تفسير سورة الشعراء

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٢٦ – سورة الشعراء :
هي مكية، إلا قوله تعالى ١ :﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون ﴾ إلى آخرها. وقوله ٢ :﴿ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماؤا بني إسرائيل ﴾ فقد روي أنهما نزلتا بالمدينة، وكان شعراؤه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حسان وكعب بن مالك وابن رواحة، رضي الله عنهم.
وقال الداني : روي بسند صحيح أنها نزلت في شاعرين تهاجيا في الجاهلية، مع كل واحد منهم جماعة. فالسورة على هذا كلها مكية. انتهى.
وقال المهايمي : سميت هذه السورة بها، لاختصاصها بتمييز الرسل عن الشعراء، لأن الشاعر، إن كان كاذبا فهو رئيس الغواة لا يتصور منه الهداية، وإن كان صادقا لا يتصور منه الافتراء على الله تعالى، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. انتهى.
يشير إلى أن ذكر الشعراء فيها، لبيان أنهم في معزل عن الرسالة وتبرئة مقام الرسول صلوات الله عليه وسلامه، عما افتروا عليه من أنه شاعر ؛ فالسورة على هذا كلها مكية، ردا لفريتهم.
ولما كان لفظ ( الشعراء ) عاما، جاز حمله على ما حكوه، لشموله له، لا أنه نزل فيه خاصة دون غيره. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، إيضاح ذلك. وهي مئتان وسبع وعشرون آية. قال ابن كثير : وقع في تفسير مالك المروي عنه، تسميتها ( الجامعة ).
١ (٢٦ الشعراء ٢٢٤ – ٢٢٧)..
٢ (٢٦ الشعراء ١٩٧)..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١)
طسم سبق في سورة البقرة الأقوال في هذه الفواتح، وأن الأكثر على أنها اسم للسورة، فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف، وهو أظهر من رفعه على الابتداء، أو النصب بتقدير: اقرأ ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢]
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الإشارة إلى السورة، وما فيها من معنى البعد للتفخيم، ومحله الرفع على الابتداء، خبره ما بعده أو بدل مما قبله. والمراد ب (الكتاب) القرآن. وب (المبين) الظاهر إعجازه وآيته وبرهانه. ومن (أبان) بمعنى بان- أو المبين للحق من الباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٣]
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
لَعَلَّكَ باخِعٌ أي قاتل نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لعدم إيمانهم.
و (لعل) للإشفاق. أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على عدم إيمانهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٤]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي ملجئة لهم إلى الإيمان، قاسرة عليه فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي منقادين، والجملة مستأنفة لتعليل ما يفهم من الكلام من النهي عن التحسر المذكور، ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة
الله تعالى حتما، فلا وجه للطمع فيه، والتألم من فواته. قاله أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٥]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي مكذبين، استهزاء وإصرارا على ما كانوا عليه من الكفر. وتقديم نظير الآية في أول سورة الأنبياء، وتحقيق معنى قوله تعالى (محدث) فتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٦]
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحواله الباهرة وشؤونه القاهرة، وظهور أعلامه، وبقاء أيامه، وفيه وعيد لهم بحلول الذل بهم، ونزول الصّغار وقتئذ بدارهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٧]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي صنف مرضيّ كثير المنافع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٨]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لصرفهم اختيارهم إلى جانب الكفر، وعدم تدبرهم في هذه الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٩]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي فهو القادر على الانتقام منهم بلا ممانع، والرحيم بإمهاله وحلمه عنهم، فلينتبهوا قبل أن يحل بهم ما حلّ بفرعون وقومه، ولذا استأنف نبأ موسى عليه السلام معه، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣)
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، أَلا يَتَّقُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي في أداء الرسالة، في بسطة من المقال فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي ليوازرني ويشدّ به عضدي. والمفعول محذوف، أي ملكا أو جبريل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ وهو قتل القبطيّ، المبسوط في غير هذه السورة فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا أي لا تخف إنك من الآمنين فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ مزيد تسلية لهما، بكمال الحفظ والنصرة.
قال أبو السعود: مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم، ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم، مبالغة في الوعيد بالإعانة.
انتهى.
ولو قيل هو كناية عن ذلك، كان أولى. لجواز بقاء المعنى الحقيقيّ معها، وهو هنا كذلك فهو تعالى مستمع لهما وحافظ وناصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦ الى ١٧]
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧)
ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ليتحرروا من عبوديتك وعذابك المهين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨ الى ١٩]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ
يعني قتل القبطي. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي بنعمتي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٠]
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي الجاهلين بكون الوكزة مفضية إلى القتل.
أو الذاهبين عن صواب الحلم والعفو والدفع بالأحسن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢١]
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أي تقتلوني على القتل الخطأ، فنجاني الله منكم، وزادني إنعاما فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي حكمة أو نبوة وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي لإبطال دعواك الربوبية، واستئصال شبه ما عليه قومك من الوثنية. وطلب إرسال قومي إلى مواطنهم الأصلية، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٢]
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ إبطال لمنته عليه في التربية، ببيان أنها في الحقيقة نقمة. لأنه كان اتخذ بني إسرائيل عبيدا مسخرين في شؤونه، مذللين لأموره، مقهورين لعسفه. وموسى عليه السلام، وإن لم ينله من ذلك ما نالهم، إلا أنه لما كان منهم، فكأنه وصل إليه، وحلّ به، كما قيل (وظلم الجار إذلال المجير) أي لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم، وما أنا إلا عضو منهم. وفي فحواها تقريعه بالكبرياء المتناهية، والقسوة البالغة، والسلطة الغالية التي من ورائها الفرج القريب، والمخرج العجيب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ أي لهذا النبأ العجيب، وهو توحيد المعبود.
وإنما عدّه جديرا بأن يتعجبوا منه، لأنهم، على ما حققه المؤرخون، غلوا في عبادة الأصنام وتعديد الآلهة غلوّا أربوا على كل من سواهم في الضلال. فكانوا يسجدون للشمس والقمر، والنجوم، والأشخاص البشرية، والحيوانات، حتى الهوامّ، وأدنى حشرات الأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء.
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي شيئا ما، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته. وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون.
تنبيه:
ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة، لا يقر بخالق، ولا يعترف بمعبود لظاهر قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨]، وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه.
قال ابن كثير: ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط.
فإنه لم يكن مقرّا بالصانع، حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر. انتهى.
وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ الوثيق، أنه كان من الوثنيين الغالين. وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين.
وعليه فمعنى قوله (ما علمت لكم من إله غيري) أي مطاع عظيم، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر. فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية، من طلب الاكتناه، وتعجبه من جوابه، ثم رميه بالجنون، ثانيا، لعدوله عن الكنه إلى الأثر. ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها، والصدع بما يؤلم عظمته، ويغمز جبروته وهذا هو الذي أذهب إليه، فإن القوم
452
بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه. وقد عول عليه كثير من أهل النظر، ولا بأس بأن نأثر شيئا من لطائفهم فيه.
قال الرازيّ: السؤال ب (ما) طلب لتعريف حقيقة الشيء. وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة، أو بشيء من أجزائها، أو بأمر خارج عنها، أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال لأن المعرف معلوم قبل المعرف. فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما، وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها، فهاهنا في حق واجب الوجود محال، لأن التعريف بالأمور الداخلة، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا لأن كل مركب، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه.
وكل واحد من أجزائه فهو غيره فكل مركب محتاج إلى غيره. وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته. وكل مركب فهو ممكن، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركبا. فواجب الوجود ليس بمركب، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه. ولما بطل هذان القسمان، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود، إلا بلوازمه وآثاره.
ثم إن اللوازم قد تكون خفية، وقد تكون جلية. ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية. وأظهر آثار ذات واجب الوجود، وهو هذا العالم المحسوس، وهو السموات والأرض وما بينهما.
فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ إلا ما قاله موسى عليه السلام، وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما. فأما قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته. لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما. فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال، إلا هذا الجواب.
ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق، قال فرعون لمن حوله أَلا تَسْتَمِعُونَ وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أنا أطلب منه الماهية، وخصوصية الحقيقة، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية.
453
وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ، فهذا المذكور، إما أن يكون معرّفا لمجرد كونه أمرا ما يلزمه ذلك اللازم. أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال. لأن كونه أمرا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفا. فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفا لنفسه، وهو محال.
والثاني محال، لأن العلم بأنه أمر ما، يلزمه اللازم الفلانيّ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية. فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ، لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه ربّا للسموات والأرض وما بينهما جوابا عن قوله وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فأجاب موسى عليه السلام بأن قال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض، إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا. وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين، واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخالق والمؤثر. ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده، كونهم واجبين لذواتهم. لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم، ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته. وما لم يكن واجبا لذاته، استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول، إليه. فقال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من سؤال (ما) طلب الماهية، وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون، لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه.
فقال موسى عليه السلام رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب، لا يتم إلا بتدبير مدبر، وأما قوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فكأنه عليه السلام قال: إن كنت من العقلاء، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك، إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته، وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته. فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته. وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته، فقد ثبت أن كل من كان عاقلا، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.
ثم قال الرازيّ: وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ
454
فَوْقَ عِبادِهِ
[الأنعام: ١٨]، أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي، هي غير معقولة للبشر، انتهى.
وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنّحل) في الكلام في المائية: ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له. وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو، إلى أن لله تعالى مائية. قال ضرار: لا يعلمها غيره. قال ابن حزم: والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق، أن له مائية هي إنيّته نفسها، وإنه لا جواب لمن سأل: ما هو البارئ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام إذ سأله فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ ونقول أنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام. لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه. ولو لم يكن جوابا صحيحا تامّا لا نقص فيه، لما حمده الله تعالى.
ثم قال: هاهنا نقف ولا نعلم أكثر. ولا هاهنا أيضا شيء غير هذا، إلا ما علمنا ربنا تعالى، من سائر أسمائه، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه.
قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: ١١٠]، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفيّ عن الله عزّ وجلّ، وواجب في غيره، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له. فصح يقينا أننا نعلم الله عزّ وجلّ حقّا، ولا نحيط به علما. انتهى ملخصا.
ولما سمع فرعون تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٩]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ قرئ بهمز وبدونه، وهما لغتان. يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته. والمعنى أخرهما ومناظرتهما لوقت اجتماع السحرة وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي شرطا يحشرون السحرة، أي يجمعونهم عندك يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي لرؤية ما يعارض معجزة موسى. وكان خامر فؤادهم عجب منها واندهاش. والاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٠ الى ٤٦]
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي تبتلع ما موّهوا به إفكا وزورا فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي على وجوههم منقادين له بالإيمان، لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر. وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له، التبحر في كل فن نافع وإن لم يكن من العلوم الشرعية، فإن هؤلاء السحرة. لتبحرهم في علم السحر، علموا حقيقة ما أتى به موسى عليه السلام، وأنه معجزة. فانتقلوا بزيادة علمهم الذي أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان، لفرقهم بين المعجزة والسحر. قاله القاضي شهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي فعلمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم. أو فواعدكم ذلك وتواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حقّ.
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي جانبين متخالفين.
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع، لأنا بفعلك هذا وصبرنا عليه، شهادة على حقيّته، إلى ثوابه ورحمته راجعون، فننقلب خير منقلب، شهداء سعداء إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ أي لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي من أظهر الإيمان كفاحا، مجاهرة بالحق بلا تقية. ثم أشار تعالى إلى خروج موسى بقومه من مصر بإيحائه إليه. وكان إذن فرعون له بذلك بعد ما أراه الآيات البينات ثم ندم عليه، فأتاه الإذن الإلهيّ به، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٥٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي سر بهم ليلا، فإنه إذا وصل خبر سيركم إلى فرعون، لا بد أن يتبعكم بجنوده لإرجاعكم، إلا أنكم تتقدمونه ولا يدرككم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٥٣]
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ أي حين أخبر بسراهم فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين لعسكره، قائلين ما يقلل به الأعداء في أعين الجنود:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨)
إِنَّ هؤُلاءِ أي بني إسرائيل الخارجين لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذن منا وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي من مكرهم وسعيهم بالفساد في الأرض فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ يعني: المنازل الحسنة والمجالس البهية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٥٩]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
كَذلِكَ إشارة إلى مصدر، أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، فهو في محل نصب صفة لمصدر مقدر، أو هو خبر لمحذوف، أي الأمر كذلك.
قال الشهاب: وإذا قدر (الأمر كذلك) فالمراد تقريره وتحقيقه، والجملة معترضة حينئذ كالتي بعدها. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ. قال الشهاب: هو استعارة أي ملكناها لهم تمليك الإرث بعد زمان. وكأن العاقبة، لما كانت لهم، صاروا كأنهم ملكوها حين خروج أربابها منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٦٠]
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي لحقوهم وقت شروق الشمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣)
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقاربا رأى كل واحد منهما الآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون قالَ كَلَّا أي لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي لطريق النجاة منهم. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أي فضربه فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي كل جزء متفرق منه كالجبل الكبير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٤ الى ٦٨]
وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
وَأَزْلَفْنا أي قرّبنا ثَمَّ أي حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ يعني قوم فرعون، أي قدمناهم إلى البحر حتى دخلوا على أثر بني إسرائيل وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ أي بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي بإطباقه عليهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لعبرة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي مع مشاهدة هذه الآية العظمى التي توجب تصديقه بعدها في كل ما جاء به. منهم من بقي على كفره كبقية القبط. ومنهم من عصاه واقترح عليه ما اقترح كبعض بني إسرائيل. وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه. ووعد له ووعيد لمن عصاه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٤]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على مشركي العرب نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي ما الذي تدعونه وتلجئون إليه. وكان عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم، أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي مقيمين على عبادتها لا نتخطاها إلى غيرها. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي مثل عبادتنا يعبدون، فقلدناهم.
قال أبو السعود: اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرّة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧٥ الى ٨١]
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩)
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)
459
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي أفأبصرتم، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه أنتم وسلفكم. فإنهم بغضائي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أي لكن رب العالمين ليس كذلك، فإنه وليّ في الدنيا والآخرة، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا، فإنه تعالى وحده يهدي كلا لما خلق له. والموصول صفة ل (رب) وجعله مبتدأ وما بعده خبرا- غير حقيق بجزالة التنزيل. قاله أبو السعود.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسيّ كثيرا.
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه. وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى. بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال الخضر: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: ٧٩]، وقال: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [الكهف: ٨٢]، وكقول الجن في آية: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: ١٠]، ولأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، لا يقدر على ذلك أحد سواه. فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان، وقد أضافه تعالى إلى نفسه، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب؟ أجيب كما في (الانتصاف) : بأن الموت قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عامّ لا يخص، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت فالتأسي بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا. فاقتضى العلوّ في الأدب مع الله تعالى، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه. ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض، أخبر عن وقوعه بتّا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض، فلما كان قد يتفق وقد لا، أورده مقرونا
460
بشرط إذا فقال: وَإِذا مَرِضْتُ وكان ممكنا أن يقول والذي يمرضني فيشفيني، كما في غيره فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة، إلا لذلك. انتهى.
قال أبو السعود: وأما الإماتة، فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء، بدءا وإعادة، وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله تعالى: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ على أن الموت، لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية، بمعزل من أن يكون غير مطموع عنده عليه الصلاة والسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٨٢]
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي الجزاء. وخطيئته ما كان يراها هو صلوات الله عليه ويعدّها بالنسبة لمقامه الكريم.
قال أبو السعود: ذكره عليه الصلاة والسلام هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب مغفرة لما يفرط منهم وتلافيا لما عسى يندر منه عليه السلام من الصغائر، وتنبيها لأبيه وقومه على أن يتأملوا في أمرهم فيقفوا على أنهم من سوء الحال في درجة لا يقادر قدرها، فإن حاله عليه السلام، مع كونه في طاعة الله تعالى وعبادته، في الغاية القاصية، حيث كانت بتلك المثابة. فما ظنك بحال أولئك المغمورين في الكفر، وفنون المعاصي والخطايا؟.
وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، مع أنها إنما تغفر في الدنيا، لأن أثرها يومئذ يتبيّن، ولأن في ذلك تهويلا له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه، إن لم تغفر، وبعد أن ذكر عنايته تعالى به من مبدأ خلقه إلى بعثه، حمله ذلك على مناجاته، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي حكمة، أو حكما بين الناس بالحق، أو نبوة، لأن النبيّ ذو حكم وحكمة. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي وفقني لأنتظم في سلكهم، لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق.
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به ويقتدى بي في الخير كما قال تعالى:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:
١٠٨- ١١٠].
قال القتيبيّ: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكني العرب به عن الكلمة. وعليها حمل قول الأعشى:
إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها من علو، لا عجب منها ولا سخر
وجوّز أن يكون المعنى: واجعل لي صادقا من ذريتي، يجدّد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد. وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولذا
قال ﷺ «١» :«أنا دعوة أبي إبراهيم»
، فالكلام بتقدير مضاف. أي صاحب لسان صدق. أو مجاز بإطلاق الجزء على الكل، لأن الدعوة باللسان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي أي بهدايته وتوفيقه للإيمان. كما يلوح به تعليله بقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ أي طريق الحق.
قال الحافظ ابن كثير. قوله وَاغْفِرْ لِأَبِي إلخ.. كقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إبراهيم: ٤١]، وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى:
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤]، إلى قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه، فقال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة: ٥]، إلى قوله: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تلحق بي ذلّا وهوانا يومئذ
(١)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ١٢٧، عن العرباض بن سارية، بهذا النص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عبد الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك. دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين»
.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. ولا بنوه، وإن كانوا غاية في القوة. فإن الأمر ثمة ليس كما يعهدون في الدنيا، بل لا ينفع إلا الموافاة بقلب سليم من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشؤومة.
قال الزمخشريّ:
وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم. ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلا أن يكون حجة. ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عزّ وعلا، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه، إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته. ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين. ثم وصله بذكر يوم القيامة، وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
ثم بين سبحانه أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء، ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها. والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٤]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أي الضالّين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره.
وَقِيلَ لَهُمْ توبيخا على شركهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي يدفعون العذاب عنكم، أو يدفعونه عن أنفسهم، لأنهم وآلهتهم وقود النار. وهو قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ أي الآلهة وَالْغاوُونَ أي وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم.
قال الزمخشريّ: والكبكبة تكرير الكب- وهو الإلقاء على الوجه- جعل
التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٨]
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أي متبعوه من العصاة أَجْمَعُونَ قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي في العبادة، مع أنكم أعجز مخلوقاته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٩٩]
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي رؤساؤهم، كما في آية رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: ٦٧].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء. لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله. وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. فما أغنوا عنهم شيئا. كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ قال [الزخرف: ٦٧]، الزمخشريّ: و (الحميم) من الاحتمام وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من (الحامة) بمعنى الخاصة.
وهو الصديق الخاص. وفيه معنى الحدة والسخونة. كأنه يحتدّ ويحمى، لحماية خليله ورعايته، والقيام بمهماته. وهذا هو الذي قيل (إنه أعز من بيض الأنوق) وإنه اسم بلا مسمى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي
ذلِكَ
أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم لَآيَةً أي لحجة وعظة أراد أن يستبصر بها ويعتبر. وتقدم ما قاله الزمخشريّ في بديع سياقها وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر قوم إبراهيم مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أي بإنزال الكتب وإرسال الرسل، لدعوة خلقه إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١١١]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لأن تكذيب واحد كتكذيب الكل، لاتفاقهم في أصول الشرائع. وهو نفي الشريك وإثبات البارئ وتوحيده. أو لأن المراد بالجمع الواحد إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ يعنون من كان وضيع النسب قليل النصيب من الدنيا. فإن الشرف لديهم بالمال والنشب. والحسب والنسب، لا بالأخلاق الفاضلة. والملكات الكاملة. التي تحمل على تعرف الحق والتوجه إليه. ثم اعتناقه والمحافظة عليه.
وأكثر ما تكون الأخلاق في مثل المستضعفين. إذا قام عليهم ناصح أمين. إذ لا مال يطغيهم. ولا جاه يلهيهم. وذلك من العناية الربانية فيهم.
قال الزمخشريّ: وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم. وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله ﷺ فلما قال (ضعفاء الناس) قال (ما زالت أتباع الأنبياء كذلك) وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١١٢]
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢)
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جواب عما أشير إليه من قولهم إنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة. أي وما عليّ إلا الظاهر والله يتولى السرائر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١٣ الى ١١٨]
إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨)
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي أي ما حسابهم على أعمالهم، إلا على ربي المطلع على ضمائرهم لَوْ تَشْعُرُونَ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي المشتومين أو المرميين بالحجارة قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا.
قال الزمخشريّ: الفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم. لأنه يفتح المستغلق.
كما سمي فيصلا لأنه يفصل بين الخصومات. وفي (التهذيب) : الفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك. قال الأشعر الجعفيّ:
ألا من مبلغ عمرا رسولا فإنّي عن فتاحتكم غنيّ
وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١٩ الى ١٢٨]
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨)
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي فيما فعلنا بهم لعبرة وعظة لمن بعدهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عادٌ وهم قوم هود عليه السلام الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي مكان مرتفع، بكسر الراء وفتحها آيَةً أي علامة
تَعْبَثُونَ أي ببنائها لا للحاجة إليها. بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة. ولهذا أنكر عليهم ذلك. لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة. واشتغال بما هم في غنى عنه. وبما في الشغف به انصراف عن الجد في العمل، وصرف للأموال في غير ما خلقت له، من النظر للنفس والأهل والدين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٢٩]
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ أي منازل وقصورا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي راجين الخلود في الدنيا إشارة إلى أن عملهم ذلك، لقصر نظرهم على الدنيا والإعجاب بالآثار، والتباهي بالمشيدات والغفلة عن أعمال المجدّين البصيرين بالعواقب، الصالحين المصلحين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٣٠]
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠)
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي تأخذون بالعنف والشدة، كبرا وعتوّا. يقال (بطش به) أي أخذه بالعنف والسطوة، وتناوله بشدة عند الصولة، يصفهم عليه السلام بالقسوة وعدم الرحمة والشفقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٣١ الى ١٣٤]
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤)
فَاتَّقُوا اللَّهَ أي فيما آمركم به من التوبة والإيمان وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي فاشكروا نعماءه وارعوا بتقواه آلاءه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٣٥]
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي إن لم تقوموا بواجب شكرها عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٣٦]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦)
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي: فإنا لن نرعوي عما نحن عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٣٧]
إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
إِنْ هذا أي ما هذا الذي نحن عليه إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي عادتهم. كانوا يدينون به ويعتقدونه. فنحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين.
كانوا يلقفون مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٣٨ الى ١٤٦]
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي على ما نحن عليه من الأعمال فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أي بريح صرصر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي من الموت والزوال والعذاب.
قال الزمخشريّ: يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه. وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدعة. وقوله تعالى فِي ما هاهُنا أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم. ثم فسره بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤٧ الى ١٥٣]
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ أي لطيف لين وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أي بطرين. وقرئ (فرهين) وهو أبلغ. وقيل: فاره من (فره) بالضم، بمعنى حذق. وفره صفة من (فره) كفرح، بمعنى أشر وبطر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي الذين سحروا حتى غلب على عقولهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٤ الى ١٦٦]
ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦)
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ أي نصيب من الماء وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي لعظم ما تسيئون.
قال الزمخشريّ: عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب. لأن الوقت إذا عظم بسببه، كان موقعه من العظم أشد فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي الموعود، وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي مجاوزون حدّ الحكمة في ترك محل الحرث، الحافظ للنسل، الذي به حفظ النوع البشريّ، وإيثار ما لم يخلق لذلك، شرها في الشهوة الحيوانية، ومكافحة لتغيير الأوضاع الربانية.
ونقل السيوطيّ في (الإكليل) عن محمد بن كعب القرظيّ، أن معنى الآية:
تذرون مثله من المباح. فاستدل بذلك على إباحة وطء الزوجة من دبرها. انتهى.
وخالفه غيره. فاستدل بها على حظره. وبيانه كما في (الكشاف) و (حواشيه) أنّ (من) إمّا تبيين لما خلق، أو للتبعيض. ويراد به العضو المباح منهن، تعريضا بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم. ومن الوجه الثاني يستدل على حظر إتيان المرأة في غير المأتى. وتقريره في (الانتصاف) أن (من) لو كانت بيانا لكان المعنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج. ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران.
وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران، لا أن ترك الأزواج وحده منكر. ولو كان الأمر كذلك، لكان النصب في الثاني متوجها على الجمع. وكان إما الأفصح أو المتعين. وقد اجتمعت العامة- عامة القراء- على القراءة به مرفوعا ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة، أو في الجواز أصلا. فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد. فتعين حمل (من) على البعضية. فيكون المنكر عليهم أمرين. كل واحد منهما مستقل بالإنكار: أحدهما إتيان الذكران. والثاني مجانبة إتيان النساء في المأتى، رغبة في إتيانهن في غيره.
وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير. انتهى.
ومثله من دقيق الاستنباط الذي يوسع المدارك ويفتح للتفهم أبوابا، وإن أمكن أن يقال إن سياق الآية في الملام لهم، أعمّ مما ذكره ومن غيره. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٦٧]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ أي عن تقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من قريتنا عنفا، إذ لا تجانسنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٨ الى ١٦٩]
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي المبغضين غاية البغض. أي فأنا أرغب في الخروج عن دياركم، والراحة من مجاورتكم، لبغضي لعملكم، الآيل بكم إلى الدمار وخراب الديار. ولذا أتبعه بقوله رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من شؤمه وغائلته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٠ الى ١٧٢]
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً وهي امرأته. كما بينت في آيات فِي الْغابِرِينَ أي مقدّرا كونها من الباقين في العذاب. لأنها كانت راضية بعمل قومها.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) : كثيرا ما ورد في القرآن، خصوصا في هذه السورة، العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة. ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع. كقول فرعون لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: ٢٩]، وقولهم: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ [الشعراء: ١٣٦]، وقولهم: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: ١١٦]، وقوله: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ [الشعراء: ١٦٨]، وقوله تعالى في غيرها: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [التوبة: ٨٧]، وكذلك ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ [التوبة: ٨٦]، وأمثاله كثيرة والسر في ذلك، والله أعلم، أن التعبير بالفعل، إنما يفهم وقوعه خاصة.
وأما التعبير بالصفة، ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، فإنه يفهم أمرا زائدا على وقوعه. وهو أن الصفة المذكورة، كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به. كأنها لقب. وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة.
واعتبر ذلك لو قلت (رضوا بأن يتخلفوا) لما كان في ذلك مزيد على الإخبار بوقوع التخلف منهم لا غير. وانظر إلى المساق وهو قوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ كيف ألحقهم لقبا رديئا، وصيرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف، حتى صارت لقبا لا حقا به. وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك.
فتأمله واقدره قدره ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٣ الى ١٧٦]
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي عظيما غير معهود، هلكوا به فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ وهم أهل مدين. ووهم من زعم أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب عليه السلام: فإنهم أمة واحدة كانوا يقطنون (مدين) أضيفوا إليها تارة وأخرى إلى ما حوتها من الأيكة، وهي الأشجار الكثيرة الملتفة المجتمعة في مكان واحد.
قال الحافظ ابن كثير: والصحيح أنهم أمة واحدة. وصفوا في كل مقام بشيء.
ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء.
فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.
تنبيه:
قال أبو عمرو: وكتب في جميع المصاحف (ليكة) في الشعراء و (ص)، بلام من غير ألف قبلها. وفي الحجر وق (الأيكة) ولذا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بلام مفتوحة، من غير همز قبلها ولا بعدها. ونصب التاء غير منصرف. والباقون (الأيكة) بإسكان اللام وهمز وصل قبله، وهمزة قطع مفتوحة بعده، وجر التاء. وحمزة وصلا ووقفا على أصله. وقراءة الأولين استشكلها أبو علي الفارسيّ وغيره، بأنه لا وجه للفتح. لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الإعراب من الكسر إلى الفتح. أي فإن العرب تقول في الأحمر (الحمر ولحمر) وإثبات الألف واللام في (الأيكة) في سائر القرآن يدل- كما قال الزجاج- على أن حذف الهمزة منها التي هي ألف الوصل، بمنزلة قولهم (لحمر) وقرئ (ليكة) بالجر على الإضافة في غير السبع. لكن قال الزمخشريّ: هو الوجه. ومن قرأ بالنصب، وزعم أن ليكة، بوزن ليلة، اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة (ص) بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه. وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ. كما يكتب أصحاب النحو- لأن ولولي- على هذه الصورة، لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل. والقصة واحدة. على أن (ليكة) اسم لا يعرف. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٧ الى ١٨١]
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١)
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي حقوق الناس بإعطائهم ناقصا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٣]
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بالميزان السويّ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم حقوقهم. قال الزمخشريّ: وهو عام في كل حق ثبت لأحد، أن لا يهضم. وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه، ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه، إلا بإذنه تصرفا شرعيّا. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي بالقتل والغارة وقطع الطريق والجور والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨٤ الى ١٨٦]
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦)
وَاتَّقُوا الله الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي: وذوي الجبلة الأولين، وهم من تقدمهم من الخلائق قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما تدّعيه من النبوة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٨]
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قطعا منها. قرئ (كسفا) بسكون السين
وتحريكها. وكلاهما جمع (كسفة) إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي من الكفر والمعاصي، وبما تستوجبون عليها من العذاب، بإسقاط كسف أو غيره مما يشاؤه إذا جاء أجلكم، فإليه الحكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٨٩]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩)
فَكَذَّبُوهُ أي فاستمروا على تكذيبه ولم يتوبوا فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي لحلول العقاب فيهم، من جنس ما سألوه من إسقاط السماء قطعا عليهم. فقد أظلتهم سحابة أطبقت عليهم، وأظلمت الجوّ فوقهم، وغشيهم العذاب وأحاط بهم. و (الظلة) بالضم لغة، الغاشية، وما أطبق وستر من فوق.
قال الحافظ ابن كثير: ذكر تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن. كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق. ففي (الأعراف) ذكر أنهم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف: ٩١]، وذلك لأنهم قالوا لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: ٨٨]، فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وفي سورة هود قال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: ٩٤]، ذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧]، قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء. فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية، على وجه التعنت والعناد. فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٠ الى ١٩١]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي على أخذه العصاة بمقتضى أعمالهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي الغالب على تعذيب من شاء بما شاء، الرحيم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لئلا يكون للناس على الله حجة.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة، في أول كل قصة وآخرها، ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به. ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها؟
وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب، وأرسخ في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان. ولأن هذه القصص طرقت بها أذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير. لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ١٩٥]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
وَإِنَّهُ أي ما ذكر من الآيات الناطقة بالقصص المحكية، أو القرآن المتضمن لها لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي منزل منه حقا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ أي جبريل عليه السلام عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي منتظما في سلك أولئك المشهورين بتلك المزية الجليلة، والمنقبة الفاضلة. وهي الرسالة الإلهية بالإنذار، إزالة للأعذار بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي واضح المعنى جليّ المفهوم، ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة. والجار متعلق ب (نزل).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي في كتبهم. مع أنه صلوات الله عليه لم يصحب أهلها ولم يدرسها. فكفى بذلك شهيدا على صدقه أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي علامة على تنزيله الحق أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فيجدون مصداقه في زبرهم التي يدرسونها، كما قال تعالى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص: ٥٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٩]
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي ولو نزلناه بنظمه البديع على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فقرأه عليهم قراءة فصيحة، انفتق لسانه بها، خرقا للعادة، لكفروا به كما كفروا. ولتمحّلوا لجحودهم عذرا.
ولسموه سحرا، لفرط عنادهم كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي مكّنا هذا العناد والإباء عن الإيمان به، في قلوبهم وأنفسهم. وقررناه فيها لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي وهو ما هو، عياذا به منه أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي من طوال الأعمار وطيب المعايش وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى أي رسل ينذرونهم لأجل الموعظة والتذكرة وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي فنبغتهم بالعذاب قبل الإنذار، فإن ذلك محال في حكمة الحكم العدل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٠ الى ٢١٣]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ردّ لما زعمه المشركون من أن التنزيل الكريم من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين. وقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي الاستماع عن الملائكة لَمَعْزُولُونَ لانتفاء الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق عليهم، لخباثة نفوسهم بالذات، فهم مرجومون مبعدون عن الأنوار القدسية والبراهين السبوحية
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ في الدارين، عذاب تعديد الوجهة، واضطراب الفكر، وضعف الشبهة، وتوهين العقل في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٤ الى ٢١٩]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي الأدنين. وإنه لا يخلص أحدا منه إلا إيمانه بربه عزّ وجلّ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام «١» لما نزلت عليه: «يا فاطمة ابنة محمد! يا صفية ابنة عبد المطلب! يا بني عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئا. أنقذوا أنفسكم من النار».
وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك، ابن كثير. فراجعه. وقوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليّن جانبك لهم. مستعار من حال الطائر. فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
أي من النوم إلى التهجد وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي المصلين. أي تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود، إذا أممتهم. يعني: يراك وحدك ويراك في الجمع. والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلا وجمعا وفرادى. أو معنى الآية: لا يخفى عليه حالك، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين، في كفاية أمور الدين. أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه، والعناية به. كقوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: ٤٨].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢٠ الى ٢٢٢]
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي لما تقوله وبما تنويه هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٢٦- سورة الشعراء، باب عشيرتك الأقربين، حديث رقم ١٣٢٠، عن أبي هريرة.
أي (تتنزل) وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي كذاب في قوله، في الكلام من وجه إلى آخر، ولا يبالي بذلك. لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله.
وحيث كان المقام النبويّ منزها عن ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه.
قال القاشانيّ: لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والغدر والخيانة وسائر الرذائل. فمن تجرد عن صفات النفس، وترقى إلى جناب القدس، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع. فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية. وقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ تقرير لقوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية، المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢٣ الى ٢٢٦]
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)
يُلْقُونَ أي الأفّاكون السَّمْعَ أي إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي فيما يتكهنون به، وفيما يحكونه عن الشياطين. وقوله تعالى وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن رسول الله ﷺ من الشعراء، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقى الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مرّ من بيان أحوالهم المضادّة لأحواله عليه الصلاة والسلام.
والمعنى أن الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنه يتبعهم (أي يجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم) الغاوون الضالون عن السنن، لا غيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه. قاله أبو السعود.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استشهاد على أن الشعراء إنما
478
يتبعهم الغاوون، وتقرير له. أي ألم تر أنهم في كل واد من أودية الخيال يهيمون على وجوههم، لا يقفون عند حدّ معيّن، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب. ديدنهم الهجاء، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار. ومدح من لا يستحق المدح، والغلوّ في الثناء والهجاء.
لطيفة:
في ذكر الوادي والهيام، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه. قال ابن الأثير: استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها. وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراها- لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض. فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم. أي فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم، من تنزّهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة، وحاز جميع الكمالات القدسية، وفاز بجملة الملكات الإنسية، مستقرّا على المنهاج القويم، مستمرّا على الصراط المستقيم، ناطقا بكل أمر رشيد، داعيا إلى صراط العزيز الحميد، مؤيدا بمعجزات قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون الحكم الباهرة، وصنوف المعارف الزاهرة، مستقلة بنظم رائق، أعجز كل منطيق ماهر، وبكّت كل مفلق ساحر! قاله أبو السعود.
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدّا. هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون- على قولين: وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد «١» في (الطبقات) والزبير بن بكار في كتاب (الفكاهة) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عديّ بن نضلة على ميسان، من أرض البصرة. وكان يقول الشعر، فقال:
(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات، ٤/ ١٤٠، في ترجمة عدي بن نضلة.
479
ألا هل أتى الحسناء أنّ خليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنّتني دهاقين قرية ورقّاصة تحثو على كلّ مبسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلّم
لعلّ أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدّم
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إي والله! إنه ليسوؤني ذلك. ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدّم
وأيم الله! إنه ليسوؤني ذلك. وقد عزلتك).
فلما قدم على عمر. بكّته بهذا الشعر. وقال: والله! يا أمير المؤمنين! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك. ولكن، والله! لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلت ما قلت.
فلم يذكر أنه حدّه على الشراب، وقد ضمنه شعره. لأنهم يقولون ما لا يفعلون. ولكن ذمّه عمر ولامه على ذلك وعزله به.
وحكى الزمخشريّ عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبيّ مصرّعات وبتّ أفضّ أغلاق الختام
فقال: وقد وجب عليك الحدّ. فقال: يا أمير المؤمنين! قد درأ الله عني الحدّ بقوله وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.
ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٢٧]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي في شعرهم، بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة وَانْتَصَرُوا أي بشعرهم على عدوّهم بأن هجوه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي فكان هجاؤهم على
480
سبيل الانتصار ممن يهجوهم، جزاء وفاقا. قال الله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء: ١٤٨]، وقال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: ١٩٤]، قال ابن كثير:
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال لحسان «١» :«اهجهم، أو قال هاجهم، وجبريل معك»
ويروي الإمام أحمد «٢» عن كعب بن مالك أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل».
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الآية، ذم الشعر، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم، انتصارا. انتهى.
وحكى الزمخشريّ عن عمرو بن عبيد، أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر. فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام.
الثاني-
ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله ﷺ يبكون.
قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبيّ ﷺ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال: أنتم
. قال ابن كثير: لكن هذه السورة مكية، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار؟ وفي ذلك نظر. ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها. والله أعلم. ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم، حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع، وعمل صالحا، وذكر الله كثيرا، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيّئ. فإن الحسنات يذهبن السيئات. وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه. كما قال: عبد الله بن الزبعرى، لما أسلم:
(١) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، ٦- باب ذكر الملائكة، حديث رقم ١٥١٧، عن البراء.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم ١٥٣.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٤٥٦.
481
يا رسول المليك إنّ لساني... راتق ما فتقت، إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغيّ... ومن مال ميله مثبور
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، كان من أشد الناس عداوة للنبيّ ﷺ فهو ابن عمّه وأكثرهم له هجوا. فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقوله تعالى وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ تهديد شديد ووعيد أكيد، لما في (سيعلم) من تهويل متعلقه. وفي (الذين ظلموا) من إطلاقه وتعميمه. وفي (أي منقلب ينقلبون) من إبهامه وتهويله. كأنه لا يمكن معرفته، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
482

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النمل
قال المهايميّ: سميت بها، لاشتمالها على مقالتها، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم، عن ارتكاب المكاره عمدا، وهو مما يوجب الثقة بهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية وآياتها ثلاث وتسعون.
483
Icon