هي ست آيات، والخلاف في كونها مكية أو مدنية كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق، قال ابن عباس : أنزل بمكة ﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾، وعن ابن الزبير قال : أنزل بالمدينة.
وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة، وما ورد في فضلها، فارجع إليه، وأتى الحافظ ابن القيم في البدائع بفوائد بديعة كثيرة تتعلق بالمعوذتين، وكتب عشرين ورقة في بيان ذلك، لا يتسع هذا المقام لبسطها، إن شئت فراجعه.
ﰡ
وقوله
وأيضاًً الرب قد يكون ملكاً وقد لا يكون ملكاً كما يقال رب الدار، ورب المتاع، ومنه قوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فبين أنه ملك الناس، ثم الملك قد يكون إلهاً وقد لا يكون فبين إنه إله لأن اسم الإله خاص به لا يشاركه فيه أحد.
ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه وأنه عبد مخلوق وإن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس، وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار والبيان، ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس، وقيل أراد بالأول الأطفال، ومعنى الربوبية يدل عليه، وبالثاني الشباب ولفظ الملك المنبيء عن السياسة يدل عليه، وبالثالث الشيوخ ولفظ الإله المنبيء عن العبادة يدل عليه، وبالرابع الصالحين إذ الشيطان مولع بإغوائهم، وبالخامس المفسدين لعطفه على المعوذ منه، ذكره النسفي، ولا وجه لهذا التخصيص وإنما هذا الكلام من لطائف البيان.
قال الزجاج الوسواس هو الشيطان أي ذي الوسواس ويقال إن الوسواس ابن لإبليس وسمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها شغله الذي هو عاكف عليه، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله (فوسوس لهما الشيطان) ومعنى (الخناس) كثير الخنس وهو التأخر يقال خنس إذا تأخر، قال مجاهد إذا ذكر الله خنس وانقبض وإذا لم يذكر انبسط على القلب.
ووصف بالخناس لأنه كثير الإختفاء ومنه قوله تعالى (فلا أقسم بالخنس) يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسيه التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس " أخرجه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب.
وعن ابن عباس في الآية قال الشيطان جاث على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس وإذا ذكر الله خنس وعنه قال ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس، فذلك قوله الوسواس الخناس.
وقد ورد في معنى هذا غيره وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان وإن لم يكن على طريق الإستعاذة، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
قال مقاتل إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت.
والجملة في محل الجر على الصفة أو الرفع على تقدير مبتدأ والنصب على الذم، وعلى هذين الوجهين يحسن الوقف على الخناس.
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني وإنسي فقال (من الجنة
قال الرازي وقال قوم من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله (في صدور الناس) لأن القدر المشترك بين الجن والإنس سمي إنساناً، والإنسان أيضاًً سمى إنساناً فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالإشتراك.
والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم من أنتم قالوا ناس من الجن وأيضاًً قد سماهم الله تعالى رجالاً في قوله (وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس.
وقيل المراد بالناس " الناسي " وسقطت الياء كسقوطها في قوله يوم يدع الداع، ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان.
وأحسن من هذا أن يكون قوله (والناس) معطوفاً على الوسواس أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس، قال الحسن أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس مباشرة أما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجن شياطين وإن من الإنس شياطين فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الإنس.
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله " أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الحال المرتحل، قيل وما الحال المرتحل، قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل "، أخرجه الترمذي.
يقول العبد الضعيف الخامل المتواري، مؤلف هذا التفسير صديق ابن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري، ختم الله له بالحسنى، وأذاقه حلاوة رضوانه الأسنى.
وإلى هنا انتهى هذا التفسير الجامع بين فني الرواية والدراية، الرافع من ألوية التحقيق والتنقيح أعظم راية، وكان الفراغ منه في ضحوة يوم الجمعة لعله التاسع والعشرون من شهر ذي الحجة أحد شهور سنة تسع وثمانين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها الصلاة والسلام والتحية، وقد تم بتمامه، وانتهى بانتهائه الأسبوع والشهر والسنة اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير وأعنتني على تحصيله وتفضلت عليّ بالفراغ منه على ما أردت فامنن علي بقبوله واجعله لي ذخيرة خير عندك وأجزل لي المثوبة بما صرفت الوقت في تحريره كما قلت في كتابك (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) وكما قلت في هذا الباب.
كل يجيء بكسبه وكتابه | يوم القيامة آخر الأزمان |
في حضرة الرحمن جل جلاله | عم الورى بالعفو والغفران |
ويجيء هذا العبد وهو مقصر | بكتابه التفسير فتح بيان |
إذا رضيت علي كرام عشيرتي | فلا زال غضباناً عليّ لئامها |
ولنختتم الكلام بالحمد لله رب العالمين كما بدأنا به أول مرة، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على خير خلقه محمد وآله وصحبه كرة بعد كرة.
انتهى الكتاب بعون الله
_________
(١) قوله " وما صحّ عن رسولك " فيه نظر كما تقدم فهناك أحاديث ضعيفة وإسرائيليات.
تم بعونه تعالى الجزء الخامس عشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن وبذلك نكون قد أتممنا الكتاب بأجزائه الخمسة عشر.
أما معظم الحواشي وتخريج الآيات والأحاديث من كتب الحديث وبعض التعليقات المفيدة التي وضعت في الكتاب فهي من كتابة فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري وقد قام عدة علماء أجلاء بقراءتها والموافقة عليها.
الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري.