وآياتها ثنتان وستون
وهي مكية بإجماع من المتأولين١ وهي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفيني هذا٢ وسبب هذه السورة ان المشركين قالوا إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك.
٢ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وروى أيضا مثله عن عبد الله، وفيه أن الرجل الذي أخذ كفا من تراب هو أمية بن خلف، وقد أخرج هذا الحديث أيضا الإمام مسلم، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، وابن مردويه، ذكر الإمام السيوطي في الدر المنثور..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النجموهي مكية بإجماع من المتأولين وهي أول سورة أعلن بها رسول الله ﷺ وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفيني هذا وسبب هذه السورة أن المشركين قالوا إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١)
أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفا له وتنبيها منه ليكون معتبرا فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى. وقال الزهري، المعنى: ورب النجم، وفي هذا قلق مع لفظ الآية. واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء، وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد ﷺ نجوما أي أقدارا مقدرة في أوقات ما، ويجيء هَوى على هذا التأويل بمعنى: نزل، وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: ٧٥] والخلاف في هذا كالخلاف في تلك، وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما: النَّجْمِ هنا اسم جنس، أرادوا النجوم إذا هوت، واختلف قائلو هذه المقالة في معنى: هَوى فقال جمهور المفسرين: هَوى إلى الغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي هَوى عند الانكدار في القيامة فهي بمعنى. قوله: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. [الانفطار: ٢] وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية وهي رجوم الشياطين، وهذا القول تسعده اللغة، والتأويلات في هَوى محتملة، كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي:
فتاقت تعد النجم في مستحيرة | سريع بأيدي الآكلين جمودها |
طلع النجم عشاء... فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غدية... فابتغى الراعي شكية
وهَوى على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار، وهَوى في اللغة معناه: خرق الهوى ومقصده السفل أو مسيره إن لم يقصده إليه، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
هوى ابني شفا جبل... فزلّت رجله ويده
وقول الشاعر: [الطويل]
وإن كلام المرء في غير كنهه... لك النبل تهوي ليس فيها نصالها
وقول زهير:
هوي الدلو أسلمها الرشاء ومنه قولهم للجراد: الهاوي، ومنه هوى العقاب.
والقسم واقع على قوله: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى والضلال أبدا يكون من غير قصد من الإنسان إليه. والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده، نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين، وغَوى:
الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج، ونفى الله تعالى عن نبيه أن يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها، وأثبت له تعالى في الضحى أنه قد كان قبل النبوءة ضالا بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها.
وقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى يريد محمدا ﷺ أنه ليس يستكلم عن هواه، أي بهواه وشهوته. وقال بعض العلماء: المعنى: وما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة، ونسب النطق إليه من حيث تفهم عنه الأمور كما قال: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ [الجاثية: ٢٩] وأسند الفعل إلى القرآن ولم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه.
وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى يراد به القرآن بإجماع، والوحي: إلقاء المعنى في خفاء، وهذه عبارة تعم الملك والإلهام والإشارة وكل ما يحفظ من معاني الوحي.
والضمير في قوله: عَلَّمَهُ يحتمل أن يكون للقرآن، والأظهر أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأما المعلم فقال قتادة والربيع وابن عباس: هو جبريل عليه السلام، أي علم محمدا القرآن. وقال الحسن المعلم الشديد القوى هو الله تعالى. والْقُوى جمع قوة، وهذا في جبريل مكتمن، ويؤيده قوله تعالى:
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: ٢٠]. وذُو مِرَّةٍ معناه: ذو قوة، قاله قتادة وابن زيد والربيع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي». وأصل المرة
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف.
و (استوى) مستند إلى الله تعالى في قول الحسن الذي قال: إنه لمتصف: ب شَدِيدُ الْقُوى، وكذلك يجيء قوله: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى صفة الله تعالى على معنى وعظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو «الأفق الأعلى»، ويجيء المعنى نحو قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]، ومن قال إن المتصف ب شَدِيدُ الْقُوى هو جبريل عليه السلام قال: إن (استوى) مستند إلى جبريل، واختلفوا بعد ذلك، فقال الربيع والزجاج: المعنى: فَاسْتَوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك، بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إذ رآه رسول الله ﷺ بحراء قد سد الأفق، له ستمائة جناح، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قابَ قَوْسَيْنِ، وكذلك هو المراد في هذا القول النزلة الأخرى في صفته العظيمة له ستمائة جناح عند السدرة وقال الطبري والفراء المعنى: فَاسْتَوى جبريل.
وقوله: وَهُوَ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره في الضمير في عَلَّمَهُ. وفي هذا التأويل العطف على المضمر المرفوع دون أن يؤكد، وذلك عند النحاة مستقبح، وأنشد الفراء على قوله:
[الطويل]
ألم تر أن النبع يصلب عوده | ولا يستوي والخروع المتقصف |
و: دَنا فَتَدَلَّى على هذا القول معه حذف مضاف. أي دنا سلطانه ووحيه وقدره لا الانتقال، وهذه الأوصاف منتفية في حق الله تعالى. والصحيح عندي أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل، بدليل قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: ١٣] فإن ذلك يقضي بنزلة متقدمة، وما روي قط أن محمدا رأى ربه قبل ليلة الإسراء، أما أن الرؤية بالقلب لا تمنع بحال ودَنا أعم من: «تدلى»، فبين تعالى بقوله:
فَتَدَلَّى هيئة الدنو كيف كانت، و: قابَ معناه: قدر. وقال قتادة وغيره: معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض.
وقرأ محمد بن السميفع اليماني: «فكان قيس قوسين»، والمعنى قريب من قابَ، ومن هذه
«لقاب قوس أحدكم في الجنة».
وقوله: أَوْ أَدْنى معناه: على مقتضى نظر البشر، أي لو رآه أحدكم لقال في ذلك قوسان أو أدنى من ذلك، وقال أبو زيد ليست بهذه القوس، ولكن قدر الذراعين أو أدنى، وحكى الزهراوي عن ابن عباس أن القوس في هذه الآية ذراع تقاس به الأطوال، وذكره الثعلبي وأنه من لغة الحجاز.
وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
، قال ابن عباس المعنى: فَأَوْحى
الله إِلى عَبْدِهِ
جبريل ما أَوْحى
. وفي قوله: ما أَوْحى
إبهام على جهة التفخيم والتعظيم، والذي عرف من ذلك فرض الصلاة، وقال الحسن المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى كالأولى في الإبهام، وقال ابن زيد المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى الله إلى جبريل.
وقوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قرأ جمهور القراء بتخفيف الذال على معنى لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى، بل صدقه وتحققه نظرا، وكَذَبَ يتعدى، وقال أهل التأويل ومنهم ابن عباس وأبو صالح: رأى محمد الله تعالى بفؤاده. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعل الله نور بصري في فؤادي، فنظرت إليه بفؤادي». وقال آخرون من المتأولين المعنى: ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى، وقال ابن عباس فيما روي عنه وعكرمة وكعب الأحبار إن محمدا ﷺ رأى ربه بعيني رأسه. وبسط الزهراوي هذا الكلام عنهم وأبت ذلك عائشة، وقالت: أنا سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآيات، فقال لي: «هو جبريل فيها كلها». وقال الحسن المعنى: ما رأى من مقدورات الله وملكوته. وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: هو نور إني أراه، وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي ﷺ قاطع بكل تأويل في اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن. وقرأ ابن عامر فيما روى عنه هشام: «ما كذّب» بشد الذال، وهي قراءة أبي رجاء وأبي جعفر وقتادة والجحدري وخالد، ومعناه بين على بعض ما قلناه، وقال كعب الأحبار: إن الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، وقالت عائشة رضي الله عنها: لقد وقف شعري من سماع هذا وتلت:
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: ١٠٣]. وذهبت هي وابن مسعود وقتادة وجمهور العلماء إلى أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين: في الأرض وعند سدرة المنتهى ليلة الإسراء، وقد ذكرتها في سورة «سبحان» وهي مشهورة في الكتب الصحاح.
وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آيها وأمال عاصم في رواية أبي بكر:
«رأى». وقرأ نافع وأبو عمرو بين الفتح. وأمال حمزة والكسائي جميع ما في السورة، وأمال أبو عمرو فيما روى عنه عبيد: «الأعلى» و: «تدلى».
قوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٢ الى ١٨]
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦)
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
«أفتمرونه» بفتح التاء دون ألف بعد الميم، والمعنى: أفتجدونه؟ وذلك أن قريشا لما أخبرها رسول الله ﷺ بأمره في الإسراء مستقصى، كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر عيرهم وغير ذلك مما هو في حديث الإسراء مستقصى، ورواها سعيد عن النخعي: «أفتمرونه» بضم التاء، قال أبو حاتم: وذلك غلط من سعيد. وقوله: يَرى مستقبلا والرؤية قد مضت عبارة تعم جميع ما مضى وتشير إلى ما يمكن أن يقع بعد، وفي هذا نظر.
