تفسير سورة الأعراف

فتح البيان
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة الأعراف
هي مكية إلا ثمان آيات. وهي قوله :﴿ واسألهم عن القرية الى قوله وإذ نتقنا الجبل فوقهم ﴾ قاله ابن عباس وابن الزبير. وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وقال قتادة : آية من الأعراف مدنية وهي ﴿ وسألهم عن القرية ﴾ وسائرها مكية. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المغرب يفرقها في الركعتين وآياتها مائتان وست آيات.

(المص) قال ابن عباس: معناه أنا الله أفصل، وعنه أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به، وهي اسم من أسماء الله تعالى، وقال السدي هو المصور، وقال محمد بن كعب القرظي هو الله الرحمن الصمد، وقال الضحاك أنا الله الصادق، وقيل غير ذلك. ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن، وتفسير بالحدس، ولا حجة في شيء من ذلك؛ والحق ما قدمناه في فاتحة سورة البقرة والله أعلم بمراده وهو سره في كتابه العزيز.
(كتاب أنزل إليك) أي: هو كتاب وقال الكسائي أي هذا كتاب يعني القرآن أي القدر الذي كان قد نزل منه وقت نزول هذه الآية (فلا يكن في صدرك حرج منه) الحرج الضيق أي ضيق من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك فإن الله حافظك وناصرك، وقيل المراد لا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك فإنما عليك البلاغ.
وقال مجاهد وقتادة الحرج هنا الشك لأن الشاك ضيق الصدر أي لا تشك في أنه منزل من عند الله. وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه وآله وسلم من باب التعريض، والمراد أمته أي لا يشك أحد منهم في ذلك، والضمير في (منه) راجع إلى الكتاب فعلى الأول التقدير من إبلاغه، وعلى الثاني التقدير من إنزاله.
(لتنذر به) أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك، وهو متعلق بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك للناس به أو متعلق بالنهي، لأن انتفاء الشك في
299
كونه منزلاً من عند الله أو انتفاء الخوف من قومه يقويه على الإنذار ويشجعه لأن المتيقن يقدم على بصيرة ويباشر بقوة نفس، وصاحب اليقين جسور متوكل على ربه.
(وذكرى للمؤمنين) قال البصريون وذكر به ذكرى، أو المعنى للإنذار وللذكرى، وقال أبو إسحاق الزجاج وهو ذكرى، وتخصيصه بالمؤمنين لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين.
300
(اتبعوا) كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين (ما أنزل إليكم من ربكم) يعني الكتاب ومثله السنة لقوله (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) ونحوها من الآيات، قاله الزجاج وقيل هو أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته، وقيل هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي - ﷺ -.
قال الرازي قوله (ما أنزل إليكم) يتناول الكتاب والسنة، وإنما قال أنزل إليكم مع أنه أنزل على الرسول لأنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل.
ولفظ البيضاوي يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) انتهى وقال الحسن يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيم أنزلت وما معناها.
وقيل هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك ويدل عليه قوله (ولا تتبعوا من دونه أولياء) والأول أولى وهو نهي للأمة أن يتبعوا أولياء من دون لله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله من الشياطين والكهان.
وقال الزمخشري لا تتولوا أحداً من شياطين الإنس والجن ليحملوكم على
300
الأهواء والبدع، فالضمير في (دونه) يرجع إلى رب " ويجوز أن يرجع إلى (ما) في ما أنزل إليكم أي لا تتبعوا من دون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أولياء تقلدونهم في دينكم كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم.
وقرأ مالك بن دينار (ولا تبتغوا) من الابتغاء، قال الرازي هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله، والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن، ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس. وإلا لزم التناقض انتهى، والبحث في ذلك يطول وله موضع غير هذا.
(قليلاً ما) مزيد للتوكيد أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً (تذكرون).
ثم شرح الله في إنذارهم بما حصل للأمم الماضية بسبب إعراضهم عن الحق فقال
301
(وكم من قرية) كم هي الخبرية المفيدة للتكثير، ولم ترد في القرآن إلا هكذا ويجب لها الصدر لكونها على صورة الاستفهامية، والقرية موضع اجتماع الناس أي كم من قرية من القرى الكثيرة (أهلكناها) نفسها بإهلاك أهلها أو أهلكنا أهلها والمراد أردنا إهلاكها.
وقوله (فجاءها بأسنا) معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مر، لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس، وقال الفراء: إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير، والمعنى أهلكناها وجاءها بأسنا، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها.
وقيل: إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية فيكون المعنى وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع، وقيل المعنى وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا، وقيل أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها
301
فجاءها بأسنا، والبأس العذاب، وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها مثل دنا فقرب وقرب فدنا.
(بياتاً) أي ليلاً لأن البيات فيه أو مصدر واقع موقع الحال، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً أي بائتين.
(أو هم قائلون) أي قائلين، و (أو) في هذا الموضع للتفصيل لا للشك كأنه قيل أتاهم بأسنا تارة ليلاً كقوم لوط، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب، وهل يحتاج إلى تقدير واو حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النحويين فقدره بعضهم. ورجحه الزجاج وبه قال أبو بكر والقيلولة هي نوم نصف النهار.
وقيل هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدة الحر من دون نوم، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة فمجيء العذاب فيهما أشد وأفظع وأزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة. والمعنى جاءها عذابنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة أي جاءهم البأس على غير تقدم أمارة لهم على وقت نزوله، وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة.
302
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩)
303
(فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) الدعوى الدعاء أي فما كان دعاءهم واستغاثتهم بربهم عند نزول العذاب إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم، ومثله (آخر دعواهم) قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين ومنه قوله (دعواهم فيها سبحانك اللهم) وحكاه الخليل أيضاً وقيل الدعوى هنا بمعنى الإدعاء، والمعنى ما كانوا يدعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده.
(فلنسألن الذين أرسل إليهم) هذا وعيد شديد وبيان لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي، غير أنه قد تعرض لبيان مبادي أحوال المكلفين جميعاً لكونه داخلاً في التهويل والسؤال للقوم الذين أرسل إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ، واللام للقسم أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم. والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية.
(ولنسألن المرسلين) أي الأنبياء الذين بعثهم الله أي يسألهم عما أجاب به أممهم عليهم، ومن أطاع منهم ومن عصى، وقيل المعنى فلنسألن الذين أرسل إليهم يعني الأنبياء ولنسألن المرسلين يعني الملائكة، قال ابن عباس: يسأل الله الناس عما أجابوا به المرسلين ويسأل المرسلين عما بلغوا عنه، ونحوه عن السدي.
ولا يعارض هذا قول الله سبحانه (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) لما قدمنا غير مرة أن في الآخرة مواطن ففي موطن يسألون وفي موطن لا يسألون
303
وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى بالنسبة إلى يوم القيامة فإنه محمول على تعدد المواقف مع طول ذلك اليوم طولاً عظيماً.
304
(فلنقصن عليهم) أي على الرسل والمرسل إليهم لما سكتوا ما وقع بينهم عند الدعوة لهم منهم (بعلم) لا بجهل أي عالمين بما يسرون وما يعلنون (وما كنا غائبين) عن إبلاع الرسل والأمم الخالية في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم ومما عملوا، قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
(والوزن يومئذ الحق) أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه، أو المعنى الوزن العدل كائن أو استقر في هذا اليوم، واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن فقيل المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزناً حقيقياً وهذا هو الصحيح، وهو الذي قامت عليه الأدلة. وقيل توزن نفس الأعمال وإن كانت إعراضاً فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساماً كما جاء في الخبر الصحيح " أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف " وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك.
وقيل إن الوزن هو نفس الأشخاص العاملين وقيل الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء وذكرهما من باب ضرب المثل كما تقول هذا الكلام في وزن هذا قاله مجاهد، وقال الزجاج: هذا شائع من جهة اللسان والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان.
قال القشيري: وقد أحسن الزجاج فيما قال إذ يحمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، ثم قال: وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصاً انتهى.
304
والحق هو القول الأول، وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم، وليتهم جاؤوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ويتحد قبولهم لها بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ويوافق ما يذهب إليه ومن هو تابع له فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم.
يعرف هذا كل منصف، ومن أنكره فليصف فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.
وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً) وقوله (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) وقوله (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) وقوله (وأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً مذكورة في كتب السنة المطهرة، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه مع قول الله تعالى ورسوله الصادق المصدوق، والصباح يغني عن المصباح.
(فمن ثقلت موازينه) بالحسنات فضلاً من الله، الفاء للتفصيل والموازين جمع ميزان وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال وقيل: إن الموازين جمع موزون أي فمن رجحت أعماله الموزونة والأول أولى، وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله.
305
وقيل هو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال: خرج فلان إلى مكة على البغال وقيل إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله.
(فأولئك) إشارة إلى (من) والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير موازينه باعتبار لفظه (هم المفلحون) أي الناجون غداً والفائزون بثواب الله وجزائه ومثله الكلام في قوله
306
(ومن خفت) بالسيئات عدلاً (موازينه) والمراد موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أي غبنوا حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته، والباء في (بما كانوا) سببية (بآياتنا يظلمون) أي يكذبون ويجحدونها.
وهذا الوزن للمسلمين عند الأكثر، وأما الكفار فتحبط أعمالهم على أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) وقيل إنها توزن أيضاً وإن لم تكن راجحة ليخفف بها لهم العذاب عنهم، وهو ظاهر النظم، وبقي من تساوت حسناته وسيآته مسكوتاً عنه وهم أهل الاعراف على قول، وقد يدرج في القسم الأول لقوله (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم) وعسى من الله تحقيق كما صرحوا به.
وللحافظ تأليف مستقل في الميزان قال فيه: إنهم اختلفوا في تعدد الميزان وعدمه والصحيح الثاني والوزن بعد الحساب وأعمال الكفرة يخفف بها عذابهم كما ورد في حق أبي طالب، وهو الصحيح كما قاله القرطبي، وقال السخاوي المعتمد أنه مخصوص بأبي طالب والمعتمد ما قاله القرطبي فلا وجه للتردد فيه.
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ " يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر، فيقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول لا يا رب فيقول أفَلَكَ عذر أو حسنة فيهاب الرجل
306
فيقول لا يا رب، فيقول بلى إن لك عندنا حسنة وأنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " (١). وقد صححه أيضاً الترمذي وإسناده عند أحمد (حسن). ولنعم ما قيل:
مهما تفكرت في ذنوبي... خفت على قلبي احتراقه
لكنه ينطفي لهيبي... بذكر ما جاء في البطاقة
والسجل الكتاب، وقيل: إنه معرب وأصل معناه الكاتب وسجل عليه بكذا شهره ورسمه، قاله الزمخشري في شرح مقاماته.
وفي مسلم: نظرت إلى مد بصري مكان مد البصر قال النووي كذا هو في جميع النسخ وهو صحيح ومعناه منتهى بصري، وأنكره بعض أهل اللغة وقال الصواب مدى بصري وليس بمنكر بل هما لغتان والمدى أشهر انتهى.
وقوله بطاقة بكسر الباء رقعة صغيرة وتطلق على حمام تعلق في جناحه، وليس مولدة كما قيل فإنها وردت في هذا الحديث وغيره، وفي فقه اللغة إنها معربة من الرومية، وفي المحكم الرقعة الصغيرة تكون في الثوب وفيها رقم ثمنه، حكاه شمر، وقال لأنها بطاقة من الثوب قيل وهو خطأ لأنه يقتضي أن الباء حرف جر، والصحيح ما تقدم كما حكاه الهروي.
ويؤيده ما أخرجه البخاري مرفوعاً " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان هما كلمتا الشهادة " قال الخفاجي ولك أن تقول المراد بها كلمة التوحيد فتأمل.
والكفة بفتح فتشديد كل مستدير، وبه سميت كفة الميزان المعروفة. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " (٢).
_________
(١) المستدرك كتاب الدعاء ١/ ٥٢٩.
(٢) مسلم ٢٧٨٥ - البخاري ٢٠٢٣.
307
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
308
(ولقد مكناكم في الأرض) أي جعلنا لكم فيها مكاناً وأقدرناكم على التصرف فيها، وقيل المراد من التمكين التمليك (وجعلنا لكم فيها معايش) أي هيأنا لكم فيها أسباب المعاش. والمعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة، وفي القاموس العيش الحياة وأيضاً الطعام وما يعاش به والخبز، والمتعيش من له بلغة من العيش.
وقال الزجاج: المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش وهو يعم جميع وجوه المنافع التي تحصل به الأرزاق من الزرع والثمار، وما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع، وكل ذلك بتمكينه سبحانه لعباده وإنعامه عليهم (قليلاً ما تشكرون) الكلام فيه كالكلام فيما تقدم قريباً، وحقيقة الشكر تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم) هذا ذكر نعمة أخرى عظيمة من نعم الله تعالى على عبيده والمعنى خلقناكم نطفاً ثم صورناكم بعد ذلك بالتخطيط وشق الحواس، وقيل العنى: خلقنا آدم من تراب ثم صورناكم في ظهره، وذكره بلفظ الجمع لأنه أبو البشر، وقيل (ثم صورناكم) راجع إليه ويدل عليه قوله تعالى (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم) فإن ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصور آدم عليه السلام.
وقال ابن عباس: خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء، وعنه قال خلقوا في ظهر آدم وصوروا في الأرحام، وعنه أيضاً أما خلقناكم فآدم وأما صورناكم فذريته، وقال الأخفش ثم بمعنى الواو، وقيل المعنى:
308
خلقناكم من ظهر آدم ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق، قال النحاس وهذا أحسن الأقوال.
قال أبو السعود: وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين مع أن المراد خلق آدم وتصويره إعطاء لمقام الامتنان حقه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه وتصويره لأنهما من الأمور السارية إلى ذريته جميعاً.
وقال القاري: نزل خلقه منزلة خلق الكل وتصويرهم لأنه أبو البشر، وقيل المعنى ولقد خلقنا الأرواح أولاً ثم صورنا الأشباح.
(ثم) أي بعد إكمال خلقه، وفي السمين اختلف الناس في (ثم) في هذين الموضعين فمنهم من لم يلتزم فيها ترتيباً وجعلها بمنزلة الواو. ومنهم من قال هي للترتيب في الأخبار لا في الزمان، ولا طائل تحت هذا، ومنهم من قال هي للترتيب الزماني، وهذا هو موضوعها الأصلي ومنهم من قال الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإخباري انتهى.
(قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) أي أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر (فسجدوا) أي فعلوا السجود بعد الأمر قبل دخول الجنة وكان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر، وأول من سجد جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون.
(إلا إبليس) قيل الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس لأنه كان منفرداً بينهم، أو كما قيل إن من الملائكة جنساً يقال لهم الجن وقيل غير ذلك، وقد تقدم تحقيقه في البقرة (لم يكن من الساجدين) جملة مبينة لما فهم من معنى الاستثناء ومن جعل الاستثناء منقطعاً قال معناه لكن إبليس لم يكن من الساجدين لآدم عليه السلام.
309
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
310
(قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) جملة مستأنفة كأنه قيل فماذا قال له الله، ولا زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص (ما منعك أن تسجد) قاله الكسائي والفراء والزجاج، وقيل: إن منع بمعنى قال والتقدير من قال لك أن لا تسجد قاله أحمد بن يحيى، حكاه الواحدي وحكاه أبو بكر عن الفراء وقيل منع بمعنى دعا أي ما دعاك إلا أن لا تسجد قاله القاضي حكاه الرازي.
وقيل في الكلام حذف والتقدير ما منعك من الطاعة وأحوجك إلا أن لا تسجد في وقت أن أمرتك قاله الطبري.
وقد استدل به على أن الأمر للفور. والبحث مقرر في علم الأصول؛ والاستفهام ما منعك للتقريع والتوبيخ وإلا فهو سبحانه عالم بذلك، وقال هنا ما منعك وفي سورة الحجر (قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين) وقال في سورة ص (أن تسجد لما خلقت بيدي) واختلاف العبارات عند الحكاية يدل على أن اللعين قد أدرج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر ومفارقة الجماعة والاستكبار مع تحقير آدم، وقد وبخ على كل واحدة منها لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر، وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سورة البقرة والإسراء والكهف وطه.
(قال) إبليس (أنا خير منه) إنما قال هذا ولم يقل منعني كذا لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله.
ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله (خلقتني من نار وخلقته من طين)
310
اعتقاداً منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين لأنها جسم نوراني.
وقد أخطأ عدو الله فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه، وفيه الأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت، والنار خفيفة مضطربة سريعة النفاذ وفيها الطيش والارتفاع والحدة. ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها وهي عذاب دونه، وهو محتاج إليه ليتحيز فيه وهو مسجد وطهور، والتراب عدة الممالك، والنار عدة المهالك، والنار مظنة الخيانة والإفناء والطين مئنة الأمانة والإنماء، والطين يطفئ النار ويتلفها والنار لا تتلفه، وهذه فضائل غفل عنها اللعين حتى زل بفاسد من القياس.
وقال النسفي: والقياس مردود عند وجود النص. وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص خارج عن الصواب انتهى.
ولولا سبق شقاوته وصدق كلمة الله عليه لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري.
عن عكرمة قال: خلق إبليس من نار العزة، وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة قالت: " قال رسول الله - ﷺ - خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من نار وخلق آدم مما وصفه لكم، " (١) وقال ابن سيرين: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس أنه رأى النار أفضل من الطين وأقوى ولم يدر أن الفضل ليس بالأصل والجوهر بل بالطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي وقد خص الله آدم بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأورثه الإجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك للعناية التي سبقت له في القدم، وأورث إبليس كبره اللعنة والطرد للشقاوة التي سبقت له في الأزل.
وقال الحسن في الآية أول من قاس إبليس، وإسناده صحيح إلى
_________
(١) مسلم، ٢٩٩٦.
311
الحسن أخرجه ابن جرير، وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله له أسجد لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " (١)، قال جعفر فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس، وينبغي أن ينظر في إسناد هذا الحديث فما أظنه يصح رفعه وهو لا يشبه كلام النبوة.
_________
(١) الدارمي، كتاب القدمة، الباب ٢٢.
312
(قال فاهبط منها) جملة استئنافية كالتي قبلها والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر أي اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ويعصي أمر ربه مثلك، وقيل اهبط من الجنة والهبوط النزول والإنحدار من فوق إلى أسفل على سبيل القهر والهوان والاستخفاف ومن التفاسير الباطلة ما قيل: أن معنى أهبط منها أي أخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها إلى صورة مظلمة مشوهة، وقيل المراد هبوطه من زمرة الملائكة.
(فما يكون لك أن تتكبر فيها) أي في الجنة لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل، ولا يتوهم أنه يجوز أن يتكبر في غيرها لأن التقدير ما يكون لك أن تتكبر فيها ولا في غيرها وعلى هذا لا مفهوم لها.
وجملة (فاخرج) لتأكيد الأمر بالهبوط متفرع على علته، وجملة (إنك من الصاغرين) تعليل للأمر بالخروج أي: إنك من أهل الصغار والهوان على الله وعلى صالحي عباده يذمك كل إنسان، ويلعنك كل لسان لتكبرك، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار فكل من تردى برداء الاستكبار عوقب بلبس رداء الهوان والصغار، ومن لبس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع، وقال الزجاج: استكبر عدو الله إبليس فابتلاه الله بالصغار والذلة والصغار بالفتح الذل والضيم وكذا الصغر والصاغر الذليل والراضي بالضيم.
312
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
313
(قال أنظرني إلى يوم يبعثون) جملة استئنافية أي أمهلني إلى يوم البعث وكأنه طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده والضمير في يبعثون لآدم وذريته أي يبعثون من قبورهم بالنفخة الثانية عند قيام الساعة
(قال) أي أجابه الله بقوله (إنك من المنظرين) أي المهملين المؤخرين ثم تعاقب بما قضاه الله عليك وأنزله بك في دركات النار.
وقد بين الله مدة النظر والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم، قيل الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ليعرف من يطيعه ممن يعصيه.
(قال فبما أغويتني) الجملة مستأنفة والباء للسببية، وبه قال الزمخشري، وقيل قسمية وهو الظاهر كقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) أي فبإغوائك إياي، والإغواء الإيقاع في الغي، وقيل الباء بمعنى مع والمعنى فمع إغوائك إياي وقيل (ما) في فبما أغويتني للاستفهام والمعنى فبأي شيء أغويتني والأول أولى.
ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سبباً لما سيفعله مع العباد وهو ترك السجود منه وأن ذلك كان بإغواء الله له حتى اختار الضلالة على الهدى، وقيل أراد به اللعنة التي لعنه الله بها أي فيما لعنتني فأهلكتني ومنه (فسوف يلقون غياً) أي هلاكاً.
313
وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوى غياً إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه ومنه عمى آدم ربه فغوى أي فسد عيشه في الجنة، وغرض اللعين بهذا أخذ ثأره منهم لأنه لما طرد ومقت بسببهم على ما تقدم أحب أن ينتقم منهم أخذاً بالثأر.
(لأقعدن لهم) أي لأجهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي للسجود لأبيهم (صراطك المستقيم) هو الطريق الموصل إلى الجنة، وقال ابن عباس: طريق مكة يعني أمنعهم من الهجرة، وعن ابن مسعود مثله، وقيل هو طريق الإسلام، وقيل المراد الحج والأول أولى لأنه يعم الجميع والمعنى لأردن بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنهم.
314
(ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ذكر الجهات الأربع لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوه ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت، وعدى الفعل إلى الجهتين الأوليين بمن وإلى الآخريين بعن لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجهاً إلى ما يأتيه بكلية بدنه والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفاً فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء وفي الأخريين بحرف المجاوزة.
وهو تمثيل الوسوسة وتسويله بمن يأتي حقيقة، وفيه إشارة إلى نوع تباعد منه في هاتين الجهتين لقعود ملك اليمين وملك اليسار فيهما، وهو ينفر من الملائكة، وقيل المراد من بين أيديهم من دنياهم، ومن خلفهم من آخرتهم، وعن أيمانهم من جهة حسناتهم، وعن شمائلهم من جهة سيآتهم، استحسنه النحاس.
قال ابن عباس: أسن لهم المعاصي وأخفي عليهم للباطل، وعنه قال: من بين أيديهم من قبل الآخرة فأشككهم فيها، ومن خلفهم من قبل الدنيا فأرغبهم فيها وعن أيمانهم أشبه عليهم أمر دينهم وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي.
314
وقال الحكم بن عتبة من بين أيديهم أي من قبل الدنيا فأزينها لهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها، وعن أيمانهم من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم.
وقال قتادة: أتاك إبليس يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى، ونحوه عن ابن عباس ولفظه ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى، قيل ولا يأتي أيضاً من تحتهم إما لأنه متكبر يحب العلو وإما لأن الإتيان منها ينفر ويفزع المأتي وهو يحب تأليفه لا تنفيره فلا يأتي إلا من الجهات الأربع.
قال مجاهد: يأتيهم من الجهات الأربع من حيث لا يبصرون وقيل من بين أيديهم فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون فيه طاعة، ومن خلفهم فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون " عما أسلفوا فيه من معصية، وعن أيمانهم من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشكرون وعن شمائلهم من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه.
وعن شقيق البلخي ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً) ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي أي وقوع أولادي في الفقر فأقرأ (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ (والعاقبة للمتقين) وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) قال النسفي: ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة.
وقيل إن ذكر هذه الجهات الأربع إنما أريد به التأكيد والمبالغة في إلقاء
315
الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك، والمعنى يأتيهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات.
(و) عند أن أفعل ذلك (لا تجد) يا رب (أكثرهم شاكرين) موحدين لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم، وهذا قاله على الظن فأصاب لقوله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) لما رأى منهم أن مبدأ الشر متعدد ومبدأ الخير واحد، وقيل: إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله، وقيل رآه مكتوباً في اللوح المحفوظ والأول أولى وقيل شاكرين مؤمنين وقيل عبر بالشكر عن الطاعة أو هو على الحقيقة، وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء.
316
(قال اخرج منها) أي من السماء أو من الجنة أو من بين الملائكة كما تقدم وقال له ذلك حين طرده عن بابه وأبعده عن جنابه (مذءوماً) من ذأمه يذأمه إذا ذمه وعابه ومقته وقيل المذءوم المنفى والذام العيب بهمز ولا يهمز، وحكى ابن الأنباري فيه ذيماً، وقال الليث الذام الاحتقار، وقيل الذم قاله ابن قتيبة (مدحوراً) أي مطروداً والدحر الطرد والإبعاد يقال دحره يدحره دحراً ودحورا ومنه [ويقذفون من كل جانب دحوراً] وقال ابن عباس: صغيراً ممقوتاً، وقال قتادة: لعيناً مقيتاً، وقال الكلبي: ملوماً مقصياً من الجنة ومن كل خير والمعاني متقاربة.
(لمن) بفتح اللام على أنها لام القسم وتسمى هذه اللام موطئة لأنها وطأت الجواب للقسم المحذوف أي مهدته له، وتسمى أيضاً المؤذنة لأنها تؤذن بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط (تبعك منهم) أي من بني آدم وجواب القسم (لأملأن جهنم) وقيل اللام الأولى للتأكيد والابتداء وهذه لام القسم والأول أولى، وفي هذا الجواب من التهديد ما لا يقادر قدره (منكم أجمعين) أي منك ومنهم، وفيه تغليب الحاضر وهو إبليس على الغائب وهو الناس.
316
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
317
(و) قلنا (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) قال له هذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة أو من السماء أو من بين الملائكة والمعنى اتخذها مسكناً وتخصيص الخطاب بآدم للإيذان بأصالته في تلقي الوحي وتعاطي المأمور به. واختلفوا في خلق حواء فقال ابن إسحق خلقت قبل دخول آدم الجنة وهو ظاهر هذه الآية وقيل بعد دخول الجنة وقيل الخطاب للمعدوم لوجوده في علم الله.
(فكلا من حيث) أي من أي نوع من أنواع الجنة (شئتما) أكله ومثله ما تقدم من قوله تعالى (وكلا منها رغداً حيث شئتما) وقال أبو السعود حيث ظرف مكان أي فكلا من ثمارها في أي مكان شئتما الأكل فيه، وقال هناك بالواو وهنا بالفاء. قال الرازي: إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب، فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافاة بينهما ففي البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع.
(ولا تقربا هذه الشجرة) تقدم الكلام على هذا في البقرة مستوفى (فتكونا) أي فتصيرا (من الظالمين) لأنفسكما أي العاصين لله تعالى.
(فوسوس لهما الشيطان) الوسوسة الصوت الخفى وحديث النفس يقال وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواساً بكسر الواو، والوسوسة بالفتح الاسم مثل الزلزلة والزلزال، ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلى وسواس والوسواس اسم الشيطان. ومعنى وسوس له وسوس إليه أو فعل الوسوسة لأجله، قال
317
الحسن: كان يوسوس في الأرض إلى السماء ثم الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت في الأرض، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحت ذكره، والذي يقوله بعض الناس: إن إبليس دخل في جوف الحية وهي دخلت به إلى الجنة فهو قصة ركيكة.
(ليبدي) أي ليظهر (لهما) اللام للعاقبة كما في قوله (ليكون لهم عدواً وحزناً) وقيل هي لام كي أي فعل ذلك ليتعقبه الإبداء أو لكي يقع الإبداء، ويصح أن تكون للعلة والغرض لجواز أن يكون ظهور سؤآتهما زيادة على وقوعهما في المعصية.
(ما ووري) أي ستر وغطى، فوعل من المواراة (عنهما من سؤآتهما) سمي الفرج منهما سوأة لأن ظهوره وانكشافه يسوء صاحبه ويحزنه أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما كان مستوراً عنهما من عوراتهما فإنهما كانا لا يريان عوراتهما ولا يراها أحدهما من الأخر، قيل إنما بدت لهما لا لغيرهما وكان عليهما نور يمنع من رؤيتهما فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما، وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات وأنه لم يزل مستقبحاً في الطباع والعقول.
(وقال) الشيطان لآدم وحواء (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة) أي عن الأكل منها (إلا) كراهة (أن تكونا) هكذا قاله البصريون وقال الكوفيون: التقدير لئلا تكونا والاستثناء مفرغ وهو مفعول من أجله (ملكين) من الملائكة تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء (أو تكونا من الخالدين) في الجنة أو من الذين لا يموتون قال ابن عباس: فإن أخطأ كما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا من الخالدين فلا تموتان فيها أبداً.
318
قال النحاس: فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا ومنها ولا أقول إني ملك ومنها ولا الملائكة المقربون.
وقال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يراد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في الطعام. وقيل لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل فذلك بمعزل عن الدلالة على أفضلية الملائكة عليه، فليس في الآية دليل عليها وبنحوه قال أبو السعود.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافاً كثيراً وأطالوا الكلام في غير طائل، وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه فالكلام فيها لا يعنينا.
وقرئ ملكين وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة وقال ولم يكن قبل آدم ملك فيصيرا ملكين، وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) قال أبو عبيدة: هذه حجة بينة لقراءة الكسر ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها.
قال النحاس: هذه قراءة شاذة وأنكر على أبي عبيدة هذا الكلام وجعله من الخطأ الفاحش، قال وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين، وأنما معنى وملك لا يبلى المقام في ملك الجنة والخلود فيه.
319
(وقاسمهما) أي حلف لهما يقال أقسم إقساماً أي حلف وصيغة المفاعلة وإن كانت في الأصل تدل على المشاركة فقد جاءت كثيراً لغير ذلك وقد قدمنا تحقيق هذا في المائدة والمراد بها هنا المبالغة في صدور الإقسام لهما من إبليس.
(إني لكما لمن الناصحين) في ذلك قيل: أنهما أقسما له بالقبول كما أقسم لهما على المناصحة، قال قتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما.
319
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)
320
(فدلاهما بغرور) أي مناهما، والتدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل يقال أدلى دلوه أرسلها والمعنى أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العلية إلى الأكل من الشجرة أو من السماء إلى الأرض، وقيل معناه أوقعهما في الهلاك وقيل خدعهما، وقيل دلاهما من الدالة وهي الجرأة أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة.
(فلما ذاقا) أي طعما الشجرة (بدت) ظهرت (لهما سؤآتهما) عوراتهما أي ظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره بسبب زوال ما كان ساتراً لها وهو تقلص النور الذي كان عليها، قال ابن عباس تهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك.
وقال قتادة: كان لباسهما ظفراً كله فقشط عنهما أي غطاء على الجسد من جنس الأظفار فنزع عنهما وبقيت الأظفار في اليدين والرجلين تذكرة وزينة وانتفاعاً. وقبل كان من ثياب الجنة وهذا أقرب لأن إطلاق اللباس يتبادر فيه.
وقال مجاهد: كان لباسهما التقوى وقد تقدم في البقرة وفيه دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصداً إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير.
(وطفقا) طفق يفعل كذا شرع يفعل كذا، وحكى الأخفش طفق يطفق مثل ضرب يضرب أي شرعا أو جعلا وأقبلا (يخصفان عليهما من ورق الجنة) قيل من التين، وقيل من الموز، قرأ الزهري يخصفان من أخصف، وقرأ
320
الجمهور يخصفان من خصف، والمعنى أنهما أخذا يقطعان الورق ويلزقانه بعورتهما ليستراها من خصف المنعل إذا جعله طبقة فوق طبقة.
عن عكرمة قال: كان لباس كل دابة منها ولباس الإنسان الظفر فأدركت آدم التوبة عند ظفره، وقال ابن عباس: كان لباس آدم وحواء كالظفر فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثل الظفر وطفقا ينزعان ورق التين فيجعلانه على سؤآتهما، وعنه قال لما سكن آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه.
وعن أنس بن مالك قال: كان لباس آدم في الجنة الياقوت فلما عصى قلص فصار الظفر، وقال مجاهد: يخصفان يرقعان كهيئة الثوب، وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح، ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبح كشفها.
(وناداهما ربهما) قائلاً لهما (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) التي نهيتكما عن أكلها، وهذا عتاب من الله تعالى لهما وتوبيخ حيث لم يحذرا ما حذرهما منه والاستفهام للتقرير (وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) أي مظهر للعداوة بترك السجود حسداً وبغياً كما قال في سورة طه فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك الآية، قال السدي: قال آدم إنه حلف لي بك ولم أكن أعلم أن أحداً من خلقك يحلف بك إلا صادقاً.
321
(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) جملة مستأنفة مبنية على تقدير سؤال، كأنه قيل فماذا قالا وهذا اعتراف منهما بالذنب وأنهما ظلما أنفسهما بما وقع منهما من المخالفة ثم قالا (وإن لم تغفر لنا) أي تستر علينا ذنبنا (وترحمنا) أي تتفضل علينا برحمتك (لنكونن من الخاسرين) أي الهالكين، قال الحسن: هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه، وعن الضحاك مثله وقد استدل بهذا على صدور الذنب من الأنبياء وقد تقدم الكلام عليه فيما مضى.
321
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
322
(قال اهبطوا) استئناف كالتي قبلها والخطاب لآدم وحواء وذريتهما أو لهما ولإبليس قاله الرازي، وقيل لهم وللحية قاله الطبري وبه قال السدي: والمعنى اهبطوا من السماء إلى الأرض (بعضكم لبعض عدو) أي متعادين يعاديهما إبليس ويعادياه (ولكم في الأرض مستقر) أي موضع استقرار وهو المكان الذي يعيش فيه الإنسان وقال ابن عباس: يعني القبور (و) لكم فيها (متاع) تتمتعون به في الدنيا وتنتفعون به من المطعم والمشرب ونحوهما (إلى حين) إلى وقت موتكم وقيل إلى انقطاع الدنيا وقال ابن عباس إلى يوم القيامة.
(قال فيها) أي في الأرض (تحيون وفيها تموتون) استئناف كالتي قبلها وأعيد إما للإيذان ببعد اتصال ما بعده بما قبله وإما لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده (ومنها تخرجون) إلى دار الآخرة، ومثله قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى) قيل الخطاب لآدم وذريته وإبليس وأولاده وقد سبق شرح هذه القصة مستوفى في البقرة فارجع إليه.
(يا بني آدم) هذا تذكير ببعض النعم لأجل امتثال ما هو المقصود الآتي بقوله لا يفتننكم الخ (قد أنزلنا عليكم لباساً) عبر سبحانه بالإنزال عن الخلق أي خلقنا لكم لباساً، وقيل رزقناكم لباساً، وقيل أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم، وقيل جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى وأنزلنا الحديد.
(يواري سؤآتكم) التي أظهرها إبليس حتى اضطررتم إلى لزق الأوراق
322
فأنتم مستغنون عن ذلك باللباس وقال مجاهد: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة والسوأة العورة كما سلف والكلام في قدرها وما يجب ستره منها مبين في كتب الفروع.
(وريشا) وقرئ رياشا جمع ريش وهو اللباس قال الفراء: ريش ورياش كما يقال لبس ولباس، وريش الطائر ما ستره الله به وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان، وقيل المراد بالريش هنا الخصب ورفاهية العيش، قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة.
وعن أبي عبيدة وهبت له دابة وريشها أي ما عليها من اللباس. وقيل المراد بالريش هنا لباس الزينة لذكره بعد قوله لباساً وعطفه عليه، قاله الزمخشري، وقال مجاهد والضحاك والسدي: ريشاً أي المال، وعن عروة بن الزبير مثله، وقال ابن عباس: المال واللباس والعيش والنعيم والإيمان، وقال ابن زيد: الريش الجمال، وقيل الأثاث وما ظهر مما يلبس أو يفرش.
(ولباس التقوى) أي الناشئ عنها أو الناشئة عنه والإضافة قريبة من كونها بيانية أي لباس الورع واتقاء معاصي الله وهو الورع نفسه والخشية من الله تعالى، وقيل لباس التقوى الحياء وقيل الإسلام وقيل العمل الصالح، وقيل هو لباس الصوف والخشن من الثياب لما فيه من التواضع لله، وقيل هو الدرع والمغفر الذي يلبسه من يجاهد في سبيل الله، وقيل هو ستر العورة في الصلاة، وقال عثمان: هو السمت الحسن، وقال الكلبي: هو العفاف والأول أولى.
وهو يصدق على كل ما فيه تقوى الله فيندرج تحته جميع ما ذكر من الأقوال ومثل هذه الاستعارة كثيرة الوقوع في كلام العرب.
(ذلك) أي لباس التقوى هو (خير) أي خير لباس وأجمل زينة لأنه يستر من فضائح الأخرة، وقيل الإيمان والعمل خير من اللباس والريش قاله ابن عباس وأنشدوا في المعنى:
323
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٢٨)
(ذلك) أي الإنزال المدلول عليه بأنزلنا (من آيات الله) الدالة على أن له خالقاً (لعلهم يذكرون) نعمته فيشكرونها وفيه التفات عن الخطاب، وكان مقتضى المقام لعلكم.
ثم كرر الله سبحانه النداء لبني آدم تحذيراً لهم من الشيطان فقال
324
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يمنعكم من دخول الجنة فالنهي وإن كان للشيطان فهو في الحقيقة لبني آدم بأن لا يفتتنوا بفتنته ويتأثروا لذلك كما في قولك لا أرينك هنا (كما أخرج) أي: كما فتن.
(أبويكم) بأن أخرجهما (من الجنة) أو لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم.
(ينزع عنهما لباسهما) قد تقدم تفسيرها وأضاف نزعه إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأنه كان بسبب وسوسته فأسند إليه، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة التي وقعت فيما مضى، والنزع الجذب للشئ بقوة عن مقره ومنه (تنزغ الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) ومنه نزع القوس ويستعمل في الأعراض ومنه نزع العداوة والمحبة من القلب ونزع فلان كذا سلبه، ومنه والنازعات غرقاً لأنها تقلع أرواح الكفرة بشدة ومنه المنازعة وهي المخاصمة والنزع عن الشيء الكف عنه والنزوع الاشتياق الشديد ومنه نزع إلى وطنه.
324
واختلفوا في اللباس فقيل الظفر وقيل النور وقيل التقوى، وقيل كان من ثياب الجنة، وهذا أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه، ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس.
(ليريهما سؤآتهما) اللام لام كي وقد تقدم تفسيره أيضاً، والضمير في (إنه) فيه وجهان الظاهر منهما أنه للشيطان، والثاني أن يكون ضمير الشأن، وبه قال الزمخشري ولا حاجة تدعو إلى ذلك.
(يراكم هو وقبيله) هذه الجملة تعليل لما قبلها مع ما يتضمنه من المبالغة في تحذيرهم منه، لأن من كان بهذه المثابة كان عظيم الكيد، وكان حقيقاً بأن يحترس منه أبلغ احتراس، والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضاً.
وقال الليث: كل جيل من جن أو إنس قبيل، وقيل أعوانه من الشياطين وجنوده، وقال مجاهد: الجن والشياطين، وقال ابن زيد: قبيله نسله والقبيلة الجماعة من أب واحد، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة، وقيل الجماعة ثلاثة فصاعداً من قوم شتى، قاله أبو عبيدة والجمع قبل بضمتين والقبيلة لغة فيه، وقبائل الرأس القطع المتصل بعضها ببعض وبها سميت قبائل العرب.
(من حيث لا ترونهم) أي إذا كانوا على صورهم الأصلية، أما إذا تصوروا في غيرها فترونهم كما وقع كثيراً، ومن ابتدائية أي رؤية مبتدأة من مكان لا ترونهم فيه، وقيل خلق الله في عيون الجن إدراكاً يرون به الإنس، ولم يخلق هذا في عيون الإنس.
وقالت المعتزلة: الوجه في هذا رقة أجسام الجن ولطافتها وكثافة أجسام الإنس.
325
وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة وليس في الآية ما يدل على ذلك وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً.
قال مالك بن دينار: إن عدواً يراكم ولا ترونه، كأن في الكلام حذفاً تقديره: جدير بأن يحذر ويتقى: مصحح، والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، وتكون الآية مخصوصة بها فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض، وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى " (١) كما قال تعالى (الذي يوسوس في صدور الناس) فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم وقال مجاهد قال إبليس جعل لنا أربع نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا شاباً.
(إنا جعلنا) أي صيرنا (الشياطين أولياء) أي أعواناً وقرناء (للذين لا يؤمنون) من عباده وهم الكفار.
_________
(١) مسلم/٢١٧٥ أن صفية زوج النبي أخبرته (علي بن حسين) أنها جاءت النبي ﷺ تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنه ساعة ثم قامت تنقل وقام النبي ﷺ يقلبها وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي أسرعا فقال النبي على رسلكما إنها صفية بنت حي فقال سلمان الله يا رسول الله فقال رسول الله: " إن الشيطان...
326
(وإذا فعلوا) أي العرب (فاحشة) هي ما يبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب، قال أكثر المفسرين هو طواف المشركين بالبيت عراة وبه قال ابن عباس والسدي ومحمد بن كعب، وقيل هي الشرك قاله عطاء، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعاً، والمعنى أنهم إذا فعلوا ذنباً قبيحاً
326
مبالغاً في القبح اعتذروا عن ذلك بعذرين:
الأول (قالوا وجدنا عليها آباءنا) أي: أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم وتقليداً لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة، والثاني (والله أمرنا بها) أي إنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه، وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد لأن وجود آبائهم على القبيح لا يسوغ لهم فعله بل ذلك محض تقليد باطل لا أصل له والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء بل أمرهم باتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة، ونهاهم عن مخالفتهما ومما نهاهم عنه فعل الفواحش.
ولهذا رد الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه ﷺ فقال (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) فكيف تدعون ذلك عليه قال قتادة: والله ما أكرم الله عبداً قط على معصيته ولا رضيها له ولا أمره بها، ولكن رضي لكم طاعته ونهاكم عن معصيته، والحاصل أن الأمرين باطلان لأن الأول تقليد للرجال والثاني افتراء على ذي الجلال.
وفي الجمل: رد عليهم في المقالة الثانية ولم يتعرض لرد الأولى لوضوح فسادها لما هو معلوم أن تقليد مثل الآباء ليس بحجة.
ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه فقال (أتقولون على الله ما لا تعلمون) وهو من تمام ما أمر النبي ﷺ بأن يقول لهم وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحاً في كل شيء فكيف إذا كان في التقول على الله.
وفي هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر، وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون
327
آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم القائلون (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) والقائلون وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به وأنه الحق لم يبق عليه، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية أو البدعة وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت، والقصور الخالص.
فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة فقد اختلط الشر بالخير، والصحيح بالسقيم، وفاسد الرأي بصحيح الرواية ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبياً واحداً أمرهم باتباعه ونهاهم عن مخالفته فقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ولو كان محض رأي أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعددون بعدد أهل الرأي المكلفون للناس بما لم يكلفهم الله به.
وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلد لآراء الرجال مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم ووجود آلة الفهم لديهم وملكة العقل عندهم.
328
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
329
(قل أمر ربي بالقسط) أي العدل وبه قال مجاهد والسدي، وفيه أن الله سبحانه يأمر بالعدل لا كما زعموه من أن الله أمرهم بالفحشاء وقيل القسط هنا هو لا إله إلا الله قاله ابن عباس، وقيل في الكلام حذف أي قل أمر ربي بالقسط فأطيعوه.
(وأقيموا) عطف على المحذوف المقدر وقيل عطف على معنى بالقسط (وجوهكم عند كل مسجد) أي توجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم أو اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود على أن المراد بالسجود الصلاة قال مجاهد إلى الكعبة حيث صليتم في كنيسة أو غيرها وقيل اجعلوا سجودكم لله خالصاً، وقيل غير ذلك والأول أولى.
(وادعوه مخلصين له الدين) أي اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء أو العبادة له لا لغيره وقيل وحدوه ولا تشركوا به (كما بدأكم تعودون) قال السمين تقديره تعودون عوداً مثل ما بدأكم وقيل تقديره تخرجون خروجاً مثل ما بدأكم ذكرهما مكي، والأول أليق بلفظ الآية الكريمة.
قال الزجاج: كما أنشأكم في ابتداء الخلق وأوجدكم بعد العدم كذلك يعيدكم فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق لا في الكيفية والترتيب، فيكون المقصود الاحتجاج على منكري البعث فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
329
وقيل كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شيء فيكون مثل قوله تعالى (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) وقيل كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب وقال مجاهد تعودون أي شقي وسعيد.
وقال ابن عباس: إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً، وعن جابر قال: يبعثون على ما كانوا عليه، المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه، وقال الحسن ومجاهد: المعنى كما خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة.
ويدل له ما روى عن ابن عباس: قال قام فينا رسول الله - ﷺ - بموعظة فقال: " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين " أخرجه البخاري ومسلم (١).
_________
(١) مسلم ٢٨٦٠ - البخاري ١٥٨٥.
330
(فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة) أي تعودون فريقين سعداء وأشقياء، وفي القاموس الفرقة بالكسر الطائفة من الناس. والجمع فرق.
والفريق كالأمير أكثر منها والجمع أفرقاء وأفرقة وفروق، والفريق الذي هداه الله هم المؤمنون بالله المتبعون لأنبيائه، والفريق الذي حقت عليه الضلالة هم الكفار.
عن جابر أنه ذكر القدرية فقال: قاتلهم الله أليس قد قال الله سبحانه (فريقاً هدى) الآية وفيه دليل على أن الهدى والضلالة من الله، وعن ابن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله
330
خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " (١) أخرجه الترمذي.
(إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) تعليل لقوله وفريقاً حق عليهم الضلالة أي ذلك بسبب أنهم أطاعوا الشياطين في معصية الله.
(و) مع هذا فإنهم (يحسبون أنهم مهتدون) ولم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة، وهذا أشد في تمردهم وعنادهم.
والآية حجة على أهل الاعتزال في كون الهداية والإضلال إلى الله ذي الجلال، وفيه دليل أيضاً على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق، والجاحد والمعاند في الكفر سواء، ودلت هذه الآية على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد من الجزم والقطع، لأنه تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم لما ذمهم بذلك.
ودلت أيضاً على أن كل من شرع في باطل فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى أو لم يحسب ذلك قاله الكرخي.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٧٦٠.
وأخرجه الآجري في الشريعة/١٧٥ وابن حبان ١٨١٢ والحاكم ١/ ٣٠ وأحمد ٢/ ١٧٦ و ١٦٧ من طرق أخرى والترمذي ٢/ ١٠٧ كذلك وله طرق أخرى عن ابن الديلمي.
331
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) هذا خطاب لجميع بني آدم وإن كان وارداً على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والزينة ما يتزين به الناس من الملبوس، أمروا بالتزيين عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف.
وقد استدل بالآية على وجوب ستر العورة في الصلاة وإليه ذهب جمهور أهل العلم بل سترها واجب في كل حال من الأحوال وإن كان الرجل خالياً كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة قال ابن عباس: إن النساء كن يطفن عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة وتقول:
إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى عريت وإن وارى القميص قميص
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية وعنه قال: كان الرجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة اللباس وما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة؛ وقيل الزينة المشط والطيب فيستحب التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر والأول أولى.
وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " خذوا زينة الصلاة قالوا وما زينة الصلاة؟ قال البسوا نعالكم فصلوا فيها "، وأخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس عن النبي - ﷺ - في قوله خذوا زينتكم عند كل مسجد قال: " صلوا في نعالكم ".
والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جداً، وأما كون ذلك هو تفسير الآية كما روى في هذين الحديثين فلا أدري كيف إسنادهما، وقد ورد النهي عن أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وهو في
332
الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة.
(وكلوا واشربوا) ما شئتم (ولا تسرفوا) أي بتحريم الحلال أو بالتعدي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعام، أمر الله سبحانه عباده بالأكل والشرب ونهاهم عن الإسراف فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب، وتاركه بالمرة قاتل لنفسه، وهو من أهل النار كما صح في الأحاديث الصحيحة والمقل منه على وجه يضعف به بدنه ويعجز عن القيام بما يجب عليه من طاعة أو سعي على نفسه وعلى من يعول، مخالف لما أمر الله به وأرشد إليه، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه والتبذير، مخالف لما شرعه الله لعباده واقع في النهي القرآني.
وهكذا من حرم حلالاً أو حلل حراماً فإنه يدخل في المسرفين ويخرج عن المقتصدين ومن الإسراف الأكل لا لحاجة وفي وقت شبع، قال ابن عباس: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة قال علي بن الحسين بن واقد، قد جمع الله الطب كله في نصف آية يعني هذه الآية، وفيه دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع بدليل في التحريم، لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا مما حظره الشارع، وثبت تحريمه بدليل منفصل.
(إنه لا يحب المسرفين) في الطعام والشراب واللباس، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (١).
وفي الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله عبارة عن رضاه عن العبد وإيصال الثواب إليه، وإذا لم يحبه علم أنه ليس براض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف في المأكول والمشروب والملبوس، وما أحق بهذا الوعيد أهل الدول من الفساق والفجار.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٤٣٨١.
333
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)
334
(قل) إنكاراً على هؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة والذين يحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم (من حرم زينة الله) الزينة ما يتزين به الإنسان من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة كالمعادن التي لم يرد نهي عن التزين بها والجواهر ونحوها وقيل الملبوس خاصة، ولا وجه له. بل هو من جملة ما تشمله الآية.
فلا حرج على من لبس الثياب الجيدة الغالية القيمة إذا لم تكن مما حرمه الله ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ولم يمنع منها مانع شرعي، ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد فقد غلط غلطاً بيناً وقد قدمنا في هذا ما يكفي.
قال الرازي: إنه يتناول جميع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلى، ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم.
(التي أخرج لعباده) أي أصلها يعني القطن والكتان من الأرض والقز من الدود، واللحاء من الشجر، والحرير والصوف من الحيوان والدروع والجواهر من المعادن، قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله هذه الآية وأمروا بالثياب أن يلبسوها.
(والطيبات من الرزق) أي وهكذا الطيبات المستلذات من المطاعم
334
والمشارب والمآكل ونحوها مما يأكله الناس، فإنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية هذه معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه أو حرمه على غيره.
وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري: ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله، ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة.
وقد قدمنا نقل مثل هذا عنه مطولاً، والطيبات المستلذات من الطعام، وقال ابن عباس: الودك واللحم والسمن، وقيل اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم، فرد الله عليهم بقوله هذا، وقال قتادة: المراد ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب.
وقيل إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهي من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد النص بتحريمه، وهو الحق كما تقدم، وقيل هو اسم عام لما طاب كسباً ومطعماً قال أبو السعود: وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في (من) إنكاري انتهى ونحوه في البيضاوي.
(قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) أي: إنها لهم بالأصالة والاستحقاق وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة (خالصة يوم القيامة) أي مختصة بهم والتقدير قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا خالصة للمؤمنين يوم القيامة فهي لهم أصالة وللكفار تبعاً لقوله (ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار).
قال ابن عباس في الآية: يعني شارك المسلمون الكفار في الطيبات في
335
الحياة الدنيا، فأكلوا من طيبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالحي نسائهم، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء، وقيل خالصة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم ذلك في الدنيا والأول أولى.
(كذلك) أي مثل هذا التفضل والتبيين (نفصل الآيات) المشتملة على التحليل والتحريم (لقوم يعلمون) أني أنا الله وحدي لا شريك لي فأحلوا حلالي وحرموا حرامي.
336
(قل) للمشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف والذين يحرمون أكل الطيبات إن الله لم يحرم ما تحرمونه بل أحله و (إنما حرم ربي الفواحش) من الأفعال والأقوال جمع فاحشة أي كل معصية وقد تقدم تفسيرها (ما ظهر منها وما بطن) أي ما أعلن منها وما أسر، يعني جهرها وسرها، وقيل هي خاصة بفواحش الزنا، ولا وجه لذلك، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ -: " قال لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه "، أخرجه البخاري ومسلم (١).
(والإثم) هو يتناول كل معصية يتسبي عنها الإثم، وهو عطف عام على خاص لمزيد الاعتناء بها، وقيل هو الخمر خاصة، وقد أنكره جماعة من أهل العلم، قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك وحقيقته أنه جميع المعاصي.
_________
(١) رواه مسلم/٢٧٦٠ وله برواية أخرى. ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش (ما ظهر منها وما بطن) وليس أحد أحب إليه العذر من الله. ورواه البخاري ٢٠٠٣.
336
قال الفراء: الإثم ما دون الحق والاستطالة على الناس انتهى، وليس في إطلاق الإثم على الخمر ما يدل على اختصاصه به فهو أحد المعاني التي يصدق عليها قال في الصحاح وقد سمي الخمر إثماً وقال الحسن وعطاء:
الإثم من أسماء الخمر، وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم، وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال:
لأن العرب ما سمته إثماً قط في جاهلية ولا إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلاً تحت الإثم لقوله: (قل فيهما إثم كبير).
وقيل: الإثم صغائر الذنوب والفواحش كبائرها وقيل الإثم اسم لما لا يجب فيه الحد والفاحشة ما يجب فيه الحد من الذنوب، وهذا القول قريب من الأول وقيل الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر، وقيل الفاحشة الكبيرة والإثم مطلق الذنب كبيراً كان أو صغيراً، وأولى هذه الأقوال أولها.
(والبغي بغير الحق) أي الظلم المجاوز للحد والاستطالة على الناس، وأفرده بالذكر بعد دخوله فيما قبله لكونه ذنباً عظيماً كقوله (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) وإذا طلب ماله بالحق خرج من أن يكون بغير الحق.
(وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً) أي وأن تجعلوا لله شريكاً لم ينزل عليكم به حجة وتسووا به في العبادة والمراد التهكم بالمشركين لأن الله لا ينزل برهاناً بأن يكون غيره شريكاً له (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) بحقيقته وأن الله قاله، وهذا مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات أو التحريمات التي لم يأذن بها.
337
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)
338
(ولكل أمة) من الأمم المهلكة (أجل) أي وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه، ويجوز أن تحمل الآية على ما هو أعم من الأمرين جميعاً.
(فإذا جاء أجلهم) أى إذا جاء أجل كل أمة من الأمم كان ما قدره عليهم واقعاً في ذلك الأجل، قيل المراد بالأجل وقت نزول العذاب، وقيل أجل الحياة والعمر، وعلى هذا لكل واحد أجل لا ينفع فيه تقديم ولا تأخير، والأجل يطلق على كل من مدة العمر بتمامها وعلى الجزء الأخير منها وأجل الشيء مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشيء أجلاً من باب تعب وأجل أجولاً من باب قعد لغة وأجلته تأجيلاً جعلت له أجلاً، والآجال جمع أجل مثل سبب وأسباب.
(لا يستأخرون ساعة) خص الساعة بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات في العرف وقد استدل بالآية الجمهور على أن كل ميت يموت بأجله وإن كان موته بالقتل أو التردي أو نحو ذلك، والبحث في ذلك طويل جداً.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) وكان الحسن يقول: ما أحمق هؤلاء القوم يقولون اللهم أطل عمره والله يقول (فإذا جاء أجلهم) الآية.
عن ابن السيب قال: لما طعن عمر قال كعب لو دعا الله لأخر في أجله، فقيل له أليس قد قال الله فإذا جاء أجلهم الآية فقال كعب وقد قال الله وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب.
338
(ولا يستقدمون) مستأنف معناه الإخبار بأنهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم بل لا بد من استيفائهم إياه كما إنهم لا يتأخرون عنه أقل زمان، وقال الحوفي وغيره إنه معطوف على (لا يستأخرون) وهذا لا يجوز وقال الواحدي، المعنى لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضت ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء.
قلت هذا بناء منه على أنه معطوف على (لا يستأخرون) وهو ظاهر أقوال المفسرين وبالأول قال التفتازاني والكرخي، وقال أبو السعود: معطوف على الجواب لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلاً.
وقال القاري: حاصل كلام القاضي أن هذا بمنزلة المثل أي لا يقصد من مجموع الكلام إلا أن الوقت تقرر لا يتغير ولا يتبدل انتهى.
أقول قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآيات الشريفة وهي قوله تعالى (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) وقوله تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) فقيل إنها معارضة لقوله عز وجل (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) وقوله سبحانه (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وقوله سبحانه (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده).
فذهب الجمهور إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص استدلالاً بالآيات المتقدمة وبالأحاديث الصحيحة كحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن أحدكم يجمع خلقه في أربعين يوماً ثم يكون علقة ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد " وهو في الصحيحين وغيرهما وما ورد
339
في معناه من الأحاديث الصحيحة (١).
وأجابوا عن قوله عز وجل (يمحو الله ما يشاء ويثبت) بأن المعنى يمحو ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب.
ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية بغير مخصص.
وأيضاً يقال لهم: إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة كما في الأحاديث الصحيحة ومن جملة ذلك الشرائع والفرائض فهي مثل العمر إذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات.
وقيل المراد بالآية محو ما في ديوان الحفظة مما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل ما ينطق به الإنسان، ويجاب عنه بمثل الجواب الأول.
وقيل يغفر الله ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفر، ويجاب عنه بمثل الجواب السابق.
وقيل يمحو ما يشاء من القرون كقوله (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) وكقوله تعالى (ثم أنشأنا من بعدهم قرنآ آخرين) فنمحو قرناً ونثبت قرناً، ويجاب عنه أيضاً بمثل ما تقدم.
وقيل هو الذي يعمل بطاعة الله ثم يعمل بمعصية الله ثم يتوب فيمحوه الله من ديوان السيئات ويثبته في ديوان الحسنات.
وقيل يمحو ما يشاء يعني الدنيا ويثبت الآخرة، وقيل غير ذلك وكل هذه الأجوبة دعاوى مجردة ولا شك أن آية المحو والإثبات عامة لكل ما يشاءه الله سبحانه فلا يجوز تخصيصها إلا بمخصص، وإلا كان ذلك من التقول على الله عز وجل بما لم يقل، وقد توعد الله تعالى على ذلك وقرنه بالشرك فقال (قل إنما
_________
(١) مسلم ٢٦٤٣ - البخاري ١٥١٤.
340
حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
وأجابوا عن قوله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) بأن المراد بالمعمر الطويل العمر والمراد بالناقص القصير العمر، وفي هذا نظر لأن الضمير في قوله (ولا ينقص من عمره) يعود إلى قوله (من معمر) والمعنى على هذا وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر ذلك المعمر إلا في كتاب، هذا ظاهر معنى النظم القرآني.
وأما التأويل المذكور فإنما يتم على إرجاع الضمير المذكور إلى غير ما هو المرجع في الآية وذلك لا وجود له في النظم.
وقيل: إن معنى ما يعمر من معمر ما يستقبله من عمره ومعنى لا ينقص من عمره ما قد مضى، وهذا أيضاً خلاف الظاهر لأن هذا ليس بنقص من نفس العمر والنقص يقابل الزيادة وههنا جعله مقابلاً للبقية من العمر، وليس ذلك بصحيح.
وقيل المعنى (وما يعمر من معمر) من بلغ سن الهرم ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر غير هذا الذي بلغ سن الهرم عن عمر هذا الذي بلغ سن الهرم ويجاب عنه بما تقدم.
وقيل المعمر من يبلغ عمره ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين، وقيل غير ذلك من التأويلات التي يردها اللفظ ويدفعها.
وأجابوا عن قوله سبحانه (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) بأن المراد بالأجل الأول النوم والثاني الوفاة، وقيل الأول ما قد انقضى عن عمر كل أحد والثاني ما بقي من عمر كل أحد، وقيل الأول أجل الموت والثاني ما بين موته إلى بعثته، وقيل غير ذلك مما فيه مخالفة للنظم القرآني.
وقال جمع من أهل العلم: إن العمر يزيد وينقص واستدلوا بالآيات
341
المتقدمة فإن المحو والإثبات عامان يتناولان العمر والرزق والسعادة والشقاوة وغير ذلك وقد ثبت عن جماعة من السلف والصحابة ومن بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني منهم، وإن كنت كتبتني من أهل الشقاوة فأمحني وأثبتني في أهل السعادة، ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه ونحو ذلك بما يخصص هذا العموم.
وهكذا يدل على هذا المعنى الآية الثانية فإن معناها أنه لا يطول عمر الإنسان ولا ينقص إلا وهو في كتاب أي في اللوح المحفوظ، وهكذا يدل قوله تعالى (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) أن للإنسان أجلين يقضي الله سبحانه بما يشاء منهما من زيادة أو نقص.
ويدل على ذلك أيضاً ما في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن النبي - ﷺ - أن صلة الرحم تزيد في العمر، وفي لفظ في الصحيحين: " من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه " (١) وفي لفظ " من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه " (١). وفي لفظ صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار.
ومن أعظم الأدلة ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر للعباد بالدعاء كقوله عز وجل (أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقوله (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وقوله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) وقوله (واسألوا الله من فضله) والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة وفيها أن الدعاء يدفع البلاء ويرد القضاء كما ثبت عنه - ﷺ - في الصحيح أنه قال " اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء
_________
(١) مسلم ٢٥٥٨.
342
وشماتة الأعداء " (١).
وثبت في حديث قنوت الموتر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " وقني شر ما قضيت " (٢)، فلو كان الدعاء لا يفيد شيئاً وأنه ليس للإنسان إلا ما قد سبق في القضاء الأزلي لكان أمره عز وجل لغواً لا فائدة فيه، وكذلك وعده بالإجابة للعباد الداعين له، وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء وأنه عبادة لغواً لا فائدة فيه.
وهكذا يكون إستعاذته ﷺ من سوء القضاء لغواً لا فائدة فيه، وهكذا يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وقني شر ما قضيت " (٢) لغواً لا فائدة فيه. وهكذا يكون أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتداوي وأن الله سبحانه ما أنزل من داء إلا وجعل له دواء لغواً لا فائدة فيه مع ثبوت الأمر بالتداوي في الصحيح عنه - ﷺ -. فإن قلت فعلام يحمل ما تقدم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر.
قلت قد أجاب عن ذلك بعض السلف وتبعه بعض الخلف بأن هذه الآية مختصة بالأجل إذا حضر فإنه لا يتقدم ولا يتأخر عند حضوره، ويؤيد هذا أنها مقيدة بذلك فإنه قال (إذا جاء أجلهم) ومثل هذا التقييد المذكور في هذه الآية قوله عز وجل (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها) وقوله سبحانه (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر).
فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى، فإذا حضر الأجل لم يتأخر ولا يتقدم، وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم أو بفعل الخير، ويجوز أن يقدمه لمن عمل شراً أو قطع ما أمر الله به أن
_________
(١) مسلم ٢٧٠٧ - البخاري ٢٤٠١.
(٢) أبو داود كتاب الوتر باب ٥.
343
يوصل أو انتهك محارم الله سبحانه.
فإن قلت فعلام يحمل قوله عز وجل (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) وقوله سبحانه (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وكذلك سائر ما ورد في هذا المعنى.
قلت هذه أولاً معارضة بمثلها وذلك قوله عزو وجل (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) ومثل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح القدسي: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه (١).
وثانياً بإمكان الجمع بحمل مثل قوله (إلا في كتاب) وقوله (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) على عدم التسبيب من العبد بأسباب الخير من الدعاء وسائر أفعال الخير، وحمل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبيب بأسباب الخير الموجبة بحسن القضاء واندفاع شره، وعلى وقوع التسبيب بأسباب الشر المقتضية لإصابة المكروه ووقوعه على العبد.
وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء، وأنه قد فرغ من تقدير الأجل والرزق والسعادة والشقاوة، وبين الأحاديث الواردة في صلة الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير وكذلك الدعاء، فيحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير والشر، وتحمل الأحاديث الآخرة على أنه قد وقع من العبد التسبيب بأسباب الخير من الدعاء والعمل الصالح وصلة الرحم أو التسبب بأسباب الشر.
فإن قلت قد تقرر بالأدلة من الكتاب والسنة بأن عمله عز وجل أزلي وأنه قد سبق في كل شيء ولا يصح أن يقدر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلاً وذلك لا يجوز إجماعاً.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٤٢٢١.
344
قلت: علمه عز وجل سابق أزلي وقد علم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحق من هذه الحيثية ولكنه غلا قوم فأبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء وأنه يرد القضاء وما ورد من الاستعاذة منه - ﷺ - من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه وبما كسبت يده ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفاً لسبق العلم ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلاً.
والأمر أوسع من هذا، والذي جاءنا بسبق العلم وأزليته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء والأمر بالدواء وعرفنا بأن صلة الرحم تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيد فيه أيضاً وأن أعمال الشر تمحقه، وأن العبد يصاب بذنبه كما يصل إلى الخير ويندفع عنه الشر بكسب الخير والتلبس بأسبابه فأعمال بعض ما ورد في الكتاب والسنة وإهمال البعض الآخر ليس كما ينبغي، فإن الكل ثابت عن الله عز وجل وعن رسوله - ﷺ -، والكل شريعة واضحة وطريقة مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه بشيء من الأدلة.
وبيانه أن الله سبحانه كما علم أن العبد يكون له من العمر كذا أو من الرزق كذا أو هو من أهل السعادة أو الشقاوة، قد علم أنه إذا وصل رحمه زاد له في الأجل كذا أو بسط له من الرزق كذا أو صار من أهل السعادة بعد أن كان من أهل الشقاوة أو صار من أهل الشقاوة بعد أن كان من أهل السعادة، وهكذا قد علم ما يقتضيه للعبد كما علم أنه إذا دعاه واستغاث به والتجأ إليه صرف عنه الشر، ودفع عنه المكروه.
وليس في ذلك خلف ولا مخالفة لسبق العلم بل فيه تقييد المسببات بأسبابها، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر.
فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق أو ينافيه بوجه من الوجوه.
345
فلو قال قائل: أنا لا آكل ولا أشرب بل انتظر القضاء فإن قدر الله لي ذلك كان وإن لم يقدر لم يكن، أو قال قائل انا لا أزرع الزرع ولا أغرس الشجر وأنتظر القضاء، فإن قدر الله ذلك كان وإن لم يقدره لم يكن، أو قال قائل: أنا لا أجامع زوجتي أو أمتي لتحصل لي منهما الذرية بل إن قدر الله كان وإن لم يقدره لم يكن.
لكان هذا مخالفاً لما كان عليه رسول الله - ﷺ - وما جاءت به كتبه وما كان عليه صلحاء الأمة وعلماؤها، بل يكون مخالفاً لما عليه هذا النوع الإنساني من أبينا آدم إلى الآن، بل مخالفاً لما عليه جميع أنواع الحيوانات في البر والبحر.
فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله عز وجل ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على أسبابها كما في قوله: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) وقوله (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) وقوله (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقوله (واتقوا الله ويعلمكم الله) وقوله (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون).
وكم يعد العاد من أمثال هذه الآيات القرآنية وما ورد موردها من الأحاديث النبوية وهل ينكر هؤلاء الغلاة مثل هذا ويجعلونه مخالفاً لسبق العلم مبايناً لأزليته، فإن قالوا: نعم فقد أنكروا ما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها وجزاآت معلقة بشروطها ومن بلغ إلى هذا الحد في الغباوة وعدم تعقل الحجة لم يستحق المناظرة ولا ينبغي
346
معه الكلام فيما يتعلق بالدين بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه وأمر دنياه حتى ينتعش من غفلته ويستيقظ من نومته ويرجع عن ضلالته وجهالته، والهداية تبري الحول والقوة ولا خير إلا خيره.
ثم يقال لهم هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله - ﷺ - في دواوين الإسلام وما يلتحق بها من كتب السنة المطهرة قد علم كل من له علم أنها كثيرة جداً بحيث لا يحيط بأكثرها إلا مؤلف بسيط ومصنف حافل، وفيها تارة استجلاب الخير وفي أخرى استدفاع الشر وتارة متعلقة بأمور الدنيا وتارة بأمور الآخرة ومن ذلك تعليمه - ﷺ - لأمته ما يدعون به في صلاتهم وعقب صلاتهم وفي صيامهم وفي ليلهم ونهارهم، وعند نزول الشدائد بهم وعند وصول نعم الله إليهم.
هل كان هذا كله منه - ﷺ - لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير جالبة لما فيه مصلحة دافعة لما فيه مفسدة، فإن قالوا: نعم قلنا لهم فحينئذ لا خلاف بيننا وبينكم فإن هذا الاعتراف يدفع عنا وعنكم معرة الإختلاف، ويريحنا ويريحكم من التطويل بالكلام على ما أردتموه وأردناه.
وإن قالوا: ليس ذلك لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير جالبة لما فيه مصلحة دافعة لما فيه مفسدة، فهم أجهل من دوابهم وليس للمحاجة لهم فائدة ولا في المناظرة معهم نفع.
يا عجباً كل العجب، أما بلغهم ما كان عليه أمر رسول الله - ﷺ - من أول نبوته إلى أن قبضه الله من الدعاء لربه والإلحاح عليه ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه وحتى يسقط رداؤه كما وقع منه - ﷺ - في يوم بدر، فهل يقول عاقل فضلاً عن عالم أن هذا الدعاء منه فعله - ﷺ - وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، وأنه قد سبق العلم بما هو كائن وأن هذا السبق يرفع فائدة ذلك
347
ويقتضي عدم النفع به.
ومعلوم أنه - ﷺ - أعلم بربه وبقضائه وقدره وبأزليته وسبق علمه بما يكون في بريته، فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئاً ولا ينفع نفعاً لم يفعله ولا أرشد إليه الناس وأمرهم به، فإن ذلك نوع من العبث الذي تنزه عنه كل عاقل فضلاً عن خير البشر وسيد ولد آدم.
ثم يقال لهم إذا كان القضاء دافعاً لا محالة وأنه لا يدفعه شيء من الدعاء والالتجاء والإلحاح والاستعانة فكيف لم يتأدب - ﷺ - مع ربه، فإنه قد صح عنه أنه استعاذ بالله سبحانه من سوء القضاء كما عرفناك وقال: " وقني شر ما قضيت "، فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا وعلى أي محمل يحملونه؟
ثم ليت شعري علام يحملون أمره سبحانه وتعالى لعباده بدعائه بقوله (ادعوني استجب لكم) ثم عقب ذلك بقوله (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي عن دعائي كما صرح بذلك أئمة التفسير.
فكيف يأمر عباده بالدعاء أولاً ثم يجعل تركه استكباراً منهم، ثم يرغبهم إلى الدعاء ويخبرهم أنه قريب من الداعي مجيب لدعوته بقوله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) ثم يقول معنوناً لكلامه الكريم بحرف يدل على الاستفهام الإنكاري والتقريع والتوبيخ (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله: (واسألوا الله من فضله).
فإن قالوا إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به وأرشدنا إليه وجعل تركه استكباراً وتوعد عليه بدخول النار مع الذل ورغب عباده إلى دعائه وعرفهم أنه
348
قريب وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف ما نزل به من السوء، وأمرهم أن يسألوه من فضله ويطلبوا ما عنده من الخير.
أن كل ذلك لا فائدة فيه للعبد وأنه لا ينال إلا ما قد جرى به القضاء وسبق به العلم، فقد نسبوا إلى الرب عز وجل ما لا يجوز عليه ولا تحل نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلا بما فيه فائدة يعتد بها ولا يرغبه إلا فيما يحصل له به الخير ولا يرهبه إلا عما يكون به عليه الضير ولا يعده إلا بما هو حق يترتب عليه فائدة فهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ولا يأمرهم بسؤاله من فضله إلا وهناك فائدة تحصل بالدعاء ويكون سببه التفضل عليهم ورفع ما هم فيه من الضر وكشف ما حل بهم من السوء.
هذا معلوم لا يشك فيه، إلا من لا يعقل حجج الله ولا يفهم كلامه ولا يدري بخير ولا شر، ولا نفع ولا ضر.
ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية فهو حقيق بأن لا يخاطب، وقمين بأن لا يناظر، فإن هذا المسكين المنخبط في جهله المتقلب في ضلاله قد وقع فيما هو أعظم خطراً من هذا وأكثر ضرراً منه، وذلك بأن يقال له إذا كان دعاء الكفار إلى الإسلام ومقاتلتهم على الكفر وغزوهم إلى مقر ديارهم لا يأتي بفائدة ولا يعود على القائمين به من الرسل وأتباعهم وسائر المجاهدين من العباد بفائدة، وأنه ليس هناك إلا ما قد سبق من علم الله عز وجل وأنه سيدخل في الإسلام ويهتدي إلى الدين من قد علم سبحانه منه ذلك سواء قوتل أو لم يقاتل وسواء دعى إلى الحق أو لم يدع إليه.
كانا هذا القتال الصادر من رسل الله وأتباعهم ضائعاً ليس فيه إلا تحصيل الحاصل وتكوين ما هو كائن فعلوا أو تركوا وحينئذ يكون الأمر بذلك
349
عبثاً، تعالى الله عز وجل عن ذلك.
وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه وأنزل بها كتبه يقال مثل هذا فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه عز وجل كائناً سواء بعث الله إلى عباده رسله وأنزل إليهم كتبه أو لم يفعل ذلك كان عبثاً يتعالى الرب سبحانه ويتنزه عن أن ينسب إليه.
فإن قالوا: إن الله سبحانه قد سبق علمه بكل ذلك ولكنه قيده وشرطه بشروط وعلقه بأسباب فعلم مثلاً أن الكافر يسلم ويدخل في الدين بعد دعائه إلى الإسلام أو مقاتلته على ذلك، وأن العباد يعمل منهم من يعمل بما تعبدهم الله به بعد بعثة رسله إليهم وإنزال كتبه عليهم.
قلنا لهم: فعليكم أن تقولوا هكذا في الدعاء وفي أعمال الخير وفي صلة الرحم ولا نطلب منكم إلا هذا، ولا نريد منكم غيره وحينئذ قد دخلتم إلى الوفاق من طريق قريبة، فعلام هذا الجدال الطويل العريض واللجاج الكبير الكثير فأنا لا نقول إلا أن الله سبحانه قد علم في سابق علمه أن فلاناً يطول عمره إذا وصل رحمه. وأن فلاناً يحصل له من الخير كذا ويندفع عنه من الشر كذا إذا دعا ربه وأن هذه المسببات مترتبة على حصول أسبابها، وهذه المشروطات مقيدة بحصول شروطها.
وحينئذ فارجعوا إلى ما قدمنا ذكره من الجمع بين ما تقدم من الأدلة واستريحوا من التعب، فإنه لم يبق بيننا وبينكم خلاف من هذه الحيثية، وقد كان الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبي وائل وعبد الله بن عمر يدعون الله عز وجل بأن يثبتهم في أهل السعادة إن كانوا قد كتبوا من أهل الشقاوة كما قدمنا، وهم أعلم بالله سبحانه وبما يجب له ويجوز عليه.
وقال كعب الأحبار حين طعن عمر وحضرته الوفاة: والله لو دعا الله
350
عمر أن يؤخر أجله لأخره فقيل له إن ربه عز وجل يقول (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فقال هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ قوله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب).
ثم قد علمنا من أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم سيما الصالحين منهم أنهم يدعون الله عز وجل فيستجيب لهم ويحصل لهم ما طلبوه من المطالب المختلفة بعد أن كانوا فاقدين لها، ومنهم من يدعو لمريض قد أشرف على الموت بأن يشفيه الله فيعافى في الحال، ومنهم من يدعو على فاجر بأن يهلكه الله فيهلك في الحال.
ومن شك في شيء من هذا فليطالع الكتب الصحيحة في أخبار الصالحين كحلية أبي نعيم وصفوة الصفوة لابن الجوزي، ورسالة القشيري فإنه يجد من هذا القبيل ما ينشرح له صدره ويثلج به قلبه، بل لكل إنسان إذا حقق حال نفسه ونظر في دعائه لربه عند عروض الشدائد وإجابته له وتفريجه عنه ما يغنيه عن البحث عن حال غيره إذا كان من المعتبرين المفكرين.
وهذا نبي الله المسيح عيسى بن مريم عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله ويشفي المرضى بدعائه، وهذا معلوم عنه حسبما أخبرنا الله سبحانه في كتابه الكريم، وفي الإنجيل من القصص المتضمنة لإحياء الموتى منه وشفاء المرضى بدعائه ما يعرفه من اطلع عليه.
وبالجملة فهؤلاء الغلاة الذين قالوا إنه لا يقع من الله عز وجل إلا ما قد سبق به القلم وأن ذلك لا يتحول ولا يتبدل ولا يؤثر فيه دعاء ولا عمل صالح، قد خالفوا ما قدمنا من آيات الكتاب العزيز ومن الأحاديث النبوية الصحيحة من غير ملجئ إلى ذلك، فقد أمكن الجمع بما قدمناه وهو متعين،
351
وتقديم الجمع على الترجيح متفق عليه، وهو الحق.
وقد قابل هؤلاء بضد قولهم القدرية وهم معبد الجهني وأصحابه فإنهم قالوا: إن الأمر أنف أي مستأنف وقالوا: إن الله لا يعلم بالجزئيات إلا عند وقوعها تعالى الله عن ذلك، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله - ﷺ - وإجماع المسلمين.
وقد تبرأ من مقالة معبد هذه وأصحابه من أدركهم من الصحابة منهم ابن عمر كما ثبت ذلك في الصحيح وقد غلط من ينسب مقالتهم هذه إلى المعتزلة فإنه لم يقل بها أحد منهم قط وكتبهم مصرحة بهذا ناطقة به، ولا حاجة لنا إلى نقل مقالات الرجال فقد قدمنا من أدلة الكتاب والسنة والجمع بينهما ما يكفي المنصف ويريحه من الأبحاث الطويلة العريضة الواقعة في هذه المسألة، ومن الإلزامات التي ألزم بها بعض القائلين البعض الآخر، ودين الله سبحانه بين المفرط والغالي وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق.
352
(يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي) " إن " هي الشرطية وما زائدة للتوكيد، والقصص قد تقدم معناه والمعنى إن أتاكم رسل كائنون منكم ومن جنسكم يخبرونكم بأحكامي ويبينونها لكم، وقيل المراد بالرسل النبي - ﷺ -، وذكره بلفظ الجمع للتعظيم، والخطاب لأهل مكة ومن يلحق بهم، وقيل أراد جميع الرسل، والخطاب عام في كل بني آدم وهو ظاهر الآية.
(فمن اتقى) الشرك ومعاصي الله (وأصلح) حال نفسه باتباع الرسل وإجابتهم (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يوم القيامة وقد تقدم تفسيره مراراً.
352
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٧)
353
(والذين كذبوا بآياتنا) التي يقصها عليهم رسلنا (واستكبروا عنها) أي عن إجابتها والعمل بما فيها في (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لا يخرجون منها أبداً بسبب كفرهم بتكذيب الآيات والرسل.
(فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) أي من أعظم ظلماً ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكاً من خلقه وهو منزه عنه (أو كذب بآياته) أي بالقرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد - ﷺ -.
(أولئك) الإشارة إلى المكذبين المستكبرين (ينالهم نصيبهم من الكتاب) أي مما كتب الله لهم من خير وشر، وقيل ينالهم من العذاب بقدر كفرهم، وقيل نصيبهم من الشقاوة والسعادة.
وقال مجاهد: ما سبق من الكتاب، ، وقال محمد بن كعب: رزقه وأجله وعمله وصححه الطبري، وقال الرازي: وإنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه، وقيل: الكتاب هنا القرآن لأن عذاب الكفار مذكور فيه، وقيل هو اللوح المحفوظ (١).
_________
(١) وذكر القرطبي عن الحسن بن علي الحلواني قال أملى عليّ علي بن المديني قال: سألت عبد الرحمن ابن مهدي عن القدر قال: كل شيء بقدر والطاعة والمعصية بقدر.
353
(حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) أي إلى غاية هي هذه، والمراد بالرسل هنا ملك الموت وأعوانه أو الملائكة والموكلون بإدخالهم النار، ففي المقام قولان ذكرهما الخازن وقيل حتى هنا هي التي للابتداء ولكن لا يخفى أن كونها لابتداء الكلام بعدها لا ينافي كونها غاية لما قبلها.
والاستفهام في قوله (قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله) للتقريع والتوبيخ لا سؤال استعلام أي أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها ليدفعوا عنكم ما نزل بكم؟ وقيل: إن هذا يكون في الآخرة.
(قالوا) استئنافية بتقدير سؤال وقعت هي جواباً عنه كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا (ضلوا عنا) أي ذهبوا عنا وغابوا فلا ندري أين هم.
قال الكرخي: وهو جواب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ. وذلك أن السؤال إنما وقع عن المكان، ولو جاء الجواب على نسق السؤال لقيل هم في المكان الفلاني، وإنما المعنى ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونه فأجابوا بأنهم ضلوا عنا وغابوا فلم نرهم مع شدة احتياجنا إليهم في هذا الوقت فلم ينفعونا وقت الاحتياج إليهم (وشهدوا على أنفسهم) عند الموت (أنهم كانوا كافرين) أي أقروا على أنفسهم بالكفر.
354
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨)
(قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم) القائل هو الله عز وجل، و " في " بمعنى مع أي مع أمم وقيل هي على بابها والمعنى ادخلوا في جملتهم وغمارهم وعدادهم، وقيل هو قول مالك خازن النار، والظاهر أن هذه الحال منتظرة إذ مصيرهم في غمار الأمم إنما هو بعد تمام الدخول، وذلك لأن الأمم المذكورة قد سبقتهم في الدخول فلا يصيرون في غمارها إلا بعد الدخول.
والمراد بالأمم الخالية (من الجن والإنس) هم الكفار من الطائفتين من الأمم الماضية وأهل الملل (في النار) أي التي هي مستقركم ومأواكم (كلما دخلت أمة) من الأمم الماضية النار (لعنت أختها) أي الأمة الأخرى التي سبقتها إلى النار، وجعلت أختاً لها باعتبار الدين أو الضلالة أو الكون في النار.
ْقال السدي: يلعن المشركون المشركين واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس، تلعن الآخرة الأولى.
(حتى إذا اداركوا فيها جميعاً) التدارك التلاحق والتتابع والاجتماع في النار (قالت أخراهم) دخولاً (لأولاهم) أي لأجلهم يعني قال آخر كل أمة لأولها واللام للتعليل ولا يجوز أن تكون للتبليغ. قال الزمخشري: لأن خطابهم مع الله لا معهم، وقد بسط القول قبله في ذلك الزجاج وقيل هي للتبليغ وخطابهم معهم بدليل قوله (فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).
355
قال السدي: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم في ذلك الدين، وقيل أخراهم أي سفلتهم وأتباعهم لأولاهم لرؤسائهم وكبارهم قاله مقاتل وهذا أولى كما يدل عليه.
(ربنا هؤلاء أضلونا) عن الهدى فإن المضلين هم الرؤساء، ويجوز أن يراد أنهم أضلوهم لأنهم اتبعوهم واقتدوا هم بدينهم من بعدهم فيصح الوجه الأول لأن أخراهم تبعت دين أولاهم.
(فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) الضعف الزائد على مثله مرة أو مرات، ومثله قوله تعالى (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً) وقيل الضعف هنا الأفاعي والحيات، وقال أبو عبيدة الضعف مثل الشيء مرة واحدة.
قال الزهري: والذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم وأما كتاب الله فهو عربي مبين فيرد تفسيره إلى موضوع كلام العرب، والضعف في كلامهم ما زاد، وليس بمقصور على مثلين بل أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور، وقال الزجاج: ضعفاً أي مضاعفاً يعني تضعيف الشيء وزيادته إلى ما لا ينتهي.
(قال لكل) أي لكل طائفة منكم (ضعف) من العذاب أما القادة فبكفرهم وتضليلهم، وأما الإتباع فبكفرهم وتقليدهم قاله الكرخي
(ولكن لا تعلمون) بما لكل فريق من نوع العذاب (١).
_________
(١) زاد المسير ٣/ ١٩٥.
356
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠)
357
(وقالت أولاهم لآخراهم) أي قال السابقون للاحقين أو المتبوعين للتابعين مشافهة ومخاطبة لها (فما كان لكم علينا) في الدنيا (من فضل) بل نحن وأنتم سواء في الكفر بالله واستحقاق عذابه وقد ضللتم كما ضللنا فهذا رد لقول الطائفة الأخرى (هؤلاء أضلونا) قال مجاهد (من فضل) تخفيف من العذاب.
(فذوقوا العذاب) النار كما ذقناه (بما كنتم تكسبون) من معاصي الله والكفر به والقائل لهذا القول القادة للأتباع أو الأمة الأولى للأخرى أو الله سبحانه.
(إن الذين كذبوا بآياتنا) ولم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا (واستكبروا عنها) أي عن الإيمان والتصديق بها (لا تفتح لهم أبواب السماء) يعني أنها لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا وهي تفتح لأرواح المؤمنين ويصعد بروحهم إلى السماء السابعة، وقد دل على هذا المعنى وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكفار إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء، وقيل لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا قاله مجاهد والنخعي، وقيل لأعمالهم أي لا تقبل بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم.
وقيل المعنى أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها لأن الجنة في السماء وعلى هذا العطف بجملة ولا يدخلون الجنة الآتية يكون من عطف التفسير، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال، ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه فإن ذلك لا يدل على
357
عدم فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية.
(ولا يدخلون الجنة) أي هؤلاء الكفار المكذبون المستكبرون لا يدخلونها بحال من الأحوال ولهذا علقه بالمستحيل وقال (حتى يلج الجمل في سم الخياط) الولوج الدخول بشدة وخص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لكونه يضرب به المثل في كبر الذات وعظم الجرم عند العرب، فجسمه من أعظم الأجسام، وخص سم الخياط وهو ثقب الإبرة بالذكر لكونه غاية في الضيق وأضيق المنافذ، وهو لا يحل فيه أبداً فثبت أن الموقوف على المحال محال، فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعاً، والجمل الذكر من الإبل، والجمع جمال وأجمال وجمالات، وإنما يسمى جملاً إذا أربع.
وقرأ ابن عباس الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة وهو حبل السفينة الذي يقال له القلس وهو حبال مجموعة قاله ثعلب، وقيل الحبل الغليظ من القنب، وقيل الحبل الذي يصعد به في النخل.
وقرأ ابن مسعود حتى يلج الجمل الأصغر، وقرئ سم بالحركات الثلاث لكن السبعة على الفتح والضم لغة لأهل العالية والكسر لغة لبني تميم وجمعه سمام، وكل ثقب ضيق فهو سم، وقيل كل ثقب في البدن أو أنف أو أذن فهو سم وجمعه سموم، والسم القاتل سمي بذلك للطفه وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدر ثم أريد به معنى الفاعل لدخوله باطن البدن والسم ثقب لطيف ومنه ثقب الإبرة.
والخياط ما يخاط به يقال خياط ومخيط قاله الفراء، والمراد به الإبرة في هذه الآية، قال بعض أهل المعاني: لما علق الله دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفياً لدخولهم الجنة على التأبيد، وذلك أن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز، وهذا كقولك لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار.
(وكذلك نجزي المجرمين) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي جنس من أجرم وقد تقدم تحقيقه.
358
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢)
359
(لهم) أي للذين كذبوا واستكبروا فهذا بيان لجزاء آخر لهم غير الجزاء السابق (من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) المهاد الفراش والغواش جمع غاشية أي نيران تحيط بهم من تحتهم وتغشاهم من فوقهم كالأغطية قاله ابن عباس: الغواش اللحف، وبه قال القرظي والضحاك والسدي.
(وكذلك نجزي الظالمين) أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من اتصف بصفة الظلم وذكر الجرم في حرمان الجنة والظلم في دخول النار تنبيهاً على أن الظلم أعظم الإجرام.
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم من وحي الله وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه.
(لا نكلف نفساً إلا وسعها) أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدرون عليه ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم، وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر، ومثله (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) قال الزجاج: الوسع ما يقدر عليه ولا يعجز عنه، وغلط من قال أن الوسع بذلك المجهود.
(أولئك) إشارة إلى الموصول مبتدأ وخبره (أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
(ونزعنا ما في صدورهم من غل) هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع ما في قلوبهم من غل بعضهم على بعض حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضاًَ، فإن الغل لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا لكان في ذلك تنغيص لنعم الجنة لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهما عيش مع وجود الآخر.
والمعنى خلقناهم في الجنة على هذه الحالة وليس المراد إنهم دخلوا الجنة بما ذكر ثم نزع منهم فيها بل المراد أنهم دخلوها مطهرين منه، قاله أبو حيان والغل الحقد الكامن في الصدور، وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل المنازل قال علي بن أبي طالب: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية.
(تجري من تحتهم الأنهار) أي من تحت قصورهم قد تقدم تفسيره مراراً (وقالوا) عند الاستقرار في منازلهم (الحمد لله الذي هدانا لهذا) الجزاء العظيم وهو الخلود في الجنة ونزع الغل من صدورهم والهداية هذه لهذا هي الهداية المسببة من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا (وما كنا لنهتدي) نطيق لهذا الأمر جملة موضحة واللام لتوكيد النفي (لولا أن هدانا الله) جملة مستأنفة أو حالية.
أخرج النسائي وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله
360
فتكون حسرة عليهم، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله فهذا شكرهم (١).
(لقد جاءت رسل ربنا بالحق) اللام لام القسم قالوا هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم اغتباطاً بما صاروا فيه بسبب ما تقدم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه.
(ونودوا أن تلكم الجنة) أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقيل لهم ذلك، والمنادي هو الله وقيل الملائكة وقيل هذا النداء يكون في الجنة.
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا ولا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وان لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل يعني هذه الآية أخرجه مسلم (٢).
(اورثتموها) أعطيتموها بدلاً من أهل النار، وهو حال من الجنة، وسماها ميراثاً لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة حصلت لكم بلا تعب (بما كنتم تعملون) أي أورثتم منازلها بعملكم قال في الكشاف بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى.
أقول يا مسكين هذا قاله رسول الله - ﷺ - فيما صح عنه: سددوا وقاربوا
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٤٣٩٠.
(٢) مسلم ٢٨٥٠.
361
واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته (١)، والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلاً، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة.
وفي التنزيل (ذلك الفضل من الله) وفيه (فسيدخلهم في رحمة منه وفضل) وفي فتح الباري المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبل والقبول إنما يحصل من الله تفضلاً.
وفي القرطبي وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته ودخلوها برحمته إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل منه عليهم انتهى (٢).
_________
(١) روى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: " يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنه والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة. فوالذى نفسي بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا " رواه " البخاري " ٥/ ٧٠، و١١/ ٣٤٦ " بشرح الفتح "، و " الطبرى " ١٤/ ٣٨ قال الحافظ ١١/ ٣٤٦: قوله: " والذى نفس محمد بيده " هذا ظاهره أنه مرفوع كله، وكذا في سائر الروايات، إلا في رواية عفان عند الطبرى، قال: فإنه جعل هذا من كلام قتادة، فقال بعد قوله: " في دخول الجنه " قال: وقال قتادة: " والذي نفسى بيده لأحدهم أهدى... " الخ وفي رواية شعيب ابن إسحاق بعد قوله: " في دخول الجنة " قال: فوالذى نفسي بيده... الخ فأبهم القائل، فعلى رواية عفان يكون هو قتادة، وعلى رواية غيره يكون هو النبي - ﷺ - وزاد محمد بن المنهال عند الإسماعيلى: قال قتادة: كان يقال: ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من جمعتهم، وهكذا عند عبد الوهاب وروح. وفي رواية بشر ابن خالد وعفان جميعاً عند الطبرى قال: وقال بعضهم.. فذكره، وكذا في رواية شعيب بن إسحاق، ويونس ابن محمد، والقائل: وقال بعضهم: هو قتادة، ولم أقف على تسمية القائل.
(٢) مسلم ٢٨١٨ - البخاري ٢٤٢٧.
362
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥)
363
(ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، يقول أهل الجنة يا أهل النار، وهذه المناداة لم تكن لقصد الأخبار لهم مما نادوهم به بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم (أن قد وجدنا) هو نفس النداء أي إنا قد وصلنا إلى (ما وعدنا ربنا حقاً) أي ما وعدنا الله به من النعيم على ألسنة رسله (فهل وجدتم) أي وصلتم إلى (ما وعد) به (ربكم حقاً) أي من العذاب الأليم، والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ.
(قالوا نعم) وجدنا ذلك حقاً، وظاهر الآية يفيد العموم، والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا (فأذن مؤذن) أي فنادى مناد (بينهم) أي بين الفريقين قيل المنادي هو من الملائكة، وقيل إنه إسرافيل ذكره الواحدي، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي - ﷺ - لما وقف على قليب بدر تلا هذه الآية (أن لعنة الله على الظالمين) أي يقول المؤذن هذا القول.
ثم فسر الظالمين من هم فقال
(الذين يصدون عن سبيل الله) الصد المنع أي يمنعون الناس عن سلوك سبيل الحق (ويبغونها عوجاً) أي يطلبون إعوجاجها أي ينفرون الناس عنها ويقدحون في استقامتها بقولهم إنها غير حق وإن الحق ما هم فيه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً بالفتح ما كان في المنتصب كالرمح والحائط (وهم بالآخرة كافرون) أي جاحدون منكرون لها.
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
(وبينهما حجاب) أي حاجز بين الفريقين أو بين الجنة والنار والحجاب هو السور المذكور في قوله تعالى (فضرب بينهم بسور) (وعلى الأعراف) جمع عرف وهو كل مرتفع من الأرض وهي هنا شرفات السور المضروب بينهم، ومنه عرف الفرس، وعرف الديك لارتفاعه على ما سواه من الجسد، سمي بذلك لأنه بسبب ارتفاعه صار أعرف وأبين مما انخفض، والأعراف في اللغة المكان المرتفع.
وهذا الكلام خارج مخرج المدح كما في قوله (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) عن حذيفة قال: الأعراف سور بين الجنة والنار وبه قال مجاهد، وقال ابن عباس: هو الشيء المشرف، وقال سعيد بن جبير: الأعراف جبال بين الجنة والنار فهم على إعرافها أي على ذراها.
وقيل: إنها تلّ بينهما حبس عليه ناس من أهل الذنوب، وعن ابن جريج قال: زعموا أنه الصراط، وقال ابن عباس أيضاً: سور له عرف كعرف الديك وقيل الأعراف هو نفس الحجاب عبر عنه تارة بالحجاب وتارة بالأعراف قاله الواحدي، ولم يذكر غيره ولذلك عرف الأعراف لأنه عنى به الحجاب.
وقال القرطبي: الأعراف جبل أحد يوضع هناك، وذكر الزهراوي حديثاً فيه ما ذكر (رجال) من أفاضل المسلمين أو من آخرهم دخولاً في الجنة أو من لم يرض عنه أحد أبويه.
وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف من هم، على ثلاثة عشر قولاً
364
ذكر الخازن منها ثمانية وزاد عليه القرطبي خمسة فقيل هم الشهداء ذكره القشيري وشرحبيل بن سعد، وقيل هم فضلاء المؤمنين فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس، ذكره مجاهد وقيل هم قوم أنبياء ذكره الزجاج وحكاه ابن الأنباري.
وقيل هم قوم استوت حسناتهم وسيآتهم قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل هم العباس وحمزة وعلي وجعفر الطيار يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها، حكى ذلك عن ابن عباس وقيل هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة، واختار هذا القول النحاس، وقال هو من أحسن ما قيل فيهم وقيل هم أولاد الزنا روى ذلك القشيري عن ابن عباس.
وقيل هم أطفال المشركين وقال مجاهد هم قوم صالحون فقهاء علماء، وقيل هم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين عن المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، ذكره أبو مجلز وضعفه الطبري وقال: إن لفظ الرجال في لسان العرب لا يطلق إلا على المذكور من بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق.
وفي هذه الأقوال ما يدل على أن أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله تعالى، وفيها ما يدل على أنهم أفضل من أهل الجنة وأعلى منهم منزلة، وليس في الباب ما يقطع به من نص جلي وبرهان نير.
وقال حذيفة: أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار وهم آخر من يدخل الجنة قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار، وقيل هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم.
365
وذكر ابن الجوزي أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو أمهاتهم دون آبائهم، ورواه عن إبراهيم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمر قال: سئل رسول الله ﷺ عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم، قال ابن كثير وهذا مرسل حسن (١).
وأخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجمع الناس يوم القيامة فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، ويؤمر بأهل النار إلى النار ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون؟ قالوا ننتظر أمرك فيقال لهم إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوا بمغفرتي ورحمتي.
وعن عبد الرحمن المزني قال سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله، ومنعهم من الجنة معصيتهم آباءهم (٢) أخرجه البيهقي والطبراني وسعيد بن منصور وابن منيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم، وروي بطرق عن جماعة من الصحابة نحوه مرفوعاً فإن ثبت الرفع فالمصير إليه متعين ولا قول لأحد بعده والله أعلم.
(يعرفون كلاًّ بسيماهم) السيما العلامة أي يعرفون كلاًّ من أهل الجنة والنار بعلاماتهم كبياض الوجوه وسوادها أو مواضع الوضوء من المؤمنين أو علامة
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢١٦.
(٢) ابن كثير ٢/ ٢١٦.
366
يجعلها الله لكل فريق في ذلك الموقف يعرف رجال الأعراف بها السعداء من الأشقياء، قال السدي: إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس أي زيادة على معرفتهم بكونهم في الجنة وكونهم في النار (١).
(ونادوا) أي نادى رجال الأعراف (أصحاب الجنة) حين رأوهم (أن سلام عليكم) أي نادوهم بقولهم هذا تحية لهم وإكراماً وتبشيراً أو أخبروهم بسلامتهم من العذاب والآفات (لم يدخلوها) أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف ولا محل له لأنه استئناف (وهم يطمعون) أي والحال يطمعون في دخولها، وأنهم قيل معنى يطمعون يعلمون أنهم يدخلونها وذلك معروف عند أهل اللغة أي طمع بمعنى علم ذكره النحاس، وهذا القول أعني كونهم أهل الأعراف مروي عن جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود، وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة أي إن أهل الأعراف قالوا لهم سلام عليكم حال كون أهل الجنة لم يدخلوها، والحال أنهم يطمعون في دخولها، قال الحسن ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة
يريدها بهم.
_________
(١) قال القرطبي: روى القشيري عن ابن عباس في قوله عز وجل: " وعلى الأعراف رجال " قال: الأعراف موضع عالٍ على الصراط، عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين، رضي الله عنهم، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه. وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة. واختار هذا القول النحاس، وقال: وهو من أحسن ما قيل فيه؛ فهم على السور بين الجنة والنار. وقال الزجاج: هم قوم أنبياء. وقيل: هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم.
وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف؛ لأن مذهبه أنهم مذنبون. وقيل: هم أولاد الزنى.
367
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
368
(وإذا صرفت أبصارهم) أي أبصار أهل الأعراف لا عن قصد لأن المكروه لا ينظر إليه الإنسان قصداً في العادة (تلقاء أصحاب النار) أي وجاههم وحيالهم، وأصل معنى تلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة ولم يأت مصدر على تفعال بكسر أوله غير مصدرين أحدهما هذا والآخر تبيان، وما عداهما بالفتح وزاد بعضهم الزلزال.
(قالوا) أي أهل الأعراف إذا نظروا إليهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) سألوا الله أن لا يجعلهم منهم.
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً) من الكفار كانوا عظماء في الدنيا (يعرفونهم بسيماهم) أي بعلاماتهم (قالوا ما أغنى عنكم جمعكم) الذي كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا للصد عن سبيل الله، والاستفهام للتقريع والتوبيخ (و) ما أغنى عنكم (ما كنتم تستكبرون) أي استكباركم عن الإيمان شيئاً.
(أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) هذا من كلام أصحاب الأعراف أي قالوا للكفار مشيرين إلى المسلمين الذين صاروا إلى الجنة هذه المقالة، وقد كان الكفار يقسمون في الدنيا عند رؤيتهم لضعفاء المسلمين بهذا القسم، وهذا تبكيت للكفار وتحسير لهم (أدخلوا الجنة) بفضلي ورحمتي (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) هذا تمام كلام أصحاب الأعراف أي قالوا للمسلمين أدخلوا الجنة فقد انتفى عنكم الخوف والحزن بعد الدخول.
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠)
(ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) من الطعام قاله السدي والإفاضة التوسعة، يقال أفاض عليه نعمة ويتضمن أفيضوا معنى القوا وأو بمعنى الواو لقوله حرمهما أو هي على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين إما تخييراً أو إباحة أو غير ذلك مما يليق بهما. وعلى هذا تقديره حرم كلاً منهما أو كليهما كما سيأتي، والمعنى طلبوا منهم أن يواسوهم بشيء من الماء أو بشيء مما رزقهم الله من غيره من الأشربة والأطعمة.
(قالوا) أي فأجابوا بقولهم (إن الله حرمهما) أي حرم الماء وما رزقنا (على الكافرين) ومنعهما فلا نواسيكم بشيء مما حرمه عليكم، والتحريم مستعمل في لازمه لانقطاع التكليف حينئذ، قيل إن هذا النداء كان من أهل النار بعد دخول أهل الأعراف الجنة.
قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه فيقول يا أخي اغثني فإني قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال أجبه فيقول إن الله حرمهما على الكافرين، وقال ابن زيد: يستسقونهم ويستطعمونهم وإن الله حرمهما أي طعام الجنة وشرابها وهو تحريم منع (١).
_________
(١) في هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ فقال: الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة " أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله "؟. وروى أبو داود أن سعداً أتى النبي ﷺ فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: " الماء ". وفي رواية: فحفر بئراً فقال: " هذه لأم سعد "، وعن أنس قال، قال سعد: يارسول الله، إن أم سعد كانت تحب الصدقة، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: " نعم وعليك بالماء ".
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١)
(الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا) قد تقدم تفسير اللهو واللعب والغرر، وقال ابن عباس: هم المستهزئون وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزئوا به استهزاء بالله عز وجل، وقيل هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب والماء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية، وقيل معنى دينهم عيدهم اتخذوه لهواً ولعباً لا يذكرون الله فيه.
(فاليوم ننساهم) أي نتركهم في النار، وقال مجاهد: نؤخرهم جياعاً عطاشاً والمعنى نفعل بهم فعل الناسي بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركاً كلياً، والفاء فصيحة وكثر مثل هذه الاستعارة في القرآن لأن تعليم المعاني التي في عالم الغيب لا يمكن أن يعبر عنها إلا بما يماثلها من عالم الشهادة.
(كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي كما تركوا العمل للقاء هذا اليوم قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وقال ابن عباس أيضاً: نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر، وسمى جزاء نسيانهم بالنسيان مجازاً لأن الله لا ينسى شيئاً.
(وما كانوا بآياتنا يجحدون) أي ينكرونهما.
370
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
371
(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم) أي عالمين بتفصيله حال كونه (هدى ورحمة لقوم يؤمنون) المراد بالكتاب الجنس إن كان الضمير للكفار جميعاً، وإن كان للمعاصرين للنبي صلى لله عليه وآله وسلم فالمراد به القرآن، والتفصيل التبيين أي ما بيناه بالأخبار والوعد والوعيد، وكذا بقية الأنواع التسعة التي نظمها بعضهم في قوله:
حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل
وقال السمين المراد بتفصيله إيضاح الحق من الباطل أو تنزيله في فصول مختلفة كقوله (وقرآناً فرقناه) وقرئ فضلناه من التفضيل أي على غيره من الكتب السماوية.
(هل ينظرون) النظر الانتظار أي ما ينتظرون أهل مكة (إلا تأويله) أي ما وعدوا به في الكتاب من العقاب الذي يؤل الأمر إليه، وقيل تأويله جزاؤه، وقيل عاقبة ما فيه والمعنى متقارب.
(يوم يأتي تأويله) وهو يوم القيامة (يقول الذين نسوه) أي التأويل وتركوا العمل بالقرآن (من قبل) أي قبل أن يأتي تأويله (قد جاءت رسل ربنا بالحق) الذي أرسلهم الله به إلينا (فهل لنا من شفعاء) استفهام ومعناه التمني، ومن زائدة (فيشفعوا لنا) جواب الاستفهام والمعنى هل لنا شفعاء يخلصونا مما نحن فيه من العذاب.
371
(أو) هل (نرد) إلى الدنيا (فنعمل) صالحاً (غير الذي كنا نعمل) من المعاصي فبدل الكفر بالإيمان والتوحيد والمعاصي بالطاعة والإنابة فيقال لهم في جواب الاستفهامين (قد خسروا أنفسهم) أي صاروا إلى الهلاك ولم ينتفعوا بها فكانت بلاء عليهم ومحنة لهم فكأنهم خسروها كما يخسر التاجر رأس ماله وقيل خسروا النعيم وحظ الأنفس.
(وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي افتراءهم أو الذي كانوا يفترونه من دعوى الشريك والمعنى أنه بطل كذبهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكاً لله فلم ينفعهم ولا حضر معهم وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
372
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)
(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض) هذا نوع من بديع صنع الله وجليل قدرته وتفرده بالإيجاد الذي يوجب على العباد توحيده وعبادته وأصل الخلق في اللغة التقدير، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل سبق ولا ابتداء تقدم، فمعنى الآية أنشأ خلقهما وقدر أحوالهما (في ستة أيام) اليوم عبارة عن مقدار من الزمان وهو من طلوع الشمس إلى غروبها.
قيل هذه الأيام من أيام الدنيا وقيل من أيام الآخرة، قال ابن عباس: كل يوم مقداره ألف سنة وبه قال الجمهور وهذه الأيام الستة أولها الأحد وآخرها الجمعة، وبه قال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير والطبري وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور.
وقال سعيد بن جبير تعليماً لخلقه التثبت كما في الحديث التأني من الله والعجلة من الشيطان أو خلقها لكون كل شيء له عنده أجل، وفي آية أخرى (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) وحديث: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء الخ رواه مسلم والحاكم عن ابن عباس (١).
لكن يشكل على هذا التوزيع أنه لم يكن ثم أيام لعدم الشمس والقمر حينئذ ولا يتعين الأحد ولا غيره من الأيام إلا بوجودها بالفعل، ذكره سليمان
_________
(١) مسلم/٢٧٨٩.
373
الجمل. وقال والجواب بقوله (أي في قدرها) لا يدفع هذا الإشكال كما لا يخفى.
(ثم استوى على العرش) قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولاً وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف بل على الوجه الذي يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه.
والاستواء في لغة العرب هو العلو والاستقرار، قال الجوهري: استوى على ظهر دابته أي استقر واستوى إلى السماء أي صعد، واستوى أي استولى وظهر وبه قال المعتزلة وجماعة من المتكلمين: واستوى الرجل أي انتهى شبابه واستوى أي: اتسق واعتدل.
وحكي عن أبي عبيدة أن معنى استوى هنا علا وارتفع، وللشوكاني رسالة مستقلة في إثبات إجراء الصفات على ظواهرها منها صفة الاستواء، ولشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني والحافظ الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزي إلمام تام بمسألة الاستواء هذه وإثبات الفوقية والعلو له تعالى على خلقه ولهما في ذلك رسائل مستقلة ما بين مطولة منها ومختصرة، وكتاب العلو للحافظ الذهبي فيه جميع ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث وغيرها، وقد أوضحت هذا المقام في كتابي الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح.
وعن أم سلمة قالت: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود له كفر، أخرجه ابن مردويه وعن مالك بن أنس نحوه وزاد والسؤال عنه بدعة، قال النسفي وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل انتهى.
وأقول يا مسكين أما شعرت أن العرش في اللغة هو السرير، والاستواء هو الاستقرار وبه فسره حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس كما في البخاري
374
وليس في ذلك تشبيه أصلاً إنما التشبيه في بيان الكيفية بل الإنكار عن ذلك تعطيل يخالف مذهب سلف الأمة وأئمتها، وهو إمرار الصفات كما جاءت وإجراؤها على ظواهرها بلا تكييف ولا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، ويعالج التشبيه بكلمة إجمالية ليس كمثله شيء.
والعرش قال الجوهري هو سرير الملك، وقيل هو ما علا فأظل، وسمي مجلس السلطان عرشاً اعتباراً لعلوه ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز.
ويطلق على معان أخر منها عرش البيت سقفه وعرش البئر طيها بالخشب وعرش السماك أربعة كواكب صغار.
وعبارة الخفاجي العرش هو فلك الأفلاك إما حقيقة لأنه بمعنى المرتفع أو استعارة من عرش الملك وهو سريره ومنه ورفع أبويه على العرش، أو بمعنى الملك بضم الميم وسكون اللام، ومنه ثل عرشه إذا انتقض ملكه واختل انتهى.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما وهو المراد هنا، قال الراغب: وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له، تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب.
قيل والمراد به هنا هو الجسم النوراني المرتفع على كل الأجسام المحيطة بكلها.
(يغشي الليل النهار) أي يجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه قرئ يغشي بالتشديد والتخفيف وهما لغتان، يقال أغشى يغشي غشي يغشي والتغشية في الأصل إلباس الشيء الشيء، ولم يذكر في هذه الآية يغشي
375
الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله (سرابيل تقيكم الحر) أو لدلالة الحال عليه أو لأن اللفظ يحتملهما بجعل الليل مفعولاً أولاً والنهار مفعولاً ثانياً أو بالعكس.
وذكر في آية أخرى يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ذكره الكرخي، والتقدير استوى على العرش مغشياً الليل النهار.
والآية الكريمة من باب أعطيت زيداً عمراً لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشياً ومغشياً فوجب جعل الليل هو الفاعل المعنوي، والنهار هو الفعول من غير عكس.
(يطلبه حثيثاً) أي حال كون الليل طالباً للنهار طلباً لا يفتر عنه بحال، والحث الحمل على فعل الشيء كالحض عليه والاستعجال والسرعة، يقال ولى حثيثاً أي مسرعاً، والحث والحض أخوان يقال حثثت فلاناً فاحتث فهو حثيث ومحثوث وفعله من باب رد.
قال الرازي: إنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة الشديدة وذلك أن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، فإن الإنسان إذ كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. ولهذا قال يطلبه حثيثاً لسرعته وحركته أي يعقبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما بشيء، والجملة حال من الليل لأنه هو المحدث عنه أي يغشي النهار طالباً له أو من النهار أي مطلوباً أو من كل منهما وعليه الجلال.
(والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) أي خلقها حال كونها
376
مسخرات والإخبار عن هذه بالتسخير وهو التذليل لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع إذ ليس هن قادرات بأنفسهن، وإنما يتصرفن على إرادة المدبر لهن على ما أراد منهن.
(ألا) أداة استفتاح و (له) خبر مقدم والمبتدأ (الخلق والأمر) إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له، والخلق المخلوق والأمر كلامه، وهو كن في قوله (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل والتصرف في مخلوقاته.
قال سفيان بن عيينة: الخلق ما دون العرش والأمر فوق ذلك.
واستخرج من هذا المعنى أن كلام الله ليس بمخلوق لأنه فرق بين الخلق والأمر ومن جعل الأمر الذي هو كلامه من جملة ما خلقه فقد كفر. وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم فأخبر أنه هو الخالق المدبر لهذا العالم لا هن وله الأمر المطلق. وليس لأحد أمر غيره، فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه.
(تبارك الله رب العالمين) أي كثرت بركته واتسعت. ومنه بورك الشيء وبورك فيه كذا قال ابن عرفة، وقال الأزهري معناه تعالى وتعاظم، وقيل تمجد وارتفع، وختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق، وقال ابن عباس: معناها جاء بكل بركة، وقيل تقدس وقيل باسمه يتبرك في كل شيء، وقيل معناه ثبت ودام. وفي الجمل تبارك فعل ماض لا يتصرف أي لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل، وقال الزجاج: تبارك من البركة، وهي الكثرة في كل خير.
377
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
(أدعوا ربكم تضرعاً وخفية) أمرهم الله سبحانه بالدعاء وقيد ذلك بكون الداعي متضرعاً بدعائه مخفياً له أي متضرعين بالدعاء مخفين له. أو ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية، وقيل الدعاء هنا بمعنى العبادة والأول أولى.
والتضرع من الضراعة وهي الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية الإسرار به فإن ذلك أقطع لعرق الرياء وأحسم لمادة ما يخالف الإخلاص، وقال الزجاج: تضرعاً يعني تملقاً، وقال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً وقال تعالى (إذ نادى ربه نداء خفياً).
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله - ﷺ - فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله - ﷺ -: أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته (١) والحديث أخرجه الشيخان.
ثم علل ذلك بقوله (إنه لا يحب المعتدين) أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت وفي كل شيء، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولاً أولياً، ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة أو يرفع صوته بالدعاء صارخاً به.
_________
(١) مسلم/٢٧٠٤ - البخاري/١٤٢٣.
قال النووي: أرفقوا بأنفسكم واخْفضُوا أصواتكم.
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
(ولا تفسدوا في الأرض) نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه قليلاً كان أو كثيراً، ومنه قتل الناس وتخريب منازلهم وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم، ومن الفساد في الأرض الكفر بالله والوقوع في معاصيه (بعد إصلاحها) أي بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع قاله الحسن والسدي والضحاك والكلبي، وقيل بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.
(وادعوه خوفاً وطمعاً) فيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفاً وجلاً طامعاً في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعاً بين الخوف والرجاء ظهر بمطلوبه، قال القرطبي: أمرنا الله تعالى بأن يكون العبد وقت الدعاء في حال ترقب وتخوف وأمل في الله حتى يكون الخوف والرجاء للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإذا انفرد أحدهما هلك الإنسان فيدعو الإنسان خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه.
والخوف الانزعاج في الباطن من المضار التي لا يؤمن من وقوعها وقيل توقع مكروه فيما بعد والطمع توقع حصول الأمر المحبوب في المستقبل قال ابن جريج: معناه خوف العدل وطمع الفضل وقيل خوفاً من الرياء وطمعاً في الإجابة.
قال بعض أهل العلم: ينبغي للعبد أن يغلب الخوف حال حياته فإذا جاء الموت غلب الرجاء قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، أخرجه مسلم (١)، والآية الأولى في بيان شرط
_________
(١) مسلم/٢٨٧٧.
379
صحة الدعاء والثانية في بيان فائدة الدعاء.
(إن رحمة الله قريب من المحسنين) هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله.
وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال (قريب) ولم يقل قريبة فقال الزجاج: إن الرحمة مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران، ورجح هذا التأويل النحاس.
وقال النضر بن شميل الرحمة مصدر بمعنى الترحم، وحق المصدر التذكير، وقال الأخفش: أراد: بالرحمة هنا المطر وتذكير بعض المؤنث جائز.
وقال أبو عبيدة: المعنى مكان قريب.
قال علي بن سليمان الأخفش: وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً، وقال الفراء: إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم، وروي عن الفراء أنه قال: في النسب قريبة فلان وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث يقال دارك منا قريب، وفلانة منا قريب، قال الله تعالى: (وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً).
وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال: إن سبيل الذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما، وقيل: إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي جاز في خبرها التذكير، ذكر معناه الجوهري، وأصل الرحمة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في مجرد الرقة وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة. وإذا وصف بها الباري يراد بها الإحسان فقط.
وقيل هي إرادة إيصال الخير والنعمة على عباده، فعلى الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى الثاني من صفات الذات، قال سعيد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ.
380
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
381
(و) قوله (هو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلهيته، ورياح جمع ريح وأصل ريح روح وقرئ " نشراً " بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب أي ذات نشر، وقرئ بضم النون وإسكان الشين وبفتح النون وإسكان الشين.
ومعنى هذه القراآت يرجع إلى النشر الذي هو خلاف الطي، فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة، وقال أبو عبيدة: معناه متفرقة في وجوهها على معنى ينشرها ههنا وههنا.
وقيل هي الريح الطيبة الهبوب تهب من كل ناحية. وقيل يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها، وقال الفراء: النشر الريح اللينة التي تنشر السحاب، وقال ابن الأنباري: هي المنتشرة الواسعة الهبوب، وقرئ بشراً بالموحدة وإسكان الشين جمع بشير أي الرياح تبشر بالمطر ومثله قوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح مبشرات) والمراد بالرحمة المطر أي قدام رحمته.
والمعنى أنه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر، والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة وجمعه الرياح وهي أربعة، الصباء وهي الشرقية تثير السحاب، والدبور وهي الغربية تفرقه، والشمال تجمعه وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي، والجنوب تدرسه وهي قبلية.
عن ابن عمر: أن الرياح ثمان أربع منها عذاب وهي القاصف
381
والعاصف والصرصر والعقيم، وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات قال كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض.
(حتى) غاية لقوله يرسل (إذا أقلت سحاباً ثقالاً) حقيقة أقله جعله قليلاً أو وجده قليلاً ثم استعمل بمعنى حمله، لأن الحامل يستقل ما يحمله، ومنه المقل بمعنى الحامل، واشتقاق لإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً يقال أقل فلان الشيء حمله ورفعه، والسحاب اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث تصح مراعات لفظه ومراعاة معناه، وهو الغيم فيه ماء أو لا سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، والمعنى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً بالماء الذي صارت تحمله.
(سقناه) أي السحاب وفيه التفات عن الغيبة في قوله هو الذي يرسل (لبلد ميت) أي مجدب ليس فيه نبات لعدم الماء، يقال سقته لبلد كذا وإلى بلد كذا، وقيل لأجل بلد ميت، قاله الزمخشري، وجعلها لام العلة ولا يظهر بل هي لام التبليغ كقولك قلت لك.
قال أبو حبان: فرق بين قولك سقت لك مالاً، وسقت لأجلك فإن الأول معناه أوصلته لك وبلغتكه، والثاني لا يلزم منه وصوله إليك، والبلد هو الموضع العامر من الأرض، وقال الأزهري: عامر أو غير عامر خال أو مسكون، والطائفة منها بلدة والجمع بلاد، وزاد غيره والمفازة تسمى بلدة لكونها مسكن الوحش والجن، والبلد يذكر ويؤنث والجمع بلدان.
(فأنزلنا به الماء) أي بالبلد الذي سقناه لأجله قاله الزجاج وابن الأنباري وهذا هو الظاهر، وقيل أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله أو فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء، وقيل: إن الباء هنا بمعنى من أي فأنزلنا منه
382
الماء، وقيل: إنها سببية أي فأنزلنا الماء بسبب السحاب، وقيل يعود على السوق المفهوم من الفعل أي بسبب سوق السحاب وهو ضعيف لعود الضمير على غير مذكور مع إمكان عوده على المذكور.
(فأخرجنا به) أي بالماء أو بذلك البلد الميت، والأول أولى بل لا ينبغي أن يعدل عنه (من كل الثمرات) أي من جميع أنواعها، ومن تبعيضيه أو ابتدائية (كذلك) أي مثل إخراج الثمرات (نخرج الموتى) من القبور يوم حشرهم بعد فنائهم ودروس آثارهم، والتشبيه في مطلق الإخراج من العدم.
وهذا رد على منكري البعث ومحصله أن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس، قادر على إحياء الموتى من قبورهم (لعلكم تذكرون) فتعلمون عظيم قدرة الله وبديع صنعته، وتؤمنون بأنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها، والخطاب لمنكري البعث.
383
(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) أي التربة الطيبة السهلة السمحة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره خروجاً حسناً تاماً وافياً، وخص خروج نبات الطيب بقوله (بإذن ربه) على سبيل المدح والتشريف وإن كان كل من النباتين يخرج بإذنه تعالى، قاله أبو حيان في النهر، والمعنى بمشيئته وعبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة قوله:
(والذي خبث) أي والتربة الخبيثة السبخة (لا يخرج) نباتها (إلا نكداً) أي قليلاً لا خير فيه، وقيل عسراً بمشقة وكلفة، يقال نكد نكداً من باب تعب فهو نكد تعسر، ونكد العيش نكداً اشتد وعسر، وفي القاموس ونكد عيشهم كفرح اشتد وعسر، والبئر قل ماؤها ونكد زيد حاجة عمرو كنصر منعه إياها، ورجل نكد شؤم عسر، وقوم أنكاد ومناكيد والنكد بالضم قلة العطاء ويفتح.
383
وقيل معنى الآية التشبيه، شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، والبليد بالبلد الخبيث ذكره النحاس، وقيل هذا مثل للقلوب فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب، والنابي عنه بالبلد الخبيث قاله الحسن، وقيل هو مثل لقلب المؤمن والمنافق قاله قتادة، وقيل هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم قاله مجاهد.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - ﷺ - إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به " (١) أخرجاه في الصحيحين، وليس في هذا ما يدل على أنه السبب في نزول الآية.
(كذلك) أي مثل ذلك التصريف (نصرف الآيات لقوم يشكرون) الله ويعترفون بنعمته وينتفعون بسماع القرآن.
_________
(١) مسلم/٢٢٨٢ - البخاري/٦٨.
ومعناه أن الناس مثل الأرض.
النوع الأول: من الناس: يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيى قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع.
والنوع الثاني: من الناس: لهم قلوب حافظة ولكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بم أبلغهم.
النوع الثالث: ليس لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية..
384
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٠)
385
(لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) لما بين الله سبحانه كمال قدرته وبديع صنعته في الآيات السابقة ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم لتنبيه هذه الأمة على الصواب، وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة، واللام جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا نوح ابن لمك بن متوشلخ.
ومعنى أرسلنا بعثنا، وكان نوح نجاراً بعثه الله وهو ابن أربعين سنة، وقيل خمسين سنة، وقيل مائتين وخمسين سنة، وقيل ابن مائة سنة وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم.
أخرج أبو حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: [أول نبي أرسل نوح] قال يزيد الرقاشي إنما سمي نوحاً لطول ما ناح على نفسه (١)، وكان اسمه عبد الغفار بن لمك، واختلف في سبب نوحه فقيل لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان وقيل لأنه مر بكلب مجذوم فقال له إخسأ يا قبيح، فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب.
وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون في حد واحد وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازاً للمجاورة، وفي التنزيل (قال يا قوم اتبعوا
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٥٨٢. رواه الديلمي ١/ ١/٩ وابن عساكر ١٧/ ٣٢٦/٢ ومسلم ١/ ٣٢٧
والترمذي/٢٤٣٦ برواية " يا نوح أنت أول الرسل على الأرض " وقال حديث حسن صحيح.
385
المرسلين) وكان مقيماً بينهم ولم يكن منهم، وقيل كانوا قومه قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، وقد تقدم ذكر نوح في آل عمران فأغنى عن الإعادة هنا.
وما قيل: إن إدريس قبل نوح فقال ابن العربي: إنه وهم، قال المازري: فإن صح ما ذكره المؤرخون كان محمولاً على أن إدريس كان نبياً غير مرسل.
(فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أي اعبدوه لأنه لم يكن لكم إله غيره حتى يستحق منكم أن يكون معبوداً (إني أخاف عليكم) إن عبدتم غيره (عذاب يوم عظيم) جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الطوفان، وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين وجزم من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعرف وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة.
386
(قال الملأ من قومه) الملأ أشراف القوم ورؤساؤهم، وقيل هم الرجال سموا بذلك لملأتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي أو لأنهم يملؤون العيون أبهة، والصدور هيبة، والجمع إملاء مثل سبب وأسباب وقد تقدم بيانه في البقرة.
(إنا لنراك في ضلال مبين) الضلال العدول عن طريق الحق والذهاب عنه يقال ضل الرجل الطريق وضل عنه يضل من باب ضرب ضلالاً وضلالة زل عنه فلم يهتد إليه فهو ضال هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله: [إن ضللت فإنما أضل على نفسي]، وفي لغة لأهل العالية من باب تعب.
والأصل في الضلال الغيبة ومنه قيل للحيوان الضائع ضالة بالهاء للمذكر والمؤنث، والجمع الضوال مثل دابة ودواب أي إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق وخطأ وزوال عنه بين، والرؤية قلبية.
386
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٢)
387
(قال يا قوم ليس بي ضلالة) كما تزعمون، وهي أعم من الضلال فنفيها أبلغ من نفيه (ولكني رسول) جاءت لكن هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين، ضلال وهدى، والرسالة لا تجامع الضلال.
و (من رب العالمين) صفة لرسول، ومن لابتداء الغاية المجازية أي أرسلني لسوق الخير إليكم ودفع الشر عنكم، نفى عن نفسه الضلالة وأثبت لها ما هو أعلى منصب وأشرف رفعة وهو أنه رسول الله إليهم.
(أبلغكم رسالات ربي) جمع الرسالة لاختلاف أوقاتها ولتنوع معانيها أو لأن المراد بها المرسل به، وهو يتعدد أي ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه (وأنصح لكم) يقال نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام دلالة على المبالغة في امحاض النصح، قال الأصمعي: الناصح الخالص من الغل وكل شيء خالص فقد نصح، فمعنى أنصح هنا أخلص النية لكم عن شوائب الفساد والاسم النصيحة، وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير، وقيل إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك أو النهاية في صدق العناية.
(و) جملة (أعلم من الله ما لا تعلمون) مقررة لرسالته ومبينة لمزيد علمه وأنه يختص بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك، ومنها قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه، وإن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين.
387
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦)
388
(أوعجبتم) الاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قبل استبعدتم أو أكذبتم أو أنكرتم وعجبتم من (أن جاءكم ذكر) أي وحي ورسالة أو موعظة (من ربكم) والمراد به الكتاب الذي أنزل على نوح وقبل المعجزة التي جاء بها نوح، والأول أولى (على) لسان (رجل منكم) أي من جنسكم تعرفونه ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه أو لا تعرفون لغته، وقيل على بمعنى مع، قال الفراء.
(لينذركم) به علة للمجيء (ولتتقوا) ما يخالفه. علة ثانية مرتبه على العلة قبلها (ولعلكم ترحمون) بسبب ما يفيده الإنذار لكم، والتقوى منكم من التعرض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم. وهي علة ثالثة مرتبة على التي قبلها، وهذا الترتيب في آية من الحسن لأن المقصود من الإرسال الإنذار ومن الإنذار التقوى ومن التقوى الفوز بالرحمة.
(فكذبوه) أي فبعد ذلك كذبوه ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار، واستمروا على تكذيبه في دعوى النبوة وما نزل عليه من الوحي الذي بلغه إليهم (فأنجيناه) من الطوفان والغرق (والذين معه) من المؤمنين به المستقرين معه، قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة؛ وقيل كانوا تسعة. أبناؤه الثلاثة وستة من غيرهم (في الفلك) أي السفينة؛ روي أنه اتخذها في سنتين وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر محرم؛ والفلك واحد وجمع تذكر وتؤنث.
388
(وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) أي استمروا على ذلك ولم يرجعوا إلى التوبة (إنهم كانوا قوماً عمين) عن الحق وفهمه قاله مجاهد أي لكونهم عمي القلب لا ينجع فيهم الموعظة ولا يفيدهم التذكير، قال ابن عباس عمين كفاراً.
قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان يقال رجل عم في البصيرة؛ وأعمى في البصر، قاله الليث: وقيل هما بمعنى، وقال مقاتل: عموا عن نزول العذاب بهم وهو الغرق، وعمين جمع عم صفة مشبهة لكن تصرف فيه بحذف لامه كقاض إذا جمع فأصله عميين.
قال بعضهم: عم فيه دلالة على ثبوت الصفة واستقرارها كفرح وضيق، ولو أريد الحدوث لقيل عام كما يقال فارح وضائق، وقد قرئ عامين حكاها الزمخشري
389
(و) أرسلنا (إلى) قوم (عاد) وهو من ولد سام بن نوح قيل هو عاد بن عوص بن أرم بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وهي عاد الأولى.
وعاد الثانية قوم صالح، وهم ثمود، وبينهما مائة سنة (أخاهم) أي واحداً من قبيلتهم أو صاحبهم، وسماه أخاً لكونه ابن آدم مثلهم، قاله الزجاج والعرب تسمى صاحب القوم أخاهم (هوداً) هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص المذكور قاله السيوطي في التحبير.
وقال ابن إسحق: هو هود بن شالخ المذكور. والأول أولى واشتهر في ألسنة النحاة أن هوداً عربي وفيه نظر لأن الظاهر من كلام سيبويه لما عده مع نوحٍ ولوط أنه أعجمي. وكان بينه وبين نوح ثمانمائة سنة، وعاش أربعمائة وأربعاً وستين سنة.
وصرح هنا بتعيين المرسل إليهم دون ما سبق في نوح وما سيأتي في لوط لأن المرسل إليهم إذا كان لهم اسم قد اشتهروا به ذكروا به وإلا فلا. وقد امتازت عاد وثمود ومدين بأسماء مشهورة.
389
قال الربيع بن خثيم: كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر، وقيل كانت منازل عاد بالأحقاف باليمن، والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت.
وقال وهب: كان الرجل من عاد ستين ذراعاً بذراعهم، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع. وكذلك مناخرهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً، وعن ابن عباس: كان الرجل منهم ثمانين باعاً، وكانت البرة فيهم ككيلة البقرة والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر. ولا تخلو هذه الأقاويل عن ضعف وبعد.
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ولم يقل هنا فقال كما قال في قصة نوح لأن الفاء تدل على التعقيب وكان نوح مواظباً على دعوة قومه غير متوان فيها، وكان هود دون نوح في المبالغة في الدعاء، وقيل هذا على تقدير سؤال سائل قال فما قال لهم هود فقيل قال يا قوم.
(أفلا تتقون) استبعاد وإنكار أي أفلا تخافون ما نزل بكم من العذاب.
وقال في سورة هود أفلا تعقلون، ولعله خاطبهم بكل منهما وقد اكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر ههنا ما ذكر هناك من قوله (إن أنتم إلا مفترون) وقس على ذلك حال بقية ما ذكر وما لم يذكر من أجزاء القصة، بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة والله أعلم قاله أبو السعود.
390
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
391
(قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة) هي الخفة والحمق، وقد تقدم بيانه في البقرة نسبوه إلى الخفة والطيش وقلة العقل والجهالة ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا (وإنا لنظنك من الكاذبين) مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة.
(قال يا قوم ليس بي سفاهة) كما تدعون (ولكني رسول من رب العالمين) إليكم، استدرك على ما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في الغاية القصوى من الرشد، فإن الرسالة من جهة رب العالمين موجبة لذلك فكأنه قيل ليس بي شيء مما تنسبوني إليه ولكني في غاية من الرشد والصدق، ولم يصرح بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك، ومن لابتداء الغاية، وقد تقدم بيان معنى هذا قريباً وكذا سبق تفسير قوله.
(أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح) فيما آمركم به من عبادة الله وترك عبادة ما سواه (أمين) هو المعروف بالأمانة والثقة على ما ائتمن عليه وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها، وفي إجابة الأنبياء من ينسبهم إلى السفاهة والضلال بما أجابوه به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، أدب حسن وخلق عظيم وتعليم من الله لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيال حلمهم على ما يكون منهم. ونحوه قوله تعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
391
وأتى هود بالجملة الاسمية ونوح بالفعلية حيث قال: وأنصح لكم وذلك لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة وكان نوح يكرر في دعائهم ليلاً ونهاراً من غير تراخ. فناسب التعبير بالفعل وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت، فلهذا عبر بالاسمية.
392
(أوعجبتم) من (أن جاءكم ذكر من ربكم على) لسان (رجل منكم لينذركم) بأس ربكم ويخوفكم عقابه، وقد سبق تفسيره (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) أي جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها أذكرهم الله نعمة من نعمه عليهم أو جعلهم ملوكاً. جعل الذكر للوقت والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة، لأن الشيء إذا كان وقته مستحقاً للذكر فهو مستحق له بالأولى.
(وزادكم في الخلق بسطة) أي طولاً في الخلق وعظم جسم وقوة زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان، وقيل بسطة أي شدة قاله ابن عباس، وعن أبي هريرة قال: كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.
قال السدي والكلبي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستين، وقيل سبعين ذراعاً وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد وفيها كما تقدم.
(فاذكروا آلاء الله) أي نعمه عليكم جمع إلى بكسر الهمزة وسكون اللام كحمل وأحمال أو إلى بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال، أو إلى بكسر الهمزة وفتح اللام كضلع وأضلاع وعنب وأعناب أو إلى بفتحهما كقفا وأقفاء ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم، وكرر التذكير لزيادة التقرير (لعلكم تفلحون) إن تذكرتم ذلك لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها ومن شكر فقد أفلح.
392
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١)
393
(قالوا) في جواب نصحه لهم (أجئتنا لنعبد الله وحده) هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله، وإنما كان هذا مستنكر عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه فلذا قالوا (ونذر ما كان يعبد آباؤنا) أي نترك الذي كانوا يعبدونه من الأصنام وهذا داخل في جملة ما استنكروه وهكذا يقول المقلدة لأهل الاتباع، والمبتدعة لأهل السنة.
(فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به لشدة تمردهم على الله ونكوصهم عن طريق الحق وبعدهم عن اتباع الصواب.
(قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكر أئمة المعاني والبيان، وقيل معنى وقع وجب والرجس العذاب، وقيل السخط، وقيل هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر.
ثم استنكر ما وقع منهم من المجادلة فقال (أتجادلونني في أسماء) يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها جعلها أسماء عارية لأن مسمياتها لا حقيقة لها بل تسميتها بالآلهة باطل، فكأنها معدومة لم توجد بل الموجود أسماؤها فقط، والاستفهام على سبيل الإنكار.
(سميتموها) أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم (أنتم
393
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
وآباؤكم) ولا حقيقة لذلك (ما نزل الله بها من سلطان) أي حجة تحتجون بها على ما تدعونه لها من الدعاوي الباطلة، ثم توعدهم بأشد وعيد فقال (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب وهو واقع بكم لا محالة ونازل عليكم بلا شك.
394
(فأنجيناه والذين معه برحمة منا) أخبر الله سبحانه أنه نجى هودا ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم يقبل رسالته فالمعية مجاز عن المتابعة.
أخرج ابن عساكر: لما أرسل الله الريح على عاد اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليهم الجلود وتلتذ به الأنفس وأنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض وتدمغه بالحجارة.
(وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء وهو الآخر، وإذا قطع الآخر فقد قطع ما قبله فحصل الاستئصال أي الاستيعاب بالقطع، وقد تقدم تحقيق معناه، والمعنى استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان، وأراد بالآيات المعجزات الدالة على صدقه.
وعن أبي هريرة قال كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة، وعن علي بن أبي طالب قال: قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه
394
سدرة، وعن عثمان بن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود، وقال عبد الرحمن ابن شبابة: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً، وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسمعيل في تلك البقعة. ويروى أن كل نبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله حتى يموتوا بها، والله أعلم بصحة ذلك.
(وما كانوا مؤمنين) مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه السلام، وقد أطال القوم في بيان قصة قومه وهلاكهم، وإجمال القرآن يغني عن تفصيل لا يسند.
395
(وإلى ثمود أخاهم صالحاً) ثمود قبيلة سموا باسم أبيهم وهو ثمود بن عاد ابن رام بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وصالح هو ابن عبيد بن اسف ابن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود، وكانت مساكن ثمود " الحجر " بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد الماء القليل، وكان صالح أخاهم في النسب، لا في الدين وكان بينه وبين هود مائة سنة، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة كما في التحبير.
(قال يا قوم اعبدوا الله) أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً (ما لكم من إله غيره) يستحق أن يعبد سواه وقد تقدم تفسيره في قصة نوح (قد جاءتكم بينة من ربكم) أي معجزة ظاهرة وبرهان جلي وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد، عن أبي الطفيل قال: قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين،
395
قال: أخرجوا فخرجوا إلى هضبة (١) من الأرض فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل ثم أنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها فقال لهم صالح.
(هذه ناقة الله لكم آية) وليس هذا أول خطاب لهم بل بعد ما نصحهم كما قص في سورة هود من قوله (هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها) الآيات، وهذه الآية مشتملة على بيان البينة المذكورة، وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم، وكونها آية على صدق صالح أنها خرجت من صخرة في الجبل لا من ذكر ولا أنثى، وكمال خلقها من غير حمل ولا تدريج وقيل غير ذلك.
(فذروها تأكل في أرض الله) تفريع على كونها آية من آيات الله فإن ذلك يوجب عدم التعرض لها أي دعوها فهي ناقة الله والأرض أرضه، فلا تمنعوها مما ليس لكم ولا تملكونه.
(ولا تمسوها بسوء) أي لا تتعرضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوءها، نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الشامل لأنواع الأذى (فيأخذكم عذاب أليم) أي شديد الألم بسبب عقرها وأذاها ومنعها من الرعي.
_________
(١) الهضبة الجبل المنبسط على وجه الأرض إ هـ منه.
396
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد) أي استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكاً فيها كما تقدم في قصة هود (وبوأكم في الأرض) أي جعل لكم فيها مباءة وهي المنزل الذي تسكنونه أي اسكنكم وأنزلكم في أرض الحجر بكسر الحاء (تتخذون من سهولها قصوراً) أي من سهولة الأرض وهي ترابها تتخذون منه اللبن والآجر ونحو ذلك فتبنون به القصور، وإنما سميت بذلك لقصور الفقراء عن تحصيلها وحبسهم عن نيلها.
(وتنحتون) أي تشقون والنحت نجر الشيء الصلب. وفي القاموس نحته ينحته براه والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به (الجبال بيوتاً) تسكنون فيها، وقد كانوا لقوتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الصخور فيتخذون فيها كهوفاً يسكنون فيها، لأن الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم، قال الضحاك: كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذا كان قوم هود، وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء، وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين (١).
(فاذكروا آلاء الله) عليكم واشكروه عليها (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) العثى والعثو لغتان، قال قتادة معناه لا تفسدو والعثو: أشد الفساد، وقيل أراد به عقر الناقة، وقيل هو على ظاهره فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما غنى عن الإعادة.
_________
(١) قال وهب بن منبه كان الرجل منهم يبني البنيان. فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده وهكذا حتى اتخذوا من الجبال بيوتاً.
397
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦)
398
(قال الملأ الذين استكبروا من قومه) أي الرؤساء المتكبرون من قوم صالح الذين تعظموا عن الإيمان به، والسين زائدة (للذين استضعفوا) أي المساكين الذين استضعفهم المستكبرون، واللام للتبليغ (لمن آمن منهم) بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل إن كان ضمير منهم لقومه وبدل البعض إن كان للذين على أن المستضعفين من لم يؤمن، والأول هو الوجه إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولاً إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم، على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين: أي قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم.
(أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه) إليكم قالوا هذا على طريق الاستهزاء والسخرية (قالوا إنا بما أَرسل به مؤمنون) أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا، مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان وتنبيهاً على أن كونه مرسلاً أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه.
(قال الذين استكبروا) عن أمر الله والإيمان به وبرسوله صالح تمرداً وعناداً (إنا بالذي آمنتم به كافرون) أي جاحدون، وهذه الجمل المعنونة بقال مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة ولم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
(فعقروا الناقة) العقر الجرح (١)، وقيل قطع عضو يؤثر في تلف النفس، يقال عقرت الفرس إذا ضربت قوائمه بالسيف، وقيل أصل العقر كسر عرقوب البعير ثم قيل للنحر عقر، لأن العقر سبب النحر في الغالب وأسند العقر إلى الجميع مع كون العاقر واحداً منهم لأنهم راضون بذلك موافقون عليه وقال عاقر الناقة لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضين فتقول نعم، والصبي حتى رضوا أجمعين فعقروها.
وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى.
قد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه فقيل قدار بن سالف، وكان رجلاً أحمر أزرق يزعمون أنه ابن زانية، ولم يكن لسالف ولكنه ولد على فراشه وكان عزيزاً منيعاً في قومه، وقيل غير ذلك، وفر ولد الناقة هارباً فانفتحت له الصخرة التي خرجت منها أمه فدخلها وانطبقت عليه، وقيل: إنهم أدركوه وذبحوه.
(وعتوا عن أمر ربهم) أي استكبروا يقال عتا يعتو عتواً استكبر وتعتى فلان إذا لم يطع والليل العاتي الشديد الظلمة والمراد بالأمر الحكم (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) من العذاب (إن كنت من المرسلين) هذا استعجال منهم للنقمة وطلب منهم لنزول العذاب وحلول البلية بهم قالوا ذلك استهزاء به وتعجيزاً له.
_________
(١) روى ابن ماجه ٢/ ٩٣٤ عن عمرو بن عبسة: أتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله أي الجهاد أفضل قال: من أهرق دمه وعقر جواده وإسناده ضعيف.
399
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
400
(فأخذتهم الرجفة) أي الزلزلة الشديدة العظيمة قال الزجاج والفراء، يقال رجف الشيء يرجف رجفاناً، وأصله حركة مع صوت ومنه يوم ترجف الراجفة، وقيل كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم، قاله مجاهد والسدي وقيل: إنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم حتى هلكوا، وعلى هذا في الآية كفاية وقد وقع التصريح بها في آية أخرى فكان عذابهم بالرجفة والصيحة فذكر في كل موضع واحدة منهما.
(فأصبحوا في دارهم) أي بلدهم وأرضهم (جاثمين) أي لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر، وأصل الجثوم للأرنب وشبهها، وقيل الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير، وجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال نومه وسكونه بالليل، والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم.
(فتولى عنهم) صالح عند اليأس من إجابتهم وقيل بعد أن ماتوا وهلكوا (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) يحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية الماضية كما وقع من النبي - ﷺ - من التكلم لأهل قليب بدر بعد موتهم، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم، وكأنه كان مشاهداً لذلك فتحسر على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب.
وقيل إنما خاطبهم بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجر عن مثل تلك الطريقة التي كانوا عليها، ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهداً في إبلاغهم
400
الرسالة ومحض النصح، ولكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه فحق عليهم العذاب ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه.
عن قتادة أن صالحاً قال لهم حين عقروا الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام، ثم قال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غدا مصفرة، واليوم الثاني محمرة، واليوم الثالث مسودة، فأصبحت كذلك فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك فتكفنوا وتحنطوا ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم.
وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم (١) وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه.
وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، قيل وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضر موت فلما دخلوها مات صالح فسمي حضر موت، ثم بنوا أربعة آلاف مدينة وسموها حاضوراء، وقال قوم توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.
_________
(١) مسلم ٢٩٨٠ - البخاري ٢٨٤.
401
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)
402
(و) اذكر (لوطاً إذ قال لقومه) أي وقت أن قال لقومه، قال الفراء: لوط مشتق من قولهم هذا أليط بقلبي أي ألصق، وقال الزجاج: ومن زعم أنه من لطت الحوض إذا ملسته بالطين فقد غلط لأن الأسماء العجمية لا تشتق، وقال سيبويه: نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة فلذلك صرفت.
ولوط هو ابن هاران بن تارخ فهو ابن أخي إبراهيم، وليس من أنبياء بني إسرائيل وكانا ببابل بالعراق فهاجرا إلى الشام فنزل إبراهيم أرض فلسطين، ونزل لوط بالأردن وهي قرية بالشام وبعثه الله إلى أمة يقال لها سذوم بالذال المعجمة وهي بلد بحمص.
(أتأتون) الخصلة (الفاحشة) الخسيسة المتمادية في الفحش والقبح وهي أدبار الرجال قاله ابن عباس قال ذلك إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) أي لم يفعلها أحد من قبلكم، فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة، والباء للسببية وقال الزمخشري: للتعدية ومن مزيدة للتوكيد للعموم في النفي، وأنه مستغرق لما دخل عليه، والجملة مسوق لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم، قال عمرو بن دينار: ما نزى ذكر على ذكر في الدنيا إلا ما كان من قوم لوط.
(إنكم لتأتون الرجال) في أدبارهم هذا توبيخ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بأن وباللام واسمية الجملة (شهوة) أي تشتهونهم شهوة أو لأجل الاشتهاء أو مشتهين، يقال شهى يشهى شهوة وشها يشهو شهوة، قال ابن عباس: إنما كان
402
بدأ عمل قوم لوط أن إبليس جاءهم في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جسروا على ذلك.
قرئ إن بهمزة مكسورة وبهمزتين على الاستفهام المقتضى للتوبيخ والتقريع، واختار الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما والثانية الخليل وسيبويه، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاه من الشهوة.
(من دون النساء) أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء اللاتي هن محل لقضاء الشهوة وموضع لطلب اللذة (بل أنتم قوم مسرفون) أي مجاوزون الحلال إلى الحرام يعني من فروج النساء إلى أدبار الرجال. أضرب عن الإنكار المتقدم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة، والمشهور أنه إضراب انتقالي من قصة إلى قصة، وقيل بل للإضراب عن شيء محذوف، قال أبو البقاء: تقديره ما عدلتم بل أنتم الخ وقال الكرماني بل أنتم رد لجواب زعموا أن يكون لهم عذر أي لا عذر لكم بل أنتم.
403
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣)
404
(وما كان جواب قومه) الواقعين في هذه الفاحشة عما أنكره عليهم منها والمستكبرين منهم المتصدين للحل والعقد (إلا أن قالوا) استثناء مفرغ (أخرجوهم) أي لوطاً وأتباعه (من قريتكم) من سذوم بوزن رسول وهي من قرى حمص بالشام، ولم يكن لهم جواب إلا هذا القول المبائن للإنصاف المخالف لما طلبه منهم، وأنكره عليهم.
(إنهم أناس يتطهرون) أي يتنزهون من أدبار الرجال والنساء والتطهر تعليل لما أمروا به من الإخراج ووصفهم بالتطهر يمكن أن يكون على حقيقته، وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة فلا يساكنوننا في قريتنا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء، وقيل أن البعد عن المعاصي والآثام يسمى طهارة فمن تباعد عنهما فقد تطهر.
(فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) أخبر سبحانه أنه أنجى لوطاً وأهله المؤمنين به، وقيل المراد بأهله المتصلون به بسبب النسب أو المراد ابنتاه، واستثنى امرأته من الأهل لكونها لم تؤمن به، والمعنى أنها كانت من الباقين في عذاب الله لأنها كانت كافرة، يقال غبر الشيء إذا مضى وغبر إذا بقي فهو من الأضداد وحكى ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا الماضي عابر بالمهملة، والباقي غابر بالمعجمة.
وقال الزجاج: من الغائبين عن النجاة، وقال أبو عبيد: المعنى من المعمرين وكانت قد هرمت وأتى عليها دهر طويل ثم هلكت، وأكثر أهل اللغة على أن الغابر الباقي، قال سعيد بن أبي عروبة: كان قوم لوط أربعة آلاف ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال..
404
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)
405
(وأمطرنا عليهم مطراً) قيل أمطر بمعنى أرسل المطر وقال أبو عبيد: مطر في الرحمة وأمطر في العذاب وهذا مردود بقوله تعالى (هذا عارض ممطرنا) فإنهم إنما عنوا بذلك الرحمة وهو من أمطر رباعياً ومطر وأمطر بمعنى واحد، والمعنى هنا أن الله أمطر عليه حجارة من سجيل قد عجنت بالكبريت والنار.
(فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) هذا خطاب لكل من يصلح له ولمحمد ﷺ قاله الأصفهاني في تفسيره، وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا، قال مجاهد: نزل جبريل فأدخل جناحه تحت مداين قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم اتبعوا بالحجارة.
(و) أرسلنا (إلى مدين) اسم قبيلة وقيل اسم بلد والأول أولى، وسميت القبيلة باسم أبيهم وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم، وقيل مدين اسم الماء الذي كانوا عليه، وقيل مشترك بينهما.
(أخاهم شعيباً) وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما، وقال الشرفي بن القطامي أنه شعيب بن عيفاء ابن ثويب بن مدين بن إبراهيم، وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وقال ابن إسحق: هو شعيب ابن مكيل بن شجر بن مدين بن إبراهيم، وأم مكيل بنت لوط، وقيل هو شعيب ابن شيرون بن مدين، وقال قتادة: هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن
405
ثابت ابن مدين.
عن عكرمة والسدي قالا ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً مرة إلى مدين، فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة وكان شعيب أعمى، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. وكان قومه أهل كفر وبخس في المكيال والميزان.
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) قد سبق شرحه في قصة نوح (قد جاءتكم بينة من ربكم) قد تبين تفسيره أيضاً ولم يتبين هذه المعجزة في القرآن العظيم كأكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم. وقيل أن المراد بها نفسه، وقيل أن المراد بها قوله (فأوفوا الكيل والميزان) وقيل غير ذلك وأمرهم بإبقاء الكيل والميزان لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن وكانوا لا يوفونهما.
وذكر الكيل الذي هو المصدر وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة واختلف في توجيه ذلك فقيل المراد بالكيل المكيال فيناسب عطف الميزان عليه، وقيل المراد بالميزان الوزن فيناسب الكيل والمعنى أتموهما وأعطوا الناس حقوقهم.
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم) البخس النقص وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وظاهر الآية أنهم كانوا يبخسون في كل الأشياء، وقيل كانوا مكاسين يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم، وقال ابن عباس: لا تبخسوا أي لا تظلموا الناس وبه قال قتادة.
(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) أي بعد أن أصلحها الله ببعثه الرسل وإقامة العدل، قيل كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيباً رسولاً تعمل فيها المعاصي وتستحل فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيباً ودعاهم إلى الله صلحت الأرض، وكل نبي يبعث إلى قوم فهو صلاحهم ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره ودقيقه وجليله.
(ذلكم) إشارة إلى العمل بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه (خير لكم)
406
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧)
المراد بالخيرية هنا الزيادة المطلقة لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن وفي بخس الناس وفي الفساد في الأرض أصلاً (إن كنتم مؤمنين) أي مصدقين بما أقول ومريدين الإيمان فبادروا إليه.
407
(ولا تقعدوا) لهم (بكل صراط) محسوس (توعدون) الصراط الطريق قيل كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه كما كانت قريش تفعله مع رسول الله ﷺ قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وغيرهم وقيل المراد القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها، وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة ويؤيده (وتصدون عن سبيل الله من آمن به) كما سيأتي.
وقيل المراد بالآية النهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم وقيل: إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس فنهوا عن ذلك، والقول الأول أقربها إلى الصواب مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة والمعنى لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس كل مذهب.
(وتصدون عن سبيل الله) أي صادين عنه باغين لها عوجاً والمراد بالصد عنه صد الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه ومنعهم من الوصول إلى شعيب
407
فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبي الله هو سلوك سبيل الله (١).
والضمير في (من آمن به) يرجح إلى الله أو إلى السبيل أو إلى كل صراط أو إلى شعيب (وتبغونها عوجاً) أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة، وقيل معناه تلتمسون لها الزيغ والضلال ولا تستقيمون على طريق الهدى والرشاد، وقد سبق الكلام على العوج، وقال الزجاج: كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام.
(واذكروا) نعمته عليكم (إذ كنتم) أي عددكم أو مالكم أو قوتكم (قليلاً فكثركم) بالنسل والقوة والغناء (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية حين عتوا على ربهم وعصوا رسله فإن الله أهلكهم وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم. وأقربهم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أنزل الله عليهم حجارة من السماء.
_________
(١) وروى عن النبي ﷺ أنه قال: " رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل قال هذا مثل لقوم من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه -ثم تلا- " (ولا تقعدوا بكل صراطٍ توعدون) الآية.
408
(وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به) إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم (وطائفة) منكم (لم يؤمنوا) به (فاصبروا) أي انتظروا (حتى يحكم الله بيننا) وبينكم (وهو خير الحاكمين) أي أعدلهم، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم، وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين ومثله قوله تعالى (فتربصوا إنا معكم متربصون) أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحل بهم من أذى الكفار حتى ينصرهم الله عليهم، وقيل للفريقين وهذا هو الظاهر.
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨)
(قال الملأ الذين استكبروا) أي الأشراف المستكبرون عن الإيمان (من قومه) استئناف بياني كأنه قيل فماذا قالوا بعد سماعهم هذه المواعظ من شعيب (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرد عن الإجابة إلى ما دعاهم اليه، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشراً إلى توعد نبيهم ومن آمن به بالإخراج من قريتهم أو عودهم في ملتهم الكفرية أي لا بد من أحد الأمرين إما الإخراج أو العود.
ومقصودهم الأصلي هو العود، وإنما ذكر النفي والإجلاء لمحض القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه لجواب الإخراج على ما هو ظاهر النظم، وتوسيط النداء باسمه العلمي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان أي والله لنخرجنك وأتباعك، وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم العود بطريق الاختيار وصورة الطواعية.
وكلمة " عاد " لها في لسانهم استعمالان (أحدهما) وهو الأصل أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول (والثاني) استعمالها بمعنى صار، قال السمين: واستشكلوا على كونها بمعناها الأصلي أن شعيباً لم يكن قط على دينهم ولا في ملتهم فكيف يحسن أن يقال أو لتعودن أي ترجعن إلى حالتكم الأولى والخطاب له ولأتباعه.
وقد أجيب عن ذلك بثلاثة أوجه (أحدها) أن هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس على العوام والإيهام لهم أنه كان على دينهم وعلى ملتهم.
الثاني: أن يراد بعوده رجوعه إلى حاله قبل بعثته من السكوت لأنه قبل
409
أن يبعث إليهم كان يخفي إيمانه وهو ساكت عنهم، بريء من معبوداتهم غير الله.
الثالث: تغليب الجماعة على الواحد لأنهم لما أصحبوه مع قومه في الإخراج حكموا عليه وعليهم بالعود إلى الملة تغليباً لهم عليه.
وأما إذا جعلناهم بمعنى صار فلا إشكال في ذلك إذ المعنى لتصيرن في ملتنا بعد أن لم تكونوا، وفي ملتنا حال على الأول، خبر على الثاني، وعدى عاد بفي الظرفية تنبيهاً على أن الملة صارت لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم انتهى.
والأولى ما قال الزجاج يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء يقال عاد إلى من فلان مكروه أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك فلا يرد ما يقال كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً، ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومة المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم والقرية هي مدين وبينها وبين مصر ثمانية مراحل.
(قال أو لو كنا كارهين) الهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود أي أتعيدوننا في ملتكم حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً، والمعنى أنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ولا يصلح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له ولا تعد موافقته مكرهاً موافقة ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً.
وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام.
410
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩)
(قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم) التي هي الشرك، والجملة استئناف إخبار فيه معنى التعجب قاله الزمخشري كأنه قيل ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر أو أنه جواب قسم محذوف، والتقدير: والله لقد افترينا وجعله ابن عطية احتمالاً (بعد إذ نجانا الله منها) بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلاً.
(وما يكون) أي ما يصح (لنا) ولا يستقيم ولا ينبغي (أن نعود فيها) بحال من الأحوال (إلا أن يشاء الله) أي إلا في حال ووقت مشيئة الله عودنا فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عز وجل قال وهذا قول أهل السنة، والمعنى أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع وقيل إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل كما في قوله وما توفيقي إلا بالله.
وقيل هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيض الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط والغراب لا يبيض والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " (١) وقيل المعنى وما يكون لنا أن نعود فيها
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٧٨٦٥.
411
أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لكم إلا أن يشاء الله عودنا إليها.
(وسع ربنا كل شيء علماً) أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء (على الله توكلنا) أي عليه نعتمد وإليه نستند في أن يثبتنا على الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته.
(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) إعراض عن مكالمتهم لما ظهر له من شدة عنادهم بحيث لا يتصور منهم الإيمان، وإقبال على الله بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كل من الفريقين أي أحكم بيننا بالحق، والفتاحة بالضم الحكومة، وحكمه سبحانه لا يكون إلا بنصر المحقين على المبطلين كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه، وكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين وحلول نقمة الله بهم.
قال الفراء: إن أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح، وقال غيره من أهل اللغة هي لغة مراد، وهذا قول قتادة والسدي وابن جريح وجمهور المفسرين وقيل لغة حمير، وقال الزجاج: العنى ربنا أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف، وعلى هذا افتح مجاز بمعنى أظهر وبين. ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيهاً له بفتح الباب وإزالة الأغلاق حتى يوصل إلى ما خلفه.
412
(وقال الملأ الذين كفروا من قومه) يحتمل أن يكون هؤلاء هم الذين استكبروا ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب (لئن اتبعتم شعيباً) أي دخلتم في دينه وتركتم دينكم (إنكم إذاً لخاسرون) في الدين أو الدنيا وخسرانهم هلاكهم أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن وترك الطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به وهو جواب القسم الموطأ له باللام قاله الزمخشري.
412
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢)
413
(فأخذتهم الرجفة) أي الزلزلة وقيل الصيحة كما في قوله (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) ولعلها كانت في مبادئ الرجفة فأسند هلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى (فأصبحوا في دارهم جاثمين) باركين على الركب ميتين، قد تقدم تفسيره في قصة صالح، قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وإلى مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة، وأما أهل مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبريل صيحة فهلكوا جميعاً، وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر حتى هلكوا.
(الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها) جملة مبينة لما حل بهم من النقمة يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغنى القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها، والمغنى المنزل، والجمع المغاني، وهي المنازل التي بها أهلها، والمعنى كأن لم يقيموا في دارهم أصلاً ولم ينزلوها يوماً من الدهر، فإن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب وقيل المعنى كان لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين، يقال غني الرجل إذا استغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر والأول أولى.
(الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين) هذه الجملة مستأنفة كالأولى متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين، وإعادة الموصول والصلة كما هي لزيادة التقرير والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣)
(فتولى) أي فأعرض (عنهم) شعيب شاخصاً من بين أظهرهم لما شاهد نزول العذاب بهم (وقال) أي قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه السلام (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) التي أرسلني بها إليكم (ونصحت لكم) ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم (فكيف آسى) أي أحزن (على قوم كافرين) بالله مصرين على كفرهم متمردين عن الإجابة، والأسى شدة الحزن أسى على ذلك فهو آس.
قال شعيب: هذه المقالة تحسراً على عدم الإيمان ثم سلى نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله أو أراد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم، يعني أنكم لستم مستحقين لأن يحزن عليكم والأول أولى.
عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسمعيل وقبر شعيب فقبر إسمعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود وعن وهب بن منبه أن شعيباً مات بمكة ومن معه من المؤمنين فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن أبي إسحق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله - ﷺ - كان إذا ذكر شعيباً قال " ذاك خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة " (١).
_________
(١) المستدرك كتاب التاريخ ٢/ ٥٦٨.
414
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)
415
(وما أرسلنا) لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم وهم المذكورون سابقاً أجمل حال سائر الأمم المرسل اليها، والمعنى ما أرسلنا في حال من الأحوال (في قرية) من القرى (من) مزيدة لتوكيد النفي (نبي) من الأنبياء فكذبه أهلها (إلا أخذنا أهلها) استثناء مفرغ من أعم الأحوال (بالبأساء) أي البؤس وشدة الفقر (والضراء) أي وبالضر.
وقال الزجاج: البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض، وقيل البأساء الشدة وضيق العيش، والضراء سوء الحال، وقد تقدم تفسيرهما (لعلهم يضرعون) أي لكي يتضرعوا ويتذللوا فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء، وفيه تخويف وتحذير لكفار قريش وغيرهم من الكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب.
(ثم) أي بعد الأخذ لأهل القرى (بدلنا) هم (مكان السيئة) التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان الخصلة (الحسنة) فصاروا في خير وسعة وأمن وصحة، وقال ابن عباس أي مكان الشدة الرخاء قال أهل اللغة السيئة كل ما يسوء صاحبه، والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل، فأخبر الله في هذه الآية بأنه يؤاخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج.
(حتى عفوا) يقال عفا النبات إذا كثر وتكاثف ومنه إعفاء اللحى، واللحى بالضم والكسر كما في كتاب العين، وعفا درس فهو من الأضداد والمراد هنا أنهم كثروا عدداً وعُدداً.
415
(وقالوا) عند أن صاروا في الرخاء بعد الشدة (قد مس آباءنا الضراء والسراء) أي إن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء ثم من الرخاء والخصب من بعد هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله، فمسّهم من البأساء والضراء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه، ومرادهم أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وإن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختباراً لما عندهم.
وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم كما قال (فأخذناهم بغتة) أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال ليكون ذلك أعظم لحسرتهم، والمراد من ذكر هذه القصة أن يعتبر من سمعها فينزجر (وهم لا يشعرون) بذلك العذاب النازل بهم ولا يترقبونه.
416
(ولو أن أهل القرى) التي أرسلنا إليها رسلنا، ويجوز أن تكون اللام للجنس والمراد لو أن أهل القرى أين كانوا وفي أي بلد سكنوا (آمنوا) بالرسل المرسلين إليهم (واتقوا) ما صمموا عليه من الكفر ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح (لفتحنا عليهم) أي يسرنا لهم (بركات من السماء والأرض) أي خيرهما كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها قيل المراد بخير السماء المطر وبخير الأرض النبات والثمار.
والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وجميع ما فيهما وكل ذلك من فضل الله وإحسانه، وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ويسمى المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه، وكذا ثبوت البركة في نبات الأرض لأنه نشأ من بركات السماء وهي المطر، وقال البغوي: أصل البركة المواظبة على الشيء أي رفعنا عنهم القحط والجدب وتابعنا عليهم المطر والنبات.
(ولكن كذبوا) بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا بهم ولا اتقوا وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه للثاني (فأخذناهم) بأنواع العذاب (بما كانوا يكسبون) أي
416
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
بسبب ما كسبوا من الكفر والذنوب الموجبة لعذابهم ومن جملتها قولهم قد مس آباءنا الآية.
417
(أفأمن) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وهو مثل (أفحكم الجاهلية يبغون) والفاء للعطف على أخذناهم بغتة وما بينهما اعتراض، والمعنى أبعد ذلك الأخذ أمن أهل القرى، ذكره أبو السعود، وبه قال الزمخشري.
قال الشيخ: وهذا رجوع عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجماعة، وذلك أن مذهبه في الهمزة الداخلة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطف، ومذهب الجماعة أن حرف العطف في نية التقديم، وإنما تأخر وتقدمت عليه الهمزة لقوة تصدرها في أول الكلام، والزمخشري هنا لم يقدر بينهما معطوفاً عليه بل جعل ما بعد الفاء معطوفاً على ما قبلها من الجمل وهو قوله (فأخذناهم بغتة) ذكره السمين.
(أهل القرى) المذكورة قبله وقيل المراد بالقرى مكة وما حولها لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والعموم أولى (أن يأتيهم بأسنا بياتاً) أي وقت بيات وهو الليل (وهم نائمون) غافلون عنه
(أو أمن أهل القرى) إنكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ (أن يأتيهم بأسنا ضحى) أي نهاراً والضحى ضحوة النهار أي صدره وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت.
وفي السمين الضحى اشتداد الشمس وامتداد النهار يقال ضحى وضحاء إذا ضممته قصرته، وإذا فتحته مددته، وقال بعضهم الضحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس، والضحاء بالفتح والمد لقوة ارتفاعها قبل الزوال،
417
والضحى مؤنث انتهى (وهم يلعبون) أي حال كونهم مشتغلين بما لا يعود عليهم بفائدة.
418
(أفأمنوا مكر الله) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لم يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم، وقيل مكر الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا والنعمة والصحة، والأولى حمل الآية على ما هو أعم من ذلك.
ثم بين حال من أمن مكر الله فقال (فلا يأمن مكر الله) المكر الاحتيال والخديعة والمراد بمكر الله هنا فعل ما يعاقب به الكفرة على كفرهم، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة على ذنبهم، فإن العرب تسمى العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نص في قوله (ومكروا ومكر الله) قاله ابن عطية.
قلت وهو تأويل حسن وأنه من باب المقابلة أيضاً والفاء في قوله (فلا يأمن) للتنبيه على أن العذاب يعقب أمن مكر الله (إلا القوم الخاسرون) أي الذين أفرطوا في الخسران ووقعوا في وعيده الشديد حتى صاروا إلى النار، قال الشبلي: مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه.
(أولم يهد) أي أو لم يبين فالهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عديت باللام (للّذين يرثون الأرض من بعد) إهلاك (أهلها) أي المشركين، قاله السدي وقيل المراد بهم أهل مكة وما حولها أي الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم فيها (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) أي أن الشأن هو هذا والمعنى عاقبناهم بسبب كفرهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين.
(ونطبع) نختم (على قلوبهم) مستأنفة ولا يصح عطفه على أصبناهم لأنهم ممن طبع الله على قلبه لعدم قبولهم للإيمان (فهم لا يسمعون) أي إخبار الأمم المهلكة فضلاً عن التدبر والتفكر فيها والاعتبار بها والاغتنام بما في تضاعيفها من الهداية أي صاروا بسبب الطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من المواعظ والأعذار والإنذار سماع تدبر.
418
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
419
(تلك) مبتدأ مشار بها إلى ما بعدها و (القرى) خبرها أي التي أهلكناها وهي قرى قوم نوح وهود وثمود وصالح ولوط وشعيب المقدم ذكرها (نقص) حال أي قاصين وهذا كقوله تعالى (هذا بعلي شيخاً) في كونه مبتدأ خبراً وحالاً قاله الزمخشري (عليك من أنبائها) أي أخبارها وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين وتحذير للكافرين من قريش وغيرهم.
ومن للتبعيض لأنه إنما قص عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه عظة وانزجار دون غيرهما ولها أنباء غيرها لم يقصها عليه، وإنما قص عليه أنباء أهل هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله لقوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال.
(ولقد) لام قسم (جاءتهم رسلهم بالبينات) أي المعجزات الباهرات كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا (فما كانوا ليؤمنوا) عند مجيء الرسل اللام زائدة لتوكيد النفي (بما كذبوا) به (من قبل) أي قبل مجيئهم أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم بل هم مستمرون على الكفر متشبثون بأذيال الطغيان دائماً ولم ينجح فيهم مجيء الرسل ولا ظهر له أثر بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله.
وقيل المعنى فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم
419
كقوله: (ولو ردوا لعادوا) قاله مجاهد وقيل سألوا المعجزات فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها، والأول أولى.
ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وقال أبي بن كعب: كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم من يكذب به ممن يصدق به، وهو معنى قول ابن عباس والسدي آمنوا كرهاً يوم أخذ الميثاق، وقال الطبري: وأولى الأقوال قول أبي بن كعب والربيع ابن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبداً.
(كذلك) أي مثل ذلك الطبع الشديد على قلوب أهل القرى المنتفى عنهم الإيمان (يطبع الله على قلوب الكافرين) الجائين بعدهم فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب.
420
(وما وجدنا لأكثرهم من عهد) الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقاً أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به، بل دأبهم نقض العهود في كل حال، وقيل الضمير يرجع إلى الناس على العموم أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد وقيل المراد بالعهد هو المأخوذ عليهم في عالم الذر، وقيل الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى أي لأكثر منهم لا عهد ولا وفاء والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه قال ابن عباس: ذاك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) أي وإن الشأن هذا والمعنى خارجين عن الطاعة خروجاً شديداً.
420
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥)
421
(ثم بعثنا) أي أرسلنا (من بعدهم) أي بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقيل ضمير " هم " راجع إلى الأمم السالفة أي من بعد إهلاكهم (موسى) قال ابن عباس: إنما سمي موسى لأنه القي بين ماء وشجر فالماء بالقبطية مو والشجر سا وعاش من العمر مائة وعشرين سنة وبينه وبين يوسف أربعمائة سنة وبين موسى وإبراهيم سبعمائة سنة كما ذكره في التحبير.
(بآياتنا) أي حججنا وأدلتنا على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك مما جاء به موسى، وهذا يدل على أن النبي لا بد له من آية يتميز بها عن غيره، وإلا لم يكن قبول قوله أولاً من قبول قول غيره.
(إلى فرعون) هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى، وملك الروم قيصر، وملك الحبشة النجاشي، وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى " الوليد بن مصعب بن الربان " وكان ملك القبط وكنيته أبو مرة، وقيل أبو العباس وكان قبله فرعون آخر وهو أخوه واسمه قابوس ولم يذكر في القرآن.
وعن مجاهد أن فرعون كان فارسياً من أهل اصطخر، وعن ابن لهيعة أنه كان من أبناء مصر، وعن ابن المنكدر قال: عاش فرعون ثلاثمائة سنة، عن علي
421
ابن أبي طلحة: أن فرعون كان قبطياً ولد زنا، طوله سبعة أشبار، وعن الحسن قال: كان علجاً من همدان، وعن إبراهيم بن مقسم قال: مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس.
(وملئه) أي أشراف قومه وتخصيصه بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم لأن من عداهم كالأتباع لهم (فظلموا) أي فكفروا (بها) أطلق الظلم على الكفر لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفراً بالغاً لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها، أو المعنى ظلموا الناس بسببها لما صدوهم عن الإيمان بها أو ظلموا أنفسهم بسببها.
(فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) أي انظر بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بالمكذبين بالآيات الكافرين بها وكيف أهلكناهم، وجعلهم مفسدين لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد.
422
(وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين) أخبره بأنه مرسل من الله إليه وجعل ذلك عنواناً لكلامه معه لأن من كان مرسلاً من جهة من هو رب العالين أجمعين فهو حقيق بالقبول لما جاء به كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته. أنا رسول الملك إليكم ثم يحكي ما أرسل به إليهم فإن في ذلك من تربية المهابة وإدخال الروعة ما لا يقادر قدره.
(حقيق) جدير (على أن) أي بأن (لا أقول على الله إلا) القول (الحق) قيل في توجيه هذه القراءة إن على بمعنى الباء كما سبق. ويؤيده قراءة أبي والأعمش فإنهم قرآ (حقيق بأن لا أقول) وقيل إن حقيق مضمن معنى حريص وقيل إنه لما كان لازماً للحق كان الحق لازماً له فقول الحق حقيق عليه، وهو حقيق على قول الحق.
422
وقيل: إنه أغرق في وصف نفسه في ذلك المقام حين جعل نفسه حقيقة على قول الحق كأنه وجب على الحق أن يكون موسى هو قائله، وقرئ على أي واجب على ولازم لي أن لا أقول فيما أبلغكم عن الله إلا القول الحق، وقرئ (حقيق أن لا أقول) بإسقاط على ومعناها واضح والاستثناء مفرغ.
ثم قال بعد هذا (قد جئتكم ببينة من ربكم) أي بما يتبين به صدقي وإني رسول من رب العالمين، والمراد بها معجزته وهي العصا واليد البيضاء. وقد طوى هنا ذكر ما دار بينهما من المحاورة كما في موضع آخر أنه قال فرعون (فمن ربكما يا موسى) ثم قال بعد جواب موسى (وما رب العالمين) الآيات الحاكية لما دار بينهما.
(فأرسل معي بني إسرائيل) أمره أن يدعهم يذهبون معه ويرجعون إلى أوطانهم وهي الأرض المقدسة وقد كانوا بأنين لديه مستعبدين ممنوعين من الرجوع إلى وطنهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
وكان سبب سكناهم بمصر مع أن أباهم كان بالأرض المقدسة أن الأسباط أولاد يعقوب جاؤوا مصر إلى أخيهم يوسف فمكثوا وتناسلوا في مصر، فلما توفي يوسف غلب فرعون على نسل الأسباط واستعبدهم واستعملهم في الأعمال الشاقة، فأحب موسى أن يخلصهم من هذا الأسر ويذهب بهم إلى أرض الشام التي هي وطن آبائهم فأنقذهم الله بموسى وكان بين اليوم الذي دخل يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.
423
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠)
فلما قال ذلك
424
(قال) له فرعون (إن كنت جئت بآية) من عند الله كما تزعم (فأت بها) حتى نشاهدها وننظر فيها (إن كنت من الصادقين) في هذه الدعوى التي جئت بها.
(فألقى عصاه) أي وضعها على الأرض (فإذا هي ثعبان مبين) أي فانقلبت ثعباناً يعني حية عظيمة من ذكور الحيات ظاهراً واضحاً لا لبس فيه في تلك الحال، ووصفها في آية أخرى بأنها جان والجان الحية الصغيرة، والجمع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم، وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان.
قال قتادة: ذكر لنا أن تلك العصا عصا آدم أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فتخرج له رزقه ويهش بها على غنمه فإذا هي حية تكاد تساوره.
وعن ابن عباس قال: لقد دخل موسى على فرعون وعليه رزمانقه من صوف ما تجاوز مرفقيه فاستأذن على فرعون فقال أدخلوه فدخل فقال إن إلهي أرسلني إليك فقال للقوم حوله ما علمت لكم من إله غيري، خذوه قال إني قد جئتك بآية قال فأت بها فألقى عصاه فصارت ثعباناً بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض، وعصا موسى اسمها ما شاء، قال السدي: فاتحة فمها واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها ووثب فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك، وصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فصارت عصا.
(ونزع يده) اليمنى أي أخرجها وأظهرها من جيبه أو من تحت إبطه وفي التنزيل (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) والنزع عبارة عن إخراج الشيء عن مكأنه (فإذا هي بيضاء للناظرين) أي تتلألأ نوراً يظهر لكل مبصر، قال ابن عباس: أخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار فخروا على وجوههم، وقيل لها شعاع غلب نور الشمس، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا نفر منه وكان موسى آدم اللون (١).
_________
(١) قال القرطبي: " كان موسى أسمر شديد السمرة، ثم أعاد يده إلى جيبه فعادت إلى لونها الأول. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض. وقيل: كانت تخرج يده بيضاء كالثلج تَلوُح، فإذا ردها عادت إلى مثل سائر بدنه.
(قال الملأ من قوم فرعون) أي الأشراف لما شاهدوا إنقلاب العصا حية ومصير يده بيضاء من غير سوء (إن هذا) أي موسى (لساحر عليم) أي كثير العلم بالسحر يأخذ بعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه، ولا ينافي نسبة هذا القول إلى الملأ هنا وإلى فرعون في سورة الشعراء فكلهم قد قالوه فكان ذلك مصححاً لنسبته إليهم تارة وإليه أخرى.
(يريد أن يخرجكم) أيها القبط (من أرضكم) وهي أرض مصر وهذا من كلام الملأ (فماذا تأمرون) هو من كلام فرعون قاله للملأ لما قالوا بما تقدم، أي بأي شيء تأمرونني وتشيرون أن نفعل به، وقيل هو من كلام الملأ أي قالوا لفرعون فبأي شيء تأمرنا وخاطبوه بما يخاطب به الجماعة تعظيماً له كما يخاطب الرؤساء أتباعهم.
425
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى بدليل ما بعده وهو
426
(قالوا أرجه) أي أخره وفيه ست قراآت في المشهور المتواتر ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه والإرجاء في اللغة التأخير. وقيل معناه احبسه. وهو ضعيف وقيل هو من رجا يرجو أي أطعمه ودعه يرجوك حكاه النحاس عن المبرد.
(و) أرج (أخاه وأرسل في المدائن حاشرين) أي أرسل جماعة حاشرين في المدائن التي فيها السحرة والمدائن جمع مدينة واشتقاقها من مدن بالمكان أي أقام به يعني مدائن صعيد مصر، ومعنى حاشرين جامعين يعني رجالاً يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد
(يأتوك) أي هؤلاء الذين أرسلت يعني الشرط (بكل ساحر) وقرئ سحار أي الماهر في السحر قيل الساحر من يكون سحره وقتاً دون وقت، والسحار من يدوم سحره ويعمل في كل وقت (عليم) أي كثير العلم بصناعة السحر.
(وجاء السحرة فرعون) قد اختلفت كلمة السلف في عددهم فقال ابن عباس: كانوا سبعين رجلاً أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقيل كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل قاله مقاتل، وقال الكلبي: كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل خمسة عشر ألفاً، قاله ابن اسحق وقيل سبعة عشر ألفاً وقيل
426
تسعة عشر ألفاً وقيل ثلاثين ألفاً وقيل سبعين ألفاً، قاله عكرمة وقيل ثمانين ألفاً، قاله محمد بن المنكدر وقيل ثلاثمائة ألف وقيل تسعمائة ألف (١).
(قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين) الأجر الجائزة والعطاء والجعل، الزموا فرعون أن يجعل لهم جعلاً أن غلبوا موسى بسحرهم وقرئ (أئن لنا) على الاستفهام للتقرير أي استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة وعلى القراءة الأولى كأنهم قاطعون بالجعل وأنه لا بد لهم منه.
_________
(١) اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولاً: أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني؛ اثنان وسبعون ألفاً، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: سبعون، روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: اثنا عشر ألفاً، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفاً، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، إلا أنه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس: سبعمائة. وروى عبد النعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال: كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين ألف سبعمائة.
427
(قال نعم) لكم الأجر (وإنكم) مع هذا الأجر المطلوب منكم (لمن المقربين) لدينا قال الكلبي تكونون أول من يدخل علي وآخر من يخرج من عندي. وفي الخطيب والآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة.
وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان، وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون لأنفسهم، ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساءهم، والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب لها.
(قالوا) أي السحرة (يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) يعني أنهم خيروا موسى بين أن يبتدئ بإلقاء ما يلقيه عليهم أو يبتدئوه هم بذلك تأدباً معه وثقة من أنفسهم بأنهم غالبون وإن تأخروا قال الكسائي والفراء إما أن تفعل الإلقاء أو نفعله نحن.
(قال ألقوا) اختار أن يكون المتقدمين عليه بإلقاء ما يلقونه غير مبال بهم ولا هائب لما جاءوا به، قال الفراء في الكلام حذف والمعنى قال لهم موسى إنكم
427
لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا أيامه، وقيل هو تهديد أي ابتدئوا بالإلقاء فستنظرون ما يحل بكم من الافتضاح.
والموجب لهذين التأويلين عند من قال بهما أنه لا يجوز لموسى أن يأمرهم بالسحر، وقيل إنما أمرهم لتظهر معجزته لأنهم إذا لم يلقوا قبله لم تظهر معجزته، والأول أولى.
(فلما ألقوا) حبالهم وعصيهم قال ابن عباس حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (سحروا أعين الناس) أي قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاءوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة، وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء التي هي فعل الله. وذلك لأن السحر قلب الأعين وصرفها عن إدراك الشيء، والعجزة قلب نفس الشيء عن حقيقته كقلب عصا موسى حية تسعى.
(واسترهبوهم) أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم إدخالاً شديداً بما فعلوه من السحر، واستفعل هنا بمعنى افعل أي أرهبوهم وهو قريب من قولهم: قر واستقر وعظم واستعظم، وهذا رأي المبرد وقيل السين على بابها أي استدعوا رهبة الناس منهم وهو رأى الزجاج (وجاءوا بسحر عظيم) في أعين الناظرين وإن كان لا حقيقة له في الواقع، وكانت تلك الواقعة في إسكندرية قاله الخطيب والخازن.
428
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (١١٩)
429
(وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) أمره سبحانه عند أن جاء السحرة بما جاءوا به من السحر على لسان جبريل أن يلقي عصاه، وصريح السياق يقتضي أن إلقاء العصا وانقلابها حية وقع مرتين بحضرة فرعون (الأولى) كانت سبباً في جمع السحرة (والثانية) بحضرتهم فالأولى ذكرت سابقاً بقوله (فألقى عصاه) والثانية هي المذكورة هنا ووقع انقلابها حية أيضاً مرة أخرى قبل هاتين المرتين ولم يكن هناك حاضراً أحد غير موسى وقد ذكرت هذه المرة في سورة طه في قوله (إذ رأى ناراً) إلى قوله (ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى).
(فإذا هي) أي العصا (تلقف) من لقف يلقف وقيل من تلقف يتلقف يقال لقفت الشيء وتلقفته إذا أخذته أو بلعته بسرعة. وقال أبو حاتم بلغني في بعض القراآت تلقم بالميم والتشديد (ما يأفكون) أصل الإفك قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب أفاك لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل، أفك يأفك إفكاً من باب ضرب وأفكته صرفته وكل أمر صرف عن وجهه فقد أفك، وسماه إفكاً لأنه لا حقيقة له في الواقع بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة.
قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية فيقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً فإذا هي تبتلع كل شيء أتوا به من السحر.
(فوقع الحق) أي ظهر وتبين بما جاء به موسى (وبطل ما كانوا يعملون) من سحرهم أي تبين بطلانه
(فغلبوا) أي السحرة (هنالك) أي في الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم وهذا هو الظاهر (وانقلبوا) من ذلك الموقف (صاغرين) أذلاء مقهورين.
429
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
430
(وألقى السحرة ساجدين) أي خروا كأنما ألقاهم ملق على هيئة السجود أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا أنفسهم، قال السدي: ألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وعن قتادة نحوه، قال ابن عباس: لما رأت السحرة ما رأت عرفت أن ذلك من أمر السماء وليس بسحر فخروا سجداً قيل كانت مع السحرة حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى كلها آمنوا به وخروا ساجدين.
(قالوا آمنا) وإنما قالوا هذه المقالة وصرحوا بأنهم آمنوا (برب العالمين) ثم لم يكتفوا بذلك حتى قالوا
(رب موسى وهرون) لئلا يتوهم متوهم من قوم فرعون المقرين بإلهيته أن السجود له قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، وقدموا موسى في الذكر وإن كان هرون أسن منه لكبره في الرتبة أو لأنه وقع فاصلة هنا. ولذلك قال في سورة طه (رب هرون وموسى) لوقوع موسى فاصلة أو لكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين فنسب فعل البعض إلى المجموع في سورة وفعل بعض آخر إلى المجموع في أخرى.
(قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم) والاستفهام للإنكار والتوبيخ والقراآت هنا أربع كلها سبعية ذكرها السمين، أنكر فرعون على السحرة إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك وقال (إن هذا لمكر مكرتموه) أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى على مواطأة بينكم سابقة، ومعنى (في المدينة) أن هذه الحيلة
430
والمواطأة كاذت بينكم وأنتم بمدينة مصر قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء (لتخرجوا منها) أي من مدينة مصر (أهلها) من القبط وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل.
وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوام القبط تثبيتاً لهم على ما هم عليه وتهييجاً لعداوتهم لموسى، ثم هددهم بقوله (فسوف تعلمون) عاقبة صنعكم هذا وسوء مغبته ليريهم أن له قوة.
ثم لم يكتف بهذا الوعيد والتهديد المجمل بل فصله فقال
431
(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي الرجل اليمنى واليد اليسرى أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، قال ابن عباس: هو أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وقال قتادة: أي يداً من ههنا ورجلاً من ههنا.
ثم لم يكتف عدو الله بهذا بل جاوزه إلى غيره فقال (ثم لأصلبنكم في جذوع النخل) على شاطئ نيل مصر أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكل بهم وإفراطاً في تعذيبهم.
قال ابن عباس: أول من صلب فرعون، وجيء هنا ثم وفي السورتين ولأصلبنكم بالواو لأن الواو صالحة للمهلة فلا تنافي بين الآيات (أجمعين) تأكيد أتى به دون كل وإن كان الأكثر سبقه بكل، وجاء بجملة قسمية تأكيداً لما يفعله يقال صلبه يصلبه ويصلبه وهما لغتان في المضارع.
(قالوا إنا إلى ربنا منقلبون) أي إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل فبعده يوم الجزاء سيجازيك الله بصنعك ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة لما توعدهم بعذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى إنا إليه لمنقلبون بالموت أي لا بد لنا من الموت، ولا يضرنا كونه بسبب منك.
431
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧)
432
(وما تنقم) بكسر القاف وقرئ بفتحها، قال الأخفش هي لغة يقال نقمت الأمر أنكرته أي لست تعيب علينا وتنكر (منا) قال عطاء أي ما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه، وقيل ما تكره منا وما تطعن علينا وتقدح فينا (إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، وأصل المفاخر، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار. بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ فلا نعدل عنه أصلاً طلباً لمرضاتك، والاستثناء مفرغ.
ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ مفوضين الأمر إليه طالبين منه عز وجل أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين (ربنا أفرغ علينا صبراً) الإفراغ الصب أي أصببه كاملاً تاماً حتى يفيض علينا ويغمرنا، ولهذا أتى بلفظ التكثير يعني صبراً وأي صبر عظيم يصب صباً ذريعاً كما يفرغ الماء فراغاً، طلبوا أبلغ أنواع الصبر استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدو الله وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق وثبوت القدم على الإيمان.
ثم قالوا (وتوفنا) إليك (مسلمين) أي ثابتين على الإسلام غير محرفين ولا مبدلين ولا مفتونين بالوعيد. ولقد كان ما هم عليه من السحر والمهارة في علمه مع كونه شراً محضاً سبباً للفوز بالسعادة لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشر إلى
432
الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان.
وإذا كانت المهارة في علم الشر قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا وثبت أقدامنا على الحق وأفرغ علينا سجال الصبر وتوفنا مسلمين آمين قال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء، قيل فعل بهم فرعون ما توعدهم به وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى (أنتما ومن اتبعكما الغالبون).
433
(وقال الملأ من قوم فرعون أتذر) الاستفهام منهم للإنكار عليه أي أتترك (موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) أي في مصر بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل (ويذرك) بياء الغيبة ونصب الراء هذه قراءة العامة، وفيها وجهان أظهرهما أنه على العطف على ليفسدوا، والثاني أنه منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب في جوابه بعد الفاء.
والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى وقومه مفسدين، وبين تركهم إياك وعادة آلهتك، أي لا يمكن وقع ذلك وقرئ برفع الراء وفيها ثلاثة أوجه أظهرها أنه نسق على أتذر أي اتطلق له ذلك، والثاني أنه استئناف أخبار ذلك، الثالث أنه حال ولا بد من إضمار مبتدأ أي وهو يذرك، وقرئ بالجزم إما على التخفيف بالسكون لنقل الضمة أو على ما قيل في (وأكن من الصالحين) في توجيه الجزم، وقرئ بالنون والرفع والمعنى أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونك.
ْ (وآلهتك) اختلف المفسرون في معناها لكون فرعون كان يدعي الربوبية كما في قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فقيل ومعنى آلهتك طاعتك وقيل معناه عبادتك، ويؤيده قراءة علي وابن عباس والضحاك:
433
وإلاهتك وفي حرف أبي ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وقيل إنه كان يعبد بقرة، وقيل كان يعبد النجوم وقيل كان له أصنام يعبدها قومه تقرباً إليه فنسبت إليه، ولهذا قال (أنا ربكم الأعلى) قاله الزجاج، وقيل كان يعبد الشمس والكواكب.
والأقرب أن يقال: إن فرعون كان دهرياً منكراً لوجود الصانع فكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب فاتخذ أصناماً على صورتها وكان يعبدها ويأمر بعبادتها، وكان يقول في نفسه إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض فلهذا قال أنا ربكم الأعلى.
قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين سنة لم ير مكروهاً قط ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية.
(قال) فرعون مجيباً لهم ومثبتاً لقلوبهم على الكفر (سنقتل) قرىء بالتشديد والتخفيف (أبناءهم ونستحي نساءهم) أي نتركهن في الحياة ولم يقل سنقتل موسى لأنه يعلم أنه لا يقدر عليه، قيل كان ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى فلما جاء موسى بالرسالة وكان من أمره ما كان أعاد فيهم القتل.
(وإنا فوقهم قاهرون) أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة وهم تحت قهرنا وبين أيدينا، ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل.
434
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)
435
(قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا) أي لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة ثم أخبرهم (إن الأرض لله) يعني أرض مصر وإن كانت الأرض كلها لله أو أراد جنس الأرض، والأول أولى (يورثها من يشاء من عباده) هو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه وإن الله سيورثهم أرضهم وديارهم (والعاقبة) المحمودة في الدنيا والآخرة وعاقبة كل شيء آخره وقيل أراد الجنة (للمتقين) من عباده وهم موسى ومن معه.
(قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده، وبقتل أبنائنا الآن، وقيل المعنى أوذينا من قبل أن يأتينا بالرسالة باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل كضرب اللبن ونقل التراب ونحو ذلك، ، ومن بعد ما جئنا بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا وقيل إن الأذى من قبل ومن بعد واحد وهو قبض الجزية منهم.
(قال) موسى مجيباً لهم (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) مستأنفة كالتي قبلها وعدهم بإهلاك الله لعدوهم وهو فرعون وقومه (ويستخلفكم في الأرض) هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله، وقد حقق الله رجاءه وملكوا مصر في زمان داود وسليمان وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، وأهلك
435
فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم (فينظر كيف تعملون) فيها من الأعمال أي من الإصلاح والإفساد بعد أن يمن عليكم بإهلاك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فيجازيكم بما عملتم من خير وشر.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن بنا أهل البيت يفتح ويختم، ولا بد أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن يكون من بني هاشم، وفيهم نزلت (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) الآية، وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس فالآية نازلة في بني إسرائيل واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون لا في بني هاشم.
436
(ولقد أخذنا) لام قسم أي والله لقد ابتلينا وهذا شروع في تفصيل مبادئ هلاكهم وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها (آل فرعون) أي قومه (بالسنين) أي الجدب والقحط، وهذا معروف عند أهل اللغة يقولون إصابتهم سنة أي جدب سنة، ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا، وفي الحديث اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِنِي يوسف وهن سبع سنين، والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم.
والمعنى أخذناهم بالجوع سنة بعد سنة، وأكثر العرب يعربون السنين إعراب الجمع المذكر السالم ومنهم من يعربه إعراب المفرد ويجري الحركات على النون، قاله أبو زيد وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون أقمت عنده سنياً مصروفاً قال وبنو تميم لا يصرفونه، قال ابن مسعود: السنين الجوع، وقال مجاهد: الجوائح، قال ابن عباس: لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر.
واجتمعوا إلى فرعون فقالوا إن كنت كما تزعم فأتنا في نيل مصر بماء قال، غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت إن لم
436
أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني، فلما كان جوف الليل قام فاغتسل ولبس مدرعة صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة (١).
(ونقص من الثمرات) بسبب عدم نزول المطر وكثرة العاهات وإتلاف الغلات بالآفات قال قتادة: أما السنون فلأهل البوادي، وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار، والمعنى أخذناهم بها (لعلهم يذكرون) يتعظون ويرجعون عن غوايتهم.
_________
(١) وفي رواية ابن الجوزي قال: (٣/ ٢٤٧):
روى الضحاك عن ابن عباس قال: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت رباً كما تزعم، فاملأ لنا نيل مصر، فقال غُدوة يصبحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال: أي شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر غدوة أصبح، فيكذبوني؟! فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس مدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة، لأن الرجل كان دهرياً لا يثبت إلهاً. ولو صح، كان إقراره بذلك كإقرار إبليس، وتبقى مخالفته عناداً.
437
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١)
ثم بين أنهم عند نزول العذاب وتلك المحن عليهم والشدة لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً كلما قال تعالى (فإذا جاءتهم الحسنة) أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر وصلاح الثمار ورخاء الأسعار والسعة والعافية والسلامة من الآفات (قالوا لنا هذه) أي أعطيناها باستحقاق وهي مختصة بنا ونحن أهلها على العادة التي جرت لنا في سعة الأرزاق وصحة الأبدان، ولم يروا ذلك من فضل الله فيشكروه على إنعامه.
(وإن تصبهم) خصلة (سيئة) من الجدب والقحط، وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء قيل ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع وتعلق الإرادة بإحداثها، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها وعدم القصد لها إلا بالتبع.
هذا من محاسن علم المعاني، قال مجاهد: الحسنة العافية والرخاء والسيئة بلاء وعقوبة (يطيروا) يتشاءموا (بموسى ومن معه) من المؤمنين به، وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء في قول جميع المفسرين، ومثل هذا قوله تعالى (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك).
(ألا) التصدير بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه و (إنما) أداة حصر (طائرهم) أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط (عند الله) يأتيهم به ليس بسبب موسى ومن معه، وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته (ولكن أكثرهم لا يعلمون) بهذا بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم والحق أن الكل من الله.
438
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣)
439
(وقالوا) بعد ما رأوا من شأن العصا والسنين ونقص الثمار (مهما) اسم شرط (تأتنا به) من عند ربك (من آية) بيان لمهما، وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده وهو (لتسحرنا بها) أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعل السحرة بسحرهم، وضمير به عائد إلى مهما وضمير بها عائد إلى آية وقيل: إنهما عائدان إلى مهما وتذكير الأول باعتبار اللفظ وتأنيث الثاني باعتبار المعنى.
(فما نحن لك بمؤمنين) أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر.
فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عز وجل المبينة بقوله
(فأرسلنا عليهم الطوفان) وهو المطر الشديد قال الأخفش: واحده طوفانة وقيل هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له، وقيل الطوفان الموت. روته عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما قال ابن كثير وهو حديث غريب وبه قال مجاهد وعطاء.
وقال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل أي ما يطيف بهم فهلكهم، أو قال ابن عباس: الطوفان أمر ربك، ثم قرأ (فطاف عليها طائف من ربك) وقال مجاهد: هو الماء والطاعون وقال وهب: هو الطاعون بلغة أهل اليمن.
وقال أبو قلابة: الطوفان هو الجدري، وهم أول من عذبوا به ثم
439
بقي في الأرض، وقال مقاتل: الماء طفا فوق حروثهم وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام من السبت إلى السبت في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، قال ابن عباس: مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام.
(والجراد) جمع جرادة الذكر والأنثى فيه سواء قال أهل اللغة: هو مشتق من الجرد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً يقال أرض جرداء أي ملساء وثوب أجرد إذا ذهب وبره، والمراد به هنا هو الحيوان المعروف أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها وأكل ثمارهم وسقوف بيوتهم وثيابهم وأمتعتهم، وابتلى الجراد بالجوع فكان لا يشبع وامتلأت دور القبط منه ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء.
(والقمل) بضم القاف وفتح الميم المشددة، وقرأ الحسن القمل بفتح القاف وسكون الميم قيل هي الدباء قاله مجاهد وقتادة والسدي والكلبي، والدباء الجراد قبل أن تطير، وقال عطاء: إنه القمل المعروف فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وقيل هي السوس الذي يخرج من الحنطة قاله ابن عباس، وقيل البراغيث وقيل دواب سود صغار، وقيل ضرب من القردان وقيل الجعلان.
قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم، وقد فسر عطاء الخراساني القمل بالقمل، قال ابن عباس: القمل الجراد الذي له أجنحة، وقال أبو عبيدة هو الحمنان، وهو ضرب من القراد وأقام عليهم من السبت إلى السبت.
(والضفادع) جمع ضفدع وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء وكانت
440
تقع في طعامهم وشرابهم حتى إذا تكلم الرجل تقع في فيه وأقامت عليهم ثمانية أيام قال ابن عباس: كانت الضفادع برية فلما أرسلها على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور، ومكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات والجراد والقمل والضفادع.
(والدم) روى أنه سأل عليهم النيل دماً قاله مجاهد، وقيل هو الرعاف قاله زيد بن أسلم وقيل مياههم انقلبت دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دماً عبيطاً أحمر، قال ابن عباس: يمكث فيهم سبتاً إلى سبت ثم يرفع عنهم شهراً.
(آيات) حال من الخمسة المذكورة (مفصلات) أي مبينات يتبع بعضها بعضاً لتكون لله الحجة عليهم، والمعنى أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات بين كل آيتين شهر، وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً يمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيقبلون الحجة والدليل أو يستمرون على الخلاف والتقليد.
(فاستكبروا) أي ترفعوا عن الإيمان بالله (وكانوا قوماً مجرمين) لا يهتدون إلى حق ولا ينزعون عن باطل (١).
_________
(١) قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر أن يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل؛ فدعا لهم، فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك، فدعا، فكشف الله عنهم، فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل الله عليهم القُمل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فكُشف عنهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم
-[٤٤٢]-
وتطفئ نيرانهم، وكانت الضفادع برية، فأورثها الله تعالى برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقُلبُهم دماً، فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فإذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني إسرائيل صار ما دخل فيه دماً، والماء من بين يديه ومن خلفه صافٍ عذب لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم بإلهي يا موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم وعذب ماؤهم، فقالوا: والله لا نؤمن ولا نرسل معك بني إسرائيل.
441
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤)
(ولما وقع عليهم الرجز) أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم، وقيل كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً، قاله سعيد بن جبير، وعلى هذا هو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت، وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه "، أخرجه الشيخان. (١)
(قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) أي بما أوصاك أو استودعك من العلم أو بما اختصك به من النبوة أو بما نبأك أو بما عهد إليك أن تدعوه فيجيبك. والباء متعلقة بادع على معنى أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله أو أدع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك، وقيل إن الباء للقسم وجوابه لنؤمنن الآتي أقسمنا بعهد الله عندك.
(لئن كشفت عن الرجز لنؤمنن لك) أي لنصدقن بما جئت به
_________
(١) مسلم ٢٢١٨ - البخاري ١٦٣١.
442
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦)
(ولنرسلن معك بني إسرائيل) أي لنخلينهم حتى يذهبوا حيث شاءوا، وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه.
443
(فلما كشفنا عنهم الرجز) بدعوة موسى عليه السلام (إلا أجل هم بالغوه) أي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق لا رفعاً مطلقاً (إذا هم ينكثون) أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم، وإذا هي الفجائية أي فاجأوا النكث وبادروه، وأصل النكث من نكث الصوف ليغزله ثانياً فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه، قاله زاده.
(فانتقمنا) أي أردنا الإنتقام (منهم) لما نكثوا بسبب ما تقدم لهم من الذنوب المتعددة وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب، وقيل هو ضد الأنعام كما أن العقاب ضد الثواب (فأغرقناهم في اليم) أي في البحر، قيل هو الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجته وأوسطه، قال الأزهري: اليم معروف لفظة سريانية عربتها العرب ويقع على البحر الملح والعذب، والمراد به نيل مصر وهو عذب.
(بأنهم كذبوا بآياتنا) تعليل للإغراق (وكانوا عنها غافلين) أي عن النقمة المدلول عليها بإنتقمنا أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها فكأنهم في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق والمراد بالغفلة عدم التدبر، وهذا مؤاخذ به فسقط ما يقال إن الغفلة لا مؤاخذة بها، وقد تستعمل الغفلة في ترك الشيء إهمالاً وإعراضاً، في القاموس غفل عنه غفولاً تركه وسها عنه.
443
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)
444
(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) يعني بني إسرائيل الذين كانوا يذلون ويمتهنون بالخدمة لفرعون وقومه (مشارق الأرض) هي مصر والشام (ومغاربها) المراد جهات مشرقها وجهات مغربها، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط فملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا فيها شرقاً وغرباً كيف شاءوا.
وقال الزجاج: المراد جميع الأرض ونواحيها لأن داود وسليمان كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض، وقيل أراد الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب.
(التي باركنا فيها) بإخراج الزرع والثمار منها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق، قال الحسن هي الشام، وعن قتادة وزيد بن أسلم نحوه، وقال عبد الله بن شوذب: هي فلسطين، وقد روى عن النبي - ﷺ - في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
(وتمت) أي مضت واستمرت على التمام (كلمة ربك) هي قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على
444
أملاكهم فتمامه مجاز عن إنجازه، و (الحسنى) صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن (على بني إسرائيل بما صبروا) أي تمام هذه الكلمة عليهم بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه، وقال مجاهد: تمام الكلمة ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وإهلاك عدوهم وما ورثهم منها.
(ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه) التدمير الإهلاك أي أهلكنا ما كانوا يصنعون في أرض مصر من العمارات وبناء القصور. وفيه أربعة أوجه من الإعراب، ذكرها السمين (وما كانوا يعرشون) من الجنات والثمار والأعناب، قاله الحسن. ومنه قوله تعالى (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) وقيل يسقفون من ذلك البنيان، وقيل المعنى ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. يقال عرش يعرش أي بنى يبني. قال مجاهد: ما كانوا يبنون من البيوت والقصور، وهذا آخر قصة فرعون وقومه.
445
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) هذا شروع في بيان ما فعله بنو إسرائيل بعد الفراغ مما فعله فرعون وقومه، ومعنى جاوزنا جزناه بهم وقطعنا، يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره وهو كقوله (وإذ فرقنا بكم البحر) قال الكلبىِ: عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكراً لله تعالى.
(فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) يقال عكف يعكف ويعكف بالضم والكسر بمعنى أقام على الشيء ولزمه، والمصدر منهما عكوف، قيل هؤلاء القوم الذي أتاهم بنو إسرائيل هم من لحم وجذام كانوا نازلين بالرقة يعني ساحل البحر كانت أصنامهم تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أول شأن العجل لتكون لله عليهم الحجة فينتقم منهم بعد ذلك. وقيل كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم.
445
(قالوا) أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) أي صنماً نعبده كائناً كالذي لهؤلاء القوم، قال البغوي: لم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في توحيد الله وإنما المعنى اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله، وظنوا أن ذلك لا يضر، وفيه بعد وقيل: إنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله فحملهم جهلهم على ما قالوا، قال الكرخي: وعلى كل فالقائل للقول المذكور بعضهم لا كلهم إذ كان من جملة من معه السبعون الذين اختارهم موسى للميقات ويبعد منهم مثل هذا القول.
(قال) أي أجاب عليهم موسى (إنكم قوم تجهلون) وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله ولكن هؤلاء القوم أعني بني إسرائيل أشد خلق الله عناداً وجهلاً وتلوناً، وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله - ﷺ - قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي - ﷺ - الله أكبر هذا قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم " (١).
_________
(١) أحمد بن حنبل ٥/ ٢١٨.
446
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
ثم قال لهم موسى
447
(إن هؤلاء) يعني القوم العاكفين على الأصنام (متبر) التبار الهلاك وكل إناء منكسر فهو متبر أي: إن هؤلاء هالك (ما هم فيه) مدمر مكسر. والذي فيه هو عبادة الأصنام، أخبرهم بأن هذا الدين الباطل الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمر لا يتم منه شيء، وقال ابن عباس: متبر خسران (وباطل ما كانوا يعملون) أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام.
قال في الكشاف وفي إيقاع هؤلاء إسماً لإنّ وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا.
(قال أغير الله أبغيكم إلهاً) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي كيف أطلب لكم غير الله إلهاً تعبدونه وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي منه البعض والمعنى أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبداً وإدخال الهمزة على الغير للإشعار بأن المنكر هو كون المبغي غير الله إلهاً (وهو فضلكم على العالمين) من أهل عصركم وهم القبط بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم، واستخلافكم في الأرض وإخراجكم من الذل والهوان إلى العز والرفعة فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره.
(وإذْ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) أي اذكروا وقت
447
إنجائنا لكم من آل فرعون بعد أن كانوا مالكين لكم يستعبدونكم فيما يريدونه منكم ويمتهنونكم بأنواع الامتهان، هذا على أن هذا الكلام محكي عن موسى، وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد فهو بمعنى اذكروا إذ أنجينا أسلافكم حال كونهم يسومونكم سوء العذاب ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه.
(يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم) مفسرة للجملة التي قبلها أو بدل منها وقد سبق بيان ذلك (وفي ذلكم) أي هذا العذاب الذي كنتم فيه (بلاء) عليكم نعمة أو محنة (من ربكم عظيم) وقد تقدم تفسيرها في البقرة والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
448
نهاية الجزء الرابع
تم الجزء الرابع من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الخامس بأذن الله وأوله:
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
449
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الخامس
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الخامس

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الجزء الخامس
يبدأ من قوله تعالى سورة الأعراف - ١٤٢ إلى قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١)
5
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
(وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) نكلمه عند انتهائها بأن يصومها وهي ذو القعدة لإعطاء التوراة (وأتممناها) أي المواعدة المفهومة من واعدنا أو ثلاثين ليلة قاله الحوفي والأول أولى (بعشر) ليال من ذي الحجة للتقرب قاله ابن عباس ومجاهد، وفي مصحف أُبَي وتمّمناها بالتضعيف وحذف تمييز بعشر لدلالة الكلام عليه.
(فتّم ميقات ربّه) الميقات هو الوقت الذي قدر أن يعمل فيه عمل من الأعمال، ولهذا قيل: مواقيت الحج أي وقت وعده بكلامه إياه (أربعين ليلة) هذا من جملة ما كرم الله به موسى عليه السلام وشرفه.
ولقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وذكره هنا على التفصيل وضرب هذه المدة موعداً لمناجاة موسى ومكالمته، قاله مجاهد وابن عباس، قيل وكان التكليم في يوم النحر، والفائدة في (أربعين ليلة) مع العلم بأن الثلاثين والعشر أربعون لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها فبين أن العشر غير الثلاثين، وفي نصب أربعين ثلاثة أوجه (أحدها) أنه حال قاله الزمخشري أي تم بالغاً هذا العدد (الثاني) على المفعول به (الثالث) على الظرف قاله ابن عطية وفيه ضعف.
(وقال موسى لأخيه هرون) عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة (اخلفني في قومي) أي كن خليفتي فيهم (وأصلح) أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم والرفق بهم وتفقد أحوالهم واحملهم على عبادة الله تعالى (ولا تتّبع سبيل المفسدين) أي لا تسلك سبيل العاصين ولا تكن عوناً للظالمين، قال ابن عباس: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلّف هرون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشراً فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله، فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري قد أبصر جبريل فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب، ثم ذكر قصة السامري.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
(ولما جاء موسى لميقاتنا) اللام للاختصاص أي كان مجيئه مختصاً بالميقات المذكور بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود، وكان يوم الخميس وكان يوم عرفة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر (وكلمه ربه) أي اسمعه كلامه من غير واسطة ولا كيفية وأزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه وليس المراد أنه أنشأ كلاماً سمعه لأن كلام الله قديم ولم نر في التفاسير هنا بيان ما فهمه موسى من ذلك الكلام.
أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء.
والصفات من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لما كلم الله موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال لا تستطيعونه ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموه فذاك قريب منه ولبس به "، وفيه دليل على كلام الله مع موسى.
قال الزمخشري: تكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في الألواح انتهى وإليه ذهب المعتزلة وهو مذهب فاسد يرده الكتاب والسنة وأين للشجر وذلك الجرم أن يقول إنني أنا الله الآية.
8
وذهب الحنابلة ومن وافقهم من أهل الحديث أن كلامه تعالى حروف وأصوات مقطعة وأنه قديم وهو الحق وقد نطق به السنة المطهرة، وقال جمهور المتكلمين: إن كلامه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأرادوا به الكلام النفسي. ولا توجد له رائحة في السنة المطهرة، وكذا ما ذكره الشيخ في التأويلات: أن موسى سمع صوتاً دالاً على كلام الله وهو ظاهر البطلان لمخالفة نص القرآن.
وقد سكت جمع من السلف والخلف عن الخوض في تأويل صفة كلام الله تعالى. وقالوا إنه متكلم بكلام قديم يليق بذاته بحرف وصوت لا يشبه كلام المخلوق ليس كمثله شيء وله المثل الأعلى.
ولما سمع موسى كلام ربه عز وجل اشتاق إلى رؤيته وسأله بقوله (قال ربي أرني) أي أرني نفسك قاله الزجاج وقال ابن عباس: أعطني وأرني فعل أمر مبني على حذف الياء، والمعنى مكني من رؤيتك وهيئني لها فإن فعلت بي ذلك (أنظر إليك) فتغاير الشرط والجزاء، وبالجملة فقد سأله النظر إليه اشتياقاً إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. وسؤال موسى للرؤية يدل على أنها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها.
(قال لن تراني) جملة مستأنفة لكونها جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل فما قال الله؟ والمعنى: لن تراني بعين فانية بالسؤال بل بعين باقية بالعطاء والنوال أو أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه أو أنه لا يرى ما دام الرائي حياً في دار الدنيا، وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة.
ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه أباه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة
9
المطهرة يوقع في التعصب، والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقّي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم.
وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية منه.
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى... ومنهج الحق له واضح
ولم يقل لن أُرى ليكون نفياً للجواز ولو لم يكن مرئياً لأخبر بأنه ليس بمرئي، إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان، وقد تمسك أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وقالوا لن للتأبيد والدوام، وهذا غلط إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل اللغة العربية ولم يقل به أحد منهم.
والكتاب والسنة على خلاف ذلك فقد قال تعالى في حق اليهود (ولن يتمنوه أبداً) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة كما قال تعالى (ونادوا يا مالك لِيقْض علينا ربك) وقوله (يا ليتها كانت القاضية) والسنة أكثر من أن تحمى وعبّر بلن تراني دون لن تنظر إليَّ مع أنه المطابق لقوله (أنظر إليك) لأن الرؤية هي المقصودة والنظر مقدمتها وقد يحصل دونها.
وأما المطابقة في الاستدراك بقوله (ولكن انظر إلى الجبل) فواضحة لأن المقصود منه تعظيم أمر الرؤية. ومعناه أنك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرماً وصلابة وقوة وهو الجبل فانظر إليه (فإن استقر مكانه) وبقي على حاله ولم يتزلزل عند رؤيتي له (فسوف تراني) أي تثبت لرؤيتي، وإن ضعف عن ذلك فأنت منه أضعف، ولا طاقة لك، فهذا الكلام بمنزلة
10
ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، وقيل هو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا.
وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتي المعتزلة والأشعرية، فالمعتزلة استدلوا بقوله لن تراني كما تقدم وبأمره بأن ينظر إلى الجبل. والأشعرية قالوا: إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدل على أنها جائزة غير ممتنعة، ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة وكلامهم فيها معروف.
(فلما تجلّى ربّه) تجلى معناه ظهر من قولك جلوت العروس أي أبرزتها وجلوت السيف: خلّصته من الصّدأ. وتجلى الشيء: انكشف، والمعنى فلما ظهر ربه، وقيل المتجلي هو أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره (للجبل جعله دكاً) الدك مصدر بمعنى المفعول أي جعله مدكوكاً مدقوقاً فصار تراباً، هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة والدك والدق أخوان وهو تفتيت الشيء وسحقه، وقيل تسويته بالأرض.
وقرأ أهل الكوفة دكاء على التأنيث والجمع دكّاوات كحمراء وحمراوات وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض أو للأرض المستوية. فالمعنى أن الجبل صار صغيراً كالرابية أو أرضاً مستوية.
قال الكسائي: الدوك الجبال العراض واحدها أدك والدكاوات جمع دكاء وهي روابٍ من طين ليست بالغلاظ، والدكادك ما التبد من الأرض فلم يرتفع وناقة دكّاء لا سنام لها، قال سهل بن سعد الساعدي: دكاً يعني مستوياً بالأرض وقيل تراباً، وقيل ساخ حتى وقع في البحر.
وقال عطية العوفي: صار رملاً هائلاً، وقال الكلبي: يعني كسر جبالاً صغاراً، قيل واسم الجبل زبير، قال الضحاك: أظهر الله من نوره مثل منخر
11
الثور، وقال ابن سلام وكعب: ما تجلى إلا مثل سم الخياط، وقال السدي: إلا قدر الخنصر.
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن أنس ابن مالك أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية جعله دكاً قال: " هكذا وأشار بأصبعيه ووضع إبهامه على أنملة الخنصر، وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وخر موسى صعقاً، وفي لفظ فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة (١).
وهذا الحديث صحيح على شرط مسلم، وقال ابن عباس: هذا الجبل هو الطور وما تجلى منه إلا قدر الخنصر جعله تراباً، وقال سهل بن سعد: أظهر نوراً قدر الدرهم من سبعين ألف حجاب، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لما تجلى الله للجبل صارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة أحد وورقان ورضوى، وبمكة حراء وثبير وثور " (٢)، أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية وابن أبي حاتم وغيرهم وفي لفظ سبعة أجبل في اليمن اثنان حضور وصبر.
(وخرَّ موسى) أي سقط، والخرور السقوط وقيده الراغب بسقوط يسمع له خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو (صعقاً) أي مغشياً عليه لهول ما رأى، مأخوذ من الصاعقة، والمعنى أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له، يقال صعق الرجل فهو صعق ومصعوق إذا أصابته الصاعقة.
قال الكلبي: صعق موسى يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطى التوراة
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢٤٤.
(٢) ابن كثير ٢/ ٢٤٥.
12
يوم الجمعة يوم النحر، قال ابن عباس: فلم يزل صعقاً ما شاء الله، وقال قتادة: ميتاً والأول أولى لقوله (فلما أفاق) والميت لا إفاقة له، إنما يقال أفاق من غشيته والإفاقة رجوع الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنون أو سكر أو نحوهما ومنه إفاقة المريض وهي رجوع قوته وإفاقة الحلب هي رجوع الدر إلى الضّرْع.
قال الواقدي: لما خر موسى صعقاً قالت الملائكة ما لابن عمران وسؤال الرؤية فلما أفاق وعرف أنه سأل أمراً عظيماً لا ينبغي له (قال سبحانك) أي أنزهك تنزيهاً من أن أسأل شيئاً لم تأذن لي به أو عن أن تُرى في الدنيا أو من النقائص كلها (تبت إليك) عن العود إلى مثل هذا السؤال.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية فإن الأنبياء معصومون وقيل هي توبته من قتله للقبطي، ذكره القشيري ولا وجه له في مثل هذا المقام، وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنعها قال تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي، وما أبعده والأول أولى (١).
(وأنا أول المؤمنين) بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك وبأنك لا ترى في الدنيا مع جوازها (١).
_________
(١) وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله ﷺ قال: " لا تُخَيِّروا بين الأنبياء فإن الناس يَصعَقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حُوسب بصعقته الأولى ". أو قال " كفته صعقته الأولى ". وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال: إن الله تبارك وتعالى قسّم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما. ذكره القرطبي ٧/ ٢٨٠.
13
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥)
14
(قال يا موسى إني اصطفيتك) جملة مستأنفة والتي قبلها متضمنة لإكرام موسى واختصاصه بما اختصه الله به، والاصطفاء الاختيار والاجتباء أي اخترتك (على الناس) المعاصرين لك (برسالاتي) كأنه نظر إلى أن الرسالة هي على ضروب فجمع لاختلاف الأنواع وقرئ بالإفراد (وبكلامي) المراد به هنا التكليم، امتن الله سبحانه عليه بهذين النوعين العظيمين من أنواع الإكرام وهما الرسالة والتكليم من غير واسطة.
(فخذ ما آتيتك) أمره بأن يأخذ ما آتاه أي أعطاه من هذا الشرف الكريم والفضل الجسيم (وكن) أمره بأن يكون (من الشاكرين) على هذا العطاء العظيم والإكرام الجليل.
(وكتبنا له في الألواح من كل شيء) مما يحتاج إليه بنو إسرائيل في دينهم ودنياهم، وقال السدي: من كل شيء أمروا به ونهوا عنه، وعن مجاهد مثله.
وقد اختلف السلف في المكتوب في الألواح اختلافاً كثيراً، ولا مانع من حمل المكتوب على جميع ذلك لعدم التنافي، وهذه الألواح هي التوراة قيل كانت من زمردة خضراء، وقيل من ياقوتة حمراء، وقيل من زبرجدة خضراء وقيل من صخرة صماء، وقيل من خشب نزلت من السماء.
وقد اختلف في عدد الألواح وفي مقدار طولها وعرضها، والألواح جمع
14
لوح وسمي لوحاً لكونه تلوح فيه المعاني، وأسند الله سبحانه الكتابة إلى نفسه تشريفاً للمكتوب في الألواح وهي مكتوبة بأمره سبحانه، وقيل هي كتابة خلقها الله في الألواح.
وفي الحديث " خلق الله تعالى آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده وفي لفظ غرس الفردوس بيده "، رواه الدارمي وابن النجار وغيرهما عن عبد الله بن الحرث والمحفوظ أنه موقوف وفيه أبو معشر متكلم فيه.
قال ابن عمر: خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدن وآدم، وعن ميسرة أن الله لم يمس شيئاً من خلقه غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ونحوه عن كعب، رواهما الدارمي، وعن علي بن أبي طالب قال: كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في اللوح، وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي - ﷺ - قال: الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً " أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه.
وعن سعيد بن جبير قال: كانوا يقولون كانت الألواح من ياقوتة حمراء، وأنا أقول إنما كانت من زمرد وكتابتها الذهب كتبها الله بيده فسمع أهل السموات صريف الأقلام.
أقول: رحم الله سعيداً ما كان أغناه عن هذا الذي قاله من جهة نفسه فمثله لا يقال بالرأي ولا بالحدس، والذي يغلب به الظن: أن كثيراً من السلف رحمهم الله كانوا يسألون اليهود عن هذه الأمور فلهذا اختلفت واضطربت الأقوال فيها فهذا يقول من خشب، وهذا يقول من ياقوت وهذا
15
يقول من زمرد، وهذا يقول من زبرجد، وهذا يقول من برد وهذا يقول من حجر (١).
(موعظة) لمن يتعظ بها من بني إسرائيل وغيرهم، وحقيقة الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته (وتفصيلاً لكل شيء) أي للأحكام المحتاجة إلى التفصيل وتبياناً لكل شيء من الأمر والنهي والحلال والحرام، قيل أنزل التوراة وهي سبعون وقر بعير لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى.
(فخذها) أي الألواح وقيل: الضمير عائد إلى الرسالات أو إلى كل شيء أو إلى التوراة قيل: وهذا الأمر على إضمار القول أي قلنا له خذها (بقّوة) أي بجد ونشاط وقال ابن عباس: بحزم، وقال الربيع بن أنس: بطاعة وقال السدي: باجتهاد وقيل: بقوة قلب وصحة عزيمة ونية صادقة.
(وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) أي بأحسن ما فيها مما أجره أكثر من غيره وهو مثل قوله تعالى (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) وقوله (فيتبعون أحسنه) ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه والعمل بالعزيمة دون الرخصة وبالفريضة دون النافلة وفعل المأمور وترك المنهى عنه وقال ابن عباس: يحلُّوا حلالها ويحرِّموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويقفوا عند متشابهها وكان موسى أشدَّ عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به.
وقيل: الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح والأحسن الأخذ بالأشد والأشق على النفس، وقيل: أحسن بمعنى حسن وكلها حسن.
_________
(١) وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال: بلغني أن موسى بن عمران نبي الله ﷺ صام أربعين ليلة فلما ألقى الألواح تكسرت، فصام مثلها فردت إليه.
16
(سأريكم دار الفاسقين) أي الكفار قاله ابن عباس وهي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه قاله عطية العوفي وقيل منازل عاد وثمود قال الكلبي: قيل هي جهنم قاله الحسن، وعطاء وقيل منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها قاله السدي، وقال قتادة: سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية، وقيل الدار الهلاك والمعنى سأريكم هلاك الفاسقين، وقد تقدم تحقيق معنى الفسق، وقال مجاهد: سأريكم مصيرهم في الآخرة وقال قتادة: منازلهم في الدنيا.
ومعنى الإراءة: الإدخال بطريق الإرث، ويؤيده قراءة من قرأ (سأورثكم) بالثاء المثلثة كما في قوله (وأورثنا) القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها، قاله أبو السعود، وهذه القراءة ترد القول بأنها جهنم.
والعجب من السيوطي بعد هذا الخلاف المقرر كيف يرده بدعوى التصحيف والتحريف فإنه قد ذكر في حسن المحاضرة ما نصه:
اشتهر على ألسنة كثير من الناس أنها مصر، وقد أخرج ابن الصلاح وغيره من الحفاظ أن ذلك خلط نشأ عن تصحيف، وإنما الوارد عن مجاهد وغيره من مفسري السلف في قوله تعالى (سأريكم) الخ قال مصيرهم فصحفت انتهى، وجمهور المفسرين على أن بني إسرائيل بعد ذهابهم إلى الشام رجعوا إلى مصر وملكوا أرض القبط وأموالهم وبه قال القرطبي والكرخي وهو قول الحسن وقيل إنهم لم يعودوا إلى مصر، وهو قول ضعيف جداً.
17
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
18
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبَّرون في الأرض) قيل معناه سأمنعهم فهم كتابي أي أنزع عنهم فهم القرآن، قاله سفيان بن عيينة، وقال السدي: عن أن يتفكروا في آياتي، وقال ابن جريج عن التفكر في خلق السموات والأرض والآيات التي فيهما، وقيل سأصرفهم عن الإيمان بها والتصديق بما فيها وقيل عن نفعها مجازاة على تكبرهم كما في قوله (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وقيل سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها ولا يعتبروا بها.
واختلف في تفسير الآيات فقيل هي المعجزات التسع التي أعطاها الله لموسى. وقيل: الكتب المنزلة وقيل خلق العالم ولا مانع من حمل الآيات على جميع ذلك، وحمل الصرف على جميع المعاني المذكورة، والتكبر: إظهار كبر النفس على غيرها فهو صفة ذم في حق العباد أي يفتعلون الكبر ويرون أنهّم أفضل من غيرهم فلذلك قال (بغير الحق) أي يتكبرون بما ليس بحق أو متلبسين بغير الحق.
(وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) أي سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة والآيات التكوينية والمعجزات أي لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت.
(وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً) معطوفة على ما قبلها داخلة
18
في حكمه وكذلك (وإن يروا سبيل الغي يتَّخذوه سبيلاً) والمعنى: أنهم إذا وجدوا سبيلاً من سبل الرشد يعني طريق الحق والهدى والسداد والصواب تركوه وتجنبوه، وإن رأوا سبيلاً من سبل الغي والضلال سلكوه واختاروه لأنفسهم.
قال أبو عبيدة: فرق أبو عمرو بين الرُّشد والرَّشد فقال الرشد الصلاح والرَّشد في الدين وقال النحاس: سيبويه يذهب إلى أن الرُّشد والرَّشد كالسُّخط والسَّخط وهما لغتان وأصل الرُّشْد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد وهو ضد الخيبة.
(ذلك) إشارة إلى ما ذكر من تكبرهم وعدم الإيمان بالآيات وتجنب سبيل الرشد وسلوك سبيل الغي وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه (بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) أي بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها.
19
(والذين كذبوا بآياتنا ولقاء) الدار (الآخرة) يعني لقاءهم لها أو لقاءهم ما وعدوا به فيها ذكرهما الزمخشري (حبطت أعمالهم) الحباط البطلان أي بطل ما عملوه في الدنيا مما صورته صورة الطاعة كالصدقة والصلة وإن كانوا في حال كفرهم لا طاعات لهم كأن لم تكن، ويحتمل أن يراد: أنها تبطل بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إسلامهم لما في الحديث الصحيح [أسلمت على ما أسلفت من خير].
(هل يجزون إلا ما) أي بما (كانوا يعملون) أو على ما كانوا أو جزاء ما كانوا، قدره الواحدي وقال هنا: لا بد منه قال السمين وهو واضح، لأن نفس ما كانوا يعملونه لا يجزونه إنما يجزون بمقابلة أعمالهم من الكفر بالله والتكذيب بآياته وتنكب سبيل الحق وسلوك سبيل الغي.
19
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩)
20
(واتخذ قوم موسى من بعده) أي من بعد خروجه إلى الطور وذهابه إلى المناجاة (من) للتبعيض أو للابتداء أو للبيان (حليّهم) التي استعاروها من قوم فرعون للعيد ليتزينوا به حين هموا بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو لأنها بقيت عندهم إلى أن هلك فرعون وقومه فصارت ملكاً لهم، والحلي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلى وبه قرأ أهل المدينة وأهل البصرة.
وقرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي إلا عاصماً بكسر الحاء بالاتباع أي باتباع الحاء للام كدلي وهو ظاهر، وقرأ يعقوب بفتح الحاء وتخفيف الياء قال النحاس: جمع حَلي وحَليّ وحُلى مثل ثَدي وثَديّ وثُدى.
(عجلاً) أي اتخذوا عجلاً إلهاً و (جسداً) بدل من عجلاً أو وصف له يعني: اتخذوا من ذلك الحلي وهو الذهب والفضة عجلاً (له خُوار) أي صوت البقر، هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور المفسرين، والخوار: الصياح يقال: خار يخور خواراً إذا صاح، وكذلك خار يخار ونسب اتخاذ العجل إلى القوم جميعاً مع أنه اتخذه السامري وحده لكونه واحداً منهم وهم راضون بفعله.
روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعاً فيهم: إن معكم حلياً من حلى آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد وخرجتم وهو معكم، وقد
20
أغرق الله أهله من القبط فهاتوه فدفعوه إليه فاتخذ منه العجل المذكور.
قال قتادة: فجعله جسداً لحماً ودماً له خوار قال عكرمة: صوت، وقيل كان جسداً لا روح فيه وكان يسمع منه صوت من خفق الريح والأول أولى لأنه كان يخور قال وهب: كان يسمع منه الحوار ولا يتحرك، وقال السدي: كان يخور ويمشي وقرأ علي وأبو السماك له جؤار بالجيم والهمزة وهو الصوت الشديد.
(ألم يروا أنه لا يكلمهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي: ألم يعتبروا بأن هذا الذي اتخذوه إلهاً لا يقدر على تكليمهم فضلاً عن أن يقدر على جلب نفع لهم أو دفع ضر عنهم (ولا يهديهم سبيلاً) أي طريقاً واضحة يسلكونها وعلى كلا التقديرين لا يصلح لأن يعبد (اتخذوه) إلهاً، وأعيد تأكيداً (وكانوا ظالمين) لأنفسهم في اتخاذه إلهاً أو في كل شيء ومن جملة ذلك الاتخاذ.
21
(ولماَّ سقط في أيديهم) أي ندموا وتحيروا بعد عود موسى من الميقات، يقال للنادم المتحير: قد سقط في يده قال الأخفش: يقال سقط وأسقط، ونقله أيضاً الفراء والزجاج إلا أن الفراء قال: سقط أي الثلاثي أكثر وأجود.
وهذه اللفظة تستعمل في الندم والتحير، وقد اضطربت أقوال أهل اللغة في أصلها، قال الواحدي: قد بان من أقوال المفسرين وأهل اللغة أن سقط في يده ندم وأنه يستعمل في صفة النادم، فأما القول في أصله ومأخذه فلم أر لأحد من أئمة اللغة شيئاً أرتضيه فيه إلا ما ذكره الزجاج فإنه قال: إنه بمعنى ندموا.
وقال أبو عبيدة: يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقط في يده، وقال الزمخشري: معناه لما اشتد ندمهم، ومن قال: سقط على البناء للفاعل فالمعنى عنده: سقط الندم وأصله أن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً
21
فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها، وفي الجمل سقط فعل ماض مبني للمجهول وأصله سقطت أفواههم على أيديهم، فـ (في) بمعنى (على) وذلك من شدة الندم فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عض بفمه على أصابعه فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية.
وهذا التركيب لم تعرفه العرب إلا بعد نزول القرآن، ولم يوجد ذلك في أشعارهم والسقوط: عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل، وقال الأزهري والزجاج والنحاس وغيرهم: معنى سقط في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد، قال تعالى (ذلك بما قدمت يداك).
وأيضاً الندم وإن حلَّ القلب فأثره يظهر في اليد لأن النادم يعض يده ويضرب إحدى يديه على الأخرى، قال تعالى (فأصبح يقلب كفّيه على ما أنفق فيها) ومنه: (ويوم يعض الظالم على يديه) أي من الندم وأيضاً النادم يضع ذقنه في يده.
(ورأوا) أي تبينوا وتيقنوا (أنهم قد ضلوا) باتخاذهم العجل وأنهم قد ابتلوا بمعصية الله سبحانه في عبادتهم العجل (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكوننَّ من الخاسرين) وفي هذا الكلام منهم ما يفيد الاستغاثة بالله والتضرع والابتهال في السؤال والاعتراف بعظم ما أقدموا عليه من الذنب، والندم على ما صدر منهم والرَّغب إلى الله في إقالة عثرتهم واعترافهم على أنفسهم بالخسران إن لم يغفر لهم ربهم ويتب عليهم ويتجاوز عنهم ويرحمهم، وسيأتي في سورة طه إن شاء الله ما يدل على أن هذا الكلام المحكي عنهم هنا وقع بعد رجوع موسى، وإنما قدم هنا على رجوعه لقصد حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد.
22
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
23
(ولماّ رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً) هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه، والأسف: شديد الغضب قاله محمد بن كعب، وقيل هو منزلة وراء الغضب أشد منه، قاله أبو الدرداء، وقال ابن عباس والسدي: الأسف الحزن والأسيف الحزين، قال الواحدي: والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً يقال: هو أسف وأسيف وأسفان وأسوف.
قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا، وأن السّامري قد أضلهم فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً.
(قال بئسما خلفتموني من بعدي) هذ ذم من موسى لقومه أي بئس العمل ما عملتموه من بعد غيبتي عنكم وفراقي إياكم، يقال: خلفه بخير، وخلفه بشر، استنكر عليهم ما فعلوه وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الإنزجار، والإيمان بالله وحده، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلوُّن حالهم واضطراب أفعالهم.
ثم قال منكراً عليهم (أعجلتم أمر ربكم) العجلة التقدم بالشيء قبل وقته يقال: عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل حملته على العجلة، ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته،
23
والمعنى أعجلتم عن انتظار أمر ربكم أي ميعاده الذي وعدنيه وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم، قاله الحسن وقيل معناه تعجلتم سخط ربكم وقيل معناه أعجلتم وأسبقتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم، قاله الكلبي، وقيل معنى أعجلتم تركتم والأول أولى.
(وألقى الألواح) التي فيها التوراة أي طرحها لما اعتراه من شدة الغضب والأسف وفرط الزجر حمية للدين حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، قال ابن عباس: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها.
وعنه كما أخرج أبو الشيخ رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع، وقال مجاهد: لما ألقاها موسى ذهب التفصيل يعني أخبار الغيب، وبقي الهدى أي ما فيه المواعظ والأحكام، عن ابن جريج قال: كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة وفي زاده: المراد بإلقائها أنه وضعها في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه لا رغبة عنها فلما عاد إليها أخذها بعينها.
(وأخذ برأس أخيه) هارون أو بشعر رأسه ولحيته حال كونه (يجره) إليه من شدة غضبه لا هواناً به قال ابن الأنباري: مد يده إلى رأسه لشدة وجده عليه وفعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامري ولا غير ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل.
(قال) هارون معتذراً منه يا (ابن أم) إنما قال هذا مع كونه أخاه لأبيه وأمه لأنها كلمة لين ورفق وعطف، ولأن حق الأم أعظم وأحق بالمراعاة وقد قاست فيه المخاوف والشدائد مع أنها كما قيل كانت مؤمنة، وقال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه، قال أبو السعود: وكان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولاً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل.
24
(إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين استضعافهم لي ومقاربتهم لقتلي، مع إني لم آل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار.
(فلا تشمت بي الأعداء) الشماتة: أصلها الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال: شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به، والمعنى لا تسر الأعداء بما تفعل بي من المكروه، وفي المصباح شمت به يشمت من باب سلم إذا فرح بمصيبة نزلت به، والاسم الشماتة وأشمت الله العدو به ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء "، وهو في الصحيح (١).
قيل: والمعنى لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم، وقال مجاهد ومالك ابن دينار: لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي، وقال ابن جني: والمعنى فلا تشمت بي أنت يارب، وما أبعد هذا المعنى عن الصواب، وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب.
(ولا تجعلني مع القوم الظَّالمين) أي لا تجعلني بغضبك في عداد القوم الذين عبدوا العجل أو لا تعتقد أني منهم مع براءتي منهم ومن ظلمهم.
_________
(١) مسلم ٢٧٠٧ - البخاري ٢٤٠١.
25
(قال رب اغفر لي ولأخي) طلب المغفرة له أولاً ولأخيه ثانياً ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة فكأنه قد ندم مما فعله بأخيه، وأظهر أنه لا وجه له وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليه من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم (وأدخلنا في رحمتك) التي وسعت كل شيء (وأنت أرحم الراحمين) فيه ترغيب في الدعاء لأن من هو أرحم الراحمين تؤمل منه الرحمة، وفيه تقوية لطمع الداعي في نجاح طلبته.
25
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
26
(إن الذين اتَّخذوا العجل) إلهاً عبدوه من دون الله (سينالهم غضب من ربهم) الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم، وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب (وذلَّة في الحياة الدنيا) الذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله: (ضربت عليهم الذّلة) وقيل هي إخراجهم من ديارهم، والأولى أن يقيدَّ الغضب والذلة بالدنيا لقوله: (في الحياة الدنيا) وإن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهاً لا لمن بعدهم من ذراريهم، ومجرد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم وبه يصيرون أذلاء وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم وبه يصيرون أذلاء.
وأما ما نال ذراريهم من الذل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال ابن عباس وعطية العوفي فلا يصح تفسير ما في الآية به إلا إذا تعذر حمل الآية على المعنى الحقيقي، وهو لم يتعذر هنا، وقال ابن جريج: إن هذا الغضب والذلة لمن مات منهم على عبادة العجل ولمن فر من القتل، وهذا الذي قاله وإن كان له وجه لكن جميع المفسرين على خلاف ذلك.
(وكذلك) أي مثل ما فعلنا بهؤلاء (نجزي المفترين) أن نفعل بهم، عن أيوب قال هو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله، وقال سفيان بن عيينة: هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة، وقال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد ما فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية قال: والمبتدع مفتر في دين الله اهـ.
26
والافتراء الكذب، فمن افترى على الله سيناله غضب وذلة في الحياة الدنيا وإن لم يكن بنفس ما عوقب به هؤلاء، بل المراد ما يصدق عليه أنه من غضب الله سبحانه وإن فيه ذلة بأي نوع كان، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى.
27
(والذين عملوا السَّيئات) أي سيئة كانت حتى الكفر وما دونه ومن جملتها عبادة العجل (ثم تابوا من بعدها) أي من بعد عملها (وآمنوا) بالله (إن ربك) أيها التائب أو يا محمد (من بعدها) أي من بعد هذه التوبة أو من بعد عمل هذه السيئات التي قد تاب عنها فاعلها وآمن بالله (لغفور رحيم) أي كثير الغفران لذنوب عباده وكثير الرحمة لهم.
وفي الآية دليل على أن السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأن الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته، وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين.
(ولما سكت) وقرئ أسكت (عن موسى الغضب) أصل السكوت السكون والإمساك عن الشيء يقال جرى الوادي ثلاثاً ثم سكت أي مسك وسكن عن الجري، وقيل هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجر برأس أخيك فترك الإغراء وسكت.
وقيل هذا الكلام فيه قلب، والأصل سكت موسى عن الغضب كقولهم أدخلت الأصبع الخاتم والخاتم الأصبع، وأدخلت القلنسوة رأسي، ورأسي القلنسوة، والأول أولى، وبه قال أهل اللغة والتفسير وفيه مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به والمغري عليه، حتى عبر عن سكونه بالسكوت.
(أخذ الألواح) التي ألقاها عند الغضب، قال الرازي: وظاهر هذا
27
يدل على أن الألواح لم تتكسر ولم يرفع من التوراة شيء (وفي نسختها) فعله بمعنى مفعولة كالخطبة، والنسخ: نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر، ويقال للأصل الذي كان النقل منه نسخة وللمنقول نسخة أيضاً، قال القشيري: والمعنى أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة، وقيل المعنى وفيما نسخ له منها أي من اللوح المحفوظ وقيل المعنى وفيما كتب له فيها فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه، وهذا كما يقال انسخ ما يقول فلان أي اثبته في كتابك.
(هدى) أي ما يهتدون به من الأحكام (ورحمة) أي ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة، قال مجاهد: ولم يذكر التفصيل ههنا وقال ابن عباس: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب (للَّذين هم) أي كائنة لهم أو لأجلهم واللام في (لربهم) للتقوية للفعل، وقد صرح الكسائي بأنها زائدة وقال الأخفش: هي لام الأجل، وقال المبرد: التقدير للذين هم رهبتهم لربهم (يرهبون) أي يخافون منه سبحانه (١).
_________
(١) قيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام؛ أخبر الله عز وجل به عنه، وتمّ الكلام. ثم قال الله تعالى: " وَكَذَلِكَ نجْزِي اْلمُفْتَرينَ "، وكان هذا القول من موسى عليه السلام قبل أن يتوب القوم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم- كما تقدم بيانه في " البقرة " أجرهم أن من مات قتيلاً فهو شهيد، ومن بقي حياً فهو مغفور له. وقيل: كان ثم طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أي حبه، فلم يتوبوا، فهم المعنيون بقوله: " إن الذين اتخذوا العجل ". وقيل: أراد من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات، وقيل: أراد أولادهم. وهو ما جرى على قُريظة والنضير، أي سينال أولادهم. والله أعلم. (وكذلك نجزي المفترين) أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين. ذكره القرطبي في ٧/ ٢٩٢.
28
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
29
(واختار موسى قومه سبعين رجلاً) هذا شروع في بيان ما كان من موسى ومن القوم الذين اختارهم، والأختيار افتعال من الخيار، يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره، والمعنى اختار من قومه فحذف كلمة من وذلك شائع في العربية لدلالة الكلام عليه قيل اختار من كل سبط من قومه ستة نفر فكانوا اثنين وسبعين، فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحنوا فقال لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وذهب معه الباقون.
وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم موسى أن يصوموا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء ذكره الخطيب وقيل غير ذلك.
(لميقاتنا) أي للوقت الذي وقتناه له بعد أن وقع من قومه ما وقع، والميقات الكلام الذي تقدم ذكره لأن الله أمره أن يأتي إلى الطور في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه سبحانه من عبادة العجل، كذا قيل وقال مجاهد: المعنى لتمام الموعد، وقيل هذا الميقات غير ميقات الكلام السابق في قوله: (وواعدنا موسى) فهذا بعد ميقات الكلام ولم يبينوا مدة هذا.
وقال ابن عباس: أمره الله أن يختار سبعين رجلاً فاختارهم وبرز بهم
29
ليدعو ربهم فكان فيما دعوا لله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعط أحداً من قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة كما قال: (فلما أخذتهم الرجفة) هي في اللغة الزلزلة الشديدة قيل إنهم زلزلوا حتى ماتوا يوماً وليلة وقال وهب لم تكن موتاً ولكن أخذتهم الرِّعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت أن تبين مفاصلهم.
ومعظم الروايات أنهم ماتوا قال مجاهد: ماتوا ثم أحياهم الله تعالى وسبب أخذ الرجفة لهم ما حكى الله عنهم من قولهم: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) على ما تقدم في البقرة وقيل هؤلاء السبعون غير من قالوا أرنا الله جهرة بل أخذتهم الرجفة بسبب عدم انتهائهم عن عبادة العجل، وقيل إنهم قوم لم يرضوا بعبادة العجل ولا نهوا السامري ومن معه عن عبادته فأخذتهم الرجفة بسبب سكوتهم.
فلما رأى موسى أخذ الرجفة لهم (قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل) المعنى لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا قبل هذا الوقت وقال ذلك اعترافاً منه عليه السلام بالذنب وتلهفاً على ما فرط من قومه (وإياي) معهم وذلك أنه خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين ولم يصدقوا بأنهم ماتوا.
(أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) الاستفهام للجحد أي لست ممن يفعل ذلك قاله ثقة منه برحمة الله، والمقصود منه الاستعطاف والتضرع، قاله ابن الأنباري وقيل معناه الدعاء والطلب أي لا تهلكنا قاله المبرد، وقيل قد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره ولكنه كقول عيسى " عليه السلام إن تعذبهم فإنهم عبادك وقيل المراد بالسفهاء السبعون، والمعنى أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم أرنا الله جهرة، وقيل المراد بهم السامري وأصحابه.
(إن هي) قال الواحدي: الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول إن
30
هو إلا زيد (إلا فتنتك) التي تختبر بها من شئت وتمتحن بها من أردت، ولعله عليه السلام استفاد هذا من قوله سبحانه: (إنا قد فتنا قومك من بعدك) قال أبو العالية: بليَّتك وقال ابن عباس: مشيئتك (تضل بها) أي بهذه الفتنة (من تشاء) من عبادك (وتهدي) بها (من تشاء) منهم ومثله (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) قال الواحدي: وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر.
ثم رجع إلى الاستعطاف والدعاء فقال: (أنت ولينا) أي المتولي لأمورنا وهذا يفيد الحصر أي لا ناصر ولا حافظ إلا أنت (فاغفر لنا) ما أذنبناه (وارحمنا) برحمتك التي وسعت كل شيء (وأنت خير الغافرين) للذنوب.
31
(واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) بتوفيقنا للأعمال الصالحة أو تفضل علينا بإفاضة النعم من الحياة الطيبة والعافية وسعة الرزق (و) اكتب لنا (في الآخرة) الجنة بما تجازينا به أو بما تتفضل به علينا من النعيم في الآخرة (إنا هدنا) تعليل لما قبلها من سؤال المغفرة والرحمة والحسنة في الدنيا وفي الآخرة أي إنا تبنا (إليك) ورجعنا عن الغواية التي وقعت من بني إسرائيل، والهود التوبة، وقد تقدم في البقرة وبه قال جميع المفسرين قيل وبه سميت اليهود، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم ثم صار اسم ذم وهو لازم لهم، وأصل الهود الرجوع برفق والمهادنة المصالحة قال عكرمة فكتب الرحمة يومئذ لهذه الأمة.
وقال أبو وجزة السعدي: وكان من أعلم الناس بالعربية: لا والله ما أعلمها في كلام العرب هدنا قيل فكيف؟ قال: هدنا بكسر الهاء يقول ملنا.
(قال عذابي أصيب به من أشاء) قيل المراد بالعذاب هنا الرجفة، وقيل
31
أمره سبحانه لهم بأن يقتلوا أنفسهم أي ليس هذا إليك يا موسى بل ما شئت كان وما لم أشأ لم يكن، والظاهر أن العذاب هنا يندرج تحته كل عذاب ويدخل فيه عذاب هؤلاء دخولاً أولياً، وقيل المراد من أشاء من المستحقين للعذاب أو من أشاء أن أضله وأسلبه التوفيق ليس لأحد عليّ اعتراض لأن الكل ملكي وعبيدي.
(ورحمتي وسعت كل شيء) من المكلفين وغيرهم، قيل هذا من العام الذي أريد به الخاص فرحمة الله عمت البر والفاجر في الدنيا، وهي للمؤمنين خاصة في الآخرة، قاله الحسن وقتادة، وقال جمع من المفسرين: لما نزلت هذه الآية تطاول إبليس إليها قال وأنا من ذلك الشيء فنزعها الله من إبليس قاله السدي وابن جريج، وعن قتادة نحوه فقال: (فسأكتبها للذين يتقون) الذنوب أو الشرك قاله ابن عباس (ويؤتون الزكاة) المفروضة عليهم (والذين هم بآياتنا يؤمنون) أي يصدقون ويذعنون لها، فأيس إبليس، وقالت اليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله من اليهود وأثبتها لهذه الأمة.
وأخرج مسلم وغيره عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة " (١)، وعن ابن عباس قال سأل موسى ربه مسألة فأعطاها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأعطى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كل شيء سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه في هذه الآية.
_________
(١) وفي رواية لمسلم: إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس، والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة مسلم (٢٧٥٢) البخاري ٢٣٢٠.
وفي رواية خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة.
32
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
ثم بين سبحانه هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال: (الذين يتبعون) قال الرازي: هم من بني إسرائيل خاصة وقال الجمهور: هم جميع الأمة سواء كانوا منهم أو من غيرهم (الرسول النبي الأمي) هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المفسرين فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل، والأمي إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب ولا تقرأ، وهم العرب قاله الزجاج أو نسبة إلى الأم والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وقيل نسبة إلى أم القرى، وهي مكة والأول أولى.
وكونه أمياً من أكبر معجزاته وأعظمها، قال السيد الغبريني المقري شارح البردة: إن كونه أمياً معجزة له كما قرروه حتى لا يرتاب أحد في كلام الله، يرد عليه إنه لو ثم قيل عليه لم خلق أفصح الناس ولم يخلق غير فصيح حتى يعلم أن ما يتلوه من الكلام المعجز ببلاغته ليس كلامه.
قال الشهاب في الريحانة قوله هذا ليس بشيء لأن الامية سابقة في أكثر فصحاء العرب وهم في غناء عن الكتابة، وأما عدم الفصاحة فلكنة وعيب عظيم منزه عنه عال مقامه، وطاهر فطرته وجوهر جبلته، وهذا البحث مما لا تراه في غير كتابنا هذا.
وقال في حاشية البيضاوي قيل إنه منسوب إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى
33
القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب بفتح الهمزة انتهى.
قال أبو السعود: أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة وقد جمع مع ذلك علوم الأولين والآخرين انتهى، وهل صدر عنه ذلك في كتابه صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور أو إنه لم يكتب وإنما أسند إليه مجازاً، وقيل إنه صدر عنه ذلك على سبيل المعجزة وتفصيله في فتح الباري.
(الذي يجدونه) يعني اليهود والنصارى أي يجدون نعته (مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) وهما مرجعهم في الدين وهذا الكلام منه سبحانه مع موسى هو قبل نزول الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون.
قال الرازي: وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب فيهما لأن ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله، فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك المنعت كان مذكوراً في التوراة والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته انتهى وسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذه الآية إن شاء الله تعالى مستوفى.
أخرج ابن سعد والبخاري وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن عطاء ابن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله - ﷺ - قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.
وروي نحو هذا مع اختلاف في بعض الألفاظ وزيادة ونقص في بعض
34
عن جماعة، وذكر الخميسي في تاريخه أن لفظ محمد مذكور في التوراة باللغة السريانية بلفظ المنحمنا، ومعنى هذا اللفظ في تلك اللغة هو معنى لفظ محمد وهو الذي يحمده الناس كثيراً وذكر أن لفظ أحمد مذكور في الإنجيل بهذا اللفظ العربي الذي هو أحمد.
(يأمرهم بالمعروف) أي بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره من الأشياء التي هي من مكارم الأخلاق (وينهاهم عن المنكر) أي عما تنكره القلوب ولا تعرفه وهو ما كان من مساوئ الأخلاق، قال عطاء: يأمرهم بخلع الأنداد وصلة الأرحام، وينهاهم عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام.
(ويحل لهم الطيبات) أي المستلذات التي تستطيبها الأنفس، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل، وقيل ما حرم عليهم من الأشياء التي حرمت عليهم بسبب ذنوبهم من لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر، وقيل ما كانوا يحرمونه على أنفسهم في الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي.
(ويحرم عليهم الخبائث) أي المستخبثات كالحشرات والخنازير والربا والرشوة وقال ابن عباس يريد الميتة والدم ولحم الخنزير وقيل هو كل ما يستخبثه الطبع أو تستقذره النفس فإن الأصل في المضار الحرمة إلا ما له دليل متصل بالحل.
(ويضع عنهم إصرهم) الإصر الثقل أي يضع عنهم التكاليف الشاقة الثقيلة أو العهد الذي أخذ عليهم أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام وقد تقدم بيانه في البقرة (والأغلال التي كانت عليهم) الأغلال مستعارة للتكاليف الشاقة التي كانوا قد كلفوها، وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن البدن والثوب بالمقراض، وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت، وإن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس إلى غير ذلك.
35
(فالذين آمنوا به) أي بمحمد - ﷺ - واتبعوه فيما جاء به من الشرائع (وعزروه) أي عظموه ووقروه قاله الأخفش وقيل معناه منعوه من عدوه وأصل العزر المنع (ونصروه) أي قاموا بنصره على من يعاديه (واتبعوا النور الذي أنزل معه) أي القرآن الذي أنزل عليه مع نبوته وقيل المعنى واتبعوا القرآن المنزل إليه مع اتباعه بالعمل بسنته مما يأمر به وينهي عنه أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه.
(أولئك) إشارة إلى المتصفين بهذه الأوصاف (هم المفلحون) أي الناجون الفائزون بالخير والفلاح والهداية لا غيرهم من الأمم.
وهذه الآية فيها دلالة واضحة وحجة نيرة على كون ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثابتاً في الكتب القديمة، فلنذكر ههنا ما يوافقها منها فأقول.
قال أهل الكتاب يجب على النبي أن يكون منصوصاً عليه فيما قبله من الكتب، ومحمد لم يكن منصوصاً عليه فليس بنبي، أما الصغرى فلأنه لو لم يكن منصوصاً عليه لأشكل على الأمة معرفته، وأما الكبرى فلعدم وجود النص.
والجواب عنه بمنع الصغرى لأنه لا يجب أن يكون منصوصاً عليه في سجل من قبله لأن شرط صدق النبوة الإتيان بالخارقة، ولو كان شرطه النص لامتنع الاستعجاز وعليه أهل التحقيق فيبطل القياس، وبمنع الكبرى لأن محمداً - ﷺ - قد نص عليه موسى ويوشع وداود وسليمان وأشعيا وارميا وملاخيا وزكريا وعيسى عليهم السلام فيكون نبياً.
ومن البراهين على إثبات نبوته - ﷺ - ما ورد في الأعمال من كتاب الاستثناء " وسيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم نبياً مثلي فاسمعوا جميع ما يأمركم به فإن كل نفس لا تسمع أمر ذلك النبي تستأصل من بين القوم ".
وهذا هو الدليل الذي تمسك به جماعة من المسلمين على نبوته - ﷺ - وأثبتوا
36
دلالته على ذلك بعشرة وجوه ذكرت في محلها، وفسره النصارى في شأن المسيح وزعموا أنه هو الذي وعد به موسى لأنه تولد في دار يوسف بن يعقوب بن متان من زوجته مريم بنت عمران، وهذا التفسير بديهي البطلان إذ لو كان المراد به نبياً من بني إسرائيل لكان الأولى به يوشع بن نون أو أشمويل أو العزير أو داود أو سليمان أو أشعيا أو غيره من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، ولكنه تعالى فرزه عن بني إسرائيل بقوله: " من إخوتكم " نظراً إلى أنهم نفس إسحق فتكون إخوتهم بنو إسمعيل بلا مناقشة.
وهذا حوار مطرد عند اليهود والعرب كما قال: " سيأتي المنقذ من صهيون ويخرج النفاق من يعقوب " أي من بني يعقوب إلى غير ذلك.
وإلا فأقول إن عيسى ابن مريم بن إسرائيل وإسرائيل أخ لنفسه ينتج أن عيسى بن مريم ابن أخ لنفسه، وليس الأمر كذلك أما الصغرى فلاعتراف النصارى بأن المسيح من أولاد داود ولا شك أن داود من أولاد إسرائيل وولد الولد ولد، وأما الكبرى فلما ظهر من هذا النص من أن أخ الإنسان عبارة عن نفسه.
وأجيب بمنع الصغرى لأن الأخوين لفظان متباينان لا يصدق أحدهما على مفهوم الآخر وإلا يلزم ترادف المتباينين وهو باطل، ولا يرد عليه مثل البيع لأن العمدة في اللغة السماع ولم ينقل عن أحد فيكون المنصوص عليه محمداً- ﷺ - بلا مناقشة بدليل قوله: " فاسمعوا جميع ما يأمركم به " الخ لأن عيسى عليه السلام لم يأت في دعوته بقهر يجبر به القوم لأن دعوته كانت على سبيل الترغيب لا غير.
وإلا فليكن المسيح هو المنصوص عليه، وحينئذ أقول كل نصراني يسلم أو يتهود يجب عليه القتل وكل نصرانية تزني يجب عليها الرجم لقوله: (كل نفس) الخ لكن النصراني إذا ارتد والنصرانية إذا زنت لا يحدا، فالمسيح ليس بمنصوص عليه في هذا المقام، أما المقدم فلوضوح النص في قوله: (كل نفس
37
لا تسمع) الخ لأنه أمر بالاستقامة على الدين والإحصان وإلا فليس بنبي، وأما التالي فلعدم إجراء الحدود في ملته الم تر أن النصراني يسلم ويتهود ويتبرهم ولا يجب عليه حد، وأنه ربما ينقض جميع سنن الإنجيل وأحكامه ويرتكب ما يخالفهما ولا ينكر عليه أحد.
وهذا بخلاف ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن عدم امتثال بعض أوامره يوجب هرق الدم وإزهاق الأنفس فيكون هو المنصوص عليه بهذا النص، وهذا هو معنى قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله).
وفي إنجيل متى وفي كتاب أشعيا هذا هو عبدي الذي انتخبت ومحبوبي الذي رضيت عليه فسأحل روحي عليه وسيظهر للعوام الدينونة ولن يصرخ ولن يصيح ولن يسمع صوته في الأزقة أحد، ولن يكسر قصبة مرضوضة ولن يطفئ ذبالة مدخنة حتى يخرج الدينونة المنصرة ويتكل على اسمه العوام انتهى، وهذا نص صريح على إثبات نبوة نبينا - ﷺ -.
وأما استدلال النصارى بهذا على كون المسيح ابن الله وخاتم الأنبياء فلا دلالة لها عليه إذ الجزاء فيه اتكال العوام عليه، وقد صلب أو رفع ولم يتكل عليه العوام، وقد مضى من ارتفاعه أو صلبه إلى زمان تحرير هذه السطور ١٨٧٩ سنة ولم يجتمع عليه من العوام أحد إلا اليونانيون والأرمن والجروج والفرنج وبعض الحبش، وهذا ليس بإجماع لأن أقل مراتب الإجماع أعظم النصفين، وقد يظهر لك بالنظر في الجغرافيا أن النصارى أقل من عشر غيرهم فينتقض الإجماع.
وأما حلول الروح عليه وإظهاره الدينونة للعوام واتصافه بهذه الصفات المرضية فلا دلالة لها على كونه ابن الله وخاتم الأنبياء، لأن نزول الروح مما يختص بالأخيار وإظهار الدينونة مما يختص بالملوك، ولا شك أن روح القدس قد حلت عليه، وأنه قد أخبرنا بالدينونة العظمى التي هي محمد صلى الله عليه
38
وآله وسلم، لكنه يدل على أن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله وهو ممنوع.
وأما إظهار الدينونة واتكال العوام عليه، فليس كما أوله النصارى، بل إنما المراد بالإظهار الإخبار، وباتكال العوام عليه، اتكالهم على ذلك الإخبار لا غير، وإلا لفسد المعنى لأن حلول الروح عليه وإظهاره الدينونة للعوام وعدم صراخه وصياحه إلى آخره مقيد بأخبار الدينونة للنصرة واتكال العوام على اسمه ووقوع المشروط عين إطلاق الشرط فما يكون بعد ذلك.
فإن قلت سيكون سلطاناً شديداً منعته لعدم وقوعه وعدم إدعاء النصارى به، وإن قلت شيطاناً عنيداً منعته لتقدس ذاته وإنكار النصارى له.
ولأني أقول إن كان عيسى بن مريم هو المخصوص بهذا النص فبعد إخراج الدينونة للنصرة واتكال العوام على اسمه لا بد أن ترفع عنه روح الله التي حلت عليه، لكن المسيح هو المقصود بهذا النص ينتج أن روح الله قد رفعت عنه، والتالي باطل فالمقدم مثله.
أما بطلان التالي فلأن روح الله لا ترتفع عن أنبيائه، وأما بطلان المقدم فلصدق استثناء نقيضه.
إذا علمت ذلك فاعلم أيدك الله بروحه القدسية أن خلاصة هذا النص أنه تعالى قد أخبر بأن عيسى عليه السلام هو نبيه الذي انتخب في ذلك الزمان ومحبوبه الذي رضي عليه في تلك الأيام، ووعد أنه سيحل عليه روحه، وسيظهر الدينونة أي القضاء للعوام أي يخبر بها ووصفه بالسكوت وعدم المكابرة ردعاً لليهود لأنهم يقولون أن المسيح ملك عظيم الشأن وقيد ذلك بإخراج الدينونة للنصرة التي هي محمد - ﷺ -.
وفي بعض التراجم " حتى يخرج الحكم بالغلبة " عوض " يخرج الدينونة للنصرة " وهما مترادفتان لأنه هو الذي نصر دين الله وباتكال العوام على اسمه أي عليه يعني على إخباره يريد بذلك أن العوام سيتكلون على إخباره حين
39
ظهور محمد - ﷺ - فيؤمنون به، فتكون هذه الأمور غاية بعثته عليه السلام وبعد نفوذها يؤوب إلى مآبه الأصلي سواء كان بالصلب ثم الرفع أو بالرفع بغير الصلب، فتفكر في هذا المقام فإنه دقيق وأمعن نظرك فيه.
وفي كتاب يهودا وكتاب زكريا أن الرب قد جاء أو سيجيء بربوات مقدسة ليقضي على جميع الناس، ويوبخ المنافقين لجميع أعمال نفاقهم التي نافقوا بها وجميع الأقوال الصعبة التي تكلم بها عليه الخاطئون انتهى.
ودلالة هذا النص على إنبعاث نبينا محمد - ﷺ - بديهية لا تحتاج إلى نظر لانحصار جميع هذه الصفات في ذاته المقدسة لكونه مبعوثاً بالسيف أي بالجهاد ولوثوبه بربوات صناديد العرب ولقضائه على جميع الناس ولتوبيخه أهل النفاق، ولا تقل أنه لم يقض على جميع الناس لما صرحت لك فيما قبل هذا بأن الإجماع عبارة عن أعظم النصفين.
وأما استدلال النصارى بهذه الدلالة على ربوبية المسيح نقلاً عن صحيفة زكريا فلا شك في صحة النقل إلا أنه لا دلالة فيه على ما ادعوه مطلقاً ولا على ثبوته بل ولا دلالة له عليه بوجه من الوجوه، لأن المنصوص عليه بالإتيان بهذه الربوات المقدسة والقضاء على جميع الناس وتوبيخ المنافقين ينبغي أن يقوم بالأمر لجد الحديد الأخضر، ولا دلالة لشيء من هذه الصفات على المسيح عليه السلام لأنه لم يأت إلا في زي بعض الزهاد المتخلقين بالمسوح والرماد.
وإلا فإن كان المسيح هو المقصود بهذا النص فلا شك أنه قد قهر اليهود وصلب بيلاطوس النبتي لكن المسيح هو المقصود بهذا النص فيكون كذلك والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بطلان التالي فلعدم وقوع ذلك ولإنكار النصارى إياه، وأما بطلان المقدم فلصدق استثناء نقيضه، وكيف يجوز العقل احتياج الإله في الإنتقام من الأعداء إلى الجند والسلاح.
فإن قيل أنه ليس بإله لكنه ابن الله، قلت لا أسلم عدم الألوهية لأن
40
جميع النصارى قد اتفقوا في تفسير هذا النص بالألوهية قوله من الأعمال " فاحتاطوا على أنفسكم وعلى الرعية التي أقامكم الروح القدس عليها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بخالص دمه " مع أن الضمير يرجع إلى عيسى المذكور باللفظ وإلى الروح القدس الذي هو عبارة عن نفس المسيح، فتأمل فيه.
ومع قطع النظر عن هذا كله إذا كان ابن الله يجب على أبيه أن يذب عنه.
وفي مرقص وفي متى ثم طفق يضرب لهم الأمثال ويقول اغترس رجل كرماً وحوطه بحائط وبحث فيه معصرة وبنى برجاً وآجره للفلاحين وسافر، ولما جاء الموسم أرسل إلى الفلاحين خادماً لينال من ثمرة الكرم شيئاً فأخذوه وضربوه وردوه خائباً فأرسل إليهم خادماً ثانياً فرجموه وشجوه وردوه محقراً ثم أرسل ثالثاً فقتلوه وكثيرين آخرين ضربوا بعضهم وقتلوا بعضاً وكان قد بقي له ابن وحيد هو محبوبه فأرسله إليهم آخر الأمر وقال أنهم سيكرمون ابني فقال الفلاحون فيما بينهم أن هذا هو الوارث فهلموا بنا نقتله فيصير الميراث لنا فأخذوه وقتلوه وأخرجوه خارج الكرم فماذا يفعل رب الكرم، نعم إنه سيأتي ويهلك الفلاحين ويسلم الكرم إلى آخرين ألم تقرأوا هذا المرقوم قوله إن الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية هذا هو ما وقع عند الرب وهو في نظركم عجيب انتهى.
وهذا من أعظم الدلائل الواردة في الإنجيل على نبوة محمد - ﷺ -، وقد تغافل عنه النصارى وأولوه بتأويل باطل.
وتقرير ذلك أن هذا أول الفصل وهو جملة استئنافية، فالغارس فيه هو الباري تعالى شأنه، والمغرسة الدنيا، والكرم بنو آدم، والحائط الناموس، والمعصرة الأحكام الناموسية، والبرج الأنبياء، والفلاحون الذين بلغتهم الدعوة، فأول الرسل موسى بن عمران عليه السلام، وثانيهم يوشع بن نون،
41
وثالثهم يحيى بن زكريا، والمجهولون المتوسطون، من موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام، والولد الوحيد عيسى عليه السلام.
وناهيك به من مثل لطيف نبه وأنبأ فيه عيسى على نفسه أيضاً والآخرون الذين يسلم إليهم الكرم هم العرب.
فإن قلت لم كنى في الأول بالأنبياء وههنا بالأمة، قلت تبجيلاً له - ﷺ - وإكراماً لأمته إذ هم أفضل الأمم وتصديقاً لقوله سبحانه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) الآية وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " على كلام فيه، وفيه من عظمة شأنه وسمو مكانه ما لا يخفى بل ما يفوق على شأن جميع الأنبياء فتأمّله.
ثم انظر إلى حسن أداء المثل فكأنه عليه السلام قد سئل عن ذلك فقال إنه من أولاد إسماعيل، فأجيب بأنه هل يبعث من أولاد الفتاة نبي، فقال عليه السلام ألم تقرأوا ما قال أشعياء في قوله إن الحجرة التي رفض الخ فإن كذبتموني فما تفعلون بقول نبيكم أشعياء " فهذا الذي أنتم تستحقرونه يكون في الدرجة العليا لأنه هو قضاء الرب وهو الوفاء لعهده الذي عاهد به إبراهيم عليه السلام في بابت إسماعيل حيث قال في التكوين قوله: " وأما إسماعيل فإني قد سمعت دعاءك له وها أنذا قد باركت فيه وجعلته مثمراً وسأكثره تكثيراً وسيلد اثني عشر ملكاً وسأصيرهم أمة عظيمة ".
وأما ما ذهب إليه اليهود والنصارى من أن المراد بالملوك الإثني عشر أولاد إسماعيل الإثنا عشر فهو باطل لأنهم لم يتملكوا، ولم يدعوا الملكية، والحق أنه في شأن الأئمة الإثني عشر من قريش كما ورد في ذلك الحديث وعهده الذي عاهد به هاجر في كتاب الخليقة حيث قال فقال لها أي هاجر ملك الرب إنك حاملة وستلدين إبناً تسميه إسماعيل لأن الله قد سمع اضطرابك وسيكون بدوياًْ وتكون يده معارضة لجميع الناس ويد جميع الناس معارضة له.
42
وهذا في غاية اللطافة والعموم، وفي كتاب متى وكتاب أشعيا وفي المزامير أن تلك الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية هذا هو عمل الرب وهو في أعيننا عجيب اهـ.
ولا شك أن هذا النص يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه من ولد إسماعيل وهو المرفوض قبل وجود موسى ورأس الزاوية هو ملتقى الخطين فيكون هو الخاتم لأن طرفي الخطين يذهبان إلا حيث ما يذهبان إليه، ولا حاجة لتعيين ابتدائها فيكون ملتقى الخطين هو منتهاهما وهذا هو محمد- ﷺ - الذي ختم الله به فيلق رسله.
وقوله هذا هو عمل الرب الخ جواب سؤال مقدر تقديره هل يمكن أن تستقر الحجرة المرفوضة رأس الزاوية وهل يجوز أن يقوم من أولاد الجارية المصرية هاجر نبي، فيكون الجواب هذا هو عمل الرب الخ وسياقه في أشعياء قوله: " هذا ما يقول الرب الإله ها أنا ذا قد ألقيت في صهيون حجرة أساس الإبل زاوية وأساس محقق لا يخجل من يعتقد بها.
فقوله: " هذا " للتحضيض والترغيب في الاستماع، وما مفرد في معنى الكل ويقول في معنى القول، فيكون المعنى هذا كل قول الرب الإله وصفة الرب للتعظيم والتخويف، ها أنا ذا إلى قوله حجرة أساس الإضافة بمعنى اللام الإبل زاوية بدل من الأساس، وأساس محقق بدل من البدل، لا يخجل من يعتقد بها غاية إلقائها، فيكون معنى قول أشعياء إن هذا هو قول الرب فمن يعتقد به وينتظر وقوعه ويؤمن به لن يخجلن والمراد به نفس النص.
ومعنى قول متى أن تلك الحجرة يعني إسماعيل التي رفض البناؤون إبراهيم وسارة والجمع للحوار العبراني أو للتفخيم، والمضي في رفض لغبور الفعل فيه صارت للتأكيد رأساً للزاوية خاتماً للرسل.
ووجه المطابقة أن كلام أشعياء يدل على الإخبار، وكلام متى يدل على التحقيق، جعلني الله ممن يسلك سواء الطريق.
43
وذهب النصارى إلى تأويل هذا النص في شأن عيسى عليه السلام على عادتهم وقالوا إن اليهود كانوا يحتقرونه فيكون النص في شأنه وهو باطل لأن تأكيد التعريف يفيد العهد الذهني وليس في بني إسرائيل محتقر ولا مرفوض من حيث إنه من بني إسرائيل، وعيسى ابن مريم من بني إسرائيل فلا دلالة للنص عليه مع أن العهد الخارجي المشار إليه في أيام موسى يجب أن يكون غابراً، والفعل ماض فيجب مضي العهد، وإن كان المسيح بن مريم قد رفضه اليهود في أيام موسى أو قبل أيامه فهو المنصوص عليه لكنه لم يكن كذلك فلن يكون كذلك.
ولا شك أن النص دال على ما ذكرناه من نبوة محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم برمته.
وفي رومية ويوشع سأدعو الذين ليسوا من شيعتي لي شيعة والتي ليست بمحبوبتي لي محبوبة اهـ.
واختلس النصارى هذا النص على عادتهم وأولوه في شأن اتباع المسيح وقالوا إنه لم يأت إلا لاستدعاء العوام مع أنه خلاف لما تواتر عليه النص، فمنه ما ورد في متى " إني لم أرسل إلا لغنم بيت إسرائيل الضالة فجاءت الامرأة وسجدت له وقالت أعني يا رب فقال لها وهو يحاورها إنه لا يجوز أن يؤخذ خبز الأولاد ويلقى للكلاب ".
وما ورد في متى لما أرسل الحواريين للدعوة حيث قال: " بل سيروا إلى غنم بيت إسرائيل الضالة " إلى غير ذلك.
وتقرير الأول أن امرأة سريانية أتت إليه تلتمسه أن يبرئ بنتها فقال لها: إني لم أرسل إلا لأبرئ بني إسرائيل الذين هم أحباء الله، ولا يجوز لأحد أن يأخذ خبز الأولاد ويلقى أمام الكلاب، فإذا كان بمحض الإبراء والوعظ
44
ليس بمأمور أن يبرئ أو يعظ غير اليهود فكيف تكون نبوته عامة.
وأما استدلالهم بما ذكره في رومية فلا دلالة له أيضاً على الخصوصية لأن موضوع هذا الفصل ممانعة اليهود لليونانيين عن التنصر، فاستدل بولوس على جواز ذلك بإضافة الإختيار إلى المختار الحقيقي حيث قال: " فمن أنت أيها الإنسان حتى تجيب الله تعالى لعل الجبلة تقول لجابلها لم صنعتني هكذا أو لعل الفخار لا سلطان له على الطين حتى يعمل من كتلة واحدة إناء للكرامة وإناء للإهانة الخ.
فذكر ذلك استدلالاً على جواز اضطباع العوام استحساناً لأن الجواز غير الوجوب بخلاف نبوة محمد ﷺ فإنه قد أوجب عليه دعوة الثقلين وعليه الإجماع، ولو كانت علة مجيء عيسى دعوة العوام لما احتاج إلى الاستدلال فينتقض.
ويدل على محمد نفسه - ﷺ - بالضرورة لأنه لم يكن من بني إسرائيل فلم يكن من شيعة الرب الخاصة ولما لم يكن من شيعته الخاصة فلم يكن له محبوباً فيكون الباري تعالى قد تبرع بارساله وهو أبلغ وأظهر للقدرة لأن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب لما ورد في متى من سفر الخروج لأنهم من أولاد إسحاق وهو ابن سارة ومحمد ﷺ من أولاد إسماعيل وهو ابن هاجر جارية سارة لكن الواجب تعالى رغم أنفهم به وصيره له محبوباً وشيعته له شيعة.
وإن لم يكن كذلك فنقول إن كان اليونانيون هم الذين رفضتهم سارة لما حكمت على إبراهيم عليه السلام أن يخرجهم إلى البر وطردتهم من بيتها لما حملت جاريتها المصرية هاجر من إبراهيم، فهذا النص صادق عليهم لكن اليونانيين ليسوا بالذين طردتهم سارة فلا يصدق عليهم النص. أما المقدم فلادعاء اليهود بأن بني إسماعيل ليسوا من شيعة الرب وهم المرفوضون، ولا وجه
45
للعموم لأن غير استيلاء الخصم لا يشق مشقة استيلاء الخصم، وأما التالي فلأن هذا النص لا يصدق إلا على من يصدق عليه المقدم لأن التعريف يفيد العهد الذهني.
وفي رومية والاستثناء إني سأعيركم بأمة أخرى وأغيظكم بأمة لا فهم لها انتهى.
استدل النصارى بهذا النص على عموم نبوة المسيح وقالوا إنه خاص في شأن اليونانيين والرومانيين وهو باطل لأنهم كانوا أعلم من اليهود في جميع الفنون.
وتقريره في هذا الفصل أن بُولُس كان يعظ اليهود ويعترض عليهم لما تنفروا من تنصر اليونانيين والرومانيين ويقول إنهم لم يميزوا الكتب ولم يمعنوا النظر في النواميس حيث قال الله تعالى على لسان موسى: " إني سأعيركم " الخ فهذا لا دلالة له على عمومية نبوته البتة إذ لا دلالة له على دعوة كلا الفريقين، لكنه تنبيه لليهود حتى يرتدعوا عما كانوا عليه من الغرور ويذكروا هذا النص ويحذروا يوم يعيرهم الله بأمة أخرى ويغيظهم بأمة لا فهم لها والمراد بهم العرب أولاد هاجر.
والبرهان على ذلك أنهم كانوا أميين لأنهم هم الذين لا فهم لهم ولا علم، وسياق النص في الاستثناء قوله: " إنهم قد عيروني بلا إله وأغاظوني بعبثهم فسأعيرهم بلا فئة وسأغيظهم بأمة لا فهم لها " قوله: " عيروني بلا إله أي بعبادة الأوثان لما اتخذوا العجل، وأغاظوني بعبثهم أي العبث الصادر منهم لما قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فأنا سأعيرهم بلا فئة يريد بها أولاد هاجر المصرية يعني بني إسرائيل، وأغيظهم بأمة لا فهم لها لأنهم كانوا في تلك الأيام لا يتعاطون شيئاً من العلوم العقلية ولا النقلية ما سوى علم الشعر والمنازل وليسا بشيء ".
46
وإلا فأقول إن كان اليونانيون في زمان موسى جهالاً لا دخل لهم في شيء من العلوم بحيث إن اليهود كانوا يستحقرونهم بالنظر إلى جهالتهم فهذا النص صادق عليهم لكن اليونانيين في زمان موسى كانوا أعلم من اليهود في جميع الأحوال، فلا يكون هذا النص صادقاً عليم، أما المقدم فلأن النصارى يدعون ذلك وأما التالي فلأنه لا شك في أن اليونانيين كانوا أعلم من اليهود في جميع العلوم سيما الإلهيات إلا علم فقه اليهود وليس بشيء.
والدليل على ذلك ما حققه داود جانز في كتابه الذي سماه صحيح داود قوله: شرع سطريوس الحكيم في تعليم المساحة في مصر أيام مطيطوس أول ملوك بابل سنة ٢٨ ومن تاريخ الخليقة ولاطينوس اللاطيني علم الطبيعيات وبحث عن كائنات الجو زمان سقزينس ١٥ من ملوك بابل سنة ٢٣٦٥ وأرقيلوس الحكيم اليوناني بحث عن حركات الأفلاك هو وولداه سردينوس وقرسيقوس عهد أمينوس ١٩ من ملوك بابل سنة ٢٤٧٥ وكانت ولادة موسى سنة ٢٣٦٨ ولم يزل اليونانيون يزدادون بسطة في الملك والعلم حتى ظهور رب الجنود- ﷺ -، ومن الذين ظهروا أيام بني إسرائيل مرقورياس علم الموسيقى سنة ٢٦٢٦ ولوسيوس قيصراً بحث في حركة الشمس مع فيلقوس الحكيم سنة ٢٨٢٥ وكان فيلقوس فاضلاً مرتاضاً في علم النجوم وأبقراط أو بقراط الطبيب الحاذق وإبنه أوقليدس المهندس، وأفلاطون الحكيم بحثوا عن أكثر فنون الحكمة النظرية عهد مردخان واستير سنة ٣٤١ (١) واسكندر ابن قبلقوس أو داراب وأستاذه لقوما خشيوس بحثاً عن أكثر فنون الحكمة سنة ٢٤٤٢ أيام العزير عليه السلام إلى غير ذلك.
فعلى هذا يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المكنى عنه به وأمته المهدية هي المشار إليها.
_________
(١) قوله سنة ٣٤١ كذا بالأصل، وكذا جميع الأعداد في هذه الصحيفة هي كذلك في الأصل وحرر إهـ مصححه.
47
وفي رومية وأشعياء قوله: إني قد وجدت عند من لم يطلبني وظهرت عند من لم يسأل عني انتهى.
أول النصارى هذا النص الصريح في حق اليونانيين الذين اتبعوا عيسى عليه السلام في زمان الفترة وقالوا إنهم لم يطلبوا معرفة الله تعالى قبل المسيح فيختص النص بهم وسياقه في رومية يظهر لك مما قبله ولا دلالة له عليهم لأنه لا يصدق إلا على مفهوم ما قبله، ومع تسليمه كيف يجوز العقل أن اليونانيين لم يطلبوا معرفة الواجب تعالى مع أنهم هم أول من دون الإلهيات وبحث في وحدة الواجب تعالى.
إذا تحقق ذلك فاعلم أن هذا النص يخص العرب فقط ولا يدخل فيه ولا فيما قبله من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحد لأنهم هم الأميون البله الذين لم يكونوا يفهمون ما الواجب بل ولا الممكن قبل بعثته عليه السلام، وأما قول لبيدة:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
فلمداخلة اليهود والنصارى أو بالنظر إلى الناموس الطبيعي لأن جميع الأمم الذين لم تبلغ إليهم دعوة الأنبياء لا بد لهم من ناموس يتمسكون به.
ومن المعلوم أن الأبكم مع عدم إطلاعه على شيء من هذه الأشياء إذا اشتبه أو اضطر ينظر إلى السماء وكذلك البهائم الوحشية إذا أصابها الجدب، وساقه في أشعياء قوله: إني قد أصبت عند من لم يسأل عني ووجدت عند من لم يطلبني وقلت لأمة لم تدع باسمي أنظري إلي أنظري إلي لأني قد أظهرت يدي طوال النهار إلى فئة طاغية سالكة في سبيل سيئ ممتثله لأهوائها وفئة أي فئة تغيظني أمام وجهي وتقرب قرابينها في البساتين وتبخر في مباخر الشياطين التي
48
تسكن المقابر وتأكل لحم الخنازير ومرق النجاسة في أوانيها.
فمن قوله أصبت قوله أنظري إلي، إشارة إلى انحراف الناموس إلى العرب واصطفائه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومن قوله لأني إلى قوله ممتثلة لأهوائها إشارة إلى اليهود، ومن قوله وفئة إلى قوله في أوانيهم إشارة ظاهرة في حق النصارى.
إذا فهمت فاعلم أن هذا النص لا يمكن أن يستدل به على غير ما ذكرته لك لأنه هو موضوعه ولا يجوز الاستدلال بالتأويلات التضمينية أو الاستلزامية فيما لم تكن قرينتهما موجودة سيما إذا كانت قرينة المطابقة فيه ظاهرة، وفقني الله وإياك لاقتفاء سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وفي لوقا وأشعياء صوت صارخ في البرية أعدوا طرق الرب وهيئوا سبله فإن كل واد سيمتلئ وكل جبل وأكمة ستضع وتعتدل المعوجات وتلين الصعبات ويشاهد خلاص الله كل ذي جسد انتهى.
وهذا من أوضح البراهين الواردة في شأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تغافل اليهود والنصارى عنه فأوله اليهود في شأن مسيحهم الموهوم، وأوله النصارى في حق إلههم المعلوم، والحق أنه لا يدل على ذلك.
أما إنه لا يدل على المسيح الموهوم فلأن سياقه في أشعياء قوله سلوا شيعتي سلوهم قال إلهكم سلوا أورشليم وقولوا لها إن تعبها قد تم وخطيئتها قد غفرت لأنه قد وقع عليها من يد الرب لخطيئتها ضعفان من العذاب، وهذا صوت صارخ يقول في الهدية هيئوا طريق الرب ووطئوا لأجل إلهنا في البادية سبيلاً مرتفعاً فإن كل واد سيرتفع، وكل جبل وأكمة ستتضع وسيعتدل المعوج وستلين الصعبات وسيظهر مجد الله ويشاهده كل ذي جسم لأن فم الله نطق
49
به، فقال الصوت اصرخ فقال بماذا أصرخ فإن جميع الأجسام كلأ وكل مجدها كزهر الحقل فالكلأ يذبل والزهر يسقط لأن روح الرب يرف عليه، ولا شك أن الملأ كلأ فيجف الكلأ ويسقط الزهر وكلمة الله تمكث إلى الأبد.
فمن قوله: " سلوا إلى من العذاب " ظاهر الدلالة على أن الواجب تعالى يقول لنبيه أن يسلى ويخبر أمته بما هو مزمع الوقوع وباستقامة دعائم أورشليم في آخر الزمان، وفي قوله ضعفان من العذاب إشارة إلى أنها كانت قد أخطأت فانتقم الله منها بما حدث عليها من الذل بعد المسيح عليه السلام في أيام تسلط الروم والنصارى عليها إلى زمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد محمد - ﷺ - أيام تسلط العرب عليها وهي أيامنا هذه إلى زمان ظهور القائم إن شاء الله تعالى، وبعد ذلك تستقيم دعائمها وتعمر رسومها.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن المهدي سينطلق إلى أورشليم ويصلي فيها ويجتمع هناك بالمسيح عليه السلام عند نزوله، ومن قوله: " هذا صوت صارخ إلى قوله نطق به " إشارة إلى يحيى بن زكريا عليه السلام لما كان يعظ بهذه الجملة على شاطيء شط الأردن وقوله: " وطئوا له في البادية سبيلاً مرتفعاً لا يدل على غير السبيل المستقيم من مكة إلى أورشليم البتة لأن أورشليم ليست في البادية وقوله فإن كل واد يريد به الجهال كأهل السواحل والارتفاع عبارة عن الصعود على ذروة طود الإيمان، وكل جبل وأكمة يشير به إلى الجبابرة من الفرس والروم، والاتضاع الانقياد إلى أوامر الدين الحنيف وسيعتدل المعوج إشارة إلى اليونانيين وحكماء الهند بقبول الشريعة الغراء لانحراف طبائعهم عن - رضي الله عنه - الانعطاف إلى اتباع النواميس الإلهية.
وقوله تلين الصعاب، كناية عن العرب لأنهم هم أقوى الناس جناناً، وأبعدهم إيماناً، وإلى ذلك إشار بقوله: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) الخ وقوله: " وسيشاهد مجد الله " أي المهدي والسين للاستقبال البعيد، والمعنى أنه إذا كملت جميع هذه الأمور، وبعث محمد - ﷺ - يظهر المهدي.
50
وقوله لأن فم الرب قد نطق به إشارة إلى وجوب وقوعه، ومن قوله: فقال الصوت اصرخ الخ ضرب من شديد التأكيد لوجوب وقوعه، فلا دلالة لشيء منه على مسيح اليهود الموهوم، اللهم إلا أن يريدوا بالمسيح نفس المهدي، فحينئذ يلزمهم الإعتراف بنبوة عيسى ومحمد - ﷺ -.
وأما إنه لا يدل على عيسى بن مريم فلأن سياقه في أشعياء قد مر بيانه ولا محتمل له غيره، ولأن لوقا لم يذكره مستدلاً به عليه، ولا قرينة هناك يؤول إليها الضمير، بل إنه جملة مستأنفة في أول الإصحاح، ومضمون الإصحاح على الإجمال أن لوقا أخبر أنه في زمان كذا جاء يحيى بن زكريا إلى البرية يصرخ ويقول كذا.
وهذا لا يدل على المسيح بن مريم بوجه من الوجوه، ولكنه يدل على بعثة محمد - ﷺ - وقيام المهدي لأن الجملة مستأنفة والقاعدة في المستأنفات أن تحمل على ما يناسبها فيكون ما ذكره لوقا ضرباً من التأكيد لكلام أشعياء عليه السلام لا غير.
فعليك أن تتأمل في هذا البرهان فإنه في غاية اللطافة.
وفي متى ثم ضرب لهم مثلاً آخر وقال إن ملكوت الله تماثل حبة خردل أخذها رجل وزرعها في مزرعته وهي أصغر جميع الحبوب، فلما نمت صارت أعظم النباتات وأصبحت شجرة تأتي إليها طيور الجو، وتسكن في أغصانها انتهى.
وسياق هذا المثل أن المسيح كان جالساً على ساحل البحر فاجتمع عنده القوم فأخذ يضرب لهم الأمثال ومن جملتها هذا المثل، وقد أوله النصارى في حق من يكون محباً للمسيح مواظباً على عمل الخير، وهل فيه يا للرجال على هذا المعنى الضعيف دلالة ولا شك أنه من الأمثال التي كان يضربها المسيح عليه السلام في شأن محمد - ﷺ -.
51
وتأويل المثل أن الزارع هو الواجب تعالى والمزرعة الدنيا وحبة خردل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أصغر جميع الحبوب على بادئ الرأي لأن جميع الأمم كانوا يستهزئون بالعرب لكونهم من أهل البادية وعدم رواج العلم في أماكنهم وعدم تنعمهم باللذات الجسمانية، واليهود كانوا يستحقرونهم لكونهم من أولاد هاجر، فقوله: " هي أصغر الحبوب " جملة حالية فلما نمت أي بلغ إلى رشده واستوفى من درجة الرسالة العامة أشُدَّه صارت أعظم النباتات أي صار أشرف الرسل وأكملهم لبقاء ملته إلى قيام القيامة، ولأنه لم يقلد ما قبله من الرسل الرِّسالة العامة اصبحت أي صارت شجرة تأتي إليها طيور الجو جملة حالية وقعت صفة الشجرة والمراد بطيور الجو الأمم الذين لم يقلدوا بغير الناموس وتسكن في أغصانها أي تطمئن تحت أحكام شريعته صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه أحد عشر نصاً يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ولا يقدر أحد من أهل الكتاب على إنكار وجوده فيهما، والبراهين على إثبات نبوة محمد - ﷺ - في الكتب القديمة السماوية من التوراة والإنجيل والزبور كثيرة جداً لا يسع بسطها هذا المقام، فإن شئت الاطلاع عليها فارجع إليها وإلى ما نقله الإسلاميون عنها في كتب الرد على النصارى.
وهذه الأدلة كلها لها دلالة صريحة على ما نطق به القرآن الكريم في هذه الآية أعني يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وفي أمثالها وهذا مع تحريف تلك الكتب لفظاً أو معنى أو بكليهما.
وأما البشارات التي وردت في حقه - ﷺ - كما قال سبحانه وتعالى مشيراً إلى ذلك في قوله نقلاً عن عيسى بن مريم عليه السلام: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فهي كثيرة جداًَ ايضاً سنذكر بعضه تحت الآية الكريمة المذكورة إن شاء الله.
52
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) لما تقدم ذكر أوصاف رسول الله - ﷺ - المكتوبة في التوراة والإنجيل، أمره سبحانه أن يقول هذا القول المقتضى لعموم رسالته إلى الناس والجن جميعاً لا كما كان غيره من الرسل عليهم السلام، فإنهم كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة، قال ابن عباس: بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأسود والأحمر، والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة فلا نطيل بذكرها.
(الذي له ملك السموات والأرض) ملكاً وعبيداً وتصرفاً وقوله (لا إله إلا هو) بدل من الصلة مقرر لمضمونها مبين لها لأن من ملك السموات والأرض وما فيهما هو الإله على الحقيقة، وهكذا من كان (يحيي ويميت) هو المستحق بتفرده بالربوبية ونفي الشركاء عنه، والجملة سيقت لبيان اختصاصه بالإلهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماته غيره، قاله الزمخشري وذكره السمين فلذا قال:
(فآمنوا) والأمر بالإيمان (بالله ورسوله) متفرع على ما قبله وفي العدول عن المضمر إلى الاسم الظاهر بلاغة (النبي الأمي) هما وصفان لرسوله وكذلك (الذي يؤمن بالله وكلماته) وصف له والمراد بالكلمات ما أنزله الله عليه وعلى الأنبياء من قبله أو آياته أو عيسى قاله مجاهد والسدي أو القرآن فقط قاله قتادة والعموم أولى.
وجملة (واتبعوه) مقررة لجملة فآمنوا به، والاتباع يعم الأقوال والأفعال والاعتقاد والأعمال (لعلكم تهتدون) علة للأمر بالإيمان والاتباع.
53
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
54
(ومن قوم موسى أمة) لما قص الله سبحانه علينا ما وقع من السامري وأصحابه وما حصل من بني إسرائيل من التزلزل في الدين، قص علينا سبحانه أن من قومه أمة مخالفة لأولئك الذين تقدم ذكرهم ووصفهم بأنهم (يهدون) أي يدعون الناس إلى الهداية حال كونهم متلبسين (بالحق) أو يهتدون به ويستقيمون عليه ويعملون به ويرشدون إليه (وبه يعدلون) بين الناس في الحكم أي بالحق يحكمون وبالعدل يأخذون ويعطون وبه يتصفون.
واختلفوا في هؤلاء فقيل هم القوم الذين بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى قبل التحريف والتبديل ودعوا الناس إليه، وقال الكلبي والضحاك والربيع: هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل، ويصحون في النهار ويزرعون ولا يصل إليهم أحد منا وهم على الحق إلى آخر القصة، وما أبعدها عن الصحة وأقربها إلى الوضع، وقد ابتلى بذكرها جمع من المفسرين الذين ليس لهم معرفة بعلم الحديث.
وقيل هم الذين آمنوا بمحمد - ﷺ - والقرآن.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال موسى: يا رب أجد أمة أنا جيلهم في قلوبهم قال: تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد، قال: يا رب
54
أجد أمة يصلون الخمس تكون كفارات لما بينهن، قال: تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد، قال: يا رب أجد أمة يعطون صدقات أموالهم ثم ترجع فيهم فيأكلون قال: تلك أمة بعدك أمة أحمد قال: يا رب اجعلني من أمة أحمد - ﷺ -، فأنزل الله كهيئة المرضية لموسى (ومن قوم موسى أمة) الآية.
55
(وقطعناهم) الضمير يرجع إلى قوم موسى المتقدم ذكرهم لا إلى هؤلاء الأمة منهم الذين يهدون بالحق، والمعنى صيرناهم (اثنتي عشرة أسباطاً) أي قطعاً متفرقة وفرقناهم معدودين بهذا العدد وميزنا بعضهم من بعض. وهذا من جملة ما قصه الله علينا من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل وأنه ميز بعضهم من بعض حتى صاروا أسباطاً كل سبط معروف على انفراده، لكل سبط نقيب كما في قوله تعالى: (وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً).
والأسباط جمع سبط وهو ولد الولد صاروا اثني عشر أمة من اثني عشر ولداً، وأراد بالأسباط القبائل ولهذا أنث العدد، والمراد أولاد يعقوب لأن يعقوب هو إسرائيل وأولاده الأسباط وقد تقدم تحقيق معنى الأسباط في البقرة.
وسماهم (أمماً) لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد وكانوا مختلفي الآراء يؤم بعضهم غير ما يؤم الآخر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، ولتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، فأما اليهود فإن الله يقول: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فهذه التي تنجو، وأما النصارى فإن الله يقول: (منهم أمة مقتصدة) فهذه التي تنجو، وأما نحن فيقول: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فهذه التي تنجو من هذه
55
الأمة، وقد قدمنا أن زيادة كلها في النار لم تصح لا مرفوعة ولا موقوفة.
(وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) أي وقت استسقائهم له لما أصابهم العطش في التيه (أن) تفسير لفعل الإيحاء (اضرب بعصاك الحجر) الذي فر بثوبه فضربه (فانبجست) الانبجاس الانفجار أي فانفجرت وقيل عرفت (منه اثنتا عشرة عيناً) بعدد الأسباط لكل سبط عين يشربون منها.
(قد علم كل أناس) اسم جمع واحده إنسان وقيل جمع تكسير له والإنسان اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع، والأناس بالضم مشتق من الإنس وقد تحذف همزته تخفيفاً على غير قياس فيصير ناساً (مشربهم) والمعنى علم كل سبط منهم بالعلم الضروري الذي خلقه الله في كُلٍّ: العين المختصة به التي يشرب منها لا يدخل سبط على سبط في مشربهم، وقد تقدم في البقرة ما فيه كفاية مغنية عن الإعادة.
(وظللنا عليهم الغمام) أي جعلناه ظللاً عليهم في التيه يسير بسيرهم ويقيم بإقامتهم ويقيهم حرَّ الشمس (وأنزلنا عليهم) في التيه (المن والسلوى) أي الترنجبين والسُّمانى طعاماً لهم وقيل السلوى جنس من الطير وقد تقدم تحقيقه في البقرة (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي وقلنا لهم كلوا من المستلذات التي رزقناكم (وما ظلمونا) بما وقع منهم من المخالفة وكفران النعم وعدم تقديرها حق قدرها (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي كان ظلمهم مختصاً بهم مقصوراً عليهم لا يجاوزهم إلى غيرهم (١).
_________
(١) ذكره القرطبي ٦/ ١١٢: وقال الربيع والسدي وغيرهما: إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبّارين والسبر لقوتهم ومنعتهم، فساروا ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوا عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة -على ما يأتي- وظنوا أنهم لا قبل لهم بها؛ فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم؛ ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل.
56
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)
(وإذ قيل) أي اذكر وقت أن قيل (لهم) هذا القول وهو (اسكنوا هذه القرية) أي بيت المقدس أو أريحاء، وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه وفي البقرة (ادخلوا هذه القرية) ولا منافاة بينهما لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه (وكلوا منها) أي من المأكولات الموجودة فيها من الثمار والزروع والحبوب والبقول (حيث) أي في أي مكان (شئتم) من أمكنتها لا مانع لكم من الأكل فيه.
وقال في البقرة فكلوا بالفاء لأن الدخول حالة مقتضية للأكل عقبه فحسن دخول الفاء للتعقيب، والسكنى حالة استمرار والأكل حاصل متى شاءوا ولم يقل رغداً هنا كما قال في البقرة لأن الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل، ومع السكنى ليس كذلك.
(وقولوا حطة) أي حط عنا ذنوبنا وقد تقدم تفسيرها في البقرة (وادخلوا الباب) أي باب القرية المتقدمة حال كونكم (سجداً) أمروا بأن يجمعوا بين قولهم حطة وبين الدخول ساجدين، فلا يقال كيف قدم الأمر بالقول هنا على الدخول وأخره في البقرة وقد تقدم معنى السجود الذي أمروا به (نغفر لكم خطيآتكم) أي ذنوبكم ولم نؤاخذكم بها، وإنما قال هنا خطياتكم وفي البقرة خطاياكم لأن المقصود غفران ذنوبهم سواء كانت قليلة أو كثيرة إذا أتوا بالدعاء والتضرع (وسنزيد المحسنين) على المغفرة للخطايا بما نتفضل به عليهم من النعم، وقال في البقرة (وسنزيد) بالواو لأن هنا استئنافاً على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له سنزيد.
57
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)
58
(فبدّل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم) يعني أمروا أن يقولوا حطة فقالوا حنطة في شعيرة فكان ذلك تبديلهم، وتغييرهم ودخلوا يزحفون على أستاههم وأدبارهم، وقد تقدم بيان ذلك في البقرة، لكن ألفاظ هذه الآية تخالف الآية المذكورة في سورة البقرة من وجوه ثمانية ذكرها الخطيب وقد أشرنا إليها فيما تقدم.
(فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء) أي عذاباً كائناً منها وهو الطاعون ومات به منهم في وقت واحد سبعون ألفاً، وقال في البقرة (أنزلنا) ولا منافاة بينهما لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل (بما كانوا يظلمون) أي بسبب ظلمهم، وقال في البقرة: (بما كانوا يفسقون) والجمع بينهما أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا وبدلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله تعالى.
(و) اذكر إذ قيل لهم و (اسألهم عن القرية) هذا سؤال تقريع وتوبيخ، والمراد من سؤال القرية سؤال أهلها أي اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها المخالف لما أمرهم الله به، والأولى عدم تقدير المضاف كما سيأتي تحقيقه في سورة يوسف إن شاء الله تعالى.
وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله ﷺ وأن اطلاعه عليه لا يكون إلا بإخبار له
58
من الله سبحانه فيكون دليلاً على صدقه.
واختلف أهل التفسير أي قرية هي؟ فقيل: أيلة قاله علي وقيل: مدين، وقيل: إيلياء، وقيل قرية بين مصر والمدينة والمغرب قاله ابن عباس، وقيل: بين مدين والطور على شاطيء البحر، وقال الزهري: هي طبرية الشام، وقال وهب: هي ما بين مدين وعيوني، وقيل قرية من قرى ساحل الشام.
(التي كانت حاضرة البحر) أي التي كانت بقرب بحر القلزم يقال: كنت بحضرة الدار أي بقربها، والمعنى سل يا محمد ﷺ هؤلاء اليهود الموجودين الذين هم جيرانك عن قصة أهل القرية المذكورة (إذ يعدون) أي يتجاوزون حدود الله بالصيد، وقرئ بتشديد الدال من الإعداد للآلة (في) يوم (السبت) الذي نهوا عن الاصطياد فيه، والسبت هو اليوم المعروف، وأصله السكون يقال سبت إذا سكن وسبت اليهود تركوا العمل في سبتهم، والجمع أسبت وسبوت وأسبات.
(إذ تأتيهم حيتانهم) جمع حوت وأضيفت إليهم لمزيد اختصاص لهم بما كان منها على هذه الصفة من الإتيان (يوم سبتهم) دون ما عداه قال الضحاك: تأتيهم متتابعة يتبع بعضها بعضاً (شرعاً) جمع شارع أي: ظاهرة على الماء قريباً من الساحل، وقيل: رافعة رؤوسها، وقيل: إنها كانت تشرع على أبوابها كالكباش البيض، قال في الكشاف يقال شرع علينا فلان إذا دنا وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا انتهى.
(ويوم لا يسبتون) أي لا يفعلون ولا يراعون أمر السبت وذلك عند خروج يوم السبت، والمعنى لا سبت ولا مراعاة (لا تأتيهم) الحيتان كما كانت تأتيهم في يوم السبت (كذلك) أي مثل ذلك البلاء العظيم والاختبار الشديد (نبلوهم بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم.
59
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
(وإذ قالت أمة منهم) أي جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة وإقلاعهم عن المعصية (لم تعظون قوماً الله مهلكهم) أي مستأصل لهم بالعقوبة (أو معذبهم عذاباً شديداً) بما انتهكوا من الحرمة وفعلوا من المعصية، وقيل إن الجماعة القائلة لم تعظون قوماً هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت، قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم، والمعنى إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا.
(قالوا) أي قال الواعظون للجماعة القائلين لهم لم تعظون وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأول أو الفاعلون على الثاني أي فعلنا ذلك (معذرة) أي لأجل المعذرة أو موعظتنا معذرة على قراءة الرفع (إلى ربكم) حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما علينا ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا، ويقلعوا عما هم فيه من المعصية.
قال جمهور المفسرين إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت وصادت، وكانت نحو سبعين ألفا، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص، وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص، فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية لم تعظون [قوماً] يريدون الفرقة العاصية [الله مهلكهم] أو معذبهم، قالوا ذلك على غلبة الظن لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم من دون استئصال بالهلاك فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله (ولعلهم يتقون) ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية وعاصية لقال لعلكم تتقون.
60
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
61
(فلما نسوا ما ذكروا به) أي لما ترك العصاة من أهل القرية ما ذكرهم به الصالحون الناهون عن المنكر ترك الناسي للشيء المعرض عنه كلية الإعراض (أنجينا الذين ينهون عن السوء) أي الذين فعلوا النهي ولم يتركوه (وأخذنا الذين ظلموا) وهم العصاة المعتدون في السبت (بعذاب بئيس) أي شديد وجيع من: بؤس الشيء بأساً إذا اشتد، وفيه إحدى عشرة قراءة للسبعة وغيرهم (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم واعتدائهم وخروجهم عن طاعتنا.
قال ابن عباس: نجت الفرقة الساكتة، وقال يمان بن رباب: نجت الطائفتان وأهلك الذين أخذوا الحيتان وبه قال الحسن، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان، وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر.
(فلما عتوا عما نهوا عنه) أي تجاوزوا الحد في معصية الله سبحانه وأبوا أن يرجعوا عنها تمرداً وتكبراً (قلنا لهم كونوا) أي أمرناهم أمراً تكوينياً لا أمراً قولياً يعني مسخناهم (قردة) قيل إنه سبحانه عذبهم أولاً بسبب المعصية فلما لم يقلعوا مسخهم الله قردة، وقيل: إن قوله: فلما عتوا تكرير لقوله فلما نسوا ما ذكروا به للتأكيد والتقرير، وأن المسخ هو العذاب البئيس (خاسئين) الخاسىء الصاغر الذليل أو المباعد المطرود، يقال خسأته فخسئ أي باعدته فتباعد.
قال قتادة: لما عتوا عما نهوا عنه مسخهم الله فصيرهم قردة تتعاوى بعدما كانوا رجالاً ونساء، قيل صار شبان القوم قردة والمشيخة خنازير، وبقوا ثلاثة
61
أيام ينظر الناس أليهم ثم هلكوا جميعاً.
واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينج من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله أنجينا الذين ينهون عن السوء وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله: (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) فإن كان الطوائف منهم ثلاثاً كما تقدم فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل أنها ممسوخة مع الطائفة العاصية لأنها قد ظلمت نفسها بالسكوت عن النهي وعتت عما نهاها الله عنه من ترك النهي عن المنكر، ويحتمل أنها لم تمسخ لأنها وإن كانت ظالمة لنفسها عاتية عن أمر ربها ونهيه لكنها لم تظلم نفسها بهذه المعصية الخاصة وهي صيد الحوت في يوم السبت ولا عتت عن نهيه لها عن الصيد.
وأما إذا كانت الطائفة الثالثة ناهية كالثانية فهما في الحقيقة طائفة واحدة لاجتماعهما في النهي والاعتزال والنجاة من المسخ، وإنما جعلت طائفة مستقلة لأنها قد جرت المقاولة بينها وبين الطائفة الأخرى من الناهين المعتزلين.
62
(وإذ تأذن ربك) أي واسألهم وقت تأذن ربك، تأذن تفعل من الإيذان وهو الإعلام، قال أبو علي الفارسي: آذن بالمد أعلم وأذّن بالتشديد نادى، وقال قوم كلاهما بمعنى أعلم كما يقال أيقن وتيقن، وقيل معناه قال ربك وقيل حكم ربك، وقيل آلى ربك، وقال الزمخشري: عزم ربك، وقيل معناة حتم وأوجب والمعنى واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك.
وقيل في هذا الفعل معنى القسم كعلم الله وشهد الله، ولذلك أجيب كما يجاب به القسم حيث قال: (ليبعثن) أي ليرسلن (عليهم) ويسلطن كقوله: بعثنا عليهم عباداً لنا أولي بأس شديد (إلى يوم القيامة) غاية لقوله: (من يسومهم) يذيقهم (سوء العذاب) مما يبعثه الله عليهم، وقد كانوا
62
أقمأهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل.
وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلّة المضروبة عليهم والعذاب والصغار يسلمون الجزية لحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار.
وعن ابن عباس قال: يسومهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته سوء العذاب أي الجزية والخراج، وقيل هو بختنصر وسنحاريب وملوك الروم، وهذا نص في أن العذاب، إنما يحصل لهم مستمراً إلى يوم القيامة، ولهذا فسر هذا العذاب بالإهانة والذلة وأخذ الجزية منهم فإذا أفضوا إلى الآخرة كان عذابهم أشد وأعظم (١).
ثم علل ذلك بقوله: (إن ربك لسريع العقاب) لمن أقام على الكفر يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء (وإنه لغفور رحيم) أي كثير الغفران والرحمة لمن آمن منهم ودخل في دين الإسلام.
_________
(١) عن سعيد بن جابر، قال: ولم يجب الخراج بنى قط إلا موسى، جباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك النبي - ﷺ - وقال السدي: بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم.
63
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
(وقطعناهم في الأرض أمماً) أي فرقناهم في جوانبها أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة، قال ابن عباس: هم اليهود بسطهم الله في الأرض فليس فيها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة، وقيل المعنى وجعلنا كل فرقة منهم في قطر بحيث لا تخلو ناحية من الأرض منهم حتى لا تكون لهم شوكة، قاله أبو السعود فلا توجد بلدة كلها يهود، ولا لهم قلعة ولا سلطان بل هم متفرقون في كل الأماكن.
(منهم الصالحون) قيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل، قال الطبري: وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ويدل له قوله الآتي: فخلف من بعدهم خلف، وقيل: هم الذين سكنوا وراء الصين ولا يصح كما تقدم بيانه.
(ومنهم دون ذلك) أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح والتقدير: ومنهم أناس أو قوم دون ذلك والمراد بهؤلاء من لم يؤمن بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به.
(وبلوناهم بالحسنات والسيئات) أي امتحناهم جميعاً الصالح وغيره بالخير والشر، قال ابن عباس: الحسنات: الرخاء والعافية، والسيئات: البلاء والعقوبة أو الخصب والجدب (لعلهم يرجعون) أي رجاء أن يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي.
64
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
65
(فخلف من بعدهم خلف) المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع سواء، والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره، وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله.
(ورثوا الكتاب) أي: التوراة من أسلافهم يقرأونها ولا يعملون بها، والمراد بإرثه: انتقاله إليهم ووقوعه في أيديهم (يأخذون عرض هذا الأدنى) أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم، والعرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير، والأدنى مأخوذ من الدنو وهو القرب أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشا وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها.
وقيل إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط أي أنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط التافه الخسيس الحقير، والمعنى متقارب لأن الدنيا بأسرها
65
حقيرة فانية والراغب فيها أحقر منها.
وعن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها ويتبعون رخص القرآن ويقولون سيغفر لنا ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، وقال مجاهد: هم النصارى يأخذون عرض هذا الأدنى ما أشرف لهم شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا مثله يأخذوه كما سيأتي.
(ويقولون سيغفر لنا) أي ويعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق، ويتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة والمراد بهذا الكلام التقريع والتوبيخ لهم، عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " (١)، أخرجه الترمذي، وكان اليهود يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا.
وهذا هو التمني بعينه والحال أنهم (إن يأتهم) كما يؤخذ من الكشاف، وقال السفاقسي أنه مستأنف (عرض مثله يأخذوه) أي مثل الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة، وقيل الضمير في يأتهم: ليهود المدينة أي: وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذ أسلافهم.
(ألم يؤخذ عليهم) أي على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، والاستفهام للتقريع والتوبيخ أو للتقرير، فالمعنى أخذ عليهم الميثاق لأن القصد منه إثبات ما بعد النفي (ميثاق الكتاب) أي التوراة (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون
_________
(١) المستدرك كتاب الإيمان ١/ ٥٧.
66
منها قاله ابن عباس.
(و) الحال أنهم قد (درسوا ما فيه) أي الكتاب وعلموه ولم يأتوه بجهالة فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشد ذنباً وأعظم جرماً وقيل معناه: محوه بترك العمل به وإلْفهم له من قولهم درست الريح الآثار إذا محتها (والدار الآخرة خير) من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها وارتشوا في الأحكام (للذين يتقون) الله ويخافون عقابه ويجتنبون معاصيه (أفلا تعقلون) فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا الالتفات من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.
67
(والذين يمسكون بالكتاب) قرأ الجمهور بالتشديد من مسَّك بالشيء وتمسك به أي استمسكوا بالكتاب وهو التوراة وقرئ بالتخفيف من أمسك مسك، والمعنى أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدم ذكرهم، وطائفة يتمسكون بالكتاب أي التوراة ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(وأقاموا الصلاة) أي داموا على إقامتها في مواقيتها، قال الحسن: هي لأهل الإيمان منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وقال مجاهدة، هي لليهود والنصارى وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها وعماد الدين وناهية عن الفحشاء والمنكر وكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر، وقيل لأنها تقام في أوقات مخصوصة والتمسك بالكتاب مستمر فذكرت لهذا وفيه نظر، فإن كل عبادة في الغالب تختص بوقت معين (إنا لا نضيع أجر المصلحين) الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر.
67
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢)
68
(وإذ) أي اسألهم إذ والغرض من هذا إلزام اليهود والرد عليهم في قولهم: إن بني إسرائيل لم يصدر منهم مخالفة في الحق (نتقنا) النتق اختلفت فيه عبارات أهل اللغة فقال أبو عبيدة: هو قلع الشيء من موضعه والرمي به ومنه نتق ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتق ومنتاق إذا كانت كثيرة الولادة، وفي الحديث: " عليكم بزواج الأبكار فإنهن أنتق أرحاماً وأطيب أفواهاً، وأرضى باليسير " (١)، وقيل النتق الجذب بشدة ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقلع الزبدة من فمه، وقال الفراء: هو الرفع، وقال ابن قتيبة هو الزعزعة وبه فسر مجاهد.
وكل هذه معان متقاربة أي رفعنا (الجبل) من أصله وهو الطور الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وقيل هو جبل من جبال فلسطين وقيل هو الجبل عند بيت المقدس وكان ارتفاعه على قدر قامتهم، فكان محاذياً لرؤوسهم كالسقيفة (فوقهم كأنه) لارتفاعه (ظلة) أي سحابة تظلهم وهي اسم لكل ما أظل، وقال البيضاوي: كأنه سقيفة وهي كل ما أظلك وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف.
(وظنوا) قيل الظن هنا بمعنى العلم وقيل هو على بابه (أنه) أي الجبل (واقع بهم) أي ساقط عليهم (خذوا) أي قلنا لهم خذوا (ما آتيناكم بقوة) هي الجد والعزيمة أي أخذاً كائناً بقوة واجتهاد، قال ابن عباس: أي خذوا ما
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٣٩٣٢.
68
آتيناكم وإلا أرسلته عليكم ورفعته الملائكة فوق رؤسهم فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا.
وعنه قال: إني لأعلم لم يسجد اليهود إلا على حرف قال الله وإذ نتقنا الجبل قال لتأخذن أمري أو لأرمينكم به فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة، وقال قتادة في الآية انتزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً أن يسقط عليه، ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر.
(واذكروا ما فيه) من الأحكام التي شرعها الله لكم ولا تنسوها (لعلكم تتقون) أي رجاء أن تتقوا ما نهيتم عنه وتعملوا بما أمرتم به، وقد تقدم تفسير ما هنا في البقرة مستوفى فلا نعيده.
69
(وإذ أخذ ربك من بني آدم) وكذا من آدم فالأخذ منه لازم للأخذ منهم لأن الأخذ منهم بعد الأخذ منه، ففي الآية الاكتفاء باللازم عن الملزوم (من ظهورهم) بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار، قاله الكواشي، والذي في الكشاف أنه بدل بعض من كل، قال الحلبي: وهو الظاهر وإيثار الأخذ على الإخراج للاعتناء بشأن المأخوذ لما فيه من الإنباء عن اختيار الاصطفاء وهو السبي في إسناده إلى الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي وإضافته إلى ضميره عليه السلام للتشريف.
(ذريتهم) هي تقع على الواحد والجمع، واستدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا هم ذرية بني آدم أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين وقالوا معنى (وأشهدهم على أنفسهم) دلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد فتكون هذه الآية من باب التمثيل كما في قوله تعالى فقال لها
69
وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين وبه قال الشيخ أبو منصور والزجاج والزمخشري.
وقيل المعنى أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت به خطابه سبحانه، وقيل المراد ببني آدم هنا نفسه كما وقع في غير هذا الموضع، والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد وهؤلاء هم عالم الذر وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - وموقوفاً على غير واحد من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وقد ذكر البيضاوي والنسفي القولين وكذا الرازي وأبو السعود وغيرهما من المفسرين الذين مستهم الفلسفة، والحق ما ذكرناه وإليه ذهب جمهور المفسرين.
وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات والضياء في المختارة عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال
70
أهل النار فيدخله النار " (١).
ومسلم بن يسار (٢) لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر بن الخطاب رجلاً قال البغوي: قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي - ﷺ - بنحوه، وفي الباب عن أبي هريرة يرفعه عند الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وفيه قصة إعطاء آدم ابنه داود أربعين سنة من عمره.
واختلف الناس في كيفية الاستخراج على أقوال لا مستند لها والحق وجوب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله تعالى كما ورد في الصحيح، قال المقبلي في الأبحاث المسددة ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات الواردة في ذلك، وقال بعضهم الظاهر أنه استخرجهم أحياء لأنه سماهم ذرية والذرية هم الأحياء لقوله: (أنا حملنا ذريتهم في الفلك) قال ابن عباس: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحد منهم.
(ألست بربكم) أي قائلاً هذا فهو على إرادة القول، وفي هذه الآية رد على أهل المعاني في قولهم: إن الإغراق غير مقبول ما لم يقارن كاد، ونحو هذا مما شهد به الذوق السليم وزكّى شهادته الطبع المستقيم.
قال الشهاب في الريحانة: وهذا وإن سلمه علماء المعاني والبيان إلا أنه محتاج إلى الإيضاح والبيان فإنه يعترض عليه بما يعارضه ويكدره ورود ما يناقضه كقوله عز وجل هذا. فإنه بمعناه إذ إخراج الذرية من الظهور قبل الخلق والظهور وأخذ المواثيق والعهود مما يقتضي الترغيب والترهيب، وهذا على سبيل
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ١٦٠٢.
(٢) راوي الحديث عن عمر.
71
التحقيق دون التخييل والتقدير.
وقد ذكر هذا في حديث الصحيحين المعلوم عند علماء الحديث ولهم فيه طريقان مشهوران وهو مما خفي على كثير من العلماء ولهم فيه كلام محتاج للإيضاح فأقول لعلماء التفسير فيه طريقان.
(الأول) إنه من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وعلى هذا لا يبقى فيه إشكال، ولا للبحث عنه مجال.
(الثاني) إن له معنى جليلاً قام عليه أقوى برهان ودليل، فمنهم من ذهب إلى أنه استعارة وتمثيل نزّل فيه وضوح الأدلة القائمة على توحيده تعالى وصحة أحكام الشريعة المركوزة في الفطرة السليمة منزلة بروزهم في الخارج، وأخذ العهود منزلة اتباع ما ذكر وتسليمه والعمل بمقتضاه، فلا يرد عليه شيء مما ذكر.
ونحن نقول: إن الأمر الذي وقع فيه المبالغة لا يخلو إما أن يقع بعد زمان بعيد كالساعة أو لا يقع، وهو إما محال متعذر الوقوع له نظائر ومشابه أو لا، الأول مقبول لتنزيل المتحقق الوقوع منزلة الواقع، وكذا الثاني لإمكان أن يراد مجاز أو كناية والأخير هو محل الكلام، والذي عليه أهل المعاني أنه مردود ما لم يقترن به مسوغ مثل كاد ونحوها، والآية ليست من هذا القبيل لإسنادها لله الذي أبرز المعدومات من أرحام العدم، ولا يقتضي قدرته شيء في القدم، فما علينا إلا الإيمان بذلك، وما لم تصل له أفهامنا نكله إليه ونسأله أن يهدينا للوقوف عليه، وكفى هذا الاحتمال في مثل هذه الحال، وما بعد الهدى إلا الضلال انتهى.
(قالوا بلى شهدنا) أي على أنفسنا بأنك ربنا، واختلفوا في الإجابة هذه كيف كانت هل كانوا أحياء فأجابوا بلسان المقال، أو أجابوه بلسان الحال
72
والظاهر الأول ونكل علم كيفيتها إلى الله سبحانه، وكان هذا القول على وفق السؤال لأنه تعالى سألهم عن تربيتهم ولم يسألهم عن إلههم فقالوا بلى فلما انتهوا إلى زمان التكليف وظهر ما قضى الله في سابق علمه لكل أحد منهم من وافق ومنهم من خالف قاله أبو طاهر القزويني.
وقيل تجلى للكفار بالهيبة وللمؤمنين بالرحمة، فقال كلهم بلى، قيل وكان ذلك قبل دخول آدم الجنة بين مكة والطائف قاله الكلبي، وقيل بعد الهبوط منها، وقال علي في الجنة وقيل بسرانديب من أرض الهند، وهو الموضع الذي هبط آدم فيه من الجنة، وكل ذلك محتمل، ولا يضرنا الجهل بالمكان بعد صحة الاعتقاد بأخذ العهد والله أعلم.
أخرج أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس عن النبي - ﷺ - قال: " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر، ثم كلمهم فقال: ألست بربكم إلى قوله.. المبطلون "، وإسناده لا مطعن فيه (١).
وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي والطبراني وأبو الشيخ عن أبي أمامة أن رسول الله - ﷺ - قال: " لما خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال يا أصحاب اليمين فاستجابوا له، فقالوا لبيك ربنا وسعديك قال ألست بربكم قالوا بلى، الحديث ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ العهد عليهم كما في
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٦٩٧.
73
حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما، وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة جداً، وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله - ﷺ - في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.
وقال أهل الكلام والنظر قولهم: بلى شهدنا على المجاز لا على الحقيقة، وهو خلاف مذهب جمهور المفسرين من السلف، قال ابن الأنباري: مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم، وأنهم مصنوعه، فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولاً عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولاً حتى خوطبوا بقوله: (يا جبال أوّبي معه) وكما جعل للبعير عقلاً حتى سجد للنبي - ﷺ - وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت.
وقولهم: شهدنا إقرار له بالربوبية وكلام مستأنف وقيل شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وليس في الآية ما يدل على بطلان ما ورد في الأحاديث، وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جميعاً بينهما، وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال ليس بين قوله - ﷺ - إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله تعالى لأنه تعالى إذا أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم كذرية بعضهم من بعض.
فإن قيل إذا سبق لنا عهد وميثاق مثل هذا فلأي شيء لا نذكره اليوم، والجواب على ما ذكره سليمان الجمل إننا لم نتذكر هذا العهد لأن تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها بمرور الدهور عليها في أصلاب الأباء وأرحام
74
الأمهات وتطور الأطوار الواردة عليها من العلقة والمضغة واللحم والعظم، وهذا كله مما يوجب النسيان.
وكان علي بن أبي طالب يقول إني لأذكر العهد الذي عهد إليّ ربي، وكذا كان سهل بن عبد الله التستري يقول اهـ.
قلت: وكذا روي عن الشيخ نظام الدين الدهلوي المعروف بسلطان الأولياء ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر، ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والتكليف، ولم يبلغنا في كون تلك الذرات مصورة بصورة الإنسان دليل، والأقرب للعقول عدم الاحتياج إلى كونها بصورة الإنسان إذ السمع والنطق لا يفتقران إلى الصورة بل يقتضيان محلا حياً لا غير، ويحتمل أن يكونوا مصورين بصورة الإنسان لقوله تعالى: (من ظهورهم ذرياتهم) ولم يقل ذراتهم ولفظ الذرية يقع على المصورين.
والحكمة في أخذ الميثاق منهم إقامة الحجة على من لم يوف بذلك العهد، والظاهر أنه لما ردهم إلى ظهره قبض أرواحهم، وأما أن الأرواح أين رجعت بعد رد الذرات إلى ظهره فهذه مسألة غامضة لا يتطرق إليها النظر العقلي بأكثر من أن يقال رجعت لما كانت عليه قبل حلولها في الذرات.
وورد أن كتاب العهد والميثاق مودع في باطن الحجر الأسود، ذكره الشعراني في رسالته [القواعد الكشفية في الصفات الإلهية] وذكر فيها على هذه الآية اثني عشر سؤالاً وأجاب عنها، والحق عندي إن كل ما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة فإطواؤه على غرة أولى وترك الخوض فيه أحرى.
(أن تقولوا) أي كراهة أن أو لئلا تقولوا (يوم القيامة إنا كنا عن هذا) أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له (غافلين).
75
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥)
76
(أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا) أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم وأو لمنع الخلو دون الجمع فقد يعتذرون بمجموع الأمرين (من قبل) أي قبل زماننا (وكنا ذرية من بعدهم) أي أتباعاً لهم فاقتدينا بهم في الشرك لا نهتدي إلى الحق ولا نعرف الصواب (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثار سلفنا.
بيَن الله سبحانه في هذه الآية الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة ففي هذه الآية قطع لعذر الكفار فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل ذلك.
وقال أهل النظر: المراد منه مجرد نصب الدلائل وإظهارها للعقول، والحق هو الأول والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير له على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس.
(وكذلك) أي مثل ذلك التفصيل البليغ (نفصل الآيات) لهم ليتدبروها (ولعلهم يرجعون) إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل وقيل يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه والمآل واحد.
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) وهي علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في
76
الحال، وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة.
وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات فقيل هو بلعم بن باعوراء، قاله ابن عباس، وفي لفظ بلعام بن باعر الذي أوتي الإسم الأعظم، كان في بني إسرائيل وبه قال مجاهد، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة.
وقيل كان قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الأيمان فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو عليه فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه فقيل له في ذلك فقال لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة وسأمكر لكم وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا فإن وقعوا فيه هلكوا فوقع بنو إسرائيل في الزنا فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً.
وقيل إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل، وقيل من الكنعانيين من بلد الجبارين وقال مقاتل: هو من مدينة البلقاء وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن آبن، والقصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى دعا على بلعام بأن ينزع عنه الإسم الأعظم والإيمان.
ولا يصح ذلك من غير نظر فيه ولا بحث.
وقيل المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك فلما أرسل الله محمداً ﷺ حسده
77
وكفر به، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقيل: هو أبو عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية فكفر بمحمد - ﷺ -.
وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق، وقيل: نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل قاله ابن عباس وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب قاله الحسن وابن كيسان وقيل نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا بها، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا به.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى ولم يقبله، قيل والمراد بالآيات اسم الله الأكبر قاله ابن عباس، وقال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه قال السدي: كان يعلم اسم الله الأعظم، وقيل إنه أوتي كتاباً وقيل إن الله آتاه حجة وأدلة (١).
(فانسلخ منها) كما تنسلخ الحية والشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال، وقال ابن عباس: نزع منه العلم والإنسلاخ التعري من الشيء، وليس في الآية قلب إذ لا ضرورة تدعو إليه وإن زعمه بعضهم وأن أصله فانسلخت منه.
(فأتبعه الشيطان) عند انسلاخه عن الآيات أي لحقه فأدركه وصار قريناً له أو فأتبعه خطواته وصيره تابعاً لنفسه وقيل أتبعه بمعنى استتبعه (فكان من الغاوين) أي المتمكنين في الغواية وهم الكفار.
_________
(١) راجع فقه اسم الله الأعظم في زاد المسير ٣/ ٢٨٨.
78
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)
79
(ولو شئنا) رفعه بما آتيناه من الآيات (لرفعناه بها) أي بسببها إلى منازل العلماء ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها، وقيل: المعنى لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها أي بالعمل بها قاله ابن عباس وقال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات.
(ولكنه أخلد) أصل الإخلاد اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه، والمعنى هنا أنه مال وسكن إلى الدنيا ورغب فيها ورضي بها واطمأن وآثرها على الآخرة (إلى الأرض) هي هنا عبارة عن الدنيا لأن بها المفاوز والقفار والمدن والضياع والمعادن والنبات، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض.
(واتبع هواه) أي ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا وقيل كان هواه مع الكفار وقيل: اتبع رضاء زوجته وكانت هي التي حملته على الإنسلاخ من آيات الله، وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى.
(فمثله كمثل الكلب) أي وصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) أي في كلتا حالتي قصد
79
الإنسان له وتركه هو لاهث سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شد عليه أو لم يشد، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء.
والمعنى مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة أي: إن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك، قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال إن وعظته ضل وإن تركته ضل فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون).
واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك قاله الجوهري قيل معنى الآية إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً وإن تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلاً عليك ومدبراً عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان، يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه.
(ذلك) أي التمثيل بتلك الحالة الخسيسة (مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا وبدلوا وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذبوا بها، وقيل عم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها وهو الحق لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فاقصص القصص) الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات عليهم فإن مثل المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين نقص عليهم (لعلهم يتفكرون) في ذلك ويعملون فيه إفهامهم فينزجرون عن الضلال ويقبلون على الصواب، وقيل هذا المثل لكفار مكة ولا وجه لتخصيصه بفرد دون فرد والأولى هو العموم.
80
(ساء مثلاً) هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية يقال ساء الشيء قبح فهو لازم وساءه يسوءه مساءة فهو متعد وهو من أفعال الذم كبئس والمخصوص بالذم (القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) أي ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها، وقيل المعنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم وهذا أفيد.
(من يهدي الله) أي يرشده إلى دينه أو يتول هدايته (فهو المهتدي) لما أمر به وشرعه لعباده (ومن يضلل) أي يتول ضلالته (فأولئك هم الخاسرون) الكاملون في الخسران من هداه فلا مضل له ومن أضله فلا هادي له ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وابن مردوية والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - ﷺ - في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد - ﷺ -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم يقول بعثت أنا والساعة كهاتين (١).
فلو كان الهدى من الله البيان كما قالت المعتزلة لاستوى الكافر والمؤمن إذ البيان ثابت في حقهما فدل أنه من الله التوفيق والعصمة والمعونة ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن.
_________
(١) مسلم/٨٦٧.
81
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
82
(ولقد ذرأنا لجهنم) أي خلقنا للتعذيب بها خلقاً (كثيراً من) طائفتي (الجن والإنس) جعلهم سبحانه للنار بعدله وبعمل أهلها يعملون وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن النجار عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم، وعن عائشة قالت: قال رسول الله - ﷺ -: إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (١)، أخرجه مسلم.
(لهم قلوب لا يفقهون بها) شيئاً من أمور الآخرة، جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم ورشادهم غير فاقهة مطلقاً، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم والفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء يقال فقه الرجل فهو فقيه إذا فهم، وهكذا معنى (ولهم أعين لا يبصرون بها) طريق الهدى والحق (ولهم آذان لا يسمعون بها) الحق فإن الذي انتفى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة وما جاءت به رسل الله عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا يسمعون غير ذلك.
_________
(١) مسلم/٢٦٦٢.
82
(أولئك) المتصفون بهذه الأوصاف (كالأنعام) أي البهائم في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر مع وجودها فيهم، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ثم جعلهم شراً من الأنعام فقال: (بل هم أضل) أي حكم عليهم بأنهم أضل منها لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرها فتنتفع بما ينفع وتجتنب ما يضر وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضر باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به بل يقدمون على النار معاندة (أولئك هم الغافلون) حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.
83
(ولله الأسماء) ذكر ذلك في أربع سور في القرآن: أولها هذه السورة، وثانيها في آخر بني إسرائيل، وثالثها في أول طه، ورابعها في آخر الحشر، وهذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل، و (الحسنى) تأنيث الأحسن أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، وقيل الحسنى مصدر وصف به كالرجعى وأفرده كما أفرد وصف ما لا يعقل.
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جبير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مسنده وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة أنه وتر يحب الوتر (١)، وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم من دعا بها استجاب الله دعاءه، وزاد الترمذي في سننه بعد قوله يحب الوتر هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، إلى قوله الصبور، وهي معروفة، هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن أبي هريرة مرفوعة وقال هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه
_________
(١) مسلم/٢٦٧٧.
83
عن أبي هريرة ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
قال ابن كثير في تفسيره والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء مدرج في هذا الحديث وأنهم جمعوها من القرآن، ثم قال: ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: [ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، الحديث.. ] وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه بمثله انتهى (١).
وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات قال النووي: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود أن من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء انتهى.
قال ابن حزم جاءت في إحصائها يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله - ﷺ -: فذكراه ولا أدري كيف إسناده.
وعن أبي جعفر محمد بن الصادق قال: هي في القرآن ثم سردها سورة فسورة.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢٦٩.
84
وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنّه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررها منه تسعة وتسعين ثم سردها ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن.
وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم، ومعنى أحصاها حفظها، قاله البخاري وبه قال أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة، وقيل العدد أي عدها في الدعاء بها وقيل المعنى من أطاقها وأحسن المراعاة لها وقيل أحضر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها والأول أولى، وقد ذكر الرازي في هذا المقام بحثاً في أن الإسم عين المسمى أو غيره وهو مما لم يكلف الله به عباده.
وفي قوله: (فادعوه بها) دليل على أن أسماء الله سبحانه توقيفية لا اصطلاحية والمعنى سموه به وأجروها عليه واستعملوها فيه دعاء ونداء وغير ذلك فلا تسموه بغيرها مما لم يرد إطلاقه عليه تعالى، أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة.
(وذروا الذين يلحدون) الإلحاد الميل والانحراف وترك القصد، يقال لحد الرجل في الدين وألحد إذا مال، ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحيته قال ابن عباس: الإلحاد التكذيب، وقال عطاء: هو المضاهاة، وقال الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها وقال قتادة: يشركون.
والإلحاد (في أسمائه) سبحانه يكون على ثلاثة أوجه.
إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان قاله ابن عباس ومجاهد.
85
أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها قال أهل المعاني: هو تسميته بما لم يسم به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة، لأن أسماءه كلها توقيفية فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل يدعوه بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم (١).
أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض ولا يسميه باسم لا يعرف معناه ولا باسم فيه من الغرابة والمعنى أتركوهم لا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم. وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً) وقوله: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) وهذا أولى لقوله: (سيجزون ما كانوا يعملون) فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم.
وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول: في صلاته يا رحمن يا رحيم فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين حكى ذلك القرطبي (٢).
_________
(١) قال ابن العربي: " فحذار منها، ولا يدعون أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة، وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فهذه الكتب التي يدور الإسلام عليها، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا ما سواها، ولا يقولن أحدكم اختار دعاء كذا وكذا، فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم. (ذكره القرطبي في ٧/ ٣٢١).
(٢) وقد روى مقاتل: أن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يداعونني فنزلت الآية.
86
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢)
87
(وممن خلقنا) أي من جملة من خلقه الله (أمة) وعصابة وجماعة (يهدون) الناس متلبسين (بالحق) أو يهدونهم بما عرفوه من الحق (وبه) أي بالحق (يعدلون) بينهم قيل هم من هذه الأمة وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان قاله ابن عباس.
وعن الكلبي هم من آمن من أهل الكتاب وقيل هم العلماء والدعاة إلى الدين وقيل إنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين كما ورد في الحديث الصحيح عن معاوية قال وهو يخطب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (١) أخرجه البخاري ومسلم.
وعن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هذه أمتي يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون، وعن قتادة قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأها: هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآية (٢).
وعن الربيع في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى نزل أخرجه ابن أبي حاتم.
_________
(١) مسلم/١٠٣٧ البخاري/٦٢.
(٢) ابن كثير ١/ ٢٦٩.
87
وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه قيل وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجه، والبحث في ذلك مفصل في الأصول.
ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال:
88
(والذين كذبوا بآياتنا) يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار وقيل المراد بهم أهل مكة والأول أولى، لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) الاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة والدرج كف الشيء يقال أدرجته ودرجته ومنه إدراج الميت في أكفانه وقيل هو من الدرجة فالاستدراج أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم مات بعضهم في إثر بعض.
والمعنى سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها فينهمكون في الغواية ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلهْ والزلفة.
قال الأزهري: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون، وقال السدي سنأخذهم من حيث لا يعلمون، قال عذاب بدر: وعن يحيى بن المنى قال كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار، وبه قال الضحاك وقال سفيان: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها، وعن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين، قال الكلبى: نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى، قال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون.
88
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
89
(وأملي) الإملاء الإمهال والتطويل أي أطيل (لهم) المدة وأمهلهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي وأؤخر عنهم العقوبة (إن كيدي متين) جملة مقررة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ومؤكدة له والكيد المكر والمتين الشديد القوي وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب لأنه أقوى ما في الحيوان وقد متن بالضم يمتن متانة أي قوي.
والمعنى أن أخذي أو مكري شديد لا يطاق قال ابن عباس: كيد الله العذاب والنقمة قال في الكشاف سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان، وفي الآية دليل على مسألة القضاء والقدر، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
(أو لم يتفكروا) الإستفهام للإنكار عليهم حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيما جاء به (ما بصاحبهم من جنة) ما للاستفهام الإنكاري والجنة مصدر أي وقع منهم التكذيب ولم يتفكروا أي شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون؟ فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً وقولهم زوراً وبهتاناً.
وقيل أي ليس بصاحبهم شيء مما يدعونه من الجنون فيكون هذا رداً لقولهم: [يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون] ويكون الكلام قد تم عند قوله (أو لم يتفكروا) والوقف عليه من الأوقاف الحسنة.
89
عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على الصفا فدعا قريشاً فخذاً فخذاً يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت حتى أصبح فأنزل الله هذه الآية (١).
وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه لأنه صلى الله عليه وآله وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله وإنذار بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى جنون فبرأه الله من الجنون وقال (إن هو إلا نذير مبين) أي بين الإنذار والجملة مقررة لمضمون ما قبلها ومبينة لحقيقة حال رسول الله - ﷺ -.
_________
(١) رواه الطبري ١٣/ ٢٨٩ وابن كثير ٢/ ٢٧٠.
90
(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع ولقصد التعجب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية.
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم، وقد تقدم بيانه، والمعنى أن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به بل هم متبادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكراً، ولا يمعنون نظراً.
(وما خلق الله) أي ولم ينظروا فيما خلق (من شيء) من الأشياء كائناً ما كان فإن في جميع مخلوقاته عبرة للمعتبرين وهو عظة للمتفكرين سواء كانت
90
من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض أو من دقائقها من سائر مخلوقاته (وأن) أي أولم ينظروا في أن الشأن والحديث (عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) فيموتون عن قريب، والمعنى أنهم إذا كانوا يجوزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به، وافتعل هنا بمعنى الفعل المجرد أي قرب وقت أجلهم (١).
(فبأي حديث بعده) الضمير للقرآن وقيل لمحمد - ﷺ - وقيل للأجل المذكور قبله وقيل الضمير يرجع إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة أي بأي حديث بعد هذا المتقدم بيانه (يؤمنون) وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره، والجملة الاستفهامية سيقت للتعجب أي إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يؤمنون بغيره.
وجملة
_________
(١) قلت: هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (ذكر صفة كمال الإيمان) اجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام -وهو بالغ صحيح العقل- أنه مسلم. (ذكره القرطبي ٧/ ٣٣١).
91
(من يضلل الله فلا هادي له) مقررة لما قبلها أي هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ومن يضلله فلا يوجد له من يهديه إلى الحق وينزعه عن الضلالة البتة (ويذرهم في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون وقيل يترددون ولا يهتدون سبيلاً.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
(يسئلونك) استئناف مسوق لبيان بعض أحكام ضلالهم وطغيانهم والسائلون هم اليهود وقيل قريش (عن الساعة) أي القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو لأنها ساعة عند الله مع طولها في نفسها (أيان) ظرف زمان مبنى على الفتح ومعناه متى واشتقاقه من أي وقيل من أين (مرساها) أي أي وقت ارساؤها واستقرارها وحصولها وكأنه شبهها بالسفينة القائمة في البحر مأخوذ من أرساها الله أي أثبتها.
وقرئ بفتح الميم من رست أي ثبتت ومنه وقدور راسيات ومنه رسى الجبل، والمعنى متى يثبتها ويوقعها ويرسيها الله، ؟ وقال الطيبي: الرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة وإطلاقه على الساعة تشبيه للمعاني بالأجسام، وقال ابن عباس: منتهاها أي وقوعها، قال: والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق، وظاهر الآية أن السؤال عن نفس الساعة، وظاهر أيان مرساها أن السؤال عن وقتها فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك.
ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله: (قل إنما علمها) أي علم وقت ارسائها باعتبار وقوعها (عند ربي) قد استأثر به لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية (لا يجليها) التجلية إظهار الشيء يقال جلى لي فلان الخبر إذا أظهره وأوضحه أي لا يظهرها ولا يكشف عنها، وقال مجاهد: لا يأتي بها، وقال السدِّي: لا
92
يرسلها (لوقتها إلا هو) سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين.
وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها مبينة لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها.
(ثقلت في السموات والأرض) أي عظمت على أهلهما وشقت على العالم العلوي والسفلي، قيل معنى ذلك أنه لما خفي علمها على أهل السموات والأرض كانت ثقيلة لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب، وقيل المعنى لا تطيقها السموات والأرض لعظمها لأن السماء تنشق والنجوم تتناثر والبحار تنضب، وقيل عظم وصفها عليهم، وقيل ثقلت المسألة عنها.
وقال ابن عباس: يعني ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقيل ثقلت لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على الأفئدة، وقيل كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ويتمنى أن يتجلى له علمها ويشق عليه خفاؤها وثقل عليه، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها أيضاً.
(لا تأتيكم) الساعة (إلا بغتة) أي فجأة على حين غفلة من الخلق، وقد ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة صحيحة هي معروفة وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير.
(يسئلونك كأنك حفي عنها) استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله ﷺ بناء على زعمهم أنه عالم بالمسؤول عنه، قال ابن فارس: الحفي العالم بالشيء والحفي المستقصي في السؤال يقال
93
أحفى في المسئلة وفي الطلب فهو محف وحفي على التكثير مثل مخضب وخضيب، والمعنى يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها أو كأنك مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه ومتطلع إلى علم مجيئها وعن بمعنى الباء.
وقيل المعنى كأنك حفي بهم، والأول هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي، قال ابن عباس: يقول كان بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم.
(قل إنما علمها عند الله) أمره الله سبحانه بأن يكرر ما أجاب به عليهم سابقاً لتقرير الحكم وتأكيده، قال في المدارك: وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلو عن فائدة انتهى.
وقيل ليس بتكرير بل أحدهما معناه استئثار الله بهذا وعدم علم خلقه به لم يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، والآخر الاستئثار بكنهها نفسها وثقلها وشدائدها.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن علمها عند الله وأنه استأثر به حتى لا يسألوا عنه وقيل لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفي علم وقت قيامها عن الخلق (١).
_________
(١) روى البخاري ١٣/ ٧٧ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " وهو جزء من حديث طويل، يدل على أن الساعة تأتي بغتة. وقوله: " يليط حوضه " بفتح أوله من الثلاثي، وبضمه من الرباعي، والمعنى: يصلحه بالطين والمدر، فيسد شقوقه، ليملأه ويسقي منه دوابه.
94
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)
95
(قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً) قال ابن جرير: يعني الهدى والضلالة وهذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له أو دفع ضر عنه.
(إلا ما شاء الله) سبحانه من النفع له والدفع عنه، فبالأولى أن لا يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه، وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه أعظم زاجر، وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصى أو الزجر.
قال النسفي: أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني، والاستثناء منقطع، وبه قال ابن عطية وهو أبلغ في إظهار العجز.
ثم أكد هذا وقرره بقوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) أي لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي ولا ما قضاه فيّ وقدره لي، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه، وقيل المعنى لو
95
كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته، وقيل لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب، وقيل لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه، وقيل لو كنت أعلم وقت الموت لاستكثرت من العمل الصالح، وقيل لو كنت أعلم وقت الخصب والجدب لاعتددت من الخصب للجدب وقيل غير ذلك والأولى حمل الآية على العموم فيندرج هذه الأمور وغيرها تحتها.
(وما مسنى السوء) كلام مستأنف أي ليس لي ما تزعمون من الجنون، والأولى أنه متصل بما قبله والمعنى لو علمت الغيب ما مسني السوء ولحذرت عنه كما قدمنا ذلك وقال ابن جريج: لا يصيبني الفقر، وقال ابن زيد: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون، وقال الكرخي: أي ما مسني سوء يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه لا سوء ما فإن منه ما لا مدفع له.
(إن أنا إلا نذير وبشير) أي ما أنا إلا مبلغ عن الله أحكامه (لقوم يؤمنون) أي كتب في الأزل أنهم يؤمنون فإنهم المنتفعون به فلا ينافي كونه بشيراً ونذيراً للناس كافة، واللام في لقوم من باب التنازع، فعند البصريين تتعلق ببشير، وعند الكوفيين بنذير، وقيل نذير بالنار للكافرين وبشير بالجنة للمؤمنين.
وعلى هذا متعلق النذارة محذوف والذي أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم عن المغيبات، وقد جاءت بها أحاديث في الصحيح فهو من قبيل المعجزات.
ومن قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك على سبيل التواضع والأدب فقد أبعد النجعة بل قاله صلى الله عليه وآله وسلم معتقداً
96
بذلك، وأن الله هو المستأثر بعلم الغيب والمعجزات مخصصة من هذا العموم كما قال تعالى: (إلا من ارتضى من رسول).
97
(هو الذي خلقكم) خطاب لأهل مكة (من نفس واحدة) أي آدم قاله جمهور المفسرين والتأنيث باعتبار لفظ النفس وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها بما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية وأنه المتفرد بالإلهية.
(وجعل منها) أي من هذه النفس وقيل من جنسها كما في قوله تعالى: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) والأول أولى (زوجها) وهي حواء خلقها من ضلع من أضلاعه (ليسكن) علة للجعل أي لأجل أن يأنس (إليها) ويطمئن بها فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس، وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما فقال:
(فلما تغشاها) أي آدم زوجه والتغشي كناية عن الوقاع أي فلما جامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها (حملت حملاً خفيفاً) أي علقت به بعد الجماع، والمشهور أن الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على شجرة، والحمل بالكسر خلافه وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح وهو هنا إما مصدر فينتصب انتصاب المفعول المطلق أو الجنين المحمول فيكون مفعولاً به، ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخف منه عند كونه علقة، وعند كونه علقة أخف منه عند كونه مضغة، وعند كونه مضغة أخف مما بعده، وقيل إنه خف عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه ولم تجد منه ثقلاً كما تجده الحوامل من النساء لقوله:
(فمرت به) أي استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد وتمضي في
97
حوائجها، لا تجد به ثقلاً ولا مشقة ولا كلفة، وقرئ فمرت به بالتخفيف أي فجزعت لذلك، وقرئ فمارت به من المور وهو المجيء والذهاب، قال سمرة: حملاً خفيفاً لم يستبن فمرت به لما استبان حملها، وقال ابن عباس: فمرت به أي شكت أحملت أم لا.
وعن الحسن سئل عن قوله فمرت به قال: لو كنت عربياً لعرفتها إنما هي استمرت بالحمل، وعن السدي قال: حملاً خفيفاً هي النطفة فمرت به أي استمرت به، وبه قال ابن عباس وعن ميمون بن مهران قال: استخفته والوجه الأول أولى لقوله:
(فلما أثقلت) فإن معناه فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها (دعوا الله) جواب لما أي دعا آدم وحواء (ربهما) ومالك أمرهما (لئن آتيتنا) ولداً (صالحاً) عن أبي صالح قال: أشفقا أن يكون بهيمة فقالا لئن آتيتنا بشراً سوياً، وعن مجاهد نحوه، وعن الحسن قال: غلاماً سوياً أي متسوي الأعضاء خالياً من العوج والعرج وغير ذلك، وقيل ولداً ذكراً لأن المذكورة من الصلاح (لنكونن من الشاكرين) لك على هذه النعمة، وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب (١).
_________
(١) قال: " الطبري " ١٣/ ٣٠٧ - ٣٠٨: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحواء أنهما دعوا الله ربهما بحمل حواء، وأقسما لئن أعطاهما ما في بطن حواء صالحاً، ليكونان لله من الشاكرين، والصلاح قد يشمل معاني كثيرة، منها الصلاح في استواء الخلق، ومنها الصلاح في الدين، والصلاح في العقل والتدبير، وإذ كان ذلك كذلك ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني الصلاح دون بعض، ولا فيه من العقل دليل، وجب أن يعم كما عمه الله فيقال: إنهما قالا: لئن آتيتنا صالحاً بجميع معاني الصلاح.
98
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
(فلما آتاهما صالحاً) أي ما طلباه من الولد الصالح وأجاب دعاءهما (جعلا له شركاء فيما آتاهما) قرأ سائر أهل الكوفة بالجمع وقرأ أهل المدينة شركاً على التوحيد، وأنكره الأخفش، وأجيب عنه بأنها صحت على حذف المضاف أي جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك، وقال أبو عبيدة: معناه حظاً ونصيباً.
قال كثير من المفسرين: أنه جاء إبليس إلى حواء " قال لها: إن ولدت ولداً فسميه باسمي فقالت: وما اسمك؟ قال: الحرث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحرث فكان هذا شركاً في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة، ولكن قصدت بتسميتها الولد بعبد الحرث أن الحرث سبب لنجاة الولد، فمعاتبتها على ذلك من حيث إنها نظرت إلى السبب دون المسبب.
وقد روي هذا بطرق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، ويدل له حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه (١).
وفيه دليل على أن الجاعل شركاً فيما آتاهما هو حواء دون آدم وقوله جعلا له شركاء بصيغة التثنية لا ينافي ذلك لأنه قد يسند فعل الواحد إلى اثنين بل
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢٧٤.
99
إلى جماعة وهو شائع في كلام العرب، وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الطيب.
قال تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) ثم قال في هذه السورة (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) وقال: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) والمراد به الزوج فقط قاله الفراء، وإنما ذكرهما جميعاً لاقترانهما وقال تعالى: (نسيا حوتهما) وإنما الناسي يوشع دون موسى، وقال تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من أحدهما وهو المالح، وقال تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) وإنما الرسل من الإنس دون الجن لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح هذا التركيب وقال تعالى: (ألقيا في جهنم) والخطاب لواحد دون اثنين وفي الحديث المرفوع: " إذا سافرتما فأذنا " (١) والمراد أحدهما وقال امرؤ القيس.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقد أكثر الشعراء من قولهم خليليّ والمراد بهما الواحد دون الاثنين.
وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة جعل أحدهما له شركاء وهو حواء.
وإذا عرفت هذا علمت أن المصير إلى هذا التأويل الذي ذكرناه متعين وقد عاضده الكتاب والسنة وكلام العرب والحديث المتقدم ليس فيه إلا ذكر حواء.
وقد استشكل هذه الآية جمع من أهل العلم لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم عليه السلام، والأنبياء معصومون عن الشرك ثم اضطروا إلى التفصي منِ هذا الإشكال فذهب كلٌّ إلى مذهب واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافاً كثيراً حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٦٠٢.
100
وأبو السعود وغيرهما، وقال السدي: هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب وعن أبي مالك نحوه.
وقال الحسن: هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحا هوّدا ونصرا وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد الشمس وعبد الدار ونحو ذلك، وقيل هم اليهود والنصارى خاصة.
قال الحسن: كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم، وقيل هذا خطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم آل قصي وحسنه الزمخشري، وقال هذا تفسير حسن لا إشكال فيه، وقيل معناها على حذف المضاف أي جعل أولادهما شركاء ويدل له ضمير الجمع في قوله الآتي: (عما يشركون) وإياه ذكر النسفي والقفال وارتضاه الرازي وقال: هذا جواب في غاية الصحة والسداد وبه قال جماعة من المفسرين.
وقيل: خطاب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم وجعل من جنسه زوجة، قال البغوي: وهذا قول حسن لولا قول السلف بخلافه، وقيل إن هذه القصة لم تصح وإنما عمى من كان في ظهر آدم من ذريته وكان آدم أنموذج التقدير فظهرت ورئيت خطايا بني آدم في ذاته كما ترى الصورة في المرآة لأن ظهره كان كالسفينة لسائر أولاده.
وقيل معنى من نفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد فجعل منها أي من جنسها زوجها فلما تغشاها يعني جنس الذكر جنس الأنثى وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين، وقيل إن فاعل تغشاها ضمير راجع إلى أحدهم، والمعنى خلق الله الناس من آدم وكان بدء خلقهم أن خلق من آدم زوجته ليسكن إليها فحصل منهما النسل، ثم رجع إلى أول الكلام وهو أن الله خلقهم فلم يشكروا له ولم يؤدوا حقه، وذلك أن أحدهم لما تغشى امرأته فحملت حملاً خفيفاً فحصل بسبب ذلك
101
الاختصار غموض في الآية وأصل الكلام عام وكانت حواء من جملة ذلك، فلا يجب صدق جميع خصوصيات الآيات عليها وإنما يجب وجود أصل القصة.
وقد يؤخذ هذا الوجه من قوله تعالى في موضع آخر (الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) وبهذا قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي رحمه الله.
وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى، ولا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف بوجوه.
الأول إن الحديث المرفوع المتقدم يدفعه وليس في واحد من تلك الأقوال قول مرفوع حتى يعتمد عليه ويصار إليه، بل هي تفاسير بالآراء المنهى عنها المتوعد عليها.
الثاني أن فيه انخرام نظم الكلام سياقاً وسباقاً (الثالث) أن الحديث صرح بأن صاحبة القصة هي حواء وقوله جعل منها زوجها إنما هو لحواء دون غيرها فالقصة ثابتة ولا وجه لإنكارها بالرأي المحض (الرابع) أن الحديث ليس فيه إلا ذكر حواء وكان هذا شركاً منها في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة، وقيل والشرك في التسمية أهون.
قلت: وفيه بعد ظاهر لأن الله تعالى ساق آيات التشنيع عليها وهو شرك وإن لم يكن في العبادة وما قيل إنهما إنما قصدت أن الحرث كان سبب نجاة الولد كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه فهو خطأ لأن الأعلام كما يقصد بها المعاني العلمية كذلك قد يلاحظ معها المعاني الأصلية بالتبعية كما صرح به أهل المعاني، وكان اسم أبي بكر الصديق في الجاهلية عبد الكعبة، واسم أبي هريرة عبد الشمس فغيرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماهما صديقاً وعبد الرحمن.
102
وما قيل أنها سمته بعبد الحرث بإذن من آدم فهذا يحتاج إلى دليل يدل عليه ويصح وأنى له الدليل ولعلها سمته بغير إذن منه ثم تابت من ذلك.
والحاصل أن ما وقع إنما وقع من حواء لا من آدم عليه السلام ولم يشرك آدم قط، وعلى هذا فليس في الآية اشكال، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث وصوناً لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى، والذي ذكروه في تأويل هذه الآية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة كما تقدم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل والله أعلم.
وما ذكرنا من صحة إطلاق المثنى على المفرد هو شائع في كلام العرب ولكنهم لم يذهبوا إليه في هذه الآية، ولم يخطر ذلك ببالهم مع كونه ظاهر الأمر وواضحه ومع أنهم ذكروه وذهبوا إليه في غير هذا الموضع في غير واحد من مواضع في القرآن والحديث وغيرهما، وهذا عجيب منهم غاية العجب.
(فتعالى الله عما يشركون) هذا ابتداء كلام مستأنف أراد به إشراك أهل مكة وقيل معطوف على (خلقكم) وما بينهما اعتراض، وقيل أراد به حواء لأنه يجوز إطلاق الجمع على الواحد، وقيل يعود على آدم وحواء وإبليس والأول أولى وبه قال السمين، وليس لها تعلق بقصة آدم وحواء أصلاً ولو كانت القصة واحدة لقال عما يشركان.
قال ابن الجزري في كتابه النفيس: قد يأتي العرب بكلمة إلى جانب كلمة كأنها معها وفي القرآن يريد أن يخرجكم من أرضكم، هذا قول الملأ قال فرعون: فماذا تأمرون، انتهى. فالضمير في يشركون يعود على الكفار، والكلام قد تم قبله.
103
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
104
(أيشركون ما لا يخلق شيئاً) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف يجعل أهل مكة لله شريكاً لا يخلق شيئاً ولا يقدر على نفع لهم ولا دفع ضر عنهم (وهم يخلقون) الضمير راجع إلى الشركاء أي وهؤلاء الذي جعلوهم شركاء من الأصنام والشياطين مخلوقون وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك.
(ولا يستطيعون لهم) أي لمن جعلهم شركاء (نصراً) إن طلبوه منهم (ولا أنفسهم ينصرون) إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز.
(وإن تدعوهم إلى الهدى) هذا خطاب للمشركين بطريق الالتفات المنبئ عن مزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت، وبيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر، وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب أي وأن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم (لا يتبعوكم) ولا يجيبوكم إلى ذلك وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع ودفع الضر والنصر على الأعداء.
قال الأخفش: معناه وإن تدعوهم أي الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم
104
وقيل يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين والضمير المنصوب للمشركين ممن سبق في علم الله أنه لا يؤمن، والمعنى وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين لا يتبعوكم وقرئ لا يتبعوكم مشدداً ومخففاً وهما لغتان وقال بعض أهل اللغة: اتبعه مخففاً إذا مضى خلفه ولم يدركه واتبعه مشدداً إذا مضى خلفه فأدركه.
(سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها أي دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء لا فرق بينهما لأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون ولا يجيبون، وقال (أم أنتم صامتون) مكان أو صمتم لما في الجملة الاسمية من المبالغة في عدم إفادة الدعاء ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر، وقال محمد بن يحيى: إنما جاء بالاسمية لكونها رأس آية يعني لمطابقة ولا أنفسهم ينصرون وما قبله.
105
(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) أخبرهم سبحانه بأن هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباداً لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون، وهذه الأصنام ليست كذلك ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره، وهذا تقريع لهم بالغ وتوبيخ لهم عظيم، قال مقاتل: إنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدونها، والأول أولى وإنما وصفها بأنها عباد مع أنها جماد تنزيلاً لها منزلة العقلاء على وفق معتقدهم ولذلك قال:
(فادعوهم فليستجيبوا لكم) مقررة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم وأنهم لا يستطيعون شيئاً أي ادعوا هؤلاء الشركاء فإن كانوا كما تزعمون فليستجيبوا لكم، وإنما ورد هذا اللفظ في معرض الاستهزاء بالمشركين (إن كنتم صادقين) فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضرر وأنها آلهة.
105
ثم بين غاية عجزهم وفضل عابديهم عليهم فقال:
106
(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم فضلاً عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم أرجل يمشون بها في نفع أنفسهم، فضلاً عن أن يمشوا في نفعكم، وليس لهم أيد يبطشون بها كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليس لهم أعين يبصرون بها كما تبصرون. وليس لهم آذان يسمعون بها كما تسمعون، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات وبهذه المنزلة من العجز.
وأم في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة كما ذكره أئمة النحو والإضراب المفاد ببل انتقال من توبيخ إلى توبيخ آخر، والبطش هو الأخذ بقوة وعنف.
ثم لما بين لهم حال هذه الأصنام وتعاور وجوه العجز والنقص لها من كل باب أمره الله بأن يقول لهم (قل ادعوا شركاءكم) الذين تزعمون أن لهم قدوة على النفع والضرر واستعينوا بهم في عداوتي حتى يتبين عجزها (ثم كيدون) أنتم وهم جميعاً بما شئتم من وجوه الكيد (فلا تنظرون) أي فلا تمهلوني ولا تؤخروا إنزال الضرر بي من جهتها والكيد المكر، وليس بعد هذا التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء.
106
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
ثم قال: قل لهم
107
(إن ولييَ الله الذي نزل الكتاب) أي كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ولي وليّ ألجأ إليه وأستنصر به وهو الله عز وجل، وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها وولي الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته وممنع منه الضرر والكتاب هو القرآن أي أوحى إلي وأعزني برسالته (وهو) الذي (يتولى الصالحين) أي يحفظهم وينصرهم ويحول بينهم وبين أعدائهم والصالحون هم الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه وفي هذا مدح للصلحاء وأن من سنته نصرهم.
(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) كرر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير ولما في تكرار التوبيخ والتقريع، من الإهانة للمشركين والتنقص بهم وإظهار سخف عقولهم، وركاكة أحلامهم وقيل الأولى على جهة التقريع والتوبيخ، والأخرى على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين هذه الأصنام وبالجملة هو من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم المفهوم من السوق فهماً جلياً.
(وإن تدعوهم) أي المشركين قاله الحسن وقيل أي الأصنام (إلى الهدى لا يسمعوا) دعاءكم لأن آذانهم قد صمت عن سماع الحق فضلاً عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الاتباع (وتراهم) الرؤية بصرية (ينظرون إليك) أي يقابلونك كالناظر.
107
(وهم) أي حال كونهم (لا يبصرون) جملة مبتدأة لبيان عجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع وبه يتم التعليل فلا تكرار أصلاً أو جملة حالية والمراد الأصنام أي أنهم يشبهون الناظرين ولا أعين لهم يبصرون بها قيل كانوا يجعلون للأصنام أعيناً من جواهر مصنوعة فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ولا يبصرون.
وقيل المراد بذلك المشركون أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم.
108
(خذ العفو) لما عدد الله سبحانه من أحوال المشركين ما عدده وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم، يقال أخذت حقي عفواً أي سهلاً. وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " (١)، والمراد بالعفو هنا ضد الجهد وقيل الفضل وما جاء بلا كلفة والعفو التساهل في كل شيء وقيل المراد خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة، عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس، رواه البخاري قال مجاهد: خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسيس.
(وأمر بالعرف) أي بالمعروف وقرئ بالعرف بضمتين وهما لغتان والعرف والمعروف والعارفة كل خصلة حسنة ترتضيهما العقول وتطمئن إليها النفوس وكل ما يعرفه الشارع، وقال عطاء: وأمر بقول لا إله إلا الله والعموم أولى.
(وأعرض عن الجاهلين) أي إذا أقمت الحجه عليهم في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا فأعرض عنهم ولا تمارهم ولا تسافههم مكافأة لما يصدر
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٧٩٤٢.
108
منهم من المراء والسفاهة، وقيل وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف قاله عطاء وابن زيد.
وقيل هي محكمة قاله مجاهد وقتادة وقيل أول هذه الآية وآخرها منسوخ وأوسطها محكم، قال الشعبي: لما أنزل الله هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما (١)، وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال: والله لأمثلن بسبعين منهم فجاءه جبريل بهذه الآية أخرجه ابن مردويه.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢٧٧.
109
(وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) النزغ الوسوسة وكذا الغز والنخس والنسغ، قال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة، وأصل النزغ الفساد يقال نزغ بيتاً أي أفسد، وقيل النزغ الإغواء والمعنى متقارب، أمر الله سبحانه نبيه - ﷺ - إذا أدرك شيئاً من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله ويلجأ إليه في دفعه عنه، وقيل: إنه لما نزل قوله خذ العفو قال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب بالغضب (١)، فنزلت هذه الآية وفي الآية استعارة تبعية حيث شبه الإغراء على المعاصي بالنزغ واستعير النزغ للإغراء ثم اشتق منه ينزغنك.
وجملة (إنه سميع عليم) علة لأمره بالاستعاذة أي استعذ به والتجىء إليه فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به، وقيل الخطاب لكل أحد والأول أولى، والكلام خرج مخرج التقدير والفرض فلا يقال: لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢٧٨.
109
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
110
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) مقررة لمضمون ما قبلها أي: إن شأن الذين يتقون الله وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة والالتجاء إليه عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيراً وقرئ طيف مخففاً ومشدداً قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف، وقال الكسائي هو مخفف مثل ميت وميت.
قال النحاس: ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم وكذا معنى طائف وقيل معنيان مختلفان فالأول التخيل، والثاني الشيطان نفسه فالأول من طاف الخيال يطوف طيفاً، ولم يقولوا من هذا طائف، قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له وأما قوله (فطاف عليهم طائف من ربك) فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة.
قال الزجاج: طفت عليهم أطوف وطاف الخيال يطيف، وسميت الوسوسة والجنون والغضب طيفاً لأنها لمة من الشيطان تشبه لمة الخيال.
وذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف لأن حالة الشيطان مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أضعف من حاله مع غيرهم، وقال ابن عباس: الطيف الغضب، وقرأ سعيد بن جبير تذكروا بتشديد الذال قال النحاس: ولا وجه له في العربية، وقال السدي: تذكروا أي إذا زلوا تابوا، وقيل معناه عرفوا ما حصل لهم من وسوسة الشيطان وكيده، وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب فيذكر الله فيكظم، وقال مجاهد: هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه.
(فإذا هم) بسبب التذكر (مبصرون) أي منتهون عن المعصية آخذون
110
بأمر الله عاصون للشيطان، قاله ابن عباس وقيل على بصيرة، وقيل: إنهم يبصرون مواقع الخطأ بالتذكر والتفكير وقيل مبصرون الحق من غيره فيرجعون.
111
(وإخوانهم يمدونهم) قيل المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلّال الإنس، على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقاً والمراد به الجنس فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه، والمعنى تمدهم الشياطين (في الغي) وتكون مدداً لهم، وهذا التأويل هو قول الجمهور وعليه عامة المفسرين، قال الزمخشري: هو أوجه لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا.
وقيل المعنى الشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدون الجاهلين، أو غير المتقين في الغي، وهذا تفسير قتادة، وقيل المعنى وإخوان الشياطين في الغي وهو الجهل بخلاف الأخوة في الله تعالى يمدونهم أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم.
قال ابن عباس في الآية: هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس، وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم، وقال الزجاج: المعنى والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصراً ولا أنفسهم ينصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي لأن الكفار إخوان الشياطين.
وعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، قال الكلبي: لكل كافر أخ من الشياطين يطيل له في الإغواء حتى يستمر عليه، وقيل يزيدونهم من الضلالة يقال مد وأمد وهما لغتان قال مكي ومد أكثر، وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة: إنه يقال إذا كثّر شيء شيئاً بنفسه مده وإذا كثره بغيره قيل أمده نحو يمددكم ربكم، وقيل يقال مددت في الشر، وأمددت في الخير.
(ثم لا يقصرون) الإقصار الانتهاء عن الشيء وقال ابن عباس: لا يسأمون والمعنى: لا يقصر الشياطين في مدّ الكفار في الغي ولا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها والكافر لا يتذكر ولا يرعوي، وقال ابن عباس: لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين تمسك عنهم، وعلى هذا يحمل قوله لا يقصرون على فعل الإنس والشياطين جميعاً.
111
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
112
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ) أى أهل مكة (بِآيَةٍ) مما اقترحوا (قَالُوا لَوْلَا) هلا (اجتبيتها) يقال اجتبى الشئ جباه لنفسه أى جمعه أي هلا جمعتها افتعالاً لها من عند نفسك، وقيل لولا أحدثتها لولا تلقيتها فأنشأتها، قاله ابن عباس، وقيل المعنى اختلقتها يقال اجتبيت الكلام انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك، كانوا يقولون لرسول الله - ﷺ - إذا تراخى الوحي هذه المقالة فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله.
(قل) لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه ويقترح المعجزات كما تزعمون بل (إنما أتبع ما يوحي إليّ من ربي) فما أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغته إليكم.
(هذا) أي القرآن المنزل علي هو (بصائر من ربكم) يتبصر بها من قبلها جمع بصيرة وقيل البصائر الحجج والبراهين، وقال الزجاج الطرق ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول، أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب والبصيرة الحجة، والاستبصار في الشيء، قال الأخفش: جعله هو البصيرة كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك.
(وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) أي هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم، وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين وأصحاب حق اليقين.
112
فالقرآن للأولين بصائر وللمستدلين هدى ولعامة المؤمنين رحمة، وقال أبو السعود كون القرآن بمنزلة البصائر للقلوب متحقق بالنسبة إلى الكل، وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين به إذ هم المقتبسون من أنواره والمغتنمون بآثاره والجملة من تمام القول المأمور به انتهى.
113
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) يحتمل أنه من عند الله مستأنف ويحتمل أنه من جملة المقول المأمور به، أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح وقال أبو البقاء: الضمير لله بمعنى لأجله وفيه بعد.
قيل هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقتصر على سببه فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة وعلى أي صفة مما يجب على السامع، وقيل هذا خاص بقراءة رسول الله ﷺ للقرآن دون غيره ولا وجه لذلك، وظاهر الأمر الوجوب، وهو قول الحسن وأهل الظاهر وقيل الندب والاستحباب.
قال أبو هريرة: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله - ﷺ - في الصلاة وفي لفظ عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت، وإليه ذهب جمهور المفسرين كما في المعالم والكشاف وأنوار التنزيل وحاشية الكمالين وغيرها، وقال ابن عباس: يعني في الصلاة المفروضة وعن محمد بن كعب القرظي ومجاهد وعبد الله بن مغفل وابن مسعود نحوه.
وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف، وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام، وعن الحسن قال: عند الصلاة المكتوبة وعند الذكر، وعن ابن عباس في الصلاة وحين ينزل الوحي، وقيل نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء واختاره جماعة وفيه بعد، لأن الآية مكية، والجمعة إنما وجبت بالمدينة والأول أولى، وقال ابن عباس في الجمعة والعيدين.
113
وقال الرازي: إنه خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج بكونه معجزاً على صدق نبوته، وعند هذا يسقط احتجاج الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه، ثم ذكر ما يقوى أن حمل الآية على ما ذكر أولى بوجوه.
وقال لو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى، وهذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة انتهى.
وأشار القاضي إلى أن احتجاجهم بهذه الآية ضعيف، وقال بعض محشيه: أي مردود بخبر الصحيحين لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب انتهى.
أقول: رواه الجماعة عن عبادة بن الصامت وفي لفظ: " لا تجزى صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، " (١) رواه الدارقطني وقال إسناده صحيح وصححه ابن القطان ولها شاهد من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ مرفوعاً، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ولأحمد بلفظ: " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وفي الباب عن أنس عند مسلم والترمذي وعن أبي قتادة عند أبي داود والنسائي وعن ابن عمر وجابر عند ابن ماجة، وعن علي عند البيهقي وعن عائشة وأبي هريرة.
والحديث يدل على تعيين فاتحة الكتاب في الصلاة وأنه لا يجزي غيرها، وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب العترة لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا الكمال لأن الصحة أقرب المجازين، والكمال أبعدهما والحمل على أقرب المجازين واجب وتوجُّه النفي إلى الذات ههنا ممكن كما قال الحافظ في الفتح لأن المراد بالصلاة معناها
_________
(١) الدارقطني كتاب الصلاة ١/ ٣٢٢.
114
الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات.
ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية لكان المتعين توجه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال لأنها أقرب المجازين، ولأن الرواية المتقدمة مصرحة بالإجزاء فيتعين تقديره.
وإذا تقرر هذا فالحديث صالح للاحتجاج به على أن الفاتحة من شروط صحة الصلاة لا من واجباتها فقط لأن عدمها يستلزم عدم الصلاة وهذا شأن الشرط، وذهبت الحنفية وطائفة قليلة إلى أنها لا تجب بل الواجب آية من القرآن، قاله النووي: والصواب ما قاله الحافظ أن الحنفية يقولون بوجوب قراءتها لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا يتم الصلاة إلا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى: (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) فالفرض قراءة ما تيسر، وتعين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجباً يأثم من يتركه وتجزى الصلاة بدونه.
وهذا تأويل على رأي فاسد حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولا حجة نيرة فكم موطن من المواطن يقول فيه الشارع لا يجزى كذا ولا يقبل كذا ولا يصح كذا ويقول المتمسكون بهذا الرأي يجزى ويقبل ويصح، ولمثل هذا حذر السلف من أهل الرأي والكلام في ذلك تعقباً ورداً يطول جداً وقد قضى الوطر منه الشوكاني في نيل الأوطار فراجعه.
ومن أدلتهم حديث أبي سعيد بلفظ: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها (١)، قال ابن سيد الناس لا ندري بهذا اللفظ من أين جاء، وقد صح
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٧٣٨٩.
115
عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال: أمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، ورواته ثقات، وقال ابن سيد الناس إسناده صحيح ورجاله ثقات وصححه الحافظ أيضاً.
ومن أدلتهم حديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ: لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب ويجاب بأنه من رواية جعفر بن ميمون وليس بثقة كما قاله النسائي، وقال أحمد ليس بقوي في الحديث، وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء.
وأيضاً قد روى أبو داود هذا الحديث من طريقه عن أبي هريرة بلفظ أمرني رسول الله - ﷺ - أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة الفاتحة فما زاد، ورواه أحمد وليست الرواية الأولى بأولى من هذه.
وأيضاً أين تقع هذه الرواية على فرض صحتها بجنب الأحاديث المصرحة بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها.
وقد نسب القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح إلى الجمهور، ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن علي وجابر وعن ابن عون والأوزاعي وأبي ثور، قال وإليه ذهب أحمد وداود، وبه قال مالك إلا في الناسي.
واستدلوا أيضاً على ذلك بما وقع عند الجماعة واللفظ للبخاري من قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء: ثم افعل ذلك في صلاتك كلها، بعد أن أمره بالقراءة وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أنه قال في آخره: ثم افعل ذلك في كل ركعة. وهذا الدليل إذا ضممته إلى قوله في حديث المسيء ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم حملته على الفاتحة لما تقدم انتهض ذلك للاستدلال به على وجوب الفاتحة في كل ركعة وكان قرينة لحمل قوله في حديث المسيء " ثم كذلك في كل صلاتك فافعل " على المجاز
116
وهو الركعة وكذلك حمل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب عليه (١).
ويؤيد وجوب الفاتحة في كل ركعة حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها، قال الحافظ وإسناده ضعيف (٢)، وحديث أبي سعيد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، رواه إسمعيل بن سعيد الشاكنجي صاحب الإمام أحمد.
وظاهر هذه الأدلة وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمأموم وبين سر الإمام وجهره.
ومن جملة المؤيدات لذلك ما أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه عن جابر موقوفاً قال: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام، وما أخرجه أحمد وابن ماجة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (٣)، ومثله عن أبي هريرة عند ابن ماجة من طريق محمد بن إسحق وفيه مقال مشهور، ولكنه يشهد لصحته حديث أبي هريرة عند الجماعة إلا البخاري بلفظ: من صلى صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج (٤)، ولا يقال إن الخداج معناه النقص. وهو لا يستلزم البطلان لأن الأصل أن الصلاة الناقصة لا تسمى صلاة حقيقة.
وأما حديث أبي هريرة مرفوعاً: وإذا قرأ فأنصتوا، رواه الخمسة إلا الترمذي وقال مسلم هو صحيح فهو عام لا يحتج به على خاص.
وأما حديث عبد الله بن شداد مرفوعاً: من كان له إمام فقراءة الإمام له
_________
(١) مسلم ٣٩٧ - البخاري ٤٦١.
(٢) ضعيف الجامع الصغير ٦٣١٣.
(٣) صحيح الجامع الصغير ٦٢٢٤.
(٤) مسلم ٣٩٥.
117
قراءة رواه الدارقطني (١)، فقال في المنتقى وقد روي مسنداً من طرق كلها ضعاف والصحيح أنه مرسل انتهى، قال الدارقطني وهو الصواب، وقال الحافظ هو مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة، وقال في الفتح إنه ضعيف عند جميع الحفاظ وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني، وهو عام أيضاً لأن القراءة مصدر مضاف وهو من صيغ العموم وحديث عبادة في هذا الباب خاص فلا معارضة، وقال في شرح المنتقى هو حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به انتهى.
وأما قوله تعالى: (فاستمعوا له وأنصتوا) فقد مر الجواب عنه وهو أيضاً عام وحديث عبادة خاص، ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة والآتية القاضية بوجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمؤتم لأن البراءة عن عهدتها إنما تحصل بناقل صحيح لا بمثل هذه العمومات التي اقترنت بما يجب تقديمه عليها.
وعن عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: إني أراكم تقرأون وراء إمامكم قال قلنا يا رسول الله أي والله قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فأنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن (٢)، رواه أبو داود والنسائي والدارقطني، وقال رجاله كلهم ثقات.
وعنه أن النبي - ﷺ - قال: لا يقرأن أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن (٣)، رواه الدارقطني، وقال رجاله كلهم ثقات، وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه وابن حبان والحاكم والبيهقي من
_________
(١) الدارقطني كتاب الصلاة ١/ ٤٠٣.
(٢) الدارقطني كتاب الصلاة ١/ ٣١٩.
(٣) الدارقطني كتاب الصلاة ١/ ٣٢٠.
118
طريق ابن إسحق قال حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن عبادة، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول.
ومن شواهد ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد ابن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - ﷺ - قال: قال رسول الله - ﷺ -: لعلكم تقرأون والإمام يقرأ قالوا إنا لنفعل، قال: لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب، قال الحافظ: إسناده حسن ورواه ابن حبان من طريق أيوب بن أبي قلابة عن أنس، وليست بمحفوظة ومحمد ابن إسحق قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة تدليسه، وتابعه من تقدم.
قال الشوكاني: والحديث استدل به من قال بوجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام وهو الحق وظاهر الحديث الإذن بقراءة الفاتحة جهراً لأنه استثنى من النهي عن الجهر خلفه، ولكنه أخرج ابن حبان من حديث أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: أتقرأون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط والبيهقي وأخرجه عبد الرزاق عن أبي قلابة مرسلاً.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً فقال رجل نعم يا رسول الله، فقال إني أقول ما لي أنازع القرآن (١) قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهر فيه رسول الله ﷺ من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله - ﷺ -، رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، وأخرجه أيضاً مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وابن ماجة وابن حبان.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٦٩١٣.
119
وقوله: " فانتهى الناس عن القراءة " مدرج في الخبر كما بينه الخطيب، واتفق عليه البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب ابن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم.
قال النووي: وهذا مما لا خلاف فيه بينهم والاستدلال به على عدم قراءة المؤتم خلف الإمام خارج عن محل النزاع، لأن الكلام في قراءة المؤتم خلف الإمام سراً والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره، وأيضاً لو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان هذا الاستفهام الذي للإنكار عاماً لجميع القرآن أو مطلقاً في جميعه وحديث عبادة خاص أو مقيد.
وقد أجاب المهدي في البحر عن حديث عبادة بأنه معارض بهذا الحديث وهي من معارضة العام بالخاص وهو لا يعارضه، أما على قول من قال من أهل الأصول إنه يبنى العام على الخاص مطلقاً وهو الحق فظاهر، وأما على قول من قال إن العام المتأخر عن الخاص ناسخ له وإنما يخصص المقارن والمتأخر بمدة لا يتسع فكذلك أيضاً لأن عبادة روى العام والخاص في حديثه، فهو من التخصيص بالمقارن فلا يعارض بالمقام على جميع الأقوال.
وأما الاحتجاج بحديث جابر فلم يصل إلا وراء الإمام فهو مع كونه غير مرفوع: مفهوم لا يعارض بمثله منطوق حديث عبادة.
وإذا تقرر لك هذا فقد عرفت مما سبق وجوب الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة وعرفناك أن تلك الأدلة صالحة للاحتجاج بها على أن قراءة الفاتحة من شروط صحة الصلاة وأدلة أهل الخلاف عمومات، وحديث عبادة خاص وبناء الخاص على العام واجب كما تقرر في الأصول، وهذا لا محيص عنه.
والآية الكريمة وما على نحوها من القرآن والحديث لا دلالة فيها على المقصود فمن زعم أنها تصح صلاة من الصلوات أو ركعة من الركعات بدون فاتحة الكتاب فهو محتاج إلى إقامة برهان يخصص تلك الأدلة، ومن هنا يتبين
120
لك أيضاً ضعف ما ذهب إليه الجمهور من أن من أدرك الإمام راكعاً دخل معه واعتد تلك الركعة وإن لم يدرك شيئاً من القراءة.
وحاصل الكلام أنه لا محيد عن تحتم المصير إلى القول بالفرضية بل القول بالشرطية.
وقد اختلف أهل العلم في قراءتها هل تكون عند سكتات الإمام أو عند قراءته، وظاهر الأحاديث أنها تقرأ عند قراءة الإمام وفعلها حال سكوت الإمام إن أمكن أحوط لأنه يجوز عند أهل الخلاف فيكون فاعل ذلك آخذاً بالإجماع وأما اعتياد قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة فقط أو حال قراءته للسورة فقط فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة.
نعم قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة مناسب من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الاستعاذة عن محلها الذي هو بعد التوجه، وتمام الكلام على هذا المرام في كتابنا هداية السائل إلى أدلة المسائل وغيره فراجعه.
قال الشوكاني: واختلف في القراءة خلف الإمام سراً وجهراً وقد وردت السنة المطهرة بقراءة سورة الفاتحة خلفه مخرجة في الصحيحين وغيرهما فالآية في غير الفاتحة وقد جاءنا بها من جاء بالقرآن، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (١).
(لعلكم ترحمون) أي تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه.
_________
(١) ذكر السيوطي في الدر ٣/ ١٥٥.
عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ قرأ في الصلاة المكتوبة. فقرأ أصحابه وراءه رافعين صوتهم فنزلت هذه الآية.
121
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
122
(واذكر ربك في نفسك) الخطاب للنبي ﷺ ويدخل فيه غيره من أمته لأنه عام لسائر المكلفين قيل المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها وقال النحاس: لم يختلف في معنى هذا الذكر أنه الدعاء وقيل هو خاص بالقرآن أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبر أمره.
أن يذكره في نفسه سراً فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر وأدعى للقبول.
(تضرعاً وخيفة) أي متضرعاً وخائفاً أو متضرعين وخائفين أو ذوي تضرع وخيفة والخيفة الخوف قاله الجوهري وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف (ودون الجهر) أي دون المجهور به يعني متضرعاً وخائفاً ومتكلماًً بكلام هو دون الجهر (من القول) وفوق السر يعني قصداً بينهما (بالغدو والآصال) أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل، والغدو جمع غدوة بضم الغين وسكون الدال وهي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والآصال جمع أصيل قاله الزجاج والأخفش مثل يمين وأيمان.
وقيل الأصال جمع أصل والأصل جمع أصيل، فهو على هذا جمع الجمع قاله الفراء وليس للقلة وليس جمعاً لأصيل لأن فعيلاً لا يجمع على أفعال، وقيل إنه جمع لأصل مفرداً كعنق، قال الجوهري: الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة ويجمع أيضاً على أصلان مثل بعير وبعران.
وقرأ أبو مجلز واسمه لاحق بن حميد السدوسي البصري وهي شاذة
122
والإيصال وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق للغدو في الإفراد والمصدرية، قال قتادة: الغدو صلاة الصبح والآصال الصلاة بالعشي وعن أبي صخر قال الآصال ما بين الظهر والعصر، وقال ابن زيد: بالبكر والعشي وقال مجاهد: الغدو آخر الفجر صلاة الصبح والآصال آخر العشي صلاة العصر.
وخص هذين الوقتين لشرفهما ولأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل، وأما وقت الآصال وهو أخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب له أن يشغله بالذكر لأنها حالة تشبه الموت ولعله لا يقوم من تلك النومة فيكون موته على ذكر الله عز وجل.
وقيل إن أعمال العباد تصعد أول النهار وآخره فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب، فاستحب له الذكر في هذين الوقتين ليكون ابتداء عمله بالذكر واختتامه به، وقيل غير ذلك والمراد دوام الذكر لله.
(ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله وعما يقربك إلى الله.
123
(إن الذين عند ربك) المراد بهم الملائكة قال القرطبي: بالإجماع قال الزجاج: وقال عند ربك والله عز وجل بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده فالمراد بالعندية القرب من الله بالزلفى والرضا لا المكانية أو المراد عند عرش ربك قاله الشهاب، والمراد بقوله والله بكل مكان أي علمه وقدرته وهو بائن من خلقه مستوي على عرشه كما وصف به نفسه في غير موضع من الكتاب العزيز.
وقال القرطبي: يعني أنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله وقيل إنهم
123
رسل الله كما يقال عند الخليفة جيش كبير، وقيل هذا على جهة التشريف والتكريم لهم وأنهم بالمكان المكرم وهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة.
(لا يستكبرون عن عبادته) أي لا يتعظمون عنها لأنهم عبيده ومعنى (ويسبحونه) يعظمونه وينزهونه عن كل شين (وله يسجدون) أي يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عباده، وقيل المراد بالسجود الخضوع والذلة، وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة وعدد المواضع التي يسجد فيها وكيفية السجود وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه فلا نطول بإيراد ذلك هنا (١).
_________
(١) وقيل: سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا: أنسجد لما تأمرنا؟ فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأناً منكم، لا يتكبرون عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبي - ﷺ - أنه قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أُمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرتُ بالسجود فعصيت فلي النار ".
رواه مسلم ١/ ٨٧، وابن ماجة ١/ ٣٣٤ عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأورده السيوطي في " الدر " ٣/ ١٥٨ وزاد نسبته للبيهقي.
124
سورة الأنفال

بسم الله الرحمن الرحيم

صرح كثير من المفسرين بأنها مدنية لم يستثنوا منها شيئاً. وبه قال الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء وعبد الله بن الزبير وزيد ابن ثابت. وعن ابن عباس أنه قال: نزلت في بدر. وفي لفظ تلك سورة بدر. قال القرطبي وعنه: هي مدنية إلا سبع آيات من قوله: (واذ يمكر بك الذين كفروا) إلى آخرها. يعني فإنها مكيه. " قلت " وإن كانت في شأن الواقعة التي وقعت بمكة فلا يلزم أن تكون كذلك فالآيات نزلت بالمدينة تذكيراً بما وقع في مكة. فهذا القول ضعيف والأول هو الأصح. وجملة آياتها خمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب.
125

بسم الله الرحمن الرحيم

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)
127
Icon