تفسير سورة إبراهيم

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة إبراهيم
وهي مكية إلا قوله تعالى :( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) ( ١ ) إلى قوله :( فإن مصيركم إلى النار ) ( ٢ ) والله أعلم.
١ - إبراهيم: ٢٨..
٢ - إبراهيم: ٣٠..

قَوْله تَعَالَى: ﴿الر﴾ مَعْنَاهُ: أَنا الله أرى، وَقيل مَعْنَاهُ: أَنا الله الرَّحْمَن.
وَقَوله: ﴿كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك﴾ مَعْنَاهُ: هَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك.
وَقَوله: ﴿لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ مَعْنَاهُ: من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى، وَمن الْكفْر إِلَى الْإِيمَان وَمن الغواية إِلَى الرشد، وَقيل: من الْبِدْعَة إِلَى السّنة.
والظلمة اسوداد الجو بِمَا يمْنَع من الْبَصَر، والنور: بَيَاض شعاعي يحصل بِهِ الإبصار. قَوْله: ﴿بِإِذن رَبهم﴾ أَي: بِأَمْر رَبهم، وَقيل: بِعلم رَبهم.
وَقَوله ﴿إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد﴾ الصِّرَاط هُوَ الدّين، والعزيز الحميد هُوَ الله تَعَالَى. وَمعنى الْعَزِيز: الْغَالِب، وَمعنى الحميد: هُوَ الْمُسْتَحق للحمد فِي أَفعاله؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا متفضل أَو عَادل.
وَقَوله: ﴿الله الَّذِي﴾ قرئَ بِالرَّفْع والخفض، فَمن قَرَأَ بالخفض فَهُوَ مَسْبُوق على قَوْله: ﴿الْعَزِيز الحميد﴾، وَمن رفع فعلى تَقْدِير هُوَ الله.
وَقَوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾ يَعْنِي: لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: ﴿وويل للْكَافِرِينَ﴾ الويل: وَاد فِي جَهَنَّم، وَقيل: إِنَّه دُعَاء الْهَلَاك. {من
102
﴿عَذَاب شَدِيد (٢) الَّذين يستحبون الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة ويصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا أُولَئِكَ فِي ضلال بعيد (٣) وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين﴾ عَذَاب شَدِيد) أَي: عَذَاب عَظِيم.
103
قَوْله: ﴿الَّذين يستحبون الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة﴾ مَعْنَاهُ: الَّذين يؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَمعنى الإيثار: هُوَ طلب الدُّنْيَا من غير نظر للآخرة، وَذَلِكَ بِأَن يَأْخُذ من حَيْثُ يجد، وَلَا يُبَالِي أَنه حرَام أَو حَلَال. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَأْتِي على النَّاس زمَان لَا يُبَالِي الْمَرْء أَخذ الدُّنْيَا بحلال أَو بِحرَام ".
وَقَوله: ﴿ويصدون عَن سَبِيل الله﴾ يَعْنِي: يمتنعون عَن قبُول دين الله، وَيمْنَعُونَ النَّاس عَن قبُوله. ﴿ويبغونها عوجا﴾ العوج فِي الدّين، والعوج فِي الرمْح والحائط، وَمعنى الْآيَة: وَيطْلبُونَ دين الله زيغا، وَقيل: وَيطْلبُونَ سَبِيل الله جائرين عَن الْقَصْد، وَقيل: يطْلبُونَ لمُحَمد الْهَلَاك، وَيُقَال: إِن الْكِنَايَة رَاجِعَة إِلَى الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: يطْلبُونَ الدُّنْيَا على طَرِيق الْميل عَن الْحق، وَذَلِكَ هُوَ بِجِهَة الْحَرَام على مَا قُلْنَاهُ.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ فِي ضلال بعيد﴾ أَي: فِي خطأ طَوِيل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه﴾ وَالْحكمَة فِي هَذَا: هُوَ أَنه إِذا أرْسلهُ بِلِسَان قومه عقلوا قَوْله، وفهموا عَنهُ، فَإِن قَالَ قَائِل: إِن الله تَعَالَى بعث النَّبِي إِلَى كل الْخلق على مَا قَالَ: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود " وَلم يبْعَث بِلِسَان كل الْخلق؟.
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن سَائِر الْخلق تبع الْعَرَب فِي الدعْوَة، وَقد بعث بلسانهم ثمَّ إِنَّه بعث بالرسل إِلَى الْأَطْرَاف يَدعُونَهُمْ إِلَى الله، وَترْجم لَهُم قَوْله.
103
﴿لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (٤) لقد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَن أخرج قَوْمك من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَذكرهمْ بأيام الله إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (٥) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ أنجاكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي﴾
وَقَوله: ﴿ليبين لَهُم﴾ مَعْنَاهُ مَا بَينا. وَقَوله: ﴿فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ قد بَينا.
104
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَن أخرج قَوْمك من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ يَعْنِي: من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿وَذكرهمْ بأيام الله﴾ رُوِيَ عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ: بنعم الله. وَفِي بعض المسانيد نقل هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: بأيام الله أَي: بنقم الله. وَقَالَ بَعضهم: بوقائع الله، يَعْنِي: بِمَا أوقع بالأمم الْمَاضِيَة، يُقَال: فلَان عَارِف بأيام الْعَرَب، أَي: بوقائعهم.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور﴾ الصبار: كثير الصَّبْر، وَالصَّبْر: حبس النَّفس عَمَّا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس، وَقد رُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالشُّكْر نصفه، وَالْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله. والشكور: هُوَ الْكثير الشُّكْر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم﴾ الْآيَة أَي: منَّة الله عَلَيْكُم.
قَوْله: ﴿إِذْ نجاكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب﴾ قد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ويذبحون أبناءكم﴾ قَالَ فِي مَوضِع بِغَيْر الْوَاو، وَقَالَ هَاهُنَا بِالْوَاو، وَذكر الْوَاو يَقْتَضِي أَنه سبق الذّبْح عَذَاب آخر، وَترك ذكر الْوَاو يَقْتَضِي أَن
104
﴿ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم (٦) وَإِذ تَأذن ربكُم لَئِن شكرتم لأزيدنكم وَلَئِن كَفرْتُمْ إِن عَذَابي لشديد (٧) وَقَالَ مُوسَى إِن تكفرُوا أَنْتُم وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا فَإِن الله لَغَنِيّ حميد (٨) ألم يأتكم نبأ الَّذين من قبلكُمْ قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من﴾ الْعَذَاب هُوَ الذّبْح.
وَقَوله: ﴿ويستحيون نساءكم﴾ يَعْنِي: يتركون قتل النِّسَاء، وَفِي الْخَبَر: " اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين، واستحيوا شرخهم ". ﴿وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم﴾ قيل: إِن الْبلَاء هُوَ المحنة، وَقيل: إِن الْبلَاء هُوَ النِّعْمَة، وَمَوْضِع النِّعْمَة فِي الإنجاء من الْبلَاء، وَقيل مَعْنَاهُ: اختبار من الله عَظِيم.
105
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذ تَأذن ربكُم﴾ أَي: أعلم ربكُم، والتأذين: الْإِعْلَام، والأذين والمؤذن هُوَ الْمعلم، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلم (تشعر) بضوء الصُّبْح حَتَّى سمعنَا فِي مَسَاجِدنَا الأذينا)
وَقَوله: ﴿لَئِن شكرتم لأزيدنكم﴾ الشُّكْر هُوَ الِاعْتِرَاف بِالنعْمَةِ على وَجه الخضوع للمنعم. وَقد حُكيَ عَن دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: يَا رب، كَيفَ أشكرك وَلم أؤد شكرك إِلَّا بِنِعْمَة جَدِيدَة عَليّ. فَقَالَ: يَا دَاوُد، الْآن شكرتني.
وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لَهُ رجل: أوصني يَا رَسُول الله، فَقَالَ: " عَلَيْك بالشكر فَإِنَّهُ زِيَادَة ". وَمعنى الْآيَة: لَئِن شكرتموني بِالتَّوْحِيدِ لأزيدنكم نعْمَة الْآخِرَة على نعْمَة الدُّنْيَا. وَقيل: لَئِن شكرتم بِالطَّاعَةِ لأزيدنكم فِي الثَّوَاب.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن كَفرْتُمْ﴾ جحدتم. ﴿إِن عَذَابي لشديد﴾ لعَظيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تكفرُوا أَنْتُم وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا فَإِن الله لَغَنِيّ حميد﴾ أَي: غَنِي عَن خلقه، حميد فِي فعله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم يأتكم نبأ الَّذين من قبلكُمْ﴾ أَي: خبر الَّذين من قبلكُمْ.
105
( ﴿بعدهمْ لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم وَقَالُوا إِنَّا﴾ قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله) رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَرَأَ هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ: كذب النسابون، وَنقل بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي ". وَعَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ: بَين إِبْرَاهِيم وَبَين عدنان جد الرَّسُول ثَلَاثُونَ قرنا لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله. وَعَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: وَمَا وَرَاء عدنان إِلَى إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله، وَعَن مَالك بن أنس أَنه كره أَن ينْسب الْإِنْسَان نَفسه أَبَا أَبَا إِلَى آدم، وَكَذَلِكَ فِي حق الرَّسُول كَانَ يكره؛ لِأَنَّهُ لَا يعلم أُولَئِكَ الْآبَاء أحد إِلَّا الله.
وَقَوله: ﴿جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَي: بالدلالات الواضحات. وَقَوله: ﴿فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم﴾ رُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: عضوا أَيّدهُم غيظا، قَالَ الشَّاعِر:
(لَو أَن سلمى أَبْصرت التخددي ورقة فِي عظم ساقي ويدي)
(وَبعد أَهلِي وجفاء عودي عضت من الوجد أَطْرَاف الْيَد)
وَقَالَ آخر:
(قد أفنى أنامله غيظه فأمسى يعَض على الوظيفا)
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْأَنْبِيَاء لما قَالُوا: نَحن رسل الله، وضع الْكفَّار أَيْديهم على أَفْوَاههم أَن اسْكُتُوا، نَقله الْكَلْبِيّ وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى الْآيَة أَنهم كذبُوا الرُّسُل فِي أَقْوَالهم، يُقَال: رددت قَول فلَان فِي فِيهِ إِذا كَذبته.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الْأَيْدِي هَاهُنَا هِيَ النعم، وَمَعْنَاهُ: ردوا مَا لَو قبلوا كَانَت آيادي وَنِعما.
106
﴿كفرنا بِمَا أرسلتم بِهِ وَإِنَّا لفي شكّ مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ مريب (٩) قَالَت رسلهم أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى قَالُوا إِن أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا تُرِيدُونَ أَن تصدونا عَمَّا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا فأتونا بسُلْطَان مُبين (١٠) قَالَت لَهُم رسلهم إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ وَلَكِن الله يمن على من يَشَاء من عباده وَمَا كَانَ لنا أَن نأتيكم بسُلْطَان إِلَّا بِإِذن الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ﴾
وَقَوله: ﴿فِي أَفْوَاههم﴾ يَعْنِي: بأفواههم، وَمَعْنَاهُ: بألسنتهم تَكْذِيبًا. وأشرق الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول، وَالْقَوْل الثَّالِث محكي عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: ﴿وَقَالُوا إِنَّا كفرنا بِمَا أرسلتم بِهِ﴾ أَي: جحدنا بِمَا أرسلتم بِهِ.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا لفي شكّ مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ مريب﴾ أَي: مرتاب، وَالشَّكّ هُوَ التَّرَدُّد بَين طرفِي نقيض.
107
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَت رسلهم أَفِي الله شكّ﴾ مَعْنَاهُ: لَيْسَ فِي الله شكّ، وَهَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى نفي مَا اعتقدوه. وَقَوله: ﴿فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: ﴿يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " من " صلَة، وَمَعْنَاهُ: ليغفر لكم ذنوبكم.
وَقَوله: ﴿ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى﴾ إِلَى حِين اسْتِيفَاء آجالكم. وَقَوله: ﴿قَالُوا إِن أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا تُرِيدُونَ أَن تصدونا﴾ أَي: تمنعونا. ﴿عَمَّا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿فأتونا بسُلْطَان مُبين﴾ أَي: بِحجَّة [ومعجزة] بَيِّنَة، وَالسُّلْطَان هَاهُنَا: هُوَ الْبُرْهَان الَّذِي يرد الْمُخَالف إِلَى الْحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَت لَهُم رسلهم إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ﴾ أَي: مَا نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ. ﴿وَلَكِن الله يمن على من يَشَاء من عباده﴾ يَعْنِي: ينعم على من يَشَاء من عباده بِالنُّبُوَّةِ، وَقيل: بالتوفيق وَالْهِدَايَة.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ لنا أَن نأتيكم بسُلْطَان﴾ أَي: بِحجَّة ومعجزة. ﴿إِلَّا بِإِذن الله﴾
107
( ﴿١١) وَمَا لنا أَلا نتوكل على الله وَقد هدَانَا سبلنا ولنصبرن على مَا آذيتمونا وعَلى الله فَليَتَوَكَّل المتوكلون (١٢) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لرسلهم لنخرجنكم من أَرْضنَا أَو لتعودن فِي ملتنا فَأوحى إِلَيْهِم رَبهم لَنهْلكَنَّ الظَّالِمين (١٣) ولنسكننكم الأَرْض من بعدهمْ ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد (١٤) واستفتحوا وخاب كل جَبَّار عنيد (١٥) من﴾ أَي: بِأَمْر الله. ﴿وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
108
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا لنا أَلا نتوكل على الله﴾ مَعْنَاهُ: وَأي شَيْء لنا فِي أَلا نتوكل على الله؛ وَقد عرفنَا أَنه لَا ينَال شَيْء بِجهْد إِلَّا بعد أَن يَقْضِيه الله تَعَالَى ويقدره. وَقَوله: ﴿وَقد هدَانَا سبلنا﴾ أَي: أرشدنا إِلَى سبل الْحق.
وَقَوله: ﴿ولنصبرن على مَا آذيتمونا﴾ وَالْآيَة تَعْلِيم الْمُؤمنِينَ وإرشادهم إِلَى الصَّبْر على أَذَى مخالفي الْحق. قَوْله: ﴿وعَلى الله فَليَتَوَكَّل المتوكلون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا لرسلهم لنخرجنكم من أَرْضنَا أَو لتعودن فِي ملتنا﴾ قد بَينا هَذَا فِي سُورَة الْأَعْرَاف، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لتعودن فِي ملتنا﴾.
وَقَوله: ﴿فَأوحى إِلَيْهِم رَبهم لَنهْلكَنَّ الظَّالِمين﴾ أَي: الْمُشْركين.
وَقَوله: ﴿ولنسكننكم الأَرْض من بعدهمْ﴾ يَعْنِي: نجْعَل دِيَارهمْ مَوضِع سكناكم، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم﴾.
وَقَوله: ﴿ذَلِك لمن خَافَ مقَامي﴾ الْفرق بَين الْمقَام والمُقام: أَن الْمقَام مَوضِع الْإِقَامَة، والمُقام فعل الْإِقَامَة. فَإِن قيل: كَيفَ يكون لله مقَام، وَقد قَالَ: ﴿ذَلِك لمن خَافَ مقَامي﴾ ؟ قُلْنَا: أجمع أهل التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: ذَلِك لمن خَافَ مقَامه بَين يَدي، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان﴾.
وَقَوله: ﴿وَخَافَ وَعِيد﴾ أَي: عقابي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿واستفتحوا﴾ مَعْنَاهُ: واستنصروا، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي يستفتح بصعاليك الْمُهَاجِرين " أَي: يستنصر من الله بحقهم.
108
﴿وَرَائه جَهَنَّم ويسقى من مَاء صديد (١٦) يتجرعه وَلَا يكَاد يسيغه ويأتيه الْمَوْت من﴾
وَقَوله: ﴿وخاب كل جَبَّار عنيد﴾ وخاب أَي: خسر، وَقيل: وَهلك كل جَبَّار. والجبار هُوَ الَّذِي لَا يرى فَوْقه أحد، والجبرية طلب الْعُلُوّ بِمَا لَا غَايَة وَرَاءه، وَهُوَ وصف لَا يَصح إِلَّا لله، وَأما فِي وصف الْخلق فَهُوَ مَذْمُوم، وَقيل: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يجْبر الْخلق على مُرَاده. وَأما العنيد: هُوَ المعاند للحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من وَرَائه جَهَنَّم﴾ الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ: من أَمَامه جَهَنَّم. قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن ورائك يَوْم أَنْت بالغه لَا حَاضر معجز عَنهُ وَلَا باد)
يَعْنِي: من أمامك، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة:
109
قَوْله: ﴿وَمن وَرَائه جَهَنَّم﴾ يَعْنِي: من بعده جَهَنَّم. وَقَوله: ﴿ويسقى من مَاء صديد﴾ مَعْنَاهُ: من مَاء هُوَ صديد. والصديد مَا يسيل من الْكفَّار من الْقَيْح وَالدَّم، وَالْأَصْل فِي الصديد هُوَ المَاء الَّذِي يخرج من الْجرْح مختلطا بِالدَّمِ والقيح، وَقيل: من مَاء صديد أَي: من مَاء كالصديد.
وَقَوله: ﴿يتجرعه﴾ أَي: يشربه جرعة جرعة من مرارته وشدته. وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أدناه من وَجهه شوى وَجهه وَسَقَطت فَرْوَة رَأسه، وَإِذا شربه تقطعت أمعاؤه، وَخرجت الأمعاء من دبره ".
وَقَوله: ﴿وَلَا يكَاد يسيغه﴾ يَعْنِي: لَا يسيغه، وَقيل مَعْنَاهُ: يكَاد لَا يسيغه، ويسيغه؛ ليغلي فِي جَوْفه. وَقَوله: ﴿ويأتيه الْمَوْت من كل مَكَان﴾ قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: من كل شَعْرَة من جسده، وَقيل: يَأْتِيهِ الْمَوْت من قدامه وَمن خَلفه، وَمن فَوْقه وَمن تَحْتَهُ، وَعَن يَمِينه وَعَن شِمَاله.
وَقَوله: ﴿وَمَا هُوَ بميت﴾ يَعْنِي: عَلَيْهِ شدَّة الْمَوْت وَلَا يَمُوت، وَهُوَ فِي معنى قَوْله
109
﴿كل مَكَان وَمَا هُوَ بميت وَمن وَرَائه عَذَاب غليظ (١٧) مثل الَّذين كفرُوا برَبهمْ أَعْمَالهم كرماد اشتدت بِهِ الرّيح فِي يَوْم عَاصِم لَا يقدرُونَ مِمَّا كسبوا على شَيْء ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد (١٨) ألم تَرَ أَن الله خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يذهبكم﴾ تَعَالَى: ﴿لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى﴾. وَقَوله: ﴿وَمن وَرَائه عَذَاب غليظ﴾ أَي: شَدِيد، وَالْعَذَاب الغليظ هُوَ الخلود فِي النَّار.
110
قَوْله تَعَالَى: ﴿مثل الَّذين كفرُوا برَبهمْ أَعْمَالهم﴾ وَمَوْضِع الْمثل فِي قَوْله: ﴿كرماد اشتدت بِهِ الرّيح﴾ يَعْنِي: ذهبت الرّيح المشتدة بِهِ.
وَقَوله: ﴿فِي يَوْم عاصف﴾ فِيهِ مَعْنيانِ.
أَحدهمَا: أَنه وصف الْيَوْم بالعاصف؛ لِأَن فِيهِ العصوف، كَمَا يُقَال: يَوْم حَار وَيَوْم بَارِد، أَي: فِيهِ الْحر وَالْبرد، قَالَ الشَّاعِر:
(يَوْمَيْنِ غيمين وَيَوْما شمسا... )
وَالْمعْنَى الثَّانِي: فِي يَوْم عاصف أَي: فِي يَوْم عاصف الرّيح، قَالَ الشَّاعِر:
(ويضحك عرفان الدروع جلودنا... إِذا جَاءَ يَوْم مظلم الشَّمْس (كاسف))
أَي: كاسف الشَّمْس.
وَقَوله ﴿لَا يقدرُونَ مِمَّا كسبوا على شَيْء﴾ لِأَن أَعْمَالهم قد ذهبت وَبَطلَت كالرماد الَّذِي ذهبت بِهِ الرّيح العاصف.
وَقَوله: ﴿ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد﴾ الْخَطَأ الطَّوِيل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ أَن الله خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ﴾ معنى خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ: مَا نصب فِيهَا من الدَّلَائِل على وحدانيته وَسَائِر صِفَاته.
وَقَوله: ﴿إِن يَشَأْ يذهبكم﴾ يَعْنِي: إِن يَشَأْ يهلككم. ﴿وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد﴾ أَي: بِقوم آخَرين، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ﴾.
110
﴿وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد (١٩) وَمَا ذَلِك على الله بعزيز (٢٠) وبرزوا لله جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء قَالُوا لَو هدَانَا الله لهديناكم سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا مَا لنا من محيص (٢١) وَقَالَ﴾
قيل فِي التَّفْسِير: قوما أطوع لله مِنْكُم.
111
وَقَوله: ﴿وَمَا ذَلِك على الله بعزيز﴾ أَي: شَدِيد؛ وَذَلِكَ لِأَن الْأَشْيَاء كلهَا سهلة هينة فِي الْقُدْرَة، وَلَا يصعب على الله شَيْء من الْأَشْيَاء وَإِن جلّ وَعظم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وبرزوا لله جَمِيعًا﴾ أَي: خَرجُوا من قُبُورهم إِلَى الله جَمِيعًا.
وَقَوله: ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا﴾ معنى الَّذين استكبروا: يَعْنِي تكبروا على النَّاس، وتكبروا عَن الْإِيمَان، وهم القادة والرؤساء.
وَقَوله: ﴿إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون﴾ كُنَّا لكم تبعا، أَي: أتباعا ﴿فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء﴾ أَي: دافعون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء. وَقَوله: ﴿قَالُوا لَو هدَانَا الله لهديناكم﴾ مَعْنَاهُ: لَو هدَانَا الله لدعوناكم إِلَى الْهدى، فَلَمَّا أضلنا دعوناكم إِلَى الضَّلَالَة.
وَقَوله: ﴿سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا﴾ فِي الْآثَار أَنهم يَقُولُونَ: قد جزع أَقوام فِي الدُّنْيَا؛ فنجوا فَنحْن نجزع لننجوا، فيجزعون مُدَّة مديدة فَلَا يرَوْنَ نجاة، فَيَقُولُونَ: قد صَبر أَقوام فِي الدُّنْيَا، فَنحْن نصبر للنجوا، فيصبرون مُدَّة مديدة، فَلَا يرَوْنَ نجاة فَيَقُولُونَ بعد ذَلِك: سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا.
قَوْله: ﴿مَا لنا من محيص﴾ أَي: منجي ومخلص، وَيُقَال: يجزعون مائَة سنة، ويصبرون مائَة سنة، وَيُقَال: فلَان وَقع فِي حيص بيص، وحاص وباص إِذا وَقع فِي أَمر لَا مخلص عَنهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَان لما قضى الْأَمر﴾ قَوْله: ﴿لما قضى الْأَمر﴾ دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة وَأهل النَّار النَّار. وَفِي بعض الْآثَار: " أَنه يوضع لإبليس مِنْبَر من نَار فيصعد عَلَيْهِ ويخطبهم " وَذَلِكَ حِين يتعلقون بِهِ، وَيَقُولُونَ: أَنْت فعلت بِنَا هَذَا.
111
﴿الشَّيْطَان لما قضي الْأَمر إِن الله وَعدكُم وعد الْحق ووعدتكم فأخلفتكم وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان إِلَّا أَن دعوتكم فاستجبتم لي فَلَا تلوموني ولوموا أَنفسكُم مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي إِنِّي كفرت بِمَا أشركتموني من قبل إِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم (٢٢) وَأدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا﴾
وَقَوله: ﴿إِن الله وَعدكُم وعد الْحق ووعدتكم فأخلفتكم﴾ ووعد الْحق هُوَ الَّذِي يَقع الْوَفَاء [بِهِ]. وَقَوله: ﴿ووعدتكم فأخلفتكم﴾ هُوَ مَا لَا يَقع بِهِ الْوَفَاء، وَقيل: إِنَّه يَقُول لَهُم: قلت لكم لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار، وَغير ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان﴾ مَعْنَاهُ: أَنِّي لم آتكم بِحجَّة فِيمَا دعوتكم إِلَيْهِ. وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن دعوتكم﴾ هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِن دعوتكم أَي: زينت لكم. قَوْله: ﴿فاستجبتم لي﴾ أَي: أجبتم لي. وَقَوله: ﴿فَلَا تلوموني ولوموا أَنفسكُم﴾ يَعْنِي: لَا تعودوا باللائمة عَليّ، وعودوا باللائمة على أَنفسكُم.
وَقَوله: ﴿مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي﴾ مَعْنَاهُ: مَا أَنا بمعينكم وَمَا أَنْتُم بمعيني، وَقيل [مَعْنَاهُ] : مَا أَنا بمنجيكم وَمَا أَنْتُم بمنجي، وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَمَا أَنْتُم بمصرخي " بِكَسْر الْيَاء، وَأهل النَّحْو لَا يرضون هَذِه الْقِرَاءَة، وَذكر الْفراء شعرًا يدل على قِرَاءَة حَمْزَة. قيل: إِنَّه لُغَة بني يَرْبُوع. وَالشعر:
(قَالَ لَهَا هَل أَنْت يَا باغي قَالَت لَهُ مَا أَنْت بالمرضي)
وَقَوله: ﴿إِنِّي كفرت بِمَا أشركتمون من قبل﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِنِّي كفرت بجعلكم إيَّايَ شَرِيكا فِي عبَادَة الله وطاعته، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنِّي كفرت قبل أَن أشركتموني فِي عِبَادَته، يَعْنِي: كفرت قبل كفركم.
وَقَوله: ﴿إِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: وجيع.
112
﴿الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا بِإِذن رَبهم تحيتهم فِيهَا سَلام (٢٣) ألم تَرَ كَيفَ ضرب الله مثلا﴾
113
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار﴾ قد بَينا. ﴿خَالِدين فِيهَا﴾ مقيمين فِيهَا أبدا. ﴿بِإِذن رَبهم﴾ بِأَمْر رَبهم.
قَوْله: ﴿تحيتهم فِيهَا سَلام﴾ وَفِي المحيي بِالسَّلَامِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن المحيي بِالسَّلَامِ هُوَ الله تَعَالَى، وَالْآخر: هم الْمَلَائِكَة، وَالثَّالِث: أَن المحيي بِالسَّلَامِ بَعضهم على بعض.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ كَيفَ ضرب الله مثلا كلمة طيبَة﴾ الْمثل قَول سَائِر لتشبه شَيْء بِشَيْء فِي الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿كلمة طيبَة﴾ أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَن الْكَلِمَة الطّيبَة هَاهُنَا: لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَقَوله: ﴿كشجرة طيبَة﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن الشَّجَرَة الطّيبَة هَاهُنَا: هِيَ النَّخْلَة، وَقد بيّنت بِرِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ لأَصْحَابه: " أخبروني عَن شَجَرَة هِيَ مثل الْمُؤمن؟ فَوَقَعت الصَّحَابَة فِي شجر الْبَوَادِي. قَالَ ابْن عمر: وَوَقع فِي نَفسِي أَنَّهَا النَّخْلَة، ثمَّ إِن النَّبِي قَالَ: هِيَ النَّخْلَة. قَالَ ابْن عمر: فَذكرت لأبي أَنه كَانَ وَقع فِي نَفسِي كَذَا، فَقَالَ: لَو كنت قلته كَانَ أحب إِلَيّ من حمر النعم ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أكْرمُوا النَّخْلَة فَإِنَّهَا عمتكم ".
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا خلقت من فضل طِينَة آدم.
113
﴿كلمة طيبَة كشجرة طيبَة أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء (٢٤) تؤتي أكلهَا كل حِين بِإِذن رَبهَا وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون (٢٥) وَمثل كلمة خبيثة كشجرة﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشَّجَرَة الطّيبَة شَجَرَة فِي الْجنَّة، وَقد حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: إِن الشَّجَرَة الطّيبَة شَجَرَة جوز الْهِنْدِيّ.
وَقَوله: ﴿أَصْلهَا ثَابت﴾ أَي: ثَابت فِي الأَرْض. وَقَوله: ﴿وفرعها فِي السَّمَاء﴾ أَي: أَعْلَاهَا فِي السَّمَاء.
114
وَقَوله: ﴿تؤتي أكلهَا كل حِين﴾ الْحِين فِي اللُّغَة هُوَ الْوَقْت، وَفِي معنى الْحِين أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: سِتَّة أشهر؛ لِأَنَّهَا من حِين ضرابها إِلَى حِين إطلاعها، وَقَالَ مُجَاهِد: الْحِين هَاهُنَا هُوَ سنة كَامِلَة؛ لِأَن النَّخْلَة تثمر كل سنة.
وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: أَرْبَعَة أشهر لِأَنَّهَا من حِين ظُهُورهَا إِلَى حِين إِدْرَاكهَا، وَقَالَ بَعضهم: شَهْرَان؛ لِأَنَّهُ من حِين يُؤْكَل إِلَى حِين يصرم.
وَالْقَوْل الْخَامِس: أَنه غدْوَة وَعَشِيَّة؛ لِأَن ثَمَر النَّخْلَة يُؤْكَل مِنْهَا أبدا، إِمَّا رطبا، وَإِمَّا تَمرا وَإِمَّا بسرا.
وَقَوله: ﴿بِإِذن رَبهَا﴾ أَي: بِأَمْر رَبهَا. وَقَوله: ﴿وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس﴾ مَوضِع الْمثل أَن الْإِيمَان ثَابت فِي الْقلب، وَالْعَمَل صاعد إِلَى السَّمَاء، كالنخلة ثَابت أَصْلهَا فِي الأَرْض، وفروعها مُرْتَفعَة إِلَى السَّمَاء، مَوضِع الْمثل فِي قَوْله: ﴿تؤتي أكلهَا كل حِين﴾ لِأَن فَائِدَة الْإِيمَان وبركته لَا تَنْقَطِع أبدا، بل تصل إِلَى الْمُؤمن فِي كل وَقت، كَمَا أَن نفع النَّخْلَة وبركتها تصل إِلَى حَاجَتهَا فِي كل وَقت.
وَاسْتدلَّ بَعضهم على أَن النَّخْلَة تشبه الْآدَمِيّ؛ لِأَنَّهَا محتاجة إِلَى اللقَاح، كالآدمي لَا يُولد لَهُ حَتَّى يلقح. قَوْله: ﴿لَعَلَّهُم يتذكرون﴾ أَي: يتعظون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمثل كلمة خبيثة﴾ الْكَلِمَة الخبيثة هِيَ الشّرك. وَقَوله: ﴿كشجرة خبيثة﴾ اخْتلفُوا فِيهَا، قَالَ أنس بن مَالك: هِيَ الحنظلة، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هِيَ الثوم، وَقيل: إِنَّهَا الكشوثا، وَهِي العشقة.
114
﴿خبيثة اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار (٢٦) يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت﴾
وَقَوله: ﴿اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار﴾ أَي: اقتلعت من فَوق الأَرْض. وَقَوله: ﴿مَا لَهَا من قَرَار﴾ أَي: مَا لَهَا من ثبات، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنه لَيْسَ لَهَا أصل ثَابت فِي الأَرْض، وَلَا فرع يصعد إِلَى السَّمَاء، وَمَوْضِع الْمثل مَعْلُوم.
115
قَوْله تَعَالَى: ﴿يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت﴾ القَوْل الثَّابِت: كلمة التَّوْحِيد وَهِي لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَالَ: ﴿يثبت الله﴾ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُثبت للْإيمَان فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يَعْنِي: قبل الْمَوْت. وَقَوله ﴿ [و] فِي الْآخِرَة﴾ أَي: فِي الْقَبْر، وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير، وَقد ثَبت ذَلِك عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب، وَهُوَ قَول عبد الله بن مَسْعُود، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة.
وَاعْلَم أَن سُؤال الْقَبْر ثَابت فِي السّنة، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَقد وَردت فِيهِ الْأَخْبَار الْكَثِيرَة، روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن النَّبِي كَانَ فِي جَنَازَة، فَذكر لأَصْحَابه أَنه يدْخل على الرجل فِي قَبره ملكان ويسألانه، فَيَقُولَانِ: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ قَالَ: فَأَما الْمُؤمن فَيَقُول: رَبِّي الله، وديني الْإِسْلَام، وَنَبِي مُحَمَّد. فَيفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار، فَيُقَال لَهُ: هَذَا كَانَ مَكَانك لَو قلت غير هَذَا، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة، ويفسح لَهُ فِي قَبره مد الْبَصَر. وَأما الْكَافِر فَيَقُول الْملكَانِ لَهُ: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ فَيَقُول: لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: لَا دَريت وَلَا تليت، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة، فَيَقُولَانِ: هَذَا مَكَانك لَو أجبْت، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار، ويضيق عَلَيْهِ الْقَبْر حَتَّى تخْتَلف أضلاعه، ويضربانه بِمِطْرَقَةٍ من نَار فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا كل الْخَلَائق إِلَّا الثقلَيْن ".
115
﴿فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء (٢٧) ألم تَرَ إِلَى﴾
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي قَالَ: لَو نجا أحد من عَذَاب الْقَبْر لنجا سعد بن معَاذ، وَلَقَد ضمه الْقَبْر ضمة أَو ضمتين " وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لعمر: " كَيفَ بك إِذا أَتَاك ملكان... " الْخَبَر. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَمَعِي عَقْلِي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أكفيهما إِذا ".
وَقيل: إِن عَذَاب الْقَبْر ثَلَاثَة أَثلَاث: ثلث من ترك الاستنزاه من الْبَوْل، وَثلث من الْغَيْبَة، وَثلث من الْمَشْي بالنميمة. وَالله أعلم.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن الْحَيَاة الدُّنْيَا هِيَ الْقَبْر، وَفِي الْآخِرَة هِيَ الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الأول أصح.
وَقَوله: ﴿ويضل الله الظَّالِمين﴾ مَعْنَاهُ: أَنه لَا يهدي الْمُشْركين إِلَى هَذَا الْجَواب، وَلَا يلقنهم إِيَّاه. وَقَوله: ﴿وَيفْعل الله مَا يَشَاء﴾ من التَّوْفِيق والخذلان والتثبيت وَترك التثبيت.
116
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا﴾ الْآيَة [فِيهَا] ثَلَاثَة
116
﴿الَّذين بدلُوا نعمت الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار (٢٨) جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار (٢٩) وَجعلُوا لله أندادا ليضلوا عَن سَبيله قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار﴾ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم كفار قُرَيْش، وَالْآخر: أَنهم قادة الْمُشْركين ببدر، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَالثَّالِث: رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: هم الأفجران بَنو الْمُغيرَة وَبَنُو أُميَّة: فَأَما بَنو الْمُغيرَة فَقتلُوا يَوْم بدر، وَأما بَنو أُميَّة فمتعوا إِلَى حِين.
وَقَوله: ﴿وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار﴾ أَي: دَار الْهَلَاك، وَهِي جَهَنَّم قَالَ الشَّاعِر:
(إِن لقيما وَإِن قتلا وَإِن لُقْمَان حَيْثُ باروا)
يَعْنِي: هَلَكُوا.
117
وَقَوله: ﴿جَهَنَّم يصلونها [وَبئسَ] الْقَرار﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجعلُوا لله أندادا﴾ أَي: شُرَكَاء وأمثالا، قَالَ حسان بن ثَابت: شعرًا:
(أتهجوه وَلست لَهُ بند فشركما لخير كَمَا الْفِدَاء)
وَاعْلَم أَن الله لَيْسَ لَهُ ضد وَلَا ند. أما الند الَّذِي هُوَ الْمثل فمعلوم، وَأما الضِّدّ فَلِأَن فِيهِ معنى من المثلية، وَالله لَيْسَ لَهُ مثل بِوَجْه مَا.
وَقَوله: ﴿ليضلوا عَن سَبيله﴾ إِنَّمَا نسب إِلَيْهِم الضَّلَالَة، لأَنهم سَبَب فِي (الضلال)، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل: فتنتني الدُّنْيَا؛ نسب الْفِتْنَة إِلَى الدُّنْيَا، لِأَنَّهَا سَبَب فِي الْفِتْنَة. وَقَوله: ﴿ليضلوا عَن سَبيله﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو أَن كَافِرًا كَانَ فِي أَشد بؤس وضر لَا يهدأ لَيْلًا وَلَا نَهَارا، كَانَ ذَلِك نعيما فِي جنب مَا يصير إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة، وَلَو أَن مُؤمنا كَانَ فِي أنعم عَيْش، كَانَ ذَلِك بؤسا فِي جنب مَا يصير إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿فَإِن مصيركم إِلَى النَّار﴾ أَي: مرجعكم إِلَى النَّار.
117
( ﴿٣٠) قل لعبادي الَّذين آمنُوا يقيموا الصَّلَاة وينفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلال (٣١) الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الْفلك لتجري فِي الْبَحْر بأَمْره وسخر لكم الْأَنْهَار (٣٢) وسخر لكم الشَّمْس وَالْقَمَر دائبين وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار﴾
118
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قل لعبادي الَّذين آمنُوا يقيموا الصَّلَاة﴾ هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، أَي: أقِيمُوا الصَّلَاة. وَقَوله: ﴿وينفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة﴾ يَعْنِي: جَهرا وَغير جهر. وَقيل: نفلا سرا، وفرضا جَهرا.
وَقَوله: ﴿من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَعْنِي لَا فدَاء فِيهِ ﴿وَلَا خلال﴾ أَي: لَا مخالة وَلَا صداقة، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وسخر لكم الْفلك لتجري فِي الْبَحْر بأَمْره﴾ أَي: بِعِلْمِهِ وإذنه.
وَقَوله: ﴿وسخر لكم الْأَنْهَار﴾ أَي: ذلل لكم الْأَنْهَار تجرونها حَيْثُ شِئْتُم.
وَقَوله: ﴿وسخر لكم الشَّمْس وَالْقَمَر دائبين﴾ وَذَلِكَ لكم، وتسخير الشَّمْس وَالْقَمَر هُوَ جريانهما على وتيرة وَاحِدَة فِيمَا يعود إِلَى مصَالح الْعباد.
وَقَوله: ﴿دائبين﴾ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَا يفتران وَلَا يقفان، والدأب فِي الشَّيْء هُوَ الجري على عَادَة وَاحِدَة.
وَقَوله: ﴿وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وآتاكم من كل مَا سألتموه﴾ قرىء بقراءتين، الْمَعْرُوف: ﴿من كل مَا سألتموه﴾، وَيقْرَأ: " من كل مَا سألتموه " بِالتَّشْدِيدِ والتنوين، فَالْقَوْل الْمَعْرُوف مَعْنَاهُ: يَعْنِي من كل الَّذِي سألتموه.
فَإِن قَالَ قَائِل: نَحن نَسْأَلهُ أَشْيَاء وَلَا يُعْطِينَا؟ وَالْجَوَاب: أَن جنسه يُعْطي الْآدَمِيّين
118
( ﴿٣٣) وآتاكم من كل مَا سألتموه وَإِن تعدوا نعمت الله لَا تحصوها إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار (٣٤) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا الْبَلَد آمنا واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام﴾ وَإِن لم يُعْطه على التَّعْيِين؛ فاستقام الْكَلَام على هَذَا، وَقيل مَعْنَاهُ: من كل مَا سألتموه، وَلم تسألوه. وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة، فَمَعْنَى " مَا " هُوَ النَّفْي، وَمَعْنَاهُ: أَعْطَاكُم أَشْيَاء لم تسألوها، فَإِن الله تَعَالَى أَعْطَانَا اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم والرياح، وَمَا أشبه ذَلِك وَلم نَسْأَلهُ شَيْئا مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: مَعْنَاهُ: لَا تُطِيقُوا عدهَا، وَقيل: لَا تطيقون شكرها.
وَقَوله: ﴿إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار﴾ يَعْنِي: ظَالِم لنَفسِهِ كَافِر بربه، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي جهل خَاصَّة، وَيُقَال: إِنَّهَا نزلت فِي جنس الْكفَّار، وَيجوز أَن يذكر الْإِنْسَان وَيُرَاد بِهِ جنس النَّاس، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر﴾ وَقيل: [الظَّالِم] هُوَ الَّذِي يشْكر غير من أنعم عَلَيْهِ، وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يجْحَد منعمه.
119
قَوْله: ﴿وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا الْبَلَد آمنا﴾ أَجمعُوا أَن الْبَلَد هُوَ مَكَّة، وَقَوله: ﴿آمنا﴾ أَي: ذَا أَمن.
وَقَوله: ﴿واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام﴾ مَعْنَاهُ: بعدني وَبني من عبَادَة الْأَصْنَام، فَإِن قَالَ قَائِل: قد كَانَ إِبْرَاهِيم مَعْصُوما عَن عبَادَة الْأَصْنَام، فَكيف يَسْتَقِيم سُؤَاله لنَفسِهِ، وَقد عبد كثير من بنيه الْأَصْنَام، فَأَيْنَ الْإِجَابَة؟
الْجَواب: أما فِي حق إِبْرَاهِيم، فالدعاء لزِيَادَة الْعِصْمَة والتثبيت، وَأما فِي حق الْبَنِينَ فَيُقَال: إِن الدُّعَاء لِبَنِيهِ من الصلب، وَلم يعبد أحد مِنْهُم الصَّنَم، وَقيل: إِن دعاءه لمن كَانَ مُؤمنا من بنيه.
119
( ﴿٣٥) رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم (٣٦) رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذِي زرع عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم وارزقهم من الثمرات لَعَلَّهُم﴾
120
وَقَوله: ﴿رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس﴾ نسب الضَّلَالَة إلَيْهِنَّ لما بَينا من الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني﴾ أَي: من أهل ديني.
وَقَوله: ﴿وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم﴾ يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ هَذَا قبل أَن يُعلمهُ الله أَنه لَا يغْفر الشّرك.
وَالْآخر: أَن المُرَاد من الْعِصْيَان هُوَ مَا دون الشّرك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبنَا إِنِّي أسكنت﴾ يَعْنِي: أنزلت. قَوْله تَعَالَى: ﴿من ذريتي﴾ الذُّرِّيَّة هَاهُنَا إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأمه هَاجر.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه حمل هَاجر وَإِسْمَاعِيل وَهُوَ طِفْل يرضع، وَكَانُوا ثَلَاثَتهمْ على الْبراق، فجَاء بهم إِلَى مَوضِع الْبَيْت، وَهِي مَدَرَة حَمْرَاء، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: هَاهُنَا أمرت. فَأنْزل إِسْمَاعِيل وَأمه فِي مَوضِع الْحجر، وَمضى رَاجعا إِلَى الشَّام، فنادته هَاجر، يَا خَلِيل الله، إِلَى من تكلنا؟ قَالَ: إِلَى الله تَعَالَى. قَالَت: قد قبلنَا ذَلِك، والقصة فِي هَذَا مَعْرُوفَة.
وَقَوله: ﴿بواد غير ذِي زرع﴾ قَالَ هَذَا لِأَن مَكَّة بَين جبلين، وَهِي وَاد.
وَقَوله: ﴿عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة﴾ سَمَّاهُ محرما؛ لِأَنَّهُ يحرم عِنْده مَا لَا يحرم عِنْد غَيره.
وَقَوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس﴾ الأفئدة جمع الْفُؤَاد، قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو قَالَ " أَفْئِدَة النَّاس " لزاحمتكم [فَارس] وَالروم، وَفِي رِوَايَة: التّرْك والديلم، وَفِي رِوَايَة عَن غَيره: لحجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس.
وَقَوله: ﴿تهوي إِلَيْهِم﴾ أَي: تحن إِلَيْهِم، قَالَ السّديّ مَعْنَاهُ: أمل قُلُوبهم إِلَى هَذَا
120
﴿يشكرون (٣٧) رَبنَا إِنَّك تعلم مَا نخفي وَمَا نعلن وَمَا يخفى على الله من شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء (٣٨) الْحَمد لله الَّذِي وهب لي على الْكبر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إِن رَبِّي لسميع الدُّعَاء (٣٩) رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلَاة وَمن ذريتي رَبنَا وَتقبل دُعَاء﴾ لموْضِع؛ فَإِن الْإِنْسَان يمِيل مَعَ قلبه حَيْثُ مَال.
وَقَوله: ﴿وارزقهم من الثمرات﴾ فِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى قلع قَرْيَة من الشَّام بأشجارها وأرضها فوضعها بمَكَان الطَّائِف. وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يشكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
121
قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبنَا إِنَّك تعلم مَا نخفي وَمَا نعلن وَمَا يخفى على الله من شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿الْحَمد لله الَّذِي وهب لي على الْكبر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق﴾. فِي الْقِصَّة: أَن إِسْمَاعِيل ولد لَهُ وَهُوَ ابْن تسع وَتِسْعين سنة، وَإِسْحَاق ولد لَهُ بعد ذَلِك بِثَلَاث عشرَة سنة. وَيُقَال: إِن إِسْمَاعِيل ولد لَهُ بعد أَن بلغ سنة مائَة [وَسبع] عشرَة سنة. وَقَوله: ﴿إِن رَبِّي لسميع الدُّعَاء﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله: ﴿رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلَاة وَمن ذريتي﴾ يَعْنِي: مِمَّن يُقيم الصَّلَاة بحدودها وأركانها، ويحافظ عَلَيْهَا. قَوْله: ﴿وَمن ذريتي﴾ مَعْنَاهُ: وَاجعَل من ذريتي من يُقِيمُونَ الصَّلَاة. قَوْله: ﴿رَبنَا وَتقبل دُعَاء﴾ أَي: واستجب دعائي.
قَوْله: ﴿رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي﴾ قَرَأَ سعيد بن جُبَير: ﴿ولوالِديّ﴾، وَقَرَأَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَيحيى بن يعمر: " ولوالدتي "، وَالْمَعْرُوف: ﴿ولوالدي﴾.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اسْتغْفر لوَالِديهِ وَلم يَكُونَا آمنا؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: قد قيل: إِن أمه قد أسلمت، وَأما الْوَالِد فَإِنَّمَا اسْتغْفر لَهُ قبل أَن يتَبَيَّن لَهُ أَنه مُقيم على الشّرك، وَقد بَينا هَذَا من قبل، وَقيل: ولوالدي آدم وحواء، وَقيل: نوح وَأم إِبْرَاهِيم.
121
( ﴿٤٠) رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي وَلِلْمُؤْمنِينَ يَوْم يقوم الْحساب (٤١) وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يؤخرهم ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار (٤٢) مهطعين مقنعي﴾
وَفِي تَفْسِير الدمياطي: أَن قَوْله: ﴿ولوالدي﴾ أَي: لوَلَدي، قَالَ ابْن فَارس: وَيجوز هَذَا فِي اللُّغَة، وَهُوَ أَن يذكر الْوَالِد بِمَعْنى الْمَوْلُود، كَمَا يُقَال: مَاء دافق أَي: مدفوق. وَقَوله: ﴿وَلِلْمُؤْمنِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿يَوْم يقوم الْحساب﴾ أَي: يَوْم يُحَاسب الله الْخلق.
122
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ﴾ الْآيَة. الْغَفْلَة معنى يمْنَع الْإِنْسَان من الْوُقُوف على حَقِيقَة الْأُمُور. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة تَعْزِيَة للمظلوم وتسلية لَهُ، وتهديد للظالم.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يؤخرهم﴾ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا يمهلهم. وَقَوله: ﴿ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار﴾ يَعْنِي: من الدهش والحيرة وَشدَّة الْأَمر، وَمعنى تشخص أَي: ترْتَفع وتزول عَن أماكنها.
وَقَوله ﴿مهطعين﴾ الْأَكْثَرُونَ أَن مَعْنَاهُ مُسْرِعين، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الثَّعْلَب: الإهطاع هُوَ النّظر فِي (الذل والخضوع). وَقيل: مهطعين أَي: مديمي النّظر لَا يطرفون. وَمعنى الْإِسْرَاع الَّذِي ذكرنَا هُوَ أَنهم لَا يلتفتون يَمِينا وَلَا شمالا، وَلَا يعْرفُونَ مَوَاطِن أَقْدَامهم، وَلَيْسَ لَهُم همة وَلَا نظر إِلَى مَا يساقون إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿مقنعي رُءُوسهم﴾ يُقَال: أقنع رَأسه أَي: رَفعه، وأقنع رَأسه إِذْ خفضه، فَإِن كَانَ المُرَاد هُوَ الرّفْع فَمَعْنَاه: أَن أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء ينظرُونَ مَاذَا يرد عَلَيْهِم من الله تَعَالَى، وَإِن حمل الْإِقْنَاع على خفض الرَّأْس فَمَعْنَاه: مطرقون ناكسون، قَالَ الشَّاعِر:
(نغض رَأْسِي نَحوه وأقنعا كَأَنَّمَا يطْلب شَيْئا أطمعا)
وَقَالَ المؤرج: رفعوا رُءُوسهم حَتَّى كَادُوا يضعونها على أكتافهم.
122
﴿رُءُوسهم لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم وأفئدتهم هَوَاء (٤٣) وأنذر النَّاس يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب فَيَقُول الَّذين ظلمُوا رَبنَا أخرنا إِلَى أجل قريب نجب دعوتك وَنَتبع الرُّسُل أَو لم تَكُونُوا أقسمتم من قبل مَا لكم من زَوَال (٤٤) وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم﴾
وَقَوله ﴿لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم﴾ يَعْنِي: لَا يرجع إِلَيْهِم طرفهم، فَكَأَنَّهُ ذهلهم مَا بَين أَيْديهم فَلَا ينظرُونَ لشَيْء سواهُ.
وَقَوله: ﴿وأفئدتهم هَوَاء﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: متخرقة لَا تعي شَيْئا، وَقَالَ قَتَادَة: خرجت قُلُوبهم عَن صُدُورهمْ حَتَّى بلغت الْحَنَاجِر من شدَّة ذَلِك الْيَوْم وهوله فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر﴾، فعلى هَذَا قَوْله: ﴿وأفئدتهم هَوَاء﴾ أَي: خَالِيَة، وَمِنْه سمي الجو هَوَاء لخلوه، وَقيل: خَالِيَة عَن الْعُقُول؛ فَكَأَنَّهَا ذهبت من الْفَزع وَالْخَوْف.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: " وأفئدتهم هَوَاء " أَي: مترددة لَا تَسْتَقِر فِي مَكَان، وَقيل: هَوَاء أَي: متخربة من الْجُبْن والفزع. قَالَ حسان بن ثَابت:
(أَلا أبلغ أَبَا سُفْيَان عني فَأَنت مجوف نخب هَوَاء)
حَقِيقَة الْمَعْنى من الْآيَة أَن الْقُلُوب زائلة عَن أماكنها، والأبصار شاخصة من هول ذَلِك الْيَوْم.
123
وَقَوله: ﴿وأنذر النَّاس يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب﴾ يَعْنِي: خوف النَّاس.
قَوْله: ﴿فَيَقُول الَّذين ظلمُوا رَبنَا أخرنا إِلَى أجل قريب﴾ مَعْنَاهُ: أمهلنا.
وَقَوله: ﴿إِلَى أجل قريب﴾ هَذَا سُؤال الرّجْعَة، كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا ردهم إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿نجب دعوتك وَنَتبع الرُّسُل﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿أَو لم تَكُونُوا أقسمتم﴾ أَي حلفتم فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: ﴿من قبل مَا لكم من زَوَال﴾ يَعْنِي: لَيْسَ لكم بعث وَلَا جَزَاء وَلَا حِسَاب.
وَقَوله: ﴿وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم﴾ أَي: ظلمُوا أنفسهم
123
﴿وَتبين لكم كَيفَ فعلنَا بهم وضربنا لكم الْأَمْثَال (٤٥) وَقد مكروا مَكْرهمْ وَعند الله مَكْرهمْ وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال (٤٦) فَلَا تحسبن الله مخلف وعده رسله﴾ فأهلكناهم. وَقَوله: ﴿وَتبين لكم كَيفَ فعلنَا بهم﴾ يَعْنِي: عَرَفْتُمْ عقوبتنا إيَّاهُم.
وَقَوله: ﴿وضربنا لكم الْأَمْثَال﴾ أَي: الْأَشْبَاه، وَمَعْنَاهُ: بَينا أَن مثلكُمْ كمثلهم.
124
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقد مكروا مَكْرهمْ﴾ أَي: كَادُوا كيدهم.
وَقَوله: ﴿وَعند الله مَكْرهمْ﴾ أَي: عِنْد الله جَزَاء مَكْرهمْ.
وَقَوله: ﴿وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال﴾ قرئَ بقرائتين: " لتزول " و " لتزول " قَرَأَهُ الْكسَائي وَحده بِنصب اللَّام.
أما قَوْله: ﴿لتزول﴾ - بِكَسْر اللَّام وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ - مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال، يَعْنِي: أَن مَكْرهمْ لَا يزِيل أَمر مُحَمَّد الَّذِي هُوَ ثَابت كثبوت الْجبَال.
وَقيل: إِن معنى الْآيَة بَيَان ضعف كيدهم ومكرهم، وَأَنه لَا يبلغ هَذَا الْمبلغ، وَأما قَوْله: " وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول " بِنصب اللَّام الأول وَرفع الثَّانِي مَعْنَاهُ: أَن مَكْرهمْ لَو بلغ فِي الْعظم بِمُحَمد يزِيل الْجبَال لم يقدروا على إِزَالَة أَمر مُحَمَّد. وَقَرَأَ عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة: " وَإِن كَاد مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال:. وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَرَأَ: " وَلَوْلَا كلمة الله لزال بمكرهم الْجبَال ".
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي معنى الْآيَة: وَهُوَ أَنَّهَا نزلت فِي نمروذ حِين قَالَ: لأصعدن السَّمَاء، وَاتخذ النسور وجوعها ثمَّ اتخذ تابوتا، وَنصب خشبات فِي أطرافها، وَجعل على رءوسها اللَّحْم، ثمَّ ربط قَوَائِم النسور على الخشبات وخلاها، فاستعلت النسور، وَقد جلس نمروذ فِي التابوت مَعَ حَاجِبه، وَقيل: مَعَ غُلَام لَهُ، وللتابوت بَابَانِ: بَاب من أَعلَى، وَبَاب من أَسْفَل، وَقَالَ: فَلَمَّا صعدت النسور فِي السَّمَاء، وَمضى على ذَلِك يَوْم، قَالَ لغلامه: افْتَحْ الْبَاب السُّفْلى، فَإِذا الأَرْض
124
﴿إِن الله عَزِيز ذُو انتقام (٤٧) يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَوَات وبرزوا لله﴾ كاللجة، فَقَالَ: افْتَحْ الْبَاب الْأَعْلَى فَإِذا السَّمَاء كَمَا هِيَ، ثمَّ مر [يَوْم] آخر فَقَالَ: افْتَحْ الْبَاب الْأَسْفَل فَفتح فَإِذا الأَرْض كالدخان، فَقَالَ: افْتَحْ الْبَاب الْأَعْلَى فَفتح فَإِذا السَّمَاء كَمَا هِيَ، فَأمر غُلَامه حَتَّى يصوب رُءُوس النسور والخشبات، فجَاء التابوت إِلَى جَانب الأَرْض وَله هدة عَظِيمَة، فخافت الْجبَال أَنه جَاءَ من السَّمَاء أَمر، وكادت تَزُول عَن أماكنها، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول﴾ - بِنصب اللَّام الأولى وَرفع الثَّانِي - ﴿مِنْهُ الْجبَال﴾.
وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ قَول قَتَادَة - أَن مَعْنَاهَا: وَإِن كَانَ شركهم لتزول مِنْهُ الْجبَال، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى ﴿تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا﴾.
125
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا تحسبن الله مخلف وعده رسله﴾ قيل: هَذَا من المقلوب وَمَعْنَاهُ: مخلف رسله وعده. قَوْله: ﴿إِن الله عَزِيز ذُو انتقام﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَوَات وبرزوا﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: تبدل هَذِه الأَرْض بِأَرْض بَيْضَاء كالفضة لم يسفك عَلَيْهَا دم، وَلم يعْمل فِيهَا بخطيئة، وَأما السَّمَاء تبدل بسماء من ذهب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَه أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر وَمُحَمّد بن كَعْب: أَنه تبدل الأَرْض بِأَرْض من خبْزَة يَأْكُلُون مِنْهَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر: ﴿وَمَا جعلناهم جسدا لَا يَأْكُلُون الطَّعَام﴾ وَالْقَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَن تَبْدِيل الأَرْض هُوَ تغييرها من هَيْئَة إِلَى هَيْئَة، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: تبدلت بعدِي، أَي: تَغَيَّرت هيئتك وحالك. وتغيير الأَرْض بتسيير جبالها، وطم أنهارها، وتسوية أَوديتهَا، وَقلع أشجارها وَجعلهَا قاعا
125
﴿الْوَاحِد القهار (٤٨) وَترى الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ مُقرنين فِي الأصفاد (٤٩) سرابيلهم من﴾ صفصفا لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا، وَأما تَبْدِيل السَّمَوَات بتغيير حَالهَا، وَذَلِكَ بتكوير شمسها وقمرها، وانتثار نجومها، وَكَونهَا مرّة كالدهان، وَهُوَ الْأَدِيم الْأَحْمَر، وَمرَّة كَالْمهْلِ، وَقيل: إِن معنى التبديل هُوَ أَنه يَجْعَل السَّمَوَات جنَانًا وَالْأَرضين نيرانا، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة مَسْرُوق عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " يَا رَسُول الله، قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض﴾ أَيْن يكون النَّاس حِينَئِذٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: على الصِّرَاط " وَإِذا ثَبت هَذَا فَالْأولى هُوَ هَذَا القَوْل.
أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن الشَّافِعِي، قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس، قَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد المقريء قَالَ: حَدثنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله، قَالَ: نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق، عَن عَائِشَة عَن النَّبِي... الْخَبَر.
وَقَوله: ﴿وبرزوا لله الْوَاحِد القهار﴾ مَعْنَاهُ: وَخَرجُوا من قُبُورهم لله الْوَاحِد القهار يحكم فيهم بِمَا أَرَادَ.
126
قَوْله: ﴿وَترى الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ مُقرنين فِي الأصفاد﴾ يُقَال: صفده إِذا قَيده، وأصفده إِذا أعطَاهُ، قَالَ الْأَعْشَى:
(تضيفته يَوْمًا فَأكْرم مقعدي وأصفدني على الزمانة قائدا)
أصفدني أَي: أَعْطَانِي. وَقَوله: ﴿مُقرنين﴾ أَي: مجعولين بَعضهم مَعَ بعض فِي السلَاسِل والأقياد، وَقيل: إِنَّه يقرن كل كَافِر مَعَ شَيْطَان فِي كل سلسلة وَقيد، ذكره الْكَلْبِيّ، وَيُقَال: تجمع رِجْلَاهُ إِلَى عُنُقه ويغل، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿مُقرنين فِي الأصفاد﴾.
126
﴿قطران وتغشى وُجُوههم النَّار (٥٠) ليجزي الله كل نفس مَا كسبت إِن الله سريع الْحساب (٥١) هَذَا بَلَاغ للنَّاس ولينذروا بِهِ وليعلموا أَنما هُوَ إِلَه وَاحِد وليذكر أولُوا الْأَلْبَاب (٥٢) ﴾
127
وَقَوله: ﴿سرابيلهم من قطران﴾ أَي: قميصهم من قطران، والقطران مَا تهنأ بِهِ الْإِبِل، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة: " من قطرآن " أَي: من صفر مذاب، (قَالَ) : انْتهى حره. وَقيل: من نُحَاس مذاب قد انْتهى حره. قَالَ أهل الْمعَانِي: وَإِنَّمَا ذكر أَن قميصهم من قطران؛ لِأَن النَّار إِلَيْهِ أسْرع اشتعالا.
وَقَوله: ﴿وتغشى وُجُوههم النَّار﴾ مَعْنَاهُ: وَتَعْلُو وُجُوههم النَّار، وَقيل: تصلى.
وَقَوله: ﴿ليجزي الله كل نفس بِمَا كسبت﴾ يَعْنِي: مَا كسبت من خير وَشر.
وَقَوله: ﴿إِن الله سريع الْحساب﴾ مَعْنَاهُ: سريع المجازاة، وَحَقِيقَة الْحساب إحصاء مَا عمله الْإِنْسَان من خير أَو شَرّ ليجازي عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا بَلَاغ للنَّاس﴾ يَعْنِي: هَذَا الْقُرْآن، وَهَذَا الَّذِي أنزلته عَلَيْك بَلَاغ للنَّاس، أَي: فِيهِ تَبْلِيغ للنَّاس. قَوْله: ﴿ولينذروا بِهِ﴾ أَي: [و] ليخوفوا بِهِ.
وَقَوله: ﴿وليعلموا أَنما هُوَ إِلَه وَاحِد﴾ أَي: ليستدلوا بِهَذِهِ الْآيَات على وحدانية الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وليذكر أولو الْأَلْبَاب﴾ مَعْنَاهُ: وليتعظ أولو الْأَلْبَاب - أَي أولو الْعُقُول -، وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ. وَالله أعلم.
127

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿الر تِلْكَ آيَات الْكتاب وَقُرْآن مُبين (١) رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين﴾
تَفْسِير سُورَة الْحجر وَهِي مَكِّيَّة
128
Icon