واختلف الناس في الضمير في قوله: وَلَقَدْ رَآهُ حسبما قدمناه، فقال ابن عباس وكعب الأحبار: هو عائد على الله، وقال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع: هو عائد على جبريل. و: نَزْلَةً معناه: مرة، ونصبه على المصدر في موضع الحال. و: سِدْرَةِ الْمُنْتَهى هي شجرة نبق، قال كعب: هي في السماء السابعة، وروى ذلك مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن مسعود: في السماء السادسة. وقيل لها: سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لأنها إليها ينتهي علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها صعدا إلا الله تعالى. وقيل سميت بذلك لأنها إليها ينتهي من مات على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: هم المؤمنون حقا من كل جيل.
وقيل سميت بذلك، لأن ما نزل من أمر الله فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة العلو، وما صعد من الأرض فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة السفل. وروي عن النبي عليه السلام أن الأمة من الأمم تستظل بظل الفنن منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفعت لي سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة».
وقوله تعالى: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى قال الجمهور: أراد أن يعظم مكان السدرة ويشرفه بأن جَنَّةُ الْمَأْوى عندها. قال الحسن: وهي الجنة التي وعد بها العالم المؤمن. وقال قتادة وابن عباس بخلاف هي جنة يأوي إليها أرواح الشهداء والمؤمنين، وليست بالجنة التي وعد بها المؤمنون جنة النعيم، وهذا يحتاج إلى سند وما أراه يصح عن ابن عباس.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن الزبير بخلاف، وأنس بن مالك بخلاف، وأبو الدرداء وزر بن حبيش وقتادة ومحمد بن كعب: «جنه المأوى» بالهاء في جنة، وهو ضمير محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى:
ستره وضمه إيواء الله تعالى وجميل صنعه به، يقال: جنه وأجنه، وردت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا: أجن الله من قرأها. والجمهور قرأ: «جنة» كالآية الأخرى: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا [السجدة: ١٩] وحكى الثعلبي أن معنى «جنه المأوى» : ضمه المبيت والليل.
وقوله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى التعامل في: إِذْ، رَآهُ. المعنى: رآه في هذه الحال.
«فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟» وقوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ قال ابن عباس معناه: ما جال هكذا ولا هكذا. وقوله: وَما طَغى معناه: ولا تجاوز المرئي، بل وقع عليه وقوعا صحيحا، وهذا تحقيق للأمر ونفي لوجود الريب عنه.
وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال جماعة من أهل التأويل معناه: رأى الكبرى من آيات ربه، والمعنى مِنْ آياتِ رَبِّهِ التي يمكن أن يراها البشر، ف الْكُبْرى على هذا مفعول ب رَأى. وقال آخرون المعنى: لَقَدْ رَأى بعضا مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، ف الْكُبْرى على هذا وصف للآيات، والجمع مما لا يعقل في المؤنث يوصف أبدا على حد وصف الواحدة. وقال ابن عباس وابن مسعود: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق. وقال ابن زيد: رأى جبريل في صورته التي هو بها في السماوات.
قوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ مخاطبة لقريش، وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئية، ولو كانت: أرأيت: التي هي استفتاء لم تتعد. ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته، قال على جهة التوقيف:
أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية و: اللَّاتَ اسم صنم كانت العرب تعظمه، قال أبو عبيدة وغيره: كان في الكعبة، وقال قتادة: كان بالطائف. وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ، وقول قتادة أرجح يؤيده قول الشاعر: [المتقارب]
وفرّت ثقيف إلى لاتها | بمنقلب الخائب الخاسر |
ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات، وذلك نص في الآية، ومنه قول ربيعة بن مكدم: [الكامل] ولقد شفعتهما بآخر ثالث وهو التأويل الصحيح في قول الشاعر [عبيد بن الأبرص] :[مجزوء الكامل]
جعلت لها عودين من... نشم وآخر من ثمامه
وقرأ ابن كثير وحده: «ومناءة» بالهمز والمد وهي لغة فيها، والأول أشهر وهي قراءة الناس، ومنها قول جرير: [الوافر]
أزيد مناة توعد بابن تيم... تأمل أين تاه بك الوعيد
ووقف تعالى الكفار على هذه الأوثان وعلى قولهم فيها، لأنهم كانوا يقولون: هي بنات الله، فكأنه قال: أرأيتم هذه الأوثان وقولكم هي بنات الله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، أي النوع المستحسن المحبوب هو لكم وموجود فيكم؟ والمذموم المستثقل عندكم هو له بزعمكم، ثم قال تعالى على جهة الإنكار: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي عوجاء، قاله مجاهد، وقيل ضِيزى معناه: جائرة، قاله ابن عباس وقتادة، وقال سفيان معناه: منقوصة، وقال ابن زيد معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضزته حقه أضيزه، بمعنى: منعته منه وظلمته فيه، و: ضِيزى من هذا التصريف وأصلها فعلى بضم الفاء ضوزى لأنه القياس، إذ لا يوجد في الصفات فعلى بكسر الفاء، كذا قال سيبويه وغيره، فإذا كان هذا فهي ضوزى: كسر أولها كما كسر أول عين وبيض طلبا للتخفيف، إذ الكسرة والياء أخف من الضمة والواو كما قالوا بيوت وعصى هي في الأصل فعول بضم الفاء، وتقول العرب: ضزته أضوزه فكان يلزم على هذا التصريف أن يكون ضوزى فعلى، وفي جميع هذا نظر. وقرأ ابن كثير: «ضئيزى» بالهمز على أنه مصدر كذكرى، وقرأ الجمهور بغير همز.
ثم قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ يعني أن هذه الأوصاف من أنها إناث وأنها تعبد آلهة ونحو هذا إلا أسماء، أي تسميات اخترعتموها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ لا حقيقة لها ولا أنزل الله تعالى بها برهانا ولا حجة، وقرأ عيسى بن عمر: «سلطان» بضم اللام، وقرأ هو وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش «إن تتبعون» بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو عمرو وعاصم ونافع والأعمش أيضا والجمهور: «يتبعون» بالياء
وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى اعتراض بين الكلام فيه توبيخ لهم، لأن سرد القول إنما هو يتبعون ولا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى، وقف على جهة التوبيخ والإنكار لحالهم ورأيهم، ثم اعترض بعد قوله: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى جملة في موضع الحال، والهدى المشار إليه، محمد وشرعه.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس: «ولقد جاءكم من ربكم» بالكاف فيهما، وقال الضحاك إنهما قرآ «ولقد جاءك من ربك».
و «الإنسان» في قوله: أَمْ لِلْإِنْسانِ، اسم الجنس، كأنه يقول ليست الأشياء بالتمني والشهوات، إنما الأمر كله لله والأعمال جارية على قانون أمره ونهيه فليس لكم، أيها الكفرة مرادكم في قولكم هذه آلهتنا وهي تنفعنا وتقربنا زلفى ونحو هذا. وقال ابن زيد والطبري: «الإنسان» هنا: محمد، بمعنى أنه لم ينل كرامتنا بتأميل، بل بفضل الله أو بمعنى بل إنه تمنى كرامتنا فنالها، إذ الكل لله يهب ما شاء، وهذا لا تقتضيه الآيات، وإن كان اللفظ يعمه. و: الْآخِرَةُ وَالْأُولى الداران، أي له كل أمرهما ملكا ومقدورا وتحت سلطانه.
وقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ الآية، رد على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، كأنه يقول: هذه حال الملائكة الكرام، فكيف بأوثانكم، وكَمْ للتكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر: لا تُغْنِي والغناء جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء وجمع الضمير في شَفاعَتُهُمْ على معنى: كَمْ ومعنى الآية: أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في أن يشفع لشخص ما ويرضى عنه كما أذن في قوله:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر: ٧].
قوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم كفار العرب، وقوله: لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ معناه: ليصفون الملائكة بأوصاف الأنوثة وأخبر تعالى عنهم أنهم لا علم لهم بذلك، وإنما هي ظنون منهم لا حجة لهم عليها وقرأ ابن مسعود: «من علم إلا اتباع الظن».
وقوله: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا معناه لا يصدق بغيرها، فسعيه كله وعمله إنما هو لدنياه.
وقوله تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ معناه هنا انتهى تحصيلهم من المعلومات، وذلك أن المعلومات منها ما هي معقولات نافعة في الآخرة، ومنها ما هي أمور فانية وأشخاص بادية كالفلاحة وكثير من الصنائع وطلب الرئاسة على الناس بالمخرقة، فكلها معلومات ولها علم ومبلغ الكفرة إنما هو في هذه الدنياويات.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ الآية تصل بمعنى التسلية في قوله: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ الآية، ووعيد للكفار ووعد للمؤمنين، وأسند الضلالة والهدى إليهم بكسبهم وإن كان الجميع خلقا له واختراعا، واللام في قوله: لِيَجْزِيَ متعلقة بقوله: ضَلَّ وبقوله:
اهْتَدى فكأنه قال: ليصير أمرهم جميعا إلى أن يجزى.
وقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اعتراض بين الكلام بليغ، وقال بعض النحويين اللام متعلقة بما في المعنى من التقدير، لأن تقديره: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يضل من يشاء ويهدي من يشاء لِيَجْزِيَ والنظر الأول أقل تكلفا من هذا الإضمار. وقال قوم: اللام متعلقة في أول السورة:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٤] وهذا بعيد، و: (الحسنى) هي الجنة ولا حسنى دونها.
وقوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٢ الى ٣٨]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦)
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨)
قوله: الَّذِينَ نعت ل الَّذِينَ [النجم: ٣١] المتقدم قبله، و: يَجْتَنِبُونَ معناه: يدعون جانبا. وقرأ جمهور القراء والناس: «كبائر الإثم» وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وحمزة والكسائي: «كبير الإثم» على الإفراد الذي يراد به الجمع وهذا كقوله: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: ١٠٠]، وكقوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٩] ونحو هذا.
واختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في
وقوله: إِلَّا اللَّمَمَ هو استثناء يصح أن يكون متصلا، وإن قدرته منقطعا ساغ ذلك، واختلف في معنى اللَّمَمَ فقال ابن عباس وابن زيد معناه: ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام. قال الثعلبي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه: إن سبب الآية أن الكفار قالوا للمسلمين: قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا، فنزلت الآية وهي مثل قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٣] وقال ابن عباس وغيره: ما ألموا من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه، ذكر الطبري عن الحسن أنه قال في اللمة: من الزنا والسرقة والخمر ثم لا يعود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كالذي قبله، فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي، وعلى هذا أنشدوا وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي وغيرهم: اللَّمَمَ صغار الذنوب التي بين الحدين الدنيا والآخرة وهي ما لا حد فيه ولا وعيد مختصا بها مذكورا لها، وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها، وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها، ويعضد هذا القول، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا لا محالة، فزنى العين: النظر، وزنى اللسان: المنطق، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإن تقدم فرجه فهو زان، وإلا فهو اللمم». وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار فالناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم مع ذلك الحسنى إذا اجتنبوا التي هي في نفسها كبائر. وتظاهر العلماء في هذا القول، وكثر المائل إليه. وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال:
اللَّمَمَ ما دون الشرك، وهذا عندي لا يصح عن عبد الله بن عمرو. وذكر المهدوي عن ابن عباس والشعبي: اللَّمَمَ ما دون الزنا. وقال نفطويه: اللَّمَمَ ما ليس بمعتاد. وقال الرماني: اللَّمَمَ الهم بالذنب وحديث النفس به دون أن يواقع. وحكى الثعلبي عن سعيد بن المسيب: أنه ما خطر على القلب، وذلك هو لمة الشيطان. قال الزهراوي وقيل: اللَّمَمَ نظرة الفجأة، وقاله الحسين بن الفضل. ثم أنس تعالى بعد هذا بقوله: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.
وقوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية، روي عن عائشة أنها نزلت بسبب قوم من اليهود كانوا يعظمون أنفسهم ويقولون للطفل إذا مات لهم هذا صديق عند الله، ونحو هذا من الأقاويل المتوهمة، فنزلت الآية فيهم، ثم هي بالمعنى عامة جميع البشر، وحكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم، وقوله: أَعْلَمُ بِكُمْ قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه: هو عالم بكم. وقال
فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون، والإنشاء من الأرض: يراد به خلق آدم عليه السلام، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء. و: أَجِنَّةٌ جمع جنين.
وقوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه، ويحتمل أن يكون نهيا عن أن يزكي بعض الناس بعضا وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته. وأما تزكية الإمام والقدرة أحدا ليؤتم به أوليتهم الناس بالخير فجائز، وقد زكى رسول الله ﷺ بعض أصحابه أبا بكر وغيره، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها، وأصل التزكية إنما هو التقوى، والله تعالى هو أعلم بتقوى الناس منكم.
وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى الآية، قال مجاهد وابن زيد وغيرهما نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وذلك أنه سمع قراءة النبي ﷺ وجلس إليه ووعظه رسول الله، فقرب من الإسلام، وطمع النبي عليه السلام فيه، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح، فنزلت الآية فيه. وذكر الثعلبي عن قوم أنها نزلت في عثمان بن عفان في قصة جرت له مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح وذلك كله عندي باطل، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله، وقال السدي: نزلت في العاصي بن وائل، فقوله: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، وعلى هذا القول في المال، وقال مقاتل بن حيان في كتاب الثعلبي المعنى: وأعطى من نفسه قليلا من قربه من الإيمان ثم أَكْدى أي انقطع ما أعطى، وهذا بين من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية. و: تَوَلَّى معناه: أدبر وأعرض ومعناه عن أمر الله. وَأَكْدى معناه: انقطع عطاؤه وهو مشبه بالحافر في الأرض، فإذا انتهى إلى كدية، وهي ما صلب من الأرض وقف وانقطع حفره، وكذلك أجبل الحافر إذ انتهى إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع عمله: أكدى وأجبل.
وقوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى معناه: أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر فإن المتحمل عنه ينتفع بذلك، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وهو له فيه بصيرة أم هو جاهل لم ينبأ أي يعلم ما في صحف موسى وهي التوراة وفي صحف إبراهيم وهي كتب نزلت عليه من السماء من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، أي لا تحمل حاملة حمل أخرى، وإنما يؤخذ كل واحد بذنوب نفسه، أي فلما كان جاهلا بهذا وقع في عطاء ماله للذي قال له: إني أتحمل عنك درك الآخرة.
واختلف المفسرون في معنى قوله: وَفَّى ما هو الموفى؟ فقال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي في القتل ونحوه فوفى إبراهيم وبلغ هذا الحكم من أنه لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وقال ابن عباس أيضا والربيع: وفى طاعة الله في أمر ذبح ابنه. وقال الحسن وابن جبير وقتادة وغيره، وفى
وقرأ ابن جبير وأبو مالك وابن السميفع: «وفى» مخففة الفاء، والخلاف فيما وفى به كالخلاف فيما وفاه على القراءة الأولى التي فسرنا، ورويت القراءة عن النبي عليه السلام، وقرأها أبو أمامة.
والوزر: الثقل، وأنث الوازرة إما لأنه أراد النفس وإما أراد المبالغة كعلامة ونسابة وما جرى مجراها و «أن» في قوله: أَلَّا تَزِرُ مخففة من الثقيلة، وتقديرها أنه لا تزر، وحسن الحائل بينها وبين الفعل إن بقي الفعل مرتفعا، فهي كقوله: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى [المزمل: ٢٠] ونحوه، و «أن» في موضع رفع أو خفض، كلاهما مرتب.
قوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٩ الى ٥١]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣)
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١)
قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ وقوله بعد ذلك وَأَنَّهُ، وَأَنَّهُ معطوف كل ذلك على أن المقدرة أولا في قوله: «أنه لا تزر» وهي كلها بفتح الألف في قراءة الجمهور. وقرأ أبو السمال قعنب «وإن إلى ربك» بكسر الهمزة فيهما وفيما بعدها وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى منسوخ بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: ٢١] وهذا لا يصح عندي على ابن عباس، لأنه خبر لا ينسخ، ولأن شروط النسخ ليست هنا، اللهم إلا أن يتجوز في لفظة النسخ ليفهم سائلا، وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلها سعي غيرها، والدليل حديث سعد بن عبادة قال: يا رسول الله هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: نعم.
وقال الربيع بن أنس: «الإنسان» الذي في هذه الآية هو الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.
وسأل عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦١] فقال ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بفضل الله ما شاء الله، فقبل عبد الله رأس الحسين. وقال الجمهور: الآية محكمة. والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو
واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن ولا مال. وفرق بعض العلماء بين البدن والمال، وهي عندي كلها فضائل للعامل وحسنات تذكر للمعمول عنه، وقد أمر رسول الله ﷺ سعدا بالصدقة عن أمه، والسعي: التكسب.
وقوله: يُرى فاعله حاضر والقيامة، أي يراه الله ومن شاهد الأمر، وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة». وفي قوله: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين. و: الْمُنْتَهى يحتمل أن يريد به الحشر، والمصير بعد الموت فهو منتهى بالإضافة إلى الدنيا وإن كان بعده منتهى آخر وهو الجنة أو النار، ويحتمل أن يريد ب الْمُنْتَهى: الجنة أو النار، فهو منتهى على الإطلاق، لكن في الكلام حذف مضاف إلى عذاب ربك أو رحمته. وقال أبي بن كعب قال النبي عليه السلام في قوله تعالى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى لا فكرة في الرب. وروى أنس أن النبي ﷺ قال: «إذا ذكر الرب فانتهوا». وقال أبو هريرة: خرج رسول الله ﷺ يوما إلى أصحابه فقال: «فيم أنتم» ؟ قالوا: نتفكر في الخالق، فقال: «تفكروا في الخلق، لا تتفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة» الحديث، وذكر الضحك والبكاء لأنهما صفتان تجمعان أصنافا كثيرة من الناس، إذ الواحدة دليل السرور، والأخرى دليل الحزن في الدنيا والآخرة، فنبه تعالى على هاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده، وقال مجاهد المعنى: أَضْحَكَ الله أهل الجنة وَأَبْكى أهل النار. وحكى الثعلبي في هذا أقوالا استعارية كمن قال أَضْحَكَ الأرض بالنبات، وَأَبْكى السماء بالمطر، ونحوه:
وأَماتَ وَأَحْيا. وحكى الثعلبي قولا إنه أحيا بالإيمان وأمات بالكفر. والزَّوْجَيْنِ في هذه الآية يريد به المصطحبين من الناس من الرجل والمرأة وما ضارع من الحيوان، والخنثى متميز ولا بد لأحد الجهتين.
والنطفة في اللغة: القطعة من الماء كانت يسيرة أو كثيرة. ويراد بها هاهنا ماء الذكران.
وقوله: تُمْنى يحتمل أن يكون من قولك: أمنى الرجل: إذا خرج منه المني، ويحتمل أن يكون من قولك منى الله الشيء: إذا خلقه، فكأنه قال: إذا تخلق وتقدر، و: النَّشْأَةَ الْأُخْرى هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البلي في التراب. وقرأ الناس: «النشأة» بسكون الشين والهمز والقصر، وقرأ أبو عمرو والأعرج: «النشآة» ممدودة.
وَأَقْنى معناه: أكسب، يقال: قنبت المال، أي كسبته، ثم يعدى بعد ذلك بالهمزة، وقد يعدى بالتضعيف، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
كم من غني أصاب الدهر ثروته | ومن فقير يقنى بعد إقلال |
وقال ابن عباس: أَقْنى قنع. والقناعة خير قنية، والغنى عرض زائل، فلله در ابن عباس.
و: الشِّعْرى نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد: هو من زمر الجوزاء وهما شعريان، إحداهما:
الغميصاء، والأخرى العبور، لأنها عبرت المجرة، وكانت خزاعة ممن يعبد هذه الشِّعْرى، ومنهم أبو كبشة، ذكره الزهراوي واسمه عبد العزى، فلذلك خصت بالذكر، أي وهو رب هذا المعبود الذي لكم.
وعاد: هم قوم هود، واختلف في معنى وصفها ب الْأُولى، فقال ابن زيد والجمهور: ذلك لأنها في وجه الدهر وقديمه، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة، وقال الطبري: سميت أولى، لأن ثم عادا أخيرة وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أبين، لأن هذا الأخير لم يصح. وقال المبرد عادا الأخيرة هي ثمود، والدليل قول زهير: [الطويل] كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم ذكره الزهراوي، وقيل الأخيرة: الجبارون.
وقرأ ابن كثير وعاصم، وابن عامر وحمزة، والكسائي «عاد الأولى» منونة وبهمز. وقرأ نافع فيما روي عنه: «عادا الأولى» بإزالة التنوين والهمز. وهذا كقراءة من قرأ «أحد الله» وكقول الشاعر [أبو الأسود الدؤلي] :[المتقارب] ولا ذاكر الله إلا قليلا وقرأ قوم: عاداً الْأُولى والنطق بها «عادن الأولى». واجتمع سكون نون التنوين وسكون لام التعريف فكسرت النون للالتقاء، ولا فرق بينهما وبين قراءة الجمهور ولا ترك الهمز. وقرأ نافع أيضا وأبو عمرو بالوصل والإدغام «عاد الولي» بإدغام النون في اللام ونقل حركة الهمزة إلى اللام. وعاب أبو عثمان المازني والمبرد هذه القراءة، وقال: إن هذا النقل لا يخرج اللام عن حد السكون وحذف ألف الوصل أن تبقى كما تقول العرب إذا نقلت الهمزة من قولهم الأحمر فإنهم يقولون الحمر جاء فكذلك يقال هاهنا «عادا الولي»، قال أبو علي: والقراءة سائغة، وأيضا فمن العرب من يقول: لحمر جاء فيحذف الألف مع النقل ويعتد بحركة اللام ولا يراها في حكم السكون، وقرأ نافع فيما روي عنه «عادا الأولى» بهمز الواو، ووجه ذلك أنه لما لم يكن بين الواو والضمة حائل تخيل الضمة عليها فهمزها كما تهمز الواو المضمومة، وكذلك فعل من قرأ: «على سؤقه»، وكما قال الشاعر [جرير] :[الوافر] لحبّ المؤقدان إلى موسى وهي لغة. وقرأ الجمهور: «وثمودا» بالنصب عطفا على عاد. وقرأ عاصم وحمزة والحسن وعصمة «وثمود» بغير صرف، وهي في مصحف ابن مسعود بغير ألف بعد الدال.
قوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٢ الى ٦٢]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
نصب قَوْمَ نُوحٍ عطفا على «ثمود» وقوله: مِنْ قَبْلُ لأنهم كانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض، ونُوحٍ أول الرسل، وجعلهم أَظْلَمَ وَأَطْغى: لأنهم سبقوا إلى التكذيب دون اقتداء بأحد قبلهم، وأيضا فإنهم كانوا في غاية من العتو، وكان عمر نوح قد طال في دعائهم، فكان الرجل يأتي إليه مع ابنه فيقول: أحذرك من هذا الرجل فإنه كذاب، ولقد حذرني منه أبي وأخبرني أن جدي حذره منه، فمشت على ذلك أخلافهم ألفا إلا خمسين عاما.
والْمُؤْتَفِكَةَ قرية قوم لوط بإجماع من المفسرين، ومعنى الْمُؤْتَفِكَةَ: المنقلبة لأنها أفكت فائتفكت، ومنه الإفك، لأنه قلب الحق كذبا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «والمؤتفكات أهوى» على الجمع. وأَهْوى معناه: طرحها من هواء عال إلى أسفل، هذا ما روي من أن جبريل عليه السلام اقتلعها بجناحه حتى بلغ بها قرب السماء ثم حولها قلبها فهبط الجميع واتبعوا حجارة وهي التي غشاها الله تعالى.
وقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى مخاطبة للإنسان الكافر، كأنه قيل له: هذا هو الله الذي له هذه الأفاعيل، وهو خالقك المنعم عليك بكل النعم، ففي أيها تشك. و: تَتَمارى معناه: تتشكك. وقرأ يعقوب «ربك تمّارى» بتاء واحدة مشددة. وقال أبو مالك الغفاري إن قوله: أَلَّا تَزِرُ [النجم: ٣٨] إلى قوله: تَتَمارى هو في صحف إبراهيم وموسى.
وقوله: هذا نَذِيرٌ يحتمل أن يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول قتادة وأبي جعفر ومحمد بن كعب القرظي، ويحتمل أن يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، وقال أبو مالك: الإشارة بهذا النذير إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم. و: نَذِيرٌ يحتمل أن يكون بناء اسم فاعل، ويحتمل أن يكون مصدرا، ونذر جمع نذير. وقال الْأُولى بمعنى أنه في الرتبة والمنزلة والأوصاف من تلك المتقدمة، والأشبه أن تكون الإشارة إلى محمد.
وقوله: أَزِفَتِ معناه: قربت القريبة. و: الْآزِفَةُ عبارة عن القيامة بإجماع من المفسرين.
بان الشباب وأمسى الشيب قد أزفا... ولا أرى لشباب ذاهب خلفا
وقوله: كاشِفَةٌ يحتمل أن يكون صفة لمؤنث، التقدير: حالة كاشِفَةٌ، أو منة كاشِفَةٌ. قال الرماني أو جماعة، ويحتمل أن يكون مصدرا كالعاقبة وخائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غافر: ١٩]. ويحتمل أن يكون بمعنى كاشف، والهاء للمبالغة، كما قال: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة: ٨] وأما معنى كاشِفَةٌ فقال الطبري والزجاج: هو من كشف السر، أي ليس من دون الله من يكشف وقتها ويعلمه. وقال الزهراوي عن منذر بن سعيد: هو من كشف الضر ودفعه، أي ليس من يكشف خطبها وهولها.
وقرأ طلحة: لَيْسَ لَها مما تدعون مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ وهي على الظالمين سوءات الغاشية، وهذا الحديث هو القرآن.
وقوله: أَفَمِنْ توقيف وتوبيخ. وفي حرف أبيّ وابن مسعود: «تعجبون» «تضحكون» بغير واو العطف، وفي قوله عز وجل: وَلا تَبْكُونَ حض على البكاء عند سماع القرآن. وروى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله ﷺ قال: «إن هذا القرآن أنزل يخوف، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» ذكره الثعلبي، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسر ابن عباس وغيره من المفسرين. وقال الشاعر [هذيلة بنت بكر] :[مجزوء الكامل]
قيل قم فانظر إليهم... ثم دع عنك السمود
وسمد بلغة حمير غنى، وهو معنى كله قريب من بعض، وأسند الطبري عن أبي خالد الوالي قال:
خرج علينا عليّ ونحن قيام ننتظر الصلاة فقال: ما لي أراكم سامدين.
قال القاضي أبو محمد: يشبه أنه رآهم في أحاديث ونحوه مما يظن أنه غفلة ما. وقد قال إبراهيم كانوا يكرهون أن ينتظروا خروج الإمام قياما، وفي الحديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني».
ثم أمر تعالى بالسجود وعبادة الله تحذيرا وتخويفا، وهاهنا سجدة في قول كثير من أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وردت بها أحاديث صحاح، وليس يراها مالك رحمه الله، وقال زيد بن وثاب إنه قرأ بها عند النبي ﷺ فلم يسجد.