تفسير سورة فصّلت

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة فصلت
وتسمى سورة السجدة، أو سورة المصابيح، وهي مكية عند الجميع، وعدد آياتها أربع وخمسون آية.. وتشتمل هذه السورة على الكلام على القرآن، وموقف المشركين منه والتعرض لمظاهر القدرة في خلق الأرض والسماء، ثم تهديد المشركين بمثل ما حل بعاد وثمود، وتهديدهم بما يحصل لهم يوم القيامة، ثم الكلام على المؤمنين المستقيمين وبيان نهايتهم في الدنيا والآخرة وذكر بعض أخلاقهم، ثم ذكر بعض آياته مع الكلام على القرآن الكريم، وبعض أخلاق الإنسان وطباعه، وغير ذلك مما يذكر في ثنايا الكلام فتفتح به القلوب، وتنار به البصائر، وتزكو به النفوس.
القرآن وموقف المشركين منه [سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
323
المفردات:
حم تقرأ كأخواتها حاميم، ومن جهة المعنى فالله أعلم به وإن كان الظاهر أنها كأداة الاستفتاح التي يؤتى بها لتنبيه المخاطب لخطر ما بعدها، أو هي مسوقة لتأكيد إعجاز القرآن وتحديه لهم كما سبق فُصِّلَتْ: بينت وميزت أتم بيان وأروع تفصيل أَكِنَّةٍ: جمع كنان كغطاء وأغطية والكنان- وهو ما يسمى بالجعبة الذي يجعل فيه السهام وَقْرٌ: صمم حِجابٌ: ساتر، والمراد خلاف فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ:
توجهوا إليه وَوَيْلٌ: كلمة تهديد لهم، وقيل. اسم واد في جهنم مَمْنُونٍ:
مقطوع.
المعنى:
حم: هذا تنزيل من الرحمن الرحيم والرءوف بعباده الخبير البصير، كتاب وأى كتاب يدانيه؟ هو كتاب أحكمت آياته لأنها من الحكيم العليم، وفصلت آياته وميزت لفظا بفواصلها ومقاطعها، ومبادئ السورة ونهايتها. وفصلت آياته معنى: فهذا وعد وذاك وعيد، وهذا قصص وذلك أحكام وتنظيم، وبعضها في الله وبيان قدسيته وكمال قدرته، وعجائب رحمته، وأحوال خلقه، وعظمة ملكوته، وهذه آيات في المواعظ تضطرب لها القلوب وتخضع لها الجباه، وهذه آيات في فلسفة الأخلاق الإسلامية، وبناء الأسرة وتكوين الجماعة، وماذا نقول؟ إن السكوت في هذا لبيان وبلاغة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وانظر يا أخى- وفقك الله للخير- إلى قوله: تنزيل من الرحمن الرحيم، أى: هذا المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم من الرحمن الرحيم، وفي هذا إشارة إلى تمام النعمة، وكمال الرحمة حيث نزل القرآن شفاء لما في الصدور. وهدى ورحمة للعالمين وهو تبيان لكل شيء، والجامع لكل فضل، والأساس لكل علم، وهو مفتاح السعادة وطريق النجاة، من تمسك به نجا، ومن هدى إليه سما إليه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم ولم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين.
وكيف لا يكون القرآن فوق هذا وأكثر منه! وهو تنزيل رب العالمين الرحمن الرحيم!!
324
وكتاب فصلت آياته حالة كونه قرآنا عربيا نزل بلغة العرب، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، فهو أنزل عربيا لقوم يعلمون أسراره ويدركون معانيه وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ «١» حالة كونه بشيرا لمن آمن، ونذيرا لمن عصى فنشأ عن وصف القرآن بهذه الصفات أن أعرض عنه أكثر أهل مكة فهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به.
وقالوا: قلوبنا في أغطية تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه من أمر التوحيد والإقرار بالبعث والتصديق بالرسالة، وفي آذاننا وقر وصمم يمنعنا عن السماع، ومن بيننا وبينك حجاب سميك ابتدأ من عندنا وانتهى إليك. هذا الحجاب يمنعنا عن سماع ما تدعو إليه تراهم وصفوا أنفسهم بثلاث صفات: قلوبهم في أغطية، وفي سمعهم صمم، وبينهم وبينك حجاب.
يقول بعض العلماء: هذه تمثيلات لبعد قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقاده، ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول، وقيل: إنهم شبهوا قلوبهم بالشر المحاط بالغطاء المحيط له بجامع عدم الوصول له من أى ناحية: وشبهوا أسماعهم بآذان بها صمم حيث لم تنتفع بشيء من دعوة النبي، وشبهوا حال أنفسهم مع الرسول بحال شيئين بينهما حجاب سميك يمنع من وصول أحدهما إلى الآخر.
وإذا كان الأمر كذلك فاعمل على دينك، إننا عاملون على ديننا.
وانظر إلى رد القرآن عليهم الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم: قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد، أى: لست ملكا ولا جنيا، وإنما أنا بشر مثلكم وواحد منكم فكيف تقولون: إن بيننا وبينك حجاب؟ والحجاب المانع عن التفاهم يعقل لو كان النبي من جنس آخر أو يتكلم بلغة أخرى لا تفهم، وكأن النبي يسل سخائم حقدهم بقوله: أنا بشر مثلكم لم أزد عليكم في شيء، ولست مكلفا بأكثر مما يعمله البشر غاية الأمر أنه أوحى إلى أنما إلهكم إله واحد، وكلفت بتبليغكم هذه الحقيقة فكيف نقول: إن قلوبنا في أكنة من هذه الحقيقة، وفي آذاننا وقر فلا نسمعها، أى أن دعوتكم حقيقة يقر بها العقل، ويدعو إليها المنطق السليم، والعقل الرشيد، فكيف يكون هذا موقفكم من هذه الدعوة؟!
(١) - سورة فصلت آية ٤٤.
325
وإذا كان الأمر كذلك فاستقيموا لله، وتوجهوا إليه وحده، واستعينوا به، واعبدوه ولا تشركوا به شيئا مما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغنى عنكم شيئا.
يا قوم استقيموا له واستغفروه مما سلف منكم، وويل للمشركين من شركهم برب العزة والجبروت، ومن هم المشركون؟ هم الذين لا يؤتون الزكاة.. يا حسرتاه على ما نعى الزكاة من المسلمين! يا حسرتاه على الذين يصلون ولا يزكون، يا حسرة على من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر، ومانع الزكاة قد شغلته الدنيا وأعمته عن الآخرة، وهم بالآخرة هم كافرون.
ولا غرابة في تخصيص منع الزكاة من بين أوصاف الكفرة بالذكر لأنها المعيار على الإيمان الصحيح المستكن في القلب، فالمال شقيق الروح، وبذله دليل على صدق النية وإخلاص الطوية، ولا نجد مانعا للزكاة من المسلمين كامل الإيمان.
إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ولا مقطوع فنعم أجر العاملين.
الله هو القادر المريد [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
326
المفردات:
أَنْداداً: جمع ند وهو الشريك رَواسِيَ: هي الجبال الثابتة سَواءً:
استوت بلا زيادة ولا نقصان اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: قصد، أى: تعلقت إرادته بها دُخانٌ الدخان: ما ارتفع من لهب النار، ويراد به ما يرى من بخار الأرض عند جدبها، وفي الحقيقة هو شيء الله أعلم به يشبه الدخان في رأى العين فَقَضاهُنَّ:
أكملهن وفرغ منهن بِمَصابِيحَ المراد: بنجوم كالمصابيح.
وهذا بيان لوحدانية الله التي أوحى بها لرسوله حيث ذكر هنا مظاهر قدرته التي تثبت له الوحدانية، وتنفى عنه الشركة مع تأنيب المشركين وتعنيفهم على كفرهم.
المعنى:
قل لهم يا محمد: أإنكم «١» لتكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أندادا وشركاء؟! وهو منزه عن الشريك والند، والمراد بخلق الأرض هنا- كما هو الظاهر- تقدير وجودها، والحكم بأنها ستوجد لا خلقها وإيجادها بالفعل، ولا غرابة في هذا فالله يقول: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
«٢» فخلقه من تراب، أى: أراد خلقه وقدره بالفعل وإلا لما كان لقوله تعالى: كن فيكون معنى أبدا.. والمراد باليوم الوقت مطلقا لا اليوم المعروف، لأنه لم يكن هذا النظام وجد بعد.
وكفرهم بالله يتمثل في جدالهم في ذاته وأفعاله، وإنكارهم لوصفه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص، وإنكارهم قدرته على البعث وإرسال الرسل، وغير ذلك من عقائد الكفار.
ذلك الموصوف بخلق الأرض في يومين- وما سيعطف على هذا في آخر الآية- هو الله جل جلاله، وتعالت أسماؤه رب العالمين رب كل ما في السموات والأرضين! فكيف تجعلون من هذه الكائنات المخلوقة التي تقر له بالربوبية بلسان الحال أو المقال
(١) الهمزة هنا للاستفهام الإنكارى، واللام التي في (لتكفرون) لتأكيد الإنكار، وتقديم الهمزة لصدارتها لا لإنكار التأكيد.
(٢) - سورة آل عمران آية ٥٩.
327
كيف تجعلون منها شريكا وندا؟ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا خلق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسى ثابتات من الجبال الشامخات قدر ذلك وأراد أن تكون الجبال من فوقها كأوتاد، وانظر إلى قوله: خلق الأرض وجعل فيها رواسى فالخلق إيجاد من العدم. والجعل تحوير وتبديل في نفس الشيء فكان الخلق بالأرض أولى، وكان الجعل بالرواسى أنسب.
وبارك فيها أى قدر- سبحانه- أن يكثر خيرها. ويزداد نفعها من نبات وحيوان وأنهار ومعادن، وقوى خفية فيها سيظهرها علام الغيوب على أيدى سكان تلك المعمورة.
وقدر فيها أقواتها، وبين كميتها وأقدارها التي تتناسب مع سكانها وأبنائها وقد سمعنا أن سكان الأرض عددهم (كيت) فأصبحوا الآن يزيدون أضعافا مضاعفة وهم في ازدياد مطرد ومع هذا فالأقوات موجودة والخير كثير، وإنما نحن في حاجة إلى مواصلة الجهود، واستخدام الطاقة والانتفاع بالطبيعة في كل مظاهرها.
كل ذلك حصل في أربعة أيام: استوت استواء بلا نقصان ولا زيادة، يومان في خلق الأرض، ويومان في جعل الرواسي وتقدير الأقوات فتلك أربعة كاملة، ثم يومان آخران في السموات السبع فتلك ستة أيام كما نطقت الآيات، والله هو القادر على خلق العالم كله علويه وسفليه في لحظة، ولعله يعلمنا التأنى، ويرشدنا إلى الصبر.
ثم استوى إلى السماء وقصد إليها، وهي دخان الله أعلم وحده بكنهه وحقيقته، وكل ما وصل إلينا عن طريق الأخبار فشيء لا نجزم بصحته، وما يقرره العلم كنظرية السديم فشيء ينقصه الدليل العلمي القاطع: فقال لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها، والظاهر والله أعلم أن الأمر في قوله: ائتيا طائعين أو مكرهين للأرض والسماء أمر تكويني كقوله لشيء كن فيكون، أى: كونا وأحدثا على وجه معين، وفي وقت مقدر، ويكون- كما قلنا- خلق الأرض، وجعل فيها رواسى، وبارك، وقدر فيها أقواتها كلها مراد منها التقدير، أى: قدر خلق الأرض وجعل الرواسي والبركة وتقدير الأقوات، ويكون هنا قوله: ائتيا طوعا أو كرها بيان لكيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير.
328
ولعل تخصيص إرادة الخلق والجعل والبركة... إلخ بالأرض للإشارة إلى الاعتناء بأمر المخاطبين فكان الأجدر ألا يحصل منهم كفر ولا شرك ولعل تخصيص الاستواء بالسماء دون الأرض مع أن الأمر المترتب لهما معا. جبرا لخاطرها واكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها السابق.
قالتا- أى: الأرض وما فيها، والسماء وما فيها-: أتينا طائعين، وهذا تمثيل لسرعة الانقياد، وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة والإرادة السامية.
وهذا تفسير وتفصيل لتكوين السماء الذي أجمل ذكره فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أى: خلقهن خلقا متقنا، وأبدع أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية في وقتين الله أعلم بمقدارهما.
وأوحى إلى أهل كل من السموات والأرض أوامره، كلفهم بما يليق بهم، وزين السماء الدنيا بالنجوم التي هي كالمصابيح، وحفظها من كل شيطان رجيم.
ذلك المذكور الذي يعجز القلم عن وصفه، وكيف يصفه إنسان لا يدرى كنه نفسه؟! ذلك تقدير العزيز القوى القادر العليم الخبير البصير.
وليس في الآية ما يثبت أن الأرض خلقت قبل السموات، فليس هناك تعارض أبدا بين هذه الآية والآيات الأخرى مع هذا التأويل.
تهديدهم بمثل ما حل بعاد وثمود [سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
329
المفردات:
أَنْذَرْتُكُمْ الإنذار: هو التخويف بنزول العذاب صاعِقَةً المراد بها هنا:
الهلاك والعذاب يَجْحَدُونَ: ينكرون ويفكرون صَرْصَراً: ريحا شديدة البرد أو شديدة الحر أو شديدة الصوت إذ يحتمل أن تكون الكلمة مأخوذة من الصر، أى:
البرد، أو الصر، أى: الحر أو صر يصر صريرا إذا صوت، ومنه صرير الأقلام، وعليه قوله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ نَحِساتٍ المراد: مشئومات عَذابَ الْخِزْيِ: عذاب الذل الْعَذابِ الْهُونِ: الهوان فَاسْتَحَبُّوا: اختاروا.
المعنى:
قل لهؤلاء المشركين: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فإن لم يؤمنوا وكفروا فسق لهم الحجة القوية الواضحة بأنه خلق الأرض والسماء وقدر في الأرض أقواتها: وبارك فيها، وخلق السموات سبعا شدادا وأوحى في كل سماء أمرها، وزينها للناظرين، كل ذلك في ستة أيام سواء للسائلين. فهل يليق بكم أن تشركوا به شيئا؟
330
فإن أعرضوا ولم يقبلوا الحجة المعقولة وركبوا رءوسهم واستوحوا العناد من شياطينهم فقل لهم: إنى أنذركم صاعقة تنزل بكم وعذابا شديدا يحل بكم مثل العذاب الذي نزل بعاد وثمود وقت «١» أن جاءتهم الرسل تبشرهم وتنذرهم وتدعوهم إلى الهدى ودين الحق، وقد سلكوا معهم كل الطرق وأتوهم بجميع وجوه الحيل، جاءتهم الرسل بالوحي والشرائع بألا «٢» تعبدوا إلا الله وحده ولا تشركوا به شيئا.
فماذا قالوا ردّا على هذه الدعوة؟ قالوا: لو شاء ربنا إنزال رسل من عنده للناس لأنزل ملائكة تكون رسلا له لكنه لم يشأ ذلك، وعلى ذلك فإنا بما أرسلتم به- على زعمكم أيها الرسل- لكافرون وغير مؤمنين أبدا فإنكم بشر مثلنا، ولا فضل لكم علينا.
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهذا تفصيل لما حصل لكل من قبيلة عاد وثمود مع رسلهم بعد ذكره بالإجمال، وبدأ بذكر عاد لأنهم أقدم زمنا من قبيلة ثمود، فأما عاد فكانوا قوما يبنون بكل ريع ومرتفع من الأرض آية بها يعبثون وكانوا يتخذون مصانع لظنهم أنهم مخلدون، وكانوا إذا بطشوا بطشوا جبارين، فهم لذلك قوم مستكبرون، استكبروا في الأرض بغير الحق وكذبوا بالرسل واستهزءوا بنبيهم وقالوا مغترين: من أشد منا قوة؟ قالوا ذلك عند ما أنذرهم رسولهم بالعذاب.
عجبا لهؤلاء وأى عجب؟ أغفلوا ولم يعلموا أن الله الذي خلقهم ورزقهم هو أشد منهم قوة وقدرة فليس العذاب الذي يخوفون من عند الرسل، لا، ولكنه من عند خالق القوى والقدر، الإله القوى القادر على كل شيء، وكانوا بآيات ربك الكثيرة يكفرون.
فأرسلنا عليهم صرصرا شديدة تهلك بحرها أو ببردها أو هي ريح قاصفة تهلك بصوتها، جاءتهم في أيام نحسات سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «٣» ؟ أرسلنا عليهم لنذيقهم
(١) إذ هنا طرف لصاعقة الثانية لأنها بمعنى (عذب) وقيل: هي حال منها لأنها خصصت بالإضافة.
(٢) أن هذه يصح أن تكون مفسرة لأن مجيء الرسل بالوحي والشريعة يتضمن معنى القول، و (لا) ناهية. ويصح أن تكون مصدرية، ولا ناهية أيضا على قول، ويصح أن تكون مخففة واسمها ضمير الشأن وفيه تكلف وبعد.
(٣) - سورة الحاقة الآيتان ٧، ٨.
331
عذاب الخزي المذل لأولئك المستكبرين المتعاظمين عن اتباع الرسل، ولعذاب الآخرة بالنسبة لهذا العذاب المبين أشد وأخزى وهم لا ينصرون في الدنيا ولا في الآخرة، وأما ثمود فقد هداهم ربك إلى الطريقين، طريق الخير وطريق الشر، طريق العمى وطريق الهدى، فاختاروا وآثروا طريق الضلال طريق الكفر واستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب المهين بما كانوا يكسبون، وقد كانوا قبل ذلك في جنات وعيون وزرع ونخل طلعها هضيم «١» وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا فارهين «٢» فلما كذبوا وكفروا أهلكهم ربك بالطاغية وهم ينظرون، وأما الذين آمنوا فالله نجاهم من العذاب بسبب إيمانهم وخوفهم من عذاب الله.
فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هؤلاء!
روى أن الملأ من قريش وأبو جهل معهم قالوا: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر، وعلمت من ذلك علما لا يخفى على إن كان كذلك، قالوا: ائته فحدثه فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: يا محمد أنت خير أم قصى ابن كلاب؟ أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا وتسفه أحلامنا وتذم ديننا؟ فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا إليك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أى بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك مالا تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن قد غلب عليك بذلنا لك من أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك. والنبي صلّى الله عليه وسلّم ساكت، فلما فرغ من كلامه قال:
(قد فرغت يا أبا الوليد) قال: نعم. (قال فاسمع منى) :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا.. إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فوثب عتبة ووضع يده على فم الرسول، وناشده الرحم ليسكتن، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فجاء أبو جهل فقال له: أصبوت إلى محمد؟ أم أعجبك طعامه؟ فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا. ثم قال: والله لقد تعلمون أنى من
(١) لين متكسر، مأخوذ من هضم يهضم. [.....]
(٢) أى: حالة كونهم حاذقين ونشطين.
332
أكثر قريش مالا، ولكني لما قصصت عليه القصص أجابنى بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فو الله لقد خفت أن ينزل بكم العذاب
، يعنى الصاعقة، وفي رواية:
فأطيعونى في هذه وأنزلوها بي، خلوا محمدا وشأنه واعتزلوه، فو الله ليكونن لما سمعت من كلامه نبأ، فإن أصابه العرب كفيتموه بأيدى غيركم، وإن كان ملكا أو نبيا كنتم أسعد الناس به، لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم. فقالوا: هيهات!! سحرك محمد يا أبا الوليد. فقال: هذا رأيى لكم فاصنعوا ما شئتم.
تهديدهم بعذاب يوم القيامة [سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
333
المفردات:
يُوزَعُونَ: يساقون حتى تتكامل عدتهم ثم يدفعون، أى: يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يدفعون وَجُلُودُهُمْ: وهي المعروفة، وقيل المراد بها الفروج تَسْتَتِرُونَ: تستخفون أَرْداكُمْ أى: أهلككم مَثْوىً: مأوى يَسْتَعْتِبُوا: استعتب وأعتب بمعنى استرضى، أى: طلب الرضا يقال: استعتبته فأعتبنى، أى: استرضيته فأرضانى (وأعتبنى فلان، إذا عاد إلى مسرتي) راجعا عن الإساءة، والاسم منه العتبى الْمُعْتَبِينَ: المقبول عتابه، وفي قراءة المعتبين، على معنى إن أقالهم وقبل عتابهم وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ هيأنا لهم شياطين من الإنس والجن وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: ثبت.
المعنى:
واذكر لهم يا محمد طرفا من عذاب يوم القيامة بعد تهديدهم بعذاب الدنيا لعلهم يرجعون، اذكر لهم يوم يحشر أعداء الله من الكفرة إلى النار ومواقف الحساب فهم يساقون إليها كما تساق الأنعام بشدة حتى إذا تكاملوا واجتمع أولهم على آخرهم يدفعون إلى جهنم دفعا، حتى «١» إذا ما حضروها وسئلوا عما أجرموا فأنكروا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون.
وقالوا لجلودهم، وهل هي المعروفة أو هي كناية عن فروجهم؟ بكلّ قيل، ولكل وجه. قالوا لهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله- تعالى- وأقدرنا على بيان الواقع
(١) حتى: غاية لقوله يوزعون، وما في (إذا ما) زائدة لتأكيد ارتباط المجيء بشهادة الأعضاء.
334
فشهدنا بما كنتم تعملون، ولا غرابة في ذلك فالله الذي أنطق كل شيء، وخلقكم أول مرة، وإليه وحده ترجعون، هو الذي أقدرنا على النطق والشهادة فليس نطقنا بعجيب بقدرة الله.
ثم يقال لهم توبيخا وتقريعا، وتقريرا لجواب الجلود: وما كنتم تستترون وتستخفون عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك، ولكن ظننتم ظنّا خاطئا أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملونه خفية فلا يظهره يوم القيامة ولا ينطق جوارحكم به، ولذلك استترتم من الخلق، ولم تستتروا من الخالق وهو يعلم الغيب والشهادة.
وذلك- والإشارة إلى ظنهم المذكور في قوله: (ظننتم) - ظنكم الذي ظننتم بربكم هو الذي أرداكم وأهلككم، فأصبحتم بسببه من الخاسرين.
فإن يصبروا على ما هم فيه أولا يصبروا فالنار مثوى لهم، ومحل إقامة أبدية لأمثالهم وإن يستعتبوا ويعتذروا عما فرط منهم ويطلبوا رضا الله فما هم من المعتبين المقبول عذرهم لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل،
والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس بعد الموت من مستعتب».
وهذا بيان السبب الذي دفعهم إلى العمل الفاسد وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ بمعنى: أننا هيأنا لهم قرناء السوء من شياطين الإنس والجن فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من أعمالهم، وألقوا في قلوبهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وقيل: المراد ما بين أيديهم من أعمال الدنيا، وما خلفهم من أعمال الآخرة فاستمعوا لهم، وعملوا بمشورتهم التي صادفت هوى في نفوسهم. وحق عليهم القول، وتقرر العذاب حالة كونهم في جملة أمم قد مضت قبلهم من الجن والإنس إذ دأبهم كدأب هؤلاء وعملهم كعملهم إنهم كانوا خاسرين.
الكفار وأعمالهم وجزاؤهم [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
335
المفردات:
وَالْغَوْا فِيهِ: وأتوا باللغو عند قراءته، والمراد باللغو هنا: ما لا معنى له أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ المراد: أعمالهم السيئة الْأَسْفَلِينَ: الأذلين المهانين.
بعد أن هددهم الله بالعذاب في الدنيا والآخرة، وتوعدهم بما هو أشد عليهم من وقع السهام بين هنا بعض أعمالهم القبيحة التي تستوجب هذا العذاب وأكثر منه.
المعنى:
وقال الذين كفروا من مشركي مكة لأتباعهم- أو قال بعضهم لبعض-:
لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يتلوه محمد، ولا تنصتوا له أبدا. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ وهو بمكة رفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن، وائتوا عند قراءته باللغو ليشوشوا على قارئه، وكانوا يأتون عند قراءته بالمكاء والصفير، وإنشاد الشعر والأراجيز يقولون لبعضهم: افعلوا هذا لعلكم تغلبونه وتميتون ذكره.
فو الله لنذيقن هؤلاء الذين كفروا عذابا شديدا يقض مضاجعهم، ويفرق جمعهم ويحط من كبريائهم في الدنيا، وو اللَّه لنجزينهم في الآخرة على سيئات أعمالهم التي هي نفسها أسوأ أفعالهم جزاء وفاقا.
336
ذلك- الذي عرفته- جزاء أعداء الله المعد لهم بسبب ما كانوا يعملون هو النار لهم فيها دار الخلد والإقامة. فهم في جهنم مخلدون إلى ما شاء الله جزاء بسبب ما كانوا بآياتنا يجحدون: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً.
وقال الذين كفروا، وهم يتلظون في نار جهنم: ربنا أرنا الفريقين اللذين أضلانا من الجن والإنس، وأغرونا حتى علمنا ما علمنا نجعلهما تحت أقدامنا وندوسهما انتقاما منهم، وليكونا في الدرك الأسفل من النار، فهم كانوا يمنوننا بالأمانى ويقودوننا إلى ما نحن فيه. أين هما الآن ليكونا من الأسفلين الأذلين المهانين؟
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
المفردات:
اسْتَقامُوا: ثبتوا وداموا على الاستقامة أَلَّا تَخافُوا الخوف: غم يلحق النفس لتوقع مكروه في المستقبل وَلا تَحْزَنُوا الحزن: غم يلحق النفس لفوات نفع في الماضي تَدَّعُونَ
: تتمنون وتطلبون نُزُلًا النزل: طعام يعد للضيف.
وهذا شروع في بيان أحوال المؤمنين ونهايتهم بعد بيان أحوال المشركين ونهايتهم ليظهر الفرق جليا بين الخبيث والطيب.
337
المعنى:
إن الذين قالوا: ربنا الله وحده، لا شريك له ولا إله غيره، قالوا هذا اعترافا بربوبيته، وإقرارا بوحدانيته، وأنه- عز وجل- مالك الأمر ومدبره وأن الخلق عبيد له ومربوبون بين يديه لا حول لهم ولا طول.
ثم «١» استقاموا على الطريقة وداوموا السير على الصراط المستقيم فلم تزل قدمهم عن طريق العبودية قلبا وقالبا، ونية وعملا واعتدلوا على منهج الطاعة ومنهج العبادة قولا وعملا وعزما، وداوموا على ذلك أولئك تنزل عليهم الملائكة في كل وقت وحين وخاصة عند الموت وفي وحدة القبر وعند شدة الحساب وهوله، وقيل: إن الملائكة تتنزل على عباد الرحمن وجند القرآن يمدونهم فيما يعن ويطرأ عليهم من الأمور والمشاكل الدينية والدنيوية، ويتنزلون عليهم بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم هموم الخوف والحزن، وقد ثبت أن «للشيطان لمة، وللملك لمة» وقد عرفنا أن للكفار قرناء زينوا لهم كل معصية وكفر. وللمؤمنين أولياء من الملائكة يدفعون عنهم كل هم وغم ويتنزلون عليهم بكل خبر سار وإرشاد سليم وبشرى كريمة ويقولون لهم: أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
ويقول الله لهم: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فالله ولى الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات النفس والشيطان إلى نور الهدى والقرآن، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، والله ولى المتقين يوم القيامة يثيبهم ويجازيهم بما قدموا أحسن الجزاء.
ويصح أن يكون هذا من كلام الملائكة كما يقتضيه السياق العام، على معنى نحن أعوانكم في الدنيا نلهمكم الحق ونرشدكم إلى الصواب، ولعل ذلك عبارة عما يخطر في بال المؤمنين حين يعملون الخير أن ذلك يرضى الله وهو بتوفيقه. ونحن أولياؤكم في الآخرة نمدكم بالشفاعة ونلقاكم بالتحية والكرامة، في حين يلقى المشركون أولياءهم بالكراهية والبغض والتنكر، ولكم فيها ما تدعون حالة كونه نزلا من غفور رحيم. والنزل، ما يعد للضيف من إكرام له، ولا مانع من إطلاقه على ما يعد للمتقين يوم القيامة على سبيل التشبيه للإشارة إلى عظم ما يعد لهم من الكرامة والإجلال.
(١) ثم وضعت للدلالة على الترتيب مع التراخي في الزمن ويصح هنا أن تكون للترتيب الرتبى.
338
والاستقامة في الآية ورد تفسيرها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقد ورد في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: «قل آمنت بالله ثمّ استقم»
. وعن أبى بكر هي: عدم الإشراك بالله شيئا.. وعن عمر- رضى الله عنه-: استقاموا- لله- على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعلب.. وعن عثمان- رضى الله عنه-: استقاموا أخلصوا العمل لله..
وعن على- رضى الله عنه- أدوا الفرائض،.. وعن الحسن- رضى الله عنه-: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، ويقول العلامة القرطبي: وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا وداوموا على ذلك.
يا سبحان الله! الذين يقولون: ربنا الله ثم يستقيمون على الطريقة المثلى تنزل عليهم الملائكة بالطمأنينة وعدم الخوف وبالبشرى، وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة ولهم جنات الخلد نزلا من غفور رحيم! إنها تجارة والله رابحة.
الدعوة إلى الله وآداب القائمين بها [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
المفردات:
حَمِيمٌ في كتب اللغة: الحميم: الماء الحار، وعليه قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ
339
عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ
وقد استحم، أى: اغتسل بالحميم، ثم صار كل اغتسال استحماما، ولا شك أن صديقك يزيل عنك الأدران الحسية والمعنوية كالماء. ولذا سمى حميما يَنْزَغَنَّكَ النزغ والنخس واحد، والمراد: صرفك عن الخصلة الفاضلة صارف فاستعذ.
هذه السورة مكية كما مر، وفيها نقاش المشركين الذين يقولون: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وقالوا لبعضهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. وهذا بلا شك مما يؤذى النبي ويقطع أمله في هدايتهم فبين الحق- تبارك وتعالى- هنا أن الواجب عليك يا رسول الله أن تتابع المواظبة في الدعوة والسير في طريقها مهما لاقاك من صعاب فإن الدعوة إلى الله أكمل الطاعات وأحسن العبادات، ولا عليك شيء أبدا بعد اتباع هداية القرآن والتخلق بخلقه.
ولنا أن نقول وجها آخر- كما ذكره الفخر- ولعله أنسب، وخلاصته أن المبادئ المسلم بها: أصلح نفسك ثم ادع غيرك، ولا شك أن مرتبة دعوة الغير إلى الهدى والخير مرتبة عالية، ولا يلقاها إلا أفراد قلائل زكت نفوسهم وطهرت أرواحهم وامتلأت إيمانا ويقينا.
أما مرتبة تربية النفس وإعدادها فهي مأخوذة من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا الآية.
وأما المرتبة الثانية فهي مأخوذة من قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
الرأى الأول مبنى على أن قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ نازلة في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولتوبيخ الذين تواصوا باللغو في القرآن.
وأصحاب الرأى الثاني توسعوا في مدلول اللفظ فقالوا: هذه الآية تشمل كل من دعا إلى الله بالموعظة والحجة، وسوق البرهان والقتال بالسيف إذا لم تنفع الحجة.
المعنى:
ولا أحد أحسن قولا، وأرفع منزلة ممن دعا إلى الله ودعا غيره- بعد تكميل
340
نفسه- إلى دين الله، فهؤلاء الذين يرفعون عقائرهم في المجتمعات والمحافل وعلى المنابر يطالبون بتحكيم كتاب الله، والسير على شريعة العدل شريعة السماء، شريعة المنطق السليم، قانون رب العالمين الذي وضعه لخلقه وهو أعلم بهم، هؤلاء بلا شك أحسن قولا من غيرهم، بل إن غيرهم الذين لا يدعون إلى الله ليس في قولهم خير ولا في عملهم بركة.
الذي يدعو إلى الله لا بد أن يكون عمله صالحا يلتقى مع قوله، بل هو في عمله الظاهر والباطن يكون أشد مراقبة لله وخشية منه، فإنا في زمن ليس للكلام فيه تأثير كثير وإنما التأثير للعمل والتقليد، فما أشد حاجتنا إلى علماء ووعاظ ربانيين وقرآنيين يكون عملهم مثلا أعلى يحتذيه كل مسلم، وقال على سبيل المفاخرة والمجاهرة: إننى من المسلمين وجماعتهم، وهذه الآية مسوقة لتثبيت قلب من يدعو، وتربيته بأدب القرآن والله يعلم أن دعاة الحق لا بد أن يصادفهم ما يؤلمهم فيقول لهم: لا تستوي الحسنة- كالدعوة إلى الله- ولا السيئة كالإعراض عنها وذم القائم بها.
والعلاج هو أن تدفع السيئة بالحسنة يا سبحان الله! هذا علاج القرآن وحقا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم خلقه القرآن، ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن منها، كدفع الغضب بالصبر، ودفع الجهل بالحلم، والإساءة بالعفو.
فإذا فعلت مع عدوك ذلك فاجأك «١» في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهة في المحبة للصديق الذي لم تسبق منه عداوة.
وما يؤتى هذه الخصلة التي هي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على المكروه وراضوا أنفسهم على تحمل الأذى، وكانوا أقوياء أشداء، ليس الشديد بالصرعة- هو من يصرع الناس ويغلبهم- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من خلق النفس وكمالها.
تلك مرتبة عالية، ومركب صعب أن يقابل الإنسان منا السيئة بالحسنة وخاصة وهو يتحمل العذاب في سبيل خير الناس، فإن لعب بك الشيطان ونزغك وحاول أن
(١) (فإذا الذي بينك) الفاء للسببية، وإذا الفجائية ظرف مطلق، المعنى التشبيه، وهذا على القول باسميتها.
341
يصرفك عن تلك المرتبة فلا عليك إلا أن تستعيذ بالله منه، والله يرعاك ويحميك وهو ولى المتقين، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، وهو السميع العليم.
فالخلاصة أن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال وأفضلها، ولا بد أن يكون الداعية ممن حسن قوله وعمله، وطهر باطنه وظاهره؟ وكان مؤمنا بفكرته إيمانا عميقا إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولا بد أن يكون واسع الصدر حليما يقابل السيئة بالحسنة حتى ينقلب أعداؤه وأعداء دعوته أصدقاء له ولدعوته، وهذه مرتبة لا يحظى بها إلا أولو العزم من الرجال وأصحاب النفوس العالية.
بعض آيات الله عز وجل [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
المفردات:
آياتِهِ: جمع آية، وهي العلامة الدالة على وحدانيته وقدرته اسْتَكْبَرُوا:
تكبروا لا يَسْأَمُونَ: لا يملون عبادته خاشِعَةً المراد: يابسة لا نبات فيها، والخشوع: التذلل والتقاصر، استعير لحال الأرض اليابسة وَرَبَتْ: انتفخت.
وهذه بعض الآيات الدالة على الوحدانية لله تعالى، وعلى القدرة الكاملة له، سيقت كمادة للدعوة إلى الله.
المعنى:
ومن آياته ودلائل قدرته وعظمته، وعلامات وحدانيته وكمال خلقه آية الليل والنهار، وآية الشمس والقمر، وهذه من مظاهر قدرة الله الكونية الناطقة بجلاله وكبير فضله، وعظيم سلطانه ومنتهى حكمته. وقوة إرادته.
هذه الآيات لا تسجدوا لها ولا تعظموها. ولكن الذي يستحق التعظيم والتقديس والعبادة هو خالقها، وصاحب الأمر فيها، ومبدعها على أحسن نظام وأحكمه وإذا كان هذا حال الليل والنهار والشمس والقمر فكيف يعبد بعض الناس حجرا أو خشبا أو حيوانا!! لا. لا. اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا إن كنتم إياه تعبدون.
فإن تكبروا عن اتباع كلامك فدعهم وشأنهم ولا يهمنك أمرهم، فالذين عند ربك- عندية مكانة لا مكان- من أشراف الخلق كالملائكة يسبحون له بالليل والنهار، وهم لا يفترون.
ومن آياته الدالة على كمال قدرته، وأن البعث يجب أن يكون حقيقة ظاهرة مفهومة للجميع: أنك ترى الأرض خاشعة هامدة يابسة لا نبات فيها فإذا نزل عليها المطر أو سقيت بماء النهر، وفيها البذور اهتزت، وعلماء النبات يسجدون لله عند هذه الكلمة فإنهم يعرفون ذلك «بالمجهر» اهتزت وتفاعلت وتحركت، ونمت ثم انشقت عن نبات غض طرى، يا سبحان الله!! أحييت الأرض بعد موتها، وإنك يا قوى يا قادر لتحيى الموتى يوم القيامة فإنك على كل شيء قدير.
تهديد الملحدين في القرآن [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
343
المفردات:
يُلْحِدُونَ الإلحاد: الميل عن الحق والصواب إلى غيره عَزِيزٌ: منيع عن الإبطال والتحريف.
وهذا رجوع إلى مشركي مكة الذين قالوا: قلوبنا في أكنة، وقالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه، رجوع إلى تهديدهم وبيان حقيقة القرآن.
المعنى:
إن الذين يلحدون في آياتنا القرآنية ويميلون عن الاستقامة فيها بالطعن عليها والتحريف لها، والتأويل الباطل واللغو عند سماعها، هؤلاء لا يخفون علينا، وكيف يخفون على عالم الغيب والشهادة؟! فهو مجازيهم على فعلهم جزاء وفاقا. أغفلتم «١» فمن يلقى في النار إلقاء على سبيل القسر والإلجاء خير أم من يأتى آمنا مطمئنا ويدخل الجنة يوم القيامة؟ لا يقول عاقل بالتسوية اعملوا «٢» ما شئتم حيث كان الأمر كذلك إنه بما تعملون بصير، وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
إن الذين كفروا بالذكر، أى: القرآن ذي الذكر العالي والشرف الرفيع لما جاءهم نجازيهم على كفرهم، والحال إنه لكتاب عزيز لا يناله بشر، منيع عن الإبطال
(١) الهمزة هنا للاستفهام المراد به الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار وأن المؤمنين يأتون آمنين.
(٢) والأمر هنا مراد به التهديد.
344
والتحريف، وصدق الله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١»
فها هو ذا القرآن ظل محفوظا طوال السنين لم يمس بسوء رغم كثرة أعدائه وقوتهم، وضعف أنصاره وأتباعه، نعم إنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه أى: لا يأتيه الباطل من أى ناحية، من ناحية اللفظ أو العرض أو الحكم أو القصة أو الأسلوب، وكيف يأتيه الباطل بأى صورة ومن أى باب، وهو تنزيل الحكيم العليم المحمود في الأرض والسماء.
وأما أنت يا محمد فما قيل لك إلا ما قيل للرسل من قبلك، فالرسالات كلها واحدة تهدف إلى التوحيد الخالص وإثبات مبدأ الثواب والعقاب والحياة والآخرة تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «٢»
وما قيل لك من الناس الذين يلحدون في آياتنا هو مثل ما قيل للرسل قبلك فتلك (شنشة أعرفها من أخزم) وتلك هي عادة الناس قديما وحديثا، وإن ربك مع هؤلاء الناس لذو مغفرة واسعة لمن أطاع، وذو عقاب شديد لمن عصى فاحذروا يا أهل مكة عقابه، وانظروا أين أنتم؟!..
القرآن والذين يلحدون فيه [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
(١) - سورة الحجر آية ٩.
(٢) - سورة آل عمران آية ٦٤.
345
المفردات:
أَعْجَمِيًّا الأعجمي وصف للكلام الذي لا يفهم، وللمتكلم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو العجم، والعجمي: الرجل الذي ليس من العرب فُصِّلَتْ: بينت بلغتنا حتى نفهمها وَقْرٌ: ثقل في السمع وصمم مُرِيبٍ: شديد الريبة بِظَلَّامٍ: بذي ظلم.
المعنى:
لقد أنزل ربك القرآن على نبيه بلسان عربي مبين، فقال المشركون: لو كان القرآن أعجميّا فرد الله عليهم: ولو جعلناه قرآنا أعجميا بلسان غير عربي لما أعجبهم ذلك، ولقالوا: لولا فصلت آياته! أى: نتمنى لو كانت آياته قد فصلت وبينت بلغتنا العربية، فإنا قوم عرب لا نفهم الأعجمية بحال، أيكون أعجميا والذي أنزل عليه عربي؟
وهكذا موقف المعترض بغير حق، لو كان الشيء خيرا محضا لقال: هلا كان فيه خير وشر! وقد رد الله عليهم بقوله: قل لهم يا محمد: هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين، وينذر الكافرين فهو هدى، وأى هدى! وهو شفاء لما في الصدور وطب للقلوب، وعلاج لأمراض الفرد والمجتمع، علاج وصفه الذي خلق المرض وعلم به، فهل ترى علاجا خيرا منه؟! وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [سورة الإسراء آية ٨٢].
والذين لا يؤمنون بالله في آذانهم صمم عن سماع القرآن، ولهذا تواصوا عند سماعه، والقرآن عليهم عمى فكأن بينهم وبين الداعي حجابا كثيفا، أولئك المذكورون
346
المتصفون بالتعامي عن الحق الذي يشهدونه كأنهم «١»
ينادون من مكان بعيد فهم لا يسمعون إلا دعاء ونداء، ولا يفهمون شيئا.
ولا يهولنك أمرهم واختلافهم في القرآن فتلك عادة الأمم مع أنبيائهم، ولقد آتينا موسى التوراة، وفيها هدى ونور- أى: قبل تحريفها- فاختلف بنو إسرائيل فيها بين مصدق ومكذب ومؤمن وكافر، وهكذا حال قومك فلا تأس ولا تحزن على شيء.
ولولا كلمة سبقت من ربك، وحكم فيها على أمتك بتأخير العقوبة إلى يوم القيامة بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «٢»
لولا هذا الحكم لقضى بين المؤمنين والكافرين باستئصال المكذبين المشركين كما فعل مع الأمم السابقة، وإن كفار قومك لفي شك من القرآن مريب يوجب القلق والاضطراب، وهذا حكم عام: من عمل صالحا فلنفسه بغى الخير، ومن أساء فإساءته على نفسه وحده، وما ربك بذي ظلم للعباد فهو يجازى المحسن على إحسانه لا ينقص منه شيء، ويجازى المسيء على إساءته بلا زيادة ولا نقصان إذ هو أحكم الحاكمين.
(١) وهذا تمثيل لحالهم من عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه بمن نودي من مسافة نائية بعيدة فهو يسمع الصوت ولا يفهم.
(٢) سورة القمر آية ٤٦.
347
إليه يرد علم الساعة [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
المفردات:
أَكْمامِها: جمع كم وكمة، والمراد: أوعيتها، فالأكمام أوعية الثمر، والكم يطلق أيضا على ما يغطى اليد من القميص آذَنَّاكَ: أسمعناك وأعلمناك وَضَلَّ عَنْهُمْ: غاب مَحِيصٍ: مهرب من العذاب.
ما مضى كان تهديدا للكفار بأنهم سوف يعاقبون على أعمالهم يوم القيامة، وكأن سائلا سأل: ومتى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأنه إليه يرد علم الساعة.
المعنى:
إلى الله وحده يرد علم الجواب عن السؤال الخاص بوقت القيامة وزمانها، فلا سبيل إلى معرفة ذلك اليوم، ولا يعلمه إلا هو إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ.. [سورة لقمان آية ٣٤]. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [سورة الأحزاب آية ٦٣].
وكما أن علم الساعة عند الله فقط كذلك لا يعلم الأحداث المستقبلة إلا هو، وقد ذكر هنا نوعان. فالله وحده يعلم متى تخرج الثمرة من كمها بالضبط لأنه وحده الخالق لها، والمشاهد عندنا في المزارع أن أحدا لا يعلم متى تخرج الثمرة بالضبط؟ والله وحده
هو الذي يعلم ما تحمل كل أنثى أذكر هو أم أنثى، أناقص أم كامل؟ ولا تضع أنثى إلا بعلمه وحده، فمهما ارتقى العلم فهو لا يعلم بالضبط متى يحصل الشيء، وما يقول بعض الناس عن المستقبل فهو من باب الحدس والتخمين لا من باب العلم واليقين، فتارة يصادف الواقع وتارات لا يصادف، ولا تنس أن الموضوع الأساسى في هذه السورة الرد على المشركين وبيان حقائق يوم القيامة وخاصة ما يتعلق بهم وبالمؤمنين مع نقاشهم في قولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ولذا يقول الله: واذكر يوم يناديهم الحق- تبارك وتعالى- على لسان ملائكته تبكيتا لهم وتأنيبا: أين شركائى الذين كنتم تدعونهم من دوني، وتتخذونهم شفعاء عندي بلا إذنى! قالوا: آذناك وأعلمناك الآن ما منا من شهيد بذلك، فليس أحد منا يشهد بأن لك يا رب شريكا، ونحن لا نشاهدهم الآن أمامنا بل ضلوا عنا، وغابوا عن عيوننا، وقد كانوا يدعونهم من قبل في الدنيا!! فيقول الله ما معناه: وظن الكفار أولا أن لهم منجى ثم تيقنوا الآن أنه لا محيص ولا مهرب من عذاب الله، وقيل: إن الظن هنا مراد به اليقين.
الإنسان وطبعه [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
350
المفردات:
لا يَسْأَمُ: لا يمل فَيَؤُسٌ: اليأس قطع الرجاء من رحمة الله قَنُوطٌ والقنوط: إظهار أثر اليأس على ظاهر البدن أَذَقْناهُ: آتيناه لَلْحُسْنى المراد:
الجنة غَلِيظٍ: كناية عن الشدة وَنَأى أى: انحرف عنه وذهب بنفسه وتباعد عن الشكر عَرِيضٍ المراد: كثير، فإن العرب تستعمل لفظ الطول والعرض في الكثرة، يقال: أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر.
