تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير
.
لمؤلفه
محمد نسيب الرفاعي
.
المتوفي سنة 1412 هـ
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله ﷺ، كما قال البراء بن عازب : آخر آية نزلت ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ]، وآخر سورة نزلت : براءة. وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الأول، بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله ﷺ لما رجع من غزوة تبوك، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة ليقيم للناس مساكنهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس ﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله ﷺ، كما سيأتي بيانه، فقوله تعالى :﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله ﴿ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين * فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾. اختلف المفسرون هاهنا اختلافاً كثيراً، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان، لقوله تعالى :﴿ فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ ﴾ [ التوبة : ٤ ] الآية، ومن كان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد فعهده إلى مدته؛ وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد اختاره ابن جرير رحمه الله.
وقال ابن عباس : حدَّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون في الأرض حيث شاءوا، وأجَّل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم، فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد، بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام. وقال مجاهد :﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ إلى أهل العهد خزاعة ومدلج، ومن كان له عهد أو غيرهم، فقفل رسول الله ﷺ من تبوك حين فرع، فأراد الله رسول الله ﷺ الحج ثم قال :« إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك » فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما، فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا.
وقال ابن عباس : حدَّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون في الأرض حيث شاءوا، وأجَّل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم، فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد، بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام. وقال مجاهد :﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ إلى أهل العهد خزاعة ومدلج، ومن كان له عهد أو غيرهم، فقفل رسول الله ﷺ من تبوك حين فرع، فأراد الله رسول الله ﷺ الحج ثم قال :« إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك » فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما، فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا.
يقول تعالى : وإعلام ﴿ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ وتقدم، وإنذار إلى الناس ﴿ يَوْمَ الحج الأكبر ﴾ وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعاً ﴿ أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ ﴾ أي برئ منهم أيضاً. ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال :﴿ فَإِن تُبْتُمْ ﴾ أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال، ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي استمررتم على ما أنتم عليه ﴿ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله ﴾، بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته ﴿ وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي في الدنيا بالخزي والنكال، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال. روى البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر، ومن أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله ﷺ مشرك. وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : كنت مع ( علي بن أبي طالب ) حين بعثه رسول الله ﷺ إلى أهل مكة ببراءة فقال : ما كنتم تنادون؟ قال : كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك، قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
و « عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بعثه ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال :» لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي «، فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه » و « عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال :» لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت « قال : فإن كان لا بد فسأذهب أنا، قال :» انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك «، قال : ثم وضع يده على فيه » وقال محمد بن إسحاق :« نزلت براءة على رسول الله ﷺ، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثت إلى أبي بكر، فقال :» لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي «، ثم دعا علياً فقال :» اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو له إلى مدته فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله ﷺ العضباء، حتى أدرك أبا بكر في الطريق، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور؟ فقال : بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره رسول الله ﷺ فقال : يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان ثم قدما على رسول الله ﷺ «
و « عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بعثه ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال :» لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي «، فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه » و « عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال :» لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت « قال : فإن كان لا بد فسأذهب أنا، قال :» انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك «، قال : ثم وضع يده على فيه » وقال محمد بن إسحاق :« نزلت براءة على رسول الله ﷺ، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثت إلى أبي بكر، فقال :» لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي «، ثم دعا علياً فقال :» اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو له إلى مدته فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله ﷺ العضباء، حتى أدرك أبا بكر في الطريق، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور؟ فقال : بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره رسول الله ﷺ فقال : يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان ثم قدما على رسول الله ﷺ «
1006
فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وقال عمرو بن الوليد السهمي عن عباد البصري قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا ( سعيد بن المسيب ) فأتيته، فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة، فقال سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة، فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف ( عمر ) أو ( ابن عمر ) كان ينهى عن صومه، ويقول هو يوم الحج الأكبر. والقول الثاني : أنه يوم النحر. قال الحارث الأعور : سألت علياً رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر. وقال عبد الرزاق عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر. وقال عبد الله بن سنان خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر، واختاره ابن جرير، وروى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال :« لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله ﷺ على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه فقال :» أي يوم هذا «؟ قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال :» أليس هذا يوم الحج الأكبر «؟ ».
عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وقال عمرو بن الوليد السهمي عن عباد البصري قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا ( سعيد بن المسيب ) فأتيته، فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة، فقال سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة، فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف ( عمر ) أو ( ابن عمر ) كان ينهى عن صومه، ويقول هو يوم الحج الأكبر. والقول الثاني : أنه يوم النحر. قال الحارث الأعور : سألت علياً رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر. وقال عبد الرزاق عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر. وقال عبد الله بن سنان خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر، واختاره ابن جرير، وروى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال :« لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله ﷺ على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه فقال :» أي يوم هذا «؟ قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال :» أليس هذا يوم الحج الأكبر «؟ ».
1007
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها، وقد تقدمت الأحاديث « ومن كان له عهد مع رسول الله ﷺ فعهده إلى مدته » وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسلمين أحداً، أي يماليء عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده إلى مدته، ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك فقال :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين ﴾ أي الموفين بعهدهم.
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ما هي؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] الآية، ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم، وفيه نظر، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه، أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله :﴿ فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [ التوبة : ٢ ]، ثم قال :﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة. وقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ أي من الأرض، وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ]، وقوله :﴿ وَخُذُوهُمْ ﴾ أي وأسروهم، إن شئتم قتلاً وإن شئتم أسراً، وقوله ﴿ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم، حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام، ولهذا قال :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة، حيث حرمت قتالهم بشرط الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عزَّ وجلَّ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في « الصحيحين » :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » الحديث، وقال عبد الله بن مسعود : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له، وقال ابن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ قال :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم » قال أنس : توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى :
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ قال :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم » قال أنس : توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى :
1009
﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [ التوبة : ١١ ]. وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك : إنها نسخت كل عهد بين النبي ﷺ وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة. وقال ابن عباس في هذه الآية : أمره الله تعالى أن يضع السيف فين عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام، ونقض ما كان سمى لهم من العهد والميثاق، وأذهب الشرط الأول. ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه، فقال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً ﴾ [ محمد : ٤ ] وقال قتادة بالعكس.
1010
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين ﴾ الذين أمرتك بقتالهم. وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم ﴿ استجارك ﴾ أي استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي القرآن تقرؤه عليه. وتذكر له شيئاً من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله ﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه ﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده، ولهذا كان رسول الله ﷺ يعطي الأمان لمن جاءه مسترشداً، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله ﷺ ما بهرهم. وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر. فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم. ولهذا أيضاً لما « قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله ﷺ قال له : أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال : نعم، فقال رسول الله ﷺ :» لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك «، والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أماناً، أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه، لكن قال العلماء : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر. وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة اشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله.
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا، فقال تعالى :﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ﴾ أي إمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله ﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام ﴾ يعني يوم الحديبية :﴿ فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ ﴾ أي مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم ﴿ فاستقيموا لَهُمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين ﴾، وقد فعل رسول الله ﷺ ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد وما لأوا حلفاؤهم، وهم ( بنو بكر ) على خزاعة أحلاف رسول الله ﷺ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً. فعند ذلك غزاهم رسول الله ﷺ في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء، وكانوا قريباً من ألفين، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله ﷺ بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء، ومنهم ( صفوان بن أمية ) و ( عكرمة بن أبي جهل ) وغيرهما ثم هداهما الله بعد ذلك إلى الإسلام التام، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.
يقول تعالى محرضاً للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم، ومبيناً أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله ﷺ، ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة، قال ابن عباس : الإل القرابة، والذمة والعهد، وقال مجاهد : الإل الله أي لا يرقبون الله ولا غيره، والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر، وعن مجاهد أيضاً : الإل العهد، وقال قتادة : الإل الحلف.
يقول تعالى ذماً للمشركين وحثاً للمؤمنين على قتالهم :﴿ اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة ﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق ﴿ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ تقدم تفسيرها وكذا الآية التي بعدها.
يقول تعالى : وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم ﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ أي عابوه وانتقصوه، ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول صلوات الله وسلامه عليه، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص، ولهذا قال :﴿ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال، قال قتادة : أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، قال ابن مردