تفسير سورة الواقعة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الواقعة١
مقصودها شرح٢ أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين٣ من المصارحين والمنافقين٤ من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال [ و-٥ ] دل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به ( بسم الله ) الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال ( الرحمن ) الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال ( الرحيم ) الذي أقبل٦ بأهل حزبه إلى٧ أهل قربه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.
١ - السادسة والخمسون من سورة القرآن الكريم، مكية، وعدد آياها (٩٦) عند الكوفيين و (٩٧) عند البصريين، و(٩٩) عند المدنيين والمكي والشامي..
٢ - من ظ، وفي الأصل: سر..
٣ - من ظ، وفي الأصل: المنافقين..
٤ - من ظ، وفي الأصل: المشاققين..
٥ - زيد من ظ..
٦ - من ظ، وفي الأصل: عم..
٧ - من ظ، وفي الأصل: و..

لما صنف سبحانه الناس في تلك إلى ثلاث أصناف: مجرمين وسابقين ولاحقين، وختم بعلة ذلك وهو أنه ذو الانتقام والإكرام، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه
195
إكرامه وانتقامه بما ذكر في الرحمن غاية الظهور فقال بانياً على ما أرشده السياق إلى أن تقديره: يكون ذلك كله كوناً يشترك في علمه الخاص والعام: ﴿إذا وقعت الواقعة *﴾ أي التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق للحكم بينهم على الانفراد الظاهر الذي لا مدعى للمشاركة فيه بوجه من الوجوه، ويجوز أن يكون ﴿إذا﴾ منصوباً بالمحذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، فيكون أهول أي إذا وقعت كانت أموراً يضيق عنها نطاق الحصر.
ولما كان هذا معناه الساعة التي أبرم القضاء بأنه لا بد من كونها، عبر عنه بانياً على مبتدأ محذوف فقال: ﴿ليس لوقعتها﴾ أي تحقق وجودها ﴿كاذبة *﴾ أي كذب فهي مصدر عبر عنه باسم الفاعل للمبالغة بأنه ليس في أحوالها شيء يمكن أن ينسب إليه كذب ولا يمشي فيها كذب أصلاً ولا يقر عليه، بل كل ما أخبر بمجيئه جاء من غير أن يرده شيء، وكل ما أخبر بنفيه انتفى فلا يأتي به شيء، وقرر عظمتها وحقق بعث الأمور فيها بقوله مخبراً عن مبتدأ محذوف: ﴿خافضة﴾ أي هي لمن يشاء الله خفضه من عظماء أهل النار وغيرهم
196
مما يشاؤه من الجبال وغيرها إلى أسفل سافلين ﴿رافعة *﴾ أي لضعفاء أهل الجنة وغيرهم من منازلهم وغيرها مما يشاؤه إلى عليين، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه. ولما كان في هذا من الهول ما يقطع القلوب الواعية أكده بقوله وزاد ما يشاء منه أيضاً بقوله مبدلاً من الظرف الأول بعض ما يدخل في الرفع والخفض: ﴿إذا رجت الأرض﴾ أي كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر ﴿رجاً *﴾ أي زلزلت زلزالاً شديداً بعنف فانخفضت وارتفعت ثم انتفضت بأهلها انتفاضاً شديداً، قال البغوي: والرج في اللغة التحريك. ولما ذكر حركتها المزعجة، أتبعها غايتها فقال: ﴿وبست الجبال﴾ أي فتتت على صلابتها وعظمها بأدنى إشارة وخلط حجرها بترابها حتى صار شيئاً واحداً، وصارت كالعهن المنفوش، وسيرت وكانت تمر مرّ السحاب ﴿بساً * فكانت﴾ أي بسبب ذلك ﴿هباء﴾ غباراً هو في غاية الانمحاق، وإلى شدة لطافته أشار بصيغة الانفعال فقال: ﴿منبثاً *﴾ أي منتشراً متفرقاً بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل في كوة.
ولما ذكر غاية مبادئها المرجفة المرهبة، ذكر مبادئ غاياتها فقال: ﴿وكنتم﴾ أي قسمتم بما كان في جبلاتكم وطباعكم في الدنيا ﴿أزواجاً ثلاثة *﴾ أي أصنافاً لا تكمل حكمة صنف منها إلا بكونها قسمين: أعلى ودونه، ليكون ذلك أدل على تمام القدرة وهم أصحاب الميمنة المنقسمين إلى سابقين وهم المقربون، وإلى لاحقين وهم
197
الأبرار أو أصحاب اليمين، وكأنهم من أولي القلب الذي هو العدل السواء من أصحاب المشأمة إلى آخر أصحاب الميمنة فأصحاب السواء هم المقربون، وبقية أصحاب الميمنة أصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة هم أصحاب القسم الثالث، وكل من الثلاثة ينقسم إلى أعلى ودونه، وقد تبينت الأقسام الثلاثة آخر السورة، قال البيضاوي: وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
ولما قسمهم إلى ثلاثة أقسام وفرع تقسيمهم، ذكر أحوالهم وابتدأ ذلك بالإعلام بأنه ليس الخبر كالخبر كما أنه ليس العين كالأثر فقال: ﴿فأصحاب الميمنة *﴾ أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها، ثم فخم أمرهم بالتعجيب من حالهم بقوله منبهاً على أنهم أهل لأن يسأل عنهم فيما يفهمه اليمين من الخير والبركة فكيف إذا عبر عنها بصيغة مبالغة فقال: ﴿ما﴾ وهو مبتدأ ثان ﴿أصحاب الميمنة *﴾ أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها، والجملة خبر عن الأولى، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه، قال أبو حيان رحمه الله تعالى: وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم الإعذار في السورتين المتقدمتين والتقرير على عظيم البراهين، وأعلم في آخر سورة القمر أن كل واقع في العالم فبقضائه سبحانه وقدره ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ [
198
القمر: ٤٩] ﴿وكل شيء فعلوه في الزبر﴾ ﴿القمر: ٥٢] وأعلمهم سبحانه في الواقعة بانقسامهم الأخروي فافتتح ذكر الساعة {إذا وقعت الواقعة﴾ إلى قوله ﴿وكنتم أزواجاً ثلاثة﴾ فتجردت هذه السورة للتعريف بأحوالهم الأخروية، وصدرت بذلك كما جرد في هذه السورة قبل التعريف بحالهم في هذه الدار، وما انجر في السور الثلاث جارياً على غير هذا الأسلوب فبحكم استدعاء الترغيب والترهيب لطفاً بالعباد ورحمة ومطالعها مبنية على ما ذكرته تصريحاً لا تلويحاً، وعلى الاستيفاء لا بالإشارة والإيماء، ولهذا قال تعالى في آخر القصص الأخراوية في هذه السورة: ﴿هذا نزلهم يوم الدين﴾ فأخبر أن هذا حالهم يوم الجزاء وقد قدم حالهم الدنياوي في السورتين قبل وتأكيد التعريف المتقدم فيما بعد، وذلك قوله ﴿فأما إن كان من المقربين﴾ إلى خاتمتها - انتهى.
ولما ذكر الناجين بقسميهم، أتبعهم أضدادهم فقال: ﴿وأصحاب المشأمة﴾ أي جهة الشؤم وموضعها وأعمالها، ثم عظم ذنبهم فقال: ﴿ما أصحاب المشأمة﴾ أي لأنهم أهل لأن يسأل عما أصابهم من الشؤم والشر والسوء بعظيم قدرته التي ساقتهم إلى ما وصلوا إليه من الجزاء الذي لا يفعله بنفسه عاقل بل ولا بهيمة مع ما ركب فيهم من العقول الصحيحة والأفكار العظيمة وصان الأولين عن خذلان هؤلاء فأوصلهم إلى النعيم المقيم.
ولما ذكر القسمين، وكان كل منهما قسمين، ذكر أعلى أهل
199
القسم الأول ترغيباً في أحسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيباً من سوء مآلهم فقال: ﴿والسابقون﴾ أي إلى أعمال الطاعة أصحاب الجنتين الأوليين في الرحمان وهم أصحاب القلب ﴿السابقون *﴾ أي هم الذين يستحقون الوصف بالسبق لا غيرهم لأنه منزلة أعلى من منزلتهم فلذلك سبقوا إلى منزلتهم وهي جنتهم وهم قسمان كما يأتي عن الرازي، وعن المهدوي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».
ولما بين علو شأنهم ونسب السبق إليهم، ترجمه نازعاً للفعل منهم بقوله: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة جداً من الذين هم أصحاب الميمنة ﴿المقربون *﴾ أي الذين اصطفاهم الله تعالى للسبق فأرادهم لقربه أو أنعم عليهم بقربه ولولا فعله في تقريبهم لم يكونوا سابقين، قال الرازي في اللوامع: المقربون تخلصوا من نفوسهم فأعمالهم كلها لله ديناً ودنيا من حق الله وحق الناس، وكلاهما عندهم حق الله، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد، وهم صنفان فصنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبتهم فالحق يستعملهم، وصنف آخر قد أرخى من عنانه، فالأمر عليه أسهل لأنه قد جاور بقلبه هذه الحطة ومحله أعلى فهو أمين الله في أرضه، فيكون الأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز - انتهى. ثم
200
بين تقريبه لهم بقوله: ﴿في جنات النعيم *﴾ أي الذي لا نعيم غيره لأنه لا كدر فيه بوجه ولا منغص، والصنف الآخر منهم المتقربون والمتشاققون من أصحاب المشأمة، أولئك المغضوب عليهم المبعودون، ومن دونهم الضالون البعيدون وهم أصحاب الشمال.
ولما ذكر السابقين فصلهم فقال: ﴿ثلة﴾ أي جماعة كثيرة حسنة، وقال البغوي: والثلة جماعة غير محصورة العدد، ﴿من الأولين *﴾ وهم الأنبياء الماضون عليهم الصلاة والسلام، ومن آمن بهم من غير واسطة رضي الله عنهم ﴿وقليل من الآخرين *﴾ وهم من آمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - كذلك بغير واسطة رضي الله عنهم، فقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مائة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهم من آمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين وهم ستمائة ألف فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من التابعين والصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم الصلاة والسلام. المجددين من بني إسرائيل وغيرهم، وقيل «الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة»، رواه الطبراني وابن عدي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك ورواه إسحاق بن راهويه مسدد بن مسرهد وأبو داود الطيالسي وإبراهيم الحربي والطبراني من رواية علي بن زيد
201
وهو ضعيف عن عقبة بن صهبان عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أولى بالصواب، وتطبيقه على هذه الأمة سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً صحيح لا غبار عليه، فتكون الصحابة رضي الله عنهم كلهم من هذه الثلة وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال الذي بدأ عليها من الغربة
«بدأ الإسلام غريباً وسيكون غريباً فطوبى للغرباء» ويجوز أن يقدر أيضاً: وثلة - أي جماعة كثيرة هلكى - من الأولين، وهم المعاندون من الأمم الماضين، وقليل من الآخرين - وهم المعاندون من هذه الأمة.
202
ولما ذكر السابقين في الخير بصنفيهم مشيراً إلى السابقين في الشر بصنفيهم، ذكر جزاء أهل الخير ليعلم منه جزاء أولئك، فقال مبيناً أنهم ملوك لكن ملكهم لا ينافس فيه ولا يحاسد، بل هو كله يقابل بالوداد والصفاء ﴿على سرر﴾ وهو ما يسر الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة التي هي آية الملك وهو العرش ﴿موضونة *﴾ أي منسوجة نسجاً مضاعفاً منضودة داخلاً بعضها في بعض مقارب النسج معجباً كالدرع لكن نسجها بالذهب مفصلاً بالجوهر من الدر والياقوت.
ولما ذكر السرر وبين عظمتها، ذكر غايتها فقال: ﴿متكئين﴾
202
أي متكئين هيئة المتربع أو غيرها من الجنب أو غيرها ﴿عليها﴾ ولما كان الجمع إذا كثر كان ظهور بعض أهله إلى بعض، أعلم أن جموع أهل الجنة على غير ذلك فقال: ﴿متقابلين *﴾ فلا بعد ولا مدابرة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ولا يكره بعضهم بعضاً.
ولما كان المتكىء قد يصعب عليه القيام لحاجته قال: ﴿يطوف عليهم﴾ أي لكفاية كل ما يحتاجون إليه ﴿ولدان﴾ على أحسن صورة وزي وهيئة ﴿مخلدون *﴾ قد حكم ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة، قال البغوي: تقول العرب لمن كبر ولمن شمط: إنه مخلد، قال: قال الحسن: هم أولاد أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات يثابون عليها ولا سيئات يعاقبون عليها لأن الجنة لا ولادة فيها، فهم خدام أهل الجنة.
ولما كان مدحهم هذا في غاية الإبلاغ مع الإيجاز، وكان فيه - إلى تبليغ ما لهم - تحريك إلى مثل أعمالهم، وكان الأكل الذي هو من أعظم المآرب مشاراً إليه بالمدح العظيم الذي من جملته الاستراحة على الأسرة التي علم أن من عادة الملوك أنهم لا يتسنمونها إلا بعد قضاء الوطر منه فلم يبق بعده إلا ما تدعو الحاجة إليه من المشارب وما يتبعها قال تعالى: ﴿بأكواب﴾ أي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم لا يعوق الشارب منها عائق عن الشرب من أي موضع أراد منها فلا يحتاج أن يحول الإناء إلى الحالة التي تناوله عنها ليشرب، ويمكن أن تكون
203
البدأة بالشراب لما نالوا من المتاعب من العطش كما لمن يشرب من الحوض فيكون حينئذ قبل الأكل والله أعلم ﴿وأباريق *﴾ أي أواني لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ﴿وكأس﴾ أي إناء معد للشرب فيه والشراب نفسه.
ولما كان الشراب عاماً بينه بقوله: ﴿من معين *﴾ أي خمر جارية صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها بل ينبع كما ينبع الماء. ولما أثبت نفعها وما يشوق إليها، نفى ما ينفر عنها فقال: ﴿لا يصدعون﴾ أي تصدعاً يوجب المجاوزة ﴿عنها﴾ أي بوجع في الرأس ولا تفرق لملالة ﴿ولا ينزفون *﴾ أي يذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي يصرع شرابهم، من نزفت البئر - إذا نزح ماؤها كله، ونزف فلان: ذهب عقله أو سكر، وبنى الفعلان لملجهول لأنه لم تدع حاجة إلى معرفة الفاعل، وقال الرازي في اللوامع: قال الصادق: لا تذهل عقولهم عن موارد الحقائق عليهم ولا يغيبون عن مجالس المشاهدة بحال.
ولما بدأ بالألذ الهاضم للأكل، تلاه بما يليه مما يدعو إليه الهضم تصريحاً به بعد التلويح فقال: ﴿وفاكهة مما يتخيرون *﴾ أي هو فيها بحيث لو كان فيها جيد وغيره واختاروا وبالغوا في التنقية لكان مما يقع التخير عليه، ولما ذكر ما جرت العادة بتناوله لمجرد اللذة، أتبعه ما العادة أنه لإقامة البينة وإن كان هناك لمجرد اللذة أيضاً فقال:
204
﴿ولحم طير﴾ ولما كان في لحم الطير مما يرغب عنه، احترز عنه بقوله: ﴿مما يشتهون *﴾ أي غاية الشهوة بحيث يجدون لآخره من اللذة ما لأوله.
ولما كان لم يكن بعد الأكل والشرب أشهى من الجماع، قال عاطفاً على ﴿ولدان﴾ :﴿وحور العين *﴾ أي يطفن عليهم، وجره حمزة والكسائي عطفاً على ﴿سرر﴾ فإن النساء في معنى الاتكاء لأنهن يسمين فراشاً. ولما كان المثل في الأصل الشيء نفسه كما مضى في الشورى قال: ﴿كأمثال﴾ أي مثل أشخاص ﴿اللؤلؤ المكنون *﴾ أي المصون في الصدف عما قد يدنسه.
205
ولما أبلغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء، دل على أن أعمالهم كانت كذلك لأن الجزاء من جنس العمل فقال تعالى: ﴿جزاء﴾ أي فعل لهم ذلك لأجل الجزاء ﴿بما كانوا﴾ جبلة وطبعاً ﴿يعملون *﴾ أي يجددون عمله على جهة الاستمرار.
ولما أثبت لها الكمال وجعله لهم، نفى عنها النقص فقال: ﴿لا يسمعون﴾ أي على حال من الأحوال ﴿فيها لغواً﴾ أي شيئاً مما لا ينفع فإن أنكاً... بالسميع الحكيم ذلك، واللغو: الساقط ﴿ولا تأثيماً *﴾ أي ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الإثم، بل حركاتهم وسكناتهم كلها رضى الله، وما قطع قلوب السائرين إلى الله إلا هاتان الخصلتان بينا أحدهم
205
يبني ما ينفعه مجتهداً في البناء إذ هو غلبه طبعه فهدم أكثر ما بنى، وبينا هو يظن أنه قد قرب إذا هو تحقق بمثل ذلك أنه قد بعد، نزحت داره وشط مزاره، فالله المستعان.
ولما كان الاستثناء، معيار العموم، ساق بصورة الاستثناء قوله: ﴿إلا قيلاً﴾ أي هو في غاية اللطافة والرقة بما دل عليه المبني على ما قبلها محاسن مع ما تدل عليه مادة قوله. ولما تشوف السامع إليه بالعبير بما ذكر، بينه بقوله: ﴿سلاماً﴾ ودل على دوامه بتكريره فقال: ﴿سلاماً *﴾ أي لا يخطر في النفس ولا يظهر في الحس منهم قول إلا دالاًّ على السلامة لأنه لا عطب فيها أصلاً، وساقه مساق الاستثناء المتصل دلالة على أنه إن كان فيها لغو فهو ذلك حسب، وهو ما يؤمنهم وينعمهم ويبشرهم مع أنه دال على حسن العشرة وجميل الصحبة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة.
ولما أتم سبحانه القسم الأول القلبي السوائي المولي من الثلاثة بقسميه، وذكر في جزائه مما لأصحاب المدن ما لا يمكنهم الوصول إليه، عطف عليه الثاني الذي هو دونه لذلك وهم والله أعلم الأبرار وهم أيضاً صنفان، وذكر في جزائهم من جنس ما لأهل البوادي أنهى ما يتصورونه ويتمنونه فقال: ﴿وأصحاب اليمين *﴾ ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم، والإشارة إلى أنهم أهل لأن يسأل عن حالهم فإنهم في غاية الإعجاب فقال: ﴿ما أصحاب اليمين﴾ ولما عبر عنهم بما
206
أفهم أنهم أولو القوة والجد في الأعمال، والبركة في جمع الأحوال، ذكر عشيهم بادئاً بالفاكهة لأن عيش الجنة كله تفكه، ذاكراً منها ما ينبت في بلاد العرب من غير كلفة بغرس ولا خدمة، وأشار إلى كثرة ما يذكره بأن جعله ظرفهم، فقال من غير ذكر لسرير الملك الذي حبا به المقربين من الملك، ولم يزد على ذلك المأكول وما معه بما يتصور للبهائم: ﴿في سدر﴾ أي شجر نبق متدلي الأغصان من شدة حمله، من سدر الشعر - إذا سدله ﴿مخضود *﴾ أي هو مع أنه لا شوك له ولا عجم بحيث تنثني أغصانه من شدة الحمل، من خضد الشوك: قطعه، والغصن: ثناه وهو رطب، وفي ذكر هذا تنبيه على أن كل ما لا نفع فيه أو فيه نوع أذى له في الجنة وجود كريم لأن الجنة إنما خلقت للنعيم.
ولما ذكر ما يطلع في الجبال والأماكن المعطشة والرمال، أتبعه ما لا يطلع إلا على المياه دلالة على أن أماكنهم في غاية السهولة والري فقال: ﴿وطلح﴾ أي شجر موز أو نخل، وقال الحسن: شجر له ظل بارد طيب الرائحة وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام لها شوك، وقيل: هو أم غيلان، وله نور كثير، ويحكى عن أبي تراب النخشبي أنه كان سائراً مع قوم من الصوفية على قدم التوكل، فجاعوا أياماً فقال: أتريدون أن تأكلوا، قالوا: نعم، فضرب بيده على شجرة غيلان فإذا عليها عراجين موز، فأكلوا إلا شاباً منهم، فقال: لا آكل
207
ولا أصحبك بعدها، لأني كنت أسير بلا معلوم، وقد صرت أنت الآن معلومي، كلما جعت التفتت نفسي إليك. ﴿منضود *﴾ أي منظوم بالحمل من أعلاه إلى أسفله متراكم يتراكب بعضه على بعض على ترتيب هو في غاية الإعجاب، قال في القاموس: الطلح: شجر عظيم، والطلع: والموز، والطلع من النخل: شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود، والطرف محدد، أو ما يبدو من ثمرته أول ظهورها.
ولما ذكر ما لا يكون إلا في البلاد الحارة قال: ﴿وظل ممدود *﴾ أي مستوعب للزمان والمكان فهو دائم الاستمداد كما بين الإسفار وطلوع الشمس لا فناء له ولا نهاية. ولما كان ما ذكر من الري لا يستلزم الجري قال: ﴿وماء مسكوب *﴾ أي جار في منازلهم من غير أخدود ولا يحتاجون فيه إلى جلب من الأماكن البعيدة، ولا الإدلاء في بئر كما لأهل البوادي.
ولما ذكر ما تقدم، عم بقوله: ﴿وفاكهة كثيرة *﴾ أي أجناسها وأنواعها وأشخاصها. ولما كانت لا تكون عندنا إلا في أوقات يسيرة، بين أن أمر الجنة على غير ذلك فقال: ﴿لا مقطوعة﴾ ولما كانت في الدنيا قد يعز التوصل إليها مع وجودها لشيء من الأشياء أقله صعود الشجرة أو التحجز بجدار أو غيره قال: ﴿ولا ممنوعة *﴾ ولما كان التفكه لا يكمل الالتذاذ به إلا مع الراحة قال: ﴿وفرش مرفوعة *﴾ أي هي رفيعة القدر وعالية بالفعل لكثرة الحشو ولتراكم بعضها على بعض
208
ولأنها على السرر، وروى البغوي من طريق النسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام»
209
ولما كانت النساء يسمين فرشاً، قال تعالى معيداً للضمير على غير ما يتبادر إليه الذهن من الظاهر على طريق الاستخدام مؤكداً لأجل إنكار من ينكر البعث: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من القدرة والعظمة التي لا يتعاظمها شيء ﴿أنشأناهن﴾ أي الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت ولو عن الهرم والعجز بالبعث، وزاد في التأكيد فقال: ﴿إنشاء *﴾ أي من غير ولادة، بل جمعناهن من التراب كما فعلنا في سائر المكلفين ليكونوا كأبيهم آدم عليه الصلاة والسلام في خلقه من تراب، فتكون الإعادة كالبداءة، ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليه الصلاة والسلام، ويجوز أن يكون المراد بهن الحور العين فيكون إنشاء مبتدعاً لم يسبق له وجود.
ولما كان للنفس أتم التفات إلى الاختصاص، وكان الأصل في الأنثى المنشأة أن تكون بكراً، نبه على أن المراد بكارة لا تزول إلا حال الوطىء ثم تعود، فكلما عاد إليها وجدها بكراً، فقال: ﴿فجعلناهن﴾ أي الفرش الثيبات وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء ﴿أبكاراً *﴾ أي
209
بكارة دائمة لأنه لا تغيير في الجنة ولا نقص.
ولما كان مما جرت به العادة أن البكر تتضرر من الزوج لما يلحقها من الوجع بإزالة البكارة، دل على أنه لا نكد هناك أصلاً بوجع ولا غيره بقوله: ﴿عرباً﴾ جمع عروب، وهي الغنجة المتحببة إلى زوجها، قال الرازي في اللوامع: الفطنة بمراد الزوج كفطنة العرب. ولما كان الاتفاق في السن أدعى إلى المحبة ومزيد الألفة قال: ﴿أتراباً *﴾ أي على سن واحدة وقد واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن. قال الرازي في اللوامع: أخذ من لعب الصبيان بالتراب - انتهى، «وروى البغوي من طريق عبد بن حميد عن الحسن: قال أتت عجوز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال:» يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكي، قال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: إنا أنشأناهن، الآية «رواه الترمذي عنه في الشمائل هكذا مرسلاً، ورواه البيهقي في كتاب البعث عن عائشة رضي الله عنها والطبراني في الأوسط من وجه عنها، ومن وجه آخر عن أنس رضي الله عنه، قال شيخنا حافظ عصره ابن حجر: وكل طرقه ضعيفة، وروى البغوي أيضاً من طريق الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية
210
قال:» عجائزكن في الدنيا عمشاً رمصاً فجعلهن أبكاراً «.
ولما كان هذا الوصف البديع مقتضياً لما يزدهي عنه النفس لأن يقال: لمن هؤلاء؟ وإن كان قد علم قبل ذلك، نبه عليه بقوله تعالى: ﴿لأصحاب اليمين *﴾ ويجوز أن يتعلق ب ﴿أتراباً﴾ نصاً على أنهن في أسنان أزواجهن.
ولما أنهى وصف ما فيه أهل هذا الصنف على أنهى ما يكون لأهل البادية بعد أن وصف ما للسابقين بأعلى ما يمكن أن يكون لأهل الحاضرة، وكان قد قدم المقايسة في السابقين بين الأولين والآخرين، فعل هنا كذلك فقال: ﴿ثلة من الأولين *﴾ أي من أصحاب اليمين ﴿وثلة﴾ أي منهم ﴿من الآخرين *﴾ فلم يبين فيهم قلة ولا كثرة، والظاهر أن الآخرين أكثر، فإن وصف الأولين بالكثرة لا ينافي كون غيرهم أكثر ليتفق مع قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة، فإنهم عشرون ومائة صف، هذه الأمة منهم ثمانون صفاً»
.
ولما أتم وصف ما فيه الصنفان المحمودان، وبه تمت أقسام أصحاب الميمنة الأربعة الذين هم أصحاب القلب واليمين، أتبعه أضدادهم فقال: ﴿وأصحاب الشمال﴾ أي الجهة التي تتشاءم العرب بها وعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص، والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما
211
كان أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة، ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال: ﴿ما أصحاب الشمال *﴾ أي إنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه. ولما ذمهم وعابهم، ذكر عذابهم ليعلم أن القسم الأشد منهم في الشؤم أشد عذاباً فقال: ﴿في سموم﴾ أي ظرفهم المحيط بهم لفح من لفح النار شديد يتخلل المسام ﴿وحميم *﴾ أي ماء حار بالغ في الحرارة إلى حد يذيب اللحم. ولما كان للتهكم في القلب من شديد الوقد ما يجل عن الوصف والحد قال: ﴿وظل﴾ ثم أتبعه ما صرح بأنه تهكم فقال: ﴿من يحموم *﴾ أي دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد بما أفهمته الزيادة وشبه صيغة المبالغة: ولما كان المعهود من الظل البرد والإراحة، نفى ذلك عنه فقال: ﴿لا بارد﴾ ليروح النفس ﴿ولا كريم *﴾ ليؤنس به ويلجأ إليه ويرجى خيره ويعول في حال عليه بأن يفعل ما يفعله الواسع الخلق الصفوح من الإكرام، بل هو مهين، سماه ظلاًّ لترتاح النفس إليه ثم نفى عنه نفع الظل وبركته لينضم حرقان: اليأس بعد الرجاء إلى إخراق اليحموم فتصير الغصة غصتين.
ولما أنتج هذا أنه على خلق اللئيم فهو موضع الحرارة والضيق والخسة والشدة، علله بقوله: ﴿إنهم﴾ أكده وإن كان فيهم أهل
212
الضر لاجتماعهم في الاسترواح إلى منابذة الدين باتباع الشهوات، ولأن ما مضى لهم بالنسبة إلى هذا العذاب حال ناعم، وعبر بالكون دلالة على العراقة في ذلك ولو بتهيئهم له جبلة وطبعاً فقال: ﴿كانوا﴾ أي في الدنيا. ولما كان ذلك ملازماً للاستغراق في الزمان بميل الطباع، نزع الجار فقال: ﴿قبل ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه ﴿مترفين *﴾ أي في سعة من العيش منهمكين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين فيها لترامي طباعهم إليها فأعقبهم ما في جبلاتهم من الإخلاد إلى الترف عدم الاعتبار والاتعاظ في الدنيا والتكبر على الدعاة إلى الله، وفي الآخرة شدة الألم لرقة أجسامهم المهيأة للترف بتعودها بالراحة بإخلادها إليها وتعويلها عليها ﴿وكانوا﴾ أي مع الترف ﴿يصرون﴾ أي يقيمون ويدومون على سبيل التجديد مما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك ﴿على الحنث﴾ أي الذنب، ومنه قولهم: بلغ الغلام الحنث، أي الحلم الذي هو وقت المؤاخذة بالذنب، ويطلق الحنث على الكذب والميل إلى الأباطيل واليمين الغموس ونقض العهد المؤكد.
ولما كان ذلك قد يكون من المعهود مما يغتفر بكونه صغيراً أو في وقت يسير قال: ﴿العظيم *﴾ دالاًّ على أنهم يستهينون العظائم من القبائح والفواحش.
213
ولما وصفهم بالترف والإصرار على السرف، وكان ذلك يلازم
213
البطالة، وكان يلزم عنها الغباوة والفساد الموجب للشقاوة، ذكر إنكارهم لما لا أبين منه، فقال عاطفاً على ما أفهمه التعبير عن الإثم بالحنث من نحو: فكانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم لا يبعثون وأن الرسل كاذبون: ﴿وكانوا يقولون *﴾ أي إنكاراً مجددين لذلك دائماً جلافة أو عناداً: ﴿أئذاً﴾ أي أنبعث إذاً، وحذف العامل لدلالة ﴿مبعوثون﴾ عليه، ولا يعمل هو لأن الاستفهام وحرف التأكيد اللذين لهما الصدر معناه ﴿متنا﴾ أي فلم يبق في رد أرواحنا طب بوجه ﴿وكنا﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿تراباً وعظاماً﴾ ولما كان استفهامهم هذا لإنكار أن يكون في شيء من إقامة أبدانهم أو رد أرواحهم طب، أعاد الاستفهام تاكيداً لإنكارهم فقال: ﴿أءِنا لمبعوثون *﴾ أي كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر، وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون المؤكد بطريق الأولى.
ولما كانت أفهامهم واقفة مع المحسوسات لجمودهم. وكان البلى كلما كان أقوى كان ذلك البالي في زعمهم من البعث أبعد، قالوا مخرجين في جملة فعلية عطفاً على الواو من ﴿معبوثون﴾ من غير تأكيد بضمير الفصل بالاستفهام: ﴿أو آباؤنا﴾ أي يبعث آباؤنا أي يوجد بعثهم من حين، وزادوا الاستبعاد على ما أفهموا بقولهم: ﴿الأولون *﴾ أي الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم، فصاروا كلهم تراباً ولا سيما إن حملتهم السيول ففرقت ترابهم في كل أوب، وذهبت به في كل صوب، وسكن نافع وابن عامر الواو على أن العاطف ﴿أو﴾ ويجوز أن
214
يكون العطف على محل «إن» واسمها.
ولما كانوا في غاية الجلافة، رد إنكارهم بإثبات ما نفوه، وزادهم الإخبار بإهانتهم ثم دل على صحة ذلك بالدليل العقلي لمن يفهمه، فقال مخاطباً لأعلى الخلق وأوقفهم به لأن هذا المقام لا يذوقه حق ذوقه إلا هو كما أنه لا يقوم بتقريره لهم والرفق بهم إلا هو: ﴿قل﴾ أي لهم ولكل من كان مثلهم، وأكد لإنكارهم: ﴿إن الأولين﴾ الذين جعلتم الاستبعاد فيهم أولياً، ونص على الاستغراق بقوله: ﴿والآخرين *﴾ ودل على سهولة بعثهم وأنه في غاية الثبات، منبهاً على أن نقلهم بالموت والبلى تحصيل لا تفويت: ﴿لمجموعون *﴾ بصيغة اسم المفعول، في المكان الذي يكون فيه الحساب. ولما كان جمعهم بالتدريج، عبر بالغاية فقال: ﴿إلى ميقات﴾ أي زمان ومكان ﴿يوم معلوم *﴾ أي معين عند الله، ومن شأنه أن يعلم بما عنده من الأمارات، والميقات: ما وقت به الشيء من زمان أو مكان أي حد.
ولما كان زمان البعث متراخياً عن نزول القرآن، عبر بأداته وأكد لأجل إنكارهم فقال: ﴿ثم﴾ أي بعد البعث بعد الجمع المدرج ﴿إنكم﴾ وأيد ما فهمه من أصحاب الشمال هم القسم الأدنى من أصحاب المشأمة فقال: ﴿أيها الضالون﴾ أي الذين غلبت عليه الغباوة فيهم لا يفهمون، ثم أتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال: ﴿المكذبون *﴾ أي تكذيباً ناشئاً عن الضلال والتقيد بما لا يكذب
215
به إلا عريق في التكذيب بالصدق ﴿لآكلون من شجر﴾ منبته النار.
ولما كان الشجر معدن الثمار الشهية كالسدر والطلح، بينه بقوله: ﴿من زقوم *﴾ أي شيء هو في غاية الكراهة والبشاعة في المنظر ونتن الرائحة والأذى، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع وعبد الحق في واعيه: الزقم: شوب اللبن والإفراط فيه، يقال: بات يزقم اللبن زقماً، ومن هذا الزقوم الذي ذكره الله تبارك وتعالى، وقالا: قال أبو حنيفة: الزقوم شجرة غبراء صغيرة الورق لا شوك لها زفرة لها كعابر في رؤوسها ولها ورد تجرشه النحل، ونورها أبيض ورأس ورقها قبيح جداً، وهي مرعى، ومنابتها السهل، وقال في القاموس: في الدفر بالدال المهملة، الدفر - بالتحريك: وقوع الدود في الطعام والذل والنتن، ويسكن، وقال في المعجمة: الذفر - محركة: شدة ذكاء الريح كالذفرة أو يخص برائحة الإبط المنتن، والنتن وماء الفحل، والذفراء من الكتائب: السهكة من الحديد، والكعبرة بضمتين عين وراء مهملتين: عقدة أنبوب الزرع، وعن السهيلي أن أبا حنيفة ذكر في النبات أن شجرة باليمن يقال لها الزقوم لا ورق لها، وفروعها أشبه شيء برؤوس الحيات، وقال البيضاوي: شجرة صغيرة الورق دفرة مرة تكون بتهامة، وفي القاموس: والزقمة: الطاعون وقال في النهاية: فعول من الزقم: اللقم الشديد
216
والشرب المفرط، وقال ابن القطاع: زقم زقماً: بلع، وقد علم من مجموع هذا الكلام تفسيره بالطاعون تارة والشرب المفرط أخرى، ومن الاشتراط والشجرة المنتنة والبشعة المنظر أنه شيء كريه يضطر آكله إلى التملؤ منه بنهمة وهمة عظيمة، ومن المعلوم أن الحامل له على هذا مع هذه الكراهة لا يكون إلا في أعلى طبقات الكراهة، ولذلك حسن جداً موقع قوله مسبباً عن الأكل: ﴿فمالئون﴾ أي ملأً هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة ﴿منها﴾ أي الشجر، أنثه لأنه جمع شجر أو هو اسم جنس، وهم يكرهون الإناث فتأنيثه - والله أعلم - زيادة في تنفيرهم منه ﴿البطون *﴾ أي لشيء عجيب يضطركم إلى تناول هذا الكريه مما هو أشد منه كراهة بطبقات من جوع أو غيره، وإن فسرت بما قالوا من أنه معروف لهم أنه الزبد بالتمر لم يضر ذلك بل يكون المعنى أنهم يتملؤون منها تملأ من يأكل من هذا في الدنيا مع أنه من المعلوم أنه لا شيء في النار المعدة للعذاب لمن أعدت لعذابه حسن.
ولما كان من يأكل كثيراً يعطش عطشاً شديداً فيشرب ما قدر عليه رجاء تبريد ما به من حرارة العطش، سبب عنه قوله: ﴿فشاربون عليه﴾ أي على هذا المليء أو الأكل ﴿من الحميم *﴾ أي الماء الذي هو في غاية الحرارة بحث ضوعف إحماؤه وإغلاؤه.
ولما كان شربهم لأدنى قطرة من ذلك في غاية العجب،
217
أتبعه ما هو أعجب منه وهو شدة تملئهم منه فقال مسبباً عما مضى: ﴿فشاربون﴾ أي منه ﴿شرب﴾ بالفتح في قراءة الجماعة وبالضم لنافع وعاصم وحمزة، وقرئ شاذاً بالكسر والثلاثة مصادر، قال في القاموس: وشرب كسمع شرباً ويثلث أوالشراب مصدر وبالضم والكسر اسمان، وبالفتح القوم: يشربون، وبالكسر: الماء والحظ منه، والمورد ووقت الشرب، والكل يصلح هنا ﴿الهيم *﴾ أي الإبل العطاش لأن بها الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء جمع أهيم، وقال القزاز: جمع هيماء وهو أي - اليهام - بالضم: داء يصيب الإبل فتشرب ولا تروى - انتهى. وقال: ذو الرمة:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها
ويقال: الهيم: الرمل، ينصب فيه كل ما صب عليه، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى الأكل ثم من العطش ما يضطرهم إلى الشرب على هذه الهيئة.
218
ولما كان كأنه قيل: هذا عذابهم كله، قيل تهكماً بهم ونكاية لهم: ﴿هذا نزلهم﴾ أي ما يعد لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له ﴿يوم الدين *﴾ أي الجزاء الذي هو حكمة القيامة، وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعده على طريق من يعتني به فما ظنك بما يكون لمن هو أغنى منهم من المعاندين وهو في طريق التهكم مثل قول أبي الشعراء الضبي:
218
ولما ذكر الواقعة وما يكون فيها للأصناف الثلاثة، وختم بها على وجه بين فيه حكمتها وكانوا ينكرونها، دل عليه بقوله: ﴿نحن﴾ أي لا غيرنا ﴿خلقناكم﴾ أي بما لنا من العظمة، ولعل هذا الخطاب للدهرية المعطلة من العرب. ولما كانوا منكرين للبعث عدوا منكرين للابتداء وإن كانوا من المخلصة بالمقريب بالخلق لأنهما لما بينهما من الملازمة لا انفكاك لأحدهما عن الآخر فقال: ﴿فلولا﴾ أي فتسبب عن ذلك أن يقال تهديداً ووعيداً: هلا ولم لا ﴿تصدقون *﴾ أي بالخلق الذي شاهدتموه ولا منازع لنا فيما فيه فتصدقوا بما لا يفرق بينه وبينه إلا بأن يكون أحق منه في مجاري عاداتكم، وهو الإعادة فتعملوا عمل العبيد لساداتهم ليكون حالكم حال مصدق بأنه مربوب.
ولما حضضهم على التصديق بالاستدلال بإيجادهم، وكان البعث إنما هو تحويلهم من صورة بالية إلى الصورة التي كانوا عليها من قبل، سبب عن تكذيبهم به مع تصديقهم بالخلق عدم النظر في تبديل الصور في تفاصيله، أو سبب عن قول من عساه يقول من أهل الطبائع: إنما خلقنا من نطفة حدثت بحرارة كامنة، فقال: ﴿أفرأيتم﴾ أي أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة أنا خلقناكم فيهديكم ذلك أنا نقدر على الإعادة كما قدرنا على البداءة فرأيتم ﴿ما تمنون *﴾ أي تريقون - من النطف التي هي مني في الأرحام بالجماع.
ولما كانت العبرة بالمسبب لا بالسبب، نبه على ذلك بتجديد الإنكار
219
تنبيهاً على أنهم وإن كانوا معترفين بتفرده بالإبداع، فإن إنكارهم للبعث مستلزم لإنكارهم لذلك فقال: ﴿ءأنتم تخلقونه﴾ أي توجدونه مقدراً على ما هو عليه من الاستواء والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صور المضغة ثم منها إلى صور العظام والأعصاب ﴿أم نحن﴾ خاصة. ولما كان المقام لتقرير المنكرين ذكر الخبر المفهوم من السياق على وجه أفهم أن التقدير: أو أنتم الخالقون له أم نحن؟ فقال: بل نحن ﴿الخالقون *﴾ أي الثابت لنا ذلك، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً ﴿تخلقون﴾ دليلاً على حذف مثله له سبحانه ثانياً، وذكر الاسم ثانياً دليلاً على حذف مثله لهم أولاً، وسر ذلك أنه ذكر ما هو الأوفق لأعمالهم مما يدل على وقت التجدد ولو وقتاً ما، وما هو الأولى بصفاته سبحانه مما يدل على الثبات والدوام.
ولما كان الجواب: أنت الخالق وحدك، وكان الطبيعي ربما قال: اقتضى ذلك الحرارة المخمرة للنطفة، وكانت المفاوتة للآجال مع المساواة في اسمية الحياة من الدلائل العظيمة على تمام القدرة على الإفناء والإبداء بالاختيار مبطلة لقول أهل الطبائع دافعة لهم، أكد ذلك الدليل بقوله: ﴿نحن﴾ أي بما لنا من العظمة لا غيرنا ﴿قدرنا﴾ أي تقديراً
220
عظيماً، لا يقدر سوانا على نقض شيء منه ﴿بينكم﴾ أي كلكم لم نترك أحداً منكم بغير حصة منه ﴿الموت﴾ أي أوجبناه على مقدار معلوم لكل أحد لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا وربما كان في الأوج من قوة البدن وصحة المزاج، فلو اجتمع الخلق كلهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا وقد يكون في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج لو تمالؤوا على تقصيره طرفة عين لعجزوا، وأنتم معترفون بأنه سبحانه رتب أفعاله على مقتضى الكمال والقدرة والحكمة البالغة، فلو كانت فائدة الموت مجرد القهر لكانت نقصاً لكونه يعم الغني والفقير والظالم والمظلوم، ولكان جعل الإنسان مخلداً أولى وأحكم، ففائدته غير مجرد القهر وهي الحمل على إحسان العمل للقاهر خوفاً من العرض عليه والمحاسبة بين يديه ثم النقلة إلى دار الجزاء والترقية إلى العلوم التي البدن حجابها من تمييز الخبيث والطيب والعلم بمقادير الثواب والعقاب، وغير ذلك مما يبصره أولو الألباب.
ولما كان حاصل الموت أنه تغيير الصورة التي كانت إلى غيرها، وكان من قدر على تحويل صورة إلى شيء قدر على تحويلها إلى شيء آخر مماثل لذلك الشيء قال: ﴿وما نحن﴾ أي على ما لنا من العظمة، وأكد النفي فقال: ﴿بمسبوقين *﴾ أي بالموت ولا عاجزين ولا مغلوبين ﴿على أن نبدل﴾ تبديلاً عظيماً ﴿أمثالكم﴾ أي صوركم وأشخاصكم لما تقدم في الشورى من أن المثل في الأصل هو الشيء نفسه ﴿وننشئكم﴾ أي إنشاء جديداً بعد تبديل ذواتكم ﴿في ما لا تعلمون *﴾
221
فإن بعضهم تأكله السباع أو الحيتان أو الطيور فتنشأ أبدانُها منه، بعضهم يصير تراباً فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب، فنشأ منه أبدانها، وربما صار ترابه من معادن الأرض كالذهب والفضة والحديد والحجر ونحو ذلك، وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً﴾ إلى آخرها، أو يكون المعنى كما قال البغوي: نأتي بخلق مثلكم بدلاً منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور. أي بتغيير أوصافكم وصوركم في صور أخرى بالمسخ، ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة.
222
ولما كان التقدير: فلقد علمتم النشأة الثانية النطفية، عطف عليه قوله مؤكداً تنبيهاً على أنهم لما كانوا يعملون بخلاف ما يعلمون كانوا كأنهم منكرون لهذا العلم: ﴿ولقد علمتم﴾ أي أيها العرب ﴿النشأة الأولى﴾ الترابية لأبيه آدم عليه الصلاة والسلام: أو اللحمية لأمكم حواء عليها السلام حيث لم يكن هناك طبيعة تقتضي ذلك، وإلا لوجد مثل ذلك بعد ذلك، والنطفية لكم، وكل منها تحويل من شيء إلى غيره، فالذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصورة؟ ولهذا سبب عما تقدم قوله: ﴿فلولا﴾ أي فهلا ولم لا ﴿تذكرون *﴾ أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم وإن كان فيه خفاء ما - مما أشار إليه الإدغام من أن الملوم عليه غيب، وكذا
222
بعض ما قيس به أن من قدر على هذه الوجوه من الإبداءات قدر على الإعادة، بل هي أهون في مجاري عاداتكم.
ولما كان علمهم بأمر النبات الذي هو الآية العظمى لإعادة الأموات أعظم من علمهم بجميع ما مضى، وكان أمره في الحرث وإلقاء البذر فيه أشبه شيء بالجماع وإلقاء النطفة، ولذلك سميت المرأة حرثاً، وصل بما مضى مسبباً عنه قوله منكراً عليهم: ﴿أفرأيتم﴾ أي أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة ما نبهناكم عليه وفيما تقدم فتسبب عن تنبهكم لذلك أنكم رأيتم ﴿ما تحرثون *﴾ أي تجددون حرثه على سبيل الاستمرار بتهيئة أرضه للبذر وإلقاء البذر فيه.
ولما كانوا لا يدعون القدرة على الإنبات بوجه، وكان القادر عليه قادراً على كل شيء، وهم يعتقدون في أمر البعث ما يؤدي إلى الطعن في قدرته، كرر الإنكار عليهم فقال: ﴿ءأنتم تزرعونه﴾ أي تنبتونه بعد طرحكم البذر فيه وتحفظونه إلى أن يصير مالاً ﴿أم نحن﴾ خاصة، وأكد لما مضى بذكر الخبر المعلوم من السياق فقال: ﴿الزارعون *﴾ أي المنبتون له والحافظون، فالآية من الاحتباك بمثل ما مضى في أختها قريباً سواء.
ولما كان الجواب قطعاً: أنت الفاعل لذلك وحدك؟ قال موضحاً لأنه ما زرعه غيره بأن الفاعل الكامل من يدفع عما صنعه ما
223
يفسده، ومن إذا أراد إفساده لم يقدر أحد على منعه ﴿لو نشاء﴾ أي لو عاملناكم بصفة العظمة، وأكد لأن فعلهم فعل الآمن من ذلك مع أنهم في غاية الاستبعاد لأن يهلك زرعهم كما زرعوه أو لأن المطعوم أهم من المشروب وأعظم، فإنه الأصل في إقامة البدن والمشروب تبع له فقال: ﴿لجعلناه﴾ أي بتلك العظمة ﴿حطاماً﴾ أي مكسراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهلك أو غير ذلك فلا ينتفع به ﴿فظلتم﴾ أي فأمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وفي كل وقت وتركتم كل ما يهمكم ﴿تفكهون *﴾ قال في القاموس: فكههم بملح الكلام: أطرفهم بها وفكه - كفرح فكهاً فهو فكه وفاكه: طيب النفس أو يحدث صحبه فيضحكم ومنه تعجب كتفكه، والتفاكه: التمازح، وتفكه: تندم: والأفكوكة: الأعجوبة، وقال ابن برجان: الفكه هو المتردد في القول الذاهب فيه كل مذهب - انتهى.
فأقمتم دائماً تندمون على العاقكم أو معاصيكم التي سببت ذلك التلف أو تتعجبون أو تحدثون في ذلك ولم تعرجوا على شغل غيره كما تفعلون عند الأشياء السارة التي هي في غاية الإعجاب والملاحة والملاءمة، ولهذا عبر عما المراد به الإقامة مع الدوام ب ﴿ظل﴾ الذي معناه أقام نهاراً إشارة إلى ترك الأشغال التي تهم ومحلها النهار ويمنع الإنسان من أكثر ما يهمه من الكلام لهذا النازل الأعظم، وحذف إحدى لامي ظل وتاء التفعل من تفكه إشارة
224
إلى ضعف المصابين عن الدفاع في بقائهم وفي كلامهم حال بقائهم الضعيف، وكون المحذوف عين الفعل وهو الوسط، إشارة إلى خلع القلب واختراق الجوف والقهر العظيم، فلا قدرة لأحد منهم على ممانعة هذا النازل بوجه ولا على تبريد ما اعتراه منه من حرارة الصدر وخوف الفقر بغير الشكاية إلى آماله ممن يعلم أنه لا ضر في يده ولا نفع، ورمبا كان ذلك إشارة إلى أنه عادته سبحانه قرب الفرج من شدائد الدنيا ليكون الإنسان متمكناً من الشكر لا عذر له في تركه، ويكون المعنى أنكم مع كثرة اعتيادكم للفرج بعد الشدة عن قرب تيأسون أول ما يصدمكم البلاء، فتقبلون على كثرة الشكاية، ولا ينفعكم كثرة التجارب لإدرار النعم أبداً.
ولما ذكر تفكههم، وكان التفكه يطلق على ما ذكر من التعجب والتندم وعلى التنعم، قال الكسائي: هو من الأضداد، تقول العرب: تفكهت أي تنعمت، وتفكهت، أي حزنت، بين المراد بقوله حكاية لتفكههم: ﴿إنا﴾ وأكد إعلاماً بشدة بأسهم فقال ﴿لمغرمون *﴾ أي مولع بنا وملازمون بشر دائم وعذاب وهلاك لهلاك رزقنا، أو مكرمون بغرامة ما أنفقنا ولم ينتفع به، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالاستفهام لإنكار هذا الواقع والاستعظام له والتعجب منه، وهي منبهة على أنهم لشدة اضطرابهم من ذلك الحادث مذبذبون تارة يجزمون باليأس والشر وتارة يشكون فيه وينسبون الأمر إلى سوء تصرفهم، وعليه يدل
225
إضرابهم: ﴿بل نحن﴾ أي خاصة ﴿محرمون *﴾ أي حرمنا غيرنا وهو من لا يرد قضاؤه، فلا حظ لنا في الاكتساب، فلو كان الزراع ممن له حظ لأفلح زرعه، قال في القاموس: الغرام: الولوع والشر الدائم والهلاك والعذاب، والغرامة ما يلزم أداؤه، وحرمه: منعه، والمحروم، الممنوع عن الخير ومن لا ينمى له مال والمحارف - أي بفتح الراء - وهو الممنوع من الخير الذي لا يكاد يكتسب، وقال الأصبهاني في تفسيره: والمحروم ضد المرزوق، أي والمرزوق المجرود بالجيم وهو المحظوظ.
ولما وقفهم على قدرته في الزرع مع وجود أسبابه، وقدمهم بشدة إليه، وكان ربما ألبس نوع لبس لأن لهم فيه سبباً في الجملة، أتبعه التوقيف على قدرته على التصرف في سببه الذي هو الماء الذي لا سبب لهم في شيء من أمره أصلاً، فقال مسبباً عما أفادهم هذا التنبيه مذكراً بنعمة الشرب الذي يحوج إليه الغذاء: ﴿أفرءيتم﴾ أي أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة ما نبهنا عليه مما مضى في المطعم وغيره، أفرأيتم ﴿الماء﴾ ولما كان منه ما لا يشرب، وكانت النعمة في المشروب أعظم، قال واصفاً له بما أغنى عن وصفه بالعذوبة، وبين موضع النعمة التي لا محيد عنها فقال: ﴿الذي تشربون *﴾ ولما كان عنصره في جهة العلو، قال منكراً عليهم مقرراً لهم: ﴿أءنتم أنزلتموه﴾ ولما كان الإنزال
226
قد يطلق على مجرد إيجاد الشيء النفيس، وكان السحاب من عادته المرور مع الريح لا يكاد يثبت، عبر بقوله تحقيقاً لجهة العلو وتوقيفاً على موضع النعمة في إثباته إلى أن يتم حصول النفع به: ﴿من المزن﴾ أي السحاب المملوء الممدوح الذي شأنه الإسراع في المضي، وقال الأصبهاني، وقيل: السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء ﴿أم نحن﴾ أي خاصة، وأكد بذكر الخبر وهو لا يحتاج إلى ذكره في أصل المعنى فقال: ﴿المنزلون *﴾ أي له، رحمة لكم وإحساناً إليكم بتطييب عيشكم على ما لنا من مقام العظمة الذي شأنه الكبر والجبروت وعدم المبالاة بشيء، والآية من الاحتباك بمثل ما مضى في الآيتين السابقتين سواء.
227
ولما كان الجواب: أنت وحدك فعلت ذلك على غناك عن الخلق بما لك من الرحمة وكمال الذات والصفات، قال مذكراً بنعمة أخرى: ﴿لو نشاء﴾ أي حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به. ولما كانت صيرورة الماء ملحاً أكثر من صيرورة النبت حطاماً، ولم يؤكد لذلك وللتنبيه على أن السامعين لما مضى التوقيف على تمام القدرة صاروا في حيز المعترفين فقال تعالى: ﴿جعلناه﴾ أي بما تقتضيه صفات العظمة ﴿أجاجاً﴾ أي ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به. ولما كان هذا مما لا يساغ لإنكاره،
227
سبب عنه على سبيل الإنكار والتحضيض قوله: ﴿فلولا تشكرون *﴾ أي فهل لا ولم لا تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الذي أوجده لكم ومكنكم منه وجعله ملائماً لطباعكم مشتهى لنفوسكم نافعاً لكم في كل ما ترونه.
ولما كانت النار سبباً لعنصر ما فيه الماء فيتحلب فيتقاطر كما كان الماء سبباً لتشقيق الأرض بالزرع، ولم يكن لمخلوق قدرة على التول بنوع سبب، أتبعه بما كما أتبع الزرع بالماء لذلك ولبيان القدرة على ما لا سبب فيه لمخلوق في السفل كما كان إنزال الماء عرياً عن سنتهم في العلو، فقال مسبباً عما مضى تنبيهاً على أنه أهلهم للتأمل في مصنوعاته والتبصر في عجائب آياته فقال: ﴿أفرءيتم﴾ أي أخبروني هل رأيتم بالأبصار والبصائر ما تقدم فرأيتم ﴿النار﴾ ولما كان المراد ناراً مخصوصة توقفهم على تمام قدرته وتكشف لهم ذلك كشفاً بيناً بإيجاد الأشياء من أضدادها فقال: ﴿التي تورون *﴾ أي تستخرجون من الزند فتوقدون به سواء كان الزند يابساً أو أخضر بعد أن كانت خفية فيه لا يظن من لم يجرب ذلك أن فيه ناراً أصلاً، فكان ذلك مثل التورية التي يظهر فيها شيء ويراد غيره، ثم صار بعد ذلك الخفاء إلى ظهور عظيم وسلطة متزايدة وعظمة ظاهرة تحرق كل ما لا بسها حتى ما خرجت منه، والعرب أعرف الناس بأمر الزند، وذلك أنهم يقطعون
228
غصناً من شجر المرخ وآخر من العفار، ويحكون أحدهما على الآخر فتتقدح منها النار على أن النار في كل شجر، وإنما خص المرخ والعفار لسهولة القدح منهما، وقد قالوا: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.
ولما كان هذا من عجائب الصنع، كرر التقرير والإنكار تنبيهاً عليه فقال: ﴿ءأنتم أنشأتم﴾ أي اخترعتم وأوجدتم وأودعتم وأحييتم وربيتم وأوقعتم ﴿شجرتها﴾ أي المرخ والعفار التي تتخذون منها الزناد الذي يخرج منه، وأسكنتموها النار مختلطة بالماء الذي هو ضدها وخبأتموها في تلك الشجرة لا يعدو واحد منها على الآخر مع المضادة فيغلبه حتى يمحقه ويعدمه ﴿أم نحن﴾ أي خاصة، وأكد بقوله: ﴿المنشئون *﴾ أي لها بما لنا من العظمة على تلك الهيئة، فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون من الشجرة الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها في كيفيتها، كان أقدر على إعادة الطرواة والغضاضة في تراب الجسد الذي كان غضاً طرياً فيبس وبلي، والآية من الاحتباك بمثل ما مضى في أخواتها سواء.
ولما كان الجواب قطعاً: أنت وحدك، قال دالاًّ على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر: ﴿نحن﴾ أي خاصة ﴿جعلناها﴾ بما اقتضته عظمتنا، وقدم من منافعها ما هو أولى بسياق البعث الذي هو مقامه فقال: ﴿تذكرة﴾ أي شيئاً تتذكرونه وتتذكرون به تذكراً عظيماً جليلاً عن
229
كل ما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك مما ننيره لأولي البصائر والفهوم من العلوم، قال ابن برجان: فوزان قدح الزناد من الشجر، والزناد وزان الصيحة بهم ووزان إنشائه الأجسام وزان إنشائه الشجرة النار، ويتذكر بإنشائها في الشجر إنشاء الحياة في الأجسام وبإنشائها من غيبها أن النار الكبرى في غيب ما نشاهده، وهذا من آثار كونها في الجو - انتهى. وعلق بها سبحانه كثيراً من أسباب المعاش التي لا غنى عنها ليكون مذكراً لهم بما أوقدوا به حاضراً دائماً فيكون أجدر باتعاظهم ﴿ومتاعاً﴾ أي إنشاءً وبقاءً وتعميراً ونفعاً وإيصالاً إلى غاية المراد من الاستضائة والاصطلاء والإنضاج والتحليل والإذابة والتعقيد والتكليس، وهروب السباع وغير ذلك، والمراد أنها سبب لجميع ذلك ﴿للمقوين﴾ أي الجياع الذي أقوت بطونهم - أي خلت - من الفقر والإغناء من النازلين بالأرض القواء، والقواء بالكسر والمد أي القفر الخالية المتباعدة الأطراف البعيدة من العمران، وكل آدمي مهيأ للقواء فهو موصوف به وإن لم يكن حال الوصف كذلك، وقال الرازي: أقوى من الأضداد: اغتنى وافتقر، وقال أبو حيان: وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب، والنار من أعظم الدلائل على البعث إذ فيها انتقال من شيء إلى شيء إحداث
230
شيء من شيء، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه - انتهى.
ولما دل سبحانه في هذه الآيات على عجائب القدرة وغرائب الصنع، فبدأ بالزرع وختم بالنار والشجر، وأوجب ما نبه التذكر لأمرها والتبصر في شأنها أنها من أسباب ما قبلها، وأنه سبب لها لكونه سبباً لها لإثبات ما هي له، وكان مجموع ذلك إشارة إلى العناصر الأربعة، قال ابن برجان: إلاّ أن الماء والأرض لخلق الأركان، والأخلاق والصفات للهواء والنار، وكان ذلك من جميع وجوهه أمراً باهراً، أشار إلى زيادة عظمته بالأمر بالتنزيه مسبباً عما أفاد ذلك، فقال معرضاً عمن قد يلم به الإنكار مقبلاً على أشرف خلقه إشارة إلى أنه لا يفهم هذا المقام حق فهمه سواه ولا يعمل به حق عمله غيره: ﴿فسبح﴾ أي أوقع التنزيه العظيم عن كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة إلى حد المحسوس تسبيح متعجب من آثار قدرته الدالة على تناهي عظمته وتسبيح شكر له وتعظيم له وإكبار وتنزيه عما يقول الجاحدون وتعجيب منهم مقتدياً بجميع ما في السماوات والأرض، ومن أعجب ذلك أنه سخر لنا في هذه الدار جهنم، قال ابن برجان: جعل منها بحرارة الشمس جنات وثمرات وفواكه وزروع ومعايش.
231
ولما كان تعظيم الاسم أقعد في تعظيم المسمى قال: ﴿باسم﴾ أي متلبساً بذكر اسم ﴿ربك﴾ أي المحسن بعد التربية إليك بهذا البيان الأعظم بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك، وأثبتوا ألف الوصل هنا لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة منها وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه، وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، وكذا لا تحذف الألف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة من الأسماء لما تقدم من العلة.
ولما كان المقام للتعظيم قال: ﴿العظيم *﴾ الذي ملأ الأكوان كلها عظمة، فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزهاً عن أن تلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، قال القشيري: وهذه الآيات التي عددها سبحانه تمهيد لسلوك طريق الاستدلال وكما في الخبر «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» هذه الفكرة التي نبه الله عليها.
ولما كان من العظمة الباهرة ما ظهر في هذه السورة من أفانين الإنعام في الدارين، وبدأ بنعمة الآخرة لكونها النتيجة، ثم دل عليها بإنعامه في الدنيا فكان تذكيراً بالنعم لتشكر، ودلالة على النتيجة لتذكر، وفي كل حالة تستحضر فلا تكفر، فوصلت الدلالة إلى حد هو أوضح من المحسوس وأضوأ من المشموس، وكان مع هذه الأمور الجليلة
232
في مظهر أعجز الخلائق على أن يأتوا بمثله من كل وجه، أما من جهة الجواب عن تشبههم وتعنتهم فلكونه يطابق ذلك مطابقة لا يمكن أن يكون شيء مثلها، ويزيد على ذلك بما شاء الله من المعارف من غير أن يدع لبساً، وأما من جهة المفردات فلكونها النهاية في جلالة الألفاظ ورشاقة الحروف وجمع المعاني، فيفيد ذلك أنه لا تقوم كلمة أخرى مقام كلمة منه أصلاً، وأما من جهة التركيب فلكون كل كلمة منها أحق في مواضعها بحيث إنه لو قدم شيء منها أو أخر لاختل المعنى المراد في ذلك السياق بحسب ذلك المقام، وأما من جهة الترتيب في الجمل والآيات والقصص في المبادئ والغايات فلكونه مثل تركيب الكلمات، كل جملة منتظمة بما قبلها انتظام الدر اليتيم في العقد المحكم النظيم، لأنها إما أن تكون علة لما تلته أو دليلاً أو متممة بوجه من الوجوه الفائقة على وجه ممتع الجناب جليل الحجاب لتكون أحلى في فمه، وأجلى بعد ذوقه في نظمه وسائر علمه، فكان ثبوت جميع ما أخبر به على وجه لا مغتمر فيه ولا وقفة في اعتقاد حسنه، فثبت أن الله تعالى أرسل الآتي بهذا القرآن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهدى وبالحق، لا أنه آتاه كل ما ينبغي له، فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها، والموعظة الحسنة، وهي الأمور المرققة للقلوب المنورة للصدور، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق في نظم معجز موجب للإيمان، فكان من سمعه
233
ولم يؤمن لم يبق له من الممحلات إلا أن يقول: هذا البيان ليس لظهور المدعى وثبوته بل لقوة عارضة المدعي وقوته على تركيب الأدلة وصوغ الكلام وتصريف وجوه المقال، وهو يعلم أنه يغلب لقوة جداله لا لظهور مقاله، كما أنه ربما يقول أحد المتناظرين عند انقطاعه لخصمه: أنت تعلم أن الحق معي لكنك تستضعفني ولا تنصفني، فحينئذ لا يبقى للخصم جواب إلا الإقسام بالإيمان التي لا مخرج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف، وإنما يفزع إلى الإيمان لأنه لو أتى بدليل آخر لكان معرضاً لمثل هذا، فيقول: وهذا غلتني فيه لقوة جدالك وقدرتك على سوق الأدلة ببلاغة مقالك، فلذلك كانوا إذا أفحمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: إنه يريد أن يتفضل علينا فيما نعلم خلافه، فلم يبق إلا الإقسام، فأنزل الله أنواعاً من الأقسام بعد الدلائل العظام، ولهذا كثرت الآيات في أواخر القرآن، وفي السبع الأخيرة خاصة أكثر، فلذلك سبب عن هذه الأدلة الرائعة والبراهين القاطعة قوله: ﴿فلا أقسم﴾ بإثبات «لا» النافية، إما على أن يكون مؤكدة بأن ينفي ضد ما أثبته القسم، فيجمع الكلام بين إثبات المعنى المخبر به ونفي ضده، وإما على تقدير أن هذا المقام يستحق لعظمته وإنكارهم له أن
234
يقسم عليه بأعظم من هذا على ما له من العظمة لمن له علم - والله أعلم.
ولما كان الكلام السابق في الماء الذي جعله سبحانه مجمعاً للنعيم الدنيوية الظاهرة وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء على منهاج دبره وقانون أحكمه، وجعل إنزال القرآن نجوماً مفرقة وبوارق متلالئة متألقة قال: ﴿بمواقع النجوم *﴾ أي بمساقط الطوائف القرآنية المنيرة النافعة المحيية للقلوب، وبهبوطها الذي ينبني عليه ما ينبني من الآثار الجليلة وأزمان ذلك وأماكنه وأحواله، وبمساقط الكوكب وأنوائها وأماكن ذلك وأزمانه في تدبيره على ما ترون من الصنع المحكم والفعل المتقن المقوم، الدال بغروب الكواكب على القدرة على الطي بعد النشر والإعدام بعد الإيجاد، وبطلوعها الذي يشاهد أنها ملجأة إليه إلجاء الساقط من علو إلى سفل لا يملك لنفسه شيئاً، لقدرته على الإيجاد بعد الإعدام، وبآثار الأنواء على مثل ذلك بأوضح منه - إلى غير ذلك من الدلالات التي يضيق عنها العبارات، ويقصر دون علياها مديد الإشارات، ولمثل هذه المعاني الجليلة والخطوب العظيمة جعل في الكلام اعتراضاً بين القسم وجوابه، وفي الاعتراض اعتراضاً بين الموصوف وصفته تأكيداً للكلام، وهزاً لنافذ الأفهام تنبيهاً على أن الأمر عظيم والخطب فادح جسيم، فقال موضحاً له بالتأكيد رحمة للعبيد بالإشارة إلى أنهم جروا على غير ما يعلمون من عظمتنا فعدوا غير عالمين: ﴿وإنه﴾ أي هذا القسم على
235
هذا المنهج ﴿لقسم لو تعلمون﴾ أي لو تجدد لكم في وقت علم لعلمتم أنه ﴿عظيم﴾ وإقسامه لنا على ذلك ونحن أقل قدراً وأضعف أمراً إعلاماً بما له من الرحمة التي من عظمها أنه لا يتركنا سدى - كل ذلك ليصلح أنفسنا باتباع أمره والوقوف عند زجره، قال ابن برجان: ومن إتقانه جل جلاله في خليقته وحكمه في بريته أن جعل لكل واقع من النجوم الفلكية طالعاً يسمى بالإضافة إلى الواقع الرقيب دون تأخر، وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى:
﴿رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ [الرحمن: ١٨] يجمع ذلك الشمس والقمر والنجوم وهي نجوم منازل القمر عددها ثمانية وعشرون منزلة سوى تحجبها الشمس فتمت تسع وعشرون منزلة يشتشرفها القمر، فربما استتر ليلة وربما استتر ليلتين، فالقمر ينزل في هذه المنازل كل ليلة منزلة حتى يتمها لتمام الشهر، وإما الشمس فإنها تقيم فيها أربعة عشر يوماً ويسمى حلولها في هذه المحال ثم طلوع المنزلة التي تليها لوقوع هذا رقيب لها نوء - انتهى، وهو يعني أن من تأمل هذه الحكم علم ما في هذا القسم من العظم، وأشبع القول فيها أبو الحكم، وبين ما فيها من بدائع النعم، ثم قال: ويفضل الله بفتح رحمته كما يشاء فينزل من السماء ماء مباركاً يكسر به من برد الزمهرير فيرطبه ويبرد من حر السعير فيعدله، وقسم السنة على أربعة فصول أتم فيها أمره في الأرض بركاتها وتقدير
236
أقواتها، قال ﴿وبارك فيها وقدر بها أقواتها في أربعة أيام﴾ [فصلت: ١٠] في قراءتنا (فيها) بدل (بها) ا. هـ. ثم قال: وجعل هذه الدنيا على هذا الاعتبار الجنة الصغرى، ولو أتم القسم على هذا الوجه ثم على الاعتبار تخفيفه الفيح وإنارته الزمهرير والسعير هي جهنم الصغرى.
237
ولما أتم القسم على هذا الوجه الجليل، أجابه بقوله مؤكداً لما لهم من ظاهر الإنكار: ﴿إنه﴾ أي القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم أفهامها ﴿لقرآن﴾ أي جامع سهل قريب مفقه مبين للغوامض ذو أنواع جليلة ﴿كريم *﴾ ظهرت فيه أفانين إنعامه سبحانه فيما دق من أمور هذه الدنيا وجل من أمور الدارين بما ذكر في هذه السورة وما تقدمها من إصلاح المعاش والمعاد، فهو بالغ الكرم منزه عن كل شائبة نقص ولؤم ودناءة، من كرمه كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس وبلسان العرب الذين اتفق الفرق على أن لسانهم أفصح الألسن وعلى وجه أعجز العرب.
ولما ذكر المعنى، ذكر محل النظم الدال عليه بلفظ دال على نفس النظم فقال: ﴿في كتب﴾ أي خط ومخطوط فيه جامع على وجه هو في غاية الثبات ﴿مكنون *﴾ أي هو في ستر مصون لما له من النفاسة والعلو في السماء في اللوح المحفوظ، وفي الأرض في الصدور المشرفة،
237
وفي السطور في المصاحف المكرمة المطهرة، محفوظاً مع ذلك من التغيير والتبديل.
ولما كان ما هو كذلك قد يحصل له خلل يسوء خدامه قال: ﴿لا يمسه﴾ أي الكتاب الذي هو مكتوب الذي هو مكتوب فيه أعم من أن يكون في السماء أو في الأرض أو القرآن أو المكتوب منه فضلاً عن أن يتصرف فيه ﴿إلا المطهرون *﴾ أي الطاهرون الذين بولغ في تطهيرهم وهم رؤوس الملائكة الكرام، ولم يكن السفير به إلاّ هم ولم ييسر الله حفظه إلا لأطهر عباده، ولم يعرف معناه إلا لأشرف حفاظه وأطهرهم قلوباً، ومن عموم ما يتحمله اللفظ من المعنى بكونه كلام العالم لكل شيء فهو لا يحمل لفظاً إلا وهو مراد له أنه يحرم منه على من لم يكن له في غاية الطهارة بالبعد عن الحدثين الأكبر والأصغر، فهو على هذا نفي بمعنى النهي وهو أبلغ، قال البغوي: وهو قول أكثر أهل العلم، وروي بإسناد من طريق أبي مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو ابن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لعمرو بن حزم رضي الله عنه (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) والمراد به المصحف للجوار كما في النهي أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. ومما يحتمله أيضاً التعبير باللمس أنه لا يقرأه بلسانه إلا طاهر،
238
فإن أريد الجنابة كان النهي للحرمة أو للأكمل.
ولما ذكر الذي منه صيانته، أتبعه شرفه بشرف منزله وإنزاله على حال هو في غاية العظمة مسمياً له باسم المصدر للمبالغة ولأن هذا المصدر أغلب أحواله، ولذلك غلب عليه هذا الأسم: ﴿تنزيل﴾ أي وصوله إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للأفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم بواسطة الرسل من الملائكة.
ولما كان هذا في غاية الاتفاق واليسر ذكر من صفاته ما يناسبه فقال: ﴿من رب العالمين *﴾ من الخالق العالم بتربيتهم.
ولما أفصح من وصف هذا الكتاب العظيم ما يقتضي أن يكون بمجرده مثبتاً لما لا تدركه العقول من كماله وكافياً في الإذعان لاعتقاده فكيف إذا كان ما تحكم العقول وتقضي بفساد ما سواه، فكيف إذا كان مما يتذكر الإنسان مثله في نفسه، عجب منهم في جعله سبباً لإنكار البعث الذي إذا ذكر الإنسان أحوال نفسه كفاه ذلك في الجزم به فقال منكراً تعجباً: ﴿أفبهذا﴾ ولما كان الإنسان مغرماً بما يجدد له من النعم ولو هان فكيف إذا كان أعلى النعم قال: ﴿الحديث﴾ أي الذي تقدمت أوصافه العالية وهو متجدد إليكم إنزاله وقتاً بعد وقت ﴿أنتم﴾ أي وأنتم العرب الفصحاء والمفوهون البلغاء ﴿مدهنون *﴾
239
أي كذابون منافقون بسببه تظهرون غير ما تبطنون أنه كذاب وأنتم تعلمون صدقه بحسن معانيه، وعجزكم عن مماثلته في نظومه ومبانيه، وتقولون: لو شئنا لقلنا مثل هذا: وجميع أفعالكم تخالف هذا فإنكم تصبرون لوقع السيوف ومعانقة الحتوف، ولا تأتون بشيء يعارضه يبادئ شيئاً منه أو يناقضه أو تلاينون أيها المؤمنون من يكذب به ويطعن في علاه أو يتوصل ولو على وجه خفي إلى نقض شيء من عراه، تهاوناً به ولا يتصلبون في تصرفه تعظيماً لأمره حتى يكونوا أصلب من الحديد، قال في القاموس: دهن: نافق، والمداهنة: إظهار خلاف ما تبطن كالإدهان والغش، وقال البغوي رحمه الله: هو الإدهان وهو الجري في الباطن على خلاف الظاهر، وقال الرازي: والفرق بين المداراة والمداهنة يرجع إلى القصد، فما قصد به غرض سوى الله فهو المداهنة، وما قصد به أمر يتعلق بالدين فهو المداراة، وقال ابن برجان: الإدهان والمداهنة: الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز - انتهى. فهو على هذا إنكار على من سمع أحداً يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وابن الفارض صاحب التائية أول من صوبت إليه هذه الآية، فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلاً ورأساً ويحله عروة عروة، فهم أضر الناس على هذا الدين، ومن يؤول لهم أو ينافح عنهم
240
ويعتذر لهم أو يحسن الظن بهم مخالف لإجماع الأمة أنجس حالاً منهم فإن مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه.
ولما كان هذا القرآن متكفلاً بسعادة الدارين، قال تعالى: ﴿وتجعلون رزقكم﴾ أي حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله ﴿أنكم تكذبون *﴾ أي توجدون حقيقة التكذيب في الماضي والحال، وتجددون ذلك في كل وقت به وبما أرشد إليه من الأمور الجليلة وهي كل ما هو أهل للتصديق به وتصفونه بالأوصاف المتناقضة، ومن ذلك ما أرشد إليه من أنه لا فاعل إلا الله تعالى فتقولون أنتم إذا أمطركم ما يرزقكم به: هذا بنوء كذا، معتقدين تأثير ذلك النوء، وإنما هو بالله تعالى، فجعلتم جزاء الرزق وبذل الشكر على الرزق التكذيب، وقال ابن برجان: وتجعلون رزقي إياكم من قرآن عظيم أنزلته، وكلام عظيم نزلته، ونور إيمان بينته، وضياء يقين جليته، وما أنزلته من السماء من بركات قدرتها ومن رياح أرسلتها، وسحب ألفتها، تجعلون مكان الشكر على ذلك التكذيب.
ولما أنكر عليهم هذا الإنكار، وعجب منهم هذا التعجيب في أن ينسبوا لغيره فعلاً أو يكذبوا له خبراً، سبب عن ذلك تحقيقاً لأنه لا فاعل سواه قوله: ﴿فلولا﴾ وهي أداة تفهم طلباً بزجر وتوبيخ وتقريع
241
بمعنى هل لا ولم لا ﴿إذا بلغت﴾ أي الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة ﴿الحلقوم *﴾ وهو مجرى الطعام في الحلق، والحلق مساغ الطعام والشراب معروف، فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان لأن الميم لمنقطع التمام، ﴿وأنتم﴾ أي والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له ﴿حينئذٍ﴾ أي حين إذ بلغت الروح ذلك الموضع.
ولما كان بصرهم لكونه لا ينفذ في باطن كالعدم قال: ﴿تنظرون *﴾ أي ولكم وصف التحديق إليه ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر، ولم يقل: تبصرون، لئلا يظن أن لهم إدراكاً بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح وغيرها نحوها ﴿ونحن﴾ أي والحال أنا نحن بما لنا من العظمة ﴿أقرب إليه﴾ أي المحتضر حقيقة بعلمنا وقدرتنا التامة وملائكتنا ﴿منكم﴾ على شدة قربكم منه ﴿ولكن لا تبصرون *﴾ أي مع تحديقكم إليه لا يتأثر عن ذلك التحديق غايته، وهو الإبصار لقربنا منه، ولا ملائكتنا الموكلين بقبض روحه، لتعلموا أن الفعل لنا لا لغيرنا، فلا يتجدد لكم شيء من هذا الوصف لتدركوا به حقيقة ما هو فيه، فثبت ما أخبرنا به من الاختصاص بباطن العلم والقدرة اللذين عبرنا عنهما بالقرب الذي هو أقوى أسبابها.
242
ولما كان الكلام لإثبات هذه الأغراض المهمة قبل جواب «لولا» أعادها تأكيداً لها وتبيناً فقال: ﴿فلولا إن كنتم﴾ أيها المكذبون
242
بالبعث وغيره ﴿غير مدينين *﴾ أي مقهورين مملوكين مجربين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين بامتناعكم بأنفسكم عن أن يجازيكم أو يمنع غيركم لكم منه، وأصل تركيب (دان) للذل والانقياد - قاله البيضاوي ﴿ترجعونها﴾ أي الروح إلى ما كانت عليه ﴿إن كنتم﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿صادقين *﴾ أي في أنكم غير مقهورين على الإحضار على الملك الجبار الذي أقامكم في هذه الدار للابتلاء والاختبار، وأنه ليس لغيركم أمركم، وفي تكذيبكم لما يخبر به من الأمور الدنيوية بذل شكركم، وهذا دليل على أنه لا حياة لمن بلغت روحه الحلقوم أصلاً وهذا إلزام لهم بالبعث حاصله أنه سبحانه إن كان لا يعيدكم فليس هو الذي قدر الموت عليكم، وإن كان لم يقدره فما لكم لا ترفعونه عنه لأنه من الفوادح التي لا يدرك علاجها، وأنتم تعالجون مقدماته. وإن قلتم: إنه مقدر لا يمكن علاجه، لزمكم الإقرار بأن البعث مقدر لا يمكن علاجه، فإن أنكرتم أحدهما فأنكروا الآخر، وإن أقررتم بأحدهما فأقروا بالآخر، وإلا فليس إلا العناد، فإن قلتم: نحن لا نعلم أنه قدره فاعلموا أنه لو لم يكن بتقديره لأمكنت مقاومته وقتاً ما لا سيما والنفوس مجبولة على كراهته، وفي الموتى الحكماء والملوك، وتقريبه أنكم قد بالغتم في الجحود بآيات الله تعالى وأفعاله في كل شيء إن أرسل إليكم رسولاً قلتم: ساحر كذاب، وإن صدقه مرسله بكتاب معجز قلتم: سحر وافتراء وأمر عجاب، وإن رزقكم من الماء الذي به حياة كل شيء مطراً ينعشكم
243
به قلتم: صدق نوء كذا، على حال مؤد إلى التعطيل والإهمال والعبث، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن عند بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم مدبر لهذا الكون بالإرسال والإنزال وإفاضة الأرواح وقبضها وبعث العباد لدينونتهم على ما فعلوا فيما أقامهم فيه، تمثيل بأفعال الملوك على ما يعهد، فكما أن ملوك الدنيا لا يرسل أحد منهم إلى أحد من رعيته فيأخذه قهراً إلا للدينونة فكيف يظن بملك الملوك غير ذلك، فتكون ملوك الدنيا أحكم منه، فإن كان ليس بتمام القدرة فافعلوا برسله كما تفعلون برسل الملوك، فإنه ربما خلص المطلوب منهم بنوع من أنواع الخلاص بعد بلوغه إلى باب الملك فإرساله سبحانه هو مثل إرسال الملوك غير أنه لتمام قدرته يأخذ أخذاً لا يقدر أحد على رده، ولا أن يتبع مأخوذه أصلاً لا ليخدمه بعد الأخذ ولا ليخفف عنه شيئاً مما هو فيه بغير ما أمر به سبحانه على ألسنة رسله من الدعاء والصدقة ولا ليعلم حاله بوجه من الوجوه بل الأمر كما قيل:
وكنا إذا الجبار بالسيف ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
إذا غيب المرء استسر حديثه ولم يخبر الأفكار عنه بما يغني
ولما كان التقدير: لا يقدر أحد أصلاً على ردها بعد بلوغها إلى ذلك المحل لأنا نريد جمع الخلائق للدينونة بما فعلوا فيما أقمناهم فيه وأمرناهم به ولا يكون إلا ما تريد، فكما أنكم مقرون بأنه خلقكم من تراب وبأنه يعيدكم قهراً إلى التراب يلزمكم حتماً أن تقروا بأنه قادر على أن يعيدكم
244
من التراب فإن أنكرتم هذا اللازم لزمكم إنكار ملزومه، وذلك مكابرة في الحس فليكن الآخر مثله، فثبت أنا إنما نعيد الخلائق إلى التراب لنجمعهم فيه ثم نبعثهم منه لنجازي كلاًّ بما يستحق ونقسمهم إلى أزواج ثلاثة ﴿فأما إن كان﴾ أي الميت منهم ﴿من المقربين *﴾ أي السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقربهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزهه عنه، وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل للحظوظ والشهوات عليه، فإن قربهم إنما هو بالانخلاع من الإرادة أصلاً ورأساً، وذلك أنه لا شهوات لهم فلا أغراض فلا فعل إلا أمروا به فلا إرادة، إنما الإرادة للمولى سبحانه وهو معنى ﴿وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي﴾ [النحل: ٩٠] أي مطلق الإرادة في غير أمر من الله، لأن المملوك الذي هو لغيره لا ينبغي أن يكون له شيء لا إرادة ولا غيرها - وفقنا الله تعالى لذلك ﴿فروح﴾ أي فله راحة ورحمة ما ينعشه من نسيم الريح ومعنى قراءة يعقوب بالضم طمأنينة في القلب وسكينة وحياة لا موت بعدها ﴿وريحان﴾ أي رزق عظيم ونبات حسن بهج وأزاهير طيبة الرائحة.
ولما ذكر هذه اللذاذة، ذكر ما يجمعها وغيرها فقال: ﴿وجنات﴾ أي بستان جامع للفواكه والرياحين وما يكون عنها وتكون عنه.
245
ولما كان جنان الدنيا قد يكون فيها نكد، أضاف هذه الجنة إلى المراد بهذه الجنان إعلاماً بأنها لا تنفك عنه فقال: ﴿نعيم *﴾ أي ليس فيها غيره بل هي مقصورة عليه ﴿وأما إن كان﴾ أي الميت منهم ﴿من أصحاب اليمين *﴾ أي الذين هم الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة ﴿فسلام﴾ أي سلامة ونجاة وأمر وقول دال عليه. ولما كان ما يواجه به الشريف من ذلك أعلى قال: ﴿لك﴾ أي يا أعلى الخلق أو يا أيها المخاطب.
ولما كان من أصاب السلام على وجه من الوجوه فائزاً، فكيف إذا كان مصدراً للسلام ومنبعاً منه قال: ﴿من أصحاب اليمين *﴾ أي أنهم في غاية من السلامة وإظهار السلام، لا يدرك وصفها، وهو تمييز فيه معنى التعجيب، فإن إضافته لم تفده تعريفاً، وفي اللام و ﴿من﴾ مبالغة في ذلك، فالمعنى: فأما هم فعجباً لك وأنت أعلى الناس في كل معنى، وأعرفهم بكل أمر غريب منهم في سلامتهم وسلامهم وتعافيهم وملكهم وشرفهم وعلو مقامهم، وذلك كله إنما أعطوه لأجلك زيادة في شرفك لاتباعهم لدينك، فهو مثل قول القائل حيث قال:
فيا لك من ليل كأن نجومه بكل مقار العمل شدت يذبل
وقول القائل أيضاً حيث قال:
لله در أنو شروان من رجل ما كان أعرفه بالدون والسفل
أي عجباً لك من ليل وعجباً من أنو شروان.
246
ولما ذكر الصنفين الناجيين، أتبعهما الهالكين جامعاً لهم في صنف واحد لأن من أريدت له السعادة يكفيه ذلك، ومن ختم بشقائه لا ينفعه ذلك الإغلاظ والإكثار فقال ﴿وأما إن كان﴾ أي ذلك الذي أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تنقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلاً ﴿من المكذبين﴾.
ولما كان المكذب تارة يكون معانداً، وتارة يكون جاهلاً مقتصراً، قال: ﴿الضالين﴾ أي أصحاب الشمال الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها لتهاونهم في البعث ﴿فنزل﴾ أي لهم وهو ما يعد للقادم على ما لاح ﴿من حميم *﴾ أي ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به القادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه ﴿وتصلية جحيم *﴾ أي لهم بعد النزل يصلوا النار الشديدة التوقد صلياً عظيماً.
ولما تم ما أريد إثبات البعث على هذا الوجه المحكم البين، وكانوا مع البيان يكذبون به، لفت الخطاب عنهم إلى أكمل الخلق، وأكد تسميعاً لهم فقال سائقاً له مساق النتيجة: ﴿إن هذا﴾ أي الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم ﴿إننا لمبعوثون﴾ ومن قيام الأدلة عليه. ولما كان من الظهور في حد لا يساويه فيه غيره. زاد في التأكيد على وجه التخصيص فقال:
247
﴿لهو حق اليقين *﴾ أي لكونه لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر، قال الأصبهاني: قال قتادة في هذه الآية: إن الله عز وجل ليس تاركاً أحداً من الناس حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك، وأما المنافق فأيقن يوم القيامة حيث لا ينفعه - انتهى.
ولما تحقق له هذا اليقين، سبب عنه أمره بالتنزيه له سبحانه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز بعد تقسيمه للأزواج الثلاثة على طريق الإيجاز كما أمره بذلك بعد الفراغ من تقسيمهم على طريق الإطناب إشارة إلى أن المفاوتة بينهم مع ما لهم من العقول من أعظم الأدلة على الفعل بالاختيار وعلى فساد القول بالطبيعة: ﴿فسبح﴾ أي أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل والصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه عنه نفسه المقدس، ولقصره الفعل لإفادة العموم أثبت الجار بقوله: ﴿باسم ربك﴾ أي المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك عما وصفه به الكفرة من التكذيب بالواقعة، وإذا كان هذا لا سمه فكيف بما له وهو ﴿العظيم *﴾ الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان، وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه لأن من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم، وهذا الكلام الأعز الأكرم، لا ينبغي
248
لشائبة نقص أن تلم بجنابه، أو تدنو من فناء بابه، وقد انطبق آخر السورة على أولها في الإخبار بالبعث وتصنيف الخلائق فيه إلى الأصناف المذكورة في أولها أيّ انطباق، وزاد هذا الآخر بأن اعتنق بدليله أي اعتناق، واتفق مع أول التي بعدها أيّ اتفاق، وطابقه أجلَّ طباق، وختمت بصفتي الرحمة والعظمة، وجلت عن الاسم الجامع كاللتين قبلها لما ذكره في أواخر القمر من أنه لم يذكر في واحدة من الثلاث أحد من أهل المعصية المصاحبة للإيمان، ليخاطب بالاسم الجامع للإهانة والإحسان، وإنما ذكر أهل الكفران المستوجبين للهوان بالخلود في النيران، وأهل الإيمان المتأهلين للإحسان بتأبيد الإمكان في أعلى الجنان - انتهى.
249
(سورة الحديد)
مقصودها بيان عموم الرسالة لعموم الإلهية بالبعث إلى الأزواج الثلاثة المذكورة في السورتين الماضيتين من الثقلين تحقيقا لأنه سبحانه مختص بجميع صفات الكمال تحقيقا لتنزهه عن كل شائبة نقص المبدوء به هذه السورة المختوم به ما قبلها الراد لقولهم) أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون) [الواقعة: ٤٧ - ٤٨] المقتضي لجهاد من يحتاج إلى الجهاد ممن عصى رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بالسيف وما ترتب عليه من النفقة ردا لهم عن النقائص الجسمانية وإعلاء إلى الكلمات الروحانية التي دعا إليها الكتاب حذرا من سواء الحساب يوم التجلي للفصل بين العباد بالعدل ليدخل أهل الكتاب وغيرهم في الدين طوعا أو كرها، ويعلم أهل الكتاب الذين كانوا يقولون: ليس أحد أفضل منه، فضيلة هذا الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) على جمكيع من تقدمه من الرسل عليهم الصلاة والسلام بعموم رسالته وشمول خلافته، وانتشار دعوته وكثرة أمته تحقيقا لأنه لا حد لفائض رحمته سبحانه لتكون هذه السورة التي هي آخر النصف الأول والتي بعدها التي هي أول النصف الثاني من حيث العدد غاية للمقصود من السورة التي هي أوله عند الالتفات والرد كما كانت السورة التي غاية النصف الأول
250
يفي المقدار وهي الإسراء، وكذا السورة التي هي أول النصف الثاني وهي الكهف كاشفتين لمقصد الأولى فيما دعت إليه من الهداية وشدت إليه من الإنذار، على ذلك دل اسمها الحديد يتأمل آياته وتدبر سر ما ذكر فيه وغاياته، أسند صاحب الفردوزس عن جابر رضي الله عنه أن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: " لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت يوم الثلاثاء ") بسم الله (الذي أحاطت إلالهيته بجميع الموجودات) الرحمن (الذي وسعهم جوده فيي جميع الحركات والسكنات) الرحيم (الذي خص من بينهم بما له من الاختيار يفي كمال الاقتدار أهل ولا يته بما يرضيه من العبادات.
251
Icon