فعليهم اجتناب جميعهم. وخصّ أهل الكتاب بالذكر، وإن كان المؤمنون كذلك لأن الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب. والأمين لا فرق عنده بين الكثير والقليل، فمن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر.
واستدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم (المدين) بقوله تعالى:
إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً وأباه سائر العلماء.
والأمانة عظيمة القدر في الدّين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرّحم على جنبتي الصراط، كما في صحيح مسلم، فلا يمكّن من العبور بسلام إلا من حفظهما.
وليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم، في رأي المالكية، خلافا لمن ذهب إلى ذلك لأن فسّاق المسلمين يوجد فيهم من يؤدّي الأمانة، ويؤمن على المال الكثير، ولا يكونون بذلك عدولا، فطريق العدالة وقبول الشهادة لا يدل عليه أداء الأمانة في المال في التعامل والوديعة.
ولا يوجد في شرع الله مطلقا التفريق في أداء الحقوق والأمانات بين المؤمن وغيره لأن الحق مقدس، لا تتأثر صفته بشخص مستحقه، أما اليهود فلم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته.
ودلّ قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ على أن الكافر ليس أهلا لقبول شهادته لأن الله تعالى وصفه بأنه كذّاب. وفيه ردّ على الكفرة الذين يحرّمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله، ويجعلون ذلك من الشرع.
269
وإن الوفاء بالعهد: عهد الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وعهد الناس في المعاملات والعقود والأمانات من الإيمان، بل من أجل خصال الإيمان، وهو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته ورضوانه. أما الانتساب إلى أمة أو عنصر أو شعب بعينه فلا أثر له عند الله. وإن خائن العهد ليس من التقوى في شيء، بل هو في زمرة المنافقين، وإن آكل المال بالباطل يستحق غضب الله وسخطه،
روى أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق، لقي الله وهو عليه غضبان»
وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس حديثا هو: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له».
وجزاء ناكثي العهد وخائني الأمانات أشدّ عند الله من مرتكبي بقية الكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر ولعب الميسر وعقوق الوالدين لأن مفسدة نقض العهد عامة شاملة، وضررها أعظم وأخطر.
ودلت هذه الآية وأحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم المتقدمة على أن حكم الحاكم لا يحلّ المال في الحقيقة والباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه،
روى الأئمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة».
ورأى أبو حنيفة أن قضاء القاضي ينفذ في الظاهر والباطن إذا حكم بعقد أو فسخ أو طلاق لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث السابق فهو في قضية لا بينة فيها، فإذا ادّعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي- دون أن يعلم بزور الشهود- بالنكاح
270
بينهما، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حلّ للرجل ووطؤها، وحلّ لها التمكين.
ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان الرجل منكرا. ويقاس عليه البيع ونحوه.
من أكاذيب اليهود:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
المفردات اللغوية:
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ من اللّي وهو الفتل والعطف، أي يفتلون ألسنتهم ويميلونها ويعطفونها عن الكلام المنزل إلى المحرّف والمبدل كإثبات النبوة الحقيقية لعيسى عليه السلام، بدلا من المعنى المجازي الوارد على لسان عيسى، وكتحريف صفة نبي آخر الزمان. لِتَحْسَبُوهُ أي المحرف مِنَ الْكِتابِ الذي أنزله الله. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون.
سبب النزول:
عن ابن عباس: قال عن هذه الفئة الثالثة من أهل الكتاب الذين افتروا على الله ما لم يقله: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف- وكان من ألدّ أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم- غيّروا التوراة، وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه، فخلطوه بالكتاب الذي عندهم «١».
(١) الكشاف: ١/ ٣٣١
271
التفسير والبيان:
إن من أهل الكتاب جماعة من أحبارهم وعلمائهم وزعمائهم، وهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحييّ بن أخطب وغيرهم، يفتلون ألسنتهم بقراءة كتابهم المنزل عن الصحيح إلى المحرّف، بالزيادة في كلام الله أو النقص أو تغيير المعنى، أو قراءته بنغمة توهم الناس أنه من التوراة، وتجعلهم يظنون أن ذلك المحرّف من كلام الله، وما هو من عند الله، فهم كاذبون فيما يقولون، فإنهم يدعون أنه من عند الله، وهذا تأكيد لقوله: هُوَ مِنَ الْكِتابِ.
فهم لم يكتفوا بالتعريض ولكنهم يصرحون بنسبة الكلام إلى الله كذبا، لفرط جرأتهم على الله وقساوة قلوبهم، ويأسهم من الآخرة. وبناء عليه سجّل الله تعالى عليهم صفة الكذب الدائمة الملازمة لهم وهي افتراء الكذب على الله عمدا، لا خطأ لأنهم يعلمون تمام العلم أنه كذب وافتراء محض، فهذه الجملة تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب.
من أمثلة ليّ لسانهم: أنهم كانوا إذا سلّموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخفوا لام «السلام» وقالوا: «السام عليكم» والسام هو الموت. ومن الأمثلة قولهم:
راعِنا من الرعونة والحمق، لا من الرعاية، كما جاء في آية: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ [النساء ٤/ ٤٦].
التحريف والتبديل: هذا وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة في تحريف التوراة والإنجيل، منها هذه الآية، وآية النساء المتقدمة، وآية البقرة:
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة ٢/ ٧٥] وآية المائدة:
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ
272
الْكِتابِ
[المائدة ٥/ ١٥] والآية الأخرى في المائدة: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [المائدة ٥/ ١٣] وآيات الإسراء: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء ١٧/ ٤- ٧] وآية إبراهيم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم ١٤/ ٩] وآية الأنعام: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها، وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام ٦/ ٩١].
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبتت الآية صفتين شنيعتين لليهود والنصارى وهما تحريف التوراة والإنجيل، وتأويلهما، ووضع كتب يكتبونها من عند أنفسهم، والكذب والافتراء على الله. وهاتان الصفتان يصدر عنهما عادة أسوأ الأفعال وأخس المؤامرات، وأخطر أنواع التضليل والتدليس والخداع الذي يمارسونه في حق البشرية.
افتراء أهل الكتاب على الأنبياء
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
273
الإعراب:
وَلا يَأْمُرَكُمْ على قراءة النصب معطوف على أَنْ يُؤْتِيَهُ أو على ثُمَّ يَقُولَ وضميره وهو «كم» للبشر. وعلى قراءة الرفع على الاستئناف والاقتطاع مما قبله، وتكون لا بمعنى «ليس» والضمير المرفوع في يَأْمُرَكُمْ لله تعالى.
البلاغة:
يوجد طباق بين لفظ بِالْكُفْرِ ومُسْلِمُونَ.
لا يَأْمُرَكُمْ الهمزة للاستفهام الإنكاري أي لا ينبغي له.
المفردات اللغوية:
لِبَشَرٍ إنسان ذكرا أو أنثى، واحدا أو جمعا. وَالْحُكْمَ الحكمة وهي فقه الشريعة وفهم القرآن، وذلك يوجب العمل به. عِباداً مفرده عبد بمعنى عابد. رَبَّانِيِّينَ واحده رباني:
منسوب إلى الرب لأنه عالم به مواظب على طاعته، مثل: رجل إلهي. فالمراد بالربانيين: هم العلماء الفقهاء العاملون المنسوبون إلى الرب. قال محمد بن الحنفية حين مات ابن عباس: «اليوم مات ربانيّ هذه الأمة». تَدْرُسُونَ تقرؤون الكتاب.
سبب النزول:
أخرج ابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله، ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ قال: معاذ الله، فأنزل الله في ذلك: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن البصري قال: بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله، نسلّم عليك، كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟
قال: لا، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، فأنزل الله: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
274
والغرض من الآية تكذيب أهل الكتاب الذين يعظمون عيسى والعزير تعظيم عبادة.
التفسير والبيان:
لا ينبغي لبشر ينزل الله عليه الكتاب، ويعلمه الحكمة: فقه الدين ومعرفة أسرار الشرع، ويؤتيه النبوة والرسالة، ثم يقول بعد هذا للناس: اعبدوني من دون الله أي متجاوزين ما يجب من إفراد العبادة لله تعالى، فهذا هو الشرك بعينه، وإنما يجب إخلاص العبادة لله وحده، كما قال: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر ٣٩/ ١٤].
وروى مسلم وغيره حديثا قدسيا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه»
وفي رواية: «فأنا منه بريء، هو للذي عمله».
وروى أحمد عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
ولكن يقول الرسول للناس: كونوا ربانيين أي علماء فقهاء عاملين بما أمر الله، مطيعين له طاعة تامة لأن العلم الصحيح هو الذي يبعث على العمل، وإن تعلم الكتاب الإلهي ودراسته يوجب الطاعة، ويحقق وصف الرباني. ولا يعقل أن يأمر الرسول باتخاذ إله أو رب غير الله، أو بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرّب. وقد كان مشركو العرب يعبدون الملائكة، وحكى القرآن: وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠]. وهذا كله مخالف لرسالات الأنبياء التي تأمر بعبادة الله وحده.
أيأمركم هذا النبي بالكفر بعد الإسلام، وهذه شهادة لهم بأنهم مسلمون، أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا
275
إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] وقال: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٤٥] وقال إخبارا عن الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء ٢١/ ٢٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
من المستبعد أن يأتمن الله تعالى رسولا أو نبيا على وحيه، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه، فإن الأمين يقوم عادة بما كلفه به المؤتمن له. وإنما تكون دعوة الأنبياء موجّهة نحو عبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تتطلب الإخلاص، قال تعالى: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر ٣٩/ ١٤] وقال:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ [البينة ٩٨/ ٥].
ودلّت الآية على أن العلم الصحيح والفقه وفهم أسرار الشريعة يستدعي العمل والطاعة والتزام التكاليف الشرعية لأن من عرف الله هابه، ومن هابه امتثل أمره، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله.
فمن تعلم علوم الشريعة وترك العمل بها فهو ساقط الاعتبار أمام الله، وكان علمه وبالا عليه، وحجة على ضلاله وهلاكه وفساده.
والتقرب إلى الله لا يكون إلا بالعمل بالعلم، والعلم الذي لا يبعث على العمل لا يعدّ علما صحيحا. والكفر يتنافى مع الإسلام، والإسلام دين الفطرة، وهو في عرف القرآن: دين جميع الأنبياء.
276
ميثاق الأنبياء بتصديق بعضهم بعضا وأمرهم بالإيمان
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
الإعراب:
لَما: من قرأ بكسر اللام علقها بأخذ، وما بمعنى الذي. ومن فتح اللام جعلها لام الابتداء، وهي جواب لما دل عليه الكلام من معنى القسم لأن أخذ الميثاق إنما يكون بالأيمان والعهود، ويجوز حينئذ أن تكون «ما» بمعنى الذي أو شرطيه، فإذا كانت بمعنى «الذي» كانت مرفوعة مبتدأ، وآتَيْتُكُمْ: صلته، والعائد محذوف تقديره: آتيتكموه، وخبر المبتدأ: مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ومِنْ: زائدة، وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ معطوف على الصلة، وعائده محذوف تقديره: ثم جاءكم رسول به.
وإذا كانت شرطية فهي في موضع نصب بآتيتكم، وآتَيْتُكُمْ في موضع جزم بما، وكذا ثُمَّ جاءَكُمْ. وقوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب قسم مقدر ينوب عن جواب الشرط، وحينئذ لا تحتاج الجملة إلى عائد، ولهذا كان هذا الوجه أوجه عند كثير من المحققين، لعدم العائد في الجملة المعطوفة إذا كانت شرطية.
طَوْعاً وَكَرْهاً منصوبان على المصدر في موضع الحال، أي طائعين ومكرهين.
البلاغة:
لَما آتَيْتُكُمْ التفات من الغيبة في قوله: النَّبِيِّينَ إلى الحاضر.
277
ويوجد جناس اشتقاق بين لفظ فَاشْهَدُوا والشَّاهِدِينَ.
ويوجد طباق بين طَوْعاً وكَرْهاً.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ اذكر حين قبل الله مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد الموثّق: وهو أن يلتزم المعاهد شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بمؤكدات أخرى من ألفاظ العهود. أَأَقْرَرْتُمْ أقرّ بالشيء: أخبر بما يلزمه أو بما يدل على ثبوته، مأخوذ من: قرّ الشيء: إذا ثبت في مكانه.
وَأَخَذْتُمْ قبلتم. إِصْرِي عهدي، الإصر: العهد المؤكد الذي يحمل صاحبه على الوفاء بما التزمه.
تَوَلَّى أعرض. بَعْدَ ذلِكَ الميثاق. الْفاسِقُونَ الخارجون عن الطاعة وحدود الله.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الهمزة للإنكار أي: أيتولون غير دين الله؟ وقدم المفعول الذي هو فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار متجه إلى المعبود بالباطل. وَلَهُ أَسْلَمَ انقاد. طَوْعاً اختيارا بلا إباء. وَكَرْهاً بالسيف بمعاينة ما يلجئ إليه.
المناسبة:
الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا، وعلى التخصيص المتضمنة خيانة أهل الكتاب بتحريفهم كلام الله، وتغييرهم أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموجودة في كتبهم، قصد بها حملهم على الإيمان برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وإثبات نبوته، وتؤكد هذه الآية القصد المذكور من طريق إقامة الحجة عليهم: وهو أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء من لدن آدم إلى عيسى عليهم السلام أن يؤمن كل واحد بمن يأتي بعده، ويصدق برسالته، وينصره في مهمته، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع المبعوث بعده ونصرته.
فإذا كان هذا هو ميثاق الأنبياء، فالواجب على أتباعهم الإيمان بكل المرسلين والتصديق بما معهم لأن رسالتهم واحدة، وهي رسالة الإسلام بالمعنى العام وبالمعنى الخاص الذي هو رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم: وهو الخضوع والانقياد لأوامر الله،
278
وإعلان مبدأ التوحيد، والتمسك بأصول الفضائل والأخلاق، وهو الدين الحق الذي لا يقبل الله سواه.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد لهم وقت أن قبل الله الميثاق المأخوذ على جميع الأنبياء أنهم مهما آتيناهم من كتاب وحكم ونبوة، ثم جاءهم رسول مصدق وموافق لما معهم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين: محمد صلّى الله عليه وسلّم، لتؤمنن به ولتنصرنه لأن رسالات الأنبياء يكمل بعضها بعضا، والقصد من إرسالهم واحد، فهم متفقون في الأصول، وأما اختلافهم في الفروع فهو لخير الإنسان ومصلحته، ولمناسبته مع تقدم وتطور الحياة الإنسانية.
فإن تعاصر نبيان مثلا في أمة واحدة مثل موسى وهرون عليهما السلام، كانا متفقين في كل شيء وإن اختلفت أقوامهما فالمتأخر يؤمن بدعوة المتقدم وبالعكس، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم عليهما السلام وأيده في دعوته، وإن تعاقبا مثل موسى وعيسى عليهما السلام صدق كل منهما بدعوة الآخر. وهكذا بعثة خاتم النبيين يجب على أتباع الأنبياء السابقين الإيمان بها وتأييدها. فليس الدين مصدر شقاق واختلاف، وسبب عداوة وبغضاء، كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو سبب تجمع واتحاد، وسبيل حب ووداد، وطريق إنقاذ وإسعاد.
ثم قال الله تعالى لمن أخذ عليهم الميثاق من النبيين: أأقررتم وقبلتم ذلك الإيمان والعهد بالرسول المصدق لما معكم، ونصرته وتأييده، أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟! قالوا: أقررنا واعترفنا بذلك، فقال تعالى: فليشهد بعضكم على بعض، وأنا معكم شاهد عليكم وعلى إقراركم، أعلم بكل شيء عنكم، لا يفوتني شيء.
روى
279
الشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال:
فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك»
.
هذه المحاورة على طريق التمثيل توكيد عليهم وتحذير من الرجوع عن الإقرار إذا عملوا بشهادة الله، وشهادة بعضهم على بعض.
فمن تولى بعد ذلك الميثاق والتوكيد، واتخذ الدين أداة للتفريق والعداء، ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان، المصدّق لمن تقدمه، المهيمن على الرسالات والكتب السابقة، كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك هم المتمردون من الكفار، الخارجون عن عهد الله وميثاقه، الناقضون العهد.
وإذا كان الدين واحدا، وأن الرسل متفقون في الأصول العامة لوحدة الدين الحق، كما بيّن تعالى، فلماذا ينكر أهل الكتاب نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم؟! أيتولون غير دين الله، وغير الحق بعد ما تبين، ويريدون غير الإسلام دينا؟ وقد أسلم وخضع لله تعالى وانقاد لحكمه ومراده أهل السموات والأرض، إما طوعا واختيارا من أنفسهم بالإنصاف والنظر في الأدلة، أو كرها بالسيف أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون والإشراف على الموت، فلما رأوا بأس الله وتصرفه بالكون والتكوين والإيجاد قالوا: آمنا بالله وحده، وإلى الله المرجع والمآب يوم المعاد، يرجع إليه سائر الخلق، فيجازي كلّا بعمله، سواء من أسلم وخضع وانقاد لله، ومن اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى، وهذا تهديد ووعيد لهم.
280
فقه الحياة أو الأحكام:
أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بعضا، فذلك معنى النصرة بالتصديق، ومن بنود الميثاق: أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم.
ثم جاءهم الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما عليهم إلا أن يؤمنوا برسالته ويؤيدوا دعوته، تنفيذا للميثاق العظيم على الأنبياء، إن كانوا من أتباعهم، ووفاء بالعهد المؤكد، ولأنه مصدّق لرسالات الأنبياء السابقين لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف، وهم قد شهدوا على بعضهم بموجب الميثاق وشهد الله عليهم جميعا به.
ومن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب.
ومن أعرض عن اتباع رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتولى من أمم الأنبياء أو من غير أممهم عن الإيمان بوحدانية الله وبصدق رسالة خاتم الأنبياء، بعد أخذ الميثاق، فأولئك هم الخارجون عن دائرة الإيمان، المصنّفون مع الكفار المتمردين عن طاعة الله.
أهم يطلبون غير دين الله؟! وقد خضع لحكمه أهل السموات والأرض، وكل مخلوق هو منقاد مستسلم لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه.
قال الكلبي: إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أيّنا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من دينه» فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزل: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ يعني: يطلبون.
281
وهذه الآية نظير قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف ٤٣/ ٨٧] وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥].
عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابّة أحدكم أو كانت شموسا «١»، فليقرأ في أذنها هذه الآية: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.
والخلاصة: إن الدين الحق هو الانقياد لله والإخلاص له، وإن دين الله واحد، وإن رسالات الأنبياء ومللهم واحدة في أصولها العامة، وإن الأنبياء يكمل بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا ويؤيد دعوته، وهم جميعا عبيد لله مؤمنون بوحدانيته، مذعنون لوجهه الكريم، مخلصون له الدين حنفاء، وقد أدّوا رسالتهم على الوجه الأكمل، وما على البشرية إلا التزام منهجهم، والسير على سنتهم، دون اختلاف ولا نزاع ولا معاداة، ولا تمسك بالموروثات، وبما عندهم من كتاب وحكمة، فقد انصبّت كل الأديان في الإسلام في صورته الأخيرة، وانصهرت كل الأحكام في حكم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان القرآن مصدّقا لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السماوية ومهيمنا عليها، ودين الله الواحد: هو عبادة الله وحده لا شريك له الذي أسلم له من في السموات والأرض، أي استسلم له من فيهما طائعين أو كارهين، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد ١٣/ ١٥] وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ، وَالْمَلائِكَةُ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل ١٦/ ٤٨- ٥٠] فالمؤمن مستسلم بقلبه
(١) الشموس: الدابة النفور التي لا تخضع لأمر صاحبها.
282
وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، بالقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع.
الإيمان بكل الأنبياء وقبول دين الإسلام
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
الإعراب:
قُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ فيه وجهان: أحدهما- على تقدير محذوف: قل: قولوا: آمنا بالله، وحذف القول كثير في القرآن وكلام العرب. الثاني- أن يكون المقصود من خطاب النبي عليه الصلاة والسلام خطاب أمته، مثل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ومثل: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد به الأمة.
دِيناً منصوب إما لأنه مفعول يَبْتَغِ، ويكون غَيْرَ حالا منصوبا، تقديره:
ومن يبتغ دينا غير الإسلام، فلما قدم صفة النكرة عليها انتصبت على الحال، أو لأنه منصوب على التمييز.
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ.. متعلق بفعل مقدر تقديره: وهو خاسر في الآخرة، من الخاسرين، ولا يجوز أن يتعلق بالخاسرين لأن الألف واللام فيه بمنزلة الاسم الموصول، فلو تعلّق به لأدى إلى أن يتقدم معمول الصلة على الموصول، وهو لا يجوز.
البلاغة:
وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ هو من عطف العام على الخاص.
283
المفردات اللغوية:
وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني القرآن. وَالْأَسْباطِ الأحفاد وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وأبناؤهم، وخصهم بالذكر لأن أهل الكتاب يقرّون بنبوتهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالتصديق والتكذيب. مُسْلِمُونَ موحدون مخلصون له عبادتنا، ومستسلمون مطيعون له.
غَيْرَ الْإِسْلامِ يعني التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى، ويمكن أن يراد به شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. مِنَ الْخاسِرِينَ أريد به تضييع رصيد الفطرة وهو الانقياد لله وطاعته.
سبب النزول، نزول الآية (٨٥) :
قال مجاهد والسدّي: نزلت هذه الآية في الحارث بن سويد أخو الحلاس بن سويد، وكان من الأنصار، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه، ولحقوا بمكة كفارا، فنزلت هذه الآية، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة. قال ابن عباس: وأسلم بعد نزول الآيات.
المناسبة:
ذكر فيما سبق ميثاق النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وينصروه، وهنا أمر لمحمد وأمته أن يؤمنوا بجميع الأنبياء المتقدمين وبكتبهم وبالإسلام الذي هو دين الأنبياء قاطبة.
التفسير والبيان:
قل يا محمد: آمنت وأمتي بوجود الله ووحدانيته وسلطانه. فهذا أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يخبر عن نفسه وعن أمته بالإيمان، فلذلك وحّد الضمير في قُلْ وجمع في آمَنَّا، ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من الله لقدر نبيه، كما ذكر الزمخشري.
وآمنا بما أنزل علينا وهو القرآن، وصدقنا بما أنزل الله من وحي على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريته الأسباط، فجوهر المنزّل واحد، كما قال
284
تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء ٤/ ١٦٣].
وصدّقنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل وسائر المعجزات.
وخص هذان النبيان بالذكر، تبيانا لأتباعهم وهم اليهود والنصارى بأن الإيمان عام في منهج القرآن.
وكذلك صدقنا بما أوتي بقية النبيين من رسالات كداود وسليمان وصالح وهود وأيوب وغيرهم ممن لم نعلم قصصهم.
وقدم الإيمان بالله على الإيمان بالكتب لأنه المصدر والأساس، وقدم المنزل علينا وهو القرآن، مع أنه متأخر عن نزول الكتب الأخرى لأنه طريق المعرفة بما سبق، ولأنه المهيمن على سائر الكتب السماوية، ولأنه الكتاب الإلهي إلى الأبد، وأما غيره فاندثر وضاع، ثم بدّل وغيّر.
والأمر بالإيمان بالله وبأنبيائه أمر شامل عام، لا يختلف فيه أهل ملة عن غيرهم، ولا تفرقة فيه بين الأنبياء تصديقا وكفرا، فلسنا في ذلك كاليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بالكل على أن كل نبي مرسل من قبل الله تعالى، ونحن له مستسلمون منقادون له بالطاعة.
وبعد الأمر بالإيمان جاء الأمر بالإسلام لأن الإيمان بوجود الله وهو التصديق به هو الأصل، وعنه يصدر العمل الصالح، وأما الإسلام فهو توحيد الله وإخلاص العبادة له والانقياد لشرعه ومنهجه، وهو يأتي تبعا لأصل الاعتقاد.
ومن يطلب غير الإسلام (وهو التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى) دينا، فلن يقبل منه قطعا، وهو من الذين وقعوا في الخسران مطلقا لأنه سلك طريقا سوى ما شرعه الله، وأضاع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من توحيد الله
285
والانقياد لأوامره، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر ٣٩/ ١٥]،
وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم عن عائشة: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ»
وقال أيضا فيما رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجّسانه».
فقه الحياة أو الأحكام:
إن خلود شريعة الإسلام نابع من شيئين: أولهما- الإيمان الشامل المطلق بكل الأنبياء وبكتبهم ورسالاتهم، دون تفرقة بين أحد منهم، فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله.
وثانيهما- الإيمان بوجود الله ووحدانيته، والانقياد لطاعته، والتزام منهجه وشرعه، وهو شرع الأنبياء، ودين الرسل الذي ارتضاه لعباده، وجعله أساس الاحتكام إليه، وطريق النجاة به يوم المعاد، فمن سلك طريقا آخر سوى ما شرعه الله، فلن يقبل منه قطعا في الآخرة، وكان من الذين خسروا أنفسهم، وأضاعوا حياتهم في غير المفيد لهم.
أنواع الكفار من حيث التوبة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٩١]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
286
الإعراب:
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ: أُولئِكَ: مبتدأ، وجَزاؤُهُمْ: مبتدأ ثان، وأَنَّ عَلَيْهِمْ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون جَزاؤُهُمْ بدلا من أُولئِكَ بدل اشتمال، وأَنَّ عَلَيْهِمْ خبر أُولئِكَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء متصل.
خالِدِينَ فِيها حال من ضمير عَلَيْهِمْ ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ حال أخرى، ويجوز أن يكون مستأنفا منقطعا عن الأول.
وَهُمْ كُفَّارٌ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير ماتُوا. ذَهَباً تمييز. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما: نافية، ومِنْ: زائدة، وناصِرِينَ:
مبتدأ، ولَهُمْ: خبره، والجملة الاسمية حال من ضمير لَهُمْ الأول. ودخلت الفاء في خبر إن فَلَنْ يُقْبَلَ لشبه الذين بالشرط، وإيذانا بتسبب الكفر لعدم القبول.
البلاغة:
أَلِيمٌ مؤلم، وهو صيغة فعيل للمبالغة.
المفردات اللغوية:
كَيْفَ يَهْدِي أي لا يهدي. الْبَيِّناتُ الحجج الظاهرات على صدق النبي.
الظَّالِمِينَ أي الكافرين، والظلم: الانحراف عن سبيل الحق والعدل. لَعْنَةَ اللَّهِ اللعن:
الطرد والإبعاد من رحمة الله. خالِدِينَ فِيها أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها.
يُنْظَرُونَ يمهلون ويؤخرون.
287
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بعيسى بَعْدَ إِيمانِهِمْ بموسى ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إذا غرغروا أو ماتوا كفارا. مِلْءُ الْأَرْضِ مقدار ما يملؤها. أَلِيمٌ مؤلم.
ناصِرِينَ مانعين منه.
سبب النزول: نزول الآية (٨٦) :
روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله: هل لي من توبة؟ فنزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأرسل إليه قومه، فأسلم.
وأخرج مسدّد في مسنده وعبد الرزاق عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم كفر، فرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه القرآن:
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ فحملها إليه رجل من قومه، فقرأها عليها، فقال الحارث: «إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة» فرجع وأسلم وحسن إسلامه.
وقال الحسن البصري وقتادة: نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشّرون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ويستفتحون على الذين كفروا، فلما بعث عاندوا وكفروا، فأنزل الله عز وجل: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أخرجه عبد بن حميد وغيره «١».
أي أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم، وأقروا بذلك، وشهدوا أنه حق، ولذا كانوا يستفتحون به
(١) البحر المحيط: ٢/ ٥١٩
288
على المشركين، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك، وأنكروه، وكفروا به بعد إيمان سابق.
وأرى أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول، وإن كانت القرائن ترجح أن الآية نزلت في أهل الكتاب- ومثلهم المشركون- لأن الآيات السابقة تدور حول محاورتهم ومناقشتهم واستئصال جذور الشرك من نفوسهم.
وهذا ما رجحه أيضا ابن جرير الطبري، وأيده في (تفسير المنار).
مجمل بيان الآيات: هذه الآيات جعلت الكفار أصنافا ثلاثة:
١- الذين تابوا توبة صادقة، وهم الذين أشارت إليهم الآية: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا.
٢- الذين تابوا توبة غير صحيحة، وهم المذكورون في قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
٣- الذين لم يتوبوا أصلا وماتوا على الكفر، وهم الموصوفون بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.
التفسير والبيان:
كيف يهدي الله قوما كاليهود والنصارى الذين كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حق، وأرشدتهم الآيات الواضحات من القرآن والكتب السابقة وسائر المعجزات الدالة على صدق نبوته وصحة رسالته؟! هذا استبعاد لهداية هؤلاء وتيئيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم منهم، كما قال البيضاوي. فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات، مع إزالة الموانع من النظر فيها على النحو المؤدي إلى المطلوب، وقد مكنهم الله من هذا كله، وآمنوا به ثم كفروا.
289
والله لا يهدي أولئك الظالمين لأنفسهم لأنهم عرفوا الحق وحادوا عنه، وتركوا دلائل النبوة، وهداية العقل.
فجزاؤهم استحقاق غضب الله وسخطه والطرد من رحمته، وسخط الملائكة والناس، وصبّ اللعنات عليهم، والدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله في الدنيا، وكذا في الآخرة، كما قال تعالى: وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت ٢٩/ ٢٥].
وهم خالدون أبدا في اللعنة أو في النار لأن مستحق اللعنة جزاؤه النار، ولا يخفف عنهم العذاب ساعة واحدة، ولا يؤجلون لعذر يعتذرون به.
ثم استثنى الله تعالى التائبين، فمن تاب من هؤلاء عن ذنبه، وترك الكفر، ورجع إلى الله، وأصلح قلبه وعمله، وندم على ما فعل، فإن الله غفور لما تقدّم منه، رحيم بعباده كما قال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [الشورى ٤٢/ ٢٥]. هذا هو الصنف الأول من الكفار وهم التائبون.
وأما الصنف الثاني فهم أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وشهدوا قبل بعثته أنه حق، ثم كفروا به بعد البعث، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد، ومقاومة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومحاربة المؤمنين، فهؤلاء لن تقبل توبتهم ما داموا على الكفر، ثم ماتوا وهم كفار، وأولئك هم الواقعون في الضلال، المخطئون سبيل الحق والنجاة، الذين تمكن الكفر في قلوبهم.
والآية تشير إلى أن الكفر يزداد قوة واستقرارا، وتمكنا في القلب بعمل ما يقتضيه ويقويه وينميه، من طريق القيام بأعمال تنافي الإيمان، وتدعم الكفر وأهله. وكذلك الإيمان يزداد وينقص بعمل الصالحات أو بالإنقاص منها، كما
290
قال تعالى في الحالين: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة ٩/ ١٢٤- ١٢٥].
والتوبة سبيل التزكية والتطهير والإصلاح، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٩- ١٠] فمن أهمل إصلاح نفسه خسر، ومن حاول الإصلاح نجح، فإذا تراكمت المساوئ، وأهملت تزكية النفس، وتدنست بالمعاصي الكثيرة، صعب في العادة الرجوع إلى جادة الاستقامة. وهذا ما أشارت إليه آيات التوبة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [النساء ٤/ ١٧- ١٨].
وأما الصنف الثالث فهم الذين يموتون وهم كفار، فهؤلاء لن يقبل منهم الفداء، ولو كان ملء الأرض ذهبا، ولو افتدى به في الآخرة، لا يقبل منه، على افتراض أنه يملكه، ويريد استخدامه وسيلة النجاة، ولهم عذاب أليم أي عقاب مؤلم، وليس لهم ناصر ولا شفيع يمنع عنهم العذاب، أو يخففه، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مَأْواكُمُ النَّارُ، هِيَ مَوْلاكُمْ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد ٥٧/ ١٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
صنفت الآيات الكفار إلى أصناف ثلاثة بحسب بقائهم على الكفر وقبولهم الإيمان، وهو تصنيف صريح واقعي.
فمن كفر بعد إسلامه، وكان ظالما مقيما على الظلم لا يهديه الله ما دام مقيما
291
على كفره وظلمه، ولا يقبل على الإسلام، وله جزاء شديد هو استحقاق غضب الله وسخطه، والخلود في نار جهنم، دون تخفيف لشيء من العذاب، ولا تأجيل له لمعذرة ما. فأما إذا أسلم هؤلاء وتابوا، وأصلحوا ما أفسدوا، فباب المغفرة والرحمة مفتوح لهم. وهذا الباب مفتوح أيضا بالأولى لمن كان مسلما عاصيا ثم تاب وأصلح وأخلص عمله لله.
ولن تقبل التوبة من الكفار الذين كفروا بعد إيمانهم، وبقوا مقيمين على الكفر، وسماها الله تعالى توبة غير مقبولة لأنه لم يصح منهم عزم عليها، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم وصدقت الإرادة.
كما لا تقبل توبتهم إذا عزموا عليها عند الموت، كما قال عز وجل: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء ٤/ ١٨] ويؤيده
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».
ومن مات كافرا فلن يقبل منه خير أبدا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة، ولن ينفعه بعد موته بديل ولا فداء مهما كثر، كما قال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ [البقرة ٢/ ١٢٣] وقال:
لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [البقرة ٢/ ٢٥٤] وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ، لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة ٥/ ٣٦].
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» «١».
(١) هذا لفظ البخاري، وقال مسلم بدل «قد كنت» :«كذبت، قد سئلت» وقد تقدم الحديث قريبا في تفسير الآية (٨١).
292
وأما عدم جدوى فعل الخير الذي صدر منه في الدنيا، ففيه حديث آخر وهو
أن عبد الله جدعان سئل عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان يقري الضيف، ويفك العاني «١»، ويطعم الطعام: هل ينفعه ذلك؟ فقال: «لا، إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
نوع النفقة المبرورة وجزاء الإنفاق
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
المفردات اللغوية:
لَنْ تَنالُوا لن تصيبوا وتجدوا. الْبِرَّ كلمة جامعة لوجوه الخير، والمراد بها هنا: لن تنالوا ثواب البر وهو الجنة. تُنْفِقُوا تصدّقوا. مِمَّا تُحِبُّونَ من أموالكم. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازي عليه.
المناسبة:
ادعى أهل الكتاب في الآيات السابقة الإيمان، وأن النبوة محصورة فيهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وناسب هنا أن يذكّرهم بأن آية الإيمان هو الإنفاق في سبيل الله من أحب الأموال، مع الإخلاص.
التفسير والبيان:
لن تصلوا إلى ثواب البر وهو الجنة، ولن تكونوا بررة تستحقون رضوان الله وفضله ورحمته، وصرف عذابه عنكم، حتى تنفقوا من أحب الأموال إليكم من
(١) العاني: الأسير.
293
كرائم الأموال. وما تنفقون من شيء، سواء أكان كريما أم رديئا، فإن الله به عليم فيجازي عليه، ولا يخفى عليه أمر الإخلاص والرياء.
ومما يدل على سمو رتبة الصحابة أنهم كانوا يتصدقون بأحب الأموال لديهم،
روى الأئمة الستة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «١» (بستان في المدينة) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال أبو طلحة:
يا رسول الله، إن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: بخ بخ (كلمة استحسان تدل على الرضا والإعجاب) ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وفي رواية لمسلم: فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب.
قال العلماء: إنما تصدّق به النبي صلّى الله عليه وسلّم على قرابة المصدّق لوجهين: أحدهما- أن الصدقة في القرابة أفضل، الثاني- أن نفس المتصدق تكون بذلك أطيب وأبعد عن الندم.
وكذلك فعل زيد بن حارثة،
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية، جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها (سبل) لم يكن له مال أحب إليه منها فقال: هي صدقة، فقبلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحمل عليها ابنه أسامة- أي أعطاها له-، فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه (أي حزن)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قد قبلها منك».
(١) وضبطها ابن العربي «بيرحاء» وفي الموطإ: «وكانت أحب أمواله إليه بئرحاء».
294
وفي الصحيحين: أن عمر قال: يا رسول الله، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: «حبّس الأصل، وسبّل الثمرة».
وأعتق ابن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار، قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأوّل قول الله عز وجل: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وأخرج عبد بن حميد والبزار عن ابن عمر قال:
حضرتني هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ، فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحبّ إليّ من مرجانة (جارية رومية) فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها، فأنكحتها نافعا (مولاه الذي كان يحبه). ولم يمت ابن عمر إلا وأعتق ألف رقبة.
أما معنى البر فاختلفوا في تأويله على أقوال ثلاث: الجنة، أو العمل الصالح، أو الطاعة، والتقدير على المعنى الأول: لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون أي لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون، وعلى المعنى الثاني: لن تصلوا إلى العمل الصالح... وعلى المعنى الثالث وهو معنى جامع: لن تصلوا إلى الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات حتى تنفقوا مما تحبون. وقال الحسن البصري: حَتَّى تُنْفِقُوا: هي الزكاة المفروضة. والأولى أن يكون المراد كما قال الزمخشري: لن تبلغوا حقيقة البر حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها، كقوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [البقرة ٢/ ٢٦٧].
وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أمرين:
الأول- أن يكون الإنفاق في سبيل الله للوصول إلى حقيقة البر من أحب
295
الأموال وأفضلها عند مالكها، وبمقدار طيبها وحسنها يكون الثواب عليها.
الثاني- الترغيب والحث على إخفاء الصدقة، بعدا عن الرياء، وإخلاصا في العمل لوجه الله، وترفعا عن نفاذ الشيطان إلى قلب المؤمن الصالح.
انتهى الجزء الثالث ولله الحمد
296

[الجزء الرابع]

[تتمة سورة آل عمران]
الرّد على اليهود في تحريم بعض الأطعمة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
البلاغة:
قُلْ: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ الأمر للتوبيخ واللوم.
المفردات اللغوية:
الطَّعامِ المراد به هنا المطعومات كلها، ويكثر استعماله في البرّ وفي الخبز. حِلًّا حلالا. إِسْرائِيلَ لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه: الأمير المجاهد مع الله، ثم أطلق على جميع ذريته، فالمراد الآن شعب إسرائيل لا يعقوب نفسه. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى، وذلك بعد إبراهيم، ولم تكن المطعومات على عهده حراما كما زعموا. افْتَرى
اختلق الكذب. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، لا من عهد إبراهيم. الظَّالِمُونَ
المتجاوزون الحق إلى الباطل. حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق.
المناسبة:
اشتملت سورة آل عمران من أولها إلى هنا على إقامة الدلائل على إثبات وحدانية الله، ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومحاجّة أهل الكتاب وإبطال مزاعمهم وبدعهم وتقاليدهم. وجاءت هذه الآيات وما بعدها إلى الآية (٩٧) حول البيت الحرام للرّد على شبهتين لليهود:
الأولى- قولهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وذريته، فكيف تستحلّ ما كان محرّما عندهم من الطعام كلحم الإبل؟ فنزلت الآية:
5
كُلُّ الطَّعامِ ردّا عليهم.
قال أبو روق والكلبي: نزلت حين قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه على ملّة إبراهيم، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم، فنحن نحلّه»، فقالت اليهود: كلّ شيء أصبحنا اليوم نحرّمه، فإنّه كان على نوح وإبراهيم، حتى انتهى إلينا، فأنزل الله عزّ وجلّ تكذيبا لهم: كُلُّ الطَّعامِ...
الثانية- قولهم أيضا: كيف تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وأنك أولى الناس به؟ وإبراهيم وإسحاق وذريته من الأنبياء كان يعظمون بيت المقدس ويصلّون إليه، فلو كنت على منهجهم لعظّمته، ولما تحوّلت عنه إلى الكعبة، فنزلت آية:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ... للرّد عليهم. قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء، وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
التفسير والبيان:
كلّ الطعام بأنواعه الطّيبة المباحة كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما حرّم إسرائيل أو شعب إسرائيل على نفسه، وهو لحوم الإبل وألبانها، وذلك قبل أن تنزل التوراة على موسى، والذي حرّم الله تعالى على شعب إسرائيل في التوراة هو بعض الطّيبات عقوبة لهم وتأديبا، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ٤/ ١٦٠]، وقال:
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام ٦/ ١٤٦]. والمراد في رأي بعضهم من
(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص ٦٥- ٦٦
6
إِسْرائِيلَ هنا ليس يعقوب عليه السّلام الذي ذكرت بعض الرّوايات «أنه لما حصل له عرق النّسا، فنذر إن شفي لا يأكل الإبل» لأنه كان بينه وبين نزول التوراة زمن طويل، وإنما المراد شعب إسرائيل كما هو مستعمل عند اليهود، والمعنى في تحريمهم أشياء على أنفسهم: أنهم كانوا سبب التحريم لارتكابهم الظلم واجتراح السيئات. هذا ما رجحه صاحب (تفسير المنار) «١».
أما الذي سار عليه جمهور المفسرين: فهو أن المراد بإسرائيل يعقوب عليه السّلام،
روى التّرمذي عن ابن عباس: أنّ اليهود قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم:
أخبرنا، ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: «كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النّساء، فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها، فلذلك حرّمها» قالوا:
صدقت، وذكر الحديث «٢».
وجاء في رواية الإمام أحمد أن اليهود سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء، فقالوا:
أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه؟ فقال: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا، وطال سقمه، فنذر لله نذرا: لئن شفاه الله من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الطّعام والشّراب إليه، وكان أحبّ الطّعام إليه لحم الإبل، وأحبّ الشّراب إليه ألبانها».
وخلاصة الجواب: كلّ أنواع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة، وإلا ما حرّمه الله في التّوراة على شعب إسرائيل من مطعومات تأديبا وزجرا لهم بسبب جرائم ومخالفات ارتكبوها، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته لم يرتكبوا هذه السّيئات والمخالفات، فلا تحرم عليهم هذه الطّيبات، وإبراهيم لم يكن محرّما عليه شيء من هذا لأن التّحريم حصل بعد نزول التّوراة، وكان كلّ طعام حلالا له.
(١) تفسير المنار: ٤/ ٤
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٣٤، تفسير الكشاف: ١/ ٣٣٥، تفسير ابن كثير: ١/ ٣٨١
7
ثم أمر الله نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالاحتكام إلى التوراة كتاب اليهود لتكذيب دعواهم، وقال لهم: فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم، لا تخافون تكذيبها لكم، ولو جئتم بها لوجدتم أن تحريم شيء على بني إسرائيل ما كان إلا عقوبة تأديبية زاجرة، فيظل غير الجاني على أصل الحلّ لأن الأصل في الأطعمة الحلّ والإباحة.
فمن اخترع الكذب على الله، وزعم أن التّحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التّوراة، وادّعى ما لم ينزله الله في كتابه، فأولئك هم الظالمون أنفسهم بطمس معالم الحق وإظهار الكذب على الله.
روي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة، فبهتوا، وفي ذلك دليل واضح على صحّة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه يعلم بوحي من الله ما في التوراة، وهو لم يقرأها لأمّيته المعروفة، وأنها مؤيّدة لما في القرآن.
وإذ ظهر الحقّ واندحر الباطل، قل لهم يا محمد: صدق الله فيما أخبرني به أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل، وأنه لم يحرّم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة، وأن ما حرّم الله على اليهود كان جزاء وتأديبا وعقوبة لهم بسبب أفعالهم القبيحة.
وإذ استبان الحق، وظهرت الحجّة عليكم، فعليكم اتّباع ملّة إبراهيم التي أدعوكم إليها، والتي تبيح أكل لحوم الإبل وألبانها، وهي الملّة الحنيفيّة السمحاء الوسط التي لا إفراط فيها ولا تفريط، وهي التي شرعها الله في القرآن، وكان إبراهيم حنيفيّا مائلا عن الأديان الأخرى الباطلة إلى الدّين الحقّ الذي يقوم على مبدأ التوحيد وإباحة الطّيبات، وما كان مشركا يدعو مع الله إلها آخر، أو يعبد سواه، كما يفعل عبدة الأوثان، ويدعيه اليهود أن عزيرا ابن الله، ويعتقده النصارى أن المسيح ابن الله.
8
فملّة إبراهيم القائمة على التوحيد: هي شرعة القرآن التي دعا إليها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهي الحقّ الذي لا مرية فيه، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ١٦١]، وهو الذي أمره الله به صراحة، كما جاء في آية أخرى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل ١٦/ ١٢٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
إن شريعة القرآن واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وهي التي تلتقي مع الشرائع السابقة في أصول الحلال والحرام، فلذا اتّفقت مع ملّة إبراهيم ومع ما كان مقررا من إباحة أنواع المطعومات كلها على بني إسرائيل، إلا أمرين:
الأول- ما حرّمه يعقوب (إسرائيل) على نفسه باجتهاد منه، لا بإذن من الله تعالى، على الصحيح لأن الله تعالى أضاف التّحريم إليه بقوله تعالى:
.. إِلَّا ما حَرَّمَ.. ، وأنّ النّبي إذا أدّاه اجتهاده إلى شيء، كان دينا يلزمنا اتّباعه، لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وقد حرّم نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم العسل على نفسه- على الرواية الصحيحة، أو خادمه «١» مارية، فلم يقرّ الله تحريمه، ونزل في القرآن: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم ٦٦/ ١]، وهل عليه الكفارة بتحريم المباح؟ رأيان لعلمائنا: أو حنيفة أجراه مجرى اليمين وجعله أصلا في تحريم كلّ مباح، والشافعي: لم يوجب فيه الكفارة، وجعله مخصوصا بموضع النّص.
وأما سبب تحريم يعقوب لحوم الإبل فهو كما قال ابن عباس: «لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النّسا، وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل، فحرّمها على نفسه، فقالت اليهود: إنما نحرّم على أنفسنا لحوم الإبل لأن يعقوب حرّمها، وأنزل الله تحريمها في التّوراة فأنزل الله هذه الآية:
(١) الخادم: الغلام أو الجارية.
9
قُلْ: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فلم يأتوا، فقال عزّ وجلّ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
».
قال الزّجاج: «في هذه الآية أعظم دلالة لنبوّة محمد نبينا صلّى الله عليه وسلّم، أخبرهم أنه ليس في كتابهم، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة، فأبوا، يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي».
الثاني- ما حرّمه الله في التّوراة على بني إسرائيل من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبة لهم على معاصيهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء ٤/ ١٦٠]، وقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى قوله: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام ٦/ ١٤٦].
ويرى الكلبي: أنه لم يحرّم الله عزّ وجلّ لحوم الإبل في التوراة عليهم، وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكان بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما، حرم الله تعالى عليهم طعاما طيّبا، أو صبّ عليهم رجزا وهو الموت، فذلك قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ... وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا....
ودلّت الآيات صراحة على اتّفاق شريعة القرآن مع ملّة إبراهيم، بل وملل الأنبياء قاطبة في الدّعوة إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ومحاربة الشرك والوثنية، واتّباع الإسلام بالمعنى العام: وهو الخضوع والانقياد إلى الله تعالى في كلّ ما أمر به وما نهى عنه.
منزلة البيت الحرام وفرضية الحج
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
10
الإعراب:
بِبَكَّةَ صلة الذي، وتقديره: استقرّ ببكّة. مُبارَكاً وَهُدىً منصوبان على الحال من ضمير: استقر. مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ وخبره محذوف تقديره: من الآيات مقام إبراهيم.
وقيل: هو بدل من الآيات. وَمَنْ دَخَلَهُ معطوف على مقام. ويجوز كونه مبتدأ منقطعا عما قبله، وكانَ آمِناً خبر المبتدأ. مَنِ اسْتَطاعَ إما بدل مجرور من الناس، وإما مرفوع بالمصدر وهو: حج البيت، وتقديره: أن يحج، ويجوز إضافة المصدر إلى المفعول، أو مرفوع على أن مَنْ شرطية مبتدأ، واستطاع: مجزوم بمن، وجواب الشرط محذوف تقديره، فعليه الحج.
والهاء في إِلَيْهِ إما عائدة على الحج أو على البيت.
البلاغة:
لَلَّذِي بِبَكَّةَ حذف الموصول للتفخيم وتقديره: للبيت الذي ببكّة.
وَمَنْ كَفَرَ وضع موضع «ومن لم يحجّ» تأكيدا لوجوبه. وكان إيجاب الحج بالجملة الاسمية للدلالة على الثبات والاستمرار. وفي الآية تدرج من التعميم إلى التخصيص، ومن الإبهام إلى التبيين، ومن الإجمال إلى التفصيل.
المفردات اللغوية:
بِبَكَّةَ مكّة، أبدلت ميمها باء، والعرب كثيرا ما تبدل الباء ميما وبالعكس، وسميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها. مُبارَكاً أي ذا بركة وكثير الخيرات. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم. آياتٌ بَيِّناتٌ علامات ودلائل. مَقامُ إِبْراهِيمَ موضع قيامه وعبادته، وفيه الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، فأثر قدماه فيه، وبقي إلى الآن، مع تطاول الزمان، وتداول الأيدي عليه. وهو من الآيات البينات، التي منها تضعيف الحسنات فيه وأن الطير لا يعلوه. حِجُّ الْبَيْتِ الحج لغة: القصد، شرعا: قصد بيت الله الحرام للنّسك.
سَبِيلًا طريقا، فسّره صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وغيره- بالزّاد والرّاحلة. وَمَنْ كَفَرَ بالله أو بما فرضه من الحجّ. فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ عن الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم.
سبب النزول:
نزول آية وَمَنْ كَفَرَ:
أخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «فرض الله على المسلمين حجّ البيت»، فقالوا:
11
لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجّوا، فأنزل الله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
وقد ذكرت عن مجاهد سبب نزول آية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ في مقدّمة تفسير الآيات السابقة.
التفسير والبيان:
إنّ البيت الحرام قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء: هو أوّل بيت وضع معبدا للناس، بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام للعبادة: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة ٢/ ١٢٧]، ثمّ بني المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون، بناه سليمان بن داود سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد، فكان جعله قبلة أولى، فيكون النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ملّة إبراهيم الذي كان يتّجه بعبادته إلى الكعبة المشرّفة.
فالبيت الحرام أول بيت عبادة، وهي أولية زمان، تستتبع أولية الشرف والمكانة، وله مزايا عديدة هي:
١- إنه مبارك كثير الخيرات، فهو بالرغم من كونه في واد غير ذي زرع، بصحراء جرداء، كما قال تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص ٢٨/ ٥٧]، ففيه الخضار والفواكه ومنتجات الدّنيا، وهو أيضا كثير البركة في الثواب والأجر، ففيه تضاعف الحسنات، ويستجاب الدّعاء.
٢- إنه مصدر هداية للناس، يتّجه إليه المصلّون، وتهواه الأفئدة، ويزحف إليه الملايين مشاة وركبانا، يأتون إليه من كلّ فجّ عميق، لأداء مناسك الحجّ والعمرة، ببركة دعوة إبراهيم عليه السّلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم ١٤/ ٣٧]، وقد
12
أجاب الله دعاء إبراهيم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ... الآية [الحجّ ٢٢/ ٢٧- ٢٨].
٣- فيه آيات واضحات، منها مقام إبراهيم (موضع قيامه للصلاة والعبادة) تعرفه العرب بالنقل المتواتر جيلا عن جيل، ويدلّ عليه أثر قدمه الشريف على الحجر.
٤- ومن دخله كان آمنا على نفسه وماله من أي اعتداء وإيذاء، فلا يسفك فيه دم حرام، ولا يقتل الشخص فيه ولو كان مطلوبا للثأر أو القصاص، لقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ٦٧]، وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص ٢٨/ ٥٧]، وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة ٢/ ١٢٥]، وكما دعا إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة ٢/ ١٢٦]. وقال عمر بن الخطاب: «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه».
وقال أبو حنيفة: «من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا، فالتجأ إلى الحرم، لم يتعرّض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه». واتّفقت قبائل العرب على تعظيمه واحترامه، بنسبته إلى الله، حتى إن القاتل اللاجئ إلى الحرم يصير فيه آمنا ما دام فيه.
قال الجصاص الرازي: «هذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إلى الحرم، وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله، ولما عبّر تارة بذكر البيت، وتارة بذكر الحرم، دلّ على أنّ الحرم في حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه» «١».
وقد أقرّ الإسلام ميزة البيت الحرام. وأما ما كان من فتح مكّة عنوة بالسّيف
(١) أحكام القرآن: ١/ ٢٣
13
فكان لضرورة تطهيره من الشّرك، ولأجل أن يعبد الله وحده، واستحلّ ساعة من نهار لم تحلّ لأحد بعد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم
أعلن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في السيرة: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
وأما ما حدث أيام الحجاج فهو شذوذ لم يقرّه عليه أحد، ولم يعتقد أحد حل ما فعل بابن الزّبير، وإنما هو ظلم وإلحاد فيه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج ٢٢/ ٢٥].
وأما بعض حوادث الاعتداء على الأنفس والأموال فهو فعل الفجار الفساق الذين لم يرعوا لله حرمة في كعبة ولا غيرها.
وأما ما أجازه الإمامان مالك والشافعي من الاقتصاص من القاتل عمدا في الحرم كله فهو عقوبة حقّ وعدل أمر بها القرآن الكريم، لا تجاوز فيها على أحد.
واتّفق أهل العلم على أنه إذا قاتل أحد في الحرم قتل، قال الله تعالى:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة ٢/ ١٩١]، ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه. روي عن ابن عبّاس وبان عمر وغيرهما من الصّحابة والتابعين، فيمن قتل غيره ثم لجأ إلى الحرم: إنه لا يقتل. قال ابن عبّاس: «ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ» «١».
٥- ومن مزايا البيت الحرام تجمع الحجيج فيه وجعل الحجّ واجبا على المسلمين، فيجب الحجّ على المستطيع منهم، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفي هذا تعظيم للبيت. واستطاعة السبيل إلى الشيء: إمكان الوصول إليه، والسبيل عام يشمل الشيء البدني والمالي، فالحج فريضة على كلّ مسلم ما لم يوجد مانع من
(١) المرجع السابق: ص ٢١
14
الوصول إلى الحرم، سواء أكان بدنيا أم ماليا أم بدنيا وماليا، فالبدني: كالمرض والخوف على النفس من العدو ومن السّباع، أي ألا يكون الطريق مأمونا.
والمالي كفقد الزّاد والرّاحلة إذا كان ممن يتعسّر عليه الوصول إلى البيت إلا بزاد وراحلة. والبدني والمالي معا: فقد الزّاد والراحلة والمرض أو عدم أمن الطريق.
وقد اتّفق أكثر العلماء على أنّ الزّاد والرّاحلة شرطان في الاستطاعة، بدليل
ما رواه علي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيما رواه الترمذي من حديث ضعيف: «من ملك زادا وراحلة تبلّغه بيت الله، ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا»
، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وفسّر الصحابة كابن عمر وغيره استطاعة السبيل:
بالزّاد والرّاحلة.
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي من جحد كون هذا البيت أول بيت وضع للعبادة، ولم يمتثل أمر الله في الحجّ، فإن الله غير محتاج إليه، إذ هو الغني عن جميع العالمين. والجمهور حملوا ذلك على تارك الحجّ إعراضا عنه مع توافر الاستطاعة، بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي وفيه ضعف: «من مات ولم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديّا أو نصرانيّا».
وبدليل
ما روي عن الضّحّاك في سبب النزول قال: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الأديان الستّة: المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمشركين والمجوس وقال فيما رواه أحمد وسلم والنسائي: «إنّ الله كتب عليكم الحج، فحجّوا» فآمن به المسلمون، وكفر به الباقون، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلّي ولا نحجّ، فأنزل الله قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
والغرض من الآية والأخبار التنفير من ترك الحجّ والتغليظ على المستطيعين حتى يؤدّوا الفريضة.
15
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية الأولى إلى أن البيت الحرام أول بيت وضعه الله للعبادة، بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام.
وهو يمتاز بمزايا عديدة هي وجود مقام إبراهيم عليه السّلام، وكونه ذا بركة وخير كثير، ومصدر هداية للناس، وسبب وحدة المسلمين لاتّجاههم إليهم في صلاتهم، وموضع أمن وسلام لمن دخله في الدّنيا: بمنع قتله والاعتداء عليه، وفي الآخرة: يكون آمنا من النّار، لقضاء النّسك معظّما له، عارفا بحقّه، متقرّبا إلى الله تعالى.
وأرشدت الآية الثانية إلى فرضيّة الحجّ على المستطيع الذي لم يجد مانعا من الوصول إلى البيت الحرام، وهو فرض في العمر مرّة، وتكراره كل خمس سنوات سنّة، لحديث في هذا المعنى
أخرجه ابن حبّان في صحيحة والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله عزّ وجلّ: إن عبدا صححت له جسمه، ووسّعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ المحروم»
أي من الأجر ومطرود من رضوان الله.
ودلّ الكتاب والسّنة على أنّ الحجّ على التّراخي، لا على الفور، وهو مذهب الشافعية ومحمد بن الحسن، قال القرطبي: وهو الصحيح لأن الله تعالى قال:
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا [الحج ٢٢/ ٢٧] وسورة الحج مكيّة، وقال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران ٣/ ٩٧]، وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة، ولم يحجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سنة عشر.
وورد في السّنة ما يدل على فرضية الحج مثل حديث ضمام بن ثعلبة السعدي قدم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله عن الإسلام، فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج.
واختلف في وقت قدومه، فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع.
قال ابن عبد البرّ: ومن الدّليل على أن الحج على التراخي: إجماع العلماء
16
على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخّره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حجّ من بعد أعوام من حين استطاعته، فقد أدّى الحجّ الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها، فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه، ولا كمن أفسد حجّه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حجّ بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاض لما وجب عليك، علمنا أن وقت الحج موسّع فيه، وأنه على التّراخي، لا على الفور.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والمالكية في أرجح القولين، والحنابلة: يجب الحجّ بعد توافر الاستطاعة وبقية شروط الوجوب على الفور في العام الأول، أي في أول أوقات الإمكان، فيفسق وتردّ شهادته بتأخيره سنينا لأنّ تأخيره معصية صغيرة، وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار، لأنّ الفورية ظنيّة، بسبب كون دليلها ظنيّا، كما ذكر الحنفيّة. واستدلّوا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة ٢/ ١٩٦]، والأمر على الفور. واستدلّوا أيضا بأحاديث منها:
«حجّوا قبل أن لا تحجّوا» «١»
، ومنها:
«تعجّلوا إلى الحجّ- يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» «٢»
، ومنها:
«من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر، فلم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» «٣»
ورواية الترمذي المتقدمة: «من ملك زادا أو راحلة تبلّغه إلى بيت الله، ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران ٣/ ٩٧] » «٤».
(١) حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن علي. [.....]
(٢) رواه أحمد والأصبهاني عن ابن عباس، وهو ضعيف.
(٣) رواه سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة مرفوعا، وهو ضعيف.
(٤) قال الترمذي: غريب، في إسناده مقال، وفيه ضعف.
17
هذه الأخبار مع غيرها تدلّ على وجوب الحجّ على الفور فإنه ألحق الوعيد بمن أخّر الحجّ عن أوّل أوقات الإمكان لأنه قال: «من ملك.. فلم يحجّ» والفاء للتعقيب بلا فصل، أي لم يحجّ عقب ملك الزاد والراحلة، بلا فاصل.
وأجمع العلماء على أن الخطاب في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ عام في جميع الناس، ذكرهم وأنثاهم، ما عدا الصغار فإنهم غير مكلّفين.
وإذا وجدت الاستطاعة فقد يمنع مانع من الحجّ كالغريم يمنعه الدّائن عن الخروج حتى يؤدّي الدّين، أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم، فلا يلزمه الحجّ، حتى يوفّر لهم النّفقة مدّة الغياب، وتقديم العيال أولى،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عمرو: «كفى المرء إثما أن يضيّع من يقوت».
وكذا الأبوان يخاف الضيعة عليهما، ولم يكن له من يتلطف بهما، فلا سبيل له إلى الحجّ، فإن منعاه لأجل الشوق والوحشة، فلا يلتفت إليه. وإذا منع الرجل زوجته من الحجّ، لم تحجّ على الصّحيح.
وإذا لم يتوافر المحرم للمرأة أو الزّوج فلا يجب عليها الحجّ،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين عن ابن عمر: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاث إلا مع ذي رحم محرم أو زوج»
فليس للمرأة أن تحجّ إلا مع زوج أو ذي محرم.
وهل تكون الاستطاعة للبعيد عن البيت بالمشي؟ قال الشافعية والحنابلة:
لا حجّ على الفقير البعيد عن البيت الذي لا يجد الزّاد والرّاحلة إذا أمكنه المشي، وإن حجّ أجزأه ذلك عن حجّة الإسلام.
وحكي عن مالك: أن عليه الحجّ إذا أمكنه المشي، ووجد الزّاد أو القدرة على الكسب، أو لم يجد الزّاد والرّاحلة أيضا إذا أطاق المشي.
والحجّ لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة لأنه ليس في الآية ما يوجب
18
التّكرار، وقد روى أحمد والنسائي عن ابن عبّاس أن الأقرع بن حابس سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، الحجّ في كلّ سنة، أو مرّة واحدة؟ فقال: «بل مرّة، فمن زاد فتطوع».
ولم يجز الإمام مالك خلافا للجمهور النّيابة في الحجّ، فلا يجزئ أن يحجّ عن الشّخص غيره لأن حجّ الغير لو أسقط عنه الفرض، لسقط عنه الوعيد المذكور في الآية: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. أما المريض والمغضوب الذي لا يستطيع الثبات على الراحلة، فيسقط عنه فرض الحج أصلا، في رأي مالك، سواء كان قادرا على من يحجّ عنه بالمال أو بغير المال، واحتجّ بقوله تعالى:
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم ٥٣/ ٣٩]، والمغضوب لا يستطيع السّعي، ولأنه غير مستطيع، والحجّ فرض على المستطيع.
لكن أجاز المالكية الإجارة على الحجّ عن الميت الذي أوصى به، ويجوز أن يكون الأجير على الحجّ عندهم لم يحجّ حجّة الفريضة.
ويجوز في رأي الجمهور النّيابة في الحجّ عن الغير لمن مات ولم يحج، أو كان مريضا عاجزا عن الحجّ لعذر وله مال، لحديث ابن عبّاس وغيره الذي رواه الجماعة: «أن المرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحجّ شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستوي على ظهره؟ قال: فحجّي عنه» وكان ذلك الإذن في حجّة الوداع. وجاء في رواية: «لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره»، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «فحجّي عنه، أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟» قالت: نعم، قال: «فدين الله أحقّ أن يقضى»، فأوجب النّبي صلّى الله عليه وسلّم الحجّ بطاعة ابنتها إياه، وبذلها من نفسها له بأن تحجّ عنه، فيجوز له أن يستأجر عنه شخصا يحجّ عنه إذا كان قادرا على المال.
ولا تتحقق الاستطاعة بالهبة بأن يهب له شخص أجنبي عنه مالا يحجّ به،
19
ولا يلزمه قبوله إجماعا، لما يلحقه من المنّة في ذلك. وقال الشافعي: لو وهب الابن لأبيه مالا يلزمه قبوله لأن ابن الرّجل من كسبه، ولا منّة عليه في ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يلزمه قبوله لأن فيه سقوط حرمة الأبوة إذ يقال: قد جزاه، وقد وفّاه.
هذا... وقد تقدّمت أحكام أخرى للحجّ والعمرة في تفسير سورة البقرة- الجزء الثاني.
إصرار أهل الكتاب على الكفر وصدهم عن سبيل الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
الإعراب:
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ جملة حالية فيها تهديد ووعيد، وشَهِيدٌ: صيغة مبالغة، وما: متعلقة بقوله شَهِيدٌ، وهي اسم موصول.
المفردات اللغوية:
بِآياتِ اللَّهِ دلائل الله الدالة على إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. شَهِيدٌ عالم بالشيء مطلع عليه، فيجازي عليه. تَصُدُّونَ تصرفون. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه، والسبيل يذكر ويؤنث، وهو الطريق. تَبْغُونَها تطلبون السبيل. عِوَجاً مصدر بمعنى معوجة أي مسائلة عن الحق، فالعوج: الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين والقول، والمراد هنا: الزيغ
20
والانحراف. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ عالمون بأن الدين المرضي القيم دين الإسلام، كما في كتابكم. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب، وإنما يؤخركم إلى وقتكم، ليجازيكم.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن زيد بن أسلم قال: مرّ شاس بن قيس اليهودي- وكان شيخا قد غبر في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال:
قد اجتمع ملأ بني قيلة (الأوس والخزرج) بهذه البلاد، لا والله، مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار.
فأمر شابا من اليهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكّرهم يوم بعاث «١» وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كان تقاولوا فيه من الأشعار. وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج.
ففعل، فتكم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجابر بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، وقال أحدهما لصاحبه:
إن شئت رددتها جذعا «٢» وغضب الفريقان جميعا وقالا: ارجعا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة «٣»، وهي حرّة، فخرجوا إليها، فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى
(١) أحد أيام الجاهلية التي وقع فيها حرب طاحنة بين الأوس والخزرج.
(٢) أي شابة فتية، يعنون الحرب.
(٣) وهي الحرة: وهي أرض مستوية بظاهر المدينة. والحرة: ذات حجارة سود.
21
بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال:
يا معشر المسلمين، أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألّف بينكم، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا، الله الله، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين.
فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- يعني الأوس والخزرج- إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ- يعني شاسا وأصحابه- يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.
قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأومأ إلينا بيده، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم «١».
المناسبة:
بعد أن أورد الله تعالى أدلة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم واعتراضهم على ذلك، وإبطال شبهاتهم ومزاعمهم، وبخهم على إصرارهم على الكفر، وصدهم عن دين الله، مستعملا الخطاب بأهل الكتاب، ليدعوهم باللين إلى تغيير موقفهم من دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإيمانهم برسالته، مع علمهم بصدقه وصحة ما جاء به.
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٦٦ وما بعدها، البحر المحيط: ٣/ ١٣
22
التفسير والبيان:
قل لهم يا محمد: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله، وما سبب ذلك، وما دليلكم على موقفكم الرافض دعوة الإسلام، ولأي سبب تصرفون المؤمنين عن جادة الإيمان الذي يرقى بالعقل عن طريق إعمال النظر في الكون، ويزكي الروح بالأخلاق، ويرفع مستوى الإنسان بالأعمال الطيبة الصالحة؟
إنكم بهذا الموقف المعاند القائم على الحسد والاستعلاء والكبر وإلقاء الشبهات الباطلة، تريدون الانحراف عن منهج الحق، والزيغ عن سبيل الاستقامة على الهدى، وأنتم عارفون معرفة تامة بصدق محمد في نبوته، وتقدم البشارة به، وقد غيّرتم وبدّلتم صفاته، وكذبتم على الله، وما الله بغافل عن أعمالكم ومكائدكم، فمجازيكم عليها.
والسبب في ختم الآية الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ... : هو أن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود، وأما سبب ختم الآية الثانية بقوله:
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ على المنع من الجدال لمن لا علم
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ فهو أن الصد عن الإسلام كان عن طريق المكر والاحتيال.
وتكرر الخطاب بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ للتوبيخ بلطف ولين، ولحملهم على الانضمام لدعوة الإسلام المتفقة مع أصول كتبهم الصحيحة.
والآية الأولى لكفهم عن الضلال، والثانية لكفهم عن الإضلال «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
إن أصول الأديان واحدة، وغاياتها واحدة، وطريقها بالدعوة إلى التوحيد الإلهي، وسمو الأخلاق والفضائل، وعبادة الله واحدة أيضا، فما على أتباع الأديان إلا أن ينضم بعضهم إلى بعض، دون تمسك بما لديه، وبما أن الإسلام خاتم
(١) تفسير المراغي: ٤/ ١٤
23
الرسالات السماوية، فعلى المتقدمين من أتباع الملل الأخرى الانضمام تحت لوائه، ليكون جند الإيمان في خندق واحد وصف واحد أمام معسكر الشرك والوثنية، وأما المسلمون فهم مؤمنون بكل الرسل دون تفرقة بين أحد منهم، وبما أنزل عليهم من كتب وصحف ووصايا.
وهذا ما ركز عليه القرآن بدعوة أهل الكتاب بالكف عن عنادهم وحسدهم، وقبولهم سراعا دعوة القرآن. وهاتان الآيتان لون من ألوان التعنيف والتوبيخ من الله تعالى بلطف ولين لأهل الكتاب على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات الله (وهي القرآن وما اشتمل عليه من دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم) وصدّهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم، ومكرهم، مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله، وبما عندهم من بشائر الأنبياء المتقدمين بالنبي محمد.
واستحقوا في هاتين الآيتين التهديد والوعيد، والإعلان الصريح عن إحباط المؤامرات، وكشف أنواع الخداع، وإلقاء الشبهات، وألوان المكر لأن الله تعالى شهيد على صنيعهم ذلك، غير غافل عن مكائدهم، وسيجازيهم على سوء أعمالهم ومواقفهم المستغربة المتسمة بالتكذيب والجحود والعناد.
أجل! إنه إنذار في الدنيا قبل فوات الأوان، وإعلام بالحق لئلا يضل الناس، وتحذير من الميل مع أهواء النفوس التي من أخصها الحسد والعناد والكبر التي حملت أصحابها على الضلال بأنفسهم ومحاولة الإضلال لغيرهم.
توجيه المؤمنين إلى الحفاظ على الشخصية والاعتصام بالقرآن والإسلام
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
24
الإعراب:
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا الجار والمجرور في موضع نصب لأنه خبر كان. وشَفا: أصله شفو، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقبلت ألفا.
البلاغة:
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ استفهام تعجب وتوبيخ واستبعاد وقوع الكفر منهم مع تلاوة القرآن ووجود الرسول فيهم وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ استعارة تصريحية، شبه القرآن بالحبل، وأستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه وهو القرآن، بجامع النجاة في كل منهما.
شَفا حُفْرَةٍ استعارة تمثيلية، شبه حالهم في الجاهلية بحال المشرف على حفرة عميقة.
المفردات اللغوية:
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ تجحدون، وهو استفهام تعجب وتوبيخ يَعْتَصِمْ يتمسك به حَقَّ تُقاتِهِ الحق: الوجوب والثبوت، والتقاة: التقوى، والأصل فيه: اتقاء حقا، أي اتقوه التقوى الواجبة: بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، فقالوا: يا رسول الله، ومن يقوى على هذا، فنسخ بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
وَاعْتَصِمُوا تمسكوا بِحَبْلِ اللَّهِ هو العهد أو الدين أو القرآن أو الإسلام، وكل ذلك مترادف المعنى شَفا حُفْرَةٍ طرف حفرة، وأشفى على الشيء: أشرف عليه. وهو مثل يضرب في القرب من الهلاك. وأريد به هنا القرب من النار أي ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا كفارا فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإيمان كَذلِكَ كما بيّن لكم ما ذكر يبين لكم الآيات.
25
سبب النزول:
أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر، فبينما هم جلوس، ذكروا ما بينهم حتى غضبوا، وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ الآية والآيتان بعدها. وهذا مؤيد لما ذكر في بيان سبب نزول الآيتين المتقدمتين.
التفسير والبيان:
حذر الله المؤمنين من إطاعة الكافرين وإغوائهم وإضلالهم، بعد أن وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وذلك من أجل تماسك الشخصية الإسلامية والحفاظ على تميزها واستقلالها، بعد أن انحرف أهل الكتاب عن صراط الله المستقيم، وتبيان ذلك فيما يأتي:
أيها المؤمنون إذا أطعتم هؤلاء اليهود فيما يثير الفتنة ويؤجج نار الجاهلية العمياء، ردّوكم إلى الكفر بعد الإيمان، وإلى التفرق بعد الوحدة، وإلى الكراهية والحقد والضغينة بعد المحبة والصفاء والوداد، كما قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة ٢/ ١٠٩] والكفر مهلكة في الدين بخسارة الآخرة وسوء الحال في الدنيا والمعاش، ومهلكة في الدنيا بإثارة الفتنة والعداوة والبغضاء.
وكيف تكفرون بالله وحاشاكم منه وكيف تطيعون الكفرة فيما يشيرون به؟
والحال أن فيكم أمرين: الأول- تلاوة آيات الله التي تنزل على رسوله ليلا ونهارا، وهو يتلوها عليكم، ويبلّغها إليكم، وهو القرآن الظاهر الإعجاز، كقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد ٥٧/ ٨].
والثاني- وجود الرسول فيكم الذي ظهرت على يديه الخوارق المؤيدة
26
لدعوته. ووجود هاتين الحالتين ينافي الكفر، وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر، فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون، ولذلك نودوا بوصف الإيمان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا «١».
ومن يعتصم بالله وكتابه ويتمسك بدينه ويتوكل عليه، فقد أحرز الهداية، وابتعد عن الغواية، وسار في طريق الرشاد والسداد وتحقيق المراد.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بالتزام التقوى حقا، بأن يؤدوا الواجبات ويجتنبوا المنهيات، وذلك باجتناب المعاصي كلها، واتباع الأوامر قدر المستطاع، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن ٦٤/ ١٦]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» «٢»
وقال ابن مسعود: «حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» «٣» وقال ابن عباس: هو ألّا يعصى طرفة عين.
وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشقّ عليهم، فأنزل الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت هذه الآية. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية.
والأصوب أن قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بيان لهذه الآية. والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى.
ثم نهاهم بقوله: ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، أي: ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت. وهذا حث على المبادرة إلى الإسلام ابتداء
(١) البحر المحيط: ٣/ ١٤
(٢) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
(٣) إسناده صحيح موقوف رواه البخاري.
27
واستمرارا، والمحافظة عليه في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، وليس معناه النهي عن الموت حتى يسلموا، وإنما المطلوب هو التدين بالإسلام قبل مفاجأة الموت.
ثم أمر بالاعتصام بكتاب الله وعهده الذي عهد به إلى الناس، ونهى عن التفرق عنه أبدا، والتزام الألفة والاجتماع على طاعة الله والرسول. وحبل الله:
هو الإيمان والطاعة والعمل بالقرآن،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: فيما أخرجه الترمذي: «القرآن: حبل الله المتين، ونوره المبين، لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به، هدي إلى صراط مستقيم».
ثم ذكّرهم بالنعمة العظمى التي أنعم بها على العرب وهي نعمة الوحدة والتجمع بعد التفرق، والألفة بعد العداوة والخصام، وقتل بعضهم بعضا، وتسلط القوي على الضعيف، والأخوة الإيمانية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات ٤٩/ ١٠] بعد الكفر والشرك، والإشراف على حافة النار والهلاك بسبب الشرك والوثنية، فصاروا سادة البشر وأساتذة العالم، وأنقذهم الله بالإسلام من الدمار والهلاك: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم ١٤/ ٣٤].
وقد كان بين العرب ومنهم الأوس والخزرج حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم واقتتالهم، فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال ٨/ ٦٣].
مثل هذا البيان الناصع الذي بيّنه لكم ربكم في هذه الآيات لما يضمره اليهود
28
نحوكم، ولما أمركم به ونهاكم عنه، ولما كنتم عليه في الجاهلية، وما صرتم إليه في الإسلام، يبين سائر آياته وحججه في تنزيله على رسوله، لتهتدوا هداية دائمة، وتزدادوا هداية، حتى لا تعودوا إلى أوضاع الجاهلية من التفرق والعدوان، والوثنية والشرك، والضلال في العقيدة والأخلاق والتعامل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- الحفاظ على الشخصية الإسلامية وتميزها، ورفض تبعتها لغير المسلمين، والتحذير من الإصغاء لمشورتهم، والتفكير العميق في آرائهم، كيلا تؤدي إلى الضرر والشر والفساد، أو الفرقة والخلاف والانقسام.
٢- تحكيم القرآن والسنة فيما قد يقع فيه المسلمون من نزاع أو اختلاف في الرأي، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى ٤٢/ ١٠] فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء ٤/ ٥٩].
٣- الاعتصام والتمسك بالقرآن وبدين الله تعالى وطاعته، والالتفاف الموحد حول أحكام الله حلالها وحرامها، واجتماع المسلمين على وحدة الهدف والغاية من أجل صون الحرمات والبلاد من عدوان المعتدين فإنه لم يتوافر لأمة مقومات تجمع بين شعوبها وأفرادها مثل ما توافر لأمة الإسلام، وهي الآن مع الأسف أبعد الناس عن اجتماع الكلمة ووحدة الصف والغاية والمنهج، وتلك المقومات واضحة في تلاوة آي القرآن وآثار رسول الله. قال قتادة: في هذه الآية علمان بيّنان:
كتاب الله ونبيّ الله فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
٤- ليس الاختلاف مذموما إذا كان في مجال مسائل الاجتهاد واستخراج
29
الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون، ولا فيما كان أثناء تبادل الآراء فيما يحقق مصلحة الأمة بإخلاص، فليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الجزئيات والفروع، وتقدير المصالح العامة، وإنما الخلاف المذموم هو في اتباع الأهواء والأغراض المختلفة، وما يؤدي إليه من تقاطع وتدابر وتقاتل.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» «١» وأخرجه أيضا عن ابن عمر بزيادة: «كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي».
٥- أوجب الله تعالى علينا التّمسك بكتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم والرّجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسّنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتّفاق الكلمة، وانتظام الشّتات الذي يتمّ به مصالح الدّنيا والدّين، والسّلامة من الاختلاف، كما بيّنا. وقرن ذلك بأمره تعالى بتذكّر نعمه وأعظمها الإسلام واتّباع نبيّه محمد عليه الصّلاة والسّلام، فإن به زالت العداوة والفرقة، وكانت المحبّة والألفة.
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وتأكيد النّهي عن التّفرّق
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٩]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
(١) قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
30
الإعراب:
يَوْمَ تَبْيَضُّ يوم: منصوب إما بمحذوف مقدر بفعل، تقديره: اذكر يا محمد يوم تبيض وجوه، وإما بقوله: لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي استقر لهم هذا العذاب في يوم تبيض وجوه.
أَكَفَرْتُمْ فيه محذوف مقدر تقديره: فيقال لهم: أكفرتم، وحذف لدلالة الكلام عليه، وحذفت الفاء تبعا للقول، وحذف القول كثير في كلامهم. والهمزة: همزة استفهام ومعناها التّوبيخ والإنكار.
البلاغة:
يوجد طباق مقابلة في قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فيه قصر صفة على موصوف، حيث قصر الفلاح عليهم.
ويوجد طباق أيضا بين كلمتي تَبْيَضُّ وتَسْوَدُّ.
فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ مجاز مرسل، من باب إطلاق الحال وإرادة المحل، أي في الجنة لأنها مكان تنزل الرّحمات.
أما معنى المقابلة الذي جعله بعض البلغاء من أنواع الطباق: فهو أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.
31
المفردات اللغوية:
مِنْكُمْ من للتبعيض لأن ما ذكر فرض كفاية، لا يلزم كلّ الأمّة، ولا يليق بكلّ أحد كالجاهل. أُمَّةٌ جماعة تربطهم رابطة معينة تجمعهم. إِلَى الْخَيْرِ ما فيه المنفعة وصلاح الناس في الدين والدنيا. بِالْمَعْرُوفِ ما استحسنه الشرع والعقل. الْمُنْكَرِ ما استقبحه الشرع والعقل. الْمُفْلِحُونَ الفائزون. تَبْيَضُّ تشرق وتسرّ. وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ تكتئب وتحزن، وذلك يوم القيامة. بِالْحَقِّ أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا شبهة فيه. ظُلْماً الظّلم:
وضع الشيء في غير موضعه، إما بالنّقص أو الزّيادة أو بالتعديل في وقته أو مكانه.
المناسبة:
هذه الآيات كالشّرح لقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا فشرح الاعتصام بحبل الله بقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وشرح وَلا تَفَرَّقُوا بقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا «١». أمرنا تعالى بالاعتصام بالقرآن والتّمسك بالدّين، ونهانا عن التّفرّق والاختلاف، ثمّ بيّن لنا سبيل الاعتصام بالدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فهذه تذكّر بالله وباليوم الآخر، وترشد إلى الإسلام، وتعصم من الزّيغ والانحراف، بقصد الحفاظ على وحدة الأمة، وترشد أبنائها، وتكثير سوادها بالأتباع الذين يؤمنون بدعوة الإسلام، وتضامن الأفراد في كلّ ما هو حضاري يؤدّي إلى القوة والتقدّم والسّمو،
روى مسلم وأحمد حديثا معروفا عن النّعمان بن بشير هو:
«مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر السجد بالحمّى والسّهر».
وروى البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي عن أبي موسى الأشعري: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».
(١) البحر المحيط: ٣/ ٢١
32
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى الأمة الإسلامية بأن يكون منها جماعة متخصصة بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأولئك الكمّل هم المفلحون في الدّنيا والآخرة.
وتخصص هذه الفئة بما ذكر لا يمنع كون الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجبا على كلّ فرد من أفراد الأمّة بحسبه، كما ثبت
في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»
وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل».
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم، عقابا من عنده، ثّم لتدعنّه فلا يستجيب لكم».
وكان الواحد من السّلف الصالح لا يتوانى في هذا الواجب، ولا يخشى في الله لومة لائم، فقد خطب عمر على المنبر قائلا: «إذا رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموه» فقام أحد رعاة الإبل، وقال: لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا.
ولا تكونوا أيّها المؤمنون كأهل الكتاب الذين تفرّقوا، في الدّين، وكانوا شيعا، واختلفوا اختلافا كثيرا، من بعد ما جاءتهم الأدلّة الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتّبعوها، لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فاستحقّوا العذاب العظيم في الدّينا والآخرة، أما في الدّنيا فيجعل بأسهم بينهم شديدا، ويذيقهم الخزي والنّكال، وأما في الآخرة ففي جهنم هم فيها خالدون، ونظير هذه الآية قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة ٥/ ٧٨- ٧٩].
33
وهذا الوعيد لأهل الكتاب يقابل الوعد بالفلاح والنّجاة والفوز لأهل الإيمان، والاختلاف المنهي إنما هو الاختلاف في أصول الدّين وتحكيم الهوى والمصلحة الشخصية في القضايا العامة. أما الاختلاف في الفروع المذهبية والاجتهادات الجزئية، كاختلاف المذاهب في كثير من تفاصيل العبادات والمعاملات، فليس مذموما لتعدد المفاهيم المستوحاة من النّصّ القرآني، وتعدّد أفعال النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكيفيّة ثبوت الأخبار والرّوايات.
وزمان العذاب للكفار هو يوم القيامة، يوم تبيضّ وتشرق وتسرّ وجوه المؤمنين كما في آية أخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣] وتسودّ وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحقّ والصّبر من أهل الكتاب والمنافقين حينما يرون ما أعدّ لهم من العذاب الدّائم، وذلك مثل قوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٤- ٢٥]، وقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس ٨٠/ ٤٠- ٤١]، وقوله: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [يونس ١٠/ ٢٧].
ثمّ أوضح الله تعالى مصير الفريقين، فبيّن سوء حال الفريق الثاني ثمّ حال الفريق الأوّل على طريقة اللّف والنّشر المشوش، أمّا الذين اسودّت وجوههم بسبب تفرّقهم واختلافهم، فيوبخهم تعالى ويؤنّبهم بقوله: أكفرتم بالرّسول محمد بعد إيمانكم به، فقد كنتم على علم ببعثته، ولديكم أوصافه والبشارة به؟ ولكن كفرتم به حسدا وحقدا، فكان جزاؤكم أن تذوقوا العذاب بكفركم.
وأمّا الذين ابيضّت وجوههم باتّحاد الكلمة وعدم التّفرق في الدّين، فهم خالدون في رحمة الله، أي ماكثون في الجنّة أبدا، لا يبغون عنها حولا.
هذه الآيات: آيات الله وحججه وبيّناته نتلوها عليك يا محمد مقررة ما هو
34
الحقّ الثابت الذي لا شبهة فيه، كاشفة حقيقة الأمر في الدّنيا والآخرة.
والله لا يريد ظلما للعباد، أي ليس بظالم، بل هو الحاكم العدل الذي لا يجوز لأنه القادر على كلّ شيء، العالم بكلّ شيء، ولأن الظلم يصادم الحكمة والكمال في النّظام وفي التّشريع، فلا يحتاج إلى ظلم أحد من خلقه، وأما ما يأمر به وينهى عنه، فإنما يريد هدايتهم إلى أقوم الطّرق، فإذا خرجوا عن حدود الطّاعة وفسقوا كانوا هم الظالمين لأنفسهم، والظالم هو الذي سبب لنفسه العقاب، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود ١١/ ١٠٢]، وقال: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ، وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود ١١/ ١١٧].
ومما يدلّ على عدم احتياج الله لظلم أحد من خلقه: أن جميع ما في السموات والأرض من مخلوقات وكائنات ملك له وعبيد له، وأنهم إليه راجعون، فهو الحاكم المتصرّف في الدّنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوّلا- إنّ الدعوة إلى الإسلام ونشرها في آفاق العالم والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من فروض الإسلام الكفائية، لقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة ٩/ ١٢٢].
ويجب أن يكون الدّعاة علماء بما يدعون الناس إليه، وقائمين بفرائض الدّين، وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج ٢٢/ ٤١]، والسبب أن الدّاعية هو القدوة الحسنة والمثل الصالح
35
الذي يحتذي به، ويقلّده الآخرون ويتأثّرون به، وتحليل تلك الضوابط يتجلّى في الشروط الآتية المطلوبة في الدّعاة:
١- العلم بالقرآن والسّنّة والسّيرة النّبويّة وسيرة الرّاشدين.
٢- تعلّم لغة القوم الذين يراد دعوتهم إلى الدّين، إذ يتعذّر تحقيق الغاية بدون ذلك، وقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعض الصحابة بتعلّم العبريّة لمحاورة اليهود.
٣- معرفة الثقافة الحديثة والعلوم العامة وأحوال الأقوام وأخلاقهم وطبائعهم، والملل والنحل، وشبهات التّيارات والمبادئ الاقتصادية والاجتماعية السائدة في العالم المعاصر، وموقف الإسلام منها.
ثانيا- إن التّفرق في الدّين وسياسة الأمة العامة أمر حرام ومنكر عظيم مؤذن بتدمير المصلحة العامة والقضاء على وجود الدولة المسلمة والأمة المؤمنة، وقد عدّ القرآن المتفرقين في الدين من الكفار والمشركين، كما في قوله تعالى:
وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكانُوا شِيَعاً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم ٣٠/ ٣٢] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٩].
ومن خرج عن حدود الدين ومقاصده كان ظالما، ومن لازم الظلم كان كافرا، كما قال تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة ٢/ ٢٥٤].
ومن ترك الاعتصام بالقرآن والإسلام ورد الأمر المتنازع فيه إلى غير الكتاب والسنة كان أيضا من الكافرين.
هذا.. والاختلاف المحظور إنما هو الاختلاف في العقيدة وأصول الدين، وأما اختلاف الفقهاء في الفروع الاجتهادية فهو محمود غير مذموم ومن يسر الشريعة.
36
ثالثا- إن أهل الطاعة لله عز وجل والوفاء بعهده هم الذين تبيض وجوههم وتسر يوم القيامة، ولهم الخلود في الجنة ودار الكرامة، جعلنا الله منهم، وجنبنا الضلالة بعد الهدى.
