تفسير سورة الأنعام

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

﴿ ٱلْحَمْدُ ﴾.
قوله: (وهو العبد) أي الحمد بالمعنى اللغوي، وأما بالمعنى الاصطلاحي، فهو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو غيره. قوله: (الوصف بالجميل) زاد بعضهم على جهة التعظيم والتبجيل لإخراج التهكم كقوله تعالى:﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ ﴾[الدخان: ٤٩].
قوله: (ثابت) قدره إشارة إلى أن ﴿ للَّهِ ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ الذي هو الحمد. قوله: (وهل المراد به الإعلام بذلك) أي فتكون الجملة خبرية لفظاً ومعنى، وقوله (أو الثناء به) أي فهي خبرية لفظاً إنشائية معنى. قوله: (أو هما) أي فهي مستعملة في حقيقتها ومجازها، فالقصد إعلام العبيد للإيمان به، وإنشاء الثناء به، وهذا هو حمد القديم للقديم، وأل في الحمد يصح أن تكون للاستغراق أو الجنس أو العهد، واللام في لله للاستحقاق. قوله: (قاله الشيخ) أي الجلال المحلي. قوله: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ ﴾ صفة لله، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلية، كأنه قيل الوصف بالجميل ثابت له لأنه الخالق للسماوات والأرض، والمراد بالسماوات ما علا، فيشمل العرض، والمراد بالأرض ما سفل، فيشمل ما تحتها، وقدم السماوات لأنها أشرف من الأرض، لكونها مسكن المطهرين لا غير، والأرض وإن كان فيها الأنبياء لكنها احتوت على الأشرار والمفسدين، ولأنها سابقة على الأرض كما في سورة النازعات، قال تعالى:﴿ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾[النازعات: ٢٧] إلى أن قال:﴿ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾[النازعات: ٣٠] ولا منافاة بين آية فصلت، وبين آية النازعات، فإن الأرض خلقت أولاً كرة، ثم خلقت السماوات من دخان كما دلت عليه آية فصلت، ثم بنى السماء ورفعها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، وإنما جمع السماوات لاختلاف أجناسها، فإن الأولى من موج مكفوف، والثانية مرمرة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب والسابعة من ياقوتة حمراء. وأما الأرض وإن كانت سبعاً أيضاً إلا أنها من جنس واحد. واختلف هل الأرض مداد وهو الصحيح، فالتعداد باعتبار أقطارها، وقيل طباق كالسماء، وأما السماء فهي طباق باتفاق. قوله: (خلق) كظلمة الليل والأجرام الكثيفة أو معنوية كالشرك والمعاصي. قوله: (ونور) أي حسي كالشمس والقمر والنجوم معنوي وسببه الإسلام، أو حسي وسببه النار. قوله: ﴿ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ثم للترتيب الرتبي أي فبعد أن عرفوا الحق سووا به غيره فهو استبعاد لما وقع منهم. قوله: ﴿ بِرَبِّهِمْ ﴾ يحتمل أنه متعلق بكفروا، وقوله ﴿ يَعْدِلُونَ ﴾ مفعوله محذوف قدره المفسر بقوله غيره ومعناه التسوية كما قاله المفسر، ويحتمل أن بربهم متعلق بيعدلون والياء بمعنى عن، والتقدير يميلون عن ربهم لغيره، من العدول وهو الميل عن طريق الهدى.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ هذا من جملة الأدلة على كونه مستحقاً للحمد، كأنه قيل الوصف بالجميل لله لا لغيره، لأنه خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ولأنه خلقكم الخ. قوله: ﴿ مِّن طِينٍ ﴾ من لابتداء الغاية، أي مبتدئاً نشأتكم من الطين. قوله: (بخلق أبيكم آدم منه) دفع بذلك ما يقال إنهم مخلوقون من النطفة لا من الطين، فأجاب بأن الكلام على حذف مضاف، وذلك الطين الذي خلق منه آدم فيه من كل لون، وعجن بكل ماء، فخلق الله أولاده مختلفة الألوان والأخلاق، فاختلاف الألوان من اختلاف ألوان طينة أبيهم، واختلاف الأخلاق أصلها من آدم، فنسبة الطين لأولاده باعتبار نشأتها منه وسريانها فيهم، وقيل لا حذف في الآية بل كل إنسان مخلوق من الطين، لأنه ورد ما من مولود إلا ويذر على نطفته شيء من تراب تربته، فالنطفة عجبت بذلك التراب، فصدق كل إنسان أنه مخلوق من الطين، وقيل إنه من الطين باعتبار أن النطفة ناشئة عن الغذاء، وهو ناشئ عن الطين. قوله: ﴿ ثُمَّ قَضَىۤ ﴾ يصح أن يكون بمعنى أظهر، فثم للترتيب الزماني، أي فبعد تمام خلقه يظهر أجله للملك الموكل بالرحم، أو بمعنى قدر فثم للترتيب الذكري، لأن للتقدير هو الإرادة المتعلقة بالأجل أزلاً فهي متقدمة على وجوده فالترتيب في الذكر فقط، واعلم أن كل إنسان له أجلان، أجل ينقضي بموته، وأجل ينقضي ببعثه، فابتداء أجل الموت من حين وجوده، وابتداء أجل البعث من حين موته، ومجموع الأجلين محتم لا يزيد ولا ينقص، وما ورد من زيادة العمر للبار الواصل للرحم، ونقصه للعاصي القاطع للرحم، قيل محمول على البركة وعدمها، وقيل بتداخل أحدهما في الآخرة، فالطائع يزداد له في أجل الدنيا وينقص من أجل البرزخ، وبالعكس للعاصي، وبه فسر قوله تعالى﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾[فاطر: ١١] ويؤيد ذلك ما حكى أن داود عليه السلام كان له صديق قد دنا من أجله، فأخبره جبريل بأنه لم يبق من أجله إلا خمسون يوماً، فأخبر داود صديقه بذلك، فتأهب حتى إذا جاء اليوم المتمم للخمسين، أخذ غذاءه وذهب لداود ليودعه، فمر بفقير فأعطاه غذاءه، فنزل جبريل على داود وأخبره بأن الله زاد في عمره خمسين سنة بسبب صدقته في ذلك اليوم، فلما ذهب إليه وجده مسروراً فأخبره بذلك. قوله: ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ أجل مبتدأ ومسمى صفته وعنده خبره، وأضيف له سبحانه لأنه لا يعلم انتهاءه أحد غيره، وأما أجل الدنيا فهو في علم الملك، وبانقضائه يظهر للمخلوقات أيضاً. قوله: (لبعثكم) أي ينتهي إليه، وراء ذلك لا نهاية له. قوله: ﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ أي ثم بعد ظهور تلك الآيات العظيمة، تشكون في البعث وتنكرونه، وأفاد المفسر أن هذه الآية رد لما أنكروه من البعث، وما قبلها رد للشرك الواقع من الكفار. قوله: (فهو على الإعادة أقدر) هذا بحسب العادة الجارية بأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة بالأولى، وإلا فالكل في قبضة قدرته سواء لا مزية للإعادة على الابتداء، لأنه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱللَّهُ ﴾ مبتدأ وخبر، والضمير عائد على المتصف بالأوصاف المتقدمة، و ﴿ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ ﴾ متعلق بوصف تضمنه ذلك اعلم، لأن الله موضوع للذات الواجبة الوجود المستحقة لجميع المحامد، فيكون المعنى والله المستحق للعبادة في السماوات الخ، وهذا ما درج عليه المفسر، وبذلك يجاب عن آية (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) وقيل متعلق بنعت محذوف تقديره وهو الله المعبود في السماوات الخ، على حد قول ابن مالك: ومن المنعوت والنعت عقل. يجوز حذفه. وقيل متعلق بيعلم والتقدير: يعلم سركم في السماوات والأرض وقيل متعلق بسركم وجهركم، ولكن يلزم عليه تقديم معمول المصدر عليه، إلا أن يقال يغتفر في الظروف والمجرورات ما لا يغتفر في غيرها. قوله: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ إن قلت إن الكسب لا يخرج عن السر والجهر والعطف يقتضي المغايرة أجيب: بأن المراد بالكسب ما يترتب عليه من الثواب والعقاب، والمعنى يعلم أفعالكم وأقوالكم السرية والجهرية، ويعلم جزاءها من ثواب وعقاب. قوله: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ ﴾ كلام مستأنف بيان لزيادة قبحهم وكفرهم بعد ظهور الآيات البينات. قوله: ﴿ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ ﴾ من تبعيضية والآيات يحتمل أن يكون المراد بها القرآن، فإتيانها نزولها على رسول الله وعليه اقتصر المفسر أو الكونية كالمعجزات فالمراد بإتيانها ظهورها، والأحسن أن يراد ما هو أعم. قوله: ﴿ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ الجملة حالية من الضمير في تأتيهم، وقوله معرضين ضمنه معنى غافلين فعداه بعن، وإلا فالإعراض بمعنى الترك لا يتعدى بعن. قوله: ﴿ فَقَدْ كَذَّبُواْ ﴾ تفريع على ما قبله وتفصيل لبعضه. قوله (بالقرآن) أي وغيره من بقية المعجزات. قوله: ﴿ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ ظرف لقوله كذبوا. قوله: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ ﴾ وعيد عظيم مرتب على تكذيبهم وهو لا يتخلف، لأن وعيد الكفار وعد حسن للمؤمنين فهو وعد باعتبار، ووعيد باعتبار آخر فعدم تخلفه باعتبار كونه وعداً، قال تعالى﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ ﴾[الروم: ٤٧].
قوله: ﴿ أَنْبَاءُ ﴾ جمع نبأ وهو الخبر العظيم المزعج، وجمعه إشارة إلى تكرر الجزاء لهم في الدنيا ويوم القيامة. قوله: ﴿ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ما اسم موصول وكانوا صلته، والمعنى فسوف يأتيهم جزاء الذي كانوا يستهزؤون به في العاجل بالقتل والأسر، والآجل بالعذاب الدائم في النار.
قوله: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ هذا إخبار من الله ببذل النصح لهم، ومع ذلك فلم يهتدوا، والهمزة داخلة على محذوف تقديره أعموا ورأى إما بصرية، وعليه درج المفسر حيث قال في أسفارهم إلى الشام وغيرها، وعليه فقوله ﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ سدت مسد مفعولها أو علمية فتكون الجملة سدت مسد مفعوليها، والأحسن الأول. قوله: (وغيرها) أي كاليمن، فإنه كان لهم رحلتان: رحلة في الصيف للشام، ورحلة في الشتاء لليمن، كما يأتي في سورة قريش. قوله: (خبرية) أي وهي مفعول مقدم لأهلكنا. قوله: ﴿ مِن قَبْلِهِم ﴾ أي قبل وجودهم أو قبل زمانهم، فالكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ مِّن قَرْنٍ ﴾ بيان لكم، والقرن يطلق على الأمة وعليه درج المفسر، ويطلق على الزمان، واختلف في حده، فقيل مائة سنة وهو الأشهر، وقيل مائة وعشرون، وقيل ثمانون، وقيل ستون، وقيل أربعون، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ مَّكَّنَّٰهُمْ ﴾ وصف للقرن، وجمعه باعتبار معناه، لأن القرن اسم جمع كرهط، وقوم لفظه مفرد، ومعناه جمع. قوله: (بالقوة والسعة) أي في الدنيا حتى صاروا ذوي شهامة وغنى عظيم، ومع ذلك فلم تغن عنهم أموالهم ولا أنفسهم من الله شيئاً. قوله: (فيه التفاف عن الغيبة) أو ونكتته الاعتناء بشأن المخاطبين حيث خاطبهم مشافهة. قوله: ﴿ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً ﴾ وصف ثان للقرن. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ ﴾ وصف ثالث له، والمعنى أن من مضى من قبلكم من الأمم أعطيناهم القوة الشديدة في الجسم والسعة في الأموال والأولاد ومع ذلك فلم ينفعهم من ذلك شيء، فلا تأمنوا سطوتي بالأولى منهم. وقال الشاعر: لا يأمن الدهر ذو بغى ولو ملكاً   جنوده ضاق عنها السهل والجبلقوله: ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ﴾ كلام مستأنف دفع به ما يقال حيث هلك من هلك فقد خرب الكون، فأجاب بأنه كلما أهلك جماعة أتى بغيرهم، فإنه قادر على ذلك والقادر لا يعجزه شيء. قوله: ﴿ قَرْناً ﴾ هنا بالأفراد، وفي بعض الآيات بالجمع، والمعنى واحد، فإن المراد به الجنس وجمع آخرين باعتبار معنى القرن. قوله: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا ﴾ شروع في بيان زيادة كفرهم وتسلية له صلى الله عليه وسلم على عدم إيمانهم به، وهو رد لقول النضر بن الحرث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد (لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه) ومعه أربعة من الملائكة يشهدون بأنك صادق. قوله: (مكتوباً) إشارة إلى أنه أطلق المصدر، وأراد اسم المفعول. قوله: ﴿ قِرْطَاسٍ ﴾ القراءة بكسر القاف لا غير، ويجوز في غير القرآن فتح القاف وضمها؛ ويقال قرطس كجعفر ودرهم، ما يكتب فيه مطلقاً رقاً أو غيره، فتفسيره له بالرق بفتح الراء على الأفصح تفسير بالأخص. قوله: (كما اقترحوه) أي اخترعوه من الآيات. قوله: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ إن نافية بمعنى ما، وهذا مبتدأ، وسحر خبره، ومبين صفته، والجملة مقول القول.
قوله: ﴿ وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ هذا من جملة عنادهم وكفرهم. قوله: (فلم يؤمنوا) مرتب على قوله: ﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا ﴾ فهو من تتمة الشرط، والمعنى أن الله لو أجابهم بإنزال ملك ولم يؤمنوا لأهلكهم كمن قبلهم مع أنه قال﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾[الأنفال: ٣٣] فعدم إجابتهم رحمة بهم. قوله: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً ﴾ رد لقوله هلا كان رسولنا من الملائكة لا من البشر. قوله: (أي على صورته) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف أي صورة رجل، فالشبه في الصورة فقط. قوله: (إذ لا قوة للشر على رؤية الملك) أي ولذلك كان يأتي الأنبياء على صورة رجل، ولم ير الملك على صورته الأصلية أحد من البشر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مر في الأرض عند غار حراء، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى ليلة الإسراء. قوله: ﴿ وَلَلَبَسْنَا ﴾ جعله المفسر جواب شرط محذوف والواو داخلة على فعل الشرط المحذوف قدره بقوله: (ولو جعلناه رجلاً) والمناسب للمفسر الاقتصاد على ذلك، ويحذف قوله ﴿ وَ ﴾ (لو أنزلناه) ولبس بفتح الباء يلبس بكسرها، خلط يخلط والتبس اختلط واشتبه، وأما لبس بكسر الباء يلبس بفتحها سلك الثوب في العنق. قوله: ﴿ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ فلا تحزن واصبر على أذاهم، فإن الله كافيك شرهم. قوله: (فكذا يحيق بمن استهزأ بك) أي لكن لا على الوجه الذي حاق بهم من عموم العذاب، بل بأخذ المتمرد بخصوصه، وقد فعل الله له ذلك. قال تعالى: و﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾[الحجر: ٩٥].
قوله: ﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ هذا استشهاد على ما تقدم، كأنه قيل إن لم تصدقوا خبر ربكم بأنه حاق بالذين سخروا وكذبوا أنبياءهم العذاب فسيروا وعاينوا آثارهم. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱنْظُرُوا ﴾ أتى بثم لأنه لا يحسن التفكر والاستدلال، ولا بثم إلا بعد تمام السير ومعاينة الآثار. قوله: ﴿ كَيْفَ ﴾ اسم استفهام خبر كان وعاقبة اسمها، وإنما قدم الخبر عليها وعلى اسمها، لأن اسم الاستفهام له الصدارة. قوله: (ليعتبروا) أي يتعظوا فبالسير والتفكر يحصل الاستدلال والنور التام، ومن هنا أخذت الصوفية السياحة، لأن من جملة ما يعين على الوصول إلى الله والترقي إلى المعارف النظر والتفكر في مصنوعاته، قال تعالى﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ ﴾[فصلت: ٥٣].
قوله: ﴿ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر، وفي السماوات والأرض صلة الموصول والأصل قل ما في السماوات والأرض صلة الموصول والأصل قل ما في السماوات والأرض لمن، وإنما قدم الخبر لأن اسم الاستفهام له الصدارة، وهذه حجة قاطعة لا يمكن ردها أبداً. قوله: ﴿ قُل للَّهِ ﴾ أي تقرير لهم وتنبيه على أنه المتعين للجواب بالاتفاق لقوله تعالى:﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ﴾[لقمان: ٢٥، الزمر ٣٨].
قوله: (لا جواب غيره) في معنى التفريع أو التعليل، فالمناسب أن يقول فلا، أو لأنه لا جواب غيره. قوله: ﴿ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ﴾ أي ألزم الرحمة لأنه وعد بها، ووعده لا يتخلف، فهي واجبة شرعاً لا عقلاً والرحمة هي النعمة، هي عامة لكل مخلوق في الدنيا، قال تعالى﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾[الأعراف: ١٥٦] فمن رحمته إمهال العصاة والكفار، وترادف الرزق عليهم، وأما بعد استقرار الخلق في الدارين فتختص الرحمة بأهل الجنة، ويختص غضب الله بأهل النار. قوله: (فضلاً منه) رد بذلك على المعتزلة القائلين بأن الرحمة واجبة عقلاً على الله يستحيل تخلفها، إذ هو نقص، والنقص عليه محال. قوله: (وفيه تلطف في دعائهم إلى الإيمان) أي في ذكر الرحمة بهذا العنوان، فلا تقنطوا بل إذا تبتم قبلكم. قوله: ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، وهو كلام مستأنف مؤكد بالقسم والنون إشارة إلى أن ذلك الأمر لا بد منه. قوله: ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ﴾ يحتمل أن إلى على بابها متعلقة بمحذوف تقديره ليجمعنكم في القبور ويحشرنكم إلى يوم القيامة، ويحتمل أنها بمعنى اللام أو في زائدة. قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي في الجمع يوم القيامة، أو في يوم القيامة الذي يحصل فيه الجمع. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ الذين مبتدأ، وخسروا صلته، وأنفسهم مفعول لخسروا، وقوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ. إن قلت: إن ظاهر الآية أن عدم الإيمان مسبب عن الخسران، مع أن الخسران مسبب عن عدم الإيمان. أجيب: بأن المعنى الذين خسروا أنفسهم في علم الله أي قضى ليهم بالخسران أزلاً، فهم لا يؤمنون فيما لا يزال، فالآية باعتبار ما في علم الله، وأما تسبب الخسران عن عدم الإيمان فبحسب ما يظهر للعباد. قوله: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ ﴾ هذا أيضاً من جملة أدلة التوحيد، زيادة في التشنيع على من كفر. قوله: (حل) أشار بذلك إلى أنه لا حذف في الآية، وعليه جمهور المفسرين، فمعنى حل وجد فيشمل الساكن والمتحرك، وقيل إن سكن من السكون ضد الحركة، وعليه ففي الآية حذف تقديره وما تحرك.
قوله: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ ﴾ رد لقولهم له كيف تترك دين آبائك، وغير مفعول أول لاتخذوا قدمه اعتناء بنفي الغيرية، وولياً مفعول ثان. قوله: (أعبده) تفسير لأتخذ، فالمراد بالولي هنا المعبود، ويطلق باشتراك على معان منها المعبود ولا يكون إلا الله، وهو قوله تعالى:﴿ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ ﴾[الشورى: ٩]،﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة: ٢٥٧] ويطلق على القريب والصاحب وعلى المنهمك في طاعة الله. قوله: ﴿ فَاطِرِ ﴾ بدل من لفظ الجلالة أو نعت. إن قلت إن فاطر اسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده التعريف، ولفظ الجلالة أعرف المعارف، وشرط النعت موافقته لمنعوته في التعريف. أجيب بأن محل كون إضافته لفظية إن كان معناه التجدد والحدوث، وأما هنا فهو من قبيل الصفة المشبهة، فيكون وصفاً ثابتاً له، وهذه الجملة كالدليل لما قبلها. قوله: (مبدعهما) أي موجدهما على غير مثال سبق، ففاطر من الفطرة وهي الخلقة، وفطر خلق وأنشأ، قال ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى فطر وفاطر، حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنشأتها وابتدأتها. قوله: (أي يرزق) تفسير بالأعم، لأن المعنى يرزق مطعوماً أو غيره، فليس المراد من الآية قصره على المطعوم. قوله: ﴿ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ أي لأن المرزوق محتاج لمن يرزقه، وتنزه الله عن الاحتياج. قوله: ﴿ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ يحتمل أن من نكرة موصوفة، فجملة أسلم صفة. والمعنى أن أكون أول فريق أسلم، أو اسم موصول وما بعدها صلة، والتقدير أول الفريق الذي أسلم. وقوله: ﴿ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ ﴾ الخ أي أمرني ربي أن أكون أول المسلمين، لأنه يجب عليه الإيمان بأنه رسول، وبما جاء به من الشرع والأحكام، فهو أول المسلمين على الإطلاق. قوله: ﴿ وَ ﴾ (قيل لي الخ) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ ﴾ معمول لأخاف، وجملة ﴿ إِنْ عَصَيْتُ ﴾ شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله: ﴿ أَخَافُ ﴾ وهي معترضة بين الفعل وهو أخاف، ومعموله وهو عذاب. قوله: ﴿ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ ﴾ من اسم شرط، ويصرف فعل الشرط، ونائب الفاعل مستتر يعود على العذاب على القراءة الأولى، والفاعل الله على القراءة الثانية، وعنه جار ومجرور متعلق بيصرف. وقوله: ﴿ فَقَدْ رَحِمَهُ ﴾ جواب الشرط، وهو معنى قوله تعالى:﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾[آل عمران: ١٨٥].
قوله: (وللفاعل) أي والمفعول محذوف تقديره العذاب، والمعنى من يصرف الله العذاب عنه يوم القيامة فقد رحمه، في ذلك تعريض بأن الكفار لا يرحمون لأنه لا يصرف عنهم العذاب قوله: (والعائد محذوف) الأوضح أن يقول والمفعول محذوف، وهو ضمير يعود على العذاب، لأن الضمير العائد على من مذكور بقوله عنه، وأيضاً لا يحتاج للعائد إلا الموصول، ومن هنا شرطية لا موصولة. قوله: ﴿ وَذَلِكَ ﴾ أي النجاة يوم القيامة.
قوله: ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ ﴾ هذا تأييد من الله لرسوله، فالمعنى لا تخش لومهم بل بلغ ما أنزل إليك من ربك، فإن الله متولي أمرك، بيده الضر والنفع والمنع والإعطاء، فهم عاجزون ولا يقدرون على إيصال ضر ولا جلب نفع. قوله: (كمرض وفقر) أي وغلبة واحتياج. قوله: ﴿ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ ﴾ جواب الشرط، وفعله قوله يمسسك، ولا نافية للجنس، وكاشف اسمها مبني معها على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف تقديره أحد. قوله: ﴿ إِلاَّ هُوَ ﴾ إلا أداة حصر وهو بدل من الضمير المستتر. قوله: ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾ جواب الشرط محذوف تقديره فلا راد لفضله، كما في آية يونس وإن يردك بخير فلا راد لفضله. قوله: ﴿ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ﴾ دليل لكل من الجملتين. قوله: (ومنه مسك به) أي من النبوة وغيرها. قوله: (مستعلياً) أشار بذلك إلى أن قوله ﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ ظرف متعلق بمحذوف حال من القاهر. قوله: ﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ أي فوقية مكانة لا مكان، والمعنى أن صفاته فوق صفات غيره، لأن أوصافه كمالية، وأوصاف غير ناقصة، فوصفه العز والعلم والاقتدار، ووصف غيره الذل والجهل والعجز، فكل وصف شريف كامل فهو لله، وكل وصف خسيس ناقص فهو لغيره. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ﴾ (في خلقه) أي يضع الشيء في محله. قوله: ﴿ ٱلْخَبِيرُ ﴾ أي فيعامل كل شخص بما يليق به. قوله: (ونزل لما قالوا) أي أهل مكة، فقالوا يا محمد أرنا من يشهد لك بالرسالة، فإننا سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر. قوله: (إيتنا) بقلب الهمزة الثانية ياء، قال ابن مالك: ومدا ابدل ثاني الهمزين من   كلمة إن يسكن كآثر وائتمنقوله: (تمييز محول عن المبتدأ) أي والأصل شهادة أي شيء ما أكبر، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وجعل مبتدأ وجعل المضاف تمييزاً.
قوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي أكبر شهادة. وقوله: ﴿ شَهِيدٌ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر فالكلام جملتان، ويحتمل أن الله مبتدأ خبره شهيد، فالكلام جملة واحدة. قوله: ﴿ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ المراد بشهادة الله إظهار المعجزات على يده، فإن المعجزات منزلة منزلة قول الله صدق عبدي في كل ما يبلغ عني. قوله: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ ﴾ هذا دليل لشهادة الله، والمعنى أن الله شهيد، لأن القرآن ناطق بالحجة القاطعة، وهو من عنده فلا يرد كيف اكتفى منه عليه الصلاة والسلام بقوله الله شهيد، مع أن ذلك لا يكفي من غيره الاقتصار على الإنذار لأن الكلام مع الكفار، وبنى أوحى للمجهول للعلم بفاعله. قوله: (عطف على ضمير أنذركم) أي ﴿ وَمَن ﴾ موصولة، و ﴿ بَلَغَ ﴾ صلتها، والتقدير وأنذر الذي بلغه القرآن. (من الإنس والجن) أي إلى يوم القيامة، وفيه دلالة على عموم رسالته، واستمرارها من غير ناسخ إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ﴾ اللام لام ابتداء زحلقت الخبر. قوله: (استفهام إنكاري) أي والمعنى لا يصح منكم هذه الشهادة لأن المعبود واحد. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ إنما أداة حصر، وما كافة، وهو مبتدأ، وإله خبره، وواحد صفته، وهو زيادة في الرد عليهم، وهو من حصر المبتدأ في الخبر. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي اليهود والنصارى، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل. قوله: (أي محمداً) تفسير للضمير في ﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾، ويصح أن يرجع الضمير للقرآن أو لجميع ما جاء به رسول الله من التوحيد وغيره. قوله: ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ ﴾ أي معرفة كمعرفتهم لأبنائهم، وهذا من التنزلات الربانية، وإلا فهم يعرفونه أشد من معرفتهم لأبنائهم لما روي أن عمر بن الخطاب سأل عبد الله ابن سلام بعد إسلامه عن هذه المعرفة، فقال: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال أشهد أنه رسول الله حقاً ولا أدري ما تصنع النساء. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ مبتدأ والجملة نعت للذين آتيناهم الكتاب، ويؤيده قول المفسر منهم. قوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ خبر المبتدأ وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط وهو العموم، والمعنى أن من سبق في علم الله خسرانه، فلا يتأتى له الإيمان في الدنيا، وذلك أن الله جعل لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، وقد علمت مما تقدم أن المؤمن واحد من ألف، فتكون منازل الكفار التي يرثها المؤمنون في الجنة لكل واحد تسعمائة منزل وتسعة وتسعون تضم لمنزلته، ومنازل المؤمنين التي تركت لأهل النار منزل من ألف يزاد لهم، فيؤخذ منه أن الجنة واسعة جداً، وأن النار ضيقة جداً لا سيما مع عظم جسم الكافر فيها، حيث يكون ضرسه كأحد. قال تعالى﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ ﴾[آل عمران: ١٣٣] وقال تعالى:﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ ﴾[الفرقان: ١٣].
قوله: (به) أي بمحمد أو بالله أو بالقرآن أو بما جاء به محمد. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والمعنى ليس أحد أظلم ممن فعل واحداً من الأمرين الافتراء والتكذيب، فما بالك بمن جمع بينهما كالمشركين وأهل الكتاب، فإن كلاً منهما وقع منه الأمران. قوله: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ أي لا يفوزون بمطلوبهم. وقوله: (بذلك) أي بسبب ما ذكر وهو الافتراء أو التكذيب.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ﴾ ظرف متعلق بمحذوف قدره المفسر، والضمير في نحشرهم عائد على الخلق مسلمهم وكافرهم، ويصح عوده على المشركين، فقوله بعد ذلك ﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ محل الإضمار زيادة في التشنيع عليهم. قوله: ﴿ جَمِيعاً ﴾ حال من ضمير نحشرهم. قوله: ﴿ ثُمَّ نَقُولُ ﴾ أتى بثم إشارة إلى أن السؤال بعد الحشر، والحشر يطول على الكفار قدر خمسين ألف سنة والمقصود من ذلك ردعهم وزجرهم لعلهم يؤمنون في الدنيا فتأمنون من ذلك اليوم وهوله، والقول إن كان على ألسنة الملائكة فظاهر، وإن كان من الله مباشرة وورد علينا قوله تعالى:﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾[البقرة: ١٧٤] وقد يجاب بأن المعنى لا لا يكلمهم كلام رضا ورحمة. قوله: ﴿ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ﴾ إن قلت: مقتضى هذه الآية أن الشركاء ليسوا أنهم حاضرون معهم، ومقتضى قوله تعالى﴿ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾[الصافات: ٢٢-٢٣] أنهم حاضرون معهم، فكيف الجمع بينهما؟ أجيب بأن السؤال واقع بعد التبري الكائن من الجانبين، وانقطاع ما بينهم من الأسباب والعلائق وأضيفوا لهم، لأن شركتها بتسميتهم وتقولهم. قال تعالى: و﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ ﴾[يوسف: ٤٠] الآية. قوله: (أنهم شركاء لله) قدره إشارة إلى أن مفعولي ﴿ تَزْعُمُونَ ﴾ محذوفان، وهذه الجملة سدت مسدهما. قوله: (بالتاء والياء) فعلى قراءة التاء يصح رفع ﴿ فِتْنَتُهُمْ ﴾ اسم تكن، و ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ خبرها ونصبها خبر تكن مقدم، وإلا أن قالوا اسمها مؤخر، ويتعين جر ﴿ رَبِّنَا ﴾ وعلى قراءة الياء إلا نصب فتنتهم خبر يكن مقدم، وإلا أن قالوا اسمها مؤخر، ويتعين نصب ربنا، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية، خلافاً لما توهمه المفسر. قوله: (أي معذرتهم) أي جوابهم، وسماه فتنة لأنه كذب محض لا نفع به، بل به الفضائح. قوله: ﴿ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ إن قلت: كيف الجمع بين ما هنا وبين قوله ولا يكتمون الله حديثاً. قلت: أولا ينكرون الإشراك ويحلفون على عدم وقوعهم منهم، ثم يستشهد الله الأعضاء فتنطق الجوارح، فحينئذ يودون لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً، فهم أولاً يظنون أن إنكارهم نافع، فحين تشهد أعضاؤهم يتمنون أن لو كانوا أتراباً ولم يكتموا شيئاً. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ﴾ إنما نسبه لهم وإن كان في الحقيقة كذباً على الله، لأن ضرره عاد إليهم. قوله: (من الشركاء) بيان لما.
قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾ سبب نزولها: أنه اجتمع أبو سفيان وأبو جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف والحرث بن عامر، يستمعون القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال ما أدري ما يقول، غير أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما كنت أحدثكم عن القروض الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القروض الماضية وأخبارها، فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقاً، فقال أبو جهل: كلا لا نقر بشيء من هذا، وفي رواية الموت أهون علينا من هذا. وأفرد يستمع مراعاة للفظ من، وسيأتي في يونس مراعاة معناه، والحكمة في مراعاة لفظها هنا، أن ما هنا في قوم قليلين، وفيما يأتي في الكفار جميعاً. قوله: ﴿ أَكِنَّةً ﴾ جمع كنان وهو الوعاء الجامع الذي يحفظ فيه الشيء ويجمع على أكنان، والمراد بها هنا الغطاء الساتر. قوله: (فلا يسمعونه) أي القرآن. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ ﴾ حتى ابتدائية. وقوله: ﴿ يُجَٰدِلُونَكَ ﴾ حال من الواو في جاؤوك. وقوله: ﴿ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ جواب إذا. قوله: (كالأضاحيك) جمع أضحوكة بالضم، وكذا (الأعاجيب) أي فالمشهور أن أساطير في جمعه ومفرده كالأضاحيك والأعاجيب. قوله: ﴿ هُمْ يَنْهَوْنَ ﴾ أي الكفار ينهون عن اتباع النبي، أو عن سماع القرآن. قوله: (أي عن اتباع النبي) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (وقيل نزلت في أبي طالب) أي وعليه فجمع الضمير باعتبار اتباعه. قوله: (كان ينهى عن أذاه) أي وكان يخاطب النبي عليه الصرة والسلام بقوله: ولقد علمت بأن دين محمد   من خير أديان البرية دينالولا الملامة أو حذار مسبة   لوجدتني سمحاً بذاك مبينافاصدع بأمرك ما عليك غضاضة   حتى أوسد في التراب رهيناوهذا القول لابن عباس وعمرو بن دينار وسعيد بن جبير، والقول بأنها نزلت في المشركين لجماعة منهم الكلبي والحسن، والأقرب لسياق ما قبلها وما بعدها المعنى الأولى فتأمل. قوله: (بذلك) أي بإهلاكهم أنفسهم. قوله: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ ﴾ المقصود من ذلك حكاية ما سيقع من الكفار يوم القيامة وتسلية للنبي وأصحابه، والمعنى لو تبصر بعينك يا محمد ما يقع لهؤلاء في الآخرة، لرأيت أمراً عظيماً تتسلى به عن الدنيا، فالخطاب لسيدنا محمد كما قال المفسر. إن قلت: هذا يقتضي أن رسول الله لم يطلع على ذلك، مع أنه لم يخرج من الدنيا حتى أحاط بوقائع الدنيا والآخرة. أجيب: بأن هذا قبل إعلام الله له بالآخرة. وأجيب أيضاً بأن الخطاب له والمراد غيره، ورأى إما بصرية وهو الأقرب أو قلبية، والمعنى لو صرفت فكرك الصحيح في تدبير حالهم لازددت يقيناً، ولو يحتمل أنها حرف امتناع، فيكون قوله ترى بمعنى رأيت، وإذ على بابها من المعنى، فيكون عبر بالماضي لتحقق الحصول، ويحتمل أنها بمعنى إن الشرطية وإذ بمعنى إذا، فيكون مستقبلاً، والأقرب الأول. قوله: (للتنبيه) أي لدخولها على الحرف. قوله: ﴿ لَيْتَنَا نُرَدُّ ﴾ ليت حرف تمن، ونا اسمها، وجملة نرد خبرها، قوله: (برفع الفعلين استئنافاً) أي واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ماذا تفعلون لو رددتم، فقوله ﴿ وَلاَ نُكَذِّبَ ﴾ خبر محذوف تقديره ونحن لا نكذب، وكذا قوله ﴿ وَنَكُونَ ﴾.
قوله: (وبنصبهما في جواب التمني) أي بأن مضمرة بعد واو المعية، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على مصدر مصيد من الكلام السابق، وتقدير الكلام فقالوا نتمنى على الله ردنا مع عدم تكذيب منا وحصول إيمان. قوله: (ورفع الأول) أي على الاستئناف، وقوله: (ونصب الثاني) أي بأن مضمرة وجوباً بعد واو المعية في جواب التمني، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على مصدر مصيد من الكلام السابق، تقديره نتمنى على الله مع كوننا من المؤمنين، وجملة ولا نكذب معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، فهذه قراءات ثلاث وكلها سبعية، وقرئ شذوذاً بنصب الأول ورفع الثاني وتوجيهه كما علمت. قوله: (للإضراب) أي الإبطالي، والمعنى ليس الأمر كما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا، بل إنما حملهم على ذلك فضيحتهم بشهادة أعضائهم.
قوله: ﴿ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ ﴾ أي وهو الشرك. قوله: (بقولهم) الباء سببية. قوله: (بشهادة جوارحهم) متعلق ببدا. قوله: (فتمنوا ذلك) أي فراراً من العذاب لا محبة في الإيمان. قوله: ﴿ لَعَادُواْ ﴾ جواب لو. قوله: (في وعدهم بالإيمان) أي الذي وقع منهم بالتمني. قوله: ﴿ وَقَالُوۤاْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا ﴾ يحتمل أنه معطوف على لعادوا، فهو من جملة جواب له، ويحتمل أنه كلام مستأنف في خصوص منكري البعث وهذا هو المتبادر من المفسر، وإن نافية بمعنى ما، وهي مبتدأ، وحياتنا خبره والمعنى أنهم قالوا ليس لنا حياة غير هذه الحياة التي نحن فيها، وما نحن بمبعوثين بعد الموت. قوله: ﴿ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ﴾ أي على حسابه وسؤاله، فالكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ قَالَ ﴾ (لهم) أي لمنكري البعث الذين قالوا ﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا ﴾.
قوله: (على لسان الملائكة) دفع بذلك ما يقال إن الله لا ينظر إليهم ولا يكلمهم. قوله: ﴿ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا ﴾ جواب مؤكد باليمين. قوله: ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ أي بسبب الذي كنتم تكفرون به أو بسبب كفركم. قوله: (غاية للتكذيب) أي لا للخسران فإنه لا غاية له.
قوله: ﴿ ٱلسَّاعَةُ ﴾ المراد بها مقدمات الموت، فالمراد أن حزنهم الدائم يحصل لهم عند خروج أرواحهم. قوله: ﴿ بَغْتَةً ﴾ حال من فاعل جاءتهم، والتقدير جاءتهم مباغتة، أو من مفعوله، والتقدير جاءتهم حال كونهم مبغوتين. قوله: ﴿ يٰحَسْرَتَنَا ﴾ يا حرف نداء، وحسرتنا منادى منصوب بفتحة ظاهرة لأنه مضاف لنا. قوله: (هي شدة التألم) أي التلهف والتحسر على ما فات. قوله: (ونداؤها مجاز) أي تنزيلاً لها منزلة العاقل، لأنه لا ينادى حقيقة إلا العاقل، والمقصود التنبيه على أن هذا الكافر من شدة هولة لم يفرق بين خطاب العاقل وغيره، ومثله، يا ويلنا فتأمل. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا ﴾ أي من الأعمال الصالحة في الدنيا. قوله: ﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ ﴾ لجملة حالية من الواو في قالوا. قوله: (بأن تأتيهم الخ) ورد أن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيب ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول لا، فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طال ما ركبتك في الدنيا، فذلك قوله تعالى﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً ﴾[مريم: ٨٥] يعني ركباناً، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء في صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك فذلك قوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ﴾.
قوله: (أي الاشتغال فيها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والمعنى أن الاشتغال في الحياة الدنيا عن خدمة الله وطاعته لعب ولهو، وليس المراد أن مطلق الحياة الدنيا لعب ولهو، بل ما قرب منها إلى الله فهو مزرعة للآخرة، وما أبعد منها عنه فهو حسرة وندامة. قوله: ﴿ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ أي لأنها منافعها خالصة من الكدورات وعزها دائم. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير ألا يتفكرون فلا يعقلون. قوله: (بالباء والتاء) أي فها قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ ﴾ المقصود من هذه الآية وما بعدها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما وقع من الكفار من التكذيب وغيره، وتهديد لهم لعلهم يرجعون، وقد للتحقيق، نظير قوله تعالى﴿ قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ ﴾[الأحزاب: ١٨].
قوله: ﴿ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ﴾ بكسر الهمزة لدخول اللام المعلقة لنعلم عن العمل في حيزها، قال ابن مالك: وكسروا من بعد فعل علقا   باللام كاعلم إنه لذو تبقىوإن حرف توكيد، والهاء اسمها، واللام لام الابتداء زحلقت للخبر لئلا يتوالى حرفاً تأكيد، ويحزنك خبرها.
﴿ ٱلَّذِي ﴾ فاعل يحزن و ﴿ يَقُولُونَ ﴾ صلتها، والعائد محذوف تقديره يقولونه، والجملة من إن واسمها وخبرها في محل نصب سدت مسد مفعولي نعلم، فإن التعليق إبطال العمل لفظاً لا محلاً كما هو مقرر. قوله: ﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾ الفاء للتعليل، والمعنى لا تحزن من تكذيبهم لك، واصبر ولا تكن في ضيق مما يمكرون، فإنهم لا يكذبونك في الباطن، بل ويعتقدون صدقك، وإنما تكذيبهم عناد وجحود. قوله: (في السر) دفع بذلك ما يقال إن بين ما هنا وبين قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ تنافياً، وحاصل الجواب أن المنفي التكذيب في السر، والمثبت التكذيب في العلانية. قوله: (وفي قراءة بالتخفيف) أي مع ضم الياء وسكون الكاف وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي لا ينسبونك إلى الكذب) هذا يناسب كلاً من القراءتين، والمعنى لا يعتقدون تكذيبك باطناً، ولذا قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به. قوله: (وضعه موضع المضمر) أي زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم. قوله: ﴿ يَجْحَدُونَ ﴾ الجحد الإنكار مع العلم، والمعنى أنهم أنكروا آيات الله مع علمهم بأن ما جاء به صدق. قوله: (يكذبونك) أي في العلانية قوله: (فيه تسلية) وذلك لأن البلوى إذا عمت هانت. قوله: ﴿ فَصَبَرُواْ ﴾ الفاء سببية، وصبروا معطوف على ﴿ كُذِّبَتْ ﴾.
قوله: ﴿ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ ﴾ متعلق بصبروا، والمعنى صبروا على تكذيبهم. قوله: ﴿ وَأُوذُواْ ﴾ يصح عطفه على كذبت، والمعنى كذبت وأوذوا فصيروا، والمعنى صبروا على تكذيبهم وإيذائهم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ غاية في الصبر، والمعنى غاية صرهم نصر الله لهم. قوله: (مواعيده) أي مواعيد الله بالنصر، قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ﴾[الصافات: ١٧١-١٧٢]، وقال تعالى:﴿ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ ﴾[المجادلة: ٢١].
قوله: ﴿ وَلَقدْ جَآءَكَ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، وجاء في فعل ماض، والفاعل محذوف يعمل من السياق قدره المفسر بقوله ما يسكن به قلبك، وقوله ﴿ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ بيان للمحذوف، ويحتمل أن من زائدة على مذهب الأخفش ونبأ المرسلين فاعل، ويحتمل أن من اسم بمعنى بعض هي الفاعل، والمعنى وقد جاءك بعض أخبار المرسلين الذين كذبوا أوذوا فصبروا، فتسل ولا تحزن فإن الله ناصرك كما نصرهم.
قوله: ﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ﴾ سبب نزولها: أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش، فقالوا يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدقك، فأبى الله أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فأعرضوا عنه، فشق ذلك عليه لما أنه شديد الحرص على إيمان قومه، فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله طمعاً في إيمانهم فنزلت. وإن حرف شرط، وكان فعل ماض من الشرط، واسمها ضمير الشأن، وكبر فعل ماض، وإعراضهم فاعله، والجملة خبر كان، والأقرب إن إعراضهم اسم كان مؤخراً، وجملة خبرها مقدم، وفاعل كبر ضمير يعود على إعراضهم، وهو وإن كان مؤخراً لفظاً إلا أنه مقدم رتبة. قوله: ﴿ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ ﴾ هذه الجملة شرطية، وجوابها محذوف تقديره فافعل، والشرط وجوابه جواب الشرط الأول، والمعنى إن عظم عليك إعراضهم، ولم تكتف بالمعجزات التي ظهرت على يديك فإن استطعت أن تأتيهم بآية فافعل. قوله: (سرياً) بفتحات شق في الأرض، والنفق السرب النافذ في الأرض، ومنه النافقاء والقاصعاء والرامياء، ثم يدقق بالحفر ما يقارب وجه الأرض، فإذا نابه أمر، دفع تلك القشرة الدقيقة وخرج. والمعنى إن شئت أن تتحيل على إتيان آية لقومك على طبق ما اقترحوا فافعل، وهذا عتاب لرسول الله على التعلق بإيمانهم، وترق له إلى المقام الأكمل الذي هو التسليم له. قوله: ﴿ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ﴾ أي من تحت الأرض أو من فوق السماء. قوله: (هدايتهم) أي جمعهم على الهدى. قوله: (ولكن لم يشأ ذلك) هذا استثناء نقيض المقدم، فينتج نقيض التالي إن كان بينهما تساوٍ كما هنا، نظير لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً، وقد أشار لمعنى النتيجة بقوله فلم يؤمنوا، وإلا فالنتيجة فلم يجمعهم على الهدى. قوله: ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ ﴾ أي الذين لا تسليم لهم، فلا تتعب نفسك في طلب ما اقترحوه فإنهم لا يؤمنون. قوله: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ هذا من جملة التسلية لرسول الله، والمعنى لا تحزن على عدم إيمانهم، فإنما يستجيب لك ويمتثل أمرك، ويقبل المواعظ الذين يسمعون سماع قبول، والذين لا يسمعون يبعثهم الله فيجازيهم على ما صدر منهم، فللنار أهل، وللجنة أهل، فمن خلق الله فيه الهدى انتفع بالمواعظ وآمن، ومن خلق فيه الضلال فلا تزيده المواعظ والآيات إلا ضلالاً، وهذه الآية في الحقيقة استدراك على قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾.
فالمعنى لم يشأ جمعهم على الهدى. بل قسم الخلق قسمين: قسم للجنة، وقسم للنار. قوله: (دعاءك إلى الإيمان) هذا هو مفعول يستجيب، والسيت والتاء لتأكيد الإجابة، والمراد بالذين يسمعون من سبقت لهم السعادة في الأزل، فما يظهر منهم من الإيمان هو على طبق ما سبق. قوله: (أي الكفار) أشار بذلك إلى أن قوله ﴿ وَٱلْمَوْتَىٰ ﴾ مقابل قوله ﴿ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾.
قوله: ﴿ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي يحييهم، وقوله (في الآخرة) إشارة للحشر، أن المراد بالبعث الإحياء بعد الموت، وهذا هو الأقرب، وقيل معنى يبعثهم يحيي قلوبهم بالإيمان، فهو بشارة لرسول الله بأن أعداءه يؤمنون، ولكن يرده الحصر المتقدم، وأيضاً من آمن فهو داخل في قوله الذين يسمعون. قوله: (بأعمالهم) الباء إما سببية أو بمعنى على، والمراد بالأعمال الكفر والمعاصي، وقوله: ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ أي يوقفون للحساب والجزاء، وأما البعث فهو الإحياء بعد الموت فتغايرا.
قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ هذا إنكار منهم لما جاء به من المعجزات الباهرة، حيث جعلوا ما جاء به سحراً وكهانة وطلبوا غيره. قوله: ﴿ ﴾ (كالناقة والعصا) أي والنار لإبراهيم، وإلانة الحديد لداود، وغير ذلك من معجزات الأنبياء الظاهرة، فنزلوا معجزاته صلى الله عليه وسلم منزلة العدم، حتى طلبوا معجزة على صدقه، ولكنهم من عمى قلوبهم، لم يفرقوا بين معجزاته ومعجزات غيره، فإن معجزاته أعلى وأجل، قال العارف البرعي: وإن قابلت لفظه لن تراني   بما كذب الفؤاد فهمت معنىوقال أيضاً: وإن يك خاطب الأموات عيسى   فإن الجذع حق له وأنَّإلى آخر ما قال. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أن نزولها الخ) هذه الجملة في محل نصب مفعول يعلمون. قوله: (بلاء عليهم) أي لعدم إيمانهم وانتفاعهم بها. قوله: (لوجوب هلاكهم) أي بحسب جري عادة الله، بأن من اقترح أية وجاءته ولم يؤمن بها أهلكه الله، فعدم إجابتهم لما اقترحوا رحمة بالأمة المحمدية جميعاً لأن الله منَّ على نبيه ببقائها إلى يوم القيامة، ولو أجاب المتعنتين بعين ما طلبوا، لانقرضت الأمة كما انقرض من تعنت قبلهم.
قوله: ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته تعالى وسعة علمه وتدبيره. قوله: (تمشي) قدره خاصاً لدلالة مقابلة وهو قوله يطير عليه، قال العلماء: جميع ما خلقه الله عز وجل لا يخرج عن المشي والطيران، وألحقوا حيوان البحر بالطير لأنه يسبح في الماء، كما أن الطير يسبح في الهواء. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ خصها بالذكر لأن المشاهد أقطع لحجة الخصم، وإلا فسكان السماء كذلك. قوله: ﴿ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ صفة كاشفة، نظير قوله: نظرت بعيني وسمعت بأذني. قوله: ﴿ إِلاَّ أُمَمٌ ﴾ أي طوائف وجماعات أمثالكم، أي كل نوع على صفة وطريقة وشكل كما أنكم كذلك، فمن الدواب العزيز والذليل والمرزوق بسهولة وبتعب والقوي والضعيف والكبير والصغير والمتحيل في الرزق وغير المتحيل كبني آدم. قوله: (في تدبير خلقها) أي وتصريفه فيها في كل لحظة، بجلب المنافع لها، ودفع المضار عنها، ولفظه بها، فلا يشغله شأن عن شأن، قال تعالى:﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾[لقمان: ٢٨].
قوله: (وأحوالها) أي من إحيائها وإماتتها وإعزازها وإذلالها ونحو ذلك، وكذلك تعرف ربها وتوحده، كما أنتم تعرفونه وتوحدونه، ولم يوجد كافر إلا من الجن والآدميين، وإلا فجميع المخلوقات عقلاء، وغيرهم مجبولون على التوحيد، قال تعالى:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾[الإسراء: ٤٤] وإنما كفر من كفر من الجن والإنس عناداً. قوله: (اللوح المحفوظ) أي من الشيطان، ومن التغيير والتبديل، وهو من درة بيضاء فوق السماء السابعة، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، فحيث أريد بالكتاب اللوح المحفوظ، فالعموم ظاهر، فإنه فيه تبيان كل شيء ما كان وما يكون وما هو كائن، وقيل المراد بالكتاب القرآن، وعليه فالمراد بقوله: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ﴾ أي ويحتاج إليه الخلق في أمورهم. قوله: ﴿ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ أي يجمعون، وهذا بيان لأحوالهم في الآخرة إثر بيان أحوالهم في الدنيا. قوله: (فيقضي بينهم) أي الأمم عقلاء أو غيرهم. قوله: (للجماء) أي وهو معدومة القرون، وهذا كله لإظهار العدل، فحيث لم يترك غير العقلاء فكيف بالعقلاء، فلا بد من الحشر والحساب والجزاء، إما بالعدل، وإما بالفضل. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ أي أعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها. قوله: ﴿ فِي ٱلظُّلُمَاتِ ﴾ هو معنى قوله في الآية الأخرى، عمي فهم صم القلوب عميها بكمها، فلا يتأتى منهم انتفاع ولا اعتبار، ولا يصل إليهم نور أبداً. وقوله: (الكفر) أي فهو ظلمات معنوية، فمثل الكافر كمثل رجل أعمى أصم أبكم في ظلمات فلا يهتدي إلى مقصوده، كما أن الكافر كذلك. قوله: ﴿ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ ﴾ هذا دليل لما قبله، ومفعول يشأ في كل محذوف قدره المفسر بقوله إضلاله وبقوله هدايته، والمعنى أن الإضلال والاهتداء بتقدير الله، فمن أراد الله هدايته، سهل له أسبابها، وجعله منهمكاً في طاعته، وإن وقعت منه معصية وفق للتوبة منها، ومن أراد الله إضلاله، حجبه عن نوره، وتعسرت عليه أسباب الطاعة، حتى لو وقعت منه طاعة، تكون معلولة غير مقبولة، وما في هذه الآية هو معنى قوله تعالى في الآية الأخرى﴿ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ ﴾[الأنعام: ١٢٥] الآية.
﴿ قُلْ ﴾ (يا محمد) أي على سبيل التخويف والتوبيخ على الكفر بالله. قوله: (أخبروني) هكذا فسرت الرؤية في هذه الآية ونظائرها بالإخبار، والأصل في الرؤية العلم أو الإبصار، فأطلق العلم أو الإبصار، وأريد لازمه وهو الإخبار، لأن الإنسان لا يخبر بما علمه أو أبصره، واستعملت الهمزة التي هي في الأصل لطلب العلم أو الإبصار في طلب الإخبار ففيه مجازان، ورأى فعل ماض، والتاء فاعل، والكاف مفعول أول على حذف مضاف، والجملة الاستفهامية في محل المفعول الثاني، والتقدير أرأيتم عبادتكم غير الله هل تنفعكم، والمعنى أخبروني يا أهل مكة، إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة بسرعة، أتدعون إلهاً غير الله يكشف عنكم ما نزل بكم، وجواب الاستفهام لا يدعون غير الله، فإذا كان كذلك فهو أحق بأن يفرد بالعبادة. قوله: ﴿ إِنْ أَتَـٰكُمْ ﴾ جواب الشرط محذوف تقديره فمن تدعوه. قوله: (في الدنيا) أي كالصاعقة والصيحة. قوله: (المشتملة عليه) أي على العذاب، لأن الكافر لا يشاهد من حين موته إلا العذاب الدائم، وأسهله خروج الروح. قوله: (بغتة) أي سرعة. قوله: ﴿ أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري وغير معمول لتدعون وهو صفة لموصوف محذوف والتقدير أتدعون إلهاً غير الله. قوله: (فادعوها) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف. قوله: ﴿ بَلْ إِيَّاهُ ﴾ اضراب انتقالي عن النفي الذي علم من الاستفهام. قوله: (في الشدائد) أي كالمرض والفقر وغير ذلك. قوله: ﴿ إِنْ شَآءَ ﴾ جوابه محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه، أي إن شاء أن يكشفه كشفه، وإن لم يشأ كشفه فلا يكشفه، فليست إجابة الدعاء وعداً لا يخلف، وهذا مخصوص بدعاء الكفار، وأما دعاء المؤمنين فهو مجاب بالوعد الذي لا يخلف، لكن على ما يريد الله، إما بعين المطلوب أو بغيره، فلا منافاة بين ما هنا وبين قوله تعالى:﴿ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾[غافر: ٦٠].
قوله: ﴿ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ أي حين نزول الشدائد بهم لا يلتفتون إلى أصنامهم، بل لا يدعون إلا الله. قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ ﴾ هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فكذبوهم) قدره إشارة إلى أن قوله ﴿ فَأَخَذْنَٰهُمْ ﴾ مرتب على محذوف. قوله: ﴿ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ من التضرع وهو التذلل والخضوع. قوله: (فهلا) أشار بذلك إلى أن لولا للتحضيض. قوله: (أي لم يفعلوا ذلك) أي التضرع، وأشار بذلك إلى أن التحضيض بمعنى النفي. قوله: (مع قيام المقتضى له) أي وهو البأساء والضراء. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي لم يقع منهم تضرع ولا خضوعـ بل ظهر منهم خلاف ذلك بسبب قسوة قلوبهم. قوله: (فلم تلن للأيمان) أشار إلى أن القسوة نشأ عنها المفر، كما أن التضرع ينشأ عنه الإيمان. قوله: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ﴾ أي الذين كانوا يعملونه أو عملهم. قوله: (فأصروا عليها) أي على المعاصي، ولم يتعظوا بما نزل بهم من البأساء والضراء. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ ﴾ غاية للفتح، والمعنى أن من خالف أمر الله وطغى يستدرجه الله بالنعم ويمده بالعطايا الدنيوية، فإذا فرح بذلك كان عاقبة أمره أخذه أخذ عزيز مقتدر. قوله: ﴿ فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾ إذا فجائية أي فاجأهم الإبلاس بمعنى اليأس من كل خير. قوله: ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ الدابر التابع من خلف، يقال دبر الولد، والده، ودير فلان القوم، تبعهم، فمعنى دابرهم آخرهم، وهو كناية عن الاستئصال، فذلك قال بأن استؤصلوا، أي فلم يبق منهم أحد. قوله: ﴿ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ هذا حمد من الله لنفسه على هلاك الكفار ونصر الرسل، وفيه تعليم للمؤمنين أنهم يشكرون الله على ذلك، إذ هو نعمة عظيمة. قوله: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ هذا تنزل من الله سبحانه وتعالى لكفار مكة لإقامة الحجة عليهم قبل أخذهم. قوله: (أخبروني) تقدم أن استعمال رأي في الإخبار مجاز، وأصل استعمالها في العلم أو في الإبصار، وتقدم أنها تطلب مفعولين: الأول محذوف لدلالة مفعولي أخذ وهو سمعكم وأبصاركم عليه، فهو من باب التنازع أعمل الثاني وأضمر في الأول وحذف لأنه فضلة، والمفعول الثاني هو قوله: ﴿ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ ﴾ الخ. قوله: ﴿ سَمْعَكُمْ ﴾ أفرده وجمع ما بعده، لأن السمع مصدر لا يثنى ولا يجمع كما تقدم في لبقرة. قوله: ﴿ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ ﴾ المراد بالقلوب العقول أي أذهب عقولكم وصيركم كالبهائم فلا تعقلون شيئاً. قوله: (بما أخذه) أشار بذلك إلى أنه أفرد باعتبار ما ذكر، والمعنى من إله غير الله يزعمكم يأتيكم بأي واحد مما أخذ منكم. قوله: (بزعمكم) متعلق بقوله من إله غير الله فالمناسب تقديمه. قوله: ﴿ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ﴾ هذا تعجيب لرسول الله من عدم اعتبارهم بتلك الآيات الباهرة وكيف منصوب على التشبيه بالحال، والمعنى أنظر يا محمد تصريفنا الآيات على أي كيفية. قوله: ﴿ أَرَءَيْتَكُمْ ﴾ أي أخبروني، والمفعول الأول الكاف على حذف مضاف أي أنفسكم، والمفعول الثاني جملة الاستفهام. قوله: ﴿ عَذَابُ ٱللَّهِ ﴾ أي كالصيحة والصواعق. قوله: (ليلاً أو نهاراً) لف ونشر مرتب، وهذا التفسير لابن عباس، وقيل البغتة الذي يأتي من غير سبق علامة، والجهر الذي يأتي مع سبق علامة كل بالليل أو النهار. قوله: (الكافرون) أشار بذلك إلى أن المراد هلاك سخط وغضب، فاندفع ما يقال إن المصيبة إذا أتت فلا تخص الكافر بل تعم الطائع، فالجواب أن هلاك الكفار سخط وغضب، وهلاك المؤمن إثابة ورفع درجات، والاستثناء مفرغ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي كما أشار له المفسر.
قوله: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ هذا بيان لوظائف المرسلين، والمعنى أن المرسلين منصبهم البشارة لمن آمن، والنذارة لمن كفر، وليسوا قادرين على إيجاد نفع أو ضر، وإنما جعلهم الله سبباً لذلك. قوله: (في الآخرة) احتراز لبيان أن عدم الخوف والحزن هو في الآخرة فقط، وأما الدنيا فهي محل الخوف والحزن لأنها سجن المؤمن. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾ مقابل قوله فمن آمن كأنه قال فالذين آمنوا وأصلحوا الخ، وهذا يؤيد أن من موصولة. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ الباء سببية وما مصدرية، أي بسبب فسقهم، والفسق الخروج عن الطاعة كلاً أو بعضاً، فالكافر فاسق لخروجه عن طاعة الله بالكلية. قوله: ﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ هذا مرتب على قوله ﴿ وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ كأنه قال ليس على الرسول إلا البشارة والنذارة، وليس من وظيفته إجابتهم عما سألوه عنه ولا فعل ما طلبوه منه لأنه ليس عنده خزائن الله الخ. قوله: ﴿ خَزَآئِنُ ٱللَّهِ ﴾ أي لا أدعي أن مقدرات الله من أرزاق وغيرها مفوضة إلي حتى تطلبوا مني قلب الجبال ذهباً وغير ذلك. قوله: ﴿ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ ﴾ أي ما غاب عني من أفعال الله حق حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب. قوله: ﴿ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ أي حتى تكلفوني بصفات الملائكة، كالصعود للسماء، وعدم المشي في الأسواق، وعدم الأكل والشرب. وهذه الآية نزلت حين قالوا له: إن كنت رسولاً فاطلب منه أن يوسع علينا ويغني فقرنا، فأخبر أن ذلك بيد الله لا بيده بقوله: ﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ ﴾، وقالوا له أيضاً: أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نتهيأ لذلك، فتحصل المصالح وندفع المضار، فقال لهم: ولا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون، وقالوا له: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء، فقال لهم: ولا أقول إني ملك. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ الهمزة داخلة على المحذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير ألا تسمعون الحق فلا تتفكرون. قوله: (فتؤمنون) معطوف على تتفكرون وليس جواباً للنفي ولا لنصب. قوله: ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾ محط الأمر قوله لعلهم يتقون، والمعنى أن إنذارك لا ينفع إلا المؤمن العاصي الخائف، وأما الكافر المعاند فلا ينفع فيه إلا الإنذار، فلا ينافي أنه مأمور بإنذار كل مخالف أفاد الإنذار أو لا، وإنما ذلك بيان للذين ينفع فيهم الإنذار. قوله: (والمراد بهم) أي بالذين يخافون.
قوله: ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾ أي لا تبعدهم عن مجلسك ولا عن القرب منك. قوله: ﴿ يَدْعُونَ ﴾ أي يعبدون. قوله: ﴿ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ ﴾ خص هذين الوقتين لأن في الأول صلاة الصبح وفي الثاني صلاة العصر، وقد قيل إن كلاًّ هي الصلاة الوسطى. قوله: (لأشياء) مفعول لمحذوف تقديره لا يريدون شيئاً. قوله: (من أعراض الدنيا) يصح ضبطه بالعين المهملة وبالغين المعجمة، والثاني أولى لشموله للأموال وغيرها. قوله: (وهم الفقراء) أي كعمار بن ياسر وبلال وصهيب. قوله: (وكان المشركون طعنوا فيهم) هذا إشارة لسبب نزولها. وحاصلة كما قال الخازن: إنه جاء الأقرع بن حابس التيمي، وعتبة بن حصن الفزاري، وعباس بن مرداس، وهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع ناس من ضعفاء المؤمنين، كعمار بن ياسر وصهيب وبلال، فلما رأوهم حوله حقروهم وقالوا يا رسول الله لو جلست في صدر المسجد وأبعدت عنا هؤلاء ورائحة جبابهم، وكانت عليهم جبب من صوف ولها رائحة كريهة لمداومة لبسها لعدم غيرها، لجالسناك وأخذنا عنك، فقال النبي ما أنا بطارد المؤمنين، قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا مجلساً تعرف به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فأتى بالصحيفة ودعا علياً ليكتب، فنزل جبريل بقوله: ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ ﴾ الآية، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة ثم دعانا وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه، وإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله﴿ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾[الكهف: ٢٨] الآية، فكان يقعد معنا بعد ذلك وندنو منه، حتى كادت ركبنا تمس ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يريد أن يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ١ هـ. قوله: ﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ هذا كالتعليل لما قبله، والمعنى لا تؤاخذ بذنوبهم ولا بما في قلوبهم إن أرادوا بصحبتك غير وجه الله، وهذا نظير قوله في الآية الأخرى﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾[الأنعام: ١٦٤].
قوله: ﴿ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ ﴾ يقال في إعرابها ما قيل فيما قبلها، إلا أن قوله من حسابك بيان لقوله من شيء وليس حالاً، وفي هاتين الجملتين من أنواع البديع رد الصدر على العجز، كقولهم: عادات السادات سادات العادات والتتميم، وإلا فأصل التعليل قد حصل بالجملة الأولى. قوله: (جواب النفي) أي المرتب على النهي، وقوله: ﴿ فَتَكُونَ ﴾ معطوفاً على قوله: ﴿ فَتَطْرُدَهُمْ ﴾.
قوله: (إن فعلت ذلك) أي طردهم.
قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف، والتقدير مثل ذلك الفتون المتقدم من أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض. قوله: (والغني بالفقير) أي ففتنة الغني بالفقير لسبق الفقير إلى الإيمان، وفتنة الفقير بالغني زينة الدنيا يتمتع فيها مع كفره. قوله: (بأن قدمنا بالسبق إلى الإيمان) بيان لفتنة الأغنياء بالفقراء. قوله: ﴿ لِّيَقُولوۤاْ ﴾ اللام يصح أن تكون لام كي أو لام الصيرورة والعاقبة. قوله: (منكرين) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي على سبيل التهكم. قوله: (قال تعالى) أي رداً عليهم. قوله: (بلى) جواب الاستفهام التقريري. قوله: ﴿ وَإِذَا جَآءَكَ ﴾ هذا من تتمة ما نزل في الفقراء. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ وصفهم أولاً بالعبادة وثانياً بالإيمان إظهاراً لمزاياهم. قوله: ﴿ فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ﴾ الخ، أي اذكر لهم هذه الآية إلى قوله: ﴿ ﴾ في وقت مجيئهم إليك، وهذا السلام يحتمل أنه سلام التحية أمر أن يبدأهم به إذا قدموا عليه خصوصية لهم، وإلا فسنة السلام أن تكون أولاً من القادم، وعليه فتكون الجملة إنشائية، ويحتمل أنه سلام الله عليهم إكراماً لهم أمر بتبليغه لهم، وعليه فتكون الجملة خبرية لفظاً ومعنى، وسلام مبتدأ، وعليكم خبره، وسوغ الابتداء بالنكرة كونه دعاء، والدعاء من المسوغات. قوله: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ ﴾ أي ألزم نفسه تفضلاً منه وإحساناً. قوله: (وفي قراءة بالفتح) أي وهي سبعية أيضاً، والحاصل أن القراءات ثلاث، فتحهما وكسرهما، وفتح الأولى وكسر الثانية، وكلها سبعية فأما الفتح فيهما فالأولى بدل من الرحمة، والثانية في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، أي فغفرانه ورحمته في صدر جملة وقعت خبراً لمن الموصولة، وأما على فتح الأولى وكسر الثانية، فالأولى بدل، والثانية استئناف، فتأمل فإن زبدة احتمالات كثيرة. قوله: (بدل من الرحمة) أي بدل شيء من شيء. قوله: ﴿ بِجَهَٰلَةٍ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿ عَمِلَ ﴾، والتقدير عمل سوءاً حال كونه جاهلاً بما يترتب على معاصيه من العقاب غافلاً عن جلال الله، وفيه إشارة إلى أن المؤمن لا يقع منه الذنب إلا في حال جهله وغفلته، وهذه الآية لا تخص الفقراء الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من تاب إلى يوم القيامة، ولعموم بشارتها افتتح أبو الحسن الشاذلي حزبه. قوله: ﴿ وَلِتَسْتَبِينَ ﴾ معطوف على محذوف قدره المفسر بقوله ليظهر الحق، فطريق الهدى واضحة، وطريق الضلال واضحة، لما في الحديث " تركتكم على المحبة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يضل عنها إلا هالك ". قوله: (وفي قراءة بالتحتانية) أي ورفع سبيل، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية، ففي الفوقانية الرفع والنصب، وفي التحتانية الرفع لا غير. قوله: (خطاب للنبي) أي والمعنى لتعلم سبيلهم فتعاملهم بما يليق بهم.
قوله: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ ﴾ هذا أمر من الله لنبيه أن يخاطب الكفار الذين طمعوا في دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينهم ويرد عليهم بذلك. قوله: ﴿ نُهِيتُ ﴾ أي نهاني ربي بواسطة الدليل العقلي والسمعي، لدلالة كل منهما على أن الله واحد لا شريك له، متصف بكل كمال مستحيل عليه كل نقص. قوله: (تعبدون) هذا أحد إطلاقات الدعاء، وبه فسر في غالب اقرآن يشمل الطلب وغيره. قوله: ﴿ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ ﴾ جمع هوى سمي بذلك لأنه يهوى بصاحبه إلى المهالك، وهذه الجملة تأكيد لما قبلها. قوله: ﴿ إِذاً ﴾ إذا حرف جواب وجزاء، ولا عمل لها لعدم وجود فعل تعمل فيه. قوله: (إن اتبعتها) أي الأهواء وهو بيان لمعنى إذاً. قوله: ﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ تأكيد لما قبلها. قوله: ﴿ قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ﴾ هذا زيادة في قطع طمعهم الفاسد، والمعنى لا تطمعوا في دخولي دينكم لأني على بينة من ربي، ومن كان كذلك كيف يخدع ويتبع الضلال، وهذا نظير قوله تعالى:﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ﴾[الأنعام: ٨٣] قوله: (بيان) أي دليل واضح. قوله: ﴿ وَكَذَّبْتُم بِهِ ﴾ أي بوحدانيته، والجملة حالية، ويشير لذلك تقدير المفسر قد. قوله: ﴿ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ ما الأولى نافية والثانية موصولة، وقوله: (من العذاب) بيان لما الثانية. وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم، وكانوا يستعجلون به استهزاء كما في الأنفال﴿ وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾[الأنفال: ٣٢] الآية. قوله: ﴿ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ ﴾ قدر المفسر القضاء إشارة إلى أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، ويحتمل أنه ضمنه معنى ينفذ فعداه إلى المفعول به، ويحتمل أنه منصوب بنزع الخافض أي بالحق. قوله: (وفي قراءة يقص) من قص الأثر تتبعه، وقص الحديث قاله. قوله: ﴿ لَّوْ أَنَّ عِندِي ﴾ أي لو كان الأمر مفوضاً إليَّ. قوله: ﴿ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ أي من العذاب. قوله: (بأن أعجله) بيان قوله: ﴿ لَقُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾ والضمير عائد على ما تستعجلون. قوله: (متى يعاقبهم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضافين، والتقدير والله أعلم بوقت عقوبة الظالمين، فلا يستعجلوا ذلك، فإنه لا حق بهم إن لم يتوبوا، وإنما تأخيره من حلم الله عليهم، فلولا حلمه ما بقي أحد، قال تعالى:﴿ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾[المؤمنون: ٧١] فمن القبيح بعض العامة حلم الله يفتت الأكباد. إن قلت مقتضى هذه الآية أنه لو كان الأمر مفوضاً له في تعذيبهم لعجله واستراح، ومقتضى ما ورد من إتيان ملك الجبال يستشيره في أنه يطبق عليهم الأخشبين أنه لم يرض وقال أرجو أن يخرج من ذريتهم من يؤمن بالله فحصل التنافي. أجيب: بأن ما في الآية بالنظر لأصل البشرية، لأن البشر يتأثر بالضر والنفع، وما في الحديث إنما هو رحمة من الله ألقاها عليه فرحمهم الله بها، قال تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ﴾[آل عمران: ١٥٩] فرجع الأمر لله فتدبر.
قوله: ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ ﴾ لما بين سبحانه وتعالى أولاً أنه منفرد بإيجاد كل شيء خيراً كان أو شراً لقوله:﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾[الأنعام: ٥٧] الآية، بين ثانياً أنه منفرد بعلم الغيب بقوله: ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ ﴾ فهو كالدليل لما قبله كأنه قال العذاب والرحمة بقدرة الله، ولا يعلم وقت مجيء ذلك إلا الله لأن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وعنده خبر مقدم، ومفاتح الغيب مبتدأ مؤخر، وتقديم الظرف يؤذن بالحصر وهو منصب على الجميع، فلا ينافي أن بعض الأنبياء والأولياء يطلعه الله على بعض المغيبات الحادثة، قال تعالى:﴿ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ﴾[الجن: ٢٦-٢٧] وأما من قال إن نبينا أو غيره أحاط بالمغيبات علماً كما أحاط علم الله بها فقد كفر. قوله: (خزائنه) أشار بذلك إلى أن مفاتح جمع مفتح بفتح فكسر كمخزن وزنا ومعنى العلوم المخزونة، وقوله: (أو الطرق) أي فهو جمع مفتح بكسر ففتح بمعنى الطرق التي توصل إلى تلك العلوم المخزونة الغيبية ﴿ لاَ يَعْلَمُهَآ ﴾ أي الخزائن أو الطرق تفصيلاً إلا هو، وأما علمنا فيها فهو على سبيل الإجمال، وهو تأكيد لما علم من تقديم الظرف. قوله: (علم الساعة) أي وقت مجيئها وتفصيل ما يحصل فيها. قوله: (الآية) أي وهي:﴿ يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ ﴾[الشورى: ٢٨] أي المطر، أي لا يعلم وقت مجيئه وعدد قطراته ونفع الناس به إلا الله،﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ ﴾[لقمان: ٣٤]، أي من كونه ذكراً أو أنثى شقياً أو سعيداً يعيش أو يموت.﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾[لقمان: ٣٤] أي لا تعلم نفس ما يعرض لها في المستقبل من خير أو شر، وغير ذلك من الأحوال التي تطرأ على الأنفس، قال الشاعر: وأعلم علم اليوم والأمس قبله   ولكنني عن علم ما في غد عمى﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾[لقمان: ٣٤] أي بأي محل يكون قبض روحها فيه أو دفنها فيه، إن الله عليم خبير ببواطن الأشياء كظواهرها، وهذا التفسير لابن عباس، وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب خزائنه الخفية في الأرض، والأقرب والأتم أن المراد بمفاتح الغيب الأمور المغيبة الخفية جميعها كانت الخمسة أو غيرها. قوله: ﴿ مَا ﴾ (يحدث) ﴿ فِي ٱلْبَرِّ ﴾ أي من خير أو شر. قوله: (القرى التي على الأنهار) أي فيعلم رزق أهلها وعددهم وغير ذلك، وقال جمهور المفسرين: المراد البر والبحر المعروفان، لأن جميع الأرض إما بر أو بحر، وفي كل عوالم وعجائب وسعها علمه وقدرته. قوله: ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ﴾ أي من الشجر إلا يعلمها، أي وقت سقوطها والأرض التي تسقط عليها. قوله: ﴿ وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ ﴾ أي هي والتي يضعها والزارع للنبات فيعلم موضعها وهل تنبت أو لا، وقيل المراد بالحبة التي في الصخرة التي في الأرض التي قال فيها الله يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله وكل صحيح. قوله: ﴿ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ ﴾ عطف عام، لأن جميع الأشياء إما رطبة أو يابسة. فإن قلت: إن جميع هذه الأشياء داخل تحت قوله وعنده مفاتح الغيب، فلم أفردها بالذكر؟ أجيب: بأنه من التفصيل بعد الإجمال، وقدم ذكر البر والبحر لما فيهما من جنس العجائب ثم الورقة لأنه يراها كل أحد، لكن لا يعلم عددها إلا الله، ثم ما هو أضعف من الورقة وهو الحبة، ثم ذكر مثالاً يجمع الكل وهو الرطب اليابس. قوله: (عطف على ورقة) أي الثلاثة معطوفة على ورقة، لكن لا يناسب تسليط السقوط عليها فيضمن السقوط بالنسبة للحبة والرطب واليابس معنى الثبوت. قوله: (بدل اشتمال من الاستثناء قبله) أي وهو قوله إلا يعلمها، وذلك لأن دائرة العلم أوسع من دائرة اللوح، فذات الله وصفاته أحاط بها العلم لا اللوح، والكائنات وما يتعلق بها أحاط بها اللوح والعلم، وهذا على أن المراد بالكتاب اللوح كما أفاده المفسر، وإن أريد بالكتاب علم الله يكون بدل كل من كل لزيادة التأكيد والإيضاح. قوله: (يقبض أرواحكم) ما ذكره المفسر بناء على أن الإنسان له روحان، روح تقبض بالنوم وتبقى روح الحياة فإذا أراد الله موته قبضهما جميعاً وعليه جملة من المفسرين ويشهد له آية الزمر، قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا ﴾[الزمر: ٤٢] الآية، ويقرب هذا أحوال الأولياء لأن لهم حالة تسرح فيهم أرواحهم وترى العجائب كالنائم، والمشهور أنها روح واحدة، ويكون معنى يتوفاكم يذهب شعوركم لأنهم عرفوا النوم بأنه فترة طبيعية تهجم على الشخص قهراً عليه، تمنع حواسه الحركة وعقله الإدراك. قوله: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ﴾ أي لأنه الخالق للأفعال والحركات والسكنات، فهو المغير للأشياء ولا يتغير، قال العارف: ولي في خيال الظل أكبر عبرة   لمن كان في بحر الحقيقة راقيشخوص وأشكال تمر وتنقضي   فتفنى جميعاً والمحرك باقيقوله: ﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ ﴾ ثم في كل للترتيب الرتبي، لأن بعد النوم البعث بالإيقاظ إلى انقضاء الأجل ثم بعده البعث بالإحياء من القبور ثم الإخبار بما وقع من العباد. قوله: ﴿ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ ﴾ الجمهور على بناء يقضي للمجهول، وأجل نائب فاعل والفاعل محذوف إما عائد على الله أو على الشخص، ومعنى قضاء الشخص أجله استيفاؤه إياه، وقرئ بالبناء للفاعل، وأجلاً مفعوله، والفاعل مستتر عائدة على الله. قوله: (فيجازيكم به) أي إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ ﴾ أي المستعلي الغالب على أمره الحاكم فلا معقب لحكمه، يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويضر وينفع، فلا مراد لما قضى، ولا ملجأ منه إلا إليه، فهو المتصرف في خلقه بجميع أنواع التصرفات، من إيجاد وإعدام، وإعزاز وإذلال، وغير ذلك. قوله: ﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ أي فوقية مكانة أي شرف رفعة وعلو قدر تليق به، لا فوقية مكان لاستحالة اتصافه به. قوله: ﴿ وَيُرْسِلُ ﴾ معطوف على صلة أل كأنه قال وهو الذي يقهر ويرسل، وهذا من جملة قهره سبحانه وتعالى. (ملائكة تحصي أعمالكم) أي من خير وشر، لما ورد أن كل إنسان له ملكان، ملك عن يمينه، وملك عن شماله، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين حالاً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال اصبر لعله يتوب منها، فإذا لم يتب منها كتبها صاحب الشمال، قال العلماء يؤخر ست ساعات فلكية فإن تاب فيها لم تكتب هكذا، قال المفسر: وقيل المراد بالحفظة الملائكة الموكلون بحفظ ذوات العبيد من الحوادث والآفات، وهم عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وقيل المراد ما هو أعم وهو الأتم. إن قلت: إن الله هو الحافظ فلم وكلت الملائكة بحفظ الشخص أجيب: بأن ذلك تكرمة لبني آدم وإظهاراً لفضلهم، والحكمة في كون الملائكة تكتب على الشخص ما صدر منه أنه إذا علم ذلك، ربما كان ذلك داعياً للخوف والانزجار عن فعل القبائح والمعاصي. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ ﴾ حتى ابتدائية، والمعنى ينتهي حفظ الملائكة للأشخاص عن فراغ الأجل، فالملائكة مأمورون بحفظ ابن آدم حياً، فإذا فرغ أجله فقد انتهى حفظهم له. قوله: ﴿ ٱلْمَوْتُ ﴾ أي أسبابه. قوله: (وفي قراءة توفاه) أي بالامالة المحضة، وهي ما كانت للكسر أقرب، وهو إما ماض وحذفت التاء لأنه مجازي التأنيث، أو مضارع ويكون فيه حذف إحدى التاءين. قوله: ﴿ رُسُلُنَا ﴾ أي أعوان ملك الموت الموكلون بقبض الأرواح. إن قلت: قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا ﴾[الزمر: ٤٢] وقال في الآية الأخرى﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾[السجدة: ١١] فكيف الجمع بين هاتين الآيتين وهذه، أجيب: بأن الله هو المتوفي حقيقة، فإذا حضر أجل العبد، اشتغلت أعوان ملك الموت بانتزاعها من الجسد، فإذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت بيده، فهو القابض لجميع الأرواح، إن قلت: ورد في بعض الأحاديث وتول قبض أرواحنا عند الأجل بيدك أجيب: بأن معناه شهود الرب واستيلاء محبته على قلبه حتى يغيب عن إحساسه، فلا يشاهد ملك الموت حين يقبض الروح، وإن كان هو القابض لها، وذلك في أهل محبة الله، ومن يموت شهيد حرب أو غريقاً أو حريقاً ونحوهم. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ هذه الجملة حالية من رسلنا، أي والحال أنهم لا يقصرون في ذلك. فقد ورد: ما من أهل بيت شعر ولا مدر، إلا وملك الموت يطوف بهم مرتين. وورد: أن الدنيا كلها بين ركبتي ملك الموت، وجميع الخلائق بين عينيه، ويداه يبلغان المشرق والمغرب، وكل من نفد أجله يعرفه بسقوط صحيفته من تحت العرش عليها اسمه، فعند ذلك يبعث أعوانه من الملائكة ويتصرفون بحسب ذلك. وورد: أن ملك الموت يقبض الروح من الجسد ويسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً، أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافراً ويقال معه سبعة من ملائكة الرحمة، وسبعة من ملائكة العذاب، فإذا قبض نفساً مؤمنة، دفعها ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدن بها إلى السماء، وإذا قبض نفساً كافرة، دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء، ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين.
قوله: ﴿ ثُمَّ رُدُّوۤاْ ﴾ معطوف على توفته، وأفرد أولاً لأن التوف يكون لكل شخص على حدة، وجمع ثانياً لأن الرد يكون للجميع. قوله: (مالكهم) دفع بذلك ما يقال إن بين هذه الآية وآية﴿ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ ﴾[محمد: ١١] تنافياً فأجاب بأن المراد بالمولى هنا المالك وبه هناك الناصر. قوله: ﴿ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ ﴾ أي لا لغيره. قوله (لحديث بذلك) وفي رواية أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة. قوله: ﴿ قُلْ ﴾ (يا محمد) أي توبيخاً لهم وردعاً. قوله: (أهوالهما) أي فالظلمات كناية عن الأهوال والشدائد التي تحصل في البر والبحر، وما مشى عليه المفسر أن لشمولها للحقيقة وغيرها، وقيل المراد بالظلمات حقيقتها، فظلمات البر هي ما اجتمع من ظلمة الليل وظلمة السحاب، وظلمة البحر ما ادتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة. قوله: ﴿ وَخُفْيَةً ﴾ الجمهور على ضم الخاء، وقرأ أبو بكر بكسرها، وقرأ الأعمش خيفة كالأعراف. قوله: ﴿ لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ ﴾ الجملة في محل نصب مقول القول كما قدره المفسر. قوله: (والشدائد) عطف تفسير. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي وكل منهما مع قراءة أنجيتنا بالتاء، وأما من قرأ أنجانا فيقرأ بالتشديد هنا لا غير، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية.
قوله: ﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ ﴾ هذا بيان لكونه قادراً على الإهلاك إثر بيان أنه المنجي من المهالك. قوله: (كالحجارة) أي التي نزلت على أصحاب الفيل، وقوله (والصيحة) أي صرخة جبريل التي صرخها على ثمود قوم صالح. قوله: (كالخسف) أي الذي وقع لقارون. قوله: ﴿ شِيَعاً ﴾ منصوب على الحال جمع شيعة وهي من يتقوى بهم الإنسان ويجمع على أشياع. قوله: (فرقاً) جمع فرقة وهي الجماعة. قوله: (لما نزلت) أي آية ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾.
قوله: (أهون وأيسر) أي مما قبله وهو رضا بقضاء الله، وإلا فقد استعاذ منه أولاً فلم يفد. قوله: (ولما نزل ما قبله) أي قوله: ﴿ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ ﴾ الخ. قوله: (أعوذ بوجهك) أي فقال مرتين: مرة عند نزول قوله: ﴿ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾، ومرة عند نزول قوله: ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾.
قوله: (فمنعنيها) أي منعني هذه المسألة، بمعنى أنه لم يجبني في هذه الدعوة لما سبق في علمه من حصولها، فكان أول ابتداء إذاقة البعض بأس البعض بعد موته صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة في وقعة علي ومعاوية، وما زالت الفتن تتزايد إلى يوم القيامة. قوله: (لما نزلت) أي هذه الآية. قوله: (قال أما إنها) أما أداة استفتاح، وإنها بكسر الهمزة، والضمير عائد على الأمور الأربعة: عذاباً من فوقكم، وعذاباً من تحت أرجلكم، وتفريقكم شيعاً، ونصب القتال بينكم، فهذه الأربعة كائنة قبل يوم القيامة، لكن الأخيران قد وقعا من منذ عصر الصحابة، والأولان تفضل الله بتأخير وقوعهما إلى قرب قيام الساعة، هكذا ورد، ولكن قال العلماء وإن كان الأخيران يقعان قرب قيام الساعة، لكن العذاب بهما ليس عاماً كما وقع في الأمم الماضية. قوله: (ولم يأت تأويلها) الضمير يعود على الآية أو الأمور الأربعة، أي صرفها عن ظاهرها، بل هي باقية على ظاهرها، لكن بالوجه الذي علمته. قوله: ﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ﴾ أي أنكره حيث قالوا: إنه سحر أو شر أو كهانة أو غير ذلك، وما ذكره المفسر من أن الضمير عائد على القرآن هو أحد أقوال وهو أقربها، وقيل الضمير عائد على العذاب، وقيل على الحق، وقيل على النبي وهو بعيد. قوله: (الصدق) أي لأنه منزل من عند الله وما كان من عند الله فهو مصدق لا محالة. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أشار بذلك إلى أنه منسوخ بآيات القتال، ولكن المناسب للمفسر أن يقول فأقاتلكم بدل قوله فأجازيكم. والحاصل أن في الآية تفسيرين الأول أن الآية محكمة، والمعنى لست مجازياً على أعمالكم في الآخرة، والثانية أنها منسوخة، والمعنى لست مقاتلاً لكم إن حصلت منكم المخالفة، إذا علمت ذلك فالمفسر لفق بين التفسيرين. قوله: ﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ﴾ نزلت رداً لاستعجالهم العذاب الذي كان يعدهم به، والمعنى لكل خبر من الأخبار رحمة وعذاباً، زمن يقع فيه إما الدنيا أو الآخرة أو فيهما لا يعلمه إلا الله: قوله: (وقعت يقع فيه) أشار بذلك إلى أن مستقر اسم زمان، ويصح أن يكون مصدراً أو اسم مكان.
قوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ﴾ رأى بصرية والذين مفعولها، ويبعد كونها علمية، لأنه يقتضي أن المفعول الثاني محذوف، وحذفه إما شاذ أو ممنوع. قوله: ﴿ يَخُوضُونَ ﴾ الخوض في الأصل الدخول في الماء فيستعار للشروع والدخول في الكلام، فشبه آيات الله بالبحر، وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الخوض، فإثباته تخييل، والجامع بينهما التعرض للهلاك في كل، فإن الخائض للبحر الغريق من متعرض للهلاك، فكذلك المتعرض للأباطيل في كلام الله. قوله: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ الخطاب له ولأصحابه، فالنهي عام وهو منسوخ بآية القتال. قوله: ﴿ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ الضمير عائد على الآيات وذكر باعتبار كونها حديثاً. قوله: ﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ﴾ الخطاب له والمراد غيره، لأن إنساء الشيطان له مستحيل عليه. قوله: (بسكون النون والتخفيف) أي للسين من أنساه أوقعه في النسيان، وقوله (وفتحها) أي النون وقوله (والتشديد) أي للسين من نساه فيتعدى بالهمزة والتضعيف، وهما قراءتان سبعيتان، ومفعول ينسينك محذوف تقديره النهي أو ما أمرك الله به. قوله: (فيه وضع الظاهر الخ) أي زيادة في التشنيع عليهم، وأتى في جانب الرؤية بإذا المفيدة للتحقيق، وفي جانب الانساء بإن المفيدة إشارة إلى أن خوضهم في الآيات محقق، وإنساء الشيطان غير محقق، بل قد يقع وقد لا يقع. قوله: (وقال المسلمون) بيان لسبب نزول الآية. قوله: ﴿ وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، و ﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ مبتدأ مؤخر. قوله: (إذا جالسوهم) أي فالجلوس مع الخائضين غير ممنوع لكن بشرط عدم مسايرتهم لما هم عليه وبشرط وعظهم ونهيهم عن المنكر، فهو تخصيص للنهي المتقدم. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن ﴾ (عليهم) ﴿ ذِكْرَىٰ ﴾ أشار بذلك إلى أن ذكرى مبتدأ خبر محذوف، ويصح أن يكون مفعولاً لمحذوف تقديره ولكن يذكرونهم ذكرى. قوله (الذي كلفوه) أي وهو دين الإسلام، ودفع بذلك ما يقال المشركون لا دين لهم من الأديان المشروعة، فكيف أضيف إليهم دين، وأخبر عنه أنهم اتخذوه لعباً ولهواً. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهو منسوخ بآياته، ويدخل في عموم هذه الآية، من اتخذ دين الإسلام لهواً ولعباً، وأحدث فيه ما ليس منه، كالخوارج وبعض من يدعي الانتساب إلى الصالحين، حيث جعلوا الطريقة الموصلة إلى الله طبلاً وزمراً، وأحدثوا أموراً لا تحل في دين الله.
قوله: ﴿ أَن تُبْسَلَ ﴾ علة لقوله: ﴿ وَذَكِّرْ بِهِ ﴾ على حذف لام العلة قدرها المفسر ولا مقدرة، والابسال هو تسليم النفس في الحرب للقتال، والباسل الشجاع الذي يلقي بنفسه للهلاك. قوله: ﴿ لَيْسَ لَهَا ﴾ إما استئناف أو حال من نفس أو صفة لها. قوله: ﴿ وَلِيٌّ ﴾ اسم ليس، و ﴿ لَهَا ﴾ خبر مقدم و ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ حال من ولي. قوله: (تفد كل فداء) أي تفتد بكل فداء قوله: (ما تفدى به) أشار بذلك إلى أن الضمير لا يؤخذ عائد على الفداء بمعنى المفدى به، فهو مصدر أريد به اسم مفعول. قوله ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ خبره الاسم الموصول، و ﴿ لَهُمْ شَرَابٌ ﴾ مبتدأ وخبر والجملة إما خبر ثان أو حال من الضمير في أبسلوا، أو مستأنف بيان للإبسال. قوله: (ماء بالغ نهاية الحرارة) أي يقطع الأمعاء كما قال في الآية الأخرى﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾[محمد: ١٥].
قوله: (بكفرهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية، والفعل في تأويل مصدر مجرور بالباء.
قوله: ﴿ قُلْ أَنَدْعُواْ ﴾ قيل سبب نزولها أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه دعا والده إلى عبادة الأصنام، فنزلت الآية أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرد على عبد الرحمن ومن يقول بقوله، وفيه اعتناء بشأن الصديق وإظهار لفضله، حيث وجه الأمر إلى رسول الله، وفي الواقع الأمر لأبي بكر، والمعنى لا يليق منا عبادة من لا ينفعنا إذا عبدناه، ولا يضرنا إذا تركناه. قوله: ﴿ وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا ﴾ معطوف على أندعوا، فهو داخل في حيز الاستفهام. قوله: ﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ ﴾ أي بعد وقت هداية الله لنا. قوله: ﴿ كَٱلَّذِي ﴾ صفة لموصوف محذوف، أي نرد رداً مثل الذي استهوته، والاستهواء من الهوى وهو السقوط من علو إلى سفل، سمى الاضلال بذلك، لأن من سقط من علو إلى سفل ولم يجد محلاً يستند عليه هلك، فكذلك من ترك الدين القويم ولم يتبعه هلك ولا يجد ناصراً وقد صرح بالمراد من هذا التشبيه في قوله تعالى:﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾[الحج: ٣١] والحاصل أن المشرك بالله مع وجود من يدله على التوحيد، مثله مثل من اختطفته الشياطين وسارت به في المفاوز والمهالك، مع سماعه مناداة من يأخذ بيده ويخلصه منهم وهو مفرط وراض لنفسه بذلك، والمراد بالشياطين ما يشمل شياطين الإنس. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ متعلق باستهوته. قوله: حال من الهاء) أي في استهوته. قوله ﴿ لَهُ أَصْحَابٌ ﴾ جملة في محل نصب صفة لحيران قوله: (والاستفهام الخ) أي وهو قوله أندعوا، والمعنى لا ينبغي غير الله بعد هدايته لنا، لأن من عبد غير الله بعد إيمانه بالله، كان كمثل من أخذته الشياطين فصار حيران لا يدري أين يتوجه، مع كون أصحابه يدعونه إلى الطريق المستقيم فلا يجيبهم. قوله: ﴿ هُوَ ٱلْهُدَىٰ ﴾ أي التوفيق والاستقامة والجملة المعرفة الطرفين تفيد الحصر، فهو بمعنى إن الدين عند الله الإسلام. قوله: ﴿ وَأُمِرْنَا ﴾ أي أمرنا الله بأن نسلم بمعنى نوحد وننقاد لرب العالمين. قوله: ﴿ وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاةَ ﴾ قدر المفسر الباء إشارة إلى أنه معطوف على أن نسلم، فهو داخل تحت الأمر أيضاً، وفيه التفات من التكلم للخطاب، وعطف التقوى عليه من عطف العام، وخص الصلاة بعد الإسلام لأنها أعظم أركانه. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ هذا دليل للأمر المتقدم وموجب لامتثاله، والمعنى امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، لأنكم تجمعون إليه ويحاسبكم. قوله: (أي محقاً) أشار بذلك إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال، أي حال كونه محقاً أي موصوفاً بالحقية وهو وجوب الوجود الذي لا يقبل الزوال، ويحتمل أن يكون المعنى محقاً لا هازلاً ولا عابثاً، بل خلقهما لحكم ومصالح لعباده، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ ﴾[الدخان: ٣٨].
قوله: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ ﴾ معمول محذوف قدره المفسر بقوله اذكر والواو للاستئناف. قوله: ﴿ يَقُولُ كُن ﴾ هذا كناية عن سرعة الإيجاد، وهو تقريب للعقول، وإلا فلا كاف ولا نون، قال تعالى:﴿ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾[النحل: ٧٧].
قوله: ﴿ فَيَكُونُ ﴾ كل من كن ويكون تام يكتفي بالمرفوع، و (هو) ضمير يعود على جميع ما يخلقه الله. قوله: (يقول للخلق) أي جميعهم من مبدأ الدنيا إلى منتهاها، من العالم العلوي والسفلي. قوله: ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ يصح أن يكون مبتدأ وخبراً أو مبتدأ، والحق نعته خبره قوله يوم يقول. قوله: (لا محالة) أي لا بد من وقوعه وهو بفتح الميم مصدر ميمي، وأما بضم الميم فمعناه الباطل، وليس مراداً هنا. قوله: ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ ﴾ إما ظرف لقوله: ﴿ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ ﴾ وخص بذلك وإن كان الملك لله مطلقاً، لأنه في ذلك الوقت لا يملك أحد شيئاً مما كان يملكه في الدنيا، قال تعالى: ﴿ ﴾ أو خبر عن الملك والتقدير ينفخ في الصورة له أو بدل من يوم يقول. قوله: ﴿ فِي ٱلصُّورِ ﴾ هو نائب الفاعل. قوله: (القرن) أي المستطيل، قال مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق، وفيه جميع الأرواح وفيه ثقب بعددها، فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبة ووصلت لجسدها فتحله الحياة، فالإحياء يحصل بإيجاد الله عند النفخ لا بالنفخ، فهو سبب عادي. قوله: (النفخة الثانية) أي وأما الأولى فعندها يموت كل ذي روح. قال تعالى:﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾[الزمر: ٦٨].
قوله: (وما غاب وما شوهد) أي بالنسبة، وإلا فالكل عند الله شهادة ولا يغيب عليه شيء، بل ما في تخوم الأرضين والسماوات بالنسبة له كما على ظهرها سواء بسواء. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ ﴾ كالدليل لما قبله.
قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ الظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر، والجملة معطوفة على جملة ﴿ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾، والمعنى قل يا محمد لكفار مكة أندعوا من دون الله ما ينفعنا ولا يضرنا، واحتج عليهم بما وقع لإبراهيم مع قومه حيث شنع على عبادة الأصنام. قوله: (واسمه تاريخ) يقرأ بالخاء المعجمة والحاء المهملة، وقيل إن آزر اسمه تاريخ لقبه، وهو جمع بين قولين، وتارخ بدل أو عطف بيان، وآزر من الأزر وهو العيب، لأنه قام به العيب حيث عبد الأصنام أو العوج، ولا شك أنه قام به الأمران العيب والعوج. قوله: ﴿ أَصْنَاماً ﴾ المراد بها ما صور على هيئة الإنسان وعبد من دون الله، كانت من خشب أو حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك، وأصناماً مفعول أول لتتخذ، وآلهة مفعول ثان. قوله: (تعبدها) أي أنت وقومك الذين هم الكنعانيون. قوله: (استفهام توبيخ) أي على سبيل الإنكار. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَرَاكَ ﴾ أي أعلمك، فالكاف مفعول أول، وفي ضلال مبين مفعول ثان، ومقتضى هذه الآية وآية مريم، أن آزر أبا إبراهيم كان كافراً، وهو يشكل على ما قاله المحققون أن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظاً من الشرك، فلم يسجد أحد من آبائه من عبد الله إلى آدم لصنم قط، وبذلك قال المفسر في قوله تعالى:﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ ﴾[الشعراء: ٢١٩] وقال البوصيري في الهمزية: وبدا للوجوه منك كريم   من كريم آباؤه كرماءوأجيب عن ذلك بأن حفظهم من الإشراك ما دام النور المحمدي في ظهرهم، فإذا انتقل جاز أن يكفروا بعد ذلك، كذا قال المفسرون هنا، وهذا على تسليم أن آزر أبوه، وأجاب بعضهم أيضاً بمنع أن آزر بل كان عمه وكان كافراً وتارخ أبوه مات في الفترة ولم يثبت سجوده لصنم، وإنما سماه أباً على عادة العرب من تسمية العم أباً، وفي التوراة اسم أبي إبراهيم تارخ. قوله: (بين) أي ظاهر لا شك فيه. قوله: (كما أريناه إضلال أبيه قومه) أي بسبب تعليمه التوحيد وكونه مجبولاً عليه، لما ورد أنه حين نزل من بطن أمه قام على قدميه وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت، الحمد لله الذي هدانا لهذا. قوله: (ملك) أشار بذلك إلى أن المراد بالملكوت الملك، والتاء فيه للمبالغة كالرغبوت والرهبوت والملكوت، فالملك ما ظهر لنا، والملكوت ما خفي عنا كالسماوات وما فيها إذ علمت ذلك، فالأولى إبقاؤه على ظاهره لما ورد أنه أقيم على صخرة وكشف له من السماوات حتى العرش والكرسي وما في السماوات من العجائب، وحتى رأى مكانه في الجنة، فذلك قوله تعالى:﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾[العنكبوت: ٢٧] وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب، وهذا يفيد أن الرؤية بصرية لا علمية. قوله: (ليستدل به على وحدانيتنا) أي ليعلم قومه كيفية الاستدلال على ذلك لا لتوحيد نفسه، فإن توحيده بالمشاهدة لا بالدليل. قوله: ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ ﴾ معطوف على محذوف قدره المفسر بقوله ليستدل الخ. قوله: (اعتراض) أي بين قوله ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ وبين الاستدلال عليهم.
قوله: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ ﴾ من الجنة وهي الستر، وحاصل ذلك أن نمروذ بن كنعان كان يدعو الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام بغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة، وأمر بعزل النساء عن الرجال، وجعل على كل عشرة رجلاً يحفظهم، فإذا حاضت المرأة خلوا بينها وبين زوجها، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما، فخرج نمروذ بالرجال في البرية وعزلهم عن النساء تخوفاً من ذلك المولود، فمكث بذلك ما شاء الله، ثم بدت له حاجة أحب أوصيك بها، ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك، فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك، فقال آزر أنا أشح على ديني من ذلك، فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك، ثم دخل على أهله فلم يتمالك نفسه حتى واقع زوجته فحملت ساعتها بإبراهيم، فلما دنت ولادتها خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فلما وضعته جعلته في نهر يابس، ثم لفته في خرقة وتركته، قيل أخبرت أباه به، وقيل لا، وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل، فتجده حياً وهو يمص من أصبع ماء، ومن أصبع لبناً، ومن أصبع سمناً، ومن أصبع عسلاً، ومن أصبع تمراً، وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر، وفي الشهر كالسنة، فمكث خمسة عشر شهراً، قالوا فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه من ربي قالت أنا، قال فمن ربك قالت أبوك، قال فمن رب أبي قالت اسكت، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض، ثم أخبرته بما قال، فأتاه أبوه آزر فقال إبراهيم: يا أبتاه من ربي قال أمك، قال فمن رب أمي قال أنا، قال فمن ربك قال نمروذ قال فمن رب نمروذ فلطمه لطمة وقال له اسكت. ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ﴾ الآية، واختلف في وقت هذا القول، هل كان قبل البلوغ والرسالة أو بعدهما، والصحيح أنه بعد البلوغ وإيتاء الرسالة، وما وقع من إبراهيم إنما هو مجاراة لقومه واستدراج لهم، لأجل أن يعرفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله، وليس إثباته الربوبية لهذه الأجرام على حقيقة حاشاه من ذلك، لأن الأنبياء معصومون من الجهل قبل النبوة وبعدها، لأن توحيدهم بالشهود على طبق ما جبلت عليه أرواحهم من يوم ألست بربك. قوله: (قيل هو الزهرة) خصها لأنهم أضوأ الكواكب وهي في السماء الثالثة. قوله: (وكانوا نجامين) أي عالمين بالنجوم أو عابدين لها. قوله: (في زعمكم) أي فالجملة خبرية على حسب زعمهم، لا على حسب الواقع واعتقاد إبراهيم. قوله: (غاب) يقال أفل الشيء أفولاً. قوله: (التغير والانتقال) أي لأن الأفول حركة، الحركة تقتضي حدوث المتحرك وإمكانه، فيمتنع أن يكون إلهاً. قوله: (فلم ينجع) أي لم يؤثر ويفد، وهو من باب خضع، يقال نجع نجوعاً ظهر أثره. قوله: ﴿ بَازِغاً ﴾ حال من القمر والبزغ الطلوع.
قوله: ﴿ قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ﴾ بزعمكم كما تقدم. قوله: (يثبتني على الهدى) إنما قال ذلك لأن أصل الهدى حاصل للأنبياء بحسب الفطرة والخلقة فلا يتصور نفيه. قوله: (تعريض لقومه) إنما عرض بضلالهم في أمر القمر، لأنه أيس منهم في أمر الكوكب، ولو قاله في الأول لما أنصفوه، ولهذا صرح في الثالثة بالبراءة منهم وأنهم على شرك، أي فالتعريض هنا لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، قوله: (فلم ينجع فيهم ذلك) أي الدليل المذكور. قوله: (لتذكير خبره) أي وهو ربي وهذا كالمتعين، لأن المبتدأ والخبر عبارة عن شيء واحد، والرب سبحانه وتعالى مصان عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفته علام ولم يقولوا علامة، وإن كان علامة أبلغ تباعداً عن علامة التأنيث. قوله: ﴿ هَـٰذَآ أَكْبَرُ ﴾ أي جرماً وضوءاً، وسعة جرم الشمس مائة وعشرون سنة كما قاله الغزالي وفي رواية أنها قدر الأرض مائة وستين مرة، والقمر قدرها مائة وعشرون سنة كما قاله الغزالي وفي رواية أنها قدر الأرض مائة وستين مرة، والقمر قدرها مائة وعشرين مرة. قوله: ﴿ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ ما مصدرية، أي بريء من إشراككم، أو موصولة أي من الذي تشركونه مع الله فحذف العائد. قوله: (والأجرام) عطف عام لأنها تشمل الأصنام والنجوم. قوله: (قصدت بعبادتي) أي فليس المراد بالوجه الجسم المعروف، بل المراد به القلب، وإنما عبر المفسد بالقصد، لأن القصد والنية محلهما القلب، وإنما انتفى الوجه الحسي لاستحالة الجهة على الله. قوله: (خلق) ﴿ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ أي وما فيهما، ومن جملته معبوداتكم العلوية والسفلية، لقد أبطل السفلية بقوله إني أراك وقومك في ضلال مبين، والعلوية بقوله لما جن عليه الليل الخ. قوله: ﴿ حَنِيفاً ﴾ حال من التاء في وجهت.
قوله: ﴿ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ روي أنه لما شب إبراهيم وكبر، جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها له ليبيعها، فيذهب بها وينادي يا من يشتري ما يضره ولا ينفعه، فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه، حتى إذا فشا فيهم استهزاؤه جادلوه، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ الخ. قوله: (وهددوه) عطف تفسير على (جادلوه) أي فمحاجتهم كانت بالتهديد لا بالبرهان لعدمه عندهم ومحاجة إبراهيم كانت بالبرهان ففرق بين المقامين. قوله: (أن تصيبه بسوء) أي كخبل وجنون. قوله: ﴿ قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي ﴾ الخ، استئناف وقع وجوباً لسؤال نشأ من حكاية محاجتهم، كأنه قيل فماذا قال حين حاجوه. قوله: (بتشديد النون) أي لإدغام نون الرفع في نون الوقاية. وقوله: (تخفيفها) أي تخلصاً من اجتماع مشددين في كلمة واحدة وهما الجيم والنون. قوله: (عند النحاة) أي كسيبويه وغيره من البصريين، مستدلين بأنها نائبة عن الضمة، وهي قد تحذف كما في قراءة أبي عمرو ينصركم ويأمركم بالإسكان، فكذا ما ناب عنها. قوله: (عند القراء) أي مستدلين بأن الثقل إنما حصل بها. قوله: ﴿ وَقَدْ هَدَانِ ﴾ يرسم بلا ياء لأنها من ياءات الزوائد، وفي النطق يجب حذفها في الوقف، ويجوز إثباتها وحذفها في الوصل، وجملة وقد هدان في محل نصب على الحال من الياء في أتحاجوني، والمعنى أتحاجوني في الله حال كوني مهدياً من عنده، وحجتكم لا تجدي شيئاً لأنها داحضة. قوله: ﴿ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾ أشار إلى أن ما موصولة، فالهاء في به تعود على ما، والمعنى ولا أخاف الذي تشركون الله به أو تعود على الله، والمحذوف هو العائد على ما. قوله: (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، لأن المشيئة ليست مما يشركون به. قوله: (يصيبني) صفة ليشاء وهو إشارة إلى تقدير مضاف، أي إلا أن يشاء ربي إصابة شيء لي، وقوله: (فيكون) بالنصب عطف على مدخول أن أو بالرفع استئناف، أي فهو يكون محول عن الفاعل كما يفيده المفسر نحو﴿ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً ﴾[مريم: ٤] والجملة كالتعليل. قوله: ﴿ عِلْماً ﴾ تمييز محول عن الفاعل كما يفيده المفسر نحو﴿ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً ﴾[مريم: ٤] والجملة كالتعليل للاستثناء قوله: ﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف والفاء عاطفة عليه، أي أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضر ولا تنفع فلا تتذكرون بطلانها. قوله: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ ﴾ استئناف مسوق لنفي الخوف عنه بالطريق الإلزامي بعد نفيه بحسب الواقع في سابقاً ﴿ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾ والاستفهام للتعجب. قوله: ﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ ﴾ مفعول لأشركتم. قوله: ﴿ فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ ﴾ أي من الموحد والمشرك. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ إن شرطية وجوابها محذوف. قدره المفسر بقوله فاتبعوه.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، يحتمل أن يكون من كلام إبراهيم، أو من كلام قومه، أو من كلام الله تعالى، أقوال للعلماء، فإن قلنا إنها من كلام إبراهيم، كان جواباً عن السؤال في قوله فأي الفريقين الخ وكذا قلنا إنها من كلام قومه، ويكونون أجابوا بما هو حجة عليهم، وعلى هذين الاحتمالين فهو خبر لمحذوف، وإن كان من كلام الله تعالى لمجرد الإخبار، كان الموصول مبتدأ، وأولئك مبتدأ ثان، والأمن مبتدأ ثالث، ولهم خبره، والجملة خبر أولئك، وأولئك وخبره خبر الأول. قوله: (في حديث الصحيحين) أي ففيهما عن ابن مسعود قال: لما نزلت الذين ﴿ آمَنُواْ ﴾ الخ، شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لم يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك إنما هو للشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه:﴿ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾[لقمان: ١٣] وهذا ما ذهب إليه أهل السنة، وذهب المعتزلة إلى أن المراد بالظلم في الآية المعصية لا الشرك، بناء على أن خلط أحد الشيئين بالآخر يقتضي اجتماعهما، ولا يتصور خلط الإيمان بالشرك، لأنهما ضدان لا يجتمعان، وأجاب أهل السنة بأن الإيمان قد يجامع الشرك، ويراد بالإيمان مطلق التصديق، سواء كان باللسان أو بغيره، وكذا إن أريد به تصديق القلب، لجواز أن يصدق المشرك بوجود الصانع دون وحدانيته، كما قال تعالى:﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾[يوسف: ١٠٦] أفاده زاده على البيضاوي. قوله: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ﴾ أعرب المفسر اسم الاشارة مبتدأ، وحجتنا بدل منه، وجملة ﴿ ءَاتَيْنَٰهَآ ﴾ خبر المبتدأ، وقوله: ﴿ عَلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ متعلق بمحذوف حال من الهاء في آتيناها، وهو أحسن الأعاريب وقيل إن تلك حجتنا مبتدأ وخبر، وآتيناها خبر ثان، وعلى قومه متعلق بحجتنا، واسم الإشارة عائد على قوله ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ ﴾ إلى هنا، أو من قوله ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ ﴾ إلى هنا. وقوله: (من أفول الكواكب) أي التي هي الزهرة والقمر والشمس. قوله: (وما بعده) أي وهو قوله ﴿ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ الخ. قوله: ﴿ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ ﴾ أي بوحي أو إلهام. قوله: (حجة) ﴿ عَلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ قدره المفسر إشارة إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الهاء في آتيناها. قوله: ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ مفعول نشاء محذوف تقديره رفعها. قوله: (بالإضافة والتنوين) أي فهما قراءتان سبعيتان فعلى الإضافة المفعول به هو درجات وعلى التنوين هو من نشاء، ودرجات ظرف لنرفع، والتقدير نرفع من نشاء في درجات. قوله: (في العلم والحكمة) قيل هي النبوة، فالعطف مغاير، وقيل العلم النافع، فالعطف خاص على عام اعتناء بشرف نفع العلم وإظهاراً لفضله. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ ﴾ أي يضع الشيء في محله، وهو كالدليل لما قبله، والمعنى أن الله لا معقب لحكمه، فيرفع من يشاء، ويضع من يشاء، لا اعتراض عليه، فإنه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ يضع الشيء في محله.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ لا يخفى عليه شيء.
قوله: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾ الخ، لما أنعم الله على إبراهيم عليه السلام بالنبوة والعلم، ورفع درجاته حيث جاهد في الله حق جهاده، أتم الله عليه النعمة، بأن وهب له إسحاق ويعقوب وإسماعيل وجعل في ذريته النبوة إلى يوم القيامة، وإسحاق هو من سارة، وجملة وهبنا معطوفة على قوله: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ﴾ عطف فعليه على اسمية، والمقصود من تلاوة هذه النعم على محمد تشريفه، لأن شرف الولد يسري للولد. قوله: ﴿ كُلاًّ هَدَيْنَا ﴾ أي للشرع الذي أوتيه. قوله: ﴿ وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ﴾ نوح هو ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم وبالكاف، وقيل ملكان بفتح الميم وسكون اللام، وبالنون بعد الكاف ابن متوشلخ، بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو، وسكون الشين المعجمة وكسر اللام، وبالخاء المعجمة ابن ادريس. قوله: ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ ﴾ يحتمل أن الضمير عائد على نوح، لأنه أقرب مذكور واختاره المفسر، ويحتمل أنه عائد على إبراهيم، لأن المحدث عنه، ويبعده ذكر لوط في الذرية، مع أنه ليس ذرية إبراهيم، بل هو ابن هارون وهو أخو إبراهيم. قوله: ﴿ وَأَيُّوبَ ﴾ هو ابن أموص بن رازح بن عيص بن إسحاق. قوله: ﴿ وَمُوسَىٰ ﴾ هو ابن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب، وقوله: ﴿ وَهَارُونَ ﴾ أي وهو أخو موسى وكان أسن منه بسنة. قوله: ﴿ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي المؤمنين، أي فمن اتبعهم في الإيمان ألحق بهم ورفع الله درجاته. قوله: (يفيد أن الذرية الخ) أي لأن عيسى لا أب له. قوله: ﴿ وَإِلْيَاسَ ﴾ (ابن أخي هارون) وقيل هو إدريس فله اسمان وهو خلاف الصحيح، لأن إدريس أحد أجداد نوح وليس من الذرية، والياس بهمز أوله وتركه وهو ابن ياسين بن فنحاص بن عيزار ابن هارون بن عمران، وهذا هو الصحيح، فالصواب للمفسر حذف لفظة أخي. قوله: ﴿ وَٱلْيَسَعَ ﴾ الجمهور على أنه بلام واحدة ساكنة وفتح الياء، وقرئ بلام مشددة وياء ساكنة، وهو ابن أخطوب ابن العجوز. قوله: ﴿ وَيُونُسَ ﴾ هو ابن متى وهي أمه. قوله: ﴿ وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي على سائر الأولين والآخرين. قوله: (عطف على كلاً) أي والعامل فيه فضلنا، وقوله: (أو نوحاً) أي العامل فيه هدينا، والأقرب الأول. قوله: (ومن للتبعيض) هذا ظاهر في الآباء والأبناء لا الإخوان فإنهم كلهم مهديون. قوله: (لأن بعضهم لم يكن له ولد الخ) هذا تعليل لكون من للتبعيض، وقد خصه المفسر بالذرية، ويقال مثله في الآباء. والحاصل أنه ذكر في هذه الآيات من الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً ثمانية عشر، وبقي سبعة وهم محمد صلى الله عليه وسلم وإدريس وشعيب وصالح وهود ذو الكفل وآدم، فتكون الجملة خمسة وعشرين مذكورين في القرآن يجب الإيمان بهم تفصيلاً، وبقي ثلاثة مذكورون في القرآن واختلف في نبوتهم، لقمان وذو القرنين والعزيز، من أنكر وجودهم كفر، ومن أنكر نبوتهم لا يكفر. قوله: (الذي هدوا إليه) أي وهو التوحيد.
قوله: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ ﴾ (فرضاً) أشار بذلك إلى الشرك مستحيل عليهم، فلو غير مقتضية للوقوع أو هو خطاب لهم والمراد غيرهم. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي الأنبياء المتقدمون وهم الثمانية عشر. قوله: (الحكمة) أي العلم النافع أي المراد بالحكم الفصل بين الناس والقضاء بينهم. قوله: ﴿ فَقَدْ وَكَّلْنَا ﴾ أي وفقنا وأعددنا للقيام بحقوقها، وهذا التعليل لجواب الشرط محذوف تقديره فلا ضرر عليك لأننا قد ولكنا الخ، وفي هذه وعد من الله بنصره وإظهار دينه. قوله: ﴿ لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ أي بل هم مستمرون على الإيمان بها، والمعنى لا تحزن يا محمد على كفر أهل مكة، فإن من كفر منهم وباله على نفسه، وأما آيات الله فقد جعل لها أهلاً يؤمنون بها ويعملون إلى يوم القيامة. قوله: (من التوحيد الخ) دفع ذلك ما يقال إن هذه الآية تقتضي أن رسول الله تابع لغيره من الأنبياء، مع أن شرعه ناسخ لجميع الشرائع، وأن كلهم ملتمسون منه، فأجاب بأن الاقتداء في التوحيد الصبر على الأذى، لا في فروع الدين. قوله: (وفقاً ووصلاً) أما الوقف فظاهر، وأما الوصل فإجراء له مجرى الوقف، قال ابن مالك: وربما أعطى لفظ الوصل ما   للوقف نثراً وفشا منتظماًقوله: (الإنس والجن) أي ففي الآية دليل على عموم رسالته للعالمين إلى يوم القيامة، وقد احتج العلماء بهذه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبيانه أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف كانت متفرقة فيهم، فكان نوح صاحب احتمال أذى على قومه وإبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في سبيل الله عز وجل، وإسحاق ويعقوب وأيوب وأصحاب صبر على البلاء والمحن، وداود وسليمان أصحاب شكر على النعم، ويوسف جمع بين الصبر والشكر، وموسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا، واسماعيل صاحب صدق الوعد، ويونس صاحب تضرع وإخبات، قم إن الله أمر نبيه أن يقتدي بهم في جميع تلك الخصال المحمودة المتفرقة فيهم، فثبت بهذا أنه أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال والله أعلم ١ هـ من الخازن. لكن قد يقال إن المزية لا تقتضي الأفضلية، ولذا قال أشياخنا المحققون إنه وإن كان جامعاً لجميع ما تفرق في غيره، لتفضيله من الله لا بتلك المزايا، فقد فاقهم فضلاً ومزايا. بين آدم ونوح ألف ومائة سنة وعاش آدم تسعمائة وستين سنة وكان بن إدريس ونوح ألف سنة، وبعث نوح لأربعين سنة، ومكث في قومه ألف سنة إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، وقيل بعث نوح وهو ابن ثلاثمائة وخمس وخمسين، وإبراهيم ولد على رأس ألفي سنة من آدم، وبينه وبين نوح عشرة قرون، وعاش إبراهيم مائة وخمساً وسبعين، وولده إسماعيل عاش مائة وثلاثين سنة، وكان له حين مات أبوه تسع وثمانون سنة، وأخوه إسحاق ولد بعده بأربع عشر سنة، وعاش مائة وثمانين سنة، ويعقوب بن إسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين، ويوسف بن يعقوب بن إسحاق عاش مائة وعشرين سنة، وبينه وبين موسى أربعمائة سنة، وبين موسى وإبراهيم خمسمائة وخمس وستون سنة، وولده سليمان عاش نيفاً وخمسين سنة، وبينه وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم نحو ألف وسبعمائة سنة، وأيوب عاش ثلاثاً وستين سنة، وكانت مدة بلائه سبع سنين انتهى من التحبير في علم التفسير للسيوطي.
قوله: ﴿ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ استئناف مسوق لبيان أوصاف اليهود، وقدر من باب نصر، يقال قدر الشيء إذا سبره وحرزه ليعرف مقداره، والمعنى لم يعترفوا بقدر الله، وهذا الكلام إنما هو تنزل مع اليهود، وإلا فالخلائق لم يعظموا الله حق تعظيمه ولم يعرفوه حق معرفته. واعلم أن هنا معنيين: الأول أن معنى وما قدروا الله حق قدره، أي ما عرفوه المعرفة التي تليق به، وهذه لا يصل إليها أحداً أبداً، ففي الحديث:" سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف لا أحصى ثنا عليك أنت كما أثنيت على نفسك "وهذا منتف في حق كل مخلوق، فلا خصوصية لليهود، الثاني أن معنى وما قدروا الله حق قدره، أنهم لم يعظموه ولم يعرفوه على حسب ما أمروا به، وهذا لم يقع من اليهود، وإنما هو واقع من المؤمنين وهذا هو المراد هنا. قوله: ﴿ إِذْ قَالُواْ ﴾ إما ظرف لقدروا أو تعليل له. قوله: (وقد خاصموه في القرآن) أي كفنحاص ابن عازوراء ومالك بن الصيف،" فقد جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين أي العالم الجسيم، وكان مالك المذكور كذلك، وكان فيها ما ذكر، فقال نعم، وكان يجب إخفاء ذلك، لكن أقر لإقسام النبي عليه السلام، فقال له النبي أنت حبر سمين، فقال له النبي أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين أي العالم الجسيم، وكان مالك المذكور كذلك، وكان فيها ما ذكر، فقال نعم، وكان يجب إخفاء ذلك، لكن أقر لإقسام النبي عليه السلام، فقال له النبي أنت حبر سمين، فغضب وقال ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى، فقال والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فلما سمعت اليهود تلك المقالة غضبوا عليه وقالوا أليس الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت هذا، قال أغضبني محمد فقلته، فقالوا وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق، "فعزلوه من الحبرية وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. قوله: ﴿ نُوراً ﴾ حال إما من به والعامل فيها جاء، أو من الكتاب والعامل فيه أنزل، ومعنى نوراً بيناً في نفسه، وهدى مبيناً لغيره، وللناس متعلق بهدى. قوله: ﴿ تَجْعَلُونَهُ ﴾ حال ثانية، وجعل بمعنى صير، فالهاء مفعول أول، وقراطيس مفعول ثان على حذف مضاف، أي ذا قراطيس أو في قراطيس أو بولغ فيه. قوله: (بالياء والتاء) فعلى التاء يكون خطاباً لليهود، وعلى الياء التفاف من الخطاب للغيبة. قوله: (في المواضع الثلاثة) أي يجعلون ويبدون ويخفون. قوله: (مقطعة) أي مفصولاً بعضها من بعض، ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه. قوله: ﴿ وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ أي لم يظهروه، بمعنى لم يكتبوه أصلاً أو كتبوه وأخفوه على ملوكهم وسفلتهم، وجعلوا ذلك سراً بينهم. قوله: (كنعت محمد) أي وكآية الرجم، وآية إن الله يبغض الحبر السمين. قوله: ﴿ وَعُلِّمْتُمْ ﴾ يحتمل أن الخطاب لليهود كما قال المفسر، وتكون الجملة حالية، والمعنى تبدونها وتخفون كثيراً. والحال أن محمداً أعلمكم في القرآن بأشياء من التوراة، ما لم تكونوا تعلمونها أنتم ولا آباؤكم، ويحتمل أن الخطاب لقريش، وتكون الجملة مستأنفة معترضة بين السؤال والجواب. قوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ ﴾ يحتمل أنه مبتدأ خبره محذوف تقديره أنزله، وعليه درج المفسر وهو الأولى، لأن السؤال جملة اسمية، فيكون الجواب كذلك، ويحتمل أنه فاعل يفعل محذوف تقديره أنزله الله، وقد صرح بالفعل في قوله تعالى:﴿ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴾[الزخرف: ٩].
قوله: ﴿ فِي خَوْضِهِمْ ﴾ إما متعلق بذرهم أو بيلعبون، ومعنى يلعبون يستهزؤون ويسخرون. قوله: ﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ ﴾ مبتدأ وخبر، و ﴿ أَنزَلْنَٰهُ ﴾ صفة أولى، و ﴿ مُبَارَكٌ ﴾ صفة ثانية، و ﴿ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ صفة ثالثة. قوله: (القرآن) لغة من القرء وهو الجمع، واصطلاحاً اللفظ المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته، وهذا رد عليهم حيث قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء. قوله: ﴿ مُبَارَكٌ ﴾ أي كله خير لمن آمن به، وشر على من كفر به، ومن بركته بقاء الدنيا، وإنبات الأرض، وإمطار السماء، ولذا إذا رفع القرآن تأتي ريح لينة فيموت بها كل مؤمن ويبقى الكفار، فبقاء الخير في الأرض مدة بقاء القرآن فيها. قوله: ﴿ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي موافق للكتب التي قبله في التوحيد والتنزيه، والمعنى أنه دال على صدقها وأنها من عند الله. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى التاء يكون خطاباً للنبي، وعلى الياء يكون الضمير عائد على القرآن. قوله: (أي أنزلناه للبركة) هذه العلة مأخوذة من الوصف بالمشتق، لأن تعليق الحكم به يؤذن بالعلية. قوله: (أي أهل مكة) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، أي أهل أم القرى وهي مكة. قوله: (وسائر الناس) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بمن حولها ما قال ربها من البلاد، بل المراد جميع البلاد، لأن مكة وسط الدنيا، واقتصر على الانذار لأنه هو الموجود في صدر الإسلام، إذ ليس ثم مؤمن يبشر. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ صلته، و ﴿ بِٱلأَخِرَةِ ﴾ متعلق بيؤمنون، وقوله: ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ خبره، ولم يتحد المبتدأ والخبر لتغاير متعلقيهما، والمعنى والذين يؤمنون بالآخرة إيماناً معتداً به، محصورون في الذين يؤمن بالقرآن، فخرجت اليهود فلا يعتد بإيمانهم بالآخرة لعدم إيمانهم بالقرآن وقوله: ﴿ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ جملة حالية من فاعل يؤمنون، وخص الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات. قوله: (خوفاً من عقابها) أي الآخرة.
قوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ من اسم استفهام مبتدأ، وأظلم خبره، و ﴿ كَذِباً ﴾ تمييز، وأشار بقوله: (أي لا أحد) إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ ﴾ أو للتنويع والعطف مغاير، وليس من عطف الخاص على العام، ولا من عطف التفسير، لأن ذلك لا يكون بأو. قوله: ﴿ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾ أي من قبل الله، بل استهوته الشياطين، وسلب الله عقله، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة حيث قال لما نزلت سورة الكوثر، أنزلت علي سورة مثلها، إنا أعطيناك العقعق فصل لربك وازعق إن شانئك هو الأبلق، وغير ذلك من الخرافات التي قالها مسيلمة الكذاب، فإن الآية نزلت فيه كما قال المفسر، وقد ورد أنه أرسل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً مع رسولين يذكر فيه: من عند مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإن الأرض بيننا نصفين، فلما وصله الكتاب قال للرسولين أتشهدان له بالرسالة؟ فقالا نعم، فقال رسول الله: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، وكتب له: من عند محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قوله: ﴿ وَ ﴾ (من) ﴿ مَن قَالَ ﴾ قدره المفسر إشارة إلى أنه معطوف على المجرور بمن. قوله: (وهم المستهزئون) أي كعقبة بت أبي معيط وأبي جهل وأضرابهما، وما ذكره المفسر هو المشهور، وقيل نزلت في عبد الله بن أبي سرح، كان من كتبة الوحي ثم ارتد وقال سأنزل مثل ما أنزل الله، ثم رجع للإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم نازل بمر الظهران، وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في أي زمان إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ وَلَوْ تَرَىۤ ﴾ لو حرف شرط وجوابها محذوف، قدره المفسر فيما يأتي بقوله لرأيت أمراً فظيعاً، وترى بصرية ومفعولها لمحذوف تقديره الظالمين، وإذ ظرف لترى، والتقدير ولو ترى الظالمين وقت كونهم في غمرات الموات الخ. قوله: (المذكورون) أي مسيلمة الكذاب المستهزئون، والأحسن أن يراد ما هو أعم. قوله: ﴿ فِي غَمَرَاتِ ﴾ جمع غمرة من الغمر وهو الستر، يقال غمره الماء إذا ستره، سميت السكرة بذلك لأنها تستر العقل وتدهشه. قوله: ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ ﴾ تقدم أن الكافر موكل به سبع من الملائكة يعذبونه عند خروج روحه، لأن الكافر يكره لقاء الله، فتأبى روحه الخروج فيخرجونها كرهاً. إن قلت: إن المؤمن يكره الموت أيضاً. أجيب: بأن المؤمن وإن أحب الحياة وكره الموت لكن ذلك قبل احتضاره ومعاينته ما أعد الله له من النعيم الدائم، وأما إذا شاهد ذلك هانت عليه الدنيا وأحب الموت ولقاء الله، وأما الكافر فعند خروج روحه حين يشاهد ما أعد له من العذاب الدائم يزداد كراهة في الموت، وعلى ذلك يحتمل ما ورد: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قوله: (يقولون لهم تعنيفاً) أي لأن الإنسان لا يقدر على إخراج روحه، وإنما ذلك لأجل تعنيفهم، ويحتمل أن معنى ﴿ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ﴾ نحوها من العذاب الذي حل بكم تهكماً بهم. قوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ تُجْزَوْنَ ﴾ فالوقف ثم على قوله أنفسكم، وأل في اليوم للعهدي اليوم المعهود وهو يوم خروج أرواحهم، ويحتمل أن المراد باليوم يوم القيامة، والأحسن أن يراد ما هو أعم. قوله: (الهوان) أي الذل والصغار، لا عذاب التطهير كما يقع لبعض عصاة المؤمنين، لأن كل عذاب يعقبه عفو، فلا يقال له هون، وإنما يقال لعذاب الكافر. قوله: ﴿ بِمَا كُنتُمْ ﴾ الباء سببية، وما مصدرية، أي بسبب كونكم تقولون الخ. قوله: (بدعوى النبوة الخ) هذا راجع لقوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾.
قوله: ﴿ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي وبسبب كونكم تستكبرون عن آياته، فالجار والمجرور متعلق بتستكبرون، وهو راجع لقوله ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، ففيه لف ونشر مرتب، وهذا باعتبار سبب النزول، وإلا فكل كافر يقال له ذلك عند الموت.
قوله: ﴿ وَ ﴾ (يقال لهم) اختلف في تعيين القائل، فقيل الله سبحانه، وقيل الملائكة ترجماناً عن الله وهذا مرتب على الخلاف هل الله يكلمهم أولاً. قوله: ﴿ فُرَٰدَىٰ ﴾ جمع فرداً وفريداً وفردان بمعنى منفردين خالين عن الدنيا ومتاعها. قوله: (حفاة عراة) أي وذلك عند الحساب، فلا ينفي أنهم يخرجون من القبور بالأكفان، فإذا حشروا ودنت الشمس من الرؤوس تطايرت الأكفان. قوله: (غرلاً) بضم الغين المعجمة وسكون الراء المهملة، جمع أغرل كحمر جمع أحمر، أي غير مقطوعين القلفة. قوله: ﴿ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ ﴾ الجملة حالية من فاعل جئتمونا، وقوله: ﴿ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ متعلق بتركتم. قوله: (أي في استحقاق عبادتكم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضافين. قوله: ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ على قراءة الرفع وهو فاعل تقطع، والبين بمعنى الوصل وهو المراد هنا، ويراد منه البعد من باب تسمية الأضداد. قوله: (وفي قراءة النصب) أي وهي سبعية أيضاً، والفاعل على هذه القراءة ضمير يعود على الوصل المفهوم من قوله: ﴿ شُفَعَآءَكُمُ ﴾ و ﴿ شُرَكَآءُ ﴾ لأن بين الشفيع والمشفوع له إيصال، و ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ ظرف له، والتقدير تقطع الوصل فيما بينكم فقول المفسر (أي وصلكم) تفسير للضمير المستتر. قوله: ﴿ مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ ما اسم موصول فاعل ﴿ ضَلَّ ﴾، وكنتم تزعمون صلته، والعائد محذوف تقديره وضل عنكم الذي كنتم تزعمونه شفيعاً ونافعاً. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ ﴾ لما تقدم ذكر التوحيد، وما يتعلق به أتبعه بذكر ما يدل على ذلك، والمراد بالحب ما لا نوى له يرمي، كالقمح والشعير والفول، وبالنوى ضد الحب، كالرطب والمشمش والنبق، فانحصر ما يخرج من الأرض في هذين النوعين، وإضافة فالق للحب يحتمل أنها محضة، ففالق بمعنى فلق، فهو بمعنى الصفة المشبهة وهو الأقرب، ويحتمل أنها لفظية، والمراد فالق في الحال والاستقبال. قوله: (شاق) فسر الفلق بالشق لأنه المشهور في اللغة، ولأنه أقرب عبرة وأكثر فائدة، وقال ابن عباس إن فالق بمعنى خالق. قوله: (عن النحل) مراده به كل ما له نوى. قوله: ﴿ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ ﴾ يحتمل أنه خبر ثان لأن، ويحتمل أنه كلام مستأنف كالعلة لما قبله، والمراد بالحي كل ما ينمو كان ذا روح أو لا كالحيوان والنبات، وبالميت ما لا ينمو كان أصله ذا روح أم لا كالنطفة والحبة، فتسمية النبات حياً مجاز بجامع قبول الزيادة في كل. قوله: (من النطفة والبيضة) لف ونشر مرتب، وأدخلت الكاف جميع ما يخرج من النطفة والبيضة، فجميع الحيوانات لا تخلو عن هذين الشيئين، فجميع الطيور من البيض وما عداها من النطفة. قوله: ﴿ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ ﴾ إنما عبر باسم الفاعل مع العطف، إشارة إلى أنه كلام آخر معطوف فالق وليس بياناً له، وإلا لأتى بالفعل. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْحَيِّ ﴾ أي كالإنسان والطائر، ويشمل عموم هذه الآية المسلم والكافر، فيخرج الحي كالمسلم من الميت كالكافر وبالعكس. قوله: ﴿ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ ﴾ أتى بذلك وإن علم من قوله إن الله فالق لأجل الرد على من كفر بقوله ﴿ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴾.
قوله: (فكيف تصرفون عن الإيمان) أي لا وجه لصرفكم عن الإيمان بالله مع اعترافكم بأنه الخالق لجميع الأشياء، فهو استفهام انكاري بمعنى النفي. قوله: (مصدر) أي لأصبح بمعنى الدخول في الصباح وليس مراداً، بل المراد الصبح نفسه، فلذا فسره حيث أطلق المصدر وهو الإصباح، وأراد أثره وهو الصبح، والإصباح بكسر الهمزة وقرئ شذوذاً بفتحها. وعليه يكون جمع صبح نحو قفل وأقفال، ويرد وأبراد، وظاهر الآية مشكل، لأن الإنفاق يكون للظلمة لا للصبح. وأجيب: بأن الكلام على حذف مضاف، والأصل فالق ظلمة الإصباح بمعنى الصبح، أو يراد فالق الإصباح بمعنى عمود الصبح، وهو الفجر الكاذب عن ظلمة الليل، ثم يعقبه الفجر الصادق، فهو فالق الإصباح الأول عن ظلمة آخر الليل، وعن بياض النهار أيضاً، ويفيد هذا المفسر أو يفسر فالق بخالق، وسماه فلقاً مشاكلة لما قبله، وكل صحيح. قوله: (وهو أول ما يبدو من النهار) أي وهو الفجر الكاذب. قوله: (عن ظلمة الليل) متعلق بشاق.
قوله: ﴿ سَكَناً ﴾ أي محل واستراحة. قوله: (يسكن فيه الخلق) أي جميعها حتى الهوام والمياه. قوله: (عطفاً على محل الليل) أي وهو النصب حسباناً معطوف على سكناً ففيه العطف على معمولي عامل واحد وهو جاعل، والتقدير: وجاعل الشمس والقمر حسباناً معطوف على سكناً ففيه العطف على معمولي عامل واحد وهو جاعل، والتقدير: وجاعل الشمس والقمر حسباناً وذلك جائز باتفاق. قوله: ﴿ حُسْبَاناً ﴾ مصدر حسب وكذا الحسبان بكسر الحاء والحساب فله ثلاثة مصادر. قوله: (حساباً للأوقات) أي ضبطاً لها، أي علامة ضبط، لكن الشمس يتم دورانها في سنة والقمر في شهر، وذلك لنفع العباد دنياً وديناً، قال تعالى ﴿ ﴾ قوله: (أو الباء محذوفة) أي فهو منصوب بنزع الخافض. قوله: (وهو حال من مقدر) لو قال متعلق بقدر لكان أحسن، لأنك إذا تأملت تجد المحذوف هو الحال، على أن جاهل بمعنى خالق، وأما إن جعل بمعنى صير فهو مفعول ثان، وهو إشارة لتقدير ثان في الآية. قوله: ﴿ ٱلْعَزِيزِ ﴾ أي الغالب على أمره. قوله: ﴿ ٱلْعَلِيمِ ﴾ أي ذو العلم التام. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ﴾ أي خلق، و ﴿ لَكُمُ ﴾ متعلق بجهل، و ﴿ لِتَهْتَدُواْ ﴾ بدل من لكم بدل اشتمال، فلم يلزم عليه تعلق جر في جر متحدي اللفظ، والمعنى بعامل واحد، ونظيره قوله تعالى﴿ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ ﴾[الزخرف: ٣٣] فلبيوتهم بدل من لمن يكفر بإعادة العامل. قوله: ﴿ أَنشَأَكُم ﴾ إنما عبر به لموافقة ما يأتي في قوله: (وأنشأنا من بعدهم)، وقوله﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ ﴾[الأنعام: ١٤١].
قوله: (هي آدم) أي فكل أفراد النوع الإنساني منه. قوله: ﴿ فَمُسْتَقَرٌّ ﴾ بالكسر اسم فاعل وصف، والمعنى منكم من استقر في الرحم، وعبر في جانبه بالاستقرار، لأن زمن بقاء النطفة في الرحم أكثر من زمن بقائها في الصلب. قوله: (وفي قراءة بفتح القاف) أي وأما مستودع فليس فيه إلا فتح الدال، لكن على قراءة الكسر يكون معنى مستودع شيء مودوع وهو النطفة، وعلى الفتح مكان استيداع وهو الصلب. قوله: ﴿ يَفْقَهُونَ ﴾ أي يفهمون الأسرار والدقائق، وعبر هنا يفقهون إشارة إلى أن أطوار الإنسان وما احتوى عليه الإنسان أمر خفي تتحير فيه الألباب، بخلاف النجوم فأمرها ظاهر مشاهد، فعبر فيها بيعلمون.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾ لما امتن سبحانه وتعالى على عباده أولاً: بالإيجاد حيث قال﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ ﴾الأنعام: ٩٨] امتن ثانياً بإنزال الماء الذي به حياة كل شيء ونفعه، وهو الرزق المشار إليه بقوله تعالى﴿ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ ﴾[الذاريات: ٢٢].
قوله: (فيه التفات) أي ونكتته الاعتناء بشأن ذلك المخرج، إشارة إلى أن نعمه عظيمة. قوله: ﴿ بِهِ ﴾ الباء للسببية. قوله: ﴿ فَأَخْرَجْنَا ﴾ بيان لما أجمل أولاً. قوله: ﴿ خَضِراً ﴾ يقال خضر الشيء فهو خضر وأخضر، كعور فهو عور وأعور، وقدر المفسر (شيئاً) إشارة إلى أن خضراً صفة لموصوف محذوف. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّخْلِ ﴾ شروع في تفصيل حال الشجر، بعد ذكر عموم النبات، لمزيد الرغبة فيه. قوله: (ويبدل منه) أي بدل بعض من كل. قوله: (أول ما يخرج منها) أي قبل انفلاق الكيزان عنه، فإذا انفلقت عنه سمي عذقاً. قوله: ﴿ قِنْوَانٌ ﴾ جمع قنو كصنو وصنوان، وهذا الجمع يلتبس بالمثنى دون حالة الوقت، ويتميز المثنى بكسر نونه، والجمع بتوارد حركات الإعراب عليه وبالإضافة، فتحذف نون المثنى دون الجمع، فنقول هذا قنواك، وفي الجمع هذه قنوانك، وبالنسب فإذا نسبت إلى المثنى رددته إلى المفرد فقلت قنوي، وإذا نسبت إلى الجمع أبقيته على حاله فقلت قنواني. قوله: (عراجين) جمع عرجون قيل هي الشماريخ، وقيل هي السائط، ولا شك أن الشماريخ قريب بعضها من بعض، والسبائط كذلك، واعلم أن أطوار النخل سبع كالإنسان، يجمعها قولك طاب زبرت، فأولها الطلع، ثم الاغريض، ثم البلح، ثم الزهو، ثم البسر، ثم الرطب، ثم التمر، وفي الحديث" أكرموا عمتكم النخلة "وهذه الأمور قدم على ما بعده. قوله: ﴿ وَجَنَّٰتٍ ﴾ معطوف على نبات، من عطف الخاص على العام، والنكتة مزيد الشرف لكونها من أعظم النعم، وكذا قوله: ﴿ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ ﴾ معطوفان على النبات. ويكون قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّخْلِ ﴾ الخ معترضاً بين المعطوف والمعطوف عليه اعتناء بشأن النحل لعظم منته، ويصح عطف جنات على خضر، وهذا على قراءة الجمهور، وقرى شذوذاً برفع جنات والزيتون والرمان، وخرج على أنه مبتدأ، والخبر محذوف تقديره ومن الكرم جنات. قوله: ﴿ مُشْتَبِهاً ﴾ يقال مشتبه ومتشابه بمعنى. قوله: (نظر اعتبار) أي تفكروا في مصنوعاته لتعلموا أن ربكم هو القادر المريد لما يشاء، فتفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئاً. قوله: (وهو جمع ثمرة) أي المفتوح والمضموم، وقوله: (كشجرة وشجر) راجع للمفتوح، وقوله: (وخشبة وخشب) راجع للمضموم، فهو لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ وَيَنْعِهِ ﴾ مصدر ينع بكسر النون يينع بفتحها كتعب ويتعب ويصح العكس، وقرئ بضم الياء، والمعنى تفكروا وتأملوا ابتداء الثمر، حيث يكون بعضه مراً وبعضه ملحاً لا ينتفع بشيء منه، وانتهاؤه إذا نضج فإنه يعود حلواً تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ ﴾ الإشارة إلى جميع ما تقدم من قوله﴿ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ ﴾[الأنعام: ٩٥] إلى هنا. قوله: (لأنهم المنتفعون بها) أشار بذلك إلى أن ظهور الأدلة لا تفيد ولا تنفع، إلا إذا كان العبد مؤمناً، وأما من سبق له الكفر، فلا تنفعه الآيات ولا يهتدي بها. قوله: ﴿ وَجَعَلُواْ ﴾ الضمير لعبدة الأصنام، وهذا إشارة إلى أنهم قابلوا نعم الله العظيمة بالإشراك. قوله: (مفعول ثان) هذه طريقة في الإعراب، وهناك طريقة أخرى وهي أن ﴿ للَّهِ ﴾ متعلق بمحذوف حال، والجن مفعول أول مؤخر، و (شركاه) مفعول ثان مقدم. قوله: ﴿ ٱلْجِنَّ ﴾ قيل المراد بهم الشياطين، وإلى هذا يشير المفسر بقوله: (حيث أطاعوهم الخ). وقيل المراد بهم نوع من الملائكة كانوا يعبدونهم، لاعتقادهم أنهن بنات الله. قوله: ﴿ وَخَلَقَهُمْ ﴾ الضمير يصح أن يكون عائداً على الجن، وعليها المفسر، ويصح أن يعود على الجميع، والجملة حال من الجن، ولذا قدر المفسر (قد). قوله: ﴿ وَخَرَقُواْ ﴾ الضمير عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب، فاليهود والنصارى نسبوا له البنين، ومشركو العرب نسبوا له البنات، فالكلام على التوزيع. قوله: (اختلفوا) يقال اختلق وخلق وخرق وافترى وافتعل وخرص بمعنى كذب، وقرئ شذوذاً بالحاء المهملة والفاء من التحريف وهو التزوير لأن المحرف مزور مغير للحق بالباطل. قوله: (حيث قالوا عزير ابن الله) كان عليه أن يقول والمسيح ابن الله ليكون قد جمع مقالة الفرق الثلاثة، فاليهود قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، والمشركون قالوا الملائكة بنات الله. قوله: ﴿ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هو. قوله: ﴿ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ﴾ أنى منصوبة على التشبيه بالحال، وله خبر يكون مقدم وولد اسمها مؤخر، ويصح أن تكون تامة وولد فاعلها، والمعنى: كيف يوجد له ولد، والحال أنه لم تكن له صاحبة، مع كونه الخالق لكل شيء. قوله: (من شأنه أن يخلق) دفع بذلك ما يقال إن من جملة الشيء ذاته وصفاته، فيقتضي أنها مخلوقة مع أن ذلك مستحيل. فأجاب المفسر: بأن ذلك عام مخصوص بما من شأنه أن يخلق، وهو ما عدا ذاته وصفاته.
قوله: ﴿ ذٰلِكُمُ ﴾ مبتدأ، و ﴿ ٱللَّهُ ﴾ خبر أول، و ﴿ رَبُّكُمْ ﴾ خبر ثان، و ﴿ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ خبر ثالث، و ﴿ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ خبر رابع، وقوله: ﴿ فَٱعْبُدُوهُ ﴾ مفرع على ما ذكر من هذه الأوصاف، فالمعنى أن المتصف بالألوهية، الخالق لكل شيء، هو أحق بالعبادة وحده. فقوله: ﴿ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ توطئة لقوله: ﴿ فَٱعْبُدُوهُ ﴾.
وأما قوله: ﴿ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ فهو رد لما زعموه من الولد له سبحانه وتعالى. قوله: ﴿ فَٱعْبُدُوهُ ﴾ أي متصرف في خلقه ومتولي أمورهم، فالواجب قصر العبادة عليه، وتفويض الأمور إليه.
قوله: ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ ﴾ جمع بصر وهو حاسة النظر، أي القوة الباصرة، ويطلق على العين نفسها على إطلاق الحال وإرادة المحل. قوله: (وهذا مخصوص) أي نفي الرؤية عام مخصوص برؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، لأن الفعل إذا دخل عليه النفي يكون من قبيل العام. قوله: (لرؤية المؤمنين) علة لقوله مخصوص، وقوله: (لقوله تعالى) علة للعلة. قوله: (ناصرة) أي قامت بها النضارة، وهي البهجة والحسن، وقوله: (ناظرة) أي باصرة للذات المقدس. قوله: (ليلة البدر) أي ليلة أربعة عشر. قوله: (وقيل المراد الخ) أي وعلى هذا فالنفي باق على عمومه فلا يحيط به بصر أحد أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلا ينافي أن المؤمنين يرونه في الآخرة، لكن بلا كيف ولا انحصار لوجود أدلة عقلية ونقلية، أما النقلية فالكتاب والسنة والإجماع، والعقلية منها أن الله علق رؤيته على استقرار الجبل وهو جائز، والمعلق على الجائز جائز، ومنها لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها موسى عليه السلام، إذ لا يجوز على النبي سؤال المحال إذ هو جهل، ويستحيل على النبي الجهل، ومنها أن يقال الله موجود، فكل موجود يصح أن يرى، فالله يصح أن يرى، خلافاً للمعتزلة والمرجئة والخوارج حيث أحالوا الرؤية، مستدلين بظاهر هذه الآية وبقولهم إن الرؤية تستلزم المقابلة واتصال أشعة بصر الرائي بالمرئي، فيلزم أن يكون المرئي جسماً، وتعالى الله عن الجسمية، ورد كلامهم بما علمت، وبأن هذا التلازم عادي لا عقلي، ويجوز تخلف العادة. قوله: (لا تحيط به) أي لا تبلغ كنه حقيقة ذاته وصفاته أبصار ولا بصائر. قوله: ﴿ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ ﴾ فيه تفسيران أيضاً، الأول يراها، والثاني يحيط بها على أسلوب ما تقدم. قوله: (ولا يجوز في غيره الخ) أي لأن رؤية كل منهما لصاحبه غير مستحيلة، وما جاز على أحد المثلين يجوز على الآخر. قوله: (أو يحيط به علماً) هذا هو التفسير الثاني. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ﴾ من لطف بمعنى احتجب، فلا يحيط به بصر ولا بصيرة، فقوله راجع لقوله: ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ ﴾، وقوله: ﴿ ٱلْخَبِيرُ ﴾ راجع لقوله: ﴿ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ ﴾ فهو لف ونشر مرتب، وهذا هو المناسب هنا، فقول المفسر (بأوليائه) يقتضي أن معنى ﴿ ٱللَّطِيفُ ﴾ الرؤوف المحسن، وهو إن كان مناسباً في نفسه، إلا أنه غير ملائم هنا. فتحصل مما تقدم أن الرؤية بالبصر في الآخرة للمؤمنين، وقع فيها خلاف بين المعتزلة وأهل السنة، وتقدم أن الحق مذهب أهل السنة، وأما رؤية قلوب العارفين له في الدنيا بمعنى شهود القلب له في كل شيء فهو جائز، بل هو مطلبهم وغاية مقصودهم ومناهم قال العارف: أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي   إليها قلوب الأولياء تسارعوكذا رؤياه في المنام. قوله: ﴿ بَصَآئِرُ ﴾ جمع بصيرة وهي النور الباطني الذي ينشأ عنه العلوم والمعارف. قوله: (حجج) جمع حجة وهي الأدلة، وسميت الحجج بصائر، لأنها تنشأ عنها من باب تسمية المسبب باسم السبب. قوله: ﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ ﴾ (ها) قدر المفسر الضمير إشارة إلى أن المفعول محذوف. قوله: ﴿ فَلِنَفْسِهِ ﴾ (أبصر) قدر المفسر متعلق الجار والمجرور فعلاً ماضياً مؤخراً، وهو غير مناسب للزوم زيادة الفاء، بل المناسب تقديره اسماً مبتدأ، والجار والمجرور خبره، والتقدير فابصاره لنفسه، وكذا يقال في قوله: ﴿ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾.
قوله: (لأن ثواب إبصاره) أي نفعه فلا يعود على الله من الطاعة نفع، ولا يصل له من المعصية ضر. قوله: ﴿ وَمَنْ عَمِيَ ﴾ (عنها) أي عن البصائر بمعنى الحجج. قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ﴾ الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف تقديره نصرف الآيات في غير هذه السور تصريفاً. مثل التصريف في هذه السورة. قوله: (كما بينا ما ذكر) أي الأحكام المذكورة. قوله: (نبين) ﴿ ٱلآيَاتِ ﴾ هذا وعد من الله بإكمال الدين وإظهاره، فلذا كان نزول قوله تعالى:﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[المائدة: ٣] من مبشرات الوفاء لرسول الله. قوله: (ليعتبروا) أي لتقوم بهم العبرة أي الاتعاظ، فيميزوا الحق من الباطل، وقدره المفسر لعطف قوله: ﴿ وَلِيَقُولُواْ ﴾ عليه. قوله: (في عاقبة الأمر) أشار بذلك إلى أن اللام في ﴿ وَلِيَقُولُواْ ﴾ لام العاقبة والصيرورة نظير قوله تعالى:﴿ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾[القصص: ٨]، وقيل إن اللام للعلة حقيقة، والمعنى نصرف الآيات ليعتبر الذين آمنوا ويزدادوا بها إيماناً، وليقول الذين كفروا درست ليزدادوا كفراً، ونظير قوله تعالى:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ﴾[التوبة: ١٢٤-١٢٥].
قوله: ﴿ دَرَسْتَ ﴾ كقاتلت، من المدارسة، والمعنى تذاكرت مع أهل الكتاب فتعلمت منهم تلك القصص. قوله: (وفي قراءة درست) أي قرأت الكتب، وبقي قراءة ثالثة سبعية أيضاً: وهي درست بفتح الدال والراء والسين، أي عفت وبليت وتكررت على الأسماع. قوله: (وجئت بهذا منها) راجع لكل من القراءتين. قوله: ﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ ﴾ أي الآيات، وذكر باعتبار معناها وهو القرآن. قوله: ﴿ ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ ﴾ لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح المشركين وتكذيبهم لرسول الله، أخذ يسلي رسوله بقوله: اتبع، أي دم على ذلك، ولا تبال بكفرهم، ولا تلتفت لقولهم، وما اسم موصول، والعائد محذوف، ونائب فاعل أوحي ضمير مستتر عائد على ما، وإليك متعلق بأوحي، ومن ربك متعلق بمحذوف حال، ومن لابتداء الغاية، والتقدير اتبع الذي أوحي إليك هو أي القرآن، حال كونه ناشئاً وصادراً من ربك، ويصح أن تكون مصدرية، ونائب الفاعل هو الجار والمجرور، والتقدير اتبع الإيحاء الجائي إليك من ربك. قوله: ﴿ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتأكيد التوحيد. قوله: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ أي لا تتعرض لهم ولا تقاتلهم، وهذا على أنها منسوخة كما يأتي للمفسر، وقيل إن الآية محكمة، والمعنى لا تلتفت إلى رأيهم، ولا تغتظ من أقوالهم وإشراكهم، لأن ذلك بمشيئة الله، ومثل ذلك يقال: إذا أجمع خلق على ضلالة لا يستطاع ردها، ففي الحديث" إذا رأيتم الأمر لا تستطيعون رده فاصبروا حتى يكون الله هو الذي يغيره ".
قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ مفعول ثان محذوف تقديره عدم إشراكهم. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أشار بذلك إلى أن الآية منسوخة، واسم الإشارة عائد على قوله: ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ الخ.
قوله: ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾[الأنبياء: ٩٨] كثر سب المسلمين للأصنام، فتحزب المشركون على كونهم يسبون الله نظير سب المسلمين لأصنامهم، فنزلت الآية،" وقيل: إن أبا طالب حضرته الوفاة، فقالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه، فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحرث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن أبي البحتري، إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، وندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب: إن هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وآلهك، فقال له أبو طالب: قد أنصفك قومك فأقبل منهم، فقال النبي: أرأيتم إن أعطيتم هذا، فهل أنتم معطي كلمة، إن تكلمتم بها ملكتم العرب، ودانت لكم العجم، وأدت لكم الخراج؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ فقال: قولوا لا إله إلا الله، فأبوا ونفروا، فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي، فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها، فقالوا لتكفن عن شتمك آلهتنا أو نسبن من يأمرك "فنزلت. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾ أي يعبدون، وقدر المفسر الضمير إشارة إلى أن مفعول يدعون محذوف. قوله: ﴿ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ ﴾ أي فيترتب على ذلك سب الله فسب الأصنام وإن كان جائزاً، إلا أنه عرض له النهي بسبب ما ترتب عليه من سب الله، ففي الحقيقة النهي عن سب الله. قوله: (اعتداء) أشار بذلك إلى أن ﴿ عَدْواً ﴾ مصدر، ويصح أن يكون حالاً مؤكدة، لأن السب لا يكون إلا عدواناً. قوله: (أي جهلاً منهم بالله) أي بما يجب في حقه. قوله: ﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا ﴾ نعت لمصدر محذوف، أي زينا لهؤلاء أعمالهم تزييناً مثل تزييننا لكل أمة عملهم. قوله: (من الخير والشر) أشار بذلك إلى أن الآية رد على المعتزلة الزاعمين أن الله لا يريد الشرور ولا القبائح. قوله: ﴿ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ ﴾ مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله: (فأتوه). قوله: ﴿ وَأَقْسَمُواْ ﴾ أي حلفوا. قوله: (غاية اجتهادهم) أي لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وآلهتهم، فإذا أرادون تغليظ اليمين حلفوا بالله. قوله: ﴿ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ ﴾ حكاية عنهم، وإلا فلفظهم لئن جاءتنا آية. قوله: (مما اقترحوا) أي طلبوا،" وذلك أن قريشاً قالوا: يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كان له عصا حتى نصدقك ونؤمن بك، فقال رسول الله: أي شيء تحبون: قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً، وابعث لنا بعض موتانا نسأله عنك، أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك، فقال رسول الله: إنْ فعلت ما تقولون تصدقونني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى يرضوا، فقام رسول الله يدعو أن يجعل الصفا ذهباً فقال جبريل: لك ما شئت إنْ شئت يصبح ذهباً، ولكن إن لم يصدقوك لنعذبنهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يتوب تائبهم "، فنزلت الآية. قوله: ﴿ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ جواب القسم، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي لا عندي، فالقادر على إنزالها هو الله، وينزلها على حسب ما يريد. قوله: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ ﴾ ما اسم استفهام مبتدأ، وجملة يشعر خبرها، والكاف مفعول أول، والثاني محذوف قدره المفسر بقوله: بـ ﴿ أَيْمَٰنِهِمْ ﴾ والخطاب للمؤمنين، أي وما يعلمكم أيها المؤمنون بإيمانهم، وقوله: ﴿ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ ﴾ بكسر استئناف مسوق لقطع طمع المؤمنين من إيمان المشركين، وتكذيب للمشركين في حلفهم. قوله: (أي أنتم لا تدرون) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (وفي قراءة بالتاء) ظاهره أن هذه القراءة مع كسر إن وليس كذلك بل هي مع الفتح، فالمناسب تأخيرها عن قوله: (وفي أخرى بفتح أن)، فالقراءات ثلاث: الكسر مع الياء لا غير، والفتح إما مع الياء أو التاء. قوله: (بمعنى لعل) أي ومجيء أي بمعنى لعل كثير شائع في كلام العرب، والترجي في كلام الله مثل التحقيق، فهي مساوية لقراءة الكسر. قوله: (أو معمولة لما قبلها) أي على أنها المفعول الثاني، ولا إما صلة أو داخلة على محذوف، والتقدير إذا جاءت لا تعلمون أهم يؤمنون أو المقابل محذوف، والتقدير إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، وهو إخبار عن الكفار عن قراءة الياء، وخطاب لهم على قراءة التاء.
قوله: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ﴾ باستئناف مسوق لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله لا غيره، فمن أراد له الهدى حول قلبه له، ومن أراد الله شقاوته حول قلبه لها. قوله: ﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ ﴾ مرتبط بمحذوف قدره المفسر بقوله فلا يؤمنون، والمعنى تحول قلوبهم عن الإيمان ثانياً، كما حولناها أولاً عند نزول الآيات لو نزلت، أي فهم لا يؤمنون على كل حال. قوله: ﴿ نَذَرُهُمْ ﴾ عطف على لا يؤمنون. قوله: ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ إما حال أو مفعول ثان، لأن الترك بمعنى التصيير، وعمه من باب تعب إذا ترددت متحيراً، مأخوذ من قولهم أرض عمهاء، إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة. قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ ﴾ هذه زيادة في الرد عليهم، وتفصيل ما أجمل في قوله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. قوله: (كما اقترحوا) أي طلبوا بقولهم: لولا أنزل علينا الملائكة، وقولهم: فاتوا بآياتنا قوله: ﴿ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ أي من أصناف المخلوقات، كالوحوش والطيور. قوله: (بضمتين جمع قبيل) أي كنصيب ونصب، وقضيب وقضب. قوله: (أي فوجاً فوجاً) تفسير لقبيل، وأما قبلاً فمنعناه أفواجاً أفواجاً، وعلى هذه القراءة فنصب قبلاً على الحال. قوله: (وبكسر القاف وفتح الباء) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي معاينة) أي فيقال فلان قبل فلان، أي مواجهه ومعاينه وهو مصدر منصوب على الحال، أي معاينين ومشافهين لكل شيء، وصاحب الحال الهاء في عليهم. قوله: ﴿ مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ ﴾ جواب لو، واللام في ليؤمنوا الجحود، ويؤمنوا منصوب بأن مضمرة وجوباً بعد لام الجهود، وخبر كان محذوف تقديره ما كانوا أهلاً للإيمان. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ قدر المفسر (لكن) إشارة إلى أن الاستثناء منقطع كما هو عادته، وذلك لأن المشيئة ليست من جنس إرادتهم، وقال بعضهم: إن الاستثناء متصل، والمعنى ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال، إلا في حالة مشيئة الله لهم بالإيمان. قوله: ﴿ يَجْهَلُونَ ﴾ (ذلك) أي يجهلون أن ظهور الآيات يوجب الإيمان، لو لم تصحبه مشيئة الله، وهو توبيخ لهم حيث أقسموا بالله جهد أيمانهم، أنه إذا جاءتهم الآيات يؤمنون، مع أنه سبق في علم الله شقاؤهم، ومن هنا لا ينبغي ترك المشيئة والاعتماد على الأسباب، فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب.
قوله: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا ﴾ هذا تسلية لرسول الله على ما وقع منهم من العداوة، والكاف داخلة على المشبه وهي بمعنى مثل. والمعنى مثل ما جعلنا لك أعداء من قومك، جعلنا لكل نبي عدواً الخ، فتسل ولا تحزن، وجعل بمعنى صير، فتنصب مفعولين: الأول ﴿ عَدُوّاً ﴾ مؤخراً، والثاني ﴿ لِكُلِّ نِبِيٍّ ﴾ مقدم، و ﴿ شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ ﴾ بدل، وهذا ما درج عليه المفسر، وقيل إن عدواً مفعول ثان، وشياطين مفعول أول، ولكن نبي متعلق بمحذوف حال من عدواً. قوله: ﴿ لِكُلِّ نِبِيٍّ ﴾ أي وإن لم يكن رسولاً، ولذا ورد أن الكفار قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً. قوله: (مردة) جمع ما رد وهو المتمرد المستعد للشر، وقدم شياطين الإنس لأنها أقوى في الإيذاء، قال ابن مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي. وقال الغزالي: كن من شياطين الجن في أمان، واحذر من شياطين الإنس، فإن شياطين الإنس أراحوا شياطين الجن من التعب. وهذا على أن المراد شياطين من الإنس وشياطين من الجن، وقيل إن الشياطين كلهم من إبليس، وذلك أنه فرق أولاده فرقتين. ففرقة توسوس للإنس، وتسمى شياطين الإنس، وفرقة توسوس لصلحاء الجن، وتسمى شياطين الجن، وكل صحيح. قوله: ﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ ﴾ أي وهو شيطان الجن، وقوله: ﴿ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾ أي وهو شيطان الإنس، قال تعالى:﴿ كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ ﴾[الحشر: ١٦].
قوله: (من الباطل) بيان لزخرف القول، وأشار به إلى أن المراد بالزخرف المموه الظاهر الفاسد الباطل. قوله: (أي ليغروهم) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ غُرُوراً ﴾ مفعول لأجله. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ ﴾ مفعول شاء محذوف تقديره عدم فعله. قوله: ﴿ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ ما اسم موصول أو نكرة موصوفة، وجملة يفترون صلة أو صفة، والعائد محذوف تقديره فذرهم والذي يفترونه، أو مصدرية والتقدير فذرهم وافتراءهم. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهي منسوخة. قوله: (عطف على غروراً) أي فاللام للتعليل، وما بين الجملتين اعتراض، والتقدير يوحي بعضهم إلى بعض للغرور قوله: ﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾ أي يحبوه لأنفسهم. قوله: (من الذنوب) بيان لما، وقوله: (فيعاقبوا) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير وليقترفوا عقاب ما هم مقترفون. قوله: (لما طلبوا) (أن يجعل بينه وبينهم حكماً) أي من أحبار اليهود، أو من أساقفة النصارى، ليخبرهم بما في كتابهم من أوصاف النبي وأمره
قوله: ﴿ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أميل لزخارفكم التي زينها الشيطان. فغير الله أبتغي حكماً، وغير مفعول لأبتغي، وحكماً حال أو تمييز، أو حكماً مفعول وغير حال، والحكم أبلغ من الحاكم لأن الحكم من تكرر منه الحكم، وأما الحاكم فيصدق ولو بمرة، أو لأن الحكم لا يجوز أصلاً، والحاكم قد يجور. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ ﴾ الجملة حالية كأنه قال: أفغير الله أطلب حكماً، والحال أن الله هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً، فالذي يشهد لي هو القرآن، وأما الكتب القديمة فإنها وإن كانت تشهد له أيضاً، لكن لما غيروا وبدلوا، صارت غير معول عليها. قوله: (وأصحابه) أي ممن أسلم من علماء اليهود. قوله: ﴿ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ﴾ أي الكتاب. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان، قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ متعلق بمحذوف حال، والتقدير أنه منزل من ربك حال كونه متلبساً بالحق. قوله: (والمراد بذلك التقرير الخ) دفع بذلك ما يقال إن الشك مستحيل على النبي، فكيف ينهى عما يستحيل وصفه به، فأجاب بما ذكر، وأجيب أيضاً بأنه من باب التعريض للكفار بأنهم هم الممترون، فالخطاب له والمراد غيره. قوله: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ أي القرآن وفيها قراءتان: الجمع والإفراد، فالجمع ظاهر، والإفراد على إرادة الجنس والماهية، وترسم بالتاء المجرورة على كل من القراءتين، وهكذا ما قرئ بالجمع والإفراد إلا موضعين: أحدهما في يونس في قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾[يونس: ٩٦] وثانيهما في غافر في قوله تعالى:﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾[غافر: ٦] فاختلف فيها المصاحف، فبعضهم بالتاء المجرورة، وبعضهم بالتاء المربوطة. قوله: (بالأحكام والمواعيد) راجع لقوله: ﴿ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ على سبيل اللف والنشر المشوش، ولو أخره لكان أحسن، والمعنى: تمت كلمات ربك من جهة الصدق، كالأخبار والمواعيد، والعدل كالأحكام فلا جور فيها، وهذا إخبار من الله بحفظ القرآن من التغيير والتبديل، كما وقع في الكتب المتقدمة، وذلك سر قوله تعالى:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾[الحجر: ٩] وقوله تعالى:﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ ﴾[الإسراء: ١٠٦].
قوله: (تمييز) أي على التوزيع، أي صدقاً في مواعيده وعدلاً في أحكامه، ويصح أن يكون حالاً من ربك، ويؤول المصدر باسم الفاعل، أي حال كونه صادقاً وعادلاً. قوله: ﴿ لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ هذا كالتوكيد لقوله: ﴿ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾، وقوله: (بنقض أو خلف) راجع لقوله: ﴿ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ على سبيل اللف والنشر المرتب. قوله: (أي الكفار) تفسير للأكثر. قوله: ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ ﴾ قدر المفسر ما إشارة إلى أن إن نافية بمعنى ما. قوله: (إذ قالوا الخ) إشارة لسبب نزول هذه الآية وما بعدها، وذلك أن المشركين قالوا للنبي: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: الله قتلها. قالوا: أنت تزعم ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتلها الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام، فكيف تدعون أنكم تعبدون الله ولا تأكلون ما قتله ربكم؟ فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم. قوله: ﴿ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ الخرص في الأصل الحزر والتخمين، ومنه خرص النخلة، وقوله: (يكذبون) سمى الخرص كذباً لأن فيه تتبع الظنون الكاذبة. قوله: (في ذلك) أي في قولهم ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم. قوله: (أي عالم) دفع بذلك ما يقال إن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه، فأجاب: بأن اسم التفضيل مؤول اسم الفاعل. وأجيب أيضاً: بأن قوله: ﴿ مَن يَضِلُّ ﴾ مفعول لمحذوف تقديره بعلم من يضل، أو منصوب بنزع الخافض، والتقدير بمن يضل يدل عليه قوله بعد ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ ﴾.
قوله: ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ هذا رد لقولهم المتقدم، فإن الميتة لم يذكر عليها اسم الله، فعند مالك الوجوب مع الذكر، وعند الشافعي السنية، والمراد بذكر اسم الله هنا، عدم ذكر اسم غيره كالأصنام، ليدخل ما إذا نسي التسمية فإنها تؤكل، وسيأتي إيضاح ذلك.
قوله: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ ﴾ هذا تأكيد لإباحة ما ذبح على اسم الله، وما اسم الله استفهام مبتدأ، ولكم خبره، والتقدير أي شيء ثبت لكم في عدم أكلكم الخ. قوله: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ ﴾ أي بين وميز، والواو للحال. قوله: (بالبناء للمفعول وللفاعل) أي فهما قراءتان سبعيتان، وبقي ثالثة، وهي بناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول. قوله: (في الفعلين) أي فصل وحرم. قوله: (في آية حرمت عليكم الميتة) أي التي ذكرت في المائدة، وفي المقام إشكال أورده فخر الدين الرازي، وهو أن سورة الأنعام مكية، وسورة المائدة مدنية، من آخر القرآن نزولاً بالمدينة. وأجيب: بأن الله علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول، فبهذا الاعتبار حسنت الحوالة عليها لسبقية علم الله بذلك، وقال بعضهم: الأولى أن يقال وقد فصل لكم الخ أي في قوله:﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ﴾[الأنعام: ١٤٥] الآية، وهذه وإن كانت مذكورة بعد، إلا أنه لا يمنع الاستدلال بها للاتحاد في وقت النزول. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ استثناء منقطع، لأن ما اضطر إليه ليس داخلاً في المحرم. قوله: (فهو أيضاً حلال لكم) أي وهل يشبع ويتزود منها، ويقتصر على ما يسد منها، ويقتصر على ما يسد الرمق، خلال بين العلماء. قوله: (المعنى لا مانع الخ) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: (وهذا ليس منه) أي من المحرم، وأما ما لم ينص على حرمته ولا حله من قبيل الحل، لأنه ذكر أشياء واستثنى الحرام منها، فالحرام معدود معروف، فمثل القهوة والدخان غير محرم، إلا أن يطرأ له ما يحرمه، كالاسراف وتغييب العقل. وحاصل ذلك أن يقال: إن اعتاد ذلك وصار دواء فهو جائز، ولكن بقدر الضرورة، وإن كان يضر جسمه أو يسرف فيه فهو حرام، وإن اشتغل به عن عبادة مندوبة فهو مكروه، فكثرته إما حرام أو مكروه. قوله: (بفتح الياء) أي من ضل اللازم، بمعنى قام به الضلال في نفسه، وقوله: (وضمها) أي من أضل الرباعي، بمعنى أوقع غيره في الضلال. قوله: ﴿ بِأَهْوَائِهِم ﴾ الباء سببية، وفي قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ متعلق بمحذوف حال، والمعنى يضلون في أنفسهم، أو يوقعون غيرهم في الضلال، بسبب اتباعهم أهواءهم، ملتبسين بغير علم. قوله: (وغيرها) أي كالدم ولحم الخنزير، إلى آخر ما ذكر في آية المائدة. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُعْتَدِينَ ﴾ أي فيجازيهم على اعتدائهم. قوله: ﴿ وَذَرُواْ ﴾ الأمر للمكلفين من الإنس والجن وهو للوجوب. قوله: (علانيته وسره) لف ونشر مرتب. قوله: (قيل الزنا) أي وكان العرب يحبونه، وكان الشريف منهم يستحي من إظهاره فيفعله سراً، وغير الشريف لا يستحي من ذلك فيظهره، فأنزل الله تحريمه ظاهراً وباطناً. قوله: (وقيل كل معصية) أي فالظاهر منها: كالزنا والسرقة وبقية معاصي الجوارح الظاهرية، والباطن منها: كالكبر والحقد والحسد والعجب والرياء وحب الرياسة وغير ذلك من المعاصي القلبية، وهذا التفسير هو الأقرب، وإن كان الأول موافقاً لسبب النزول، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: ﴿ سَيُجْزَوْنَ ﴾ (في الآخرة) أي العذاب الدائم إن كان مستحلاً، أو بالعذاب مدة، ويخرج إن لم يكن مستحلاً، ومات من غير توبة ولم يعف الله عنه، فإن تاب الكافر قبل قطعاً، وإن تاب المسلم فقيل كذلك، وقيل تقبل ظناً. إن قلت: لأي شيء اختلف في توبة المسلم دون الكافر؟ وأجيب: بأن رحمة الله سبقت غضبه، فلو جاز عدم القبول لتوبة الكافر، لكان مخلداً في النار، مع أن رحمته غلبت غضبه. وأما المؤمن فهو مقطوع له بالجنة، فلو لم يقبل توبته وعذبه، فلا بد له من الرحمة، انتهاء غاية ما هناك عذابه تطهير له.
قوله: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ اختلف في تفسير هذه الآية، فقال بعض المجتهدين غير الأربعة: الآية عامة في كل شيء، فأي شيء لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله، وقال بعضهم: الآية خصوصة بالذبيحة، فمن ترك التسمية عمداً أو نسياناً لا تؤكل ذبيحته، وقال بعضهم: إن تركها عمداً لا تؤكل، وإن تركها نسياناً أو عجزاً كخرس أكلت، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال بعضهم: التسمية سنة، فإن تركها عمداً أو نسياناً أكلت، وبه قال الإمام الشافعي، وعن الإمام أحمد روايتان: الأولى يوافق فيها مالكاً، والثانية يوافق فيها الشافعي، إذا علمت ذلك فمحمل الآية ما أهل به لغير الله فقط، لأن المفسر به الفسق فيما يأتي في قوله تعالى:﴿ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾[الأنعام: ١٤٥].
وأما حكم الميتة فمعلوم من غير هذا الموضع، وحملها المفسر عليهما معاً وهما طريقتان. قوله: (أو ذبح على اسم غيره) أي وإن لم يذكر اسم غير الله، وأما الكتابي إذا لم يذكر اسم الله ولم يهل به لغيره، فإنها تؤكل، فإن جمع الكتابي بين اسم الله واسم غيره أكلت ذبيحته عند مالك، لأن اسم الله يعلو ولا يعلى عليه، وأما المسلم إن جمع بينهما على وجه التشريك في العبودية، فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته. قوله: (وعليه الشافعي) أي فالتسمية عنده سنة. قوله: (أي الأكل منه) أي المفهوم من لا تأكلوا على حد﴿ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾[المائدة: ٨] أي العدل المفهوم من اعدلوا. قوله: ﴿ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ ﴾ أي إبليس وجنوده من الجن. قوله: (الكفار) أي وهم شياطين الإنس. قوله: ﴿ لِيُجَٰدِلُوكُمْ ﴾ تعليل ﴿ لَيُوحُونَ ﴾ وذلك أن المشركين قالوا يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: الله قتلها، قال: أتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام فنزلت. قوله: ﴿ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ أي لأن من أحل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك، لأنه أثبت حاكماً غير الله، ولا شك أنه إشراك. قوله: (وغيره) أي كعمر بن الخطاب أو حمزة أو عمار بن ياسر أو النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العبرة بعموم اللفظ فهذا المثل للكافر والمسلم، وسبب نزولها على القول بأنها في أبي جهل وحمزة، أن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث؛ فأخبر حمزة غضبان حتى علا أبا جهل وجعل يضربه بالقوس، وجعل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى ألا ترى ما جاء به. سفه عقولنا، وسب آلهتنا، وخالف أباءنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم عقولاً تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأسلم حمزة يومئذ فنزلت الآية.
قوله: ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف تقديره أيستويان، ومن كان ميتاً الخ، ومن اسم شرط مبتدأ، وكان فعل الشرط واسمها مستتر، وميتاً خبرها وقوله: ﴿ فَأَحْيَيْنَٰهُ ﴾ جواب الشرط، وقوله: ﴿ كَمَن مَّثَلُهُ ﴾ خبر المبتدأ. قوله: (بالهدى) أي الإيمان. قوله: (مثل زائدة) أي لأن المثل هو الصفة، والمستقر في الظلمات ذواتهم لا صفاتهم. قوله: ﴿ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ هذا إخبار من الله بعدم إيمان أبي جهل رأساً، ولكن تقدم أن العبرة بعموم اللفظ. قوله: (لا) أي لا يستويان، وأشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: (كما زين للمؤمنين الإيمان) أي لقوله تعالى:﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾[الحجرات: ٧].
قوله: ﴿ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي والمزين لهم حقيقة هو الله، ويصح نسبة التزيين إلى الشياطين من حيث الإغواء والوسوسة. قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ الكاف اسم بمعنى مثل، والمعنى ومثل ما جعلنا في مكة كبراءها وعظماءها المجرمين، جعلنا في قرية كبراءها وعظماءها مجرميها، فذلك سنة الله أنه جعل أول من يقتدي بالرسل الضعفاء والمعارضين المنكرين الكبراء، ليكون عز الرسل بربهم ظاهراً وباطناً، وكل آية وردت في ذم الكفار تجر بذيلها على عصاة المؤمنين، فإن المباشر للظلم والفجور أكابر كل قرية ومدينة كما هو مشاهد. قوله: (فساق مكة) هو معنى مجرميها، وحل المفسر يفيد أن مجرميها مفعول أول مؤخر، وأكابر مفعول ثان مفعول ثان مقدم، وأكابر مفعول أول مؤخر وهو مضاف لمجرميها، وأخر المفعول الأول لأن فيه ضميراً يعود على المفعول الثاني، فلو قدم لعاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، وقد أشار ابن مالك لذلك بقوله: كذا إذا عاد عليه مضمر   مما به عنه مبيناً يخبرفيصير المعنى وكذلك جعلنا عظماء المجرمين كائنين في كل قرية. الثالث: أن في كل مفعول ثان، وأكابر مفعول أول، ومجرميها بدل من أكابر، ولم يضف لئلا يلزم عليه إضافة الصفة للموصوف وهو لا يجوز عند البصريين. الرابع: أن أكابر مفعول أول مضاف لمجرميها، وفي كل قرية ظرف لغو متعلق يجعلنا، والمفعول الثاني محذوف تقديره فساقاً، ورد بأن هذا التقدير لا فائدة فيه ولا محوج له، فالأحسن الثلاثة الأول. قوله: ﴿ لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾ اللام إما لام العاقبة والصيرورة نظير﴿ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾[القصص: ٨]، أو لام العلة بمعنى الحكمة، وأما قولهم تنزه الله عن العلة، فمعناه العلة الباعثة على الفعل ليكتمل به، وأما الحكم فلا تخلو أفعال الله عنها، (سبحانك ما خلقت هذا عبثاً) والمكر والخديعة والحيلة والغدر والفجور وترويج الباطل، وهذه الأشياء لا تقبل عادة إلا من الكبراء، قوله: (بالصد عن الإيمان) أي لما ورد أن كل طريق من طرق مكة كان يجلس عليه أربعة، يصرفون الناس عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون هو كذاب ساحر كاهن. قوله: (لأن وباله عليهم) أي وبال مكرهم لاحق بهم، قال تعالى:﴿ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾[فاطر: ٤٣] وقال أيضاً:﴿ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ ﴾[الأنعام: ١٢٤]الآية. قوله: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي لم يعلموا بأن وباله عليهم.
قوله: ﴿ إِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ ﴾ نزلت في الوليد بن المغيرة حيث قال للنبي: لو كانت النبوة حقاً لكنت أنا أولى بها منك، لأني أكبر سناً وأكثر منك مالاً، وقيل في أبي جهل حيث قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. قوله: ﴿ آيَةٌ ﴾ أي معجزة، كانشقاق القمر، وحنين الجذع، ونبع الماء. قوله: ﴿ لَن نُّؤْمِنَ ﴾ أي نصدق برسالته. قوله: ﴿ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ﴾ قال بعضهم: يسن الوقف عليه هنا، ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين، وذكر بعضهم لهم دعاء مخصوصاً وهو: اللهم من الذي دعاك علم تجبه، ومن الذي استجارك فلم تجره، ومن الذي سألك فلم تعطه، ومن الذي استعان بك فلم تعنه، ومن الذي توكل عليك فلم تكفه، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه، بك أستغيث، أغثني يا مغيث، واهدني هداية من عندك، واقض حوائجنا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا، بحق القرآن العظيم، والرسول الكريم، برحمتك يا ارحم الراحمين ١ هـ. قوله: (قال تعالى) أي رداً عليهم. قوله: (لفعل دل عليه أعلم) دفع بذلك ما يقال من أن حيث مفعول به وليست ظرفاً، لأنها كناية عن الذات التي قامت بها الرسالة، واسم التفضيل لا ينصب المفعول به، فأجاب بما ذكر. وأجيب أيضاً: بأن اسم التفضيل ليس على بابه بل هو مؤول باسم الفاعل وهذا أولى، لأن ما لا تقدير فيه خير مما فيه تقدير، وأيضاً يدفع توهم المشاركة بين علم القديم والحادث، والحاصل أن اسم التفضيل في أسماء الله وصفاته، كأكرم وأعلم وأعظم وأجل ليس على بابه. قوله: (والموضع الصالح لوضعها فيه) أي الذات تستحق الرسالة وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ ﴾ أي وماتوا على الكفر. قوله: ﴿ صَغَارٌ ﴾ كسحاب مصدر صغر كتعب، معناه الذل والهوان، وأما الصغر ضد الكبر، فيقال فيه صغر بالضم فهو صغير. قوله: ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ إما ظرف ليصيب أو لصغار، والعندية مجازية كناية عن الحشر، والوقوف بين يديه، والحساب والجزاء. قوله: (أي بسبب مكرهم) أشار بذلك إلى أن الياء سببية وما مصدرية.
قوله: ﴿ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ ﴾ اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل خلقه في الأزل قسمين: شقي وسعيد، وجعل لكل أمة علامة تدل عليه، فعلامة السعادة شرح الصدر للإسلام، وقبوله لما يرد عليه من النور والأحكام، وعلامة الشقاوة ضيق الصدر، وعلامة قبوله لذلك، وجعل لكل قسم في الآخرة دار يسكنونها، فلأهل السعادة الجنة ونعيمها، ولأهل الشقاوة النار وعذابها، لما في الحديث" إن الله خلق خلقاً وقال هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلق خلقاً وقال هؤلاء للنار ولا أبالي "فذكر في هذه الآية علامة كل قسم، فإذا رزق الله العبد شرح الصدر وأسكنه حلاوة الإيمان، فليعلم أن الله أعظم عليه النعمة. وبضدها تتميز الأشياء. ومن اسم شرط، ويرد فعل الشرط، ويشرح جوابه. قوله: ﴿ يَهْدِيَهُ ﴾ أي يوصله للمقصود، وليس المراد الدلالة لأنها هي شرح الصدر. قوله: ﴿ يَشْرَحْ صَدْرَهُ ﴾ الشرح في الأصل التوسيع، والمراد هنا لازمه، وهو أن يقذف الله في قلب الشخص النور، حتى تكون أحواله مرضية لله، لأنه يلزم من الوسع قبول ما يحل فيه. قوله: (كما ورد في حديث) أي وهو أنه لما نزلت هذه الآية،" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له وينفتح، قيل فهو لذلك أمارة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت، وفي رواية قبل لقى الموت ". قوله: ﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ﴾ أي يمنعه عن الوصول، ويسكنه دار العقاب، ويطرده عن رحمته ومن اسم شرط، ويرد فعل الشرط، ويجعل جوابه، وجعل بمعنى صير، فصدره مفعول أول، وضيقاً مفعول ثان، وحرجاً صفته. والمعنى: أن من أراد الله شقاوته، وطرده عن رحمته، ضيق قلبه، فلا يقبل شيئاً من أصول الإسلام ولا من فروعه، ولو قطع إرباً إرباً، وعلامة ذلك إذا ذكر التوحيد نفر قلبه واشمأز، وإن نطق بلسانه كأهل النفاق، قال تعالى:﴿ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾[الزمر: ٤٥] الآية. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي كميت وميت قراءتان سبعيتان. قوله: (شديد الضيق) أي زائدة، فلا يقبل شيئاً من الهدى أصلاً. قوله: (بكسر الراء صفة) أي اسم فاعل كفرح فهو فرح. قوله: (وصف به مبالغة) أي أو على حذف مضاف، أي إذا حرج على حد زيد عدل. قوله: ﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ﴾ أي يتكلف الصعود فلا يستطيعه. قوله: (وفيهما إدغام التاء في الأصل) أي بعد قلبها صاداً فأصل الأولى يتصعد، وأصل الثانية يتصاعد، وهاتان القراءتان مع تشديد ضيقاً، وكسر راء حرجاً أو فتحها. وأما قوله: (وفي أخرى بسكونها) فهي قراءة من خفف ضيقاً ويفتح حرجاً فالمخفف للمخفف، والمشدد للمشددة. قوله: (لشدته عليه) أي لتعسر الإيمان عليه، فإن القلب بيد الله يسكن فيه أي الأمرين شاء، وليس مملوكاً لصاحبه، وحينئذ فلا ينبغي له أن يأمن لما هو في قلبه من الإيمان ومحبة الله ورسوله، ومن هنا علمنا الله طلب الهداية على سبيل الدوام مع كونها حاصلة بقوله:﴿ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾[الفاتحة: ٦] وبقوله:﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾[آل عمران: ٨] الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك "ولذا خاف العارفون ولم يسكنوا إلى علم ولا عمل، لما علموا أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، ولا يأمنون حتى تقبض أرواحهم على الإيمان، ولكن شأن الكريم، أن من تمم له نعمة الإيمان لا يسلبها منه، لأنه وعد منه وهو لا يخلف. قوله: (أي يسلطه) أي الشيطان وهو تفسير للجعل على التفسير الثاني، وأما تفسيره على الأول فمعناه يلقى ويصيب. قوله: (الذي أنت عليه) أي وهو الإسلام. قوله: ﴿ صِرَاطُ رَبِّكَ ﴾ شبه دين الإسلام بالصراط المستقيم لا اعوجاج فيه، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية. قوله: (ونصبه على الحال المؤكدة للجملة) المناسب أن يقول المؤكد لصراط، لأن الحال المؤكدة للجملة عاملها مضمر، قال ابن مالك: وإن تؤكد جملة فمضمر   عاملها ولفظها يؤخرفينافيه قوله: (والعامل فيها معنى الإشارة). قوله: (معنى الإشارة) المناسب أن يقول: والعامل فيها اسم الإشارة، باعتبار ما فيه من معنى الفعل وهو أسير. قوله: (فيه إدغام التاء في الأصل) أي بعد قلبها ذالاً. قوله: (وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون) أي المؤتمرون بأمره، المنتهون بنهيه، وهم الصالحون المتقون، فبقاء القرآن دليل على بقاء جماعة على قدم النبي بدليل هذه الآية﴿ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ﴾[الزمر: ٢٣] ولا عبرة بمن يقول عدمت الصالحون، وربما قال أنا لم أر أحداً منهم. فقد قال ابن عطاء الله: أولياء الله عرائس مخدرة، ولا يرى العرائس المجرمون.
قوله: ﴿ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، ودار السلام مبتدأ مؤخر، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره وما جزاء من ينتفع بالذكرى، فأجاب بقوله لهم دار السلام، ويحتمل أن يكون حالاً من القوم أو صفة لهم، والتقدير قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون، حال كونهم لهم دار السلام، أو موصوفين بكونهم لهم دار السلام. قوله: (أي السلامة) أي من جميع المخاوف والمكاره، لأن بدخولها يحصل الأمن التام من جميع المكاره حتى الموت ويصح المراد بالسلام التحية الواقعة من الله والملائكة، قال تعالى:﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾[إبراهيم: ٢٣] وقال:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾[الرعد: ٢٣-٢٤] وقال:﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ﴾[الواقعة: ٢٥-٢٦].
قوله: (وهي الجنة) أشار بذلك إلى أن المراد بدار السلام ما يعمل باقي الجنان، وليس المراد خصوص الدار المسماة بدار السلام. قوله: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ العندية عندية شرف، بمعنى أنها منسوبة لله خاصة وليس لأحد فيها منة، أو المعنى من دخلها كان في حضرة ربه، لا يشهد شيئاً سواه، ولا يحجب بنعيمها عن مولاه، بل كلما ازداد من الجنة نعيماً، ازداد قرباً من الله، وزالت الحجب عن قلبه بخلاف الدنيا، إذا اشتغل بشيء من زينتها بعد عن الله، فلكلما ازداد فيها شغلاً، ازداد فيها بعداً عن الله، فلا يخلص منها إلا من جاهد نفسه وخرج عن هواه. قوله: ﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ﴾ الجملة حالية، والمعنى ناصرهم ومتولي أمورهم، وقوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ الباء سببية وما مصدرية، والتقدير بسبب عملهم السابق، تولاهم وأدخلهم حضرة قربه.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ ﴾ يوم ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر. قوله: (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي الله) تفسير للضمة على قراءة الياء والنون على القراءة الأخرى. قوله: (الخلق) أي جميع الحيوانات عقلاء وغيرهم. قوله: ﴿ جَمِيعاً ﴾ توكيد للضمير أو حال منه. قوله: ﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ ﴾ معمول المحذوف قدره المفسر بقوله: (ويقال لهم) وليس معمولاً لنحشرهم بل هما جملتان، وهذا الخطاب بعد جمع الخلائق في الموقف، وتصيير غير العاقل تراباً، وقوله: ﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ ﴾ المعشر الجماعة والجمع معاشر، والمراد بالجن الشياطين. قوله: ﴿ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ ﴾ السين والتاء لتأكيد الكثرة. قوله: (باغوائكم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير قد استكثرتم من إغواء الإنس. قوله: ﴿ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ ﴾ لعل وجه الاقتصار على كلام الإنس، الإشارة إلى أن الجن بهتوا فلم يردوا جواباً، وقوله من الإنس في محل نصب على الحال. قوله: ﴿ رَبَّنَا ﴾ منادى حذف منه حرف النداء. قوله: (انتفع الإنس بتزيين الجن لهم الشهوات) أي التي تنوعت فيها الإنس من سحر وكهانة، ودعوى ألوهية، ودعوى نبوة، وسائر الأديان والعقائد الباطلة، ومن ذلك كان الرجل في الجاهلية، إذا سافر فنزل بأرض فقراء، خاف على نفسه من الجن فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في جوارهم. قوله: (بطاعة الإنس لهم) أي في هذه الأمور المزينة، فاستمتاع الجن بالإنس بالسلطنة التي تولوها عليهم حيث امتثلوا أوامرهم، وكانوا من حزبهم ودخلوا في جاههم. قوله: ﴿ ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ أي الذي قدرته لنا. قوله: (وهذا تحسر منهم) أي ما وقع منهم من تلك المقالة تحسر وتحزن على ما سلف منهم، من طاعة الشيطان واتباع الهوى قوله: (على لسان الملائكة) مرور على القول بأن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلاً. قوله: ﴿ خَٰلِدِينَ فِيهَآ ﴾ حال من الكاف في مثواكم. قوله: (من الأوقات التي يخرجون فيها) تبع المفسر في ذلك شيخه الجلال المحلي في تفسير الصافات، وهو مخالف لظاهر قوله تعالى:﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ﴾[المائدة: ٣٧] والأحسن أن يقال إلا ما شاء الله من الأوقات التي ينقلون في فيها من النار إلى الزمهرير، فينقلون من عذاب النار، ويدخلون وادياً فيه الزمهرير، وهو شدة البرد، ما يقطع بعضهم من بعض، فيطلبون الرد إلى الجحيم، كما ذكر في حواشي البيضاوي. قوله: (لشرب الحميم) أي وهو ماء شديد الحرارة يقطع الأمعاء، وذلك حين يستغيثون من شر النار، يطلبون الماء ليبرد عنهم تلك الحرارة، قال تعالى:﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ ﴾[الكهف: ٢٩].
وقوله: (وعن ابن عباس الخ) أي فيحمل على من مات مؤمناً وهو مصر على المعاصي، ونفذ فيه الوعيد، ويكون المراد من النار دار العذاب، وإن لم تكن دار خلود كجهنم لعصاة المؤمنين. قوله: ﴿ حَكِيمٌ ﴾ (في صنعه) أي يضع الشيء في محله. قوله: ﴿ عَليمٌ ﴾ (بخلقه) أي فيجازي كلاً من عمله. قوله: ﴿ نُوَلِّي ﴾ أي نسلط ونؤمر. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون ﴾ الباء سببية، وما مصدرية، والمعنى كما متعنا الإنس والجن بعضهم ببعض، نسلط بعض الظالمين على بعض، بسبب كسبهم من المعاصي، فيؤخذ الظالم بالظالم، لما في الحديث" ينتقم الله من الظالم بالظالم ثم ينتقم من كليهما " ولما في الحديث أيضاً " كما تكونوا يولي عليكم "ومن هذا المعنى قول الشاعر: وما من يد إلا يد الله فوقها   وما ظالم إلا سيبلى بظالم
قوله: ﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ ﴾ هذا زيادة في التوبيخ عليهم، لأن الله سبحانه وتعالى أولاً وبخ الفريقين بتوجيه الخطاب للجن، وثانياً خاطبهم جميعاً ووبخهم. قوله: (أي من مجموعكم) دفع بذلك ما يقال إن ظاهر الآية يقتضي أن من الجن رسلاً، مع أن الرسالة مختصة بالإنس، فليس من الجن بل ولا من الملائكة رسل، فأجاب: بأن المراد من مجموعكم الصادق بالإنس، ونظير ذلك قوله تعالى:﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ ﴾[الرحمن: ٢٢] أي من أحدهما وهو الملح، وقوله تعالى:﴿ وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾[نوح: ١٦] أي في إحداهن وهي سماء الدنيا. قوله: (أو رسل الجن نذرهم) أشار بذلك إلى جواب آخر، وهو تسليم أن هناك رسلاً من الجن، لكنهم رسل الرسل الذين يسمعون من النبي المواعظ والأحكام، ويبلغون قومهم ذلك، قال تعالى:﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾[الأحقاف: ٢٩] الآية، وقال تعالى:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ ﴾[الجن: ١-٢] الآيات، فيكون المعنى على ذلك: ألم يأتكم رسل منكم، أي من الإنس يبلغونكم عن الله، ومن الجن يبلغونكم عن الرسل؟ والمراد جنس الرسل الصادق بالواحد، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرسل لهم غيره، وأما حكم سليمان فيهم، فحكم سلطنة وملك لا حكم رسالة، وأما قوله تعالى حكاية عن الجن:﴿ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ ﴾[الأحقاف: ٣٠] فلا يلزم من عملهم بموسى وسماعهم لكتابه، أن يكونوا مكلفين به. قوله: ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ﴾ القص معناه الحديث، أي يحدثونكم بآياتي على وجه البيان. قوله: ﴿ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا ﴾ أي يخوفونكم يوم القيامة، والمعنى يحذرونكم من مخالفة الله توجب الخوف يوم القيامة. قوله: (أن قد بلغنا) يصح بناؤه للفاعل والمفعول. قوله: ﴿ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾ عطف سبب على مسبب، أو علة أو معلول. قوله: ﴿ وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ ﴾ كرر شهادتهم على أنفسهم لاختلاف المشهود به، فأولاً شهدوا بتبليغ الرسل لهم، وثانياً شهدوا بكفرهم زيادة في التقبيح عليهم، والمقصود من ذكر ذلك الاتعاظ به، والتحذير من فعل مثل ذلك. إن قلت: إن شهادتهم بكفرهم تدل على أنهم أقروا به، وهو مناف لقوله تعالى:﴿ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام: ٢٣] أجيب: بأن مواقف القيامة مختلفة فأولاً حين يرون المؤمنين توزن أعمالهم، ويمشون على الصراط لدخول الجنة، ينكرون الاشراك، طمعاً في دخولهم في زمرة المؤمنين، فحينئذ يختم على أفواههم، وتنطق أعضاؤهم قهراً عليهم وتقر بالكفر.
قوله: ﴿ ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ ﴾ اسم الاشارة مبتدأ، وأن لم يكن خبره، واللام محذوفة، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن كما قال المفسر، والتقدير ذلك ثابت لأنه لم يكن الخ. قوله: ﴿ لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ ﴾ أي لغلبة رحمته، لا ينزل العذاب على من خالف وعصى، حتى يتكرر عليهم الإنذار والتخويف. قوله: ﴿ بِظُلْمٍ ﴾ (منها) الباء سببية، وقدر المفسر قوله منها إشارة إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من القرى، والمعنى لم يكن مهلك أهل القرى بسبب وقوع ظلم منها، والحال أن أهلها لم يرسل لهم رسول. قوله: (من العاملين) أي طائعين أو عاصين. قوله: (جزاء) دفع بذلك ما يقال إن الدرجات بالجيم للطائعين فينا في العموم المتقدم. فأجاب بأن المراد بالدرجات الجزاء، وهو صادق بالدرجات والدركات. وأجيب أيضاً: بأن في الكلام اكتفاء أي ودركات على حد سرابيل تقيكم الحر أي والبرد. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ﴾ هذا مرتب على ما قبله، جواب عما يقال حيث كان لكل من الطائعين والعاصين جزاء لا مفر لهم منه، فما وجه إمهالهم وعدم تعجيل ذلك لهم؟ فأجاب: بأنه الغني، فلا ينتفع بطاعة الطائع، ولا تضره معصية العاصي، وربك مبتدأ، والغني خبره، و ﴿ ذُو ٱلرَّحْمَةِ ﴾ خبر ثان ويصح أن يكون الغني وذو الرحمة صفتين له، وجملة: ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ خبره. قوله: ﴿ ذُو ٱلرَّحْمَةِ ﴾ أي من أحل ذلك بقاء الخلق من غير استئصال الهلاك لهم. قوله: (بالإهلاك) أي جملة واحدة، بحيث لم يبق منهم أحد كعاد وثمود. قوله: ﴿ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ ﴾ أي ينشئ ويوجد بعد إذهابكم ما يشاء. قوله: ﴿ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ أي وهم أهل سفينة نوح وذريتهم من بعدهم من القرون إلى زمنكم. قوله: (ولكنه أبقاكم رحمة لكم) أي لوجود نبيكم، لأنه بعث رحمة لا عذاباً. قوله: (من الساعة) بيان لما. قوله: ﴿ لآتٍ ﴾ خبر إن مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين كقاض. قوله: ﴿ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي فارين من عذابنا، بل هو مدرككم لا محالة.
قوله: ﴿ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾ هذا أمر تهديد وزجر، نظير قوله تعالى:﴿ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾[فصلت: ٤٠]، وقوله عليه الصلاة السلام" إذا لم تستح فاصنع ما شئت "والمكانة إما من التمكن وهو الاستطاعة فتكون الميم أصلية، أو من الكون بمعنى الحالة فتكون زائدة، والمفسر جعلها بمعنى الحالة. قوله: ﴿ مَن ﴾ (موصولة مفعول العلم) أي و ﴿ تَكُونُ ﴾ صلتها، و ﴿ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ ﴾ اسمها، و ﴿ لَهُ ﴾ خبرها، وعلم عرفانية متعدية لواحد، ويصح أن تكون ما استفهامية مبتدأ، وجملة تكون مع اسمها وخبرها المبتدأ، والمبتدأ والخبر في محل نصب سدت مسد مفعول: ﴿ تَعْلَمُونَ ﴾.
قوله: (أي العاقبة المحمودة في الدار) أشار بذلك إلى أن الإضافة على معنى في، والمراد بالعاقبة المحمودة الراحة التامة والسرور الكامل. قوله: (أنحن أم أنتم) هذا يناسب كون من استفهامية لا موصولة، وإلا لو جعلها موصولة لقال فسوف تعلمون الفريق الذي له عاقبة الدار. قوله: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ استئناف كأنه واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ما عاقبتهم، فقال إنه لا يفلح الظالمون. قوله: ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ ﴾ هذا من جملة قبائحهم وخسران عقولهم، وجعل فعل ماض، والواو فاعل، و ﴿ للَّهِ ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان مقدم، و ﴿ نَصِيباً ﴾ مفعول أول مؤخر، و ﴿ مِمَّا ذَرَأَ ﴾ متعلق بجعلوا. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْحَرْثِ ﴾ متعلق بمحذوف حال من مما ذرأ. قوله: (الزرع) أي ما يزرع كان حباً أو غيره. قوله: ﴿ وَٱلأَنْعَٰمِ ﴾ أي الإبل والبقر والغنم. قوله: (ولشركائهم) متعلق بمحذوف تقديره وجعلوا لشركائهم، وأشار المفسر بذلك إلى أن في الآية اكتفاء بدليل التفصيل بعد ذلك بقوله وهذا لشركائنا. قوله: (إلى سدنتها) أي خدمتها. قوله: ﴿ فَقَالُواْ ﴾ هذا تفريغ على الشق المذكور والشق المطوي. قوله: ﴿ بِزَعْمِهِمْ ﴾ الزعم الكذب ومصبه قوله بعد: ﴿ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا ﴾ فمحط الكذب التنصيف، حيث جعلوا نصف ما خلق الله وأنشأه من الحرث والأنعام له، ونصفه لشركائهم، وحق الجميع أن يكون لله، ويحتمل أن الزعم من حيث ادعائهم الملك وإنشاء الجعل من عندهم، والملك في الحقيقة لله. قوله: (بالفتح والضم) أي فهما قراءتان سبعيتان: الأولى لغة أهل الحجاز، والثانية لغة بني أسد، وفي لغة بالكسر، لكن لم يقرأ بها، والكل بمعنى واجد. قوله: (فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه) أي وكانوا إذا رأوا ما عينوه لله أزكى، بدلوه بما لآلهتهم، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه حباً لها، وإذا هلك ما جعلوه لها، أخذوا بدله مما جعلوه لله، ولا يفعلون ذلك فيما جعلوه لله. قوله: (أي لجهته) أي لجهة مراضيه، وإلا فيستحيل على الله الوصول والجهة. قوله: ﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ ساء فعل ماض، وما اسم موصول فاعل، ويحكمون صلته، والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله حكمهم، وقوله: (هذا) بدل من حكمهم، لأن حكمهم مبتدأ، والجملة قبله خبره.
قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ الجملة معطوفة على الجملة قبلها، والكاف بمعنى مثل. قوله: ﴿ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ زين بالبناء للفاعل، ولكثير متعلق بزين، ومن المشركين صفة لكثير، و ﴿ قَتْلَ ﴾ بالنصب مفعول لزين، وهو مضاف لأولادهم، وشركاؤهم بالرفع فاعل زين، وقرأ ابن عامر من السبعة زين بالبناء للمفعول، وقتل بالرفع نائب فاعل زين، و ﴿ أَوْلَٰدِهِمْ ﴾ بالنصب مفعول المصدر الذي هو قتل، وقتل مضاف، وشركائهم مضاف إليه، ولا يضر الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، لأنه ليس أجنبياً، والمضر الفصل بالأجنبي، وهذه القراءة متواترة صحيحة موافقة للنحو، خلافاً لمن شذ وعاب على من قرأ بها، كيف وهو أعلى القراءة سنداً، وأقدمهم هجرة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي زين مبيناً للمفعول، وقتل نائب الفاعل، وأولادهم بالجر المضاف لقتل، وشركاءهم بالرفع فاعل، قال ابن مالك: وبعد جره الذي أضيف له   كمثل بنصب أو برفع عملهوقرأ أهل الشام كقراءة ابن عامر، إلا أنهم خفضوا الأولاد أيضاً، على أن شركاءهم صفة لهم، بمعنى أنهم يشركونهم في المال والنسب، وقرأ فرقة من أهل الشام، زين بكسر الزاي بعدها ياء ساكنة مبني للمفعول كقيل ربيع، وقتل نائب الفاعل، وأولادهم بالنصب، وشركائهم بالجر، وتوجيهها معلوم مما تقدم، فجملة القراءات خمس: اثنتان سبعيتان وهما اللتان مشى عليهما المفسر، وثلاث شواذ. قوله: (بالوأد) هو دفن الإناث بالحياة مخافة الفقر والعار، قال تعالى﴿ وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ﴾[التكوير: ٨-٩] قوله: (من الجن) أي الملابسين للأصنام. قوله: (ولا يضر) رد على من منع ذلك وعاب على ابن عامر. قوله: (وإضافة القتل) مبتدأ، وقوله: (لأمرهم به) خبره، ومباشر القتل هو كثير من المشركين. قوله: ﴿ لِيُرْدُوهُمْ ﴾ علة للتزيين، وقوله: ﴿ وَلِيَلْبِسُواْ ﴾ معطوف على ليردوهم، وهو من لبس بفتح الباء يلبس بكسرها لبساً بمعنى خلط. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ﴾ مفعول محذوف تقديره عدم فعلهم، والمعنى لو أراد الله عدم التزيين والقتل ما فعلوه، لأن الله هو الموجد للخير والشر، وإنما الخلق أسباب ظاهرية في الخير والشر، وإلا فمرجه الكل إلى الله، ومن هنا قول سيدي إبراهيم الدسوقي: من نظر للخلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحق عذرهم، وقال بعض العارفين: الكل تقديره مولانا وتأسيسه   فاشكر لمن قد وجب حمده وتقديسهوقل لقلبك إذا زادت وساويسه   إبليس لما طغى من مكان إبليسهقوله: ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي اتركهم وافتراءهم.
قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ هذا نوع آخر من أنواع قبائحهم، وقوله: ﴿ هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ ﴾ الخ الاشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم. قوله: ﴿ حِجْرٌ ﴾ بمعنى محجور، كذبح بمعنى مذبوح أي ممنوعة. قوله: ﴿ لاَّ يَطْعَمُهَآ ﴾ أي لا يأكلها، والضمير عائد على الأنعام والحرث. قوله: (وغيرهم) أي من الرجال دون النساء. قوله: ﴿ بِزَعْمِهِمْ ﴾ حال من فاعل قالوا. قوله: (كالسوائب والحوامي) أي والبحائر. قوله: (ونسبوا ذلك) أي التقسيم إلى الأقسام الثلاثة، بأن قالوا: قسم حجر أي ممنوع منه بالكلية، وقسم لا يركب وإن كان يجوز أخذ لبه وأولاده، وقسم لا يذكر اسم الله عليه عند الذبح، وإنما يذكر اسم الصنم، وقوله: ﴿ ٱفْتِرَآءً ﴾ معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله ونسبوا ذلك. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي بسبب افترائهم. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ هذا إشارة لنوع آخر من أنواع قبائحهم. قوله: ﴿ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَٰمِ ﴾ أي نتاج الأنعام والسوائب والبحائر، فما ولد منها حياً فهو حلال للذكور خاصة، وما ولد منها ميتاً فهو حلال للذكور والإناث. قوله: ﴿ خَالِصَةٌ ﴾ خبر عن ما باعتبار معناها، وقوله: ﴿ وَمُحَرَّمٌ ﴾ خبر عنها باعتبار لفظها. قوله: (مع تأنيث الفعل) أي باعتبار معنى ما وهو الأجنة، وهذا على النصب، وأما على الرفع فباعتبار تأنيث الميتة، وقوله: (وتذكيره) أي باعتبار لفظ ما على قراءة النصب، وباعتبار أن تأنيث الميتة مجازي على قراءة الرفع، فالقراءات أربع وكلها سبعية، وكان ناقصة في النصب، واسمها ضمير يعود على ما، وتامة في الرفع فاعلها ميتة. قوله: ﴿ فَهُمْ فِيهِ ﴾ أي ذكورهم وإناثهم يأكلون منه جميعاً. قوله: ﴿ وَصْفَهُمْ ﴾ أي جزاء وصفهم، والمراد بوصفهم التحليل والتحريم الذي اخترعوه، فالباء في قوله: (بالتحليل والتحريم) لتصوير الوصف. قوله: ﴿ إِنَّهُ حِكِيمٌ ﴾ تعليل لمجازاته إياهم، أي فمن أجل حكمته وعلمه لا يترك جزاءهم. قوله: ﴿ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ ﴾ أي في الدنيا باعتبار السعي في نقص عددهم وإزالة ما أنعم الله به عليهم، وفي الآخرة باستحقاق العذاب الأليم. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (جهلاً) روي البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين. والمائة من الأنعام. ﴿ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ ﴾ إلى قوله ﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾.
قوله: ﴿ ﴾ معطوف على قتلوا، فهو صلة ثانية. قوله: ﴿ وَحَرَّمُواْ ﴾ معمول لحرموا. قوله: ﴿ ٱفْتِرَآءً ﴾ أي عن الطريق المستقيم، وقوله: ﴿ مَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ فيه إعلام بأن هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل، يموتون على الضلال، كأن الله يقول لنبيه: لا تعلق آمالك بهداهم.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ ﴾ هذا امتنان من الله على عباده وبيان أن كل نعمة منه. قوله: ﴿ جَنَّٰتٍ ﴾ المراد بها جميع ما ينبت أعم من أن يكون بساتين، أو لا بدليل ما بعده من باب تسمية الكل باسم جزئه الأشرف، أو أطلق الخاص وأراد العام، فلا مفهوم لقول المفسر: (بساتين). قوله: (كالبطيخ) أي والعنب إذا لم يوضع على عريش. قوله: (كالنخل) أي وغيره مما له ساق يرتفع به، كالجميز والنبق والعنب إذا وضع على عريش والحبوب، وقيل المعروشات المرتفعات على ساق، وغير المعروشات ما لا ساق له، عكس ما ذكر المفسر. قوله: ﴿ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ ﴾ قدر المفسر: (أنشأ) إشارة إلى أنه معطوف على جنات، عطف خاص على عام، والنكتة عموم النفع بالنخل والزرع لإقامتهما بنية الآدمي، فهما يغنيان عن غيرهما، وغيرهما لا يغني عنهما، والمراد بالزرع جمع الحبوب التي يقتات بها. قوله: ﴿ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ﴾ فالمعنى أنشاء مقدراً في علمه سبحانه أن أكله مختلف، والأكل بالضم المأكول، أي مأكول لكل منهما، مختلف في الصفة والطعم واللون والرائحة. قوله: (ثمره وحبه) لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ ﴾ معطوف أيضاً على جنات، وخصهما لأنها أشرف الثمار بعد النخل. قوله: ﴿ مُتَشَٰبِهاً ﴾ هو بمعنى مشتبهاً المتقدم، إلا أن القراءة سنة متبعة. قوله: (طعمهما) أي ولونهما وريحهما وجرمهما. قوله: ﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ ﴾ هذا أمر إباحة. قوله: (قبل النضج) أي استوائه ووجوب الزكاة فيه، فلا تتوقف إباحة الأكل على الموصول إلى حد وجوب الزكاة فيه، وهو النضج أو التهيؤ له، ولا يحسب عليه شيء للفقراء، أما بعد النضج فكل ما أكله حسبت عليه زكاته. قوله: (زكاته) هذا تفسير ابن عباس وأنس بن مالك، واستشكل بأن السورة مكية، وفرض الزكاة كان المدينة في السنة الثالثة من الهجرة. وأجيب بأن الآية مدنية، وقيل المراد بالحق إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر للفقراء، وهو قول الحسن وعطاء ومجاهد، وعلى هذا القول فقيل الأمر للوجوب، ويكون منسوخاً بآية الزكاة، وقيل للندب ويكون محكماً. قوله: ﴿ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ أي زمن تيسر الاخراج منه، وهو ظاهر فيما لا يتوقف على تصفيه، كالعنب والزيتون والنخل، وأما ما يحتاج إلى تصفية كالحبوب فيقال إن يوم ظرف متسع، فيشمل مدة الحصاد والدارس، أو يقال إن يوم متعلق بمحذوف تقديره وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده، وهو لا ينافي أن إخراج الحق بعد التصفية إن توقف عليها. قوله: (بالفتح والكسر) أي فهما قراءتان سبعيتان بمعنى واحد. قوله: (من العشر) أي فيما سقي بالسيح. أو نصفه أي فيما سقي بآلة. قوله: ﴿ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ ﴾ أي تتجاوزا الحد بإخراجه كله للفقراء أو بعد الاخراج من أصله، أو بإنفاقه في المعاصي، والأقرب الأول الذي اقتصر عليه المفسر، لأن سبب نزولها: أن ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة يوم أحد ففرقها ولم يترك لأهله شيئاً. قوله: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾ أي يعاقبهم.
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلأَنْعَٰمِ ﴾ معطوف على (جنات)، وإليه يشير المفسر حيث قدر (أنشأ)، وفي الحقيقة قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلأَنْعَٰمِ ﴾ متعلق بمحذوف حال من: ﴿ حَمُولَةً ﴾، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، وحمولة هو المعطوف على جنات. قوله: (صالحة للحمل عليها) مشى المفسر على أن المراد بالحمولة الصالح للحمل والفرش وما عداه، والأحسن تفسير الحمولة بالكبار، أعم من أن تكون إبلاً أو بقراً أو غنماً، والفرش بالصغار منها، ويدل عليه قوله: ﴿ ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ ﴾، وقيل الحمولة كل ما حمل عليه من إبل وغيرها، والفرش ما اتخذ من الصوف والوبر والشعر. قوله: (سميت) أي الإبل الصغار والغنم. قوله: ﴿ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ﴾ أي من جمع الثمار والأنعام والحرث. قوله: (في التحريم والتحليل) أي في الحرث والأنعام، بأن تحللوا شيئاً وتحرموا آخر، كما تقول المشركون. قوله: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ تعليل لما قبله. قوله: (بين العداوة) أي ظاهرها لوجود عداوته لأبينا آدم من قبل، واتصالها بأبنائه من بعده، ولذلك قيل: إن المولود في حال ولادته ينخسه الشيطان، فيصرخ عند ذلك من شدة عداوته. قوله: ﴿ ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ ﴾ يطلق الزوج على الشيئين المتلازمين اللذين يحصل بينهما التناسل، وعلى أحدهما، وهو المراد هنا. قوله: (بدل من حمولة وفرشاً) أي بدل مفصل من مجمل. قوله: ﴿ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ﴾ بدل من ثمانية أزواج على جواز الابدال من البدل. قوله: ﴿ ٱثْنَيْنِ ﴾ أي وهما الكبش والنعجة. وقوله: ﴿ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ ﴾ أي التيس والمعز. قوله: (بالفتح والسكون) أي فهما قراءتان سبعيتان قوله: (لمن حرم ذكور الأنعام) أي بعض ذكورها. وقوله: (وإناثها) أي بعض إناثها. قوله: ﴿ ءَآلذَّكَرَيْنِ ﴾ بمد الهمزة الثانية مداً لازماً قدر ثلاث ألفات أو تسهيلها، وهو منصوب بالعامل الذي بعده وهو: ﴿ حَرَّمَ ﴾ قدم لأن مدخول الاستفهام له الصدارة. قوله: ﴿ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ ﴾ أم عاطفة على الذكرين، وكذلك أم الثانية عاطفة على الموصولة على ما قبلها، ومحلها نصب أيضاً تقديره أم الذي اشتملت عليه، وأم في كل منهما متصلة مقابلة لهمزة الاستفهام. قوله: ﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ ﴾ أي أخبروني خبراً ملتبساً بعلم ناشئ عن إخبار من الله بأنه حرم ما ذكره وهي جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، قصد بها إلزام الحجة لهم. قوله: (عن كيفية تحريم ذلك) أي جهته وسببه. قوله: (فإن كان من قبل الذكورة الخ) أي فإن كان سبب التحريم الذكورة، لزمكم تحريم جميع الذكور، وإن كانت الأنوثة، لزمكم تحريم جميع الإناث، وإن كانت ما اشتملت عليه الأرحام لزمكم تحريم الجميع، فلأي شيء خصصتم التحريم ببعض الذكور والإناث، فمن أين التخصيص، أي تخصيص تحريم البحائر والسوائب بالإبل، دون بقية النعم من البقر والغنم. قوله: (والاستفهام للإنكار) أي في المواضع الثلاثة.
قوله: ﴿ أَمْ كُنتُمْ ﴾ أم منقطعة، فلذا فسرها ببل والهمزة، فمدخولها جملة مستقلة، والمقصود بها التهكم بهم، حيث نسبهم إلى الحضور في وقت الإبصار. قوله: (حضوراً) أي حاضرين ومشاهدين تحريم البعض وتحليل البعض. قوله: (لا) أي لم تكونوا حاضرين، ولم يدل دليل على تحريم البعض وتحليل البعض. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ ﴾ متعلق بافترى. قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل افترى، أي افترى حال كونه ملتبساً بغير علم جاهلاً. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾ تعليل لما قبله، والمعنى لا يرشد الذين تعدوا حدود الله بالتحليل والتحريم إلى الصراط المستقيم لسابق الشقاوة لهم.
قوله: ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ ﴾ لما ألزمهم الله الحجة بأن التحريم عند أنفسهم لا من عند الله، أخبرهم بما ثبت تحريمه عن الله، فهو نتيجة ما قبله وثمرته، والمعنى قل يا محمد لكفار مكة لا أجد فيما أوحي إلي الخ. قوله: ﴿ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ ﴾ ما اسم موصول، وأوحي صلته، والعائد محذوف، والتقدير في الذي أوحاه الله إلي وهو القرآن. قوله: (شيئاً) ﴿ مُحَرَّماً ﴾ قدره المفسر إشارة إلى أن محرماً صفة لموصوف محذوف. قوله: ﴿ عَلَىٰ طَاعِمٍ ﴾ متعلق بمحرماً. وقوله: ﴿ يَطْعَمُهُ ﴾ من باب لهم، ومعنى طاعم آكل، ويطعمه يأكله. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ ﴾ اسمها ضمير مستتر عائد على الشيء المحرم، و ﴿ مَيْتَةً ﴾ بالنصب خبرها، فذكر باعتبار ما عاد عليه الضمير، وهذا على قراءة الياء، وأما على التاء فالتأنيث باعتبار خبر يكون وهو ميتة، وهاتان قراءتان على نصب ميتة، وأما رفعها ففيه قراءة واحدة فالفوقانية فتكون تامة وميتة فاعل. إذا علمت ذلك فقول المفسر: (وفي قراءة بالرفع مع التحتانية) سبق قلم، والصواب الفرقانية، وهذا الاستثناء كونه ميتة، وهو معنى، قيس من جنس المستثنى منه، والأقرب كونه متصلاً. قوله: ﴿ أَوْ دَماً ﴾ بالنصب عطف على ميتة في قراءة النصب، وعلى المستثنى في قراءة الرفع. قوله: ﴿ مَّسْفُوحاً ﴾ من السفح هو السيلان أو الصب، والدم المسفوح نجس من سائر الحيوانات، ولو من سكك وذباب، وعند أبي حنيفة لا دم للسمك أصلاً، بدليل إنه إذا نشف صار أبيض. قوله: (كالكبد والطحال) أي فإنهما طاهران، لما في الحديث" أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال "قوله: ﴿ فَإِنَّهُ ﴾ أي لحم الخنزير، وخص اللحم بالذكر، وإن كان باقيه كذلك لاعتنائهم به أكثر من باقيه. قوله: (حرام) الأوضح أن يقول نجس، لأن التحريم علم من الاستثناء. قوله: ﴿ أَوْ فِسْقاً ﴾ عطف على ميتة، وهو على حذف مضاف، أي ذا فسق، أو جعل نفس الفسق مبالغة، على حد زيد عدل. وقوله: ﴿ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾ صفة لفسقاً. قوله: (أي ذبح على اسم غيره) أي قرباناً كما يتقرب إلى الله، كان ذلك الغير صنماً أو غيره. قوله: ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ أي أصابته الضرورة. قوله: (مما ذكر) أي من الميتة وما بعدها. قوله: ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ تقدم في سورة البقرة، أنه فسر لنا الباغي بالخارج على المسلمين، والعادي بقاطع الطريق، لأن مع كل مندوحة وهي التوبة، فإذا تاب كل جاز له الأكل، وتقدم الخلاف في المضطر، هل له أن يشبع ويتزود، وهو مشهور مذهب مالك، أو يقتصر على سد الرمق، وهو مشهور مذهب الشافعي. قوله: ﴿ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ تعليل لجواب الشرط المحذوف تقديره فلا إثم عليه. قوله: (ويلحق بما ذكر) كان المناسب قديمه على قوله: فمن اضطر. قوله: (كل ذي ناب) أي كالسبع والضبع والثعلب والهر والذئب، وقوله: (ومخلب من الطير) كالصقر والنسر والوطواط، وهذا مذهب الإمام الشافعي، وأما عند مالك: فجميع الطيور يجوز أكلها ما عدا الوطواط فيكره أكله، وجميع السباع مكروهة ما عدا الكلب الأنسي والقرد، ففيهما قولان بالحرمة والكراهة، وأما الخيل والبغال والحمير الانسية، فمشهور مذهب مالك أنها محرمة، ومشهور مذهب الشافعي إباحة الخيل دون البغال والحمير.
قوله: ﴿ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ الجار والمجرور متعلق بحرمنا، وهادوا صلة الذين سموا بذلك، لأنهم هادوا بمعنى رجعوا عن عبادة العجل. قوله: ﴿ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ القراء السبعة على ضم الظاء والفاء، وقرئ شذوذاً بسكون الفاء وبكسر الظاء والفاء بسكون الفاء، وبقي في الظفر لغة خامسة لم يقرأ بها: أظفور وجمع الأولى أظفار، والأخيرة أظافير قياساً، وأظافر سماعاً. قوله: (كالإبل) أدخلت الكاف الأوز والبط. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ ﴾ متعلق بحرمنا. قوله: (الثروب) جمع ثرب كفلس، شحم رقيق يغشى الكرش والامعاء، ولكن المراد بها هنا الشحم الذي على الكرش فقط، وإلا ناقض ما بعده. قوله: (وشحم الكلى) جمع كلوة أو كلية. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ ما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء أو نكرة موصولة وجملة ظهورهما صلة أو صفة، والعائد محذوف. قوله: ﴿ أَوِ ٱلْحَوَايَآ ﴾ معطوف على ظهورهما، وسميت بذلك لأنها محتوية على الفضلات لأنها تنحل في الكرش، ثم إذا صفيت استقرت في الأمعاء، أو لأنها محتوية بمعنى ملتفة كالحلقة. قوله: (الأمعاء) أي المصارين، والمعنى أن الشحم الذي تعلق بالظهور، أو احتوت عليه المصارين، أو اختلط بعظم كلحم الألية جائز لهم. قوله: (جمع حاوياء) أي كقاصعاء وقواصع، وقوله: (أو حاوية) أي كزاوية وزوايا، وقيل جمع حوية كهدية. قوله: (وهو شحم الألية) بفتح الهمزة. قوله: (بما سبق في سورة النساء) أي في قوله:﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾[النساء: ١٥٥] إلى أن قال:﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾[النساء: ١٦٠].
قوله: (وفي إخبارنا ومواعيدنا) أي بأن سبب ذلك التحريم هو بغيهم، لا كما قالوا حرمها إسرائيل على نفسه فنحن مقتدون به، فقد كذبوا في ذلك، بل لم يطرأ التحريم إلا بعد موسى، ولم يكن ذلك محرماً على أحد قبلهم، لا في شرع إبراهيم ولا غيره، وإنما حرم إسرائيل على نفسه بالخصوص الإبل من أجل شفائه من عرق النساء الذي كان به، وقد تقدم الرد عليهم أيضاً في قوله تعالى:﴿ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾[آل عمران: ٩٣].
قوله: (حيث لم يعالجكم بالعقوبة) أي فإمهاله للكافر من سعة رحمته، فإذا تاب خلده في الرحمة. قوله: (وفيه تلطف الخ) دفع ذلك ما يقال: إن مقتضى الظاهر فقل ربكم ذو عقاب شديد، فأجاب: بأنه تطلف بدعائهم إلى الإيمان ليطمع النائب ولا ييأس. قوله: ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ ﴾ هذا من جملة المقول أيضاً، والمعنى لا يرد عذابه عمن لم يتب ومات على الكفر، فأطمعهم في الرحمة بالجملة الأولى، وبقي الاغترار بالجملة الثانية.
قوله: ﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ هذا إخبار من الله لنبيه بما يقع منهم في المستقبل، وقد وقع كما حكاه الله عنهم في سورة النحل بقوله تعالى:﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾الخ، وإنما قالوه إظهاراً لكونهم على الحق، لا اعتذاراً من ارتكاب هذه القبائح، مدعين أن المشيئة لازمة للرضا، فلا يشاء إلا ما يرضاه، وقد وقع الكفر بمشيئته فهو راض به، فكيف تقول يا محمد إنا نعذبك على شيء أراده الله منا ورضيه؟ وحاصل رد تلك الشبه، أن تقول لا يلزم من المشيئة الرضا، بل يشاء القبيح ولا يرضاه، ويشاء الحسن ويرضاه، فكل شيء بمشيئته تعالى. قوله: ﴿ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ أي عدم إشراكنا، فمفعول المشيئة محذوف، وهذه المقدمة صادقة، لكنهم توصلوا بها إلى مقدمة كاذبة قدرها المفسر بقوله: (فهو راض به) قوله: ﴿ وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ معطوف على الضمير في إشراكنا، والفاصل موجود وهو لا النافية، وتقدير المفسر نحن بيان للضمير في إشراكنا لا لصحة العطف، إذ يكفي أي فاصل، قال ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل   عطف فافصل بالضمير المنفصلأو فاصل ما. قوله: (فهو راض به) هذا هو نتيجة قولهم: ﴿ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا ﴾.
قوله: (قال تعالى) أي تسلية له عليه الصلاة والسلام. قوله: (كما كذب هؤلاء) أي مثل ما كذبوك ولم يصدقوك بما جئت به، كذب الأمم السابقة أنبياءهم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾ غاية التكذيب أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا الخ. قوله: ﴿ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ من زائدة، وعلم مبتدأ مؤخر، وعند ظرف خبر مقدم، والمعنى هل عندكم من شيء تحتجون به على ما زعمتم من أن الله راض بأفعالكم فتطهروه لنا؟. قوله: (أي لا علم عندكم) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ ﴾ جواب شرط مقدر، قدره المفسر بقوله: (إن لم يكن لكم حجة). قوله: (التامة) أي وهي إرسال الرسل وإنزال الكتب، ومعنى التامة الكاملة التي لا يعتريها نقص ولا خفاء. قوله: (هدايتكم) قدرة إشارة إلى أن مفعول شاء محذوف. قوله: ﴿ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أي ولكنه لم يشأ ذلك فلم يحصل، ومحط التعليق على هداية الجميع، وأما هداية البعض فقد حصلت. قوله: ﴿ قُلْ هَلُمَّ ﴾ فيها لغتان: لغة أهل الحجاز عدم إلحاقها شيئاً من العلامات، فهي بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمثنى والمجموع والقرآن جاء عليها، وعلى ذلك فهي اسم فعل بمعنى أحضروا، ولغة تميم وهي إلحاقها العلامات، فتقول هلموا وهلمي وهلما وهلمن، وعليها فهي فعل أمر، وهذا الأمر لمزيد التبكيت لهم، وإقامة الحجة عليهم. قوله: ﴿ فَإِن شَهِدُواْ ﴾ أي بعد مجيئهم وحضورهم. قوله: ﴿ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾.
قوله: ﴿ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ الجملة حالية ومعنى يعدلون يسوون به غيره، والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بآيات الله، وبين الكفر بالآخرة، وبين الإشراك بالله في أهوائهم.
قوله: ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ ﴾ لما أقام الله سبحانه وتعالى الحجة على الكفار، بأنه تحليل ولا تحريم إلا بما أحله الله أو حرمه كأن سائلاً قال: وما الذي حرمه وأحله؟ فقال سبحانه: ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ ﴾ الخ، وتعالوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وهو في الأصل موضوع لطلب ارتفاع من مكان سافل إلى مكان عال، ثم استعمل في الاقبال والحضور مطلقاً، وآثرها إشارة إلى أنهم في أسفل الدركات، وهو يطلبهم للرفع والعلو من أخس الأوصاف إلى أكملها وأعلاها، كأنه قال اقبلوا إلى المعالي، لأن من سمع أحكام الله وقبلها بنصح، كان في أعلى المراتب. قوله: ﴿ أَتْلُ ﴾ جواب الأمر مجزوم بحذف الواو، والضمة دل عليها، وقيل جواب لشرط محذوف تقديره إن تأتوا أتل، أي اقرأ ما حرم الله عليكم. قوله: ﴿ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ﴾ ما اسم موصول، وحرم صلته، والعائد محذوف، وربكم فاعل حرم، وقوله: ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ تنازعه كل من أتل وحرم، أعمل الثاني، واضمر في الأول وحذف لأنه فضلة. وحاصل ما ذكر في هاتين الآيتين عشرة أشياء: خمسة بصيغ النهي، وخمسة بصيغ الأمر، وقدم المنهي عنه لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن المنهي عنه مأمور باجتنابه مطلقاً، والمأمور به على حسب الاستطاعة لما في الحديث" ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم "ووسط بينهما الأمر ببر الوالدين اعتناء بشأنه، لكونه أعظم الواجبات بعد التوحيد، وهذه العشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار، بل أجمع عليها جميع أهل الأديان، قال ابن عباس: هذه آيات محكمات، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار. قوله: ﴿ أَنْ ﴾ (مفسرة) أي وضابطها موجود، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، واستشكل بأن هذا يقتضي أن جميع ما يأتي محرم، مع أن بعضه مأمور بفعله على سبيل الوجوب. أجيب بأجوبة منها: أن التحريم في المنهي عنه ظاهر وفي المأمور به باعتبار أضدادها، فالمعنى حرم فعلاً وهي المنهيات، أو تركاً وهي المأمورات، ومنها أن في الكلام حذف الواو مع ما عطفت، والتقدير ما حرم ربكم عليكم وما أمركم به، ثم فرع بعد ذلك على المذكور والمحذوف، والأقرب الأول. قوله: ﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ أي لا في الأقوال، ولا في الأفعال، ولا في الاعتقادات. قوله: ﴿ إِحْسَاناً ﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف قدره المفسر بقوله: (أحسنوا) والمراد بالوالدين الأب والأم وإن علياً. قوله: (بالوأد) تقدم أنه الدفن بالحياة. قوله: ﴿ مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾ يطلق بمعنى الفقر والافلاس والافساد، والمراد هنا الأول. قوله: نحن ﴿ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ هذا في معنى التعليل للنهي المتقدم، والمعنى لا تقتلوا أولادكم من أجل حصول فقر، لأن رزقكم ورزقهم علينا لا غيرنا، وقال هنا: ﴿ مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾، وقال في الإسراء:﴿ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾[الإسراء: ٣١]، لأن ما هنا في الفقر الحاصل بالفعل، وما في الإسراء في الفقر المتوقع، فهو خطاب للأغنياء، وقدم هنا خطاب الآباء، وهناك ضمير الأولاد قيل تفننا، وقيل قدم هنا خطاب الآباء تعجيلاً لبشارة الآباء الفقراء بأنهم في ضمان الله، وقدم هناك ضمير الأولاد، لتطمئن الآباء بضمان رزق الأولاد، فهذه الآية تفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد، وإن كانوا متلبسين بالفقر، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا موسرين، ولكن يخافون وقوع الفقر. قوله: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ ﴾ هذا أعم مما قبله، لأن من جملة الفواحش قتل الأولاد. قوله: (أي علانيتها) أي كالقتل والزنا والسرقة وجميع المعاصي الظاهرية، وقوله: (وسرها) أي كالرياء والعجب والكبر والحسد وجميع المعاصي القلبية. قوله: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ﴾ عطف خاص على عام، ونكتته الاستثناء بعدة. قوله: ﴿ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾ مفعول حرم محذوف أي قتلها. قوله: ﴿ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾ في محل نصب على الحال، أو صفة لمصدر محذوف، والتقدير ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا ملتبسين بالحق، أو قتلاً ملتبساً بالحق، وهو استثناء مفرع، أي لا تقتلوها في حال من الأحوال، إلا في حال ملابستكم بالحق. قوله: (كالقود) أي القصاص، وقوله: (وحد الردة) أي لما في الحديث" من بدل دينه فاقتلوه "وقوله: (ورجم المحصن) أي بشروطه، وهو ما قبله المذكورة في الفروع. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ مبتدأ وخبر، وقوله: (المذكور) إشارة إلى أن اسم الإشارة عائد على ما تقدم من الأمور. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ ختم هذه الآية بذلك، لأنها اشتملت على خمسة أشياء عظام، والوصية فيها أبلغ منها في غيرها، لعموم نفعها في الدين والدنيا، فختمها بالعقل الذي هو مناط التكليف. قوله: (أي بالخصلة التي) ﴿ هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أشار بذلك إلى أنه نعت لمصدر محذوف، والمعنى لا تقربوا مال اليتيم في حالة من الحالات، إلا في الحالة التي هي أحسن لليتيم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ غاية لما يفهم من النهي، كأنه قال: احفظوه إلى بلوغ أشده، فسلموه له حينئذ. قوله: (بأن يحتلم) هذا تفسير لبلوغ الأشد، باعتبار أول زمانهن وسيأتي في الأحقاف تفسيره باعتبار آخره وهو ثلاث وثلاثون سنة، لأن الأشد هو قوة الإنسان وشدته ومبدؤه البلوغ، وينتهي لثلاث وثلاثين سنة. قوله: ﴿ بِٱلْقِسْطِ ﴾ متعلق بمحذوف إما حال من فاعل: ﴿ أَوْفُواْ ﴾، أو من مفعوله أي أوفوهما حال كونكم مقسطين، أو حال كونهما تامين. قوله: (وترك البخس) أي النقص في الكيل أو الوزن. قوله: (فلا مؤاخذة عليه) أي لا إثم، ولكنه يضمن ما أخطأ فيه، لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء. قوله: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ ﴾ المراد بالقول ما يعم الفعل، وقوله: ﴿ فَٱعْدِلُواْ ﴾ (بالصدق) أي لا تتركوه في القول ولا في الفعل، وإنما خص القول تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. قوله: ﴿ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾ إما مضاف لفاعله أي ما عهده إليكم، أو لمفعوله أي ما عاهدتم الله عليه. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ ختمها بذلك لأن هذه الأمور خفية غامضة، لا بد فيها من الاجتهاد والتذكر. قوله: (والسكون) صوابه والتخفيف، إذ لم يقرأ بسكون الذال، فمن شدد قلب التاء ذالاً وأدغمها في الأخرى، ومن خفف حذف إحدى التائين. قوله: (بالفتح) أي مع التشديد أو التخفيف، وقوله: (والكسر) أي مع التشديد لا غير، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية. قوله: (على تقدير اللام) أي على كل من الوجهين، وحينئذ تكون الواو عاطفة من عطف العلة على المعلول، والتقدير كلفتم بهذا الذي وصاكم به من أول الربع إلى هنا، أو من أول السورة إلى هنا، لأن هذا صراطي. قوله: (استئنافاً) أي واقعاً في جواب سؤال مقدر، ومع ذلك فيها معنى التعليل، كأن قائلاً قال: لأي شيء كلفنا بما تقدم؟ فقيل في الجواب: أن هذا صراطي مستقيماً، ثم اعلم أنه على قراءة التشديد، فاسم الإشارة اسم أن وصراطي خبرها، وعلى قراءة التخفيف فاسمها ضمير الشأن، واسم الإشارة مبتدأ، وصراطي خبره، والجملة خبر إن، ومستقيماً حال من صراطي على كل حال.
قوله: ﴿ وَأَنَّ هَـٰذَا ﴾ يصح أن يرجع اسم الاشارة إلى ما تقدم من أول الربع أو من أول السورة. قوله: ﴿ صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ﴾ أي ديني لا اعوجاج فيه، فشبه الدين القويم بالصراط، بمعنى الطريق بجامع أن كلاً يوصل للمقصود، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية. قوله: ﴿ فَٱتَّبِعُوهُ ﴾ أي اسلكوه ولا تحودوا عنه فتقعوا في الهلاك، روى الدارقطني عن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن شماله ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية، وفي رواية أنه خط خطاً وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن شماله، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله ثم تلا هذه الآية. قوله: (الطرق المخالفة) أي الأديان المباينة له، فشبه الأديان الباطلة بالطرق المعوجة بجامع أن كلاً يوصل صاحبه إلى المهالك، واستعير اسم المشبه به للمشبه. قوله: ﴿ فَتَفَرَّقَ ﴾ بالنصب بأن مضمرة في جواب النهي. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ أي ما مر من اتباع دينه وترك غيره من الأديان. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ أي تمتثلون المأمورات، وتجتنبون المنهيات، وأتى بالتقوى هنا، لأن الصراط المستقيم جامع للتكاليف، وقد أمر باتباعه، ونهى عن الطرق المعوجة، فناسب ذكر التقوى. قوله: (وثم لترتيب الأخبار) أي الترتيب في الذكر لا في الزمان، وهو جواب عما يقال إن إيتاء موسى الكتاب، كان قبل نزول القرآن، فكيف يعطف بثم المفيدة للترتيب والتراخي؟ وأجيب أيضاً: بأن ثم لمجرد العطف كالواو، فلا ترتيب فيها ولا تراخي. قوله: ﴿ تَمَاماً ﴾ مفعول لأجله، أي آتيناه الكتاب لأجل تمام النعمة الخ. قوله: (للنعمة) أي الدنيوية والأخروية. قوله: ﴿ عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ ﴾ متعلق بتماماً، ومعنى أحسن قام به الحسن وهو الصفات الجميلة، وقوله: (بالقيام به) سبب لكونه قام به الحسن، والمعنى تماماً على المحسن منهم بسبب قيامه به، أي اتباعه له، وامتثاله مأموراته واجتنابه منهياته، قوله: ﴿ وَتَفْصِيلاً ﴾ عطف على: ﴿ تَمَاماً ﴾.
قوله: (أي بني إسرائيل) أي المدلول عليهم بذكر موسى والكتاب. قوله: ﴿ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ ﴾ متعلق بيؤمنون، قدم عليه للفاصلة.
قوله: ﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ ﴾ مبتدأ وخبر، وجملة ﴿ أَنزَلْنَـٰهُ ﴾ نعت أول لكتاب، و ﴿ مُبَارَكٌ ﴾ نعت ثان له، أي كثير الخير والمنافع ديناً ودنياً، والمعنى: هذا القرآن العظيم، كتاب أنزلناه من اللوح المحفوظ ليلة القدر إلى سماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل مفرقاً على حسب الوقائع، مبارك كثير الخير والمنافع في الدنيا بالشفاء به، والأمن من الخسف والمسخ والضلالة والآخرة، بتلقي السؤال عن صاحبه وشهادته له، وكونه ظلة على رأسه في حر الموقف، والرقي به إلى الدرجات العلا. قوله: (يا أهل مكة) قصر الخطاب عليهم لأنهم هم المعاندون في ذلك الوقت. قوله: (بالعمل بما فيه) بيان لاتباعه. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أي تصيبكم الرحمة في الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ أَن تَقُولُوۤاْ ﴾ مفعول لأجله، والعامل محذوف قدره المفسر بقوله: (أنزلناه)، ولا يصح أن يكون العامل أنزلناه المذكور، لأنه يلزم عليه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو لفظ مبارك، وقدر المفسر لا، لأن الإنزال علة لعدم القول لا للقول، وقال بعضهم: إن الكلام على حذف مضاف أي كراهة أن تقولوا وكل صحيح. قوله: ﴿ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ ﴾ أي جنسه الصادق بالتوراة والإنجيل. قوله: ﴿ وَإِن ﴾ (مخففة) أي من الثقيلة. قوله: (واسمها محذوف) الخ فيه شيء، وذلك لأن إن المكسورة إذا خففت ودخلت على فعل ناسخ مثل كنا أهملت، فلا عمل لها، ووجب اقتران الخبر باللام، وذلك كما في هذه الآية. قوله: (قراءتهم) أي لكتبهم، والمعنى لا نفهم معانيها، لأنها بالعبرانية أو السريانية، ونحن عرب لا نفهم إلا اللغة العربية. قوله: ﴿ لَغَافِلِينَ ﴾ أي لا نعلمها، والمقصود قطع حجتهم وعذرهم بانزال القرآن بلغتهم، والمعنى نزلنا القرآن بلغتهم، لئلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلغتهما فلم نفهم ما فيهما. قوله: ﴿ أَوْ تَقُولُواْ ﴾ عطف على المنفي وهو قطع لعذرهم أيضاً. قوله: ﴿ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ ﴾ أي إلى الحق والطريق المستقيم. قوله: ﴿ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ ﴾ أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾ أي العذاب السيء بمعنى الشديد. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ﴾ الباء سببية، وما مصدرية، أي بسبب إعراضهم وتكذيبهم بآيات الله.
قوله: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي، وهو مزيد تخويف وتحذير لمن بقي على الكفر. إن قلت: إن ظاهر الآية يقتضي أنهم مصدقون بهذه الأشياء حتى أثبت لهم انتظار أحدها، أجيب بأن هذه الأشياء لما كانت محتمة، عوملوا معاملة المنتظر، ولم يعول على اعتقادهم، فالمعنى لا مفر لهم من ذلك. قوله: (ما ينتظر المكذبون) أي من أهل مكة وغيرهم. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، لأن جمع التكسير يجوز تأنيثه وتذكيره، تقول: قام الرجال، وقامت الرجال. قوله: ﴿ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ أي عزرائيل وأعوانه، أو ملائكة العذاب، لما تقدم أن الكافر موكل بأخذ روحه سبع من ملائكة العذاب. قوله: (أي أمره) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، ودفع بذلك توهم حقيقة الإتيان، وهو الانتقال من مكان إلى آخر، إذ هو مستحيل على الله تعالى. قوله: (بمعنى عذابه) أي المعجل لهم، إما السيف أو غيره. قوله: (الدالة على الساعة) أي على قربها، والعلامات الكبرى عشرة وهي: الدجال، والدابة، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر. قوله: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ ﴾ يوم معمول لينفع على الصحيح من أن ما بعد لا يعمل فيما قبلها. قوله: (وهو طلوع الشمس من مغربها)" ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً: أتدرون أين تذهب هذه الشمس إذا غربت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي فارجعي من حيث جئت، فتصبح طالعة من مطلعها، وهكذا كل يوم، فإذا أراد الله أن يطلعها من مغربها حبسها، فتقول يا رب إن مسيري بعيد، فيقول لها اطلعي من حيث غربت، فقال الناس: يا رسول الله، هل لذلك من آية؟ فقال: آية تلك الليلة أن تطول قدر ثلاث ليال، فيستيقظ الذين يخشون ربهم، فيصلون ثم يقضون صلاتهم، والليل مكانه لم ينقض، ثم يأتون مضاجعهم فينامون، حتى إذا استيقظوا والليل مكانه لم ينقض، ثم يأتون مضاجعهم فينامون، حتى إذا استيقظوا والليل مكانه خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم، فإذا أصبحوا أطال عليهم طلوع الشمس، فبينما هم ينتظرونها، إذا طلعت عليهم من قبل المغرب "قوله: (كما في حديث الصحيحين) أي وهو كما في البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها "وروي أن أول الآيات ظهور الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، وهو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وذلك أن الكفار يسلمون في زمن عيسى، فإذا قبض ومن معه من المسلمين، رجع أكثرهم إلى الكفر، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها. قوله: ﴿ لاَ يَنفَعُ نَفْساً ﴾ أي كافرة أو مؤمنة عاصية، ويكون قوله: ﴿ لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ ﴾ راجعاً للأولى، وقوله: ﴿ أَوْ كَسَبَتْ ﴾ راجعاً للثانية، ويكون التقدير لا ينفع نفساً كافرة لم تكن آمنت من قبل إيمانها الآن، ولا ينفع نفساً مؤمنة توبتها من المعاصي، فقوله: ﴿ أَوْ كَسَبَتْ ﴾ معطوف على: ﴿ ءَامَنَتْ ﴾، وحينئذ فيكون في الكلام حذف قد علمته. قوله: (الجملة صفة نفس) أي جملة لم تكن آمنت من قبل، وجاز الفصل بين الصفة والموصوف لأنه بالفاعل وهو ليس بأجنبي. قوله: ﴿ أَوْ ﴾ (نفساً لم تكن) ﴿ كَسَبَتْ ﴾ أشار بذلك إلى أن المعطوف في الحقيقة محذوف محذوف هو معطوف على المنفي. قوله: (كما يحدث) روي عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" باب من قبل المغرب، مسيرة عرضه أربعون أو سبعون سنة، خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه "وورد أن من الاشراط العظام، طلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض، وهذان أيهما سبق الآخر، فالآخر على أثره ". وورد " صبيحة تطلع الشمس من مغربها، يصير في هذه الأمة قردة وخنازير، وتطوى الدواوين، وتجف الأقلام، لا يزاد في حسنة، ولا ينقص من سيئة، ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً ". وورد " لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها، حتى يأتي الوقت الذي جعله الله غاية لتوبة عباده، فتستأذن الشمس من أين تطلع، ويستأذن القمر من أين يطلع، فلا يؤذن لهما، فيحبسان مقدار ثلاث ليال للشمس، وليلتين للقمر، فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن، فينادي بعضهم بعضاً، فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، ثم يرسل الله جبريل إلى الشمس والقمر، فيقول إن الرب تعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه لا ضوء لكما عندنا ولا نور، فتبكي الشمس والقمر من خوف يوم القيامة وخوف الموت، فترجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما، فبينما الناس كذلك يتضرعون إلى الله، والغافلون في غفلاتهم، إذ نادى مناد: إلا إن باب التوبة قد أغلق، والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما فينظر الناس وإذا بهما أسودين كالعكمين، أي الغرارتين العظيمتين، لا ضوء لهما ولا نور، فذلك قوله:﴿ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ﴾[القيامة: ٩] فيرتفعان مثل البعيرين المقرنين، ينازع كل منهما صاحبه استباقاً، ويتصايح أهل الدنيا، وتذهل الأمهات عن أولادها، وتضع كل ذات حمل حملها، فأما الصالحون والأبرار، فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب لهم عبادة، وأما الفاسقون والفجار، فلا ينفعهم بكاؤهم فردهما إلى المغرب، فيغربهما في باب التوبة، ثم يرد المصراعين فليتئم ما بينهما وتصيران كأنهما لم يكن فيهما صدع ولا خلل، فإذا أغلق باب التوبة، لم يقبل لعبد بعد ذلك توبة، ولا تنفعه حسنة يعملها بعد ذلك إلا ما كان قبل ذلك، فإنه يجري لهم ". ورد: " أن الدنيا تمكث بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، يتمتع المؤمنون فيها أربعين سنة، لا يتمنون شيئاً إلا أعطوه، ثم يعود فيهم الموت ويسرع، فلا يبقى مؤمن، ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم، حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق، يقوم واحد عنها وينزل واحد، وأفضلهم من يقول لو تنحيتم عن الطريق لكان أحسن، فيكونون على مثل ذلك، حتى لا يولد لأحد من نكاح، ثم يعقم الله النساء ثلاثين سنة، ويكون كلهم أولاد زنا، شرار الناس عليهم تقوم الساعة. قوله: ﴿ قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ ﴾ أمر تهديد على حد اعملوا ما شئتم.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ ﴾ الأقرب كما قال المفسر، أنها نزلت في اليهود والنصارى لما ورد: قام فينا رسول الله فقال:" ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاثة وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة "، وفي رواية:" من كان على ما أنا عليه وأصحابي "قوله: (فاخذوا بعضه) أي كما حكاه الله عنهم بقوله في سورة النساء:﴿ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾[النساء: ١٥٠].
قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ أي لست مأموراً بقتالهم، وهذا ما مشى عليه المفسر من أنها منسوخة، وقيل إنها محكمة، والمعنى أنت بريء منهم ومن أفعالهم، لقطع نسبهم منك بكفرهم. قوله: (فيجازيهم به) أي بفعلهم. قوله: (وهذا) أي قوله: ﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾.
قوله: ﴿ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ ﴾ أي يوم القيامة. قوله: ﴿ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ هذا إخبار بأقل المضاعفة، وإلا فقد جاء مضاعفة الحسنة بسبعين وسبعمائة وبغير حساب، واعلم أن المضاعفة تابعة للإخلاص، فكل من عظم إخلاصه، كانت مضاعفة حسناته أكثر، ومن هنا قوله عليه السلام:" الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "وفسر الحسنة بلا إله إلا الله، وهو أحد تفسيرين، والآخر أن المراد بها كل ما أمر الله به، فيشمل الذكر والصلاة والصدقة، وغير ذلك من أنواع البر، وهو الأولى، لأنه أراد خصوص ما ينجي من الشرك، فذلك جزاؤه دخول الجنة، وإن أراد الذكر بها فلا مفهوم لها، لأن العبرة بعموم اللفظ، وأفرد في الحسنة والسيئة، لأنه لو جمع لربما توهم أن الجزاء إجمالي، بحيث يعطي في نظير حسناته كلها عشرة أمثالها، بل الجزاء لكل فرد من أفراد الحسنات والسيئات، لأن الحسنات تتفاوت، فربما جوزي على بعضها عشراً وعلى بعضها أكثر. قوله: ﴿ أَمْثَالِهَا ﴾ جمع مثل إن قلت: إنه مذكر، فكان مقتضاه تأنيث العدد، قال ابن مالك: ثلاثة بالتاء قل للعشرة   في عد ما آحاده مذكرهفي الضدد جرد الخ   وأجيب بأنه جرد التاء مراعاة لإضافة مثل لضمير الحسنة، فكأنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه، أو يقال إن أمثال صفة لموصوف محذوف تقديره عشر حسنات أمثالها، فجرد العدد من التاء مراعاة الموصوف المحذوف، وإلى هذا الثاني أشار المفسر بقوله: (أي جزاء عشر حسنات). قوله: ﴿ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ ﴾ أي الشرك على ما قاله المفسر، حيث فسر الحسنة بلا إله إلا الله، أو ما هو أعم وهو الأولى. قوله: ﴿ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾ أي إن مات غير تائب وجوزي، وإلا فأمره مفوض لربه، فإن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وأما إن مات تائباً فلا سيئة له، لأنه من المحبوبين لله والمحبوب لا سيئة له، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ ﴾[البقرة: ٢٢٢]، وقال عليه الصلاة والسلام:" التائب من الذنب كمن لا ذنب له "قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي العاملون للحسنات والسيئات. قوله: (ينقصون من جزائهم) هذا بالنظر لجزاء الحسنات، أي ولا يزاد في سيئات أهل العقاب، فالظلم نقص الحسن والزيادة في المسيء، وتسميته ظلماً تنزل منه سبحانه وتعالى، وإلا فالظلم التصرف في ملك الغير، ولا ملك لأحد منه تبارك وتعالى، وأما الزيادة في الحسنات فليس بظلم، بل هو تفضل منه وإحسان، واعلم: أن الحسنة تتفاوت، والسيئة كذلك، فليس من تصدق بدرهم كمن تصدق بدينار وهكذا، وليس من فعل صغيرة كمن فعل كبيرة وهكذا، فعشرة أمثال الحسنة من شكلها، ومثل السيئة من شكلها، واعلم أيضاً: أن هذا الجزاء لمن فعل الحسنة والسيئة، وأما من هم بحسنة ولم يعملها، كتبت له حسنة واحدة، ومن هم بسيئة ولم يعملها، فإن تركها خوف الله كتبت حسنة، وإن تركها لا لذلك، لم تكتب شيئاً، لما في الحديث:" قال الله تعالى: إذا تحدث عبدي بحسنة ولم يعملها، فأنا أكتبها له بعشر حسنات، وإذا تحدث عبدي بسيئة ولم يعملها، فأنا أغفرها له حتى يعملها، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها ".
قوله: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ﴾ إن حرف توكيد ونصب، والياء اسمها، وجملة هداني ربي خبرها، وهدى فعل ماض، والياء مفعول أول، و ﴿ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ مفعول ثان، و ﴿ رَبِّيۤ ﴾ فاعل، والمعنى: قل يا محمد لكفار مكة، أنني أرشدني ربي ووصلني إلى دين مستقيم لا اعوجاج فيه. قوله: (ويبدل من محله) أي محل: إلى صراط مستقيم، وهو النصب، لأنه المفعول الثاني. قوله: ﴿ قِيَماً ﴾ نعت لديناً، أي لا اعوجاج فيه. قوله: ﴿ مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ بدل ﴿ دِيناً ﴾ أي دينه وشريعته وما أوحي به إليه. قوله: ﴿ حَنِيفاً ﴾ حال من إبراهيم، أي مائلاً عن الضلال إلى الاستقامة. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ عطف حال على أخرى، وفيه تعريض بخروج جميع من خالف دين الإسلام عن إبراهيم. قوله: (عبادتي) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَنُسُكِي ﴾ عطف عام على خاص. قوله: ﴿ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ﴾ قرأ نافع بسكون ياي محياي، وفتح ياء مماتي، والباقون بالعكس. قوله: ﴿ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر إن، ولكن يقدر بالنسبة للعبادة خالصة، وبالنسبة للحياة والموت مخلوقة. قوله: (في ذلك) أي الصلاة والنسك والمحيا والممات. قوله: ﴿ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ أي المنقادين لله، واستشكل بأنه تقدمه الأنبياء وأممهم، وأجاب المفسر بأن الأولية بالنسبة لأمته. وأجيب أيضاً بأن الأولية بالنسبة لعالم الذر فهي حقيقة.
وقوله: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ ﴾ نزلت لما قال الكفار: يا محمد ارجع إلى ديننا، وغير منصوب بأبغي، و ﴿ رَبّاً ﴾ تمييز، وقوله: (إلهاً) تفسير لرباً. قوله: (أي لا أطلب) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ الجملة جالية، والمعنى لا يليق أن أتخذ إلها غير الله، والحال أنه مالك كل شيء. قوله: ﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾ رد لقولهم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، أي يكتب علينا ما عملتم من الخطايا. قوله: ﴿ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾ أي إلا في حال كونه مكتوباً عليها لا على غيرها. قوله: ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ ﴾ أي ولا غير وازرة، وإنما قيد بالوزارة موافقة لسبب النزول، وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين: اتبعوا سبيلي أحمل عليكم أوزاركم، وهو وازر. قوله: ﴿ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾ إن قلت: كيف هذا مع قوله تعالى:﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾[العنكبوت: ١٣]، وقوله عليه الصلاة والسلام:" من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "؟ أجيب بأن ما هنا محمول على من لم يتسبب فيه بوجه، وفي الآية الأخرى والحديث محمول على من تسبب فيه، فعليه وزر المباشرة، ووزر التسبب، ووزر الفاعل لا يفارقه. قوله: ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ ﴾ أي يخبركم ويعلمكم. قوله: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ أي من الأديان والملل. قوله: (أي يخلف بعضكم بعضاً فيها) أشار بذلك إلى أن إضافة خلائف للأرض على معنى في. قوله: ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ﴾ أي خالف بين أحوالكم، حيث جعل منكم الحسن والقبيح، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والقوي والضعيف.
﴿ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ ﴾ وليس عجزاً عن مساواتكم، فإنه منزه عنه سبحانه. قوله: (ليختبركم) أي يعاملكم معاملة المختبر، وإلا فلا يخفى عليه شيء. قوله: (أي أعطاكم إياه) أي من الغنى والفقر، ليتبين الصابر والشاكر من غيرهما. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ ﴾ إن قلت: إن الله حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، فكيف وصف بكونه سريع العقاب؟ أجيب: بأن كل آت قريب، أو المعنى سريع العقاب إذا جاء وقته، وأكد الجملة الثانية هنا باللام، وفي الأعراف الجملتين، لأن الوعيد المتقدم هنا، أخف من الوعيد المتقدم هناك، فالوعيد هنا هو قوله:﴿ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾[الأنعام: ١٦٠]، وأما في الأعراف فهو قوله:﴿ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾[الأعراف: ١٦٥]، وقوله:﴿ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾[الأعراف: ١٦٦]، فالمقام هنا لغلبة الرحمة، فلذلك أكدت دون العقاب، وأما هناك فالمقام لهما، فلذلك أكدا معاً. قوله: ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ جعل خبر إن في هذه الآية من الصفات الذاتية الواردة على بناء المبالغة، وأكده باللام، وجعل خبر إن السابقة، صفة جارية على غير من هي له، للتنبيه على أنه تعالى غفور رحيم بالذات مبالغ فيهما، ومعاقب بالعرض، مسامح في العقوبة، ومعنى بالذات مغفرته ورحمته لا تتوقف على تأهل من العبد، ومعنى بالعرض أن عقابه لا يكون إلا بعد صدور ذنب فتأمل.
Icon