المعنى:
هذا هو الإنسان على طبعه وحقيقته، كما وصفه خالقه الذي هو أعلم به، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك ١٤] وهذه الصفات التي ذكرت هنا وفي بعض السور هي للإنسان من حيث هو إنسان، ولا يخفف من حدتها أو يعدل سورتها أو يقلبها بالمرة إلا اتباع الدين، وتطهير النفس بطهر القرآن، وملؤها بشعاع الإيمان ونور الإسلام وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ
[سورة العصر] وهذه الصفات هي التي تكون له عونا له أو عليه في الآخرة وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف ٣٦] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [طه ٩- ١١].
ونحن نرى أن القرآن وصف الإنسان بأوصاف:
١- أنه لا يمل من طلب الخير كالمال والجاه والصحة وغيرها، وهذا ينشأ من حبه للدنيا وإغراقه في المادة
ولقد صدق رسول الله حيث قال: «اثنان منهومان لا يشبعان:
طالب علم وطالب مال»
.
٢- إن مسه شر أو حلت به مصيبة فهو يئوس يقطع الرجاء من رحمة الله، قنوط تظهر آثار يأسه على وجهه وبدنه، وقد بالغ القرآن في يأس الإنسان إذا مسه شر، وهذا ينشأ من عدم الإيمان بالله والكفر به فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فاليأس والإيمان لا يجتمعان في قلب.
351
٣- إذا آتاه الله رحمة من بعد ضراء مسته في صحته أو ماله، نسى ما كان عليه أولا لأنه إنسان كثير النسيان، واغتر بما أوتى، وقال: إنما أوتيت هذا على علم عندي، فهو لي، وأنا له، وهكذا الماديون الذين يؤمنون بالأسباب المادية فقط دون الإيمان بمسببها جل شأنه، وهذا هو الغرور بعينه، يغتر صاحبه في الدنيا حتى يقول: ما أظن الساعة قائمة، ولو فرض ورددت إلى ربي، وكان هناك حساب وبعث، إن لي عند ربي للجنة والسعة لأنه أعطانى في الدنيا وأكرمنى فيعطيني في الآخرة مثلها وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أى: من الجنة التي أوتيتها في الدنيا مُنْقَلَباً هذا داء الغرور قد استشرى في الناس، ولا يمنعه إلا سلاح الدين وحرارة الإيمان، ولذا يقول الله:
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فإنه لا يقول بهذا، ولا يعمل بمقتضاه إلا كل كافر أثيم أو من هو مثله.
٤- وإذا أنعمنا على الإنسان بنعمنا التي لا تحصى ولا تعد أعرض عن الشكر، ونأى بجانبه، وذهب بنفسه وتباعد عن الله الذي أعطاه تلك النعم وتباعد عن شكر الله بكليته تكبرا وطغيانا.
٥- وإذا مسه الشر أو حلت به مصيبة فهو ذو دعاء عريض، فهو إن مسه ضر أو فقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع، وإن مسه خير أعرض عن شكر الله، فهذا هو الإنسان على حقيقته دائم التبدل والتغير لا يستقر على حال أبدا، فهو في الدنيا مشرك متعصب وفي الآخرة ينكر الأصنام وعبادتها ويتبرأ منها، وهو إن أصابه ضر دعا، وإن أصابه خير بغى، فيا ويلك يا إنسان إن لم يدركك الرحمن بلطفه.
352
ختام السورة [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
المفردات:
شِقاقٍ بَعِيدٍ: خلاف كبير حتى كأنه في شق وجانب والحق في شق وجانب آخر الْآفاقِ: جمع أفق والمراد آفاق أقطار السموات والأرض مِرْيَةٍ: شك.
ثبت فيما مضى أن الإنسان لا يقر على حال وهو دائم التغير والانتقال فالواجب على المشركين ألا يقروا على حال العناد والشرك بل يعيدوا النظر لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
المعنى:
قل لهم يا محمد: أخبرونى «١»
عن حالكم!! إن كان هذا القرآن من عند الله حقا ثم كفرتم به وأعرضتم عنه إعراضا من غير حجة ولا برهان، وقلتم حين دعاكم إليه: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون! ماذا أنتم فاعلون؟!
(١) استعمال (رأى) في معنى (أخبر) مجاز لأن الرؤية بمعنى الإبصار طريق للعلم بالشيء، والعلم به طريق إلى الإخبار عنه لهذا استعملت الصيغة التي هي لطالب الرؤية في طلب الإخبار بجامع مطلق الطلب في كل، ففي العبارة مجازان: استعمال رأى بمعنى أبصر في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار.
353
وكون القرآن من عند الله وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم رسولا أمر ممكن وجائز عقلا، وليس الشرك ونفى التوحيد أمرا بدهيّا لا يحتاج إلى دليل فإذا أعرضتم عن ذلك كله، ولم تنظروا في دليل أصلا وقلتم ما قلتم، ثم تبين أنه الحق، وأن التوحيد والبعث وصدق الرسول حقائق، ماذا يكون موقفكم؟! أخبرونى بالله ماذا أنتم فاعلون؟! أرأيتم أنفسكم- إن كان من عند الله ثم كفرتم به- من أضل ممن هو في شقاق بعيد؟! سنريهم آياتنا الكونية التي تظهر في الآفاق، وصدق آياتنا القرآنية في أقطار السموات والأرض وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
وقد صدق العلم الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كثيرا من نظريات القرآن في المطر والسحاب، والسماء والأرض وفي العلم بما تحمله الأنثى وغير ذلك، سنرى العالم كله آياتنا الكونية في الآفاق وفي أنفس الناس، الآيات الدالة على كمال القدرة وتمام الحكمة ودقة العلم حتى يتبين لهم أن الدين الحق جاء على يد خير الخلق صلّى الله عليه وسلّم وها هي ذي الأيام والواقع يثبتان ذلك.
أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد، وأنه عالم الغيب والشهادة، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهو اللطيف الخبير، ألا إنهم في مرية وشك من لقاء ربهم حيث أنكروا البعث، ولم يقولوا بوجود إله موصوف بصفات الكمال والجلال، ألا إنه بكل شيء محيط علما وقدرة وسيجازى الكفار على أعمالهم.
ألست معى في أنه ختام رائع لتلك السورة حيث ألزمهم الحجة، ورد كيدهم في نحورهم، وأبان أن الزمن كفيل ببيان صدق الآيات وأنهم على خطأ فيما ذهبوا إليه، والعاقبة للمتقين.
354
Icon