وأما أهل المعصية الذين كفروا بعد الإيمان فلهم سوء العذاب بسبب كفرهم.
وكل من بدل أو غيّر أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه، ولم يأذن به الله فهو من المسوّدي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من رحمة الله من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال ذرة من خير أو حبة من إيمان.
رابعا- كل ما في الكون وكل ما في السموات والأرض ملك لله تعالى وعبيد له، يتصرف بهم كيفما شاء، ولا يشاء إلا ما فيه الحكمة والخير ومصلحة العباد، فهو قادر على كل شيء، وغني عن الظلم، لكون كل شيء في قبضته وتصرفه، فلا يصح لأحد من الخلق أن يسأل غير الله أو يعبد غير الله، وعليهم أن يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.
سبب خيرية الأمة الإسلامية وضرب الذلة والمسكنة على اليهود
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
37
الإعراب:
أُخْرِجَتْ جملة فعلية في موضع جر لأنها صفة لأمة. لِلنَّاسِ جار ومجرور في موضع نصب، ويتعلق إما ب أُخْرِجَتْ أو ب خَيْرَ وقوله: تَأْمُرُونَ.. كلام مستأنف أبان به كونهم خير أمة.
إِلَّا أَذىً منصوب لأنه استثناء منقطع، وكذلك قوله إِلَّا بِحَبْلٍ أي ولكن قد يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، فيأمنون على أنفسهم وأموالهم.
والجملتان وهما مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ولَنْ يَضُرُّوكُمْ واردتان على طريق الاستطراد، بمناسبة الكلام عن أهل الكتاب.
البلاغة:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ استعارة تبعية حيث شبه الذل بالخباء المضروب على أصحابه، ثم حذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو الضرب.
وَباؤُ بِغَضَبٍ نكّر كلمة الغضب للتفخيم والتهويل.
ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ تساءل الزمخشري قائلا: هلا جزم المعطوف في قوله: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ؟ ثم أجاب بقوله: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، أي لا يكون لهم نصر من أحد، ولا يمنعون منكم. والفرق بين الجزم والرفع:
أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا (الكشاف: ١/ ٣٤٢).
المفردات اللغوية:
كُنْتُمْ أي وجدتم وخلقتم خير أمة، أي في الماضي، وقد تستعمل للأزلية والدوام كما في
38
صفاته تعالى مثل: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. أُخْرِجَتْ أي أظهرت. أَذىً أي ضررا يسيرا كالسب باللسان والوعيد. يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ كناية عن الانهزام أي يكونوا منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ وعد مطلق من الله للمسلمين في الماضي، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم أنهم بعد التولي مخذولون غير منصورين، لا تنهض لهم قوة بعدها، ولا يستقيم لهم أمر، وكان ذلك كما أخبر في هزيمة طوائف اليهود في المدينة وهم «بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع» ويهود خيبر. والتراخي في ثُمَّ هو في المرتبة.
الذِّلَّةُ الذل الذي يحدث في النفوس من فقد السلطة، وضربها عليهم: إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم، كضرب السكة بما ينقض فيها. ثُقِفُوا حيثما وجدوا. بِحَبْلِ أي عهد، وهو تأمينهم وعهد المؤمنين إليهم بالأمان على أداء الجزية، أي لا عصمة لهم غير ذلك، وتظل صفة الذل بهم، سواء كانوا حربا أو أهل ذمة.
وَباؤُ رجعوا، من البوء وهو المكان أي حلوا فيه يَعْتَدُونَ يتجاوزون الحد.
سبب النزول:
نزول الآية (١١٠) :
قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن خير وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (١١١) :
قال مقاتل: إن رؤوس اليهود: وهم كعب ويحرى والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنهم: عبد الله بن سلام وأصحابه، فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
هذه الآيات تثبيت للمؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام بالله والاتفاق على
39
الحق والدعوة إلى الخير، وهي أيضا ترغيب لهم في المحافظة على مزيتهم باتباع الأوامر وترك النواهي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وأعقب ذلك بمقارنتهم بحال أهل الكتاب وبيان سبب إلحاق صفة الذل بهم والغضب عليهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن الأمة الإسلامية بأنها خير الأمم في الوجود الآن، ما دامت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله إيمانا صحيحا صادقا كاملا. وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان لأنهما أدل على بيان فضل المسلمين على غيرهم، ولأن الإيمان يدعيه غيرهم، وتظل الخيرية والفضيلة لهذه الأمة ما دامت تؤمن بالله حق الإيمان وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وأما الأمم الأخرى فقد غلب عليهم تشوية حقيقة الإيمان، وشاع فيهم الشر والفساد، فلا يؤمنون إيمانا صحيحا، ولا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر.
والإيمان المطلوب: هو الموصوف بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات ٤٩/ ١٥] وقوله أيضا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال ٨/ ٢].
وفي قوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك، لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله، كما قال تعالى:
وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ، وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ
40
سَبِيلًا، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا
[النساء ٤/ ١٥٠- ١٥١]. والدليل عليه قوله تعالى:
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ مع إيمانهم بالله، لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام، حبا للرياسة، واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع، وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين.
هذه المقومات والأوصاف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان الحق بالله وبعناصر الإيمان الأخرى هي سبب الفضيلة والخيرية، ولا تثبت للأمة إلا بمحافظتها على هذه الأصول الثلاثة، روى ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها، رأى من الناس دعة، فقرأ هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم قال: «من سرّه أن يكون من هذه الأمة، فليؤد شرط الله فيها».
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى:
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة ٥/ ٧٩].
ولهذا لما مدح الله تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال: ولو آمنوا بما أنزل على محمد، لكان خيرا لهم إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، ويؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى، ويكفرون بمحمد، مع أن كتبهم تتضمن البشارة بمحمد وصفته! إلا أن هذا الذم ليس كليا ولا جماعيا شاملا، لذا استطرد الله تعالى فذكر أن بعض أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي ورهطه مؤمنون إيمانا حقا، لكن أكثرهم فاسقون خارجون عن حدود دينهم وكتبهم، متمردون في الكفر، فقليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان. ومرة يعبر تعالى بالأكثر كما هنا، وكما في قوله
41
عن بني إسرائيل: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء ٤/ ٤٦]، وتارة يعبر بالكثير، كما في قوله عن النصارى واليهود: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ [المائدة ٥/ ٦٦].
ويكثر الفسق عادة بعد طول الأمد على ظهور الدين، كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد ٥٧/ ١٦].
ثم أخبر الله تعالى عباده المؤمنين وبشرهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب، فذكر أن هؤلاء الكافرين الفاسقين لن يلحقوا بكم إلا ضررا بسيطا كالسب والهجاء والتوعد باللسان ومحاولة الصد عن دين الله، والطعن في الدين، وإلقاء الشبهات، وتحريف النصوص، والطعن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما يفعل المبشرون اليوم.
وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم، ولا ينصرون عليكم أبدا ما داموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم بالحفاظ على الأصول الثلاثة، وقد تحققت لسلف أمتنا هذه البشارات الثلاث من أخبار الغيب، فانهزم يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، ويهود خيبر.
وتحقق مثل هذه الانتصارات مرهون بنصر دين الله، كما قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧] وبالحفاظ أيضا على الأصول الثلاثة المذكورة هنا وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ١١٢].
والخلاصة: إن النصر ليس هبة تمنح كما يتوقع بعض المخدوعين، وإنما هو
42
مشروط بالإتيان بمقومات دينية أساسية، فما دمنا نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله إيمانا صحيحا، تحقق لنا النصر والسيادة والعزة، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود الله والطاعة والإيمان، ظلوا أذلة مقهورين.
والله تعالى ألصق بهم الذل والهوان أبدا أينما كانوا، لا ينعمون بأمن ولا استقرار، إلا بعهدين: عهد الله وعهد الناس. أما عهد الله فهو ما قررته الشريعة لهم من الأمان وتحريم الإيذاء والمساواة في الحقوق والقضاء إذا تم لهم عقد الذمة وفرض الجزية وإلزامهم أحكام الملة.
وأما عهد الناس: فهو ما يصدر لهم من الأمان كالمهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه أحد المسلمين ولو امرأة، وكذا التاجر الذي يتعامل معه في داخل البلاد أو على الحدود الخارجية، لتبادل المنافع والصنائع والتجارات. ومثل ذلك ما نجده من الحماية الثابتة لليهود في فلسطين، سواء من أمريكا وأوربا وروسيا وغيرها من الدول الكبرى.
والله تعالى أيضا ألزمهم غضبا منه فالتزموه، واستوجبوه واستحقوه، وأحاط بهم المسكنة والصغار إحاطة المكان بما فيه، فهم تابعون أذلاء لغيرهم، دائمون في الذل والحاجة والتبعة لغيرهم، متفرقون في أقطار الأرض على قلتهم، وسيظلون كذلك بالرغم من محاولاتهم المستميتة في التجمع والاستيطان والاستقرار في الأراضي المحتلة بفلسطين، وبالرغم من غناهم واعتمادهم على جمع المال والسيطرة على اقتصاديات العالم.
ثم بيّن تعالى سبب كل ذلك وعلته من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بسخط الله عليهم: وهو كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم، وبدافع من الكبر والبغي والحسد، مع اعتقادهم أنهم على غير حق فيما
43
يرتكبونه من جريمة قتل أناس يقولون: ربنا الله. وفي هذا غاية التشنيع عليهم، والتوبيخ لهم.
وما جرأهم على ذلك، وما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله، إلا كثرة المعاصي لأوامر الله، والانغماس الدائم في المعصية، والاعتداء على شرع الله وحدوده، فمن اعتاد العصيان، وانتهك حرمات الله، هان عليه كل شيء حرام ومنكر في الحياة.
والتشنيع على اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتوجيه اللوم لهم على الكفر وقتل الأنبياء، مع أنه صدر من أسلافهم، إنما كان لأنهم منتسبون إليهم، متكافلون متعاطفون معهم، راضون بأفعالهم، سائرون على منهجهم، فإنهم حاولوا أيضا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات وصف فريقين أو أمتين من الناس، وأبانت سبب الاتصاف، وقارنت بينهما، على أساس دقيق من التعادل والحق.
فالأمة الإسلامية خير الأمم بسبب إيمانها الصحيح التام بكل ما أمر به الله، وبقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتظل الخيرية والفضيلة لها على الشرائط المذكورة، والتزامها الأصول الثلاثة.
وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم، فإن السنة النبوية أوضحت أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم،
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» «١»
وهذا مذهب معظم العلماء، فمن صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورآه ولو مرة في عمره مؤمنا به، فهو أفضل ممن يأتي بعده.
وفضل قرن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم، قليلون في عددهم، مع
(١) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود. [.....]
44
كثرة الكفار، صابرون على أذاهم، متمسكون حق التمسك بدينهم. وأما أواخر هذه الأمة فلهم فضيلة أخرى لا تمنع ولا تحجب فضيلة السلف الصالح إذا أقاموا الدّين، وتمسكوا به، وصبروا على طاعة ربهم، في وقت ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر، فيصيرون بذلك أشباه السلف غرباء أيضا، وتزكو أعمالهم في ذلك الوقت، كما زكت أعمال أوائلهم، بدليل
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء»
وقوله فيما رواه الترمذي والحاكم وصححاه وابن ماجه وغيرهم عن أبي ثعلبة الخشني: «إن أمامكم أياما: الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثل عمله، قيل: يا رسول الله، منهم؟ قال: بل منكم»
وذكر أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي: «أمتي كالمطر لا يدرى أوّله خير أم آخره»
وذكره الدارقطني في مسند حديث مالك عن أنس: «مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره».
وحينئذ يستوي أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية.
ومدح الأمة الإسلامية ما داموا قائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بكل ما يجب الإيمان به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم.
وإيمان أهل الكتاب بالنبي صلّى الله عليه وسلّم خير لهم، ومنهم المؤمن والفاسق، والفاسق أكثر.
ووعد الله المؤمنين ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب لا يغلبونهم، وأنهم منصورون عليهم، لا ينالهم منهم أذى إلا بالافتراء والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.
وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام لأن من قاتله من اليهود انهزم وولى الأدبار.
45
وسبب الغضب من الله على اليهود وإلصاق صفة الذل والهوان أينما وجدوا هو كفرهم بآيات الله، ومنه عدم إيمانهم بالقرآن والإسلام، وقتلهم الأنبياء ظلما وعدوانا، ومنه محاولة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وتأليب المشركين عليه وتحريضهم على قتاله واستئصال شأفة المسلمين إلى الأبد، كما حدث في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وغزوة الأحزاب (الخندق) في السنة الخامسة، وغير ذلك من ألوان العصيان والاعتداء.
الفئة المؤمنة من أهل الكتاب والثواب على أعمالهم
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
الإعراب:
لَيْسُوا سَواءً: الواو في لَيْسُوا اسم ليس، وسواء: خبرها.
أُمَّةٌ قائِمَةٌ إما بدل من ضمير لَيْسُوا، والتقدير: ليس أمة قائمة وأمة غير قائمة سواء. فحذف «غير قائمة» مثل حذف البرد في آية سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وإما مبتدأ ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: خبر مقدم، أو مرفوع بالجار والمجرور على قول الأخفش والكوفيين يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة أُمَّةٌ. آناءَ اللَّيْلِ ظرف زمان متعلق ب يَتْلُونَ. وَهُمْ يَسْجُدُونَ إما حال من ضمير يَتْلُونَ، ويكون المراد بالسجود هنا الصلاة لأن التلاوة لا تكون في السجود، وإما معطوف على يَتْلُونَ ويكون المراد بالسجود: السجود بعينه.
46
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جملة فعلية: إما في موضع نصب على الحال من ضمير يَسْجُدُونَ أو يَتْلُونَ أو قائِمَةٌ، وإما في موضع رفع لأنها صفة (الأمة)، وإما مستأنفة. وهذه الأوجه تجري في جمل يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ.
البلاغة:
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ جملة اسمية للدلالة على الاستمرار. يَتْلُونَ.. يَسْجُدُونَ جملة فعلية للدلالة على التجدد. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الإشارة بالبعيد لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم.
المفردات اللغوية:
لَيْسُوا أي أهل الكتاب. سَواءً متساوين، يستعمل للواحد والمثنى والجمع، فيقال: هما سواء، وهم سواء قائِمَةٌ مستقيمة عادلة ثابتة على الحق، مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأصحابه، مأخوذ من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى: استقام يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أي القرآن. آناءَ اللَّيْلِ أي في ساعاته، واحدها أنى كعصا. وَهُمْ يَسْجُدُونَ يصلون.
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يبادرون إلى فعل الخيرات. وَما يَفْعَلُوا أي الأمة القائمة، والقراءة بالتاء: أي أيتها الأمة. فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي يعدموا ثوابه، بل يجازون عليه، والقراءة بالتاء: أي أنتم أيتها الأمة.
سبب النزول: نزول الآية (١١٣) :
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده في الصحابة عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعنة (أو سعية)، وأسيد بن سعنة (أو سعية)، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد واتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله في ذلك:
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وذكر مثله عن مقاتل.
وأخرج أحمد وغيره عن ابن مسعود قال: أخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة
47
العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا بالناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم، وأنزلت هذه الآية لَيْسُوا سَواءً... حتى بلغ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
وبعبارة أخرى لابن مسعود: نزلت الآية في صلاة العتمة (العشاء) يصليها المسلمون، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في بيان أوصاف أهل الكتاب، ففي الآيات السابقة صنفهم القرآن صنفين: منهم المؤمنون وكثير منهم الفاسقون، ثم بين حال الفاسقين ومصيرهم، وهنا بيّن حال المؤمنين منهم الذين وإن كانوا قلة دخلوا في الإسلام.
التفسير والبيان:
ليس من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب متساوين أو على حد سواء في الفسق والكفر، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، فمنهم فئة قائمة بأمر الله، مستقيمة على دينه، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، يتلون القرآن في صلواتهم ليلا، ويكثرون التهجد.
وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا صادقا لا شبهة فيه، ويأمرون غيرهم بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويبادرون إلى فعل الخيرات بسرعة، ويعملون الصالحات دون تلكؤ، وهم موصوفون عند الله بأنهم من الصالحين الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم.
وهم من أحبار أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن سعنة وغيرهم ممن نزلت فيهم هذه الآيات، ردا على اليهود الذين زعموا أن من آمن منهم شرارهم لا خيارهم، ولو كان فيهم خير لما آمنوا.
48
وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه، ولا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء، والله شكور عليم بالمتقين، أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يأبى عدل الله إلا أن يظهر الأخيار، ويبعد الأشرار، لذا أكد سبحانه وتعالى في هذه الآيات التنويه بإيمان المؤمنين من أهل الكتاب، فإنهم آمنوا بالإسلام، وصدقوا بالقرآن، ورغبوا في دين الله ورسخوا فيه.
وقاموا بالأعمال الصالحة، فأصلحوا أنفسهم، وجاهدوا في إصلاح غيرهم، وقاوموا دعوة الفساد والانحراف، فاستحقوا الاتصاف بالصالحين، والوصف بالصلاح هو غاية المدح والثناء، بدليل مدح إسماعيل وإدريس وذي الكفل بهذا الوصف، فقال تعالى: وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنبياء ٢١/ ٨٦] وقال عن سليمان: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل ٢٧/ ١٩].
وهذا هو واجب الإنسان العاقل في هذه الحياة، فلا قيمة لحياة دون عقيدة صحيحة، ولا مدنية لإنسان دون العمل الصالح، ومحاربة ألوان الفساد.
وسيجد العامل الصالح ثمرة عمله، ويجازى بأوفر الجزاء، ويشكر عليه، ولن يجحد ثوابه، وقد سمى الله في آية أخرى إثابته للمحسنين شكرا في قوله:
فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء ١٧/ ١٩]، وسمى نفسه شاكرا في قوله:
فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة ٢/ ١٥٨]، وعبر تعالى هنا عن عدم الإثابة بالكفر.
49
ضياع أعمال الكافرين يوم القيامة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
الإعراب:
كَمَثَلِ رِيحٍ: خبر المبتدأ وهو مثَلُ ما يُنْفِقُونَ
فيها صِرٌّ: في موضع جر لأنها صفة ريحٍ
أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
ظلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: جملة في موضع جر صفة لقوم.
البلاغة:
كمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ: أي باردة: تشبيه تمثيلي، شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله، بالزرع الذي أصابته الريح الباردة، فذهب حطاما (الكشاف: ١/ ٣٤٤).
المفردات اللغوية:
لَنْ تُغْنِيَ: لن تجزئ وتنفع
كمثَلُ ما يُنْفِقُونَ: أي صفة إنفاق الكفار
صرٌّ أو صرّة: برد شديد
حرْثَ: زرع
ظلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: بالكفر والمعصية.
المناسبة:
هذه الآيات وعيد للكفار وإحباط لآمالهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة
50
بنفقاتهم فائدة، ولن ترد عنهم عذابا، وذلك بعد أن ذكر في الآيات السابقة أحوال الكافرين وعقابهم، قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن مصير أعمال الكافرين يوم القيامة، وهم اليهود والمنافقون والمشركون جميعا، فهم بافتخارهم بأموالهم، وإنفاقهم لها فيما يكيد النبي صلّى الله عليه وسلّم ويعاديه في هذه الحياة الدنيا، لن تجزي عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا إذا أراده بهم، وخص الأموال والأولاد بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال، وتارة بالاستعانة بالأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم.
وأكد تعالى هذه المعنى في آيات كثيرة منها: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة ٢/ ٤٨] ومنها يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء ٢٦/ ٨٨] ومنها فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً، وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آل عمران ٣/ ٩١] ومنها: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ ٣٤/ ٣٧].
وأولئك هم الملازمون للنار لا ينفكون عنها، وهم دائمون فيها بسبب كفرهم وفساد عقيدتهم.
وكما أن أموالهم لا تغني عنهم شيئا، كذلك لا تجديهم أموالهم التي أنفقوها في أغراض الدنيا ولذاتها، أو للرياء والسمعة والمفاخرة، وكسب الثناء والشهرة لأنها لغير وجه الله، وقد يكون منها للصد عن سبيل الله وعن اتباع النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وعداوته ومقاومته.
وما مثل أو صفة تلك الأموال التي أنفقوها في غير مرضاة الله، إلا كمثل
51
ريح عاتية شديدة البرد أتت على نبات مزروع، فأحرقته وأهلكته، فلم يبق منه شيء، وأعقب على صاحبه الحسرة والندامة، ونظير ذلك قوله تعالى:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣] وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور ٢٤/ ٣٩].
وهكذا يمحق الله ثواب وثمرة أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا، كما يذهب ثمرة زرع بذنوب أصحابه، وما ظلمهم الله بهذا بأن لم يقبل نفقاتهم بل جازاهم على عملهم الشر بالشر، وكانوا هم الظالمين أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠].
وسبب إحباط أعمال الكفار يوم القيامة ولو كانت صدقة في الخيرات، هو فقد الإيمان، وبناؤهم العمل على قاعدة الكفر، وتركهم النظر في الدلائل الموصلة إلى الحق والصواب.
فإن توافر الإيمان، وصح اليقين، وكان الإنفاق بقصد وجه الله تعالى، لا للرياء والسمعة، كان مقبولا عند الله، لقوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة ٥/ ٢٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الكفر أساس بلاء الإنسان في الآخرة، وهو سبب ضياع ثمرة أعماله التي عملها في الدنيا، فيكون جزاء الكافرين النار خالدين فيها أبدا، ولن تفيدهم نفقاتهم المنفقة في دنياهم إلا الحسرة والندامة، وليس عدم قبول نفقاتهم ظلما من الله لهم، وإنما هم الظالمون لأنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول فكفروا وعصوا ومنعوا حق الله تعالى، وأنفقوا أموالهم رياء وسمعة ومفاخرة، ولم يبتغوا بها وجه الله تعالى. وحالهم حال بؤس وشقاء وقلق واضطراب، فهم كمن يزرع
52
زرعا تأمّل منه خيرا ونفعا ورزقا يعيش منه طوال العام، فأصابته ريح باردة، فأحرقته، فوقف مبهوتا حائرا، خائب الظن، خائر القوى لا يستطيع فعل شيء، عافانا الله من السوء، وألهمنا الرشد والصواب، وثبت قلوبنا على الإيمان، وجعل أعمالنا كلها ظاهرها وباطنها في سبيله، ومن أجل رضوانه فقط.
الثقة بالكفار واطلاعهم على الأسرار وموقفهم الثابت من المؤمنين
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
الإعراب:
لا يَأْلُونَكُمْ صفة ل بِطانَةً. خَبالًا تمييز منصوب وَدُّوا وبَدَتِ
53
الْبَغْضاءُ
: إما صفة بِطانَةً أو جملة مستأنفة ما عَنِتُّمْ ما: مصدرية، وتقديره: ودوا عنتكم، أي هلاككم ها أَنْتُمْ أُولاءِ ها: للتنبيه، وأنتم: مبتدأ، وأولاء: خبر أنتم، تُحِبُّونَهُمْ حال من اسم الإشارة.
لا يَضُرُّكُمْ إنما ضمه وإن كان مجزوما لكونه جواب الشرط اتباعا لضمة ما قبله.
شَيْئاً منصوب على المصدر.
البلاغة:
لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً استعارة، شبه فيها خواص الرجل بالبطانة، لملازمتهم له ملازمة الثوب للجسم.
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ إما حقيقة تبين وصف المغتاظ والنادم، وإما من مجاز التمثيل الذي يبين شدة الغيظ والتأسف على عدم إذاية المؤمنين. ويوجد مقابلة الحسنة بالسيئة والمساءة بالفرح في آية: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها. ويوجد جناس اشتقاق في لَمَهُمُ
وظْلِمُونَ
وفي الْغَيْظِ وبِغَيْظِكُمْ وفي تُؤْمِنُونَ وآمَنَّا.
المفردات اللغوية:
بِطانَةً بطانة الرجل: خاصته الذين يطلعهم على أسراره، مأخوذ من بطانة الثوب:
وهي القماش الرقيق الذي يبطن به الثوب من الداخل، وعكسه الظهارة، وهي تستعمل للواحد والجمع، مذكرا ومؤنثا مِنْ دُونِكُمْ: من غيركم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يقصرون لكم في الفساد، وخَبالًا: منصوب بنزع الخافض وهي مثل قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التوبة ٩/ ٤٧] أي فسادا وضررا وَدُّوا تمنوا ما عَنِتُّمْ إيقاعكم في العنت وهو الهلاك والمشقة وشدة الضرر قَدْ بَدَتِ ظهرت الْبَغْضاءُ العداوة لكم مِنْ أَفْواهِهِمْ بالوقيعة فيكم واطلاع المشركين على سركم وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من العداوة.
الْأَنامِلَ أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ من شدة الغضب لما يرون من ائتلافكم، ويعبر عن شدة الغضب أو الندم بعض الأنامل مجازا، وإن لم يكن ثمّ عض قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ أي ابقوا عليه إلى الموت، فلن تروا ما يسركم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب، ومنه ما يضمره هؤلاء.
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ إن تصبكم نعمة كنصر وغنيمة تَسُؤْهُمْ تحزنهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ كهزيمة وجدب، يفرحوا بها، وعبر أولا بالمس إشارة إلى أن الحسنة تسوء الأعداء، ولو
54
كانت بأيسر الأشياء، وعبر ثانيا بالإصابة إشارة إلى أن السيئة تفرح الأعداء مهما كانت كبيرة وخطيرة «١». والحسنة: المنفعة المادية أو المعنوية مثل صحة البدن والفوز بالغنيمة، وانتشار الإسلام، وتألف المسلمين. والسيئة: الفقر والهزيمة والتفرقة.
والمعنى: أنهم متناهون في عداوتكم والحقد عليكم، فلا توالوهم واجتنبوهم. وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا الله في موالاتهم وغيرها لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً لا يؤثر عليكم احتيالهم، للإيقاع في المكروه، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عالم، فيجازيهم به، مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري وابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم، يتهاهم عن مباطنتهم، تخوف الفتنة عليهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية. وروي مثل ذلك عن مجاهد.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة في بيان صفات الكافرين من أهل الكتاب والمشركين وعقوباتهم في الآخرة، وفي بيان أحوال المؤمنين وثوابهم.
وهذه الآيات تحذير للمؤمنين من عقد الصلات والصداقات العميقة مع الكافرين والمنافقين لأنها تؤدي إلى تسرب الأسرار، والاطلاع على أحوال المسلمين، مما تقضي المصلحة بكتمانه، ويؤدي إلى مخاطر تؤثر على كيان الأمة الإسلامية، وهذا التحذير في غاية الحكمة والتعقل وحماية المصالح العامة العليا، شأن كل أمة لا تأتمن على أسرارها إلا خواصها.
(١) حاشية الكشاف: ١/ ٣٤٦ بتصرف.
55
ولا يصح أن تكون القرابات والصداقات والعهود والمحالفات والجوار والرضاع والمصاهرة وغير ذلك سببا في توطيد الصلات والثقة بالأعداء.
التفسير والبيان:
أيها المؤمنون بالله ورسوله، وشأن الإيمان السماع إلى الكلام، لا تتخذوا الكافرين من اليهود والنصارى والمنافقين بطانة أي أصدقاء وخواص ومستشارين، تطلعونهم على أسراركم ودخائلكم، لأسباب عديدة هي:
١- لا يقصرون في إضراركم وإفساد أموركم، ما استطاعوا ذلك.
٢- يتمنون إلحاق الضرر والمشقة والهلاك بكم في دينكم ودنياكم.
٣- يظهرون لكم العداوة والبغضاء أثناء الكلام وعلى صفحات الوجوه وفلتات اللسان، ويكذبون كتابكم ونبيكم.
٤- ما تخفي صدورهم من الحسد والحقد والبغضاء للإسلام وأهله أشد وأكثر مما يظهرون.
وهذا النهي المطلق الذي له أمثال كثيرة في القرآن الكريم، يوضحه ويقيده آيتا الممتحنة: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة ٦٠/ ٨- ٩].
فإذا اطمأن الحاكم أو الإمام المسلم إلى موادة غير المسلمين، ووثق بهم، جاز التعاون معهم، كما حدث من عون اليهود للمسلمين في فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط، إذ عاونوا المسلمين في فتح مصر. وجاز توظيفهم في أعمال الدولة الإسلامية، فقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجال دواوينه من الروم، وتابعه الخلفاء من بعده على هذا النهج، وأناط العباسيون أعمال الدولة باليهود
56
والنصارى، وكان كثير من سفراء الدولة العثمانية من النصارى «١».
ثم عاد القرآن محذرا ومنبها المؤمنين قائلا لهم: قد بينا وأظهرنا لكم الدلائل والعبر التي ترشدكم إلى الخير، وتهديكم إلى سواء السبيل، إن كنتم تدركون هذه الحقائق التي ترشدكم إلى الخير، وتهديكم إلى سواء السبيل، إن كنتم تدركون هذه الحقائق التي ترشدكم إلى ضرورة التفرقة بين الأعداء والأولياء.
ثم أكد القرآن تحذيره السابق من اتخاذ الأعداء بطانة وموضع سر وثقة لأسباب ثلاثة أخرى، كل منها يستدعي الامتناع عن المودة والمخالطة حال انعدام الثقة وهي:
الأول- إنكم تحبون أولئك الكفار، وهم لا يحبونكم وإنما يعادونكم.
الثاني- إنكم تؤمنون بالكتب السماوية كلها ومنها كتابهم، وتصدقون بكل الرسل والأنبياء، ومنهم رسولهم ونبيهم، وهم يجحدون بكتابكم ونبيكم.
الثالث- إذا لقوا المؤمنين لاطفوهم حذرا على أنفسهم، وقالوا: آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإذا خلوا مع أنفسهم وشياطينهم، أظهروا شدة الغيظ والحقد والعداوة لكم، وتألموا وندموا وعضوا الأنامل على أنهم لا يستطيعون إلحاق الأذى بكم. ويكون عض الأنامل مجازا عن الغيظ والحقد أو الندم.
فأنتم مخطئون في موالاة المنافقين والكفار، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، كما قال الزمخشري، ومثل هذه الآية قوله تعالى:
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء ٤/ ١٠٤].
ثم أمر الله نبيه محمدا بأن يقول لهم: موتوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، أي مهما كنتم تحسدون المؤمنين، ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومظهر له، ومعل كلمته، ومعز أهل
(١) تفسير المنار: ٤/ ٦٨ وما بعدها.
57
الإسلام، فموتوا أنتم بغيظكم، والله عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا، بأن يريكم خلاف ما تأملون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها.
ثم أوضح الله تعالى حالا دالة على شدة عداوتهم للمؤمنين: وهو أنه إذا أصاب المؤمنين نعمة أو خير من خصب أو نصر وتأييد وكثرة وعزة أنصار، ساء ذلك المنافقين وإن أصاب المسلمين شر كجدب أو تغلب الأعداء عليهم- لحكمة إلهية في ذلك كما جرى يوم أحد- فرح المنافقون بذلك. ويلاحظ فرق التعبير البلاغي في القرآن بين جملتي: مس الحسنة وإصابة السيئة، فهم يستاءون عند أدنى مس للحسنة، ولا يفرحون حتى تتمكن الإصابة بالسيئة.
ولكن الله تعالى ذكر للمؤمنين العلاج الناجع، وأرشدهم إلى السلامة من شر الأشرار، وكيد الفجار، وهو استعمال الصبر، والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه.
فإذا صبروا على أداء التكاليف الشرعية، واتقوا ما نهاهم الله عنه، لم يضرهم كيد الكفار واحتيالهم، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق ٦٥/ ٢- ٣].
والله تعالى عالم محيط علمه بعمل الفريقين، فهو خبير بمكائد الأعداء وخفاياهم، وسيحبطها لهم ويردها في نحورهم، ويجازيهم على أفعالهم، وعليم بالمؤمنين الذين يستعينون بالصبر، ويتمسكون بالتقوى، وهما شرط النجاح والغلبة على الأعداء.
58
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية (١١٨) - آية اتخاذ البطانة «١» إلى أربعة أمور:
الأول- تأكيد الزجر عن الركون إلى الكفار، وذلك للآية السابقة: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.
الثاني- نهي المؤمنين أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء مستشارين أمناء في إبداء الآراء المهمة، وإسناد الأمور الخطيرة في الدولة إليهم.
أما اتخاذ أهل الكتاب كتبة وموظفين في أعمال الحكومة مما لا يتصل بالقضايا الحساسة للدولة فيظهر من عمل الخلفاء أنه لا مانع منه.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم: من عصم الله تعالى».
الثالث- دل قوله تعالى مِنْ دُونِكُمْ أي من سواكم على أن النهي موجه إلى استعمال غير المسلمين بطانة، لأسباب ذكرتها الآية: وهي: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يقصّرون في إفساد أموركم ووَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي ودّوا عنتكم أي ما يشق عليكم، والعنت: المشقة وقَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواهم ووَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم.
الرابع- في هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، وروي عن أبي حنيفة جواز ذلك.
ودلت الآية (١١٩) : ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ أي المنافقين من أهل
(١) بطانة الرجل: خاصته الذين يستنبطون أمره.
59
الكتاب، بدليل قوله تعالى: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا: آمَنَّا على عدم التكافؤ في المواقف بين المسلمين والمنافقين، فالمسلمون يصافونهم، وهم لا يصافون المسلمين لنفاقهم، وهي أيضا بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء، والحال أن المسلمين يؤمنون بكتاب الكتابيين كله، وهم مع ذلك يبغضون المسلمين، فلم يحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابهم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب من المسلمين في حقهم! وأما قوله: قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد بزيادة الغيظ: زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والخسران. وربما يكون المعنى: أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك، فيزول معنى الدعاء، ويبقى معنى التقريع والإغاظة، كما في قوله تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ [الحج ٢٢/ ١٥].
وذكرت الآية (١٢٠) سببا آخر لعدم اتخاذ الأعداء بطانة: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.. والمعنى من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة، لا سيما في الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو ملاك الدنيا والآخرة.
لكن يلاحظ أن هذا فيمن كانت حاله مثل المنافقين في صدر الإسلام، بدليل أن المذاهب الأربعة أجازت الاستعانة بالكفار في القتال، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، أو عند الحاجة في رأي الشافعية «١».
(١) انظر القسطلاني شرح البخاري: ٥/ ١٧٠، نيل الأوطار: ٧/ ١٣٦، الفقه الإسلامي وأدلته للمؤلف: ٦/ ٤٢٤، ط أولى.
60
ودل قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا على ترغيب المسلمين بالتزام الصبر في القيام بالتكاليف الشاقة وتنفيذ الأوامر الإلهية، والاعتصام بتقوى الله بالابتعاد عما نهى الله عنه وحظر منه، فإن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيد الأعداء شيئا. وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر في كل مقام يشق على النفس احتماله، والموقف هنا يتطلب الصبر على عداوة الكافرين واتقاء شرهم، حتى يأذن الله بالفرج القريب والنصر العاجل، والله محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بالمسلمين، فلا بد من الثقة بالله والتوكل عليه.
غزوة أحد تنظيم الجيش الإسلامي والتذكير بالنصر في غزوة بدر
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٩]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
61
الإعراب:
وَإِذْ غَدَوْتَ إذ متعلق بفعل مقدر، تقديره: واذكر إذ غدوت. إِذْ هَمَّتْ متعلق بعليم من الآية السابقة، أي: يعلم إذ همت. إِذْ تَقُولُ إما متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ أو بدل من إِذْ هَمَّتْ ولا يجوز أن يبدل من: نصركم لأن النصر كان يوم بدر، وإذ همت كان يوم أحد، أو متعلق بفعل مقدر تقديره: اذكروا.
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ أن وما بعدها في تقدير المصدر فاعل يكفيكم أي إمداد ربكم.
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ الهاء في بِهِ فيها خمسة أوجه: إما أن تعود على الإمداد، أو على المدد، أو على التسويم من مُسَوِّمِينَ أو على الإنزال من مُنْزَلِينَ أو على العدد الذي دل عليه: خمسة آلاف وثلاثة آلاف. ولام لِتَطْمَئِنَّ: لام كي، والفعل منصوب بها بتقدير: أن.
لِيَقْطَعَ طَرَفاً اللام إما متعلق بفعل دل عليه الكلام، تقديره: ليقطع طرفا: نصركم، أو متعلق بيمددكم، أو متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ على نية التقديم، وقوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ وما بعده اعتراض.
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إما بمعنى «إلا أن يتوب» وإما عطف على قوله لِيَقْطَعَ وتقديره: ليقطع طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم.
البلاغة:
إِذْ تَقُولُ أتى بالمضارع لحكاية الماضي بطريق استحضار الصورة في الذهن.
أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ الإتيان بصفة الربوبية وإسنادها للمخاطبين لإظهار كمال العناية بهم.
يَغْفِرُ ويُعَذِّبُ بينهما طباق.
62
المفردات اللغوية:
غَدَوْتَ خرجت في الغداة: وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. تُبَوِّئُ تهيأ وتنزل مَقاعِدَ مراكز وأماكن يقفون فيها. إِذْ هَمَّتْ بنو سلمة وبنو حارثة جناحا العسكر. والهم: حديث النفس واتجاهها إلى شيء. أَنْ تَفْشَلا تجبنا وتضعفا، لما رجع عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ وقال لأبي جابر السلمي القائل له: «أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم» : لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فثبتهما الله ولم ينصرفا.
وَلِيُّهُما ناصرهما. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ليثقوا به دون غيره، والتوكل: الاعتماد على الله في كفاية الأمور. أَذِلَّةٌ واحدها ذليل: وهو من لا منعة له ولا قوة، وقد كان المسلمون في بدر قليلي العدد والسلاح يَكْفِيَكُمْ الكفاية مرتبة دون الغنى، وهي سد الحاجة يُمِدَّكُمْ يعينكم، والإمداد: إعطاء الشيء حالا بعد حال مُنْزَلِينَ بكسر اللام، ويقرأ بالتخفيف والتشديد.
بَلى كلمة للجواب مثل نعم، ولكنها لا تقع إلا بعد النفي، وتفيد إثبات ما بعده، أي نعم يكفيكم ذلك، فأمدهم بألف أولا، ثم صارت ثلاثة، ثم صارت خمسة. إِنْ تَصْبِرُوا على لقاء العدو. وَتَتَّقُوا الله في المخالفة. وَيَأْتُوكُمْ أي المشركون. مِنْ فَوْرِهِمْ وقتهم أو ساعتهم، والفور: الحال السريعة التي لا إبطاء فيها ولا تراخ. مُسَوِّمِينَ بكسر الواو بمعنى معلمين أنفسهم أو خيلهم، أو بفتح الواو، فكانت عليهم علامات تميزهم، فإنهم صبروا، وأنجز الله وعده، بأن قاتلت معهم الملائكة على خيل بلق، عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد. إِلَّا بُشْرى لَكُمْ بالنصر. وَلِتَطْمَئِنَّ تسكن.
قُلُوبُكُمْ بِهِ فلا تجزع من كثرة العدو وقلتهم، فإن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء، وليس بكثرة الجند. لِيَقْطَعَ متعلق بنصركم، أي ليهلك طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر.
أَوْ يَكْبِتَهُمْ يذلهم بالهزيمة. فَيَنْقَلِبُوا يرجعوا. خائِبِينَ لم ينالوا ما راموا. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بل الأمر لله فاصبر إلى أن يتوب عليهم بالإسلام أو يعذبهم بظلمهم بالكفر.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا.
سبب النزول:
نزول آية وَإِذْ غَدَوْتَ في غزوة أحد، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى عن المسور بن مخرمة قال:
قلت لعبد الرحمن بن عوف، أي خالي: أخبرني عن قصتكم يوم أحد، فقال:
اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا، أي من قوله: وَإِذْ
63
غَدَوْتَ...
إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً أي وما بعد ذلك بمقدار ستين آية.
سبب نزول قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ:
روى أحمد ومسلم عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد كسرت رباعيته، وشج رأسه، حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.
وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: اللهم العن فلانا، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إلى آخرها، فتيب عليهم كلهم. وروى البخاري عن أبي هريرة نحوه.
قال الحافظ ابن حجر: طريق الجمع بين الحديثين: أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا على المذكورين في صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد، فنزلت الآية في الأمرين معا فيما وقع له، وفيما نشأ عنه في الدعاء عليهم.
الخلاصة: إن الآية نزلت في قصة أحد، ويمكن أن تشمل حوادث أخرى وقعت بعدها. وأما ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من الكف عن الدعاء على رعل وذكوان بعد نزول هذه الآية، ففي الخبر علة وهي الإدراج من قول الزهري عمن بلغه: وهو قوله «حتى أنزل الله» لأن هذه القصة حدثت بعد قصة أحد.
ونص
رواية مسلم: «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في الفجر: اللهم العن رعلا وذكوانا وعصية، حتى أنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.
ورواية البخاري: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة
64
يكبر ويرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يقول وهو قائم:
اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد ووطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف، اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية، عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك، لما نزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ.
المناسبة:
لما حذّر الله تعالى من اتخاذ بطانة السوء، ذكر هنا مثالا واقعيا من ميدان المعارك والغزوات، وهو أن سبب همّ الطائفتين بالفشل (الجبن والضعف) هو تثبيط المنافقين لهم بقيادة زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول.
روى الشيخان عن جابر قال: فينا نزلت: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل، لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما.
وقد تحدثت الآيات عن غزوة أحد التي أنزل فيها ستون آية من ١٢١- ١٨٠، وجاء في أثنائها الحديث عن غزوة بدر اعتراضا، ليذكّرهم بنعمته تعالى عليهم، حينما نصرهم ببدر وهم قلة.
نبذة يسيرة عن غزوتي بدر وأحد:
غزوة بدر:
حدثت معركة بدر في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، بعد أن تعرض المسلمون لقافلة أبي سفيان القادمة من الشام، التي تحمل الأموال والتجارة، في وسط من قيام حالة الحرب بين المسلمين وبين مشركي قريش بمكة،
65
بقصد الحصار الاقتصادي، وتعويض المسلمين ما صادره لهم القرشيون في مكة من أموال وعقارات وممتلكات. وقد عزّ على المكيين هذا الحادث، وأحسوا بالخطر على وجودهم، وشعروا بقوة المؤمنين في المدينة، وملأ الحقد والعزة بالإثم صدورهم. فحشدوا قواهم من قبائل العرب، ولم يتخلف من قريش إلا القليل النادر، وكان عددهم ألفا وزيادة، فيهم الفرسان والأبطال وصناديد قريش.
فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استشار أصحابه، ثم خرج إليهم مسرعا في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، لم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيرا، والباقون مشاة ليس معهم من العدد ما يحتاجون إليه.
وتقابل الجيشان في بدر: وهي بئر بين مكة والمدينة، كانت لرجل يسمى بدرا، فسمي به الموضع، والأكثر على أنه ماء هنالك، وبه سمي الموضع. وانجلت المعركة عن نصر مؤزر للمسلمين، وكارثة كبري على المشركين، وكانت معركة حاسمة قررت مصير الفريقين، وأحدثت دويا هائلا بين العرب، فسماها الله تعالى يَوْمَ الْفُرْقانِ فقال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال ٨/ ٤١].
فيها انتصرت الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكثيرة: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ وأمد الله تعالى فيها المؤمنين بالملائكة يقاتلون مع المسلمين، وظهر فيها مدى ثبات المسلمين وجرأتهم النادرة، واشترك فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاتل- وكان اشتراكه في تسع غزوات- وبرز فيها عنصر الإيمان والعقيدة والتوكل على الله في قلب المعركة وأثناء المشاركة بالسلاح، وتمثل ذلك
بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل التحام الصفين فقال: «اللهم، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم نصرك» ورفع يديه إلى السماء، حتى سقط الرداء عن منكبيه
66
فأخذه أبو بكر فرده، ثم التزمه من ورائه يسري عنه، ويشفق عليه من كثرة التضرع والاستغاثة والابتهال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال ٨/ ٩].
غزوة أحد:
اشتد غيظ المشركين بعد معركة بدر على المسلمين، وبدأ أبو سفيان زعيم قريش يؤلب المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجمعوا الأموال، وجهزوا جيشا نحو ثلاثة آلاف مقاتل، فيهم سبعمائة دارع، ومائتا فارس، على رأسهم صفوان بن أمية.
فاستشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فأشار الشيوخ ومعهم عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ورأس اليهود في المدينة بالبقاء في المدينة والقتال في شوارعها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره الخروج. وأشار الشباب بالحرب، ومعهم رجال لم يشهدوا بدرا، وقالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
وما زالوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى دخل بيته ولبس وتجهز ووافق الأغلبية رأي القائلين بالحرب، ثم ندم الذين اقترحوا الخروج وقالوا: استكرهناك يا رسول الله! ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد، صلى الله عليك،
فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته- درعه- أن يضعها حتى يقاتل».
فخرج في ألف أو إلا خمسين رجلا من أصحابه، فيهم مائة دارع وفرسان فقط، ونزل الشّعب من جبل أحد (على بعد نحو ٣ كم من شمال المدينة) يوم السبت سابع شوال في السنة الثالثة من الهجرة، وجعل ظهره وعسكره إلى «أحد» وسوى صفوفهم، وأجلس جيشا من الرماة وهم خمسون رجلا، وأمرّ عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل، وقال: انضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من
67
ورائنا، ولا تبرحوا، غلبنا أو نصرنا. وفي (سيرة ابن هشام) : ادفعوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا. وفي (زاد المعاد) : أمرهم بأن يلزموا مركزهم، ولا يفارقوا، ولو رأوا الطير تتخطف العسكر.
وكان لواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع مصعب بن عمير، وعلى أحد الجناحين الزبير بن العوام، وعلى الآخر المنذر بن عمرو، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وعلى رماتهم وكانوا مائة: عبد الله بن أبي ربيعة.
ورجع زعيم المنافقين مع ثلاثمائة من أصحابه قائلا: أيعصيني ويطيع الولدان: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ [آل عمران ٣/ ١٦٧].
وكاد بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ألا يخرجوا إلى أحد، ثم وفقهم الله، فخرجوا، وهو معنى قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما.
فلم يبق بعد رجوع المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا سبعمائة رجل.
ولما التقى الجمعان، قامت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان في نسوة يضربن بالدفوف، ويمشين وراء الصفوف.
وقاتل أبو دجانة الذي أخذ السيف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووعده بأن يأخذه بحقه، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله. وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا، وقتل عددا من الأبطال، ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم الراية لعلي بن أبي طالب، وقتل وحشي غلام جبير بن مطعم حمزة بحربة دفعها عليه، حتى خرجت من بين رجليه، فسقط شهيدا سيد الشهداء.
وانهزم المشركون، وسقط لواؤهم من يد طلحة، فحمله ابنه، ثم أخوه،
68
وكاد النصر يتحقق للمسلمين، لولا أن الرماة على ظهر الجبل خالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وانحدروا يجمعون الغنائم، وفارقوا مكانهم.
ففطن خالد بن الوليد لمكان الضعف، فبادر من قناة مع خيل المشركين إلى تطويق المسلمين من أعلى جبل الرماة من الخلف، وانقض مع جيشه يفتك بالمسلمين، وشاع بين الناس أن محمدا قد قتل، فتراجع المسلمون، وهربوا، وأصيب النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة، حتى وقع لشقه، فكسرت رباعيته، وشج في رأسه، وجرحت شفته، وسال الدم على وجهه، وغاب حلق المغفر في وجنتيه، وأصيبت ركبتاه،
وجعل يمسح الدم ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟!» وأخذ بيده علي ورفعه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان الدم عن وجهه صلّى الله عليه وسلّم وابتلعه.
ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو المسلمين في أخراهم، ويقول: «إليّ عباد الله، أنا رسول الله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران ٣/ ١٥٣].
وصار أبو سفيان يقول: يا معشر قريش، أيكم قتل محمدا؟ فقال عمر بن قميئة: أنا قتلته. وكان كعب بن مالك أول من بشر بنجاة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسلمه الله من أذى المشركين: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧]. ولم يقتل صلّى الله عليه وسلّم في حياته سوى أبي بن خلف الذي تآمر على قتل النبي وفيه نزلت آية: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال ٨/ ١٧].
وكان يوم بلاء شديد على المسلمين، استشهد فيه منهم سبعون رجلا، وعدة قتلى المشركين اثنان وعشرون رجلا.
ووجد في ساحة المعركة حمزة سيد الشهداء، وكانت هند بنت عتبة قد بقرت كبده ولاكتها، ولم تستسغها، وصرخ أبو سفيان بأعلى صوته: الحرب
69
سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل (صنم عند الكعبة) أي ظهر دينك. ولما انصرف ومن معه قال: إن موعدكم بدر العام القابل،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قولوا له: هو بيننا وبينكم.
ثم بحث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عمه الحمزة، فوجده مبقور البطن، مجدوع الأنف، مصلوم الأذن، فحزن حزنا شديدا، وقال: «لئن أظهرني الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين منهم». ثم سجّاه ببردته، وصلى عليه، وكبر سبع تكبيرات، وصف إلى جانبه القتلى، وصلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة. ثم دفن حمزة، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بدفن بقية القتلى قائلا: ادفنوهم حيث صرعوا.
وكان سبب الهزيمة كما تبين مخالفة الرماة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وطمعهم في الغنائم، وكانت هذه المعركة محنة للمسلمين، وتمحيصا وتربية للمؤمنين، وتعليما لهم بأن النصر منوط باتخاذ الأسباب، وأن الهزيمة لا تعني نكسة في الإيمان واضطرابا في اليقين، لذا قال تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [آل عمران ٣/ ١٥٣]. وأن البلاء يعم، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال ٨/ ٢٥].
التفسير والبيان:
اذكر لهم يا محمد وقت خروجك من بيتك غدوة يوم السبت سابع يوم من شوال سنة ثلاث للهجرة تنزل المؤمنين أمكنة القتال، وتعبئ الجيش، فتضع جماعة على جبل الرماة، وآخرين في الميمنة، وأولئك في الميسرة، وتخصص مواضع معينة للفرسان.
والله سميع لما قاله المؤمنون فيما شاورتهم فيه، سواء الذين قالوا: «لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا» والذين قالوا: «اخرج بنا حتى نلقاهم في
70
خارج المدينة» والله عليم بكل نية وفعل، سواء من أخلص القول، وإن أخطأ، ومن نافق وإن أصاب كعبد الله بن أبي وجماعة المنافقين.
والله أيضا سميع عليم حين همت طائفتان من الأنصار وهم بنو سلمة من الأوس، وبنو حارثة من الخزرج- وكانتا جناحي عسكر المسلمين ونحو ثلثهم- أن تضعفا وتجبنا عن القتال ولا تخرجا إلى المعركة، حين رأوا تراجع المنافقين، ولكن الله متولي أمورهما لصدق إيمانهما، فعصمهم من الخذلان والذل، وحماهم من الجبن والفرار لأن الهم بالشيء لا يعد معصية بدليل قوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وليثقوا به، وليعتمدوا على تأييده، لا على قوتهم وأنصارهم، بعد اتخاذ الأسباب، وإعداد العدة، وتجهيز الجيش والسلاح الملائم لكل عصر، فإن الإنسان مأمور باتخاذ الأسباب، ثم ترك النتائج والمسببات إلى الله تعالى، فهو تعالى ينصر الفئة القليلة المؤمنة على الفئة الكثيرة بإذنه، كما نصر المؤمنين يوم بدر.
لذا اقتضى المقام تذكيرهم بنصر الله لهم يوم بدر، لما توكلوا عليه وامتثلوا أوامره وأوامر نبيه، وكانوا قليلي العدد والعدد، إذ كانوا نحو ثلاثمائة والكفار نحو ألف، وليس معهم سوى فرسين، ومع المشركين الخيول والدروع والفرسان والأبطال.
فذلك دليل على أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد، وكما قال تعالى يوم حنين: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة ٩/ ٢٥- ٢٧].
فاتقوا الله بطاعته واجتناب محارمه، والثبات مع رسوله، والصبر على المشاق، لتشكروا الله أو لتصيروا شاكرين أو لتعدّوا أنفسكم لشكره، فإن الطاعة والصبر والثبات عدة الشكر على النعمة والنصر.
71
واذكر يا محمد حين تقول للمؤمنين يوم بدر، تعدهم تطمينا، وقد هابوا العدو لكثرتهم: ألن يكفيكم إمداد ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة أنزلهم الله تعالى لقتال الكفار. أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربيّ يريد أن يمدّ المشركين، فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المسلمين، فأنزل الله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إلى قوله: مُسَوِّمِينَ فبلغ كرزا الهزيمة، فلم يمدّهم ورجع، فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدّوا بألف.
قال قتادة: كان الإمداد بالملائكة يوم بدر، أمدهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فذلك قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وقوله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ وقوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فصبر المؤمنون يوم بدر، واتقوا الله، فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة، على ما وعدهم فهذا كله يوم بدر.
وكان هذا الإمداد ماديا فعليا من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم، وشاركت الملائكة في القتال، وأكد ذلك روايات كثيرة ثابتة في البخاري ومسلم «١» وليس ذلك من قبيل الإمداد المعنوي، كما جنح إليه صاحب (تفسير المنار) وهو رأي قديم لبعضهم إذ قال: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبّحون، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت. والرأي الأول هو ما عليه أكثر
(١) وقد كنت تورطت بمقال نشر في مجلة (حضارة الإسلام) بعنوان «الإمداد بالملائكة» تأثرا بما رجحه صاحب تفسير المنار والشيخ محمد عبده، ثم عدلت عن ذلك، لتضافر الروايات الصحيحة في السنة على أن الإمداد كان فعليا.
72
المفسرين «١». قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون، إنما يكونون عددا أو مددا.
وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفار «٢».
هذا على القول بأن آية إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ.. هي تذكير بالقول يوم بدر.
وقيل عن عكرمة والضحاك: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا، فلم يمدّهم بملك واحد، ولو أمدّوا لما هزموا.
ومجمل القول: اختلف المفسرون في هذا الوعد: إِذْ تَقُولُ.. هل كان يوم بدر أو يوم أحد؟ على قولين: القول الأول- للحسن البصري وجماعة واختاره الطبري: وهو أنه متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ. والقول الثاني- لمجاهد وجماعة آخرين: وهو أن هذا الوعد متعلق بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ.. وذلك يوم أحد، والظاهر القول الأول.
ثم ذكر تعالى: بلى يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بزيادة الإمداد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا، حثا لهم عليهما، وتقوية لقلوبهم.
فإن تصبروا على لقاء العدو، وتتقوا المعاصي، ومخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويأتيكم المشركون من ساعتهم هذه لقتالكم، يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (بكسر الواو وفتحها) أي معلمين أنفسهم أو خيلهم، أو معلمين بعمائم صفر
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ١٩٤
(٢) التفسير الكبير للرازي: ٨/ ٢١٣، تفسير الألوسي: ٤/ ٤٧
73
مرخاة على أكتافهم، كما قال الكلبي، وعن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها،
وعن قتادة: كانوا على خيل بلق. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: تسوّموا، فإن الملائكة قد تسوّمت.
والخلاصة: دل القرآن على أنهم أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، في قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ، أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وأما الإمداد بثلاثة آلاف أو بخمسة آلاف فأثبته بعضهم، لكن قال الطبري: ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وعلى أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على النحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف «١». وأضاف الطبري قائلا:
أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدوا، لم يهزموا، وينل منهم ما نيل.
وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون، ولإلقاء الطمأنينة في قلوبكم بأن معونة الله ونصرته معكم، أي: أن للإمداد بالملائكة غايتين:
١- التبشير بالنصر على الأعداء، وإدخال السرور على القلوب.
٢- تطمين المؤمنين بأن الله معهم وأنه مؤيدهم، فلا يجبنون عن المحاربة.
وما النصر الحقيقي إلا من عند الله العزيز: القوي الذي لا يغلب، الحكيم الذي يدبر الأمور على أحكم الخطط وأقوم الوسائل، والذي يعطي النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة.
(١) جامع البيان للطبرسي.
74
حقق الله نصركم يوم بدر وأمدكم بالملائكة ليهلك طائفة من رؤوس الكفر والشرك بالقتل والأسر، فقد قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من رؤساء قريش وصناديدهم أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، فينقلبوا خائبين غير ظافرين بمبتغاهم، وذلك نحو قوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، لَمْ يَنالُوا خَيْراً [الأحزاب ٣٣/ ٢٥] أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والعداوة، فيكونون ظالمين لأنفسهم.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله، فقال: ليس لك يا محمد من أمر البشر شيء، وما عليك إلا تنفيذ أمري وإطاعتي، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تتألم منهم، ولا تدع عليهم، فربما تاب بعضهم، وقد تاب وأسلم أبو سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية.
ثم أكد سبحانه وتعالى أن الأمر بيده، فلله ملك السماء والأرض وما فيهما، وكلهم خلقه وعبيده، يحكم فيهم بما يشاء، فيغفر لمن يشاء المغفرة له، ويعذب من يشاء تعذيبه، بحكمة وعدل، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب من أوليائه، الرحيم بأهل طاعته، فيعفو ويصفح، ويترك العقاب عاجلا أو آجلا.
وفي ذلك تعليم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأمته إذ الأمر كله لله، والكل خاضعون له، لا فرق في ذلك بين ملك مقرّب أو نبي مرسل أو بشر آخر ممن خلق، إلا من سخره الله لمهمة أو أذن له بشفاعة، على وفق السنة الكونية العامة، وبمقتضى المشيئة الإلهية المطلقة، ولحكمة قد لا ندركها إلا يوم القيامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
خلاصة ما دلت عليه الآيات ما يأتي:
- لا بد للبشر في كل أمورهم من اتخاذ الأسباب والقيام بواجباتهم المعتادة،
75
سواء في حال السلم أو في حال الحرب والقتال، ومنها إعداد القوة وتعبئة الجيش وتنظيم المقاتلين.
- ومن اتخاذ الأسباب المطلوبة في الظاهر والفعل: إطاعة أوامر الله والقائد، فقد انتصر المسلمون في بدر، وأمدهم الله تعالى بالملائكة فعلا، وشاركوهم في القتال، لما صبروا وثبتوا واتقوا وأطاعوا الله سبحانه، وهزموا في أحد لما خالفوا أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتركوا مواقعهم في جبل الرماة، وهذا دليل واضح على أثر التقوى والصبر في غزوتي بدر وأحد، كما أن لهما أثرا في التعامل مع الأعداء، فإن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا، كما في الآية (١٢٠).
- وإنجاز النصر مرهون بنصر الله تعالى ودينه، وتحقيق النتائج إنما هو بيد الله تعالى وحده، ولله الأمر كله، وله ملك السموات والأرض وما فيهن.
أما تفصيل دلالات الآيات وأهم الأحداث التي صاحبت غزوتي بدر وأحد فهو ما يأتي:
١- لا بد لكل قائد حربي من وضع خطة استراتيجية للمعركة التي يخوضها مع الأعداء، ولا بد من تنظيم صفوف المقاتلين وترتيب مواقعهم وإنزالهم في أماكن معينة يتم من خلالها لقاء المحاربين، وقد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك بوصفه قائد الحرب في معركة أحد، كما أشارت الآية: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ...
٢- إن صدق الإيمان وإخلاص المقاتلين يعصمان من الوساوس والهم بالشيء وأحاديث النفس، كما عصم الله طائفتي بني حارثة وبني الأوس من الأنصار من التراجع بقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما حين رجع المنافقون إلى المدينة.
٣- شارك النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلا في القتال في تسع غزوات، منها غزوة أحد، وفيها جرح في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة
76
(الخوذة) «١» من على رأسه، وكان الذي رماه في وجهه عمرو بن قميئة الليثي، الذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
٤- كان من كوارث أحد أن قتل حمزة عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وسيد الشهداء، قتله وحشي الذي كان مملوكا لجبير بن مطعم، وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلّها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر.
فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله.
وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرّت به قالت: إيها أبا دسمة، اشف واستشف. فكمن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين فلما رجع من حملته، ومرّ بوحشي زرقه بالمزراق (رمح قصير) فأصابه فسقط ميّتا، رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة، فلاكتها، ولم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت أبياتا مطلعها:
نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ولا أخي وعمّه وبكري
٥- دل قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ على أن التوكل على الله من الإيمان. والتوكل في اللغة: إظهار العجز والاعتماد على الغير. وأما في الشرع فليس هو ترك الأسباب، كما زعم قوم، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من
(١) وهي زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
77
مطعم ومشرب وتحرز من عدوّ، وإعداد الأسلحة، واستعمال سنة الله تعالى المعتادة «١».
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر، وهو ضعيف: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف».
٦- أرشدت الآيات وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [١٢٣- ١٢٥] إلى أن الله تعالى نصر عباده المؤمنين في بدر أول لقاء مسلح مع المشركين، فرق الله بين الحق والباطل وسماه «يوم الفرقان»، وأسفر عن معركة حاسمة بعيدة المدى في التاريخ الإنساني، وأمد الله تعالى به المؤمنين بالملائكة، باعتباره سببا من أسباب النصر، لتطمئن قلوبهم وتتعلق بالله وتثق به، وليمتثلوا ما أمرهم به من اتخاذ الأسباب التي قد خلت من قبل: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب ٣٣/ ٦٢].
أما في الحقيقة فالناصر هو الله تعالى بسبب وبغير سبب: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
وأما كلمة مُسَوِّمِينَ بكسر الواو اسم فاعل: فمعناها أنهم أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم، وقال كثير من المفسرين: مسوّمين أي مرسلين خيلهم في الغارة. وأما بفتح الواو اسم مفعول: فالمعنى: معلّمين بعلامات. وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة،
فروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما «أن الملائكة اعتمّت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم» ذكره البيهقي عن ابن عباس، وحكاه المهدوي عن الزجاج.
وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق «٢».
وذلك دليل على اتخاذ الشارة (الهيئة) والعلامة للقبائل والكتائب، يجعلها السلطان لهم، لتتميز كل قبيلة وكتيبة عن غيرها عند الحرب.
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ١٨٩
(٢) البلق: سواد وبياض.
78
٧- إن الإمداد بالملائكة يوم بدر كان إمدادا فعليا، لا معنويا، بدليل الثابت في الروايات الكثيرة في السنة النبوية. وقد جعله الله بشرى للمؤمنين بالنصر وتطمينا لقلوبهم، وإهلاكا لأعدائهم. والنصر الحقيقي بسبب أو بغير سبب هو من عند الله القوي الغالب الحكيم الصنع، المدبر لكل الأمور على وفق الحكمة بوضع كل شيء في المحل المناسب له.
٨- إن جرح النبي صلّى الله عليه وسلّم في معركة أحد أمر عظيم الوقع والتأثير على النبي نفسه وعلى المؤمنين، لذلك
قال كما ثبت في صحيح مسلم حينما جعل يمسح الدم عنه: «كيف يفلح قوم شجّوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله تعالى» فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.
قال الضحاك: همّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو على المشركين، فأنزل الله تعالى:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.
وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية، علم أن منهم من سيسلم، وقد آمن كثير، منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عمر قال: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فهداهم الله للإسلام، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وعلى أي حال: فهذه الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ دليل قاطع على أن القرآن من عند الله، فهذا تنبيه لرسول الله وإعلام له بأن الأمر كله لله، سواء دعا على المشركين أو لم يدع.
٩- بناء على ما ثبت من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم على جماعة من المشركين في صلاة الفجر، اختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها. فمنعه الكوفيون (الحنفية والحنابلة) لما
روي في الموطأ عن ابن عمر: «أنه كان لا يقنت في شيء
79
من الصلاة»
ولما روى النسائي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين لم يقنتوا.
وأجازه الحجازيون (المالكية والشافعية) لكن الأفضل عند المالكية قبل الركوع، وعند الشافعية بعد الركوع
لما روى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: «ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا».
وروى أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاء القنوت وهو دعاء عمر: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك... » إلخ. وروى البيهقي صيغة القنوت بلفظ: «اللهم اهدني فيمن هديت..» إلخ.
إرشادات للمؤمنين بفعل الخيرات وترك المنكرات وجزاء الطائعين والعصاة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
80
الإعراب:
أَضْعافاً مُضاعَفَةً: أضعافا حال منصوب من الربا، ومضاعفة: صفة له وَسارِعُوا معطوفة على ما قبلها من القصص عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وأُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الأولى جملة اسمية والثانية فعلية، وهما في موضع جر صفة لجنة.
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ: مَنْ استفهام معناه النفي: مبتدأ، ويَغْفِرُ:
خبره، وفيه ضمير يعود إلى مَنْ. وإِلَّا اللَّهُ: بدل من ضمير يَغْفِرُ، وتقديره:
ما يغفر الذنوب إلا الله.
وَجَنَّاتٌ تَجْرِي.. جملة: تجري فعلية في موضع رفع صفة لجنات، والعائد إليها الهاء في تَحْتِهَا. خالِدِينَ فِيها حال من أولئك، أي مقدرين الخلود فيها. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ونعم أجر العاملين الجنة، وحذف لدلالة الكلام المتقدم عليه.
البلاغة:
أَضْعافاً مُضاعَفَةً جناس اشتقاق.
لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا مجاز مرسل، سمي الأخذ أكلا لأنه يؤول إليه.
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ تشبيه بليغ حذف منه أداة الشبه، أي كعرض السموات والأرض.
سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ أي إلى موجب مغفرة، تسمية للشيء باسم سببه.
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فيه طباق.
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ استفهام يقصد منه النفي أي لا يغفر.
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ الإشارة بالبعيد للدلالة على علو منزلتهم.
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ حذف منه المخصوص بالمدح أي ونعم أجر العاملين الجنة.
المفردات اللغوية:
أَضْعافاً مُضاعَفَةً بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب، وضعف
81
الشيء: مثله، وهذه المضاعفة: إما في الزيادة فقط التي هي الربا، وإما بالنسبة إلى رأس المال كاستدانة مائة بثلاثمائة وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الربا بأن تجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه تُفْلِحُونَ تفوزون وَاتَّقُوا النَّارَ أن تعذبوا بها أُعِدَّتْ هيئت وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ بادروا إلى الأسباب المؤدية إليها من الأعمال الصالحة، كالصدقة وفعل الخير والتوبة عن الآثام كالربا ونحوه عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي كعرضهما لو وصلت إحداهما بالأخرى، والعرض: السعة، والمراد وصف الجنة بالسعة.
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ السراء: الحال التي تسر، والضراء: الحال التي تضر، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الحابسين والكاتمين له مع القدرة على إمضائه.
والغيظ: أشد أنواع الغضب، وهو ألم شديد يحدث في النفس عند الاعتداء على حق مادي كالمال والولد، أو معنوي كالشرف والعرض والكرامة.
الْمُحْسِنِينَ الإحسان: الإنعام والتفضل على الغير على نحو لا مذمة فيه فاحِشَةً الفاحشة: الذنب الكبير والفعل القبيح الذي يتعدى أثره إلى الغير كالزنا والغيبة ونحوهما. وظلم النفس: هو الذنب الذي يقتصر أثره على الفاعل كشرب الخمر ونحوه.
ذَكَرُوا اللَّهَ تذكروا وعده ووعيده، وأمره ونهيه، وعظمته وجلاله.
يُصِرُّوا يداوموا، والمراد شرعا بالإصرار على الذنب: الاستمرار في فعل القبيح دون إقلاع عنه من غير تراجع ولا استغفار ولا توبة وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الذي أتوه معصية.
سبب النزول:
نزول الآية (١٣٠) :
أخرج الفريابي عن مجاهد قال: كانوا يبتاعون إلى الأجل، فإذا حل الأجل، زادوا عليهم، وزادوا في الأجل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
وأخرج أيضا عن عطاء قال: كانت ثقيف تداين بني النصير، فإذا جاء الأجل قالوا: نربيكم وتؤخرون عنا، فنزلت: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
82
نزول الآية (١٣٥) :
قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت الآية في نبهان التّمّار، وكنيته أبو مقبل، أتته امرأة حسناء، باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه وقبّلها، ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن حذر الله المؤمنين من اتخاذ البطانة من غير المسلمين، وبيّن أنهم إن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا، وذكر مثالا للصبر والتقوى في غزوتي بدر وأحد وما فعله المشركون واليهود، حذر هنا المسلمين من فحش صفة لازمة لليهود والمشركين وهي الربا، واستتبع هذا بيان ألوان من الترغيب والترهيب والإرشادات وثمرة فعل الخير والشر.
التفسير والبيان:
يا أيها المؤمنون، إياكم أن تأكلوا الربا كما كان الناس يفعلون في الجاهلية، فهو نهي صريح للمؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة، وزاده الآخر في قدر الفائدة، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا.
وضم الله تعالى إلى هذا النهي لتأكيد تحريم الربا أمر المؤمنين بالتقوى لعلهم يفلحون في الدنيا والآخرة، ثم زاد النهي تأكيدا فتوعدهم بالنار، وحذرهم منها ثم شدد في الأمر بإطاعة الله والرسول، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات، والمسارعة إلى نيل القربات.
وقد أوضحت في الجزء الثالث في تفسير آيات الربا (٢٧٥- ٢٧٦،
83
٢٧٨- ٢٧٩) من سورة البقرة أن هذه الآية نزلت في المرحلة الثالثة من مراحل تدرج التشريع في تحريم الربا، وأن قليل الربا ولو ١ وكثيره حرام، وأن الآيات القرآنية التي في سورة البقرة والتي هي آخر الأحكام نزولا دلت على تحريم نوعي الربا: ربا النسيئة (أي الأجل) وربا الفضل (أي الزيادة الحالية) وأن تحريم الربا بنوعيه إنما هو لمصلحة الأمة، لما فيه من خطر على الفرد والجماعة، وأن تحريم ربا الفضل من باب سد الذرائع، أي حتى لا يكون ذريعة يتذرع به إلى ربا النسيئة، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا مادية كثيرة أو قليلة.
وربا الجاهلية أو ربا النسيئة هو ما يسمى اليوم في المصارف الربوية بالربا الفاحش أو الربح المركب أو الفائدة المركبة مع مرور الزمن، وهو محرم قطعا بنص القرآن الكريم، وأما التقييد بالأضعاف المضاعفة في الآية فهو قيد لبيان الواقع وتصوير للحالة التي كان عليها الناس في الجاهلية، وتشنيع عليهم بأن في هذه المعاملة ظلما صارخا واستغلالا واضحا لحاجة المدين. ولا يعني هذا التقييد أصلا أن الربا اليسير حلال، وأن الحرام هو الربا الفاحش فقط، فذلك ليس مرادا من الآية، فالربا قل أو كثر هو حرام وكبيرة من الكبائر، وليس لهذا القيد أي مفهوم. ولا يبلح الربا بحال إلا للمضطر في حدود الضرورة القصوى، مثل الإقدام على أكل الميتة، كأن غلب على ظنه الوقوع في الهلاك جوعا، أو تعرض للعيش في الشارع بلا مسكن يأوي إليه، أما الاقتراض بفائدة للتوسع في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، فهو حرام، إلا إذا كان مهددا بغالب الظن بالإفلاس أو تلف المحصول الزراعي، فهو حرام، إلا إذا كان مهددا بغالب الظن بالإفلاس أو تلف المحصول الزراعي، ولم يجد أحدا يقرضه القرض الحلال، فله الاقتراض بفائدة بقدر إنقاذ نفسه من الضائقة المستحكمة لأن الضرورة تقدر بقدرها.
ومما يبشر بخير في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحالية نجاح مؤسسات المصارف
84
وشركات التأمين الإسلامية التي تقوم على أساس عقود المضاربة والمرابحة والضمان وغيرها مما أباحه الفقهاء، وليس فيه الربا الحرام أو الغرر والمقامرة المحرمان شرعا.
وأكد الله تعالى النهي عن الربا بالأمر بتقوى الله فيما نهينا عنه من الأمور، ومنها الربا، لنحقق لأنفسنا الفوز والفلاح في الدنيا بالتعاون والتراحم المؤديين إلى المحبة، والمحبة أساس السعادة، وفي الآخرة بالظفر برضوان الله وبالجنة.
وزاد النهي تأكيدا بالتحذير مما يؤدي إلى النار، ومنه الربا، تلك النار التي هيأها الله للكافرين ومنهم المرابون، فإذا لم يمتثلوا جانب التقوى واتقاء المعاصي، صاروا في عداد أهل النار، روي عن أبي حنيفة رحمه الله: إن هذه أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمه. وقد عرفنا في سورة البقرة أن الله تعالى أعلن الحرب والعداوة من الله ورسوله على أكلة الربا.
ثم شدد تعالى في النهي تشديدا بليغا، فأمر بإطاعة الله ورسوله فيما نهى عنه الله ورسوله من أخذ الربا، كي يرحم الناس في الدنيا بصلاح حالهم، وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالهم.
ثم أمر عز وجل بالمبادرة إلى ما يوجب مغفرة الذنوب ودخول الجنان الواسعة الفسيحة التي أعدها الله للمتقين، وهذا دليل على أن الجنة مخلوقة الآن.
روى الإمام أحمد في مسنده: أن هرقل كتب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟»
أي أنه إذا دار الفلك كان النهار في جانب من العالم، والليل في الجانب الآخر، فكذا الجنة في ناحية العلو، والنار في جهة السفل، فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار. ويمكن أن يكون
85
المعنى: أنه لا يلزم إن عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل،
قال ابن كثير:
وهذا أظهر لحديث أبي هريرة عند البزار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أرأيت قوله تعالى: جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟
قال: «أرأيت الليل إذا جاء، لبس كل شيء، فأين النهار؟» قال: حيث شاء الله، قال: «وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل».
هذه أربعة تأكيدات للتّنفير من الرّبا: اتّقوا الله، اتّقوا النّار، أطيعوا الله، أطيعوا الرّسول. ثمّ رغب تعالى بفعل الخير بعد التّرهيب، فأمر بالمبادرة إلى فعل الطاعات كالصدقة والصّلة والتّراحم والتّعاون والبعد عن الآثام كالرّبا ونحوه، وتلك الأعمال الخيرية هي التي تجعل المجتمع الإسلامي متراحما سعيدا مطمئنا لا أحقاد فيه ولا صراعات ولا حسد ولا بغض ولا كراهية بين الفقراء والأغنياء.
ثم ذكر الله تعالى أوصاف أهل الجنة، وهي:
١- الذين ينفقون في السّراء والضراء، أي في الشدة والرّخاء، والمنشط والمكره، والصّحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة ٢/ ٢٧٤]، والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البرّ،
وجاء في الحديث عند أحمد والشيخين عن عدي: اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة».
والأمر بالإنفاق له هدفان:
الأول- أنّ الصدقة عون المحتاج وأخذ بيده إلى طريق الكفاية، والرّبا استغلال الغني حاجة الفقير، لذا قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، فَأُولئِكَ هُمُ
86
الْمُضْعِفُونَ
[الرّوم ٣٠/ ٣٩]، وقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة ٢/ ٢٧٦].
الثاني- أنّ الإنفاق في مختلف الأحوال يسرا وعسرا وغيرهما أدلّ على التّقوى، وأعون على سدّ الحاجات المتكررة، بنحو تدريجي بطيء، فلا يكون فيه إرهاق على المنفق، ولا إهمال للمحتاج حتى يصير في أدنى درجات الحاجة، والحكمة تقول: «أعط القليل فالحرمان أقل منه». وحبّ الخير وتذكّر الآخرة هو الذي يحرّك في الإنسان عاطفة الرّحمة، وداعية البذل لإنفاق القليل الدائم، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع، والقليل إذا اجتمع من الأفراد والجماعات صار كثيرا محققا للمطلوب، لذا قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق ٦٥/ ٧].
٢- والكاظمين الغيظ أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموا، فلم يعملوه مع القدرة على إمضائه وإنفاذه، لا عن ضعف وعجز،
قال عليه الصّلاة والسّلام: «ليس الشديد بالصّرعة، لكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «١».
وروى أحمد أيضا أن حارثة بن قدامة السعدي قال: يا رسول الله، أوصني، قال: «لا تغضب».
وطريق علاج الغضب
ما رواه أحمد وأبو داود عن عطية بن سعد السعدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
وروى عبد الرّزاق عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه، ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا».
(١) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
87
وأثر عن عائشة رضي الله عنها أن خادما لها أغاظها فقالت: لله درّ التّقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء.
٣- والعافين عن الناس أي الذين يتسامحون ويعفون عمن أساء إليهم مع القدرة على ردّ الاعتداء، وتلك منزلة ضبط النفس التي تدلّ على سعة العقل ورجاحة الفكر وقوة الإرادة ومتانة الشخصية، وهي أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة، وهذا مثل قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى ٤٢/ ٣٧]،
وروى الحاكم والطبراني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن يشرف له البنيان، وترفع له الدّرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه» «١».
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربّكم، وخذوا أجوركم، وحقّ على كلّ امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة».
وفي هذا إشارة إلى عفو النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرّماة الذين خالفوا أمره في غزوة أحد، وإلى تركه مجازاة المشركين بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حين قال- وقد رآه مثّل به
كما جاء في السيرة-: «والذي نفسي بيده لأمثّلنّ بسبعين منهم».
٤- والله يحبّ المحسنين: الذين يقابلون الإساءة بالإحسان، إما بإيصال النّفع لمن أساء، وإما بدفع الضّر عنه في الدّنيا بألا يقابل الإساءة بمثلها، أو في الآخرة بالعفو عماله عند النّاس من الحقوق. وهذه مرتبة هي أعلى المراتب السابقة.
أخرج البيهقي أنّ جارية لعلي بن الحسين رضي الله عنه جعلت تسكب عليه الماء، ليتهيأ للصّلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه، فقالت: إن الله يقول: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال لها: قد كظمت غيظي،
(١) قال الحاكم: هو صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
88
قالت: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفا الله عنك، قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله تعالى.
٥- والذين إذا فعلوا فاحشة، أي ذنبا يتعدّى ضرره إلى الغير كالزّنى والرّبا والسّرقة والغيبة ونحوها، أو ظلموا أنفسهم أي فعلوا ذنبا يقتصر ضرره عليهم كشرب الخمر ونحوه، ذكروا وعد الله ووعيده، وعظمته وجلاله، فرجعوا إليه تائبين مستغفرين لذنوبهم، طالبين رحمته.
علما- وهذه جملة اعتراضية- بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، ومن فضله وإحسانه وكرمه أنه يعفو عن المسيء، ويتجاوز عن المذنب مهما عظمت الذنوب، غير الشرك، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨]، وقال أيضا: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف ٧/ ١٥٦].
وشرط قبول التوبة: عدم الإصرار على الذّنب، وهذا قوله: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمرّوا على المعصية ويصرّوا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذّنب تابوا منه، كما
قال الحافظ أبو يعلى في مسنده، فإنه مع أبي داود والترمذي والبزار في مسنده رووا عن أبي بكر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أصرّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» «١».
وهم يعلمون أن الذي أتوه معصية، ويذكرون ذنوبهم فيتوبون منها، وأن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة ٩/ ١٠٤]، وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء ٤/ ١١٠].
(١) حديث حسن. [.....]
89
ثم أبان الله تعالى بعد وصف المتّقين بالأوصاف السابقة: أن أولئك المتّقين الموصوفين بهذه الصّفات جزاؤهم مغفرة من ربّهم على ذنوبهم، وأمن من العقاب، ولهم ثواب عظيم عند ربّهم في جنّات تجري من تحتها الأنهار، أي من أنواع المشروبات، وهم خالدون فيها أي ماكثون فيها، ونعم هذا الجزاء على تلك الأعمال الصالحة وهو الجنة، فهو تعالى يمدح الجنة، وحقّ له المدح، ففيها النعيم الأبدي المطلق، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات (١٣٠- ١٣٢) على تحريم الرّبا من نواح أربعة: النّهي عنه لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا واتّقاء الله في أموال الرّبا فلا تأكلوا، والوعيد لمن استحلّ الرّبا بالنّار، ومن استحلّ الرّبا فإنه يكفر، والأمر بإطاعة الله في تحريم الرّبا، وإطاعة الرّسول فيما بلّغ الناس من التّحريم، كي يرحمهم الله.
قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حلّ الأجل زادوا في الثّمن على أن يؤخّروا، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
قال القرطبي «١» : وإنما خصّ الرّبا هنا من بين سائر المعاصي لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة ٢/ ٢٧٩]، والحرب يؤذن بالقتل فكأنه يقول: إن لم تتّقوا الرّبا هزمتم وقتلتم، فأمرهم بترك الرّبا لأنه كان معمولا به عندهم.
ودلّت عبارة أَضْعافاً مُضاعَفَةً المؤكّدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التّضعيف خاصة، فإنهم كانوا يكرّرون التّضعيف عاما بعد عام.
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٠٢
90
ودلّت آية وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ على أنّ النّار مخلوقة، ردّا على الجهمية لأنّ المعدوم لا يكون معدّا.
وأرشدت آية وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ إلى وجوب المبادرة إلى ما يوجب المغفرة، وهي الطاعة، وقدم المغفرة على الجنّة لأنّ التّخلي مقدم على التّحلي، فلا يستحقّ دخول الجنّة من لم يتطهّر من الذّنوب أولا.
واختلف العلماء في تأويل قوله: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فقال ابن عبّاس: تقرن السّموات والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب، ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنّة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور. ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه. وأشارت آية أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ إلى أن الجنّة مخلوقة موجودة كالنّار، وهذا قول عامّة العلماء. ويؤيده نص حديث الإسرار وغيره في الصحيحين وغيرهما،
وحديث أبي ذر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما السّموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض».
وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السّموات والأرض، ابتدأ خلق الجنّة والنّار حيث شاء لأنهما دار جزاء بالثّواب والعقاب، فخلقتا بعد التّكليف في وقت الجزاء لئلا تجتمع دار التّكليف ودار الجزاء في الدّنيا كما لم يجتمعا في الآخرة.
ويلاحظ أنه تعالى أمر بالمسارعة إلى عمل الآخرة في آيات كثيرة:
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [آل عمران ٣/ ١٣٣]، سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [الحديد ٥٧/ ٢١]، اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
[البقرة ٢/ ١٤٨]، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة ٦٢/ ٩]، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين ٨٣/ ٢٦]، وأما السّعي للدّنيا فذكر بها تذكيرا برفق مثل: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها
91
[الملك ٦٧/ ١٥]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ [المزمل ٧٣/ ٢٠]. وفي الآية (١٣٤) صفات المتّقين الأبرار: وهي الإنفاق في الرّخاء والشّدة، وفي حال الصّحة والمرض وكظم الغيظ وكتمه وردّه في الجوف دون إنفاذ وإمضاء مع القدرة على ذلك، والغيظ أصل الغضب والفرق بينهما: أن الغيظ لا يظهر على الجوارح (الأعضاء) بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما، ولا بدّ أن يظهر، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم والعفو عن النّاس عند الإساءة، وكل من استحقّ عقوبة فتركت له، فقد عفي عنه، والإحسان بعد الإساءة أعلى المراتب، والإحسان: أن تحسن وقت الإمكان، فليس كلّ وقت يمكنك الإحسان. ومعنى قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم على إحسانهم.
وهذه أصول الفضائل وأمّهات مكارم الأخلاق. ثم ذكر الله تعالى بقوله:
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً... صنفا هم دون الصنف الأول، فألحقهم به برحمته ومنّه، وهم التّوابون. ذكر التّرمذي وقال: حديث حسن، وأبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد يذنب ذنبا، ثم يتوضأ ويصلّي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له»، ثم تلا هذه الآية: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللَّهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ... الآية
، والآية الأخرى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء ٤/ ١١٠]. والفاحشة تطلق على كلّ معصية، وقد كثر اختصاصها بالزّنى، حتى فسّر جابر بن عبد الله والسّدّي هذه الآية بالزّنى. وذكر الله: معناه الخوف من عقابه والحياء منه، وذكر العرض الأكبر على الله، والتّفكر في النّفس أن الله سائل عن الذّنب.
والاستغفار عظيم وثوابه جسيم، ووقته الأسحار،
روى التّرمذي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم،
92
وأتوب إليه، غفر له، وإن كان قد فرّ من الزّحف».
وروى مكحول عن أبي هريرة قال: «ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
قال علماء المالكية: الاستغفار المطلوب: هو الذي يحلّ عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، لا التّلفّظ باللسان. فأما من قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصرّ على معصيته، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لا حقة بالكبائر. قال الحسن البصري: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
وليس أحد يغفر المعصية، ولا يزيل عقوبتها إلا الله تعالى.
والباعث على التوبة وحلّ الإصرار: إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنّة، ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدّد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه، فدعا الله رغبا ورهبا، والرّغبة والرّهبة: ثمرة الخوف والرّجاء، يخاف من العقاب، ويرجو الثّواب، والله الموفق للصّواب.
وتصحّ التّوبة بعد نقضها بمعاودة الذّنب لأن التّوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحّت، وهو محتاج بعد مواقعة الذّنب الثّاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذّنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه أضاف إلى الذّنب نقض التّوبة، فالعود إلى التّوبة أحسن من ابتدائها لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذّنوب سواه. ودليل ذلك
ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فيما يحكي عن ربّه عزّ وجلّ قال: «أذنب عبد ذنبا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى:
أذنب عبدي ذنبا، فعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنب، ويأخذ بالذّنب، ثم عاد فأذنب فقال: أيّ ربّ اغفر لي ذنبي- فذكر مثله مرّتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك»
.
ومعنى العبارة الأخيرة وهو الأمر: الإكرام، فيكون من باب قوله: ادْخُلُوها بِسَلامٍ.
93
ودلّت الآية وهذا الحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذّنب والاستغفار منه، أخرج الشّيخان في صحيحيهما،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون، فيغفر لهم»
وهذه فائدة اسم الله تعالى: الغفار والتّواب.
أنواع الذّنوب: الذّنوب التي يتاب منها: إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر: إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرّد الإيمان نفسه توبة.
وغير الكفر إما حقّ الله تعالى، وإما حقّ لغيره.
فحقّ الله تعالى يكفي في التّوبة منه التّرك، لكن مع القضاء كالصّلاة والصّوم، أو مع الكفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك.
وأما حقوق الآدميين: فلا بدّ من إيصالها إلى مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدّق عنهم. فإن كان معسرا فعفو الله مأمول وفضله مبذول.
وليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه: أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه.
ودلّ قوله: وَلَمْ يُصِرُّوا على أنّ الإنسان يؤاخذ بما وطّن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية. وهذا يدلّ على أنّ الهم بالمعصية يؤاخذ عليه إن وطّن نفسه عليها «١». وأما معنى
قوله عليه الصّلاة والسّلام في الحديث الصحيح: «من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» أي لم يعزم على عملها، فإن أظهرها أو عزم عليها عوقب عليها. وفي التّنزيل: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحجّ ٢٢/ ٢٥] عوقبوا قبل فعلهم بعزمهم.
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٢١٥
94
وقوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ.. فيه ترتيب فضل الله وكرمه بغفران الذّنوب لمن أخلص في توبته، ولم يصرّ على ذنبه، وهذا يشمل من فرّ في غزوة أحد، ثم تاب ولم يصرّ، فله مغفرة الله.
عاقبة المكذّبين والمتّقين وتوفير العزّة للمؤمنين بالجهاد
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٤١]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
الإعراب:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الواو إما للعطف، أو للحال فيكون المعنى: ولا تضعفوا ولا تحزنوا، وهذه حالكم.
نُداوِلُها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الأيام.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الواو: إما عاطفة على فعل مقدّر، والتّقدير: لئلا يغترّوا وليعلم الله الذين امنوا، وإما زائدة، أي ليعلم الله. والوجه الأول أوجه.
95
البلاغة:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ التفات من الحاضر في كلمة نُداوِلُها إلى الغيبة، لتعظيم شأن الجهاد في سبيل الله.
المفردات اللغوية:
قَدْ خَلَتْ مضت سُنَنٌ طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم، واحدها سنة: وهي الطريقة المعتبرة والسّيرة المتّبعة. وَهُدىً من الضلالة أي تبصير وإرشاد إلى طريق الدّين القويم. وَمَوْعِظَةٌ ما يلين القلب ويدعو إلى التّمسك بالطاعة. وَلا تَهِنُوا تضعفوا عن قتال الكفار، من الوهن: الضعف في العمل وفي الرّأي وفي الأمر. وَلا تَحْزَنُوا على ما أصابكم بأحد أو غيرها من المعارك من الهزيمة. والحزن: ألم يعرض للنّفس من فقد ما تحبّ. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بالغلبة عليهم. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقّا.
قَرْحٌ جهد من جرح بسلاح ونحوه. الْأَيَّامُ المراد هنا أزمنة الفوز والظّفر، واحدها يوم: وهو الزمن المعروف من الليل والنهار. نُداوِلُها نصرّفها بين النّاس، يوما لهؤلاء ويوما لآخرين، ليتّعظوا، كما وقع في يومي بدر وأحد.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي ليظهر الله علمه. الَّذِينَ آمَنُوا أخلصوا في إيمانهم من غيرهم.
شُهَداءَ واحدهم شهيد: وهو قتيل المعركة. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يعاقب الكافرين، وأما ما ينعم به عليهم فهو استدراج.
وَلِيُمَحِّصَ يطهرهم من الذّنوب ويخلّصهم من العيوب بما يصيبهم. وَيَمْحَقَ يهلك وينقص.
سبب النزول:
نزول الآية (١٣٩) :
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا: قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل،
فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا يعلونّ علينا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النّفر»
فأنزل الله تعالى هذه
96
الآيات، وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «١».
سبب نزول أوّل الآية: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ:
قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا يوم أحد، جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين، وهي تلدم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أهكذا يفعل برسولك؟ فأنزل الله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ الآية «٢».
نزول آخر الآية (١٤٠) :
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ:
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النّساء الخبر، خرجن ليستخبرن، فإذا رجلان مقبلان على بعير، فقالت امرأة:
ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالا: حيّ، قالت: فلا أبالي يتّخذ الله من عباده الشهداء، ونزل القرآن على ما قالت: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ.
المناسبة:
إنّ ما حدث في وقعتي بدر وأحد، وجزاء المؤمنين والكافرين هو سنة الله في الخلق مع بيان الحكمة في النصر والانهزام، فالحق لا بدّ أن ينتصر على الباطل مهما طال أمد وجوده، وقد جرى ذلك على أتباع الأنبياء السابقين، كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين، كما وعد الله رسله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٣]، وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٥].
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٧١، لكن هذه الرّواية غير مخرجة، ويظهر منها الضعف.
(٢) المصدر السابق. واللّدم: صوت الحجر أو الشيء يقع بالأرض، وليس بالصوت الشديد.
97
التّفسير والبيان:
إن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة وسنن حكيمة، ترتبط فيها الأسباب بالمسببات، والمقدّمات بالنتائج، وإن كان الله قادرا على كلّ شيء، وتلك السّنة في الماضين واللاحقين هي أن من سار على منهاج الطائعين المؤمنين الموفقين، حظي بالسعادة والنّصر والفلاح، ومن سار في طريق العصاة المكذّبين، كانت عاقبته خسرا ودمارا وهلاكا.
ففي أحوال السّلم إن سار المرء على الأصول المطلوبة والنّظم العلمية والخبرات المعروفة في شؤون الزراعة والصّناعة والتّجارة وغيرها، نجح وظفر بمراده، وإن كان ملحدا أو وثنيّا أو مجوسيّا. وإن جانب المعقول، وخرج عن المألوف، كان من الخاسرين، وإن كان صالحا تقيّا.
وفي أحوال الحرب إن أعدّ القائد العدّة المناسبة في كلّ عصر لقتال العدوّ، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ... [الأنفال ٨/ ٦٠] ودرّب الجيش على فنون الحرب تدريبا صحيحا عاليا، تحقق النصر والغلبة، وإن أهمل الإعداد والتّدريب، أدركته الهزيمة.
ومن سار في الأرض، وتعقب أحوال الأمم، وتدبّر التاريخ وعرف الأخبار، يجد مصداق تلك السّنة الإلهية الثابتة وهي الفوز لمن أحسن، والخيبة لمن أساء.
وفي هذا تنبيه لمن أساء وخالف أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أحد، وتذكير بأنّ النّصر يوم بدر كان بسبب الثبات وصدق اللقاء وإطاعة الله والرّسول وحسن التّوكل على الله والثقة بقدرته ورحمته وفضله.
وهذا كلّه في القرآن بيان صريح للنّاس جميعا، وهداية وموعظة للمتّقين
98
منهم خاصة، لأنهم المنتفعون بهدي القرآن: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة ٢/ ٢]، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان ٣١/ ٢- ٣]، إنه بيان الأمور على نحو واضح، وكيف كان الأقدمون مع أعدائهم، وهو زاجر عن المحارم والمخالفات.
وذلك يدحض قول المشركين والمنافقين: «لو كان محمد رسولا حقّا لما غلب في وقعة أحد» مما يتبين أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرّسل وسائر الخلق، فما من قائد لا يطيعه جنوده ويخالفون أوامره، إلا كان جيشه عرضة للهزيمة.
وإذا عرف المؤمنون هذه الحقيقة فيجب عليهم ألا يضعفوا عن القتال بسبب ما جرى في أحد، وما يجري من مسّ السّلاح، ولا يحزنوا على ما أصابهم من قتل في أحد، فالقتيل شهيد مكرم عند الله يوم القيامة، وتلك الموقعة درس وتربية وتعليم للمسلمين، لذا
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو خيّرت بين الهزيمة والنّصر يوم أحد لاخترت الهزيمة».
وليس لكم أن تضعفوا وتحزنوا، وأنتم الأعلون، والعاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون، بمقتضى سنّة الله في جعل العاقبة للمتّقين، وقتلاهم في الجنّة، وقتلى الكافرين في النّار. والمراد بالنّهي عن الوهن والحزن: النّهي عن الاستسلام، والعودة إلى التّأهّب والاستعداد، مع صدق العزيمة، وقوّة الإرادة، وحسن الظّن بالله، والتّوكّل عليه والثّقة بالنّصر.
وكيف تضعفون بسبب الآلام والجراح والقتل، فإن كنتم قد أصابتكم جراح، وقتل منكم طائفة في أحد، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، بل وتعرّضوا لألم أكثر في بدر، فإن هزمتم في أحد، فقد انتصرتم في بدر، والأيّام دول، والحرب سجال، ويوم لكم ويوم عليكم، وذلك كلّه لحكمة، فنجعل للباطل دولة في يوم، وللحقّ دولة في أيّام، والعاقبة والنّصر في النهاية
99
للمتّقين المخلصين. جاء في السّيرة أنّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد، فمكث ساعة، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأبو كبشة زوج حليمة السعدية، وهو أبوه من الرّضاع، أين ابن أبي قحافة؟ - أي أبو بكر- أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم، والأيّام دول، والحرب سجال. فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النّار، فقال: إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا إذن وخسرنا «١».
إن تقلّب الأحوال بين الدّول ليظهر العدل ويستقرّ النظام، ويعلم الناظر في السّنن العامة، وليظهر الله علمه بتحقق إيمان المؤمنين، وانكشاف الصابرين على مناجزة الأعداء، كقوله: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال ٨/ ٣٧] أي ليعلم الناس الفرق بينهما ويميزوه، ولذا
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موقعة أحد لمطاردة المشركين: «لا يذهب معنا في القتال- أي في غزوة حمراء الأسد- إلا من قاتل»
فذهب المؤمنون الصّادقون بالرّغم من تعبهم وعنائهم. وقد فسّرنا: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ بأن يظهر الله علمه بذلك للناس بما يعلم به، إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل، فما يقع يكون مطابقا لعلم الله السابق في الأزل، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.
وليعدّ الله أناسا للشهادة في سبيل الله، فيقتلون في سبيله ويبذلون أرواحهم في مرضاته، فقد فات بعض المؤمنين الاستشهاد يوم بدر، فتمنوا لقاء العدو، ليحظوا بمرتبة الشهادة. وقد كرّم الله الشهداء بالحياة البرزخية، وبالدرجة الموازية للأنبياء، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران ٣/ ١٦٩]، وقال: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ [النساء ٤/ ٦٩].
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٤١٢، تفسير القرطبي: ٤/ ٢٣٤
100
وبصدد ذلك ذكر أضداد الشّهداء تنويها بإخلاصهم، فقال تعالى: والله يعاقب الظالمين الكافرين، بسبب ظلمهم أنفسهم وفسادهم في الأرض، وبغيهم على الناس، ويعجل زوال دولتهم وسلطتهم، لأن الظلم لا بقاء له.
ثم أكّد الله تعالى أنّ المعارك مجالات كشف وإبراز وتطهير، ففيها يتميّز المؤمنون الصادقون عن المنافقين، وبها عرف صدق الإيمان وصلابة العزيمة والثبات عند الابتلاء، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران ٣/ ١٤٣]، ففي غزوة أحد تراجع المنافقون ولا ذوا بالفرار، بل إن بعض المؤمنين في أثناء المعركة هرب، وثبت الآخرون حول النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فتبيّن أن تمنيات اللقاء مع العدو مجرد آمال لا قرار ولا ثبات لها،
وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف».
ومن فوائد المعارك أيضا تبيان حال الكفار، فهم إن ظفروا كما في أحد بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، فلا بقاء ولا استمرار لهم، ولا ثبات لأحوالهم أمام المؤمنين الصادقين. وإذا هزموا كما في بدر عاجلهم الله بالدّمار والفناء، والعاقبة للمتّقين.
وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآيات منها: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا... [البقرة ٢/ ٢١٤]، ومنها: الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت ٢٩/ ١- ٢]، ومنها الآية التالية: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران ٣/ ١٤٢].
101
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع هذه الآيات بتعبير العصر: تقوية الرّوح المعنوية للمؤمنين، وجعلها عالية سامية لا تتأثر ولا تهتز بأحداث المعارك والقتال. وفي تعبير المفسّرين: هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين.
وهي تذكرهم بسنّة الله الدّائمة في الكون، وهي ارتباط الأسباب بالمسببات، مع الإيمان بالقدرة المطلقة لله في إيجاد ما يشاء، إنها تذكير بهلاك من كذب قبلنا أنبياءهم كعاد وثمود، والعاقبة أي آخر الأمر للمؤمنين، فإن انتصر المشركون يوم أحد، فهذا إمهال واستدراج، وسيكتب النّصر النهائي للنّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وسيهلك أعداؤهم الكافرون.
ثمّ عزّى الله المؤمنين وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثّهم على قتال عدوّهم، ونهاهم عن العجز والفشل والقعود عن جهاد الأعداء، فإن الهزيمة أو المصيبة تذكر بضرورة تصحيح الأخطاء، وتهيئ لدراسة عميقة لمستقبل الأحداث، وتخطط لمعارك كثيرة، يكون الماضي خير درس وعبرة فيها، وعندئذ تكون العاقبة بالنصر والظفر للمؤمنين إذا أحسنوا الإعداد، واستفادوا من أخطاء الماضي.
وتحقق وعد الله للمؤمنين بأنهم الأعلون أي الغالبون على الأعداء بعد أحد، فكان النّصر والظّفر في المعارك المتوالية، في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عهد الصحابة من بعده أيضا. وهذا دليل على فضل هذه الأمّة: لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، فقال لموسى عليه السّلام: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه ٢٠/ ٦٨]، وقال لهذه الأمّة: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.
وتداول الأيام بين الناس في الحرب، فيكون النّصر مرّة للمؤمنين لنصر الله عزّ وجلّ، ومرّة للكافرين إذا عصى المؤمنون، إنما هو ليرى المؤمن من المنافق،
102
فيميز بعضهم من بعض، كما قال تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا [آل عمران ٣/ ١٦٦].
ومن فوائد المداولة: إكرام قوم بالشّهادة، فيقتلون، فيكونون شهداء على النّاس بأعمالهم، وليصيروا مشهودا لهم بالجنّة، وللشهادة فضل عظيم، كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.. [التوبة ٩/ ١١١]، وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إلى قوله: ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصّف ٦١/ ١٠- ١٢].
وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة».
ودلّ قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ على أن الإرادة غير الأمر، كما يقول أهل السّنة، فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه، وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة، وأراده، فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده، فامتنع منه، وأشار تعالى لذلك: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة ٩/ ٤٦]. وأمر تعالى الجميع بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير، فقعدوا.
ودلّ قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي المشركين على أنه تعالى وإن حقق نصر الكفار على المؤمنين مرة، فهو لا يحبّهم ويعاقبهم، وإن أوقع ألما بالمؤمنين فإنه يحبّهم ويثيبهم.
وتتلخّص نتيجة المداولة بين المؤمنين والكفار في الحروب: أن الله شرع اللقاء ليبتلي المؤمنين ويثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم، ويستأصل الكافرين بالهلاك.
103
وللجنة ثمن وبدل ثمين، فهل حسبتم يا من انهزموا يوم أحد أن تدخلوا الجنّة، كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل، من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟! لا.
عتاب لبعض أهل أحد بقدسية الجهاد وضرورة الثبات على المبدأ وتذكير بأن الموت بإذن الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٨]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
104
الإعراب:
أَمْ حَسِبْتُمْ أم هاهنا المنقطعة، لأنها ليس قبلها همزة. وَلَمَّا حرف لنفي ما قرب من الحال. يَعْلَمِ مجزوم بلما، وكسرت لالتقاء الساكنين، ويَعْلَمِ: هاهنا بمعنى يعرف، ولهذا تعدّت إلى مفعول واحد وهو الذين. وَيَعْلَمَ منصوب بتقدير أن، أي لم يجتمع العلم بالمجاهدين والصابرين. أَنْ تَلْقَوْهُ في موضع بإضافة قَبْلِ إليه، والهاء تعود على الموت، وكذا هاء:
رَأَيْتُمُوهُ أي رأيتم أسبابه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
أَنْ تَمُوتَ أن وصلتها في تأويل مصدر في موضع رفع اسم كان. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ خبر كان. كِتاباً مُؤَجَّلًا منصوب على المصدر. نُؤْتِهِ مِنْها قرئ بالإشباع وهو أحسن من الاختلاس والإسكان، لأنه الأصل، ثم الاختلاس ثم الإسكان وهو أضعفها. وَكَأَيِّنْ بمنزلة «كم» في الدّلالة على العدد الكثير، وأصلها «أي» أدخلت عليها كاف التّشبيه. رِبِّيُّونَ فاعل مرفوع لقاتل، والجملة في موضع جر صفة لنبيّ. وخبر كَأَيِّنْ مقدر، وتقديره: في الدّنيا، أو في الوجود وما أشبه ذلك.
البلاغة:
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يعني الموت، شاهدتموه، فيه ما يسمى بالتخييل: وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيّل الشاة صداقة الكبش، وعداوة الذئب.
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قصر موصوف على صفة.
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ استعارة، شبّه سبحانه الرّجوع عن الدّين في الارتياب بالرّجوع على الأعقاب.
المفردات اللغوية:
أَمْ بل. وَلَمَّا لم، لكن لنفي قريب الحصول. يَعْلَمِ علم ظهور.
جاهَدُوا الجهاد: تحمّل المشاق ومكافحة الشدائد، وهو يشمل جهاد النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء بالنفس دفاعا عن الدّين وأهله وإعلاء كلمته (الجهاد الأصغر)، والجهاد بالمال للدّين والأمة، ومجاهدة الباطل ونصرة الحق.
105
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي تتمنون الشهادة في سبيل الله. تَلْقَوْهُ تشاهدوا أهواله وتروا مخاطره. رَأَيْتُمُوهُ رأيتم أسباب الموت من لقاء الشجعان ومصاولة الفرسان. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ تتأملون وتبصرون الحال كيف هي، فلم انهزمتم. ونزل في هزيمتهم لما أشيع أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قتل، وقال لهم المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم.
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أصل معناه: رجعتم إلى الوراء، والمراد هنا رجعتم كفارا بعد إيمانكم.
وهذه الجملة استفهام إنكاري، أي ما كان محمد معبودا فترجعوا إلى الكفر.
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بقضائه. كِتاباً مصدر أي كتب الله ذلك. مُؤَجَّلًا ذا أجل مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر، والأجل: المدّة المضروبة للشيء.
وَكَأَيِّنْ كلمة بمعنى كم، تفيد كثرة ما دخلت عليه. رِبِّيُّونَ جماعات كثيرة، واحدهم ربّي: وهو الجماعة. فَما وَهَنُوا وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وهنوا: ضعفوا وجبنوا، والوهن: ضعف يصيب القلب، والضعف: اختلال قوة الجسم، والاستكانة: الاستسلام والخضوع للعدو ليفعل ما يريد.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ يثيبهم، والصبر: احتمال الشدائد وتحمل المكاره. وَإِسْرافَنا الإسراف: تجاوز الحدّ في كلّ شيء، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف ٧/ ٣١].
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا بتقوية قلوبنا على الجهاد وإزالة الوساوس من صدورنا.
سبب النزول:
نزول الآية (١٤٣) :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس: أنّ رجالا من الصحابة، كانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، أو ليت لنا يوما كيوم بدر، نقاتل فيه المشركين، ونبلي فيه خيرا، أو نلتمس الشهادة والجنة، أو الحياة والرزق، فأشهدهم الله أحدا، فلم يلبثوا إلا من شاء منهم، فأنزل الله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الآية.
106
نزول الآية (١٤٤) :
أخرج ابن المنذر عن عمر، قال: تفرقنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فصعدت الجبل، فسمعت اليهود تقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحدا يقول:
قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس يتراجعون، فنزلت هذه الآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الرّبيع قال: لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح، وتداعوا نبي الله، قالوا: قد قتل، فقال أناس: لو كان نبيّا ما قتل، وقال أناس: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية.
وقال عطية العوفي: لما كان يوم أحد، انهزم الناس، فقال بعض الناس:
قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم، فإنما هم إخوانكم وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب، ألا ما تمضون على ما مضى عليه نبيّكم، حتى تلحقوا به، فأنزل الله تعالى في ذلك: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ.. الآية.
وأخرج ابن راهويه في مسنده عن الزّهري: أنّ الشيطان صاح يوم أحد، إن محمدا قد قتل، قال كعب بن مالك: وأنا أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأيت عينيه من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية.
المناسبة:
ما يزال الكلام عن أهل غزوة أحد، ففي الآيات السابقة إرشاد إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأنّ ما أصابهم من المحنة والبلاء، جاء على سنّة الله الثابتة في المداولة بين الناس، ولتمحيص أهل الحق والإيمان، وكان فيها
107
تقوية معنوية وتسلية للمؤمنين كي يتربّوا على حبّ الجهاد والتّحلي بالصفات التي ينالون بها النصر. وهذه الآيات تبيّن أن طريق السعادة في الآخرة بالجهاد والصّبر، وفي الدّنيا بالثبات على المبدأ والالتفاف حول النّبي في المعركة، والتضحية والإحسان، وملازمة الحق والعدل والإنصاف.
التفسير والبيان:
هل ظننتم دخول الجنة وأنتم لم تجاهدوا في سبيل الله، ولم تصبروا في القتال؟ لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا وتختبروا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء. وهذا مثل قوله تعالى:
الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت ٢٩/ ١- ٢].
ويلاحظ أن أَمْ منقطعة بمعنى بل، ومعنى الهمزة فيها الإنكار.
وللجهاد أنواع: جهاد النفس والهوى والشيطان، وخاصة في عهد الشباب، وجهاد العدوّ بالنفس لإعلاء كلمة الله والدّفاع عن البلاد والأوطان، والجهاد بالمال في سبيل الدّين والأمّة والمصلحة العامة، وجهاد الباطل ومدافعته ونصرة الحق.
والصبر مطلوب عند أداء التكاليف الشرعية الدائمة والمؤقتة، وطاعة الله والرّسول، وفي وقت البلاء والشدة والمحنة، وعند مقاومة الأعداء.
والمراد بنفي العلم من الله عدم ظهوره ووقوعه، فهو دليل على عدم وقوع الجهاد والصبر منكم، أما في الحقيقة فالله يعلم ذلك منذ الأزل، ولكن المراد إقامة الدّليل والبرهان على الناس بصدور ما يوجب لهم الجنة والمغفرة.
ثم خاطب الله بعض المؤمنين الذين لم يشهدوا بدرا، وكانوا يتمنون أن
108
يحضروا مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر، وهم الذين ألحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة. فقال الله لهم: قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتحترقون عليه، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا وصابروا.
فلما كان يوم أحد ولّى جماعة منهم، فعاتبهم الله على ذلك. روي عن الحسن البصري أنه قال: بلغني أنّ رجالا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون:
لئن لقينا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم لنفعلنّ ولنفعلنّ، فابتلوا بذلك، فلا والله، ما كلّهم صدق، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ.
وتمني الموت: معناه تمني الشهادة في سبيل الله. ولقد تمنى الشهادة جماعة لم يشهدوا بدرا، حتى إذا دارت معركة القتال مع الأعداء في أحد، وشهدوا أسباب الموت من اشتباك الرّماح، وظهور الأسنة، واصطفاف الرجال للقتال، جبنوا وضعفوا، وتركوا رسول الله يتلقى السهام، وهو يدعوهم إلى الوقوف بجانبه، ويدعوهم إلى عبادة الله، وصدق اللقاء والثبات.
فمعنى قوله: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي رأيتم الموت، أي أسبابه، معاينين مشاهدين له، حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم، وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه، وقلة ثباتهم عنده.
ولما انهزم المسلمون يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين، فقال لهم: قتلت محمدا، وإنما كان ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشجه في رأسه، فظنّ الكثيرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية، أي
109
له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه، فقد توفي موسى وعيسى عليهما السّلام، وقتل زكريا ويحيى عليهما السّلام، ومع هذا ظلّت ديانتهم كما هي، وأتباعهم متمسكون بها، فعليكم الثبات على الدين والمبدأ كما كنتم ولو مات أو قتل، فالرّسول بشر كسائر الأنبياء، له مهمة تنتهي بانتهاء أجله، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيّ باق لا يموت.
ثم أنكر الله تعالى على من حصل له ضعف بأن من يرجع عن دينه والجهاد في سبيل الله ومقاومة الأعداء، فلن يضرّ الله شيئا بما فعل، بل يضرّ نفسه.
وسيجزي الله الشاكرين نعمه الذين قاموا بطاعته، وقاتلوا عن دينه، واتّبعوا رسوله حيّا وميّتا بأن يمنحهم من فضله ورحمته في الدّنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم. وكانت هذه تمهيدا لموت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتذكيرا لأمثال عمر رضي الله عنه. وهذا يعني أن المصائب التي تحلّ بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل.
قال أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك في ساعة اشتداد الأزمة على المسلمين في أحد، وحين شاع بين الناس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، وظهر على لسان بعض ضعفاء المؤمنين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ، فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال بعض المنافقين: إن كان محمد قد قتل، فالحقوا بدينكم الأول، قال: «إن كان محمد قد قتل، فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه»
.
ثم قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء»، ثم شدّ بسيفه، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه «١».
وقال البخاري: عن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أنّ أبا بكر
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٢١، تفسير ابن كثير: ١/ ٤١٣
110
رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسّنح «١»، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة،
فتيمم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
، وهو مغطّى (مغشى) بثوب حبرة (برد يمان)، فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه وقبّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها.
وقال الزّهري: وحدثني أبو سلمة عن ابن عبّاس أن أبا بكر خرج، وعمر يكلّم الناس، وقال: اجلس يا عمر، قال أبو بكر: أما بعد، من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنّ الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- إلى قوله- وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلّهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها.
وروى ابن ماجه عن عائشة مثل ذلك «٢».
وقال الزّهري أيضا: وأخبرني سعيد بن المسيّب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرقت حتى ما تقلني رجالي، وحتى هويت إلى الأرض.
وقال أبو القاسم الطبري بسنده- فيما حدثوا به- عن ابن عبّاس: أنّ عليّا كان يقول في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ: والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل، لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به منّي «٣» ؟
(١) موضع بعوالي المدينة، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج، بينهما وبين منزل النّبي صلّى الله عليه وسلّم ميل.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٢٢- ٢٢٣
(٣) تفسير ابن كثير: ١/ ٤٠٩- ٤١٠
111
ثم أخبر تعالى أنه لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي حددها الله له، ولذا قال: كِتاباً مُؤَجَّلًا أي أثبته الله مقرونا بأجل معين، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فقد يظل الشجاع الذي تعرض لأهوال الحرب حيّا، ويموت الجبان الذي تخبأ في مأواه. وهذا مثل قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر ٣٥/ ١١]، وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام ٦/ ٢]، وقوله: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ١٦/ ٦١].
فالأعمار محدودة، والآجال محتومة، والأقدار هي الحاكمة، والله وحده هو المتصرف في كل شيء، فيأذن بقبض كل نفس على وفق علمه دون تأخير ولا تقديم، سواء في الحرب أو في السلم.
وفي هذه الآية تشجيع للجبناء، وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، فكيف يسوغ الجبن والضعف ما دام العمر بيد الله، وانقضاؤه بمشيئة الله؟
ثم بيّن الله تعالى غاية البشر: وهي إما إرادة الدّنيا، وإما إرادة الآخرة.
فمن قصد بعمله التوصل للدّنيا فقط، ناله منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله من ثوابها وما قسم له من الدّنيا، كما قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى ٤٢/ ٢٠]، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء ١٧/ ١٨- ١٩]، وآخر هذه الآية يطابق ما هاهنا: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي سنعطيهم من
112
فضلنا ورحمتنا في الدّنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم، ونؤتيهم الثواب الأبدي على ترك الانهزام.
أما أنتم يا من قصدتم الدنيا وهرعتم لجمع الغنائم وخالفتم أمر نبيكم وقائدكم في أحد، بإمكانكم الحصول على الدنيا، ولكنكم ضيعتم ما يدعوكم إليه نبيكم وهو الدنيا والآخرة. ففي الآية تعريض بهؤلاء الذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، وفيها إشارة بقوله يُرِدْ إلى أن الإرادة الشخصية هي التي تحدد طبيعة العمل من خير أو شر، وهذا مطابق
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الشيخان عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
ثم قال الله تعالى مسليا المؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ... أي أن كثيرا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله، وقاتل معهم كثير من أصحابهم الذين آمنوا بهم لإعلاء كلمة الله، وكانوا هداة معلمين فما ضعفوا بعد ما قتلوا وقتل نبيهم، ولا وهنت عزائمهم عن الجهاد بعدئذ، ولا استسلموا للأعداء، ولا خضعوا للدنيا ومتاعها، ولا ولّوا الأدبار، بل ثبتوا وصبروا بعد قتل نبيهم، كما ثبتوا في حال الحياة، والله يحب الصابرين الذين صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله، فهو يديهم ويرشدهم ويثيبهم أجزل الثواب، وهذه نبذة من مفاخر أفعالهم، وتعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا الأمان من أبي سفيان.
أما محاسن أقوالهم أي الربيين فهي أنهم قالوا عند نزول الكارثة: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا وتجاوزنا أمرك، وثبّت أقدامنا في مواطن الحرب ولقاء العدو، وانصرنا على القوم الكافرين.
وطلبهم المغفرة من الذنوب وغيرها مع كونهم ربانيين إشعار لأنفسهم
113
بالتقصير، وكان دعاؤهم بالاستغفار مقدما على طلب تثبيت الأقدام في أثناء المعركة، بقصد جعل طلبهم إلى ربهم عن تزكية نفس وطهارة وخضوع أقرب إلى الاستجابة.
فآتاهم الله ثواب الدنيا بالنصر والظفر على الأعداء والعزة وطيب السمعة، وحسن ثواب الآخرة بتحصيلهم رضوان الله ورحمته والقرب منه في دار الكرامة، ونحو ذلك مما أخبر به تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة ٣٢/ ١٧]
وأخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
ثم وصفهم الله بأنهم محسنون أعمالهم على وفق ما يرضي الله، فهم الذين يقيمون سننه في أرضه، والله يثيبهم على حسن فعلهم.
وإنما جمع لهم بين الثوابين لأنهم مؤمنون عملوا الصالحات وأرادوا تحقيق سعادتي الدنيا والآخرة، كشأن المؤمن الصالح: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة ٢/ ٢٠١].
وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عند الله تعالى.
ورتبت أوصافهم بالتوفيق على الطاعة، ثم إثابتهم عليها، ثم تسميتهم محسنين لتوجيه العبد إلى أن ذلك كله بعناية الله وفضله، وتوفيقه وإحسانه.
وفي هذه الآية تربية لأصحاب محمد ولفت نظر إلى أنهم أولى بهذا كله، وما عليهم إلا الاعتبار بأحوال أولئك الرّبيين، والصبر على الأعداء كما صبروا، والاقتداء بأعمالهم الصالحة والقول مثلهم، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة.
114
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أحكام كثيرة لصيقة بنفسية الإنسان وتطلعاته ومواقفه التي يمر بها في الحياة من خوف وضعف، وتردد وإدبار، وانهزام وسطحية في التفكير، بالرغم من وجود أصل الإيمان الذي ينبغي أن يكون مذكرا بالثبات والجرأة والشجاعة والحرص على انتزاع النصر، وقطع طريق العودة إلى سبيل الكفر والكافرين، وعدم التأثر بموت القائد أو النبي لأن الاستقامة أبدية دائمة ليست موقوتة بحياة النبي ولا من أجل شخصية النبي.
١- إن دخول الجنة مرهون بسلوك طريق المجاهدين المخلصين الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح، وضحوا بأنفسهم في سبيل الله.
٢- إن الظفر بشرف الشهادة في سبيل الله لا يكون بالأماني والتمنيات، وإنما بالثبات والصبر على الجهاد.
وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة بالوصف السابق، لا تمني قتل الكفار لهم، فذلك معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية، وهذا هو مراد المسلمين وسؤالهم من الله أن يرزقهم الشهادة، فهم يسألون الصبر على الجهاد، وإن أدى إلى القتل.
٣- إن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وإنما يجب التمسك بما أتت به الرسل، وإن فقد الرسول بموت أو قتل، وأما من حاول الردة إلى الكفر بعد الإيمان، فلن يضر الله شيئا، بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لغناه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، وسيجزي الله الشاكرين الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا.
وكل هذه الأحكام عتاب للمنهزمين يوم أحد، وهو درس لأمثالهم. وإن
115
موقف أبي بكر الصديق يوم وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم أدل دليل على شجاعته وجرأته، فإن الشجاعة والجرأة: هما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي ثباته واستدلاله بالآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ تثبيت للمؤمنين، وقطع لدابر الفتنة، واستئصال لأوهام ومقالات الجاهلين.
وأما تأخر الصحابة عن دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أن السنة تعجيل الدفن فلأمور ثلاثة: عدم اتفاقهم على موته، وعدم علمهم بمكان دفنه، حتى أخبرهم أبو بكر
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما دفن نبي إلا حيث يموت» «١»
، واشتغالهم بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، حتى انتهوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه في مبدأ الأمر، ثم بايعوه في الغد عن رضا واتفاق شامل.
ثم نظروا في دفنه عليه الصلاة والسلام وغسّلوه وكفنوه، ثم صلوا عليه فرادى، أخرج ابن ماجه بإسناد حسن صحيح عن ابن عباس: «فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا «٢» يصلّون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد.
٤- إن محمدا بشر كسائر الأنبياء، وهم قد ماتوا، وإن مهمة كل نبي وهي تبليغ الدين تنتهي بتحقيق الغرض المقصود، ولا يلزم من ارتحالهم نقض رسالتهم. وإن المصائب التي تنزل بالإنسان لا صلة لها بكونه على حق أو باطل، فقد يبتلى الطائع بأنواع المصائب، والعاصي بأصناف النعم.
٥- الموت أمر حتمي مقضي به في أجل معين لا يتجاوزه ولا يتقدم عنه لحظة، وكل إنسان مقتول أو غير مقتول ميّت إذا بلغ أجله المكتوب له، وهذا
(١) أخرجه ابن ماجه والموطأ وغيرهما.
(٢) أرسالا: أفواجا وفرقا متقطعة، بعضهم يتلو بعضهم، واحدهم: رسل.
116
معنى قوله: كِتاباً مُؤَجَّلًا. وأما معنى قوله بِإِذْنِ اللَّهِ أي بقضاء الله وقدّره. وأجل الموت: هو الوقت الذي في معلومه سبحانه أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله، ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش، لقوله تعالى: كِتاباً مُؤَجَّلًا إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس ١٠/ ٤٩] فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت ٢٩/ ٥] لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد ١٣/ ٣٨].
ودلت الآية وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ.. على الحض على الجهاد، وعلى أن الموت لا بد منه، وأن كل إنسان يموت بأجله، والقتيل يموت بأجله.
٦- من قصر رغبته وعمله على الدنيا دون الآخرة، آتاه الله منها ما قسم له، ومن جعل رغبته في الآخرة من تضعيف الحسنات لمن يشاء، آتاه الله الآخرة والدنيا معا.
٧- دلت آية وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ.. على غاية التجرد والموضوعية والعدالة وإنصاف الحقائق، فليس العمل الصالح والجهاد في سبيل الله والثبات والصبر في الحرب مقصورا على أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فكثير من أتباع الأنبياء السابقين كانت لهم مواقف رائعة، وبطولات خارقة، فجاهدوا وقاتلوا، وصبروا وقتلوا، وما لانت لهم قناة، ولا خارت لهم عزيمة، ولا ذلوا ولا خضعوا لما أصابهم في الجهاد، وكان فعلهم هذا مقرونا بقولهم الدال على قوة إيمانهم، وطهارة نفوسهم، وإخلاصهم في طلب رضوان الله، فتضرعوا إلى ربهم وقت الشدة والمحنة وعند لقاء العدو، فاستحقوا إنعام الله عليهم في الدنيا بالنصر والظفر على عدوهم، وفي الآخرة بالجنة، ووصفوا بالإحسان، وأوتوا ثوابا عظيما دائما لا يحده حصر.
وفي موقفهم المهيب بالابتهال والتضرع والدعاء والاستغفار دليل على أن إجابة الدعاء تتطلب الإخلاص وطهارة النفس وخشوعها لله، وأن الذنوب
117
والمعاصي من عوامل الخذلان والهزيمة، وأن الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والغلبة.
٨- والدعاء المفضل يكون بالمأثور لبلاغته وجمعه معاني كثيرة قد لا يدركها الإنسان، مثل المذكور في دعاء الرّبيين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني».
التحذير من طاعة الكافرين
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
الإعراب:
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي ناصركم لا تحتاجون إلى نصرة أحد وولايته، مبتدأ وخبر. وقرئ بالنصب على تقدير فعل محذوف هو: بل أطيعوا الله مولاكم.
البلاغة:
يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم من الإيمان إلى الكفر، فيه استعارة الرجوع إلى الوراء إلى الرجوع إلى الكفر، بتشبيه الثاني بالأول. ويوجد طباق بين آمَنُوا وكَفَرُوا.
118
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ لم يقل: مثواهم، بل وضع الظاهر مكان الضمير للتغليظ والتهويل. والمخصوص بالذم محذوف: أي بئس النار.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي العرب: أبا سفيان وأصحابه، وقيل: اليهود والنصارى، وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة في أحد: ارجعوا إلى دين آبائكم يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان خاسِرِينَ الدنيا بانقيادكم للأعداء واستبدالكم ذلة الكفر بعزة الإسلام، والآخرة بحرمانكم من نعيم الله وثوابه ووقوعكم في العذاب.
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم ومعينكم. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ أي فأطيعوه دونهم.
الرُّعْبَ شدة الخوف التي تملأ القلب، وكان المشركون قد عزموا بعد ارتحالهم من أحد على العود واستئصال المسلمين، فرعبوا ولم يرجعوا بِما أَشْرَكُوا بسبب إشراكهم. سُلْطاناً حجة وبرهانا، والمقصود بما لم ينزل به سلطانا أي حجة على عبادته وهو الأصنام. مَثْوَى مأوى.
الظَّالِمِينَ الكافرين.
سبب النزول:
نزول الآية (١٤٩) :
قال علي رضي الله عنه: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة:
ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم. وعن الحسن البصري رضي الله عنه: إن تستنصحوا اليهود والنصارى، وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونكم ويوقعون لكم الشبه في الدين، ويقولون: لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس، يوما له ويوما عليه.
وعن السدي: إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينكم.
نزول الآية (١٥١) :
قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة،
119
انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما هموا به، وأنزل الله تعالى هذه الآية: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.
المناسبة:
تستمر الآيات في تبيان عظات غزوة أحد والدروس المستفادة منها، فلما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء، حذّر من طاعة الكافرين وهم مشركو العرب واليهود والنصارى والمنافقون الذين تآمروا على الدعوة الإسلامية بتثبيط عزائم المؤمنين.
التفسير والبيان:
يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، لذا قال: يا أيها المؤمنون إن تطيعوا الذين كفروا بدينكم وجحدوا نبوة نبيكم كأبي سفيان وأصحابه وعبد الله بن أبي زعيم المنافقين وأتباعه، ورؤوس اليهود والنصارى، يردوكم كافرين بعد الإيمان، فتصبحوا خاسرين في الدنيا بذل الكفر بعد عزة الإسلام، وتحكم العدو فيكم، وحرمانكم من متعة الملك والتمكين في الأرض، المذكورين في وعد الله المؤمنين الصادقين: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور ٢٤/ ٥٥] وخاسرين في الآخرين أيضا بحرمانكم من نعيم الله وثوابه وتعرضكم لعذاب الله وعقابه في النار.
فلا تأبهوا بمناصرة وعون الكفار وإغوائهم، فإن الله هو ناصركم ومعينكم، كما في آية أخرى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال ٨/ ٤٠]
120
وقد كتب الله العزة لرسوله وللمؤمنين: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون ٦٣/ ٨] وجرت سنته في تولي الصالحين وخذلان الكافرين: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد ٤٧/ ١٠- ١١].
ومن مظاهر مناصرته وعونه تعالى للمؤمنين إلقاء الرعب في قلوب الكافرين بسبب إشراكهم بالله، واتخاذهم أصناما وحجارة ومعبودات تعبد من دون الله، لم يقم برهان ولا حجة من عقل أو حس على صحة استحقاقها للعبادة، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وحجتهم الوحيدة في عبادتها تقليدهم آباءهم الذين وجدوهم عابدين لها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٢٣] وهم إنما يعتمدون في واقعهم على الأخيلة والأوهام، والوساوس والهواجس أنها ذات تأثير، مما يؤدي إلى اضطراب قلوبهم وعقولهم، وفساد أفكارهم، وضعف نفوسهم. ومسكنهم في النهاية والآخرة النار بسبب ظلمهم وكفرهم وعنادهم الحق وأهله، وبئس المثوى والمأوى مثواهم ومأواهم فإنهم ظالمون لأنفسهم، وللناس بسوء معاملتهم، وفقد مقومات الحضارة والمدنية عندهم. وهم إن رأوا المؤمنين متمسكين بدينهم، ازداد الشك في أنفسهم، واستمر الخوف والرعب والقلق في نفوسهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
العبرة دائما بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآيات تحذير دائم للمؤمنين من طاعة الكافرين على مختلف أنواع كفرهم، لعداوتهم وحقدهم وغشهم وعدم الثقة بنصحهم وأمانتهم.
والمؤمن بقوة إيمانه، وثقة لقائه ربه، واعتقاده بسلطان الله وتأييده
121
ونصره، يكون دائما قوي العزيمة، شديد الشكيمة، صلب الإرادة. فإن ظهرت فيه علائم الخوف من الكفرة كان مسلما بالوراثة والاسم الظاهر فقط، وليس مؤمنا حقا.
والمشرك والكافر في قلق دائم، واضطراب مستمر، وخوف مستحكم في قلبه وفي أعماق نفسه، إذ إن الكفر لا يلقي في نفسه شيئا صحيحا ثابتا من الطمأنينة والثقة، وإنما هي موروثات وتقاليد يرددها، وعصبية عمياء حجبته عن رؤية الحقائق، وصدّته عن التفكير الصحيح بوحدانية الله وقدرته الشاملة وسلطانه القاهر في الدنيا والآخرة.
وآية إلقاء الرعب في قلوب الكفر دليل على بطلان الشرك عقلا وحسا، وعلى سوء أثره في النفس، إذ لا يلقي في النفس الثقة والأمان والطمأنينة، وإنما على العكس يخلق الرعب، وينشر الهلع والخوف في كل وقت.
وما أقوى وأشد تأثيرا من تهديدات القرآن وإنذاراته بالنار الحامية للكافرين، ولو غضوا الطرف عنها، فإنهم لا بد سامعون لها. ودل قوله:
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ المنبئ عن المكث الطويل على أنهم خالدون في النار، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يخرجون منها، ولو لراحة وقتية، أو تنفس واستنشاق هواء عليل فترة ما، يرد عليهم نسيم الحياة، وحلاوتها العذبة الرقراقة.
أسباب انهزام المسلمين في أحد وتفرقهم بعد وعدهم بالنصر
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٥]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
122
الإعراب:
أَمَنَةً نُعاساً في نصبهما وجهان: إما أن تكون أَمَنَةً منصوبا بأنزل، ونُعاساً بدلا منه، وإما أن تكون أَمَنَةً مفعولا لأجله، ونُعاساً منصوبا بأنزل. يَغْشى أي النعاس، ومن قرأ بالتاء ردّ إلى الأمنة. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ مبتدأ وخبر، والجملة منهما حال.
والواو: إما واو الحال، أو واو الابتداء، أو بمعنى إذ.
123
يَظُنُّونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير أَهَمَّتْهُمْ أو في موضع رفع صفة لطائفة. إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ كلّه بالنصب تأكيد للأمر، وبِاللَّهِ: خبر إِنَّ. ومن قرأ بالرفع: فهو مبتدأ، وبِاللَّهِ: خبره، والجملة منهما خبر إِنَّ. وَلِيَبْتَلِيَ لام كي، متعلقة بفعل مقدر دل عليه الكلام وتقديره: وليبتلي ما في صدوركم أوجب عليكم القتال.
وَلِيُمَحِّصَ: معطوف على لِيَبْتَلِيَ.
البلاغة:
يوجد طباق بين يُخْفُونَ ويُبْدُونَ وبين فاتَكُمْ وأَصابَكُمْ.
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تنكير: فضل للتفخيم، وإظهار الْمُؤْمِنِينَ في موضع الإضمار للتشريف. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنَّ وفَتَوَكَّلْ والْمُتَوَكِّلِينَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إياكم بالنصر. تَحُسُّونَهُمْ تقتلونهم وتستأصلونهم، مأخوذ من حسّه: أذهب القاتل حسّه بالقتل، كما يقال: بطنه: أصاب بطنه. بِإِذْنِهِ بإرادته وأمره وتأييده وعونه. فَشِلْتُمْ جبنتم وضعفتم عن القتال. وَتَنازَعْتُمْ اختلفتم. فِي الْأَمْرِ أي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمقام في سفح الجبل للرمي، فقال بعضكم: نذهب فقد نصر أصحابنا، وبعضكم قال:
لا نخالف أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَعَصَيْتُمْ أمره، فتركتم المركز لطلب الغنيمة. مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ الله. ما تُحِبُّونَ من النصر.
وجواب إِذا: دل عليه ما قبل أي منعكم نصره.
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أي الغنيمة. وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت حتى قتل كعبد الله بن جبير وأصحابه. ثُمَّ صَرَفَكُمْ ردّكم للهزيمة، وهو عطف على جواب إِذا المقدر.
عَنْهُمْ أي الكفار. لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحنكم ويختبركم، فيظهر المخلص من غيره، والمراد ليعاملكم معاملة من يختبر ويمتحن، وإلا فالله عالم لا يحتاج إلى اختبار. عَفا عَنْكُمْ تاب عليكم لما ارتكبتموه. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بالعفو.
إِذْ تُصْعِدُونَ اذكروا إذ تذهبون في الأرض أو الوادي وتبعدون هاربين. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تلتفتون لأحد. أُخْراكُمْ آخركم أو من ورائكم يقول: إليّ عباد الله، إلي عباد الله. فَأَثابَكُمْ فجازاكم. غَمًّا بالهزيمة. بِغَمٍّ بسبب غمكم ومضايقتكم للرسول بالمخالفة.
والغم: ألم وضيق في الصدر من أمر محرج.
124
أَمَنَةً أي أمنا وهو ضد الخوف. يَغْشى يغطي ويستر. يُبْدُونَ يظهرون.
لَبَرَزَ لخرج. مَضاجِعِهِمْ مصارعهم التي قدر قتلهم فيها.
لِيَبْتَلِيَ يختبر. ما فِي صُدُورِكُمْ قلوبكم من الإخلاص والنفاق. وَلِيُمَحِّصَ يميز.
بِذاتِ الصُّدُورِ عليم بما في القلوب لا يخفى عليه شيء، وإنما يبتلي ليظهر للناس.
الْجَمْعانِ جمع المؤمنين وجمع المشركين بأحد، والذين تولوا: هم المسلمون إلا اثني عشر رجلا. اسْتَزَلَّهُمُ أزلهم الشيطان بوسوسته، أي أوقعهم في الزلل والخطأ. بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من الذنوب، وهو مخالفة أمر النبي، فمنعوا التأييد والنصر الإلهي الذي كان وعدهم به ربهم.
سبب النزول:
نزول الآية (١٥٢) :
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ... :
قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ الآية- إلى قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا
يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد «١».
نزول الآية (١٥٤) :
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ: أخرج ابن راهويه عن الزبير قال: لقد رأيتني يوم أحد، حتى اشتد علينا الخوف، وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا ذقنه في صدره، فو الله، إني لأسمع كالحلم قول معتّب بن قشير: لو كان لنا من الأمر شيء، ما قتلنا هاهنا، فحفظتها فأنزل الله في ذلك: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً- إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ومعنى قوله: ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان الاختيار إلينا لم نخرج، فلم
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٧٢
125
نقتل، لكنّا أخرجنا كرها. فرد الله عليهم: قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ..
الآية، أي أن من قدّر عليه القتل قاده أجله إلى الخروج في مكان فقتل فيه، ولم ينجه قعوده في منزله لأن قضاءه تعالى كائن لا محالة.
التفسير والبيان:
والله لقد وفي لكم ربكم وعده النصر على العدو حين أخذتم تقتلونهم قتلا ذريعا وتفتكون بهم فتكا بتأييد الله ومعونته ومشيئته وإرادته.
صدقكم الله وعده، حتى إذا جبنتم وضعفتم عن القتال واختلفتم في الرأي والعمل في تنفيذ أمر نبيكم بالثبات على جبل الرماة، فقال بعضكم: فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أبدا، ولم يثبت إلا عبد الله بن جبير مع نفر من أصحابه، لما حدث ذلك تأخر النصر وأحدقت الهزيمة بكم.
وبعبارة أخرى: فلما واجهتموهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام، ولما اختلفتم وحصل ما حصل من عصيان الرماة، وفشل بعض المقاتلة، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة «١».
عن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول، وتركوا مصافّهم. وترك الرّماة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فصدق الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء «٢».
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٤١١- ٤١٢
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٣٥ [.....]
126
فألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم: أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات، لا في الانهزام.
ثم بين سبب التنازع فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الغنيمة، قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يوم أحد. وهؤلاء هم الذين تركوا أماكنهم على الجبل طلبا للغنيمة.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مع أميرهم عبد الله بن جبير، فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين، فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله.
والعتاب مع من انهزم، لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب.
ثم بعد أن استوليتم عليهم، ردكم عنهم بالانهزام، فعل هذا ليمتحن إيمانكم، ولقد عفا الله عنكم وغفر لكم ذلك الصنيع، بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرطتم به، والله ذو فضل على المؤمنين أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، وربما كان سبب العفو والفضل والرحمة كثيرة عدد العدو وعددهم، وقلة عدد المسلمين وعددهم.
ثم ذكّر هم الله تعالى، فقال: اذكروا وقت أن صرفكم عنهم حين أصعدتم في الجبل أي ذهبتم منهزمين، وأنتم لا تلتفتون لأحد من الدهش والخوف والرعب، والحال أن الرسول قد خلفتموه وراء ظهوركم، يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، قائلا:
«إلي عباد الله، إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة»
وقال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي عباد الله ارجعوا» فالرسول يدعوكم في آخركم، جاء في البخاري: أخراكم: تأنيث آخركم.
قال البراء بن عازب: جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرّجّالة يوم أحد عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم.
ولم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا.
127
وكان جزاؤكم غمّا بغمّ، والغم الأول: إلحاق الهزيمة وحرمان الغنيمة والقتل بالصحابة، والغم الثاني الذي سبّب الغم الأول: هو ما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم من ألم وضيق بسبب عصيانكم أمره، ومخالفتكم رأيه. وهذا أرجح الأقوال كما قال ابن جرير الطبري.
وقد فعل بكم ذلك كله لتتمرنوا على الشدائد، وتتعودوا احتمال المكاره، فإنها تصقل الأمم والأفراد، ولئلا تحزنوا على ما فاتكم من المنافع والمغانم، ولا على ما أصابكم من المضارّ من عدوكم، كالجراح والقتل، والله خبير بأعمالكم، فمجازيكم عليها، إذ العمل سبب النجاح والظفر، وتكميل الإيمان والتحلي بالفضائل. وفي هذا ترغيب بالطاعة وزجر عن المعصية.
ثم ذكر الله تعالى ما امتنّ به على عباده من بعد الغم الذي اعتراهم، وهو إنزال السكينة والأمن «١» وهو النعاس الذي غشيهم وغلبهم، وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، ليستردوا ما فقدوه من القوة، وما عرض لهم من الضعف، كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال ٨/ ١١]. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه «٢». وروى البخاري أيضا في التفسير عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس، ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه «٣».
وكان النعاس يغشى طائفة من الناس- والطائفة: تطلق على الواحد
(١) الأمن والأمنة سواء.
(٢) هكذا رواه البخاري في المغازي معلقا.
(٣) ورواه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم بلفظ مقارب.
128
والجماعة-، وهم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة في إيمانهم، كما قال ابن عباس، أو هم أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل على الله، وهم الجازمون بأنّ الله سينصر رسوله، وينجز مأموله.
وطائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم أي حملتهم على الهم، وملأ الخوف قلوبهم، لعدم ثقتهم بنصر الله، ولعدم إيمانهم بالرسول، وهم جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي ومعتّب بن قشير وأتباعهم، لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف، ولا يهتمون بأمر الرسول والدين، وهم كما أخبر الله: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه إذ قالوا: لو كان محمد نبيا حقا ما تسلط عليه الكفار، وهو قول أهل الشرك بالله.
وهذه الطائفة الثانية يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لنا من الأمر والنصر والفتح نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء لأنهم يعتقدون أن هذا ليس بحق. وهذا سبب خطئهم الفاحش، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا، والمهم تمام الأمر والعاقبة.
فرد الله تعالى عليهم: بأن كل أمر يجري فهو بحسب سنته تعالى في الخليقة، تلك السنة القائمة على ربط الأسباب بالمسببات، وأن الأمر والنصر كله لله، لا لغيره، وهو ناصر عباده المؤمنين كما وعدهم بقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقوله: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[الصافات ٣٧/ ١٧٣].
وهؤلاء المنافقون يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد، ويتساءلون في الظاهر سؤال المؤمنين المسترشدين: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ لكنهم يبطنون الإنكار والتكذيب والنفاق.
ويقولون في أنفسهم أو لبعضهم بعضا منكرين لقولك لهم: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ
129
لِلَّهِ
: لو كان الأمر كما قال محمد: إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، فهم يربطون بين النبوة والنصر، وأنه لو كان محمد نبيا ما هزم، وفاتهم أن النصر من عند الله وتوفيقه، وأن الهزيمة بسبب مخالفات المسلمين.
فرد الله عليهم بأن الآجال والأعمار بيد الله، وأن النصر من عند الله، وأن من كتب عليه القتل فلا بد أنه مقتول، فلو كان في بيته وانتهى أجله، لخرج إلى مكان مصرعه، والحذر لا يمنع القدر، والأمر كله بيد الله.
وقد فعل الله ما فعل من إلحاق الهزيمة بالمسلمين في نهاية غزوة أحد، ليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص والثبات، وليميز ما في القلوب من أمراض ووساوس الشيطان، والله عليم بذات الصدور أي بالأسرار والخفيات، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وإنما فعل هذا لينكشف حال الناس، وتظهر الحقائق، وتنجلي مواقف المؤمنين الصابرين والمنافقين المخادعين.
وإن المؤمنين الذين انهزموا أو تركوا أماكنهم يوم التقاء الجمعين من المسلمين والمشركين في أحد، إنما أوقعهم الشيطان فريسة له في الزلل والخطأ، بسبب بعض ما كسبوا من ذنوبهم، ومعناه أن الذين انهزموا يرم أحد، كان السبب في توليهم الأدبار: أنهم كانوا أطاعوا الشيطان، فاقترفوا ذنوبا أدت بهم إلى منع التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وهذا يدل على أن الذنب يجز إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وتكون لطفا فيها، كما قال الزمخشري «١».
وتكون المصائب والعقوبات ومنها الهزائم آثارا للأعمال السيئة، فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
(١) الكشاف: ١/ ٣٥٦
130
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي عما كان من الفرار، ولم يؤاخذهم في الآخرة، وجعل عقوبتهم في الدنيا درسا وتربية وتمحيصا، وهذا يفتح أمامهم باب الأمل، ويدفع استيلاء اليأس على نفوسهم.
إن الله غفور يغفر الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتراف بالتقصير، حليم لا يعجل بالعقوبة على الذنب، وإنما يترك فرصة للعبد لتصحيح أخطائه، ومعالجة تقصيره.
فقه الحياة أو الأحكام:
الناس في الماضي كالناس في الحاضر يعيشون في الأحلام والخيالات، فهم ينتظرون النصر منحة إلهية خالصة للمؤمنين، دون أن يقوموا بواجباتهم ويعملوا بما تقتضيه متطلبات الحروب مع العدو، فهم المكلفون من الخلق بالجهاد وحمل الأمانة، وإذا جاهدوا وصبروا وثبتوا، أيدتهم العناية الإلهية، وتحقق لهم النصر والفوز.
والله صادق الوعد بنصر المؤمنين ما داموا على الحق ثابتين، وفي ميدان المعارك مجاهدين صابرين مطيعين متوحدين غير متفرقين، وأما الجبن والضعف والتفرق والنزاع والأطماع الدنيوية فهي سبب الخذلان والهزيمة المنكرة، وقد صدق الله وعده للمؤمنين في أحد، وأراهم الفتح في بداية المعركة حين صرع صاحب لواء المشركين وقتل معه سبعة نفر، فلما عصوا وخالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالثبات على جبل الرماة، واشتغلوا بالغنيمة أعقبهم البلاء، وأدى بهم إلى الجراح والقتل، والهزيمة وفرار الناس من حول قائدهم النبي.
وتغير وجه المعركة من نصر إليه هزيمة، فبعد أن استولى المسلمون على المشركين ردهم عنهم بالانهزام، لقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وهذا دليل على أن المعصية مخلوقة لله تعالى.
131
ولكن من لطف الله بعباده الذين أخطئوا هذه المرة أن عفا عنهم، ولم يستأصلهم بالمعصية والمخالفة، والله ذو فضل دائم على المؤمنين بالعفو والمغفرة، قال ابن عباس: ما نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم كما نصر يوم أحد، فأنكر الصحابة ذلك، فقال لهم: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ والحسّ: القتل.
ولم يكن فرار المسلمين في أحد مقبولا لأن القائد وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يزال صامدا يقاتل في قلب المعركة، ويدعو الفارّين إلى العودة والكرّ، فلما لم يرجعوا جازاهم الله بالغم والحزن وهو القتل والجراح وعدم الظفر بالغنيمة، بسبب الغم والضيق الذي ملأ قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم لمخالفتهم إياه. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا.
ولكن فضل الله ورحمته بالمؤمنين بعد هذا الغم ألقى عليهم النعاس أو النوم ليشعرهم بالأمن وليجددوا عزائمهم وترتاح نفوسهم من بعد هذه الهزيمة. أما المنافقون فظلوا في قلقهم واضطرابهم لا ينامون ولا يشعرون بالطمأنينة والأمن، ويقولون: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ استفهام معناه الجحد والإنكار، أي ما لنا شيء من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، بدليل قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتّب بن قشير، والنعاس يغشاني يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. وقيل: المعنى: يقول ليس لنا من الظّفر الذي وعدنا به محمد شيء.
فرد الله تعالى عليهم: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي النصر بيد الله، ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء. والأجل والعمر بيد الله، وما من ميت إلا ويموت بأجله، سواء في الحرب وساحاتها، أم في المنازل والمضاجع وغرفها وحدائقها.
وهكذا كان أهل غزوة أحد بعد انتهائها فريقين:
132
١- فريق ذكروا ما أصابهم، فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم، فاستغفروا لذنوبهم وآمنهم ربهم.
٢- وفريق أذهلهم الخوف، حتى شغلوا عن كل ما سواه، إذ لم يثقوا بوعد الله ولم يؤمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأما سبب انهزام المؤمنين يوم أحد فكان بتأثير الشيطان وإغوائه ووسوسته، وبما اقترفوا من ذنوب سابقة، فإنه ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا، ولكن الله بفضله ورحمته عفا عنهم ولم يعاجلهم بالعقوبة. قال القرطبي: ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «فحجّ آدم موسى»
أي غلبه بالحجة وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذرّيته من الجنة، بسبب أكله من الشجرة فقال له آدم: «أفتلومني على أمر قدّره الله تعالى عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، تاب عليّ منه، ومن تاب عليه، فلا ذنب له، ومن لا ذنب له، لا يتوجّه عليه لوم». وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم، إذ لا علم لهم بذلك «١».
تحذير المؤمنين من أقوال المنافقين وترغيبهم في الجهاد وبيان فضله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٤٥
133
الإعراب:
إِذا ضَرَبُوا أتى بالفعل الماضي بعد إذا التي هي للاستقبال لأن إذا بمنزلة إن، و (إن) تنقل الفعل الماضي إلى معنى المستقبل.
لِيَجْعَلَ لام العاقبة، ومعناه: لتصير عاقبتهم إلى أن يجعل الله جهاد المؤمنين وإصابة الغنيمة أو الفوز بالشهادة حسرة في قلوبهم، مثل آية: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص ٢٨/ ٨].
وَلَئِنْ مُتُّمْ يقرأ ميم مُتُّمْ بالضم والكسر، وهما لغتان. واللام في لَئِنْ: عوض عن القسم. وإنما لم تدخل نون التوكيد مع اللام على فعل تُحْشَرُونَ الذي هو جواب القسم مثل: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ [الإسراء ١٧/ ٨٦] لأنه فصل بين اللام والفعل بالجار والمجرور.
لَمَغْفِرَةٌ مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
البلاغة:
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ استعارة، شبّه المسافر برا بالضارب السابح في البحر.
المفردات اللغوية:
كَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون بزعامة عبد الله بن أبي وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي في شأنهم، والأخوة تشمل أخوة النسب والدين والمودة إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ سافروا في الأرض للتجارة والكسب.
134
أَوْ كانُوا غُزًّى أي مقاتلين في الحرب، واحدهم غاز لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ القول في عاقبة أمرهم حَسْرَةً ندامة في قلوبهم. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فلا يمنع الموت قعود.
المناسبة:
حذر الله تعالى في الآية السابقة من وسوسة الشياطين التي أدت إلى الهزيمة يوم أحد، وحذر هنا من وسواس المنافقين أعوان الشياطين.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين ويحذرهم من مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الذي وضح بقولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم.
يا أيها المؤمنون لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا في البلاد للتجارة فماتوا، أو كانوا غزاة محاربين فقتلوا: لو كانوا باقين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
لأن هذا جهل في الدين وضلال في الإيمان لأن الحياة والموت بيد الله، كما قال: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران ٣/ ١٤٥].
والقضاء والقدر لا يجعلان الإنسان مجبورا على أفعاله لأن القضاء: معناه تعلق العلم الإلهي بالشيء، والعلم انكشاف وإحاطة بالشيء لا يقتضي الإلزام والقدر: وقوع الشيء بحسب العلم، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، وإلا كان جهلا. والإنسان مختار في أعماله، لكنه ناقص القدرة والإرادة والعلم، وله حدود لا يتعداها، فقد يعزم على شيء أو يختار عملا، ولكنه لا يحيط علما بأسباب الموت. ومتى وقع الشيء علم أن وقوعه لا بد منه، وإذا كان الإنسان مؤمنا بمعونة الله وتأييده وأنه يوفقه إلى ما يجهل من أسباب سعادته، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل وأبعد عن العثرات والفشل.
135
لا تكونوا كالذين كفروا الذين قالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول حسرة في قلوبهم على من فقدوا، تزيدهم ضعفا، وتورثهم ندما، فإذا كنتم مثلهم أصابكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كضعفهم.
فالله خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم. ثم رد الله تعالى عليهم بقوله: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي بيده الخلق والإيجاد، وإليه يرجع الأمر والإعدام، ولا يحيى أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره، ولا يزاد في عمر أحد، ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره.
والله بما تعلمون بصير، أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ظاهرها وباطنها، يعلم بما تكنّه النفوس وما تعتقده، وإن لم تعبر عنه. وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين.
والقتل في سبيل الله والموت أيضا وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجميع حطامها الفاني الذي يجمعونه.
فما أجدر المؤمن أن يؤثر مغفرة الله التي تمحو الذنوب، ورحمته التي ترفع الدرجات على حظوظ الدنيا الفانية، فما هو خالد باق خير مما هو مؤقت فان.
ثم حث سبحانه وتعالى على العمل في سبيل الله لأن المال إليه، فأخبر بأن كل من مات أو قتل، فمصيره ومرجعه إلى الله عز وجل، فيجزيه بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فبأي سبب كان هلاككم فإلى الله مرجعكم، وتحشرون، أي تجمعون إليه لا إلى غيره.
وهذا حث على العمل وبث لروح التضحية والجهاد من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام والدفاع عن الأوطان، ووعد قاطع بأن من يقتل في سبيل الله فهو حي يرزق عند ربه، وله عند الناس أطيب الذكر والثناء الجميل.
136
فقه الحياة أو الأحكام:
يحرص القرآن الكريم على بروز الشخصية الذاتية للمسلمين، وعلى تعهدهم بالرعاية والعناية، وإيجاد الموقف المتميز لهم أمام خصوم الدعوة الإسلامية، لذا حذرهم ونهاهم من أن يقولوا مثل قول المنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة.
فالحياة والموت بيد الله، والله واسع العلم نافذ البصر بأعمال الناس وخفاياهم، فمن الخطأ القول بأن الشخص لو كان في منزله أو بلده ما مات ولا قتل لأن القعود عن الجهاد لا يحفظ الحياة، وكذا التعرض لقتال الأعداء لا يسلب الحياة ولا يعجل بالموت.
لا تكونوا مثلهم، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم لأنه ظهر نفاقهم. والله يقدر أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله، فذلك تهديد للمؤمنين حتى لا يتشبهوا بالكفار في أقوالهم وأفعالهم.
ثم أخبر الله تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا، ثم وعظ المؤمنين بقوله: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ أي لا تفرّوا من القتال ومما أمركم به، بل فرّوا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردّكم إليه، لا يملك لكم أحد ضرّا ولا نفعا غيره.
والخلاصة: إن الآيات تضمنت تحذيرا أو تهديدا للمؤمنين، ووعدا، وحثا على العمل والجهاد. أما التحذير فهو من مشابهة الكافرين بأقوالهم وأفعالهم، وأما الوعد فهو أن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من مغفرة الذنوب ورحمة الله التي ترفع الدرجة خير له من الدنيا وما فيها من لذات وشهوات.
وأما الحث على العمل في سبيل الله وبث روح التضحية والجهاد فهو مفهوم
137
من المصير المنتظر لجميع الخلائق، وهو حشرهم إلى الله لا إلى غيره، فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى نفع من غيره، ولا يدفع ضرر أو عقاب من سواه.
معاملة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه بالرفق والعفو والمشاورة والوعد بالنصر
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
الإعراب:
فَبِما رَحْمَةٍ..: ما زائدة مؤكدة، والتقدير: فبرحمة من الله، وهي في موضع نصب لأن التقدير: لنت لهم برحمة من الله.
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ الهاء في: بعده إما عائدة على الله تعالى، أو عائدة على الخذلان، لدلالة قوله تعالى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كقولهم: من كذب كان شرّا له، أي كان الكذب شرا له.
البلاغة:
توجد مقابلة بين إِنْ يَنْصُرْكُمُ.. وإِنْ يَخْذُلْكُمْ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ.. قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر.
138
لمفردات اللغوية:
لِنْتَ لَهُمْ اللين: الرفق والتساهل في المعاملة، أي سهلت أخلاقك إذ خالفوك.
فَظًّا سيء الخلق، شرس الطباع غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيا جافيا لا يتأثر قلبه بشيء لَانْفَضُّوا تفرقوا من حولك فَاعْفُ تجاوز عما أتوه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ذنبهم لأغفر لهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ تعرّف على آرائهم في سياسة الأمة في الحرب والسلم وشؤون الحياة الدنيوية تطييبا لقلوبهم، وليستن بك، وكان صلّى الله عليه وسلّم كثير المشاورة لهم فَإِذا عَزَمْتَ على إمضاء ما تريد بعد المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به بعد المشاورة، والتوكل: الاعتماد على الله في كل أمر.
المناسبة:
المناسبة واضحة، فالآيات ما تزال تتحدث عن غزوة أحد وآثارها، فبعد أن عفا الله عما بدر من المسلمين في أحد، وحذرهم من التأثر بأقوال المنافقين، أعقبه بعفو القائد المصطفى الذي ساءه هذا الموقف وما أدى إليه من الجراح والآلام، فقد عاملهم بالرفق واللين والحلم، وخاطبهم باللطف وحسن المعاشرة، بل استشارهم في مستقبل الأحداث ومصالح الدنيا لما عرف عنه من سمو الأخلاق وحكمة القيادة، فهو رحمة للعالمين، ووصفه القرآن بقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم ٦٨/ ٤].
التفسير والبيان:
خاطب الله نبيه بعد خطاب المؤمنين، ممتنا عليه وعليهم فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره. فبرحمته تعالى وتوفيقه لك ولهم جعلك الله ليّن المعاملة، رفيق المعاشرة، لطيف اللفظ والكلام، في إرشادهم وقبول عذرهم فيما فرط منهم في غزوة أحد.
وهذا إظهار لسمو القيادة، وحكمة الرئاسة، وأخلاق النبوة، وهي مثل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم ٦٨/ ٤] وقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ
139
رَحِيمٌ
[التوبة ٩/ ١٢٨]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا حلم أحبّ إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه».
ولو كنت غليظ الكلام خشنا قاسي القلب جافّ الطبع في معاملتهم، لتفرقوا من حولك، وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم، تأليفا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: «إني أرى صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح»
وروى محمد بن إسماعيل الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض» «١».
وإذا كنت يا محمد بهذه الأخلاق فاعف عنهم، وتجاوز عما صدر منهم، واطلب لهم المغفرة من الله حتى يغفر لهم، وشاورهم في أمور السياسة العامة ومصالح الأمة في الحرب والسلم، وكل شؤون المصالح الدنيوية.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعلا يشاور أصحابه في الأمور كلها، تطييبا لقلوبهم، وليستن الناس بفعله، قال الحسن رضي الله عنه: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعدهم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما ذكره الماوردي: «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم»
وقال أبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه الترمذي: «لم يكن أحد أكثر مشاورة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
- شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا
(١) حديث غريب.
140
هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.
- وشاورهم أيضا أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم.
- وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم.
- وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك.
- وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصدّيق: إنا لم نجئ لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال.
وقال صلّى الله عليه وسلّم في قصة الإفك: «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي «١» ورموهم، وايم الله، ما علمت على أهلي من سوء، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه إلا خيرا».
- واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها «٢».
وللشورى فوائد كثيرة أهمها تقدير المستشارين، وإنضاج بحث الرأي المقترح بعد تقليب وجهات النظر، واتحاد الناس على مسعى واحد، واختيار الرأي الأصوب.
جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المستشار مؤتمن».
(١) أبن فلان يؤبن بكذا: يذكر بقبيح.
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٤٢٠
141
فإذا عزمت فتوكل على الله، أي إذا شاورتهم في الأمر، وعزمت عليه، فتوكل على الله فيه، إن الله يحب المتوكلين عليه الواثقين به، فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه الخير لهم. وليس معنى التوكل هو التواكل وإهمال الأسباب، وإنما هو حسن الاعتماد على الله والثقة به وتفويض النتائج إليه، بعد اتخاذ الأسباب.
قال الرازي: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال، وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل عليه أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحكمة.
ففي الكسب والمعاش لا بد من السعي في الأرض، كما قال تعالى: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك ٦٧/ ١٥].
وفي السياسة والحرب يجب الانتباه والحذر والإعداد المكافئ لقوى العدو:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء ٤/ ٧١] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال ٨/ ٦٠].
ومن أجل الدنيا والآخرة لا بد من الصلاح والاستقامة والتزود بالتقوى:
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة ٢/ ١٩٧].
وفي كل شيء يكون التوكل مقرونا بالسعي،
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا»
وأخرج ابن حبان في صحيحة: «حديث الرجل الذي جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأراد أن يترك ناقته، وقال: أأعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اعقلها وتوكل».
ثم أعلن الله تعالى عن مصدر النصر في الحقيقة فأخبر أنه إن أراد الله أن ينصركم في أحد، كما نصركم في بدر، حين التزمتم الطاعة، وثبتم، واتكلتم على
142
توفيق الله ومعونته، فلا غالب لكم من الناس. وإن يرد خذلانكم وهزيمتكم ويمنعكم تأييده بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به، كما جرى يوم أحد، فلا يملك لكم أحد تحقيق النصر. وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وليثقوا به بعد اتخاذ الأسباب لأنه لا ناصر لهم سواه. وفي هذا ترغيب في التوكل على الله بعد المشاورة والاستعداد وعقد العزيمة الصادقة على فعل شيء مرغوب به شرعا.
فقه الحياة أو الأحكام:
إيراد هذه الأخلاق للنبي صلّى الله عليه وسلّم يقصد به الاقتداء به فيها لأنه الأسوة الحسنة للمؤمنين، وهو قائدهم وهاديهم بالقول والفعل والصفات. ودلت آية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق، وكان يجمع بين دواعي السمو كشرف النسب والحسب، وطهر النفس، والسخاء، وفصاحة البيان، وخاتم النبيين، وبين التواضع التام، فكان يرقع ثوبه ويخصف نعله ويجامل أهله والمستضعفين. قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب. هذا مالا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى ٤٢/ ٣٨].
ودل قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون، مع إمكان الوحي فإن الله أذن لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك.
وهل الشورى ملزمة وواجبة على النبي صلّى الله عليه وسلّم أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ اختلف الفقهاء على قولين، والظاهر القول الأول لما
روي الإمام أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما»
وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العزم، فقال:
«مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم».
143
وصفة المستشار- كما قال العلماء: إن كان في الأحكام أن يكون عالما ديّنا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. وصفة المستشار في أمور الدنيا: أن يكون عاقلا مجرّبا وادا في المستشير، روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه النسائي الحديث المتقدم عن أبي هريرة: «المستشار مؤتمن».
والعزم في الآية- كما بينا- هو إمضاء الأمر وتنفيذه بعد المشاورة. ولا بد فيه من التوكل على الله، والتوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز. وقال قتادة: أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم.
والنصر مرهون بتنفيذ الأوامر وإطاعة الله والقائد، والخذلان وهو ترك العون الإلهي منتظر عند العصيان والمخالفة، والمخذول: المتروك لا يعبأ به. فعليه توكلوا فإنه سبحانه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا، وإن يخذلكم ويترككم من معونته لا ينصركم أحد من بعد خذلانه إياكم.
والتوكل على الله محقق لأمرين:
أحدهما- محبة الله للعبد: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
الثاني- كفاية الرحمن للإنسان: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.
عدالة النبي صلّى الله عليه وسلّم في قسمة الغنائم ومهامه في إصلاح أمته
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦١ الى ١٦٤]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
144
الإعراب:
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ: أَنْ يَغُلَّ: اسم كان، ولِنَبِيٍّ خبر كان، والمعنى:
ما كان لنبي أن يخون.
هُمْ دَرَجاتٌ أي هم ذوو درجات عند الله، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي ما شأنه، ونفي الشأن أبلغ من نفي الفعل.
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ استعارة، جعل ما شرعه الله كدليل الهداية إلى رضوانه، وجعل العاصي كمن أمر أن يتبع شيئا فامتنع.
بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ التنكير للتهويل أي بسخط لا يوصف.
هُمْ دَرَجاتٌ على حذف مضاف أي ذوو درجات متفاوتة.
المفردات اللغوية:
أَنْ يَغُلَّ يخون في الغنيمة، فلا تظنوا به ذلك. أي ما كان من شأن أي نبي أن يغل:
يأخذ شيئا من الغنيمة خفية لأن الله عصم أنبياءه من سفساف الأمور، فلا يقع منهم ما لا يليق يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ حاملا له على عنقه اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي أطاع ولم يغل كَمَنْ باءَ رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أي بغضب عظيم، لمعصيته وغلوله. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي
145
هُمْ دَرَجاتٌ أصحاب درجات عِنْدَ اللَّهِ أي مختلفو المنازل، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العقاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ أي يشاهد ويرى كل شيء.
لَقَدْ مَنَّ أنعم وتفضل مِنْ أَنْفُسِهِمْ عربيا من جنسهم، ليفقهوا كلامه ويشرفوا به.
وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الذنوب وأدران الوثنية والعقيدة الفاسدة الْكِتابَ القرآن وَالْحِكْمَةَ السنة النبوية مِنْ قَبْلُ أي قبل بعثته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ضلال بيّن واضح لا ريب فيه.
سبب النزول:
أخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء، افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها، فأنزل الله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ.
وقال الكلبي ومقاتل: إن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا من مغنم فهو له، وألا يقسم الغنائم، كما لم يقسمها يوم بدر،
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بل ظننتم أنّا نغل ولا نقسم» «١».
التفسير والبيان:
تتابع الآيات في بيان صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومهامه في إصلاح أمته، فما كان من شأنه أن يخون، بل وما كان لنبي أن يخون لأن الله عصم أنبياءهم عما لا يليق بمقامهم لأن النبوة منزلة عالية تربأ بصاحبها عن فعل ما فيه دناءة وخسة، مما يدل على هول الاتهام والخطأ الصادر من المنافقين بنسبة الخيانة والغلول من المغنم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو منه براء.
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٧٢- ٧٣
146
وكل من يخون فيأخذ شيئا من الغنائم خفية، يأتي به يوم القيامة حاملا إياه على عنقه، أي متحملا مسئولية فعله ووزر ما ارتكبه.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، أيدته السنة النبوية،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره ثم قال:
ألا لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول:
يا رسول الله، أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة «١»
فيقول:
يا رسول الله، أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق «٢»، فيقول:
يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت «٣»، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك»
وهذا كله من قبيل تمثيل الذنب وثقله وفضيحة صاحبه، وأنه يتحمل وزره يوم القيامة، كما جاء في آية أخرى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [الأنعام ٦/ ٣١].
فأخذ أي شيء بغير حق يستوجب العقاب، كما قال تعالى حكاية عن لقمان:
(١) حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل. والثغاء: صياح الغنم.
(٢) الرقاع: هي التي يكتب عليها، وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة، وخفوقها:
حركتها.
(٣) الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.
147
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان ٣١/ ١٦].
ثم توفى كل نفس في الآخرة ما كسبت من خير أو شر، فينال الغالّ وغيره جزاء فعله دون ظلم، لا ينقص منه شيء، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ، لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٩].
ثم بين سبحانه نفي المساواة بين المحسن والمسيء، فأخبر أن من اتقى الله وعمل صالحا لا يستوي مع من عصى الله وعمل سوءا، أي فلا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه، فاستحقّ به رضوان وجزيل ثوابه وأمن العذاب، ومن استحق غضب الله وألزم به، فلا محيد له عنه، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير. وهذا مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ [السجدة ٣٢/ ١٨] وقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨].
وإن لكل من أهل الخير وأهل الشر درجات ومنازل، يتفاوتون فيها، فللمتقين الطائعين درجات في الجنة، وللعصاة دركات في النار، فهم يتفاوتون في الجزاء بسبب تفاوت أعمالهم في الدنيا.
فأعلى الدرجات درجة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأسفل الدركات درك المنافقين: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء ٤/ ١٤٥] والله تعالى بصير بأعمال العباد، فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم بدءا من تزكية نفوسهم إلى أرفع الدرجات، ومن إهمال التزكية إلى أسفل الدركات، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٩- ١٠]. وسيوفيهم جزاء
148
أعمالهم، لا يظلمهم خيرا، ولا يزيدهم شرا، بل يجازي كل عامل بعمله.
ثم بيّن تعالى ما امتن وتفضل به على الناس، فأرسل نبيه محمدا متصفا بأوصاف ومكلفا بمهام هي:
- إنه عربي من ولد إسماعيل من جنس قومه، مما يدعوهم إلى الاهتداء به والثقة برسالته، فضلا عن أنهم شرفوا به، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف ٤٣/ ٤٤] وتخصيصهم بالذكر يقتضيهم مزيد الانتفاع به، وإن كان هو للناس كافة، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٧].
- إنه يتلو عليهم آيات الله الدالة على قدرته ووحدانيته وعلمه وكمال أوصافه، كما أشار تعالى في آية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران ٣/ ١٩٠].
- إنه يزكيهم ويطهرهم من زيف الوثنية وفساد العقيدة الجاهلية، كاعتقادهم بتأثير الأصنام والأحجار، وبدلالة الطير، وغير ذلك من الأوهام والخرافات، وينقلهم إلى معطيات العقل الصحيح والفكر الناضج، والمدنية والحضارة، وإقامة الدولة والإدارة والسياسة التي تفاخر العالم وتنافس المجتمع الدولي القائم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم.
- إنه يعلمهم القرآن والسنة، فيصبح منهم العلماء والكتاب والحكماء والقادة وأساتذة العلوم والمعارف والثقافات المتنوعة، وإن كانوا من قبل هذا الرسول لفي غي وجهل ظاهر، إذ كانوا أمة أمية، فأصبحوا بنور الإسلام، وعلم القرآن، ومعرفة الحياة أمة متمدنة متحضرة نافست الأمم الأخرى وسبقتهم.
149
وهذا يومئ إلى أن معرفة القرآن والسنة كانت للعرب مفتاح النور والعلم وتعلم أصول الحياة الراقية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن الأنبياء على درجة عالية من السمو والأخلاق، فما كان من شأن نبي أن يخون، أو يجور في القسمة، أو يأخذ شيئا من الغنائم بغير حق واضح، فما كان من حقكم أن تتهموا نبيكم بتهمة باطلة. روى الطبراني عن عمرو بن عوف حديثا: «لا إغلال ولا إسلال» أي لا خيانة ولا سرقة.
ومن خان وبّخه الله سلفا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، ويعاقب على ذنبه، وجعل الله تعالى هذه العقوبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه.
والغلول كبيرة من الكبائر بدليل هذه الآية وحديث أبي هريرة المتقدم:
أنه يحمله على عنقه.
وإذا غلّ الرجل في المغنم ووجد لديه، أخذ منه، وأدّب وعوقب بالتعزير.
وقال أحمد والأوزاعي وإسحاق: يحرق متاع الغالّ كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه، ولا تنزع منه دابته، ولا يحرق الشيء الذي غلّ، عملا بحديث رواه أبو داود والترمذي عن عمر: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ، فأحرقوا متاعه، واضربوه» لكن فيه صالح بن محمد بن زائدة، وهو ضعيف لا يحتجّ به.
وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه، إذ لم يثبت ذلك في السنة النبوية.
150
وتجوز العقوبة في المال، بدليل أن عمر رضي الله عنه أراق لبنا شيب بماء، وإذا باع الذمي خمرا لمسلم أريقت على المسلم، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له، لئلا يبيع الخمر من المسلمين.
وأجمع العلماء على أن للغالّ أن يرد جميع ما غلّ إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى الرد، وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخروج عن ذنبه. فإن افترق العسكر دفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي في رأي مالك والأوزاعي.
وفي تحريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة، فلا يحل لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر، فمن غصب شيئا منها أدّب اتفاقا.
ومن الغلول: هدايا العمال أو الولاة، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغالّ، بدليل
حديث ابن اللتبية عند مسلم في صحيحة وأبي داود الذي فيه: «لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء، وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تبعر «١» »
وروى أبو داود عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول».
ومن الغلول: حبس الكتب عن أصحابها، ويدخل غيرها في معناها.
٢- من اتبع شرع الله بترك الغلول والصبر على الجهاد له في الجنة رتبة، وتتفاوت درجات الطائعين. ومن عصى الله بكفر أو غلول أو تولى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحرب، له في النار رتبة، وتتفاوت دركات العصاة.
٣- إن بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم تدل على عظيم منّة الله تعالى، وخصائص النبي
(١) العيار: صوت الغنم والمعزى.
151
ومهامه تقتضي مبادرة العرب خاصة والناس كافة إلى الإيمان برسالته واتباع شريعته، فهو من أقحاح العرب من بني إسماعيل، وهو معلّم الكتاب والحكمة، وهو مزكي النفوس ومطهرها من أدناس الجاهلية وأرجاسها في العقيدة والأخلاق ونظام الحياة. وليس أدل على فضله من تحول العرب بدعوته من الجاهلية الجهلاء إلى نور العلم والعرفان.
بعض أخطاء المؤمنين في غزوة أحد وبعض قبائح المنافقين
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
الإعراب:
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ الَّذِينَ: إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين أو منصوب من ثلاثة أوجه: أن يكون وصفا للذين في قوله: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أو بدلا منهم، أو على تقدير: أعني.
152
البلاغة:
أَنَّى هذا استفهام إنكاري.
يوجد طباق بين لِلْكُفْرِ ولِلْإِيمانِ.
ويوجد جناس اشتقاق في قوله: أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ: ما أصابهم بأحد من غلبة المشركين عليهم وقتل سبعين منهم أي من المسلمين قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها أي ما وقع لهم ببدر بقتل سبعين من المشركين، وأسر سبعين منهم. قُلْتُمْ متعجبين. أَنَّى أي من أين لنا هذا، وهو تركيب يفيد التعجب، أي كيف يكون لنا هذا الخذلان، ونحن مسلمون، ورسول الله فينا؟ ويراد بهذه الجملة الاستفهام الإنكاري.
قُلْ لهم. هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي من شؤم معصيتكم، لأنكم تركتم المركز فخذلتم.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه النصر، وقد جازاكم، بسبب مخالفتكم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الْجَمْعانِ جمع المؤمنين، وجمع المشركين. فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته الأزلية وقضائه السابق بارتباط الأسباب بمسبباتها. فَادْرَؤُا فادفعوا عن أنفسكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دفع المكاره بالحذر وأن القعود ينجي من الموت.
سبب النزول: نزول الآية (١٦٥) :
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ... : أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال:
عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرّ أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة (الخوذة) على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية، إلى قوله:
قُلْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قال: بأخذ الفداء.
المناسبة:
تستمر الآيات في بيان الأخطاء يوم أحد، ففي الآيات السابقة أبان سبحانه
153
نسبة المنافقين الخيانة والغلول من المغنم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تبرئته من ذلك، وهذه الآيات تبين أخطاء الغزاة قبل هذه الوقعة وبعدها وتصوراتهم المنافية للواقع وأقوالهم وأفعالهم المغلوطة.
التفسير والبيان:
هذه الآية معطوفة على ما مضى من قصة أحد من قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، كأنه قيل: أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا: أنى هذا، من أين هذا، وهو كقوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا [آل عمران ٣/ ٣٧].
والمعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة أو لتخليتكم المركز في جبل الرماة، وعن علي رضي الله عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم.
والهمزة في قوله: أَوَلَمَّا للتقرير والتقريع، فلا ينبغي لكم أيها المنافقون والغزاة أن تعترضوا وتقولوا تعجبا: كيف ومن أين جرى علينا هذا أو من أين حدث لنا هذا المصاب؟ وهو ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم، كأنهم يظنون أن النصر دائما في جانب المسلمين مهما عصوا وخالفوا أوامر الله، مع أنهم أصابوا من المشركين في بدر ضعفي هذا العدد، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.
ثم أجابهم سبحانه وتعالى عن تساؤلهم موبخا ومقرعا: إن ما وقع حدث بشؤم معصيتكم، وبسبب عصيانكم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم، فعصيتم أيها الرماة.
وكانت أوجه العصيان كثيرة: الخروج من المدينة وكان من رأي النبي صلّى الله عليه وسلّم البقاء فيها، وفشلكم وضعف رأيكم، وتنازعكم، وعصيانكم أوامر الرسول عليه
154
الصلاة والسلام بمفارقة المكان الذي طلب منكم الوقوف فيه لحماية ظهور المقاتلين. ومن المعلوم أن العقوبات نتائج لازمة للأعمال، وأن الله وعدكم النصر بشرط ترك المعصية واتباع أوامر الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧].
إن الله على كل شيء قدير، أي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، وهو القادر على حجب النصر عنكم إن خالفتم وعصيتم، وذلك كله خاضع لقانون ربط الأسباب بالمسببات، وليس هناك شيء خارج عن القدرة الإلهية.
ثم أشار الله تعالى معزيا ومسليا إلى أن كل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقاء الجمعين: جمع المسلمين وجمع المشركين في أحد، فبإذن الله وإرادته وقضائه وقدره، وله الحكمة في ذلك، فما من شيء في الوجود إلا وهو خاضع لإرادته وحكمته.
ومن مظاهر الحكمة: أن يظهر الله علمه بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه، والصبر والثبات وعدمه، فيعلم الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا، ويعلم المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي بن سلول الذين رجعوا معه في الطريق، وكانوا ثلاثمائة رجل.
هؤلاء المنافقون إذا دعوا إلى القتال في سبيل الله، أو إلى الدفاع عن النفس والأهل والوطن، أجابوا: لو نعلم أنكم تلقون قتالا في غزوتكم لاتبعناكم وسرنا معكم، ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون. وهذا يدل على تأصل النفاق في قلوبهم، وأن غايتهم التلبيس والتدليس والاستهزاء وتعمية الحقائق، مع أن جمع المشركين في أحد وخروج المسلمين لمقابلتهم قرينة قاطعة على إرادة القتال. روي أن الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة
155
الألف الذين خرج بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم رجعوا من الطريق، وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الهزيمة.
إنهم بمقالتهم هذه: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا أقرب إلى الكفر يومئذ منهم إلى الإيمان، لظهور القرائن والأمارات برجوعهم وتصميمهم على إيقاع الهزيمة بالمسلمين، فإن من يتخاذل عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأوطان عند هجوم الأعداء ليس من المؤمنين، لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات ٤٩/ ١٥].
واستدلوا بآية هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان.
إنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وهذا شأن المنافقين، ومنه قولهم: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فإنهم- كما بينا- يعلمون أن جندا من المشركين قد جاؤوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، ويعلمون أنه كائن بينهم قتال لا محالة مما يدل على أنهم كاذبون في كل ما يقولون. ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من الكفر والكيد للمسلمين، وهذا تهديد واضح وافتضاح علني أنه لا ينفعهم النفاق، فهو بضاعة مزجاة لأن الله أعلم بسرائرهم ونواياهم.
ومن أقوالهم أيضا بعد القتال في أحد أنهم قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في وقعة أحد: لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل، وفي هذا دلالة على أنهم نصحوهم بالتراجع. أخرج ابن جرير الطبري عن السّدّي قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ألف رجل، وقد وعدهم بالفتح إن
156
صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبيّ في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السّلمي يدعوهم، فقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا، فنعى الله عليهم ذلك بقوله: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ....
فرد الله تعالى قولهم: قل يا محمد لهم: إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه.
فقه الحياة أو الأحكام:
تعقد الآية (١٦٥) مقارنة بين نتائج غزوتي بدر وأحد، محورها أن المسلمين أصيبوا إصابة شديدة يوم أحد بقتل سبعين منهم، مع أنهم يوم بدر أصابوا من المشركين ضعفي ذلك العدد، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، والأسير في حكم المقتول لأن الأسر يقتل أسيره للضرورة إن أراد، وقد هزموا المشركين يوم بدر، ويوم أحد أيضا في ابتداء المعركة، وقتلوا منهم في يومين قريبا من عشرين.
ومن الخطأ قولهم: من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبي والوحي، وهم مشركون! والسبب أن هزيمتهم كانت بسبب من أنفسهم، وهو مخالفة الرماة، وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون.
ومصابهم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة إنما هو بعلم الله وقضائه وقدره لحكمة في ذلك، وهي تربيتهم وتحذيرهم من المخالفة، وتمييز المؤمنين من المنافقين.
157
والإشارة بقوله: نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين انصرفوا معه عن نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا ثلاثمائة، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو جابر بن عبد الله، فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيّكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول. فقال له ابن أبيّ: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم. فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم واستشهد رحمه الله تعالى.
ودل قوله: أَوِ ادْفَعُوا على أن الدفاع عن الأوطان مثل القتال في سبيل الله، وعلى أن تكثير سواد المسلمين وإن لم يقاتلوا معهم، يكون دفعا وقمعا للعدو، فإن السواد إذا كثر حصل دفع العدو.
ويؤكده أن المرابط المستعد للقتال في ثغر إسلامي مدافع لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاء إليها العدو.
وكان موقف المنافقين هذا سببا في ظهور أمرين:
الأول- تبيان حالهم والكشف عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون، فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على الحقيقة: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ.
الثاني- إظهار كذبهم وعدم استحيائهم في الإتيان بالمغالطات، فهم أظهروا الإيمان، وأضمروا الكفر: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ.
ومن دلائل عدم إيمانهم أنهم قالوا لأجل إخوانهم- وهم الشهداء المقتولون من الخزرج، وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة دين-: لو قعدوا بالمدينة ما قتلوا.
158
وكان الرد القرآني مفحما لهم: إن صدقتم مع أنكم قاعدون في المدينة، فادفعوا الموت عن أنفسكم، وهذا يدل على أن الحذر لا يمنع القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة. قال أبو الليث السمرقندي: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت الآية: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ: مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين.
منزلة الشهداء المجاهدين في سبيل الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٥]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
الإعراب:
فَرِحِينَ حال منصوب من ضمير يُرْزَقُونَ. أَلَّا خَوْفٌ بدل من بِالَّذِينَ.
159
وَأَنَّ اللَّهَ قرئ بفتح أن وكسرها، فمن فتحها عطفها على قوله: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ومن كسرها جعلها مبتدأة مستأنفة الَّذِينَ اسْتَجابُوا مبتدأ، وخبره: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا. الَّذِينَ قالَ بدل من الَّذِينَ قبله، أو نعت.
يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ تقديره: يخوفكم بأوليائه، فحذف المفعول الأول وهو «كم» والباء من المفعول الثاني، مثل قوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً [الكهف ١٨/ ٢] وتقديره: لينذركم ببأس شديد.
البلاغة:
يوجد إطناب في يَسْتَبْشِرُونَ وفي لَنْ يَضُرُّوا وفي اسم الجلالة في مواضع، ويوجد طباق في أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ.
المفردات اللغوية:
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لأجل دينه. يُرْزَقُونَ يأكلون من ثمار الجنة. يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون، الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة. بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ هم الذين بقوا في الدنيا من إخوانهم المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي يفرحون بألا خوف على الذين لم يلحقوا بهم. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة، المعنى يفرحون بأمنهم وفرحهم فَرِحِينَ مسرورين. بِنِعْمَةٍ ثواب. وَفَضْلٍ زيادة عليه. وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ بل يأجرهم.
اسْتَجابُوا أجابوا وأطاعوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي أجابوا دعاءه بالخروج للقتال، لما أراد أبو سفيان، وأصحابه العود، وتواعدوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سوق بدر العام المقبل من يوم أحد الْقَرْحُ الألم الشديد والجراح في يوم أحد. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعته، والإحسان:
إتقان العمل على أكمل وجه. وَاتَّقَوْا مخالفته. أَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة.
قالَ لَهُمُ النَّاسُ أي نعيم بن مسعود الأشجعي. إِنَّ النَّاسَ أبا سفيان وأصحابه.
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الجموع ليستأصلوكم. فَاخْشَوْهُمْ ولا تأتوهم. فَزادَهُمْ ذلك القول.
إِيماناً تصديقا بالله ويقينا.
حَسْبُنَا اللَّهُ كافينا أمرهم. وَنِعْمَ الْوَكِيلُ المفوض إليه الأمر، وقد خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوافوا سوق بدر، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه، فلم يأتوا، وكان معهم تجارات فباعوا وربحوا.
فَانْقَلَبُوا رجعوا بسرعة، أي من بدر. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ بسلامة وربح. لَمْ
160
يَمْسَسْهُمْ
من قتل أو جرح. إِنَّما ذلِكُمُ أي القائل لكم المثبط: إن الناس. الشَّيْطانُ المراد بالشيطان نعيم بن مسعود أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف بمعنى: إن ذلكم قول الشيطان أي قول إبليس لعنه الله، وهو الأولى.
يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يخوفكم أنصاره من المشركين، وهم أبو سفيان وأصحابه. وَخافُونِ في ترك أمري. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا.
سبب النزول:
نزول الآية (١٦٩) :
وَلا تَحْسَبَنَّ:
روى أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الآية وما بعدها، وروى الترمذي عن جابر نحوه.
نزول الآية (١٧٢) :
الَّذِينَ اسْتَجابُوا:
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب بعد الذي كان منه يوم أحد، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك، فندب النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس، لينطلقوا معه، فجاء الشيطان فخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبي عليه الناس أن يتبعوه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
161
«إني ذاهب، وإن لم يتبعني أحد» فانتدب معه أبا بكر وعمر وعثمان وعليا والزبير وسعدا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبا عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا، فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون من أحد، قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، بئس ما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله، فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، أو بئر أبي عتبة، فأنزل الله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية. وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال، فأتوه، فلم يجدوا به أحدا، وتسوقوا فأنزل الله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ الآية.
وأخرج ابن مردويه عن أبي رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة، فقال: إن القوم قد جمعوا لكم، قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فنزل هذه الآية.
تاريخ غزوة حمراء الأسد:
روي أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع، حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان وقال: لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع جماعة من أصحابه، حتى بلغوا حمراء الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القراح (الجراح)
162
فتحاملوا على أنفسهم، حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا إلى مكة مسرعين، فنزلت الآية.
وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهي تابعة لغزوة أحد.
تاريخ غزوة بدر الصغرى:
روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن آية الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ نزلت في غزوة بدر الصغرى.
وهي أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ذاك بيننا وبينك إن شاء الله
، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى الله الرعب في قلبه، فبدا له الرجوع، فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان:
إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج، فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبّطهم، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمرو.
فأتى نعيم المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم:
ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقراركم، ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم، وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم، فو الله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذين نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حتى وافى بدرا
163
الصغرى «بدر الموعد» فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان
، فلم يلق أحدا لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجل، قسماه أهل مكة:
«جيش السويق» وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق.
ووافي المسلمون سوق بدر، وكانت معهم نفقات وتجارات، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا، فربحوا وأصابوا بالدرهم الدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.
المناسبة:
هذه الآيات متصلة بما قبلها، فبعد أن ذكر الله تثبيط المنافقين للراغبين في الجهاد، وقولهم: لو قعدوا في المدينة ما قتلوا: والرد عليهم بأن الموت يحدث بقضاء الله وقدره، أبان هنا منزلة الشهداء، حتى لا يتأثر أحد بأقوال المنافقين، وليكون ذلك حثا على الجهاد في سبيل الله.
التفسير والبيان:
الآية في شهداء أحد.
يخبر الله تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في الدنيا، فإن أرواحهم حية مرزوقة في الدار الآخرة، والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد، والمعنى:
لا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين المتقدم أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا لا يجازون على أعمالهم التي قدموها، بل هم أحياء في عالم آخر، مقربون عند ربهم، ذوو زلفى، كقوله تعالى: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت ٤١/ ٣٨]، يرزقون مثلما يرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون، وهو تأكيد لكونهم أحياء، ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله.
فالعندية (عند الله) هنا عنديّة كرامة ومكانة وتشريف، وهي تقتضي
164
غاية القرب، لا عندية مكان ومسافة وقرب وحدود. والحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية، لا ندرك حقيقتها، ونؤمن بها كما أخبر القرآن، وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فيه حذف مضاف: تقديره: عند كرامة ربهم.
وهؤلاء الشهداء مسرورون بما رأوه من نعيم مقيم وفضل كبير، وتفضيل على غيرهم، بسبب الشهادة، وهم مسرورون أيضا بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله، وإنما هم على الطريق سائرون يقتفون أثر من تقدمهم من قوافل الشهداء، حينما رأوا ما أعد لهم من الجزاء الحسن، وهو الحياة الأبدية والنعيم الدائم الذي لا يكدره خوف من مكروه ولا حزن على ما فات.
وهم يفرحون أيضا بما يتجدد لهم من الثواب على عملهم والرزق والفضل الإلهي الذي يؤتيهم الله من الجنة ونعيمها- والفضل في هذه الآية: هو النعيم المذكور- وأن الله يأجرهم، أي أنهم يستبشرون بنعمة من الله، ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.
وهذه الجملة بيان وتفسير لما تقدمها: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لأن من كان في نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا، ومن كانت أعماله مدخرا ثوابها لا يخاف العاقبة.
وذلك تحريض على الجهاد وترغيب في الاستشهاد.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب إخوانكم يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، في ظل العرش..»
إلخ الحديث المتقدم.
ثم وصفهم الله بحسن أعمالهم الذي هو سبب زيادة ثوابهم، فأخبر تعالى أن هؤلاء المجاهدين الذين استجابوا لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذهاب للقاء أبي سفيان في
165
غزوة حمراء الأسد عقب غزوة أحد، بالرغم مما كانوا عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد، فلهم أجر عظيم يتناسب مع جهادهم وشجاعتهم.
وأشار بقوله: مِنْهُمْ إلى أن من استجاب حظي بهذا الفضل والأجر، وأما الباقون فكانت لهم موانع وأعذار في أنفسهم أو أهليهم.
ثم أشاد تعالى أيضا بمن شارك في غزوة بدر الصغرى في العام المقبل بعد أحد، بالرغم مما قال لهم الناس: أي نعيم بن مسعود الأشجعي الذي كان ما يزال مشركا: إن الناس أي أبا سفيان وأعوانه جمعوا لكم الجموع لقتالكم، فاخشوهم وخافوهم، ولا تخرجوا إليهم.
فزادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة بوعده، وثباتا على دينه، إذ إنهم خافوه، ولم يخافوا تلك الجموع، واعتمدوا على تأييد الله وعونه ونصره، بعد أن صدقت نياتهم، واشتدت عزائمهم للقاء المشركين مهما كانت النتائج، وذلك مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين في غزوة الخندق (الأحزاب) : وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب ٣٣/ ٢٢].
وقالوا معبّرين عن صدق إيمانهم بالله: الله كافينا ما يهمنا من أمر الجموع، ونعم الوكيل الذي فوضنا أمورنا إليه، نعم المولى ونعم النصير. وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار «١»، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال أحد الناس: إن الناس (المشركين) قد جمعوا لكم فاخشوهم. ويستحب قولها عند الغم والمصيبة وإحاطة الداهية.
(١) روى البخاري عن ابن عباس قال: «كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار:
حسبنا الله ونعم الوكيل»
. [.....]
166
أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» «١».
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتد غمّه، مسح بيده على رأسه ولحيته، ثم تنفس الصّعداء، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل».
ولما فوضوا أمورهم إلى الله واتكلوا عليه، عادوا بأربعة جزاءات: النعمة من الله، والفضل، وصرف السوء، واتباع ما يرضي الله فرضي عنهم، أي لما توكلوا على الله وخرجوا للقاء عدوهم، كفاهم ما أهمهم، ورد عنهم بأس من أراد كيدهم، وربحوا في تجارتهم، ولم يصبهم قتل ولا أذى، واتصفوا بطاعة رسولهم ورضا ربهم الذي هو أساس النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، والله صاحب الفضل العظيم عليهم إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى الجهاد، والحفظ من السوء الذي يضمره لهم عدوهم.
وفي هذا إشارة إلى خسارة القاعدين المتخلفين إذ حرموا ما حظي به غيرهم، وهو معنى قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.
روى البيهقي عن ابن عباس في قول الله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال: «النعمة: أنهم سلموا، والفضل: أن عيرا مرت في أيام الموسم، فاشتراها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فربح فيها مالا، فقسمه بين أصحابه».
وأخرج الطبري عن السدي قال: «أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خرج في بدر الصغرى أصحابه دراهم، ابتاعوا بها في الموسم، فأصابوا ربحا كثيرا».
ثم قال تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم أولياءه،
(١) هذا حديث غريب من هذا الوجه، وله مؤيدات كثيرة (انظر تفسير ابن كثير: ١/ ٤٣٠).
167
ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، فليس القول الذي قيل لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ إلا من الشيطان الذي يخوفكم أنصاره المشركين، ويوهمكم أنهم ذوو عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، فلا تخرجوا إليهم.
ولكن عليكم أيها المؤمنون إذا سول لكم الشيطان أمرا وأوهمكم، فتوكلوا علي، والجؤوا إلي، فإني كافيكم وناصركم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إلى قوله: قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر ٣٩/ ٣٦- ٣٨] وقال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج ٢٢/ ٤٠] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧] وقال أيضا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر ٤٠/ ٥١- ٥٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا.. وما بعدها على ما يأتي:
١- إن من لم ينهزم أمام العدو، وصبر وثبت، وقاتل حتى قتل، له منزلة عالية عند الله، وهي منزلة الشهداء، وهي الكرامة والحياة عند الله. فهم أحياء في الجنة يرزقون، وأرواحهم حيّة كأرواح سائر المؤمنين، وإن ماتوا ودفنت أجسادهم في التراب. وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم.
والذي عليه معظم المفسرين أن حياة الشهداء محققة، ولكنها من نوع خاص، فإما أن ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فينعّمون، وإما أنهم يرزقون من
168
ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وقيل: إن هذا مجاز، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة.
والصحيح من الأقوال: أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون في الجنة، ويأكلون ويتنعمون.
٢- غسل الشهداء وتكفينهم والصلاة عليهم: للعلماء رأيان:
قال الحنفية: يكفن الشهيد بثيابه، ويصلى عليه، ولا يغسل إذا كان مكلفا طاهرا، وأما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهدوا، فيغسلون عند أبي حنيفة، كما يغسل الصبي والمجنون، وقال الصاحبان: لا يغسّلون. والدليل على عدم التكفين وعدم الغسل
حديث جابر عند البخاري: «ادفنوهم بدمائهم»
وفي رواية الشافعي وأحمد والبيهقي والنسائي: «زمّلوهم بدمائهم»
يعني يوم أحد ولم يغسّلهم.
وقد صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم على شهداء أحد اثنتين وسبعين صلاة.
وقال الجمهور: لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم لأنها ليست من أثر الشهادة بدليل
حديث جابر المتفق عليه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم».
وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا، ولم يمت في المعترك، وعاش وأكل، فإنه يصلّى عليه، كما قد صنع بعمر رضي الله عنه.
وأما من قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطرق وشبه ذلك، فقال أبو حنيفة والثوري: كل من قتل مظلوما لم يغسّل، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد. وقال الجمهور: يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب.
وأما إذا صبّح العدو قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم، فيغسلون ويكفنون ويصلى عليهم لأنهم لم يقتلوا في المعترك بين الصفين.
٣- القتل في سبيل الله والشهادة فيه له ثواب عظيم عند الله، حتى إنه يكفّر
169
الذنوب، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدّين» «١»
وهذا تنبيه على ما في معنى الدين من الحقوق الشخصية المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحة وغير ذلك من التّبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدّين، فإنه أشد، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات، حسبما وردت به السنة الثابتة، منها
حديث مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
وفي حديث صحيح آخر رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دين».
والدّين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة- والله أعلم-: هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤدّه، أو ادّانه في سرف، أو في سفه، ومات ولم يوفّه. وأما من ادّان في حق واجب لفاقة وعسر، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله لأن على السلطان فرضا أن يؤدّي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين،
قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «من ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالا فلورثته».
٤- الرزق في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ هو الرزق المعروف في العادات، وهو المعنى الحقيقي للفظ. ومن قال: هي حياة الذكر، قال:
يرزقون الثناء الجميل، وهو معنى مجازي.
(١) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بلفظ «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّين».
170
٥- قال السدي في آية وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ..: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم: استبشارهم بأنهم يقولون:
إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا، يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه، فيسرّون ويفرحون لهم بذلك.
٦- الفضل في قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.. لزيادة البيان، والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد.
روى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للشهيد عند الله ست خصال «١» : يغفر له في أول دفعة «٢»، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه»
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وما تضمنه الحديث تفسير للنعمة والفضل.
٧- أشارت آية: الَّذِينَ اسْتَجابُوا.. إلى أن الصحابة الذين تابعوا القتال ومطاردة أبي سفيان وجماعته في «حمراء الأسد» لإرهاب العدو، وكان عددهم سبعين رجلا، استحقوا المديح والثناء من الله تعالى لسببين: إطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما ندبهم إليه من الخروج معه، وتحاملهم على أنفسهم بالرغم مما فيهم من جراح وآلام شديدة مبرّحة أصابتهم في وقعة أحد.
(١) كذا في الترمذي وابن ماجه: «ست» وهي في العدد: سبع، وفي حاشية السندي على ابن ماجه: قوله: ست خصال، المذكورات سبع إلا أن يجعل الإجازة والأمن من الفزع واحدة.
(٢) الدفعة بالضم مثل الدفقة: ما دفع من إناء أو سقاء، فانصب بمرة واحدة.
171
٨- أرشدت آية: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إلى أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا، فالجبن لا يجتمع مع الإيمان لأن علته: الخوف من الموت والحرص على الحياة، وهما بعيدان عن المؤمن، وكان الصحابة الذين ذهبوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في العام التالي لأحد في بدر الصغرى مثلا عالية للشجاعة والتضحية والجرأة في سبيل الله.
٩- ودلت هذه الآية أيضا على أن المؤمن يمكنه التخلص من عوامل الخوف، فيقول: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا الله.
١٠- قوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وقوة وجرأة واستعدادا، يومئ إلى أن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة.
ويرى العلماء في زيادة الإيمان ونقصه: أن أصل الإيمان وجوهره وهو التصديق شيء واحد، لا يدخل فيه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال. وأما الزيادة والنقصان ففي متعلّقاته دون ذاته. والذي عليه الجمهور: أن الإيمان يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه،
لحديث مسلم والترمذي: «الإيمان بضع وسبعون بابا، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»
وهذه الزيادة في رواية مسلم فقط.
١١- وآية فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يراد بها كما قال العلماء: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا، فرضّاهم عنه، ورضي عنهم.
١٢- يشير قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ.. إلى أن الخوف يجب أن يكون من الله فقط، لا من الأعداء، وأن أولياء الله لا يخافون الشيطان إذا خوّفهم، وإنما يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين.
172
فالإيمان الصادق يحمل صاحبه على الخوف من الله وحده، وقد مدح الله المؤمنين بالخوف، فقال: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل ١٦/ ٥٠].
وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت «١» السماء، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصّعدات «٢» تجأرون «٣» إلى الله» قال أبو ذر: «والله لوددت أني كنت شجرة تعضد «٤» ».
إزالة الحزن من قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أحد ومناقشة الكفار والبخلاء وتمييز الخبيث من الطيب
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٦ الى ١٨٠]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
(١) أطت السماء: صوتت.
(٢) الصعدات: الطرق.
(٣) تجأرون: رفع الأصوات بالدعاء متضرعين.
(٤) تعضد: تقطع بالمعضد كالمنجل.
173
الإعراب:
وَلا يَحْزُنْكَ قرئ بفتح الياء وضمها، فمن قرأ بالفتح جعله من حزنه وهو فعل ثلاثي، ومن قرأ بالضم جعله من أحزنه، وهو فعل رباعي.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحْسَبَنَّ: قرئ بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء كان الَّذِينَ كَفَرُوا في موضع رفع بأنه فاعل يَحْسَبَنَّ، وتقديره: ولا يحسبن الكافرون. والَّذِينَ اسم موصول، والهاء المحذوفة من نُمْلِي هي العائد إليه. وخَيْرٌ خبر أن، وأن وما عملت فيه سدت مسدّ المفعولين. ومن قرأ بالتاء كان الَّذِينَ المفعول الأول، وأَنَّما وما بعدها بدلا من الَّذِينَ وسدّ مسد المفعول الثاني، وما بمعنى الذي، وتكون ما ونملي مصدرا.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يَحْسَبَنَّ: قرئ بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء فموضع الَّذِينَ يَبْخَلُونَ رفع لأنه فاعل حسب، وحذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه.
وهُوَ ضمير فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين. وخَيْراً مفعول ثاني منصوب.
وتقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله البخل خيرا لهم. ومن قرأ بالتاء فموضع الَّذِينَ يَبْخَلُونَ نصب لأنه مفعول أول على تقدير حذف مضاف تقديره: ولا تحسبن بخل الذين يبخلون. وهُوَ فصل. وخَيْراً هو المفعول الثاني.
البلاغة:
يوجد استعارة في اشْتَرَوُا الْكُفْرَ وفي يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وفي الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ إذ يراد به المؤمن والمنافق. ويوجد طباق في الْكُفْرَ، بِالْإِيْمانِ
المفردات اللغوية:
وَلا يَحْزُنْكَ يكدرك ويؤلمك، من حزن بمعنى أحزن يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يبادرون
174
في نصرته، وهم أهل مكة أو المنافقون، أي لا تهتم لكفرهم. حَظًّا نصيبا من الثواب فِي الْآخِرَةِ في الجنة، فلذلك خذلهم.
اشْتَرَوُا الْكُفْرَ أخذوا الكفر بدل الإيمان، كما يفعل المشتري بمبادلة المبيع بالثمن.
نُمْلِي نمهل، والإملاء: الإمهال لَهُمْ بتطويل الأعمار وتأخيرهم.
لِيَزْدادُوا إِثْماً بكثرة المعاصي أي لتكون عاقبتهم زيادة الإثم. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة في الآخرة.
يَمِيزَ أي يميّز ويفرز ويفصل الْخَبِيثَ المنافق مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن، أي ليظهر الفارق الواضح بين المنافق والمؤمن بالتكاليف الشاقة، كما في يوم أحد.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز.
يَجْتَبِي يختار ويصطفي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على غيبه، كما أطلع النبي صلّى الله عليه وسلّم على حال المنافقين وَتَتَّقُوا النفاق آتاهُمُ أعطاهم من مال غيره سَيُطَوَّقُونَ أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ما بَخِلُوا بِهِ أي بزكاته يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما ورد في الحديث. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يرثهما بعد فناء أهلهما والميراث: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم به.
سبب النزول:
نزول الآية (١٧٩) :
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ:
قال السدي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا: يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر، ونحن معه ولا يعرفنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: قال قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة، والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
175
وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرق بها بين المؤمن والمنافق، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
سبب نزول الآية (١٨٠) :
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.. جمهور المفسرين على أنها أنزلت في مانعي الزكاة. وروى عطية عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوّته، وأراد بالبخل: كتمان العلم الذي آتاهم الله تعالى «٢».
المناسبة:
أدى انتصار المشركين في أحد وإصابة المؤمنين بشيء كثير من الأذى، إلى استغلال المنافقين تلك النتيجة، فصاروا يقولون: لو كان محمد نبيا ما قتل ولا هزم، وإنما هو طالب ملك، فتارة ينتصر وتارة ينهزم، وبادروا في نصرة الكفار وتثبيط المؤمنين عن القتال، فتألم النبي صلّى الله عليه وسلّم وحزن، فنزلت هذه الآيات تسري عنه وتزيل الحزن من نفسه، كما سرّى عنه حينما أعرض الكافرون عن الإيمان، وطعنوا في القرآن أو شخصه، في قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [يونس ١٠/ ٦٥] وقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦].
التفسير والبيان:
يخاطب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم لشدة حرصه على الناس: لا يحزنك أيها الرسول مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ومناصرة الكفر، كأبي سفيان وغيره من أهل مكة، واليهود والمنافقين.
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٧٥- ٧٦
(٢) المرجع السابق: ص ٧٦
176
إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحته شيئا من الضرر، وإنما يضرون أنفسهم، ويحاربون الله تعالى ويستعدونه عليهم والدائرة تكون عليهم، ويحرمون من ثواب الله تعالى في الآخرة، ولهم عذاب عظيم لا يعرف قدره، والله يعاقبهم على فعلهم لا يظلمهم، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وضلالهم ومناصرتهم ملة الكفر ومقاومة المؤمنين: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
[فاطر ٣٥/ ٤٣] وهذا يدل على أنه لا يؤبه بهم ولا يخشى خطرهم.
وهي مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ، لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، مِنَ الَّذِينَ قالُوا: آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة ٥/ ٤١].
وهذا لا يقتصر عليهم، وإنما هو حكم عام مقرر يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان، لذا قال: إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا، ولكن يضرون أنفسهم، ولهم عذاب مؤلم شديد الألم في الدنيا والآخرة.
وهي تشبه آية أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٥٥] وآية: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم ٦٨/ ٤٤] وآية: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة ٩/ ٨٥].
ثم بيّن تعالى استدراج الكافرين وإمهالهم لوقت معين، فأخبر أنه لا يحسبن هؤلاء الكفار أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم لأنهم لا يستغلون العمر في عمل الخير، وإنما يستغلونه في الشر، فتكون عاقبتهم ازدياد الإثم على الإثم، والمبالغة في الباطل والبهتان، ولهم عذاب مهين: ذو إهانة وإذلال لهم، أي إنما هو معدّ لهم.
ولا يظنن الكفار أن إمهالنا يقصد به ازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما الإمهال
177
لهم هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان، لا لزيادة الإثم وللتعذيب، فيكون الإملاء خيرا لهم، ولكن علم الله سابقا أن بعضهم لن يعود إلى دائرة الحق والخير والرشاد، فهؤلاء لهم عذاب مهين.
قال الزمخشري في قوله: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ: ما: هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة، دون الأولى. وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيرا لهم؟ فقيل: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً.
فإن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم؟
قلت: هو علة للإملاء، وما كل علة بغرض، فلو قلت: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، ليس شيء منها بغرض لك، وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسببا فيه.
فإن قلت: كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكأن الإملاء وقع من أجله وبسببه، على طريق المجاز «١».
والخلاصة: إن هذا الإمهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سنته في الخلق: بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر، فإنما هو ثمرة عمله. ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يغتر الإنسان بهذا الإمهال، ويسترسل في فجوره، فيوقعه ذلك في الإثم، الذي يترتب عليه العذاب المهين «٢».
ثم بيّن الله تعالى أن المحن والشدائد تظهر صدق الإيمان، وأنه لا بد من أن
(١) الكشاف: ١/ ٣٦٤
(٢) تفسير المنار: ٤/ ٢٠٥، تفسير المراغي: ٤/ ١٤١
178
يعقد شيئا من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه، فلا يترك الناس على مثل حالتهم يوم أحد، حتى يميز المؤمن من المنافق، ويعرف المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد ٤٧/ ٣١].
يقصد به أن يوم أحد كان اختبارا امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهتك به ستار المنافقين، فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وقد يفكر بعض الناس أن تمييز المؤمن الصادق من المنافق يحدث بالوحي وبأن يطلع الله المؤمنين على الغيب، فأجاب الله تعالى: لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب، وإنما خلق الإنسان وقدر له أن يصل إلى مراده بعمله الكسبي الذي ترشد إليه الفطرة ويهدي إليه الدين وتدل عليه النبوة، فهو تعالى يختار من رسله من يشاء، ويطلعه على بعض المغيبات، كما قال سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن ٧٢/ ٢٦- ٢٧] ثم يخبر الرسول بعض الناس بنفاق رجل وإخلاص آخر، فيكون مصدر ذلك الخبر هو اطلاع الله على كفر أناس وإيمانهم، لا أنه يطلعه على ما في القلوب اطلاع الله.
ثم يترك الناس لتمييز المؤمن منهم والمنافق بواسطة الأسباب الكاشفة عن ذلك.
لذا يجب عليكم الإيمان بالله والرسل ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإطاعة الله والرسول واتباعه فيما شرع لكم، والاعتقاد بأن الرسل لا يخبرون عن شيء إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب. وهذا رد على الكافرين، قال السّدّي: قال الكافرون: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فنزلت.
179
وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب، وتتقوا الله بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، فلكم ثواب عظيم لا يستطيع أحد تحديد مقداره.
ويلاحظ أن القرآن يقرن دائما بين الإيمان والتقوى، كما يقرن بين الصلاة والزكاة، لتلازمهما والاعلام بأن الإيمان لا يكتمل إلا بهما، ويقرن أيضا بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال.
وبما أن الآيات السابقة كانت في الحث على الجهاد والتحريض على بذل النفس، أعقب ذلك الحث على بذل المال في الجهاد.
فلا يظننّ أحد أن بخل البخلاء خير لهم بكنز المال وادخاره، وأن الجود والإنفاق يفقر، وإنما هو شر عظيم على الأمة والفرد في الدنيا والآخرة، والمراد بالبخل: حجب الزكاة المفروضة عن المستحقين، وعدم الصدقة عند رؤية حاجات المحتاجين.
أما ضرر البخل في الدنيا فتعريض مال الغني للضياع والنهب والسرقة والأحقاد، وفي عصرنا وغيره ظهور الحملات الشنيعة على الأغنياء المترفين، وانتشار الأفكار والنظريات المسماة بالاشتراكية التي ظهرت لتقويض أركان الرأسمالية.
وأما ضرره في الآخرة والدين: فهو ما أخبر عنه تعالى بأنهم سيلزمون وبال بخلهم وعاقبة شحهم إلزام الطوق في العنق، فلا يجدون مناصا ولا مهربا من توجيه اللوم والسؤال والعقاب على فعلهم.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثّل له شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه- أي شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ثم تلا هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ.. إلى آخر الآية.
180
والحقيقة أن لله ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فكيف يصح لقوم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله. وهذا مثل قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد ٥٧/ ٧] فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل، فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم، والله خبير بنياتكم وضمائركم وأعمالكم، لا تخفى عليه خافية منها، ويجازي كل نفس بما كسبت من خير أو سوء.
فقه الحياة أو الأحكام:
لا داعي للغم والحزن على مناصرة الكفار واليهود والمنافقين ألوان الكفر، فهم لن يضروا إلا أنفسهم، بتعريضها للعذاب الشديد، وبالإعلام عن سوء تصرفهم وسخف عقولهم وخطأ رأيهم، ولن يضروا بالتأكيد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن المطلوب منه هو الإبلاغ، والله مؤيده وناصره وحافظه وعاصمه من الناس.
لكن قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك، كما قال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر ٣٥/ ٨] وقال: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦].
ولن يضروا الله شيئا أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا بكفرهم.
وقد أكد تعالى هذا المعنى في كلتا الآيتين (١٧٦، ١٧٧) فهم سواء بادروا إلى نصرة الكفر، أو أخذوا الكفر بدلا عن الإيمان، لن يضروا الله شيئا قليلا ولا كثيرا، وإنما يضرّون أنفسهم بما أوجبوا لها من العذاب الأليم.
والله تعالى لا يعجل أحدا بعقوبة على ذنب ولو كان الذنب كالكفر كبيرا، وإنما يمهله ويزيد في عمره ويوفر له رغد العيش ليتوب ويتمكن من العمل الصالح، فكأن شأن الإمهال وإطالة العمر أن يحقق الأثر المنشود وهو الإيمان
181
وطاعة الله والرسول وزيادة الحسنات، والإقلال من السيئات، ولكن الأمر في واقع الناس مفهوم خطأ، فاستمروا في غيهم وضلالهم وكفرهم، وتوهموا أن زيادة العمر ورغد العيش وإرجاء العذاب عنهم هو خير لهم، مع أنه شر مستطير وسبب لزيادة الإثم والذنب، واستحقاق العذاب الأليم جزاء وفاقا.
لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين ويشككونهم في جدوى الإيمان والعمل الصالح أنهم يفعلون خيرا، فإن الله قادر على إهلاكهم، ولا يظنون أن ما أصابوه من ظفر يوم أحد كان خيرا لهم، وإنما كان ذلك سببا في زيادة عقوبتهم. قال ابن مسعود: ما من أحد برّ ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان برّا فقد قال الله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران ٣/ ١٩٨] وإن كان فاجرا فقد قال الله: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً.
وفي الشدائد والمحن اختبار مدى صدق الإيمان، فبها يتميز المؤمن والمنافق، وحينئذ ينكشف حال المنافقين فيحذرهم المسلمون، ويقدرون مدى ما لديهم من القوة الصحيحة التي يمكن الاعتماد عليها، بل إن المحنة توضح مدى إيمان المؤمن، فلا يغتر بالظواهر، ويقف على حقيقة حاله من ضعف في الاعتقاد، وفساد في الأخلاق، ومرض في النفس.
والاطلاع على الغيب مقصور على الأنبياء والرسل، فهم أهل الكرامة والمرتبة العالية التي تؤهلهم لذلك الاطلاع، وما على الناس إلا أن يؤمنوا بما جاء به الرسل من أخبار الغيب، ويتقوا الله حق تقاته بامتثال المأمورات وترك المنهيات والمحظورات. ولا يشتغل الكفار بما لا يعنيهم من تعريفهم بمن يؤمن منهم ومن لا يؤمن، وعليهم الاشتغال بما يعنيهم وهو الإيمان أي التصديق واليقين لا التشوف إلى اطلاع الغيب، فإن آمنوا واتقوا لهم الجنة.
ودلت آية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.. على ما يأتي:
182
١- لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم، بل هو شر لهم لأنهم ببخلهم يعرّضون أموالهم للضياع والتلف والسرقة وغيرها، ويضرون أمتهم لتقصيرهم بما يجب عليهم من التكافل الاجتماعي والتعاون على القضاء على ظاهرة الفقر، والفقر يضر بالأمة جمعاء، وحياة الأمم متوقفة على بذل النفس والمال.
والفرق بين البخل والشح: أن الأول: هو الامتناع من إخراج ما حصل عندك، والثاني: الحرص على تحصيل ما ليس عندك. والصحيح أن الشح هو البخل مع حرص،
لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم».
٢- وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدل على بقاء الله تعالى ودوام ملكه، وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم، فتبقى الأملاك والأموال لا مدّعى فيها، فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق، وهو ليس بميراث في الحقيقة، لأن الوارث في الحقيقة:
هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما. ونظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها [مريم ١٩/ ٤٠] والمعنى في الآيتين: أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.
٣- علم الله تعالى واسع ودقيق، فهو يعلم صغار الأشياء والأعمال وكبارها، ويعلم ما دقّ وخفي من الأعمال، بل يعلم السر وأخفى، فيجازي كل عامل بما عمل، ويكافئه بحسب نيته، كما جاء
في الحديث المشهور عن عمر لدى الشيخين: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
183
بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى الله وتكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨١ الى ١٨٤]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
الإعراب:
سَنَكْتُبُ ما ما: مفعول به، وقَتْلَهُمُ: معطوف منصوب على ما والْأَنْبِياءَ منصوب بالمصدر المضاف وهو قَتْلَهُمُ، وقرئ سيكتب بالبناء للمجهول، وحينئذ تكون ما مرفوعا نائب فاعل.
البلاغة:
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ أكد اليهود نسبة الفقر إلى الله على سبيل المبالغة والإغراق في الكفر، ووصفوا أنفسهم بالغنى بجملة اسمية دون تأكيد للدلالة على أن الغنى وصف لازم لهم لا يحتاج لمؤكد.
سَنَكْتُبُ ما قالُوا الله لا يكتب وإنما يأمر بالكتابة ملائكته، فأسند الفعل إليه من قبيل المجاز العقلي.
184
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وذكر الأيدي بالذات لكثرة تداول الأعمال بهن.
تَأْكُلُهُ النَّارُ إسناد الأكل إلى النار من طريق الاستعارة لأن حقيقة الأكل تكون للإنسان والحيوان. يوجد طباق بين فَقِيرٌ وأَغْنِياءُ وجناس مغاير في قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا وفي كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ليست للمبالغة وإنما هي للنسب مثل عطار ونجار.
المفردات اللغوية:
سَنَكْتُبُ نأمر بكتب ما قالُوا أي نأمر بكتب أقوالهم في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه، والمراد: أننا سنعاقبهم عليه ذُوقُوا أصل الذوق: إدراك الطعم في الفم، ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات، وهو المراد هنا الْحَرِيقِ المحرق والمؤلم، والحريق: اسم للملتهبة من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة والمراد عذاب هو المحرق والمؤلم، وهو النار، فعذاب الحريق يراد به عذاب هو الحريق، أي سننتقم منهم عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا في التوراة وأوصانا به.
بِقُرْبانٍ هو ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما، أي فلا نؤمن لك حتى تأتينا به، والمراد من النار: النار التي تنزل من السماء. قُلْ لهم توبيخا بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحة وَالزُّبُرِ جمع زبور وهو الكتاب، مثل صحف إبراهيم الْمُنِيرِ الواضح، وهو التوراة والإنجيل، أي إذا كذبك الناس فتكذيب الرسل أمر شائع فيمن قبلك، فاصبر كما صبروا.
سبب النزول: نزول الآية (١٨١) :
لَقَدْ سَمِعَ:
أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر بيت المدارس «١»، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له (فنحاص) فقال له: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا، كما يزعم صاحبكم، فغضب أبو بكر، فضرب
(١) المدراس والمدرس: الموضع الذي يدرس فيه، والمدرس أيضا: الكتاب.
185
وجهه، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، انظر ما صنع صاحبك بي، فقال:
يا أبا بكر، ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله، قال قولا عظيما، يزعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فجحد فنحاص، فأنزل الله:
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فقالوا: يا محمد، افتقر ربك، يسأل عباده، فأنزل الله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ.. الآية.
المناسبة:
تناولت الآيات السابقة أحداث معركة أحد، وما صاحبها من مكائد المنافقين ودسائسهم ومحاولاتهم تثبيط عزائم المسلمين عن الجهاد. وبدأت هذه الآيات ببيان دسائس اليهود في محاربة المسلمين، ليحذرهم الله منها كما حذرهم من المنافقين. غير أن أفعال اليهود كبائر ومخازي لا تحتمل، مثل نسبتهم الفقر إلى الله، ونقضهم العهود، وقتلهم الأنبياء، وخيانة الأمانة.
هذه الآيات تسجيل لبعض قبائح اليهود، فإنه تعالى سمع قولهم الشنيع وسيعاقبهم عليه أشد العقاب، وهو تهديد ووعيد على مقالتهم، وهي نسبة الفقر إلى الله والغنى إلى أنفسهم، ولكنه تعالى سيجازيهم على ذلك، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه إنزال العقوبة عليه.
ومن جرائمهم الشنيعة قتلهم الأنبياء قديما بغير حق ولا ذنب، ونسبة القتل إلى اليهود المعاصرين في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم، مع أنه كان من أجدادهم لأنهم كانوا راضين عنه، مقرين بما ارتكبوا، متعاطفين مع بني جنسهم، مما يدل على أن
186
الأمة متكافلة متضامنة فيما بينها في القضايا العامة، وأنها تؤخذ بجريرة وذنب أفرادها، إذا كانوا مقرين أفعالهم ولم ينكروها عليهم.
لذا قال تعالى: وَنَقُولُ: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار، أي سيجازيهم الله على ذلك شر الجزاء، وإن هذا العذاب المحرق المؤلم بسبب أعمالكم في الدنيا وبما سلف من الذنوب كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر، ومناصرة الكفر وغير ذلك. وأضيف العمل إلى الأيدي لأن أكثر أعمال الناس تكون بالأيدي، وللدلالة على أن العذاب بسبب عملهم الصادر منهم حقيقة، ولتوليهم الفعل ومباشرته، بل إنهم حاولوا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم بإلقاء الجدار عليه في المدينة، وبدس السم في شاة في خيبر.
وليس هذا العذاب في غير محله، وإنما هو في غاية العدل والحكمة لأن الله لا يظلم أحدا، ولأنه لا يعقل التسوية بين العاصي والطائع، وبين الكافر والمؤمن، كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية ٤٥/ ٢١]. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ [القلم ٦٨/ ٣٥- ٣٦] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨].
يقال لهم تلك المقالات: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ تقريعا وتوبيخا، وتحقيرا وتصغيرا، وتبيانا لبشاعة جرائمهم، وذلك إما في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب، والقائل إما الله أو الملائكة.
ثم يقول تعالى تكذيبا لليهود أيضا الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا لرسول، حتى يكون من معجزاته: أن من تصدق بصدقة من أمته أي قربان، فتقبلت منه: أن تنزل نار من السماء تأكلها.
187
والقربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك (إراقة دم من المواشي) وصدقة وعمل صالح.
والقصد من زعمهم هذا عدم الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف، وفنحاص بن عازوراء في جماعة آخرين، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد، تزعم أنك رسول الله، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا، وقد عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون للنار دويّ خفيف حين تنزل من السماء، فإن جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت الآية.
ولكن ادعاء هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، لذا ردّ الله تعالى موبخا لهم ومكذبا، بأن نزول النار معجزة، والمعجزة لتأييد الرسالة، وإثبات صدق النبي المبعوث، وقد جاءكم رسل كثيرون مثل زكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات أو بالبينات الواضحة الدالة على صدق نبوتهم، فلم كذبتموهم؟ ولم تصدقوهم، ولم قتلتموهم؟ إن كنتم صادقين أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.
وقد نسب هذا الفعل لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل القرآني، مع أن تلك الجرائم كانت من أسلافهم لأنهم كما بينا سابقا رضوان عما فعلوه، معتقدون أنهم على حق في ذلك، والأمة أو القبيلة عادة تتأثر بصنع بعض أفرادها، ويعيبها جرمه وانحرافه، لنسبته إلى تلك الجماعة.
ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أي معزّيا ومؤنسا له، ومخففا عليه سوء موقف اليهود وأمثالهم وهم قومه، وتكذيب الفريقين، فأخبر: إن كذبوك بعد أن جئتهم بالدلائل- والمعجزات، فقد كذّب رسل من قبلك، جاؤوا بمثل ما جئت به من البينات والمعجزات، والكتب ذات الأصل الإلهي كالصحف المنزلة
188
على المرسلين، والكتاب المنير أي الواضح الجلي وهو التوراة والإنجيل والزبور، فصبروا على الأذى والسخرية، والمخالفة والمعاندة. وهذا من طبيعة البشر في كل زمن، منهم من يصغي إلى الحق، ومنهم من يقاومه ويهزأ بصاحبه، فلا تعجب من مقاومة دعوتك، فإن نفوسهم لا تنشد الوصول إلى الحق، ولا تبغي الخير.
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يرتكب شعب في الدنيا جرائم شنيعة مثل اليهود، ولم يقتصر إجرامهم على البشرية، وإنما تجاوز ذلك إلى الله والرسل، فقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقتلوا الأنبياء بغير حق ولا ذنب، لذا قرعهم الله تعالى في القرآن الكريم وهددهم وأنذرهم بعذاب النار على أفعالهم.
والسلف والخلف منهم راضون بتلك الجرائم، لذا صحت نسبة الجريمة إلى المتأخرين منهم، وإضافتها إليهم مع أن القول السابق وقتل الأنبياء حدثا من أسلافهم، وكان بينهم نحو سبعمائة سنة. وهذا يدل على أن الرضا بالمعصية معصية،
وقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها- وقال مرة: فأنكرها- كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها».
ومن جرائمهم: الكذب السافر على الله وافتراؤهم عليه أنه عهد إليهم وأنزل عليهم كتابا فيه: ألا يؤمنوا لرسول يزعم أنه من عند الله، حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. ويكون هذا من قبيل المعجزة الدالة على صدقه.
فرد الله تعالى عليهم أن معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل قاطع في إبطال دعواهم، وكذلك معجزات عيسى، ومن علم صدقه وجب تصديقه.
والقضية قضية مخالفة ومعاندة، وليست قضية قناعة وحجة وبرهان،
189
فوضح الأمر وبان الطريق، والناس في الماضي والحاضر وكل زمان: منهم من يصغي إلى الحق ويستجيب لندائه، كما فعل الكثير من الناس ومنهم بعض اليهود الذين قبلوا بالإيمان بدعوة الإسلام والقرآن، ومنهم من يجهر بمقاومة الحق، ومناصرة الباطل، والإعراض عن دعوة الله الخيّرة المحققة لنفع البشرية وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
الموت مصير كل نفس والثواب يوم القيامة والابتلاء في الدنيا
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٦]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
الإعراب:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ مبتدأ وخبر، جملة تامة مفيدة.
وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ: ما في إِنَّما كافة، ولا يجوز أن تكون بمعنى الذي لأنها لو كانت بمعنى الذي لوجب رفع أُجُورَكُمْ على أنه الفاعل، وتقديره: إن الذي توفّونه أجوركم.
البلاغة:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ استعارة مثل قوله تَأْكُلُهُ النَّارُ لأن حقيقة الذوق تكون بحاسّة اللسان، كما أن حقيقة الأكل للإنسان والحيوان.
190
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فيه ما يسمى في علم البديع بالمقابلة.
مَتاعُ الْغُرُورِ استعارة، شبه الدنيا بالمتاع الذي يغرر به المشتري ثم يظهر فساده، والمدلّس والمغرر هو الشيطان «١».
المفردات اللغوية:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي أن الموت مصير كل نفس ونهاية كل حي، ولا يبقى إلا وجهه الكريم تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ تعطون جزاء أعمالكم وافيا غير منقوص. ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها: أن كلكم تموتون، ولا بد لكم من الموت، ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنما توفونها يوم قيامكم من قبوركم، والتوفية: تكميل الأجور، وما يكون قبل ذلك في القبر من روضة أو نعمة فبعض الأجور.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ نحّي عنها وأبعد، والزحزحة: التنحية والإبعاد.
فَقَدْ فازَ نال غاية مطلوبة، وسعد ونجا أي تحقق له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله، والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي العيش فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ المتاع: ما يتمتع وينتفع به مما يباع ويشترى، والغرور: مصدر غره أي خدعه، والغرور: الخداع والغش، أي أن الدنيا مثل المتاع المشترى بسبب التغرير والغش والخداع ثم يتبين له فساده ورداءته. عن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها، فإنها متاع بلاغ.
لَتُبْلَوُنَّ لتختبرن أي لتعاملن معاملة المختبر، لتظهر حالتكم على حقيقتها.
فِي أَمْوالِكُمْ بإيجاب الزكاة المفروضة فيها والنفقة في سبيل الله، وبالجوائح والآفات وَأَنْفُسِكُمْ بالقتل والأسر والجراح والمخاوف والمصائب في سبيل الله وبالعبادات المفروضة، وبالأمراض وفقد الأحبة والأقارب.
أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم مشركو العرب.
أَذىً كَثِيراً كالسب والطعن في الدين والافتراء على الله والرسول والتشبيب بنسائكم.
وَإِنْ تَصْبِرُوا على ذلك، والصبر: حبس النفس على ما تكره وكظم الغيظ ومقاومة الجزع والشدة بالتقوى والرضا وَتَتَّقُوا الله بامتثال الأمر واجتناب النهي، والتقوى: الابتعاد عن المعاصي والتزام المأمورات.
(١) الكشاف ١/ ٣٦٦ [.....]
191
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من معزومات الأمور التي يعزم عليها لوجوبها. والمعنى: أن الصبر والتقوى من صواب التدبير، وقوة الإرادة، وكمال العقل والفكر، ومن الأمور المحتمة التي لا يجوز التساهل فيها.
سبب النزول:
نزول الآية: وَلَتَسْمَعُنَّ..: روى ابن أبي حاتم وابن المنذر بسند حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص من قوله السابق: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ.
وذكر عبد الرزاق: أنها نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشعر، ويحرض عليه كفار قريش في شعره.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة تسلية وتعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستمرت هذه الآيات في زيادة تسليته بأن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب، فلا تضجر ولا تحزن، وإنهم سيجازون على أعمالهم يوم القيامة، فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء.
وهي أيضا خطاب للمؤمنين ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى إذا فاجأتهم بغتة، وهم مستعدون لتحملها، لم يرهقهم شيء، كما يرهق غير المؤمن فتضيق نفسه ويشمئز ويكره الحياة.
التفسير والبيان:
هذا إخبار عام من الله تعالى يعم جميع الخلائق بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٦- ٢٧] فكل الجن والإنس والملائكة وحملة العرش يموتون، والله وحده الحي القيوم الذي لا يموت، ينفرد بالديمومة والبقاء، فيكون آخرا كما كان أولا.
192
وفي الآية تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض وفي السماء حتى يموت، وتذوق كل نفس طعم مفارقة الروح البدن. ثم يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت، من خير أو شر، وتعطى ثواب عملها الطيب كاملا غير منقوص، ويجازى المسيء الجزاء الأوفى، فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال ذرة.
وفي ذكر توفية الأجور على الطاعات والمعاصي إشارة إلى أن بعض الأجور من خير أو شر قد تصل إليهم في الدنيا أو في القبور، بدليل
ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».
فمن نحّي عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة، فقد فاز بالمقصد الأسمى والمطلوب الأعلى الكامل،
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه».
وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها». اقرؤوا إن شئتم: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. فاللهم وفقنا لما ندرك به الفوز بالجنة والنجاة من النار.
وما الحياة الدنيا التي نعيشها ونستمتع بها باللذات الجسدية من طعام وشراب والمعنوية من جاه ومنصب وسمو إلا كالمتاع المشترى بخداع وتغرير، ثم يتبين فساده ورداءته لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع بها، أو لأنها حقيرة متروكة فانية زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى ٨٧/ ١٦- ١٧] وقال: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها،
193
وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
[القصص ٢٨/ ٦٠]
وفي الحديث: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع» «١».
وتهوين شأن الدنيا على هذا النحو لمن آثرها على الآخرة، قال سعيد بن جبير: «إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ» «٢». فمن فضل الدنيا على الآخرة، كان كمن اشترى صفقة خاسرة، غشه فيها البائع ودلس عليه، ثم تبين له فسادها ورداءتها.
ثم أراد تعالى بعد غزوة أحد توطين النفس وتربيتها على تحمل الأهوال والشدائد والمصائب، فخاطب النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين مخبرا إياهم: أن الدنيا دار ابتلاء واختبار في الأنفس والأموال ففي الأنفس: بالقتل والأسر والجراح وأنواع المخاوف والمصائب، وفي الأموال: بالإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات، وهي مثل قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ١٥٥].
وأن المسلمين ونبيهم يسمعون ما يؤذيهم أذى كثيرا من اليهود والنصارى ومشركي العرب، والأذى قد يتناول الدين والقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى قال للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسليا لهم عما ينالهم من الأذى من هؤلاء، وواصفا لهم العلاج الناجع وهو الصفح والصبر والعفو والتزام تقوى الله بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، فإن تحقق منهم ذلك آتاهم أجرين من رحمته لأن الصبر والتقوى من معزومات الأمور، أي التي ينبغي أن يعزمها كل أحد.
(١) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن المستورد.
(٢) الكشاف: ١/ ٣٦٦
194
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الحقائق التالية:
١- الدنيا فانية، والآخرة باقية، وكل شيء هالك إلى وجه الله الكريم، وكل حي سيموت، وأن الآخرة دار الجزاء والحساب، وأن السعادة كل السعادة، في الفوز بالجنة، والنجاة من النار.
ويسن عند احتضار الميت تلقينه الشهادة دون إعادة لئلا يضجر، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد: «لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله» لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة. ويستحب قراءة (يس) ذلك الوقت،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «اقرؤوا يس على موتاكم» «١».
وذكر الآجرّي من
حديث أم الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هوّن عليه الموت».
ويغسل الميت إلا الشهيد ويكفّن ويصلى عليه ويدفن في التراب، ويسن الإسراع في المشي بالجنازة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدّمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشرّ تضعونه عن رقابكم».
٢- إن إيفاء الأجور على الطاعات والعقاب على السيئات مقره يوم القيامة، فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب.
٣- الدنيا غرارة تغر المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء وهي فانية. وهي أشبه بالمتاع الحقير الذي يتمتع وينتفع به كالفأس والقدر والدلو والقصعة، ثم يزول ولا يبقى ملكه. وهذا رأي أكثر المفسرين في قوله: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ.
(١) أخرجه أبو داود.
195
٤- لا اطمئنان إلى نعيم الدنيا ولا إلى إعراضها وفقدها، فالناس فيها في مرصد الاختبار والابتلاء في الأموال بالمصائب والأحداث، والإنفاق في سبيل الله، وسائر تكاليف الشرع، وفي الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحباب.
وقد يتأذى المؤمن بطعن في قرآنه ودينه ونبيه، فعليه الصبر والاعتصام بالتقوى، والإعراض عن الطاعنين الكافرين، والثبات على العقيدة، وتحمل الشدائد والقتال في سبيل الله عند اللزوم، فقد ندب الله عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من معزوماتها التي ينبغي أن يعزمها كل أحد، وهي دليل على قوة الإرادة، ومضاء العزيمة، وعلو الهمة. قال القرطبي: عزم الأمور: شدها وصلابتها.
والأظهر أن هذه الآية- كما ذكر القرطبي- ليست بمنسوخة، فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا، مندوب إليها، وكان عليه الصلاة والسلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين «١».
أخذ الميثاق على أهل الكتاب بالبيان للناس ومحبتهم المدح بغير موجب
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٩]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٣٠٤
196
الإعراب:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ هذه القراءة بالتاء، ويكون الَّذِينَ يَفْرَحُونَ منصوبا على أنه مفعول أول، وحذف المفعول الثاني لدلالة ما بعده عليه وهو قوله بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ ويكون قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بدلا من لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والفاء زائدة، فلا تمنع البدل، وهذا على هذه القراءة وعلى قراءة من قرأ بالياء.
ومن قرأ: (يحسبن) بالياء جعل الَّذِينَ يَفْرَحُونَ في موضع رفع فاعل، والَّذِينَ: اسم موصول، ويَفْرَحُونَ: صلته، و «هم» من قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ المفعول الأول. وبِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ: في موضع المفعول الثاني، وتقديره: فائزين. ومن قرأ الأول بالياء والثاني بالتاء فلا يجوز فيه البدل لاختلاف فاعليهما، ولكن يكون مفعولا الأول قد حذفا لدلالة مفعولي الثاني عليهما.
البلاغة:
فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا توجد استعارة في النبذ والاشتراء، إذ شبه عدم التمسك بالميثاق بالشيء المنبوذ الملقى، وشبه العمل بالبديل باشتراء عوض قليل من أموال الدنيا، مقابل كتم آيات الله.
وتوجد مقابلة بين لَتُبَيِّنُنَّهُ ووَ لا تَكْتُمُونَهُ.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ اذكر إذ أخذ مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد، وهو العهد المأخوذ عليهم في التوراة بواسطة الأنبياء. أُوتُوا الْكِتابَ هم اليهود والنصارى. لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار بما فيها خبر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حتى يعرفه الناس على وجهه الصحيح. وَلا تَكْتُمُونَهُ أي لا تخفون الكتاب. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ طرحوا الميثاق ولم يعتدّوا به.
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أخذوا بدله من الدنيا عوضا حقيرا، بسبب رياستهم في العلم، فكتموه. فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ شراؤهم هذا.
197
أَتَوْا بما فعلوا في إضلال الناس. أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أن يحمدهم الناس بما لم يفعلوا من التمسك بالحق، وهم على ضلال. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد. بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي بمنجاة من العذاب في الآخرة، بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم فيها.
سبب النزول: نزول الآية (١٨٨) :
لا تَحْسَبَنَّ: روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا، لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو، تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان، فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا؟ قال رافع: نزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا وقالوا: ما حسبنا عنكم إلا شغل، فلوددنا أنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكان مروان أنكر ذلك، فجزع رافع من ذلك، فقال
198
لزيد بن ثابت: أنشدك بالله، هل تعلم ما أقول؟ قال: نعم.
قال الحافظ ابن حجر: يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا.
المناسبة:
تحدثت سورة آل عمران عن أهل الكتاب، فناقشت النصارى، وحكت أفعالا غريبة عن اليهود ومطاعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، واستتبع ذلك بيان غزوتي أحد وبدر، وهنا ذكرت الآيات حالا عجيبة لليهود والنصارى وهي الطعن في الدين، مع أنهم أمروا ببيان ما في كتابهم (التوراة والإنجيل) من دلائل ناطقة بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق رسالته.
التفسير والبيان:
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكونوا على أهبة من أمره، فكتموا ذلك، وأخذوا عوضا زهيدا عنه، وفاتهم ما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم.
وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا،
فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» «١».
وبيان معنى الآية: اذكر يا محمد حين أخذ الله العهد المؤكد (الميثاق) على أهل الكتاب من اليهود والنصارى بوساطة الأنبياء: أن يبينوا كتابهم للناس
(١) رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن أبي هريرة.
199
ويظهروه من غير كتمان شيء منه، وألا تحريف أو تأويل لبعض نصوصه، وتبيانه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم، ولغير المؤمنين به لدعوتهم إليه.
لكنهم نبذوا كتابهم وراء ظهورهم، وتركوا التوراة والإنجيل، وكان منهم فئة يحملونه دون فهم ولا وعي لما جاء فيه، وفئة أخرى حرّفوه وأولوه على غير وجهه الصحيح، واشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا، أي أخذوا عوضا عنه فائدة دنيوية حقيرة كالشهرة الزائفة، والرياسة الظاهرة، والمال الزائل، فكانوا في الحقيقة مغبونين في هذا البيع أو المبادلة، إذ تركوا الغالي الثمين في الدنيا والآخرة وهو الخير الذي وعدوا به، وأخذوا التافه الحقير، وهو الرشاوى والهبات والمنح المالية ليحافظوا على كيانهم ومراكزهم.
فبئس الشيء المشترى من شرائهم لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم.
وهذا يدل على وجوب نشر العلم وتعليمه للناس، قال علي كرّم الله وجهه:
ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. وقال الحسن البصري: لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
ثم بيّن تعالى موقف المرائين المتكثرين من أهل الكتاب والمنافقين بما لم يعطوا،
كما جاء في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلّة»
وفي الصحيحين أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور».
هذه حال أخرى من أحوال أهل الكتاب وغيرهم، ليحذر الله المؤمنين منها، فلا تظنن يا محمد أن الذين موّهوا الحقائق، وكتموا العلم الصحيح ودلّسوا عليك، وفرحوا بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ورأوا لأنفسهم شرفا فيه وفضلا يستحقون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه، ويشكروا على شيء بغير
200
موجب ولا داع للشكر، أو على أنهم أخبروك بالصدق عما سألتهم عنه، أو على ما فعل المنافقون في التخلف عن الغزو (الجهاد) وجاؤوا به من العذر، وكل ما فعلوا أنهم حولوا الحق والنور والهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وعامة الناس.
فهؤلاء لا تظنن أنهم ناجون من العذاب، بل لهم عذاب أليم شديد الألم في الدنيا بالخذلان والخسف والزلزال والطوفان وغير ذلك من الجوائح والمصائب العامة المدمرة، وفي الآخرة بحشرهم في جهنم جزاء إفكهم وتحريفهم وتبديلهم وتغييرهم كتاب الله. وذلك كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود ١١/ ١٠٢].
ثم كان قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ احتجاجا على الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، وتكذيبا لهم، فقال للمؤمنين: ولا تحزنوا أيها المؤمنون على عمل أهل الكتاب وعلى ما فاتكم من نصر، ولا تضعفوا عن القيام بالواجب، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا، ولا تأخذوا عن حكم الله الصحيح عوضا مهما كثر، فإنه قليل، ولا تفرحوا على ما لم تعملوا، فإن الله يكفيكم همومكم وينصركم على أعدائكم، ويمدكم بالخير والفضل لأنه تعالى مالك كل شيء، والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته، فإنه الأعظم والأقدر من كل شيء في هذا الوجود.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات توبيخا، وتحذيرا، واحتجاجا وتكذيبا.
فهي توبيخ لأهل الكتاب الذين أمروا بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبيان أمره، فكتموا نعته. ويفهم من هذه الآية واجبات ثلاثة: توضيح العلماء كتاب الله وإفهامه للناس وإظهار ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة والخاصة، وتبيين الدين للمسلمين حتى يفهموه على حقيقته ويعرفوا أنه طريق
201
الخلاص الوحيد من تخلف الأمة وضعفها وفسادها، وتوضيح أحكام الدين لغير المسلمين ودعوة الناس إلى صراط مستقيم حتى يهتدوا به.
وهي أيضا تحذير من أفعال أهل الكتاب والمنافقين الذين يدلسون الحقائق، ويزيفون معاني الكتب المنزلة، ويتخلفون عن الجهاد بالأعذار الواهية.
وهي كذلك احتجاج على اليهود الذين نسبوا الفقر إلى الله والغنى لأنفسهم، وتكذيب لهم، ورد قاطع بأن الله مالك السموات والأرض ومن فيهن، وله القدرة الباهرة على كل شيء، والسلطان النافذ في كل شيء.
توجيه النفوس نحو التفكر في خلق السموات والأرض وجزاء العاملين ذكورا وإناثا
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
202
الإعراب:
الَّذِينَ إما في موضع جر صفة لأولي الألباب، أو في موضع رفع مبتدأ، وخبره:
رَبَّنا على تقدير: يقولون: ربنا، أو خبر مبتدأ محذوف، أو في موضع نصب على تقدير فعل محذوف قِياماً حال منصوب من ضمير يَذْكُرُونَ. وَعَلى جُنُوبِهِمْ حال من ضمير يَذْكُرُونَ. ويَتَفَكَّرُونَ: معطوف على يَذْكُرُونَ. باطِلًا مفعول لأجله.
سُبْحانَكَ اسم مصدر منصوب انتصاب المصادر.
يُنادِي جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة مُنادِياً. لِلْإِيمانِ اللام إما بمعنى إلى الإيمان، أو متعلق ب مُنادِياً أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي. أَنْ آمِنُوا منصوب ب يُنادِي أي ينادي بأن آمنوا، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به. مَعَ الْأَبْرارِ أي أبرارا مع الأبرار، وهو جمع بارّ أو برّ. عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
أَنِّي لا أُضِيعُ أي بأني، فحذف حرف الجر. فَالَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ، وخبره لَأُكَفِّرَنَّ. وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا: عطف على عطف. ثَواباً إما منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، كأنه قال: لأثيبنهم ثوابا، أو منصوب على القطع بتعبير الكوفيين وهو الحال عند البصريين، أو منصوب على التمييز. والوجه الأول أوجه الأوجه. وَاللَّهُ مبتدأ، وحُسْنُ الثَّوابِ مبتدأ ثان، وعِنْدِ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو اسم الله تعالى.
البلاغة:
رَبَّنا كرر خمس مرات مبالغة في التضرع من قبيل الإطناب. وَما لِلظَّالِمِينَ وضع الظاهر موضع المضمر لتخصيص الخزي بهم. وهناك طباق في قوله السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واللَّيْلِ
203
وَالنَّهارِ
وقِياماً وَقُعُوداً وذَكَرٍ أَوْ أُنْثى. وهناك إيجاز بالحذف في عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك، وفي قوله وَيَتَفَكَّرُونَ.. رَبَّنا أي قائلين ربنا.
وفي الآيات جناس مغاير في قوله آمِنُوا.. فَآمَنَّا وفي عَمَلَ عامِلٍ وفي مُنادِياً يُنادِي. لَآياتٍ.. دخول اللام في خبر إن لزيادة التأكيد، والتنكير للتفخيم.
المفردات اللغوية:
إِنَّ فِي خَلْقِ الخلق: التقدير والترتيب الدال على النظام والإتقان. السَّماواتِ كل ما علاك مما تراه في الأعلى. وَالْأَرْضِ ما تعيش عليه، وهو بشكل كروي، كوكب دائر غير ثابت وخَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: إيجادهما من غير مثال سابق، ويشمل كل ما فيهما من العجائب.
اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما ومجيء كل منهما خلف الآخر، مع زيادة ونقصان بحسب الفصول والموقع الجغرافي من الكرة الأرضية. لَآياتٍ لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته.
لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول. وَعَلى جُنُوبِهِمْ مضطجعين، أي في كل حال. وعن ابن عباس: يصلون كذلك حسب الطاقة. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ليستدلوا به على قدرة صانعهما. رَبَّنا يقولون: ربنا. باطِلًا عبثا لا فائدة منه، بل دليلا على قدرتك.
سُبْحانَكَ تنزيها لك عن العبث وعما لا يليق بك.
أَخْزَيْتَهُ أهنته. وَما لِلظَّالِمِينَ الكافرين، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بتخصيص الخزي بهم. مِنْ أَنْصارٍ من زائدة، أي مؤيدين يمنعونهم من عذاب الله تعالى.
فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استر معاصينا، واحدها ذنب: وهو مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية.
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا غطّ إساءاتنا، أي الصغائر أو أنواع التقصير في حقوق العباد، فلا تظهرها بالعقاب عليها.
وَتَوَفَّنا أمتنا أي اقبض أرواحنا. مَعَ الْأَبْرارِ في جملة الأخيار المحسنين أعمالهم وهم الأنبياء والصالحون.
وَآتِنا أعطنا. عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك من الرحمة والفضل.
ويلاحظ أن سؤال الناس تلك الأمور هو أن يجعلهم من مستحقيه، وتكرار: رَبَّنا مبالغة في التضرع. الْمِيعادَ الوعد بالبعث والجزاء.
204
فَاسْتَجابَ أجاب دعاءهم لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أي لا أترك ثوابه. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضكم كائن من بعض أي الذكور من الإناث وبالعكس، والجملة مؤكدة لما قبلها، أي سواء في المجازاة بالأعمال وترك تضييعها. نزلت لما قالت أم سلمة: يا رسول الله، إني لا أسمع النساء في الهجرة بشيء. فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة. فِي سَبِيلِي أي بسبب ديني وطاعتي وعبادتي. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أسترها بالمغفرة. ثَواباً مصدر مؤكد من معنى لأكفرن. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه التفات عن التكلم. حُسْنُ الثَّوابِ الجزاء.
سبب النزول:
نزول الآية (١٩٠) :
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..: أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى به من الآيات؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه، فنزلت هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..
فليتفكروا فيها. قال ابن كثير: وهذا مشكل، فإن هذه الآية مدنية، وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة «١».
نزول الآية (١٩٥) :
فَاسْتَجابَ لَهُمْ: أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ.
المناسبة:
ختمت سورة آل عمران بهذه الآيات، بعد مجادلة الكفار والمنافقين
(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ١/ ٤٣٨
205
والمقصرين من المؤمنين وردّ الشبهات، لتوجيه الأنظار نحو ما يثبت وجود الله ووحدانيته وعظمته وكبرياءه.
فضل هذه الآيات:
ورد في فضل هذه الآيات أحاديث كثيرة منها: ما رواه ابن مردويه وعبد بن حميد عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول الشاعر: زر غبا تزدد حبا، فقال ابن عمر:
ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبكت، وقالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي، ثم قال: «ذريني أتعبد لربي عز وجل» قالت: فقلت، والله، إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة، فتوضأ، ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد، فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه، فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرءوهن وهو يعقلهن «١».
التفسير والبيان:
إن في إبداع السموات والأرض، الأولى في ارتفاعها واتساعها، والثانية في انخفاضها وكثافتها وصلاحيتها للحياة، وما فيها من نظام بديع وأفلاك وكواكب
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٤٤٠ وما بعدها.
206
ومجرّات، وبحار وجبال وأنهار، وزروع ونبات وأشجار مثمرة وغير مثمرة، ومعادن وثروات، وتعاقب الليل والنهار مع الطول والقصر والاعتدال على مدار العام وبحسب الفصول والموقع، لأدلة دالة على وجود الله وكمال قدرته وعظمته ووحدانيته، بشرط أن يكون من ذوي العقول التامة الناضجة التي تدرك الأشياء بحقائقها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ، وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف ١٢/ ١٠٥- ١٠٦].
ثم وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم يجمعون بين التذكر والتفكير، يذكرون الله في مختلف أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع، لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.
ويتفكرون ويفهمون ما في السموات والأرض من أسرار ومنافع وحكم دالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ورحمته.
والتفكر يكون في مصنوعات الخالق لا في الخالق، لاستحالة الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته،
أخرج الأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، وهم يتفكرون، فقال: تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون الله قدره».
وقال الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
ويقول المتفكرون الذاكرون: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا ولا أوجدته باطلا زائلا، فأنت منزه عن الباطل والعبث، وكل خلقك حق مشتمل على فائدة وحكمة وقدرة، أي أن المؤمن المتفكر بعد أن تدبر ونظر ودقق وتفكر يتوجه إلى الله تعالى متضرعا معلنا قناعته بحكمة الله العليا في خلق المخلوقات، فاجعل لنا وقاية وحاجزا من عذاب النار، وأجرنا من عذابها، ووفقنا للعمل الصالح
207
والاعتقاد الجازم الثابت الصحيح.
ومعنى سُبْحانَ اللَّهِ: تنزيه الله عن السوء، كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث موسى بن طلحة.
إن من أدخلته النار بعدلك وبسبب انحرافه وضلاله وخطئه، فقد أهنته وجعلته ذليلا لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه، وما للكافرين الظالمين أنفسهم بسبب جورهم وظلمهم أعوان ومؤيدون ينقذونهم من عذاب الله تعالى.
فهو جزاء عادل لمحض الظلم وتجاوز الحدود، وإعلام بأن من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها.
ربنا إننا سمعنا مناديا داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول:
آمنوا بربكم، فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه، أي أنهم مزجوا إيمانهم بالله وبقدرته، بالإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شرائع وأحكام وآداب وأخلاق.
ربنا فاستر ذنوبنا الكبائر، وسيئاتنا الصغائر، وأكرمنا بصحبة الأخيار الصالحين، المعدودين في جملتهم، العاملين بمثل أعمالهم، كما قال تعالى:
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء ٤/ ٦٩].
رَبَّنا وَآتِنا: أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، على ألسنة رسلك، أو على الإيمان والتصديق برسلك. وفي هذا إشعار بتقصيرهم، والاعتماد على توفيق الله وعنايته. ولا تفضحنا أمام الناس يوم القيامة، إنك صادق الوعد ومنجزه على الإيمان والعمل الصالح، سواء في الدنيا بالتقدم والتفوق والسيادة، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥] وفي الآخرة بالفوز بالجنة، كما قال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [التوبة ٩/ ٧٢].
208
فأجاب الله دعاءهم، لصدق إيمانهم، وجازى كل عامل بعمله، سواء أكان ذكرا أم أنثى، فالذكور والإناث متساوون في الحقوق والواجبات، وفي الجزاء على صالح الأعمال، ولا غرابة في ذلك فهم من أصل واحد، وكل واحد من الذكور والإناث من الآخر وبالعكس، فالرجل مولود من الأنثى، والأنثى مولودة من الرجل.
وبعد أن ربط الله الجزاء بالعمل أوضح مظاهر العمل، منها الهجرة في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة تأييدا لدعوة الإسلام ومؤازرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنها الإخراج والطرد من الديار، ومنها الإيذاء في سبيل الله والقتال والقتل.
فهؤلاء المحسنون أعمالهم يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، أثابهم الله ثوابا من عنده جزاء العمل الصالح، وليس عند الله إلا حسن الثواب والجزاء وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- على الإنسان النظر والتفكر والاستدلال بعجائب صنع السموات والأرض، فهي ترشده إلى الإيمان الصحيح، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير غني عن العالمين لأن الإيمان يجب أن يستند إلى دليل يقيني يدل على تحققه ووجوده، لا إلى التقليد أو محض الوراثة.
٢- قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويقرأ هذه الآيات العشر، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ثم يصلي فرض الصبح وسنته أو ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل.
أخرج أبو نصر الوائلي السّجستاني الحافظ عن أبي هريرة أن
209
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة.
٣- المؤمن يلازم ذكر الله تعالى في كل أحواله، من قيام وقعود واضطجاع وغيرها، ليظل على صلة بربه، فقال سبحانه: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٤١] وقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة ٢/ ١٥٢].
ويدل هذا على أن المصلي يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب،
كما ثبت لدى الأئمة الستة من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: «كانت بي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال: صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب»
والقيام فرض على القادر في صلاة الفريضة، وتصح صلاة النافلة حال القعود وأجره نصف أجر القائم، والمضطجع نصف أجر القاعد،
ورد في حديث عمران بن حصين في رواية: «صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد».
والذكر إما باللسان، وإما بالصلاة فرضها ونفلها.
٤- ويضم إلى الذكر عبادة أخرى هي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته لزيادة التبصر، وتقوية الإيمان.
٥- صيغ الدعاء في هذه الآيات تدل على الإيمان بالله والرسول، وعلى الثقة بوعد الله ومصاحبة الأبرار، وعلى كمال الطلب بمغفرة الذنوب وستر العيوب والبعد عن النار، فإن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعدوا بذلك دون الخزي والعقاب. والدعاء على هذا النحو على جهة العبادة، والدعاء مخّ العبادة. وطلب النصر على العدو معجّلا لإعزاز الدين،
روى أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وعده الله عز وجل على عمل ثوابا، فهو منجزّ له رحمة، ومن وعده على ذنب عقابا فهو فيه بالخيار».
ومعنى الدعاء بإنجاز ما وعد الله: طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب
210
إنجاز الميعاد، أو هو من باب اللجوء إلى الله والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم السلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه.
٦- تضمن وعد الله تعالى على صدق الإيمان وصلاح الأعمال أمورا ثلاثة:
أ- محو السيئات ومغفرة الذنوب، لقوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
ب- الظفر بجنان الخلد، لقوله تعالى: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
ج- اقتران الثواب بالتكريم لقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ.
٧- الجزاء منوط بالعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
٨- لا فرق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب، فهما من جنس واحد، ومن نفس واحدة، وبعضهم من بعض في التكليف والأحكام والطاعة والنصرة ونحو ذلك، كقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة ٩/ ٧١].
٩- تكرار النداء ب رَبَّنا خمس مرات للاستعطاف وإظهار فضل الله بالتربية والملك والإصلاح.
211
الكافرون والأتقياء ومؤمنو أهل الكتاب وجزاء كل
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ٢٠٠]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
الإعراب:
مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف تقديره: تقلبهم متاع قليل، وحذف لدلالة ما تقدم وهو قوله: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ...
تَجْرِي جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لجنات، أو في موضع نصب على الحال من الضمير: لَهُمْ. خالِدِينَ منصوب على الحال من ضمير لَهُمْ نُزُلًا منصوب على المصدر، والكلام عليه بمنزلة الكلام السابق على قوله: ثَواباً.
خاشِعِينَ حال من ضمير يُؤْمِنُ المرفوع أو من ضمير إِلَيْهِمْ المجرور، أو من ضمير لا يَشْتَرُونَ المرفوع، أي لا يشترون خاشعين.
اصْبِرُوا وَصابِرُوا: لا يجوز أن تدغم هذه الواو الساكنة في الواو المفتوحة التي بعدها لأنها واو الضمير، وهي تنزل منزلة ألف التثنية. وجاز الإدغام في عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لأن الواو متصل، وأما واو اصْبِرُوا وَصابِرُوا فهو منفصل.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفلحون: جملة فعلية في موضع رفع خبر: «لعل».
212
البلاغة:
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ.. استعارة، أستعير التقلب للضرب في الأرض بقصد التجارة وجلب المكاسب.
المفردات اللغوية:
لا يَغُرَّنَّكَ لا يخدعنك ظاهرهم من غير امتحان تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا تصرفهم في التجارات والمكاسب في البلاد مَتاعٌ قَلِيلٌ أي شيء يتمتع به صاحبه تمتعا يسيرا في الدنيا، ثم يفنى ويزول، ووصف بالقلة لأنه قصير الأمد زائل، وكل زائل قليل مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ اسم لدار الجزاء للكفار في الآخرة وَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش هي، والْمِهادُ: المكان الممهد الموطأ كالفراش، والمراد به جهنم، وسميت مهادا تهكما نُزُلًا هو ما أعد للضيف من الزاد وغيره لِلْأَبْرارِ جمع بارّ وهو التقي المبالغ في التقوى والبر، أي ما عند الله من الثواب خير للصلحاء من متاع الدنيا.
خاشِعِينَ خاضعين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا لا يستبدلون بما عندهم في التوراة والإنجيل من بعثة النبي عوضا من الدنيا اصْبِرُوا احبسوا أنفسكم عن الجزع مما ينالها، وعلى امتثال التكاليف الدينية وَصابِرُوا اسبقوا الكفار في الصبر على شدائد الحرب، فلا يكونوا أشد صبرا منكم. وَرابِطُوا أي أقيموا في الثغور للجهاد، مترصدين لغزو العدو ومحصنين لها وَاتَّقُوا اللَّهَ أبعدوا أنفسكم عن غضب الله وسخطه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لتفلحوا أو راجين الفلاح: وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار والظفر بالأمل المقصود من العمل.
سبب النزول:
نزول الآية (١٩٦) :
لا يَغُرَّنَّكَ: نزلت في مشركي مكة، فإنهم كانوا في رخاء ولين من العيش، وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت الآية.
نزول الآية (١٩٩) :
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ:
روى النسائي عن أنس قال: لما جاء نعى النجاشي
213
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صلوا عليه، قالوا: يا رسول الله، نصلي على عبد حبشي، فأنزل الله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..
وكذلك قال جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة: نزلت في النجاشي.
نزول الآية (٢٠٠) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا: روى الحاكم في صحيحة: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي- مخاطبا داود بن صالح- هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا.. ؟ قال:
قلت: لا، قال: إنه يا ابن أخي، لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم ثغر يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة.
المناسبة:
لما وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في دنياهم فقراء، والكفار في نعيم ورخاء، ذكر تعالى في هذه الآية ما يسلّيهم ويصبرهم على تلك الشدة، عن طريق المقارنة بين نعيمي الدنيا والآخرة، فنعيم الدنيا فان زائل، ونعيم الآخرة خالد باق.
التفسير والبيان:
لا تنظر إلى ما عليه الكفار من الترف والنعمة والسرور، فإن هذا سيزول عنهم قريبا، ويصبحون مرتبطين بأعمالهم السيئة، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا، وتنقلهم في البلاد للكسب والتجارة مجرد متاع قليل، يتمتعون به فترة من الزمان، ثم تصير جهنم مستقرهم ومأواهم، وبئس المقر مقرهم في جهنم.
وهذا كقوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ.. غافر ٤٠/ ٤] وقوله: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
214
لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ، بِما كانُوا يَكْفُرُونَ
[يونس ١٠/ ٦٩- ٧٠] وقوله: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤] وقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص ٢٨/ ٦١].
وبعد أن ذكر حال الكفار في الدنيا وأن مآلهم إلى النار، ذكر حال المؤمنين المتقين: الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات، ولهم جنات النعيم، خالدين فيها أبدا، تكريما من عند الله، وما عند الله من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل مما يتمتع به الذين كفروا من متاع قليل فان. وهذا كقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف ١٨/ ١٠٧- ١٠٨].
روى ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما سمّوا الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقا، كذا لولدك عليك حق».
ثم أخبر الله تعالى عن طائفة من أهل الكتاب اهتدوا بالقرآن، كما اهتدوا بما عندهم من هدي الأنبياء، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي، وقد وصفهم الله بصفات ممتازة هي:
١- الإيمان بالله إيمانا صادقا تاما.
٢- الإيمان تفصيلا بالقرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو الكتاب الإلهي الوحيد الباقي السالم من التحريف.
٣- الإيمان إجمالا بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل.
٤- الخشوع لله وهو ثمرة الإيمان الصحيح، ومتى خشع القلب لله خشعت النفس كلها.
215
٥- عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله، أي يحافظون على الوحي كما هو دون كتم شيء منه من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته وبعثته وصفة أمته دون تحريف ولا تبديل. فهؤلاء المتصفون بهذه الصفات سواء كانوا هودا أو نصارى لهم الثواب الكامل على أعمالهم وطاعاتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق، والله سريع الحساب فهو سريع الإحصاء، يحاسب الناس جميعا في وقت قصير حسابا لا خلل فيه ولا قصور، ولا مهرب ولا معقب على حكم الله. وهذا كقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص ٢٨/ ٥٢- ٥٤] وقوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٩].
هذه الصفات وجدت في بعض اليهود وهم قلة مثل عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى إلى قوله تعالى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها [المائدة ٥/ ٨٥].
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بوصية عامة للمؤمنين تؤهلهم لإجابة الدعاء والنصر في الدنيا والثواب في الآخرة، وتتضمن الوصية:
- الصبر على التكاليف الدينية ومنها الصلوات الخمس، وعلى المصائب والشدائد من مرض وفقر وخوف.
- المصابرة للأعداء أي مسابقتهم إلى تحمل الشدائد والمكاره، ومصابرة الأنفس والهوى.
216
- المرابطة في الثغور استعدادا للقاء العدو وفي المساجد، وفي مواطن الاستعداد للجهاد على الحدود القريبة للأعداء،
روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها»
وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان»

أي الشيطان.
- تقوى الإله والخوف منه والحذر من عذابه ومراقبته في السر والعلن وامتثال المأمورات واجتناب المحظورات.
ولا شك أن من يلتزم بهذه الوصية يصل إلى الفلاح والفوز بالمأمول والنجاة والظفر في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي وهي وصايا تصلح خلاصة لما تضمنته سورة آل عمران:
١- عدم الاغترار بما عليه الكفار من سعة ورفاه ورغد عيش في الدنيا، فذلك كله إلى زوال وعذابهم قريب في نار جهنم، والباقي الخالد وهو نعيم الآخرة خير منه، والإنعام على الإنسان مع بقائه على كفره ومعاصيه استدراج، لا دليل الرضا عنه.
٢- للأتقياء الطائعين جزاء حسن واف وهو الخلود في جنان الله الفسيحة، إكراما لهم.
٣- إن إقدام بعض أهل الكتاب على الإيمان بالقرآن هو استمرار للإيمان بكتبهم السابقة، وهو خير لهم وأبقى.
217
٤- الصبر على الطاعات، ومصابرة العدو والنفس والهوى، والمرابطة عند الثغور، وتقوى الله طريق الفوز والنصر في الدنيا على الأعداء، والنجاة من عذاب الله، والظفر بنعيم الآخرة.
218

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساء
مدنية وهي مائة وست وسبعون آية، وهي السورة الرابعة من القرآن الكريم.
مدنيتها:
روى البخاري عن عائشة قال: «ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم». وبدأت حياتها مع النبي في شوال من السنة الأولى للهجرة.
فضلها:
روى الحاكم في مستدركه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية، وإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية، وإِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ الآية. ثم قال الحاكم: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه، فقد اختلف في ذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وابن جرير الطبري عن ابن مسعود بعبارة مقاربة.
مناسبتها لآل عمران:
هناك أوجه شبه ووشائج صلة تربط بين السورتين أهمها:
219
١- اختتام آل عمران بالأمر بالتقوى للمؤمنين، وافتتاح هذه السورة بذلك للناس جميعا.
٢- نزول آية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.. بمناسبة غزوة أحد، مع نزول ستين آية في الغزوة في آل عمران.
٣- نزول آية وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ بمناسبة غزوة حمراء الأسد بعد نزول آيات الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ في تلك الغزوة في آل عمران (١٧٢- ١٧٥).
لتسمية:
سميت «سورة النساء الكبرى» لكثرة ما فيها من أحكام تتعلق بالنساء، وسميت سورة الطلاق في مقابلها «سورة النساء القصرى».
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت السورة الكلام عن أحكام الأسرة الصغرى- الخلية الاجتماعية الأولى، والأسرة الكبرى- المجتمع الإسلامي وعلاقته بالمجتمع الإنساني، فأبانت بنحو رائع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني بكون الناس جميعا من نفس واحدة، ووضعت رقيبا على العلاقة الاجتماعية العامة بالأمر بتقوى الله في النفس والغير وفي السر والعلن.
وتحدثت السورة بنحو مطول عن أحكام المرأة بنتا وزوجة، وأوضحت كمال أهلية المرأة واستقلالها بذمتها المالية عن الرجل ولو كان زوجا، وحقوقها الزوجية في الأسرة من مهر ونفقة وحسن عشرة وميراث من تركة أبيها أو زوجها، وأحكام الزواج وتقديس العلاقة الزوجية، ورابطة القرابة المحرمية والمصاهرة، وكيفية فض النزاع بين الزوجين والحرص على عقدة النكاح، وسبب
220
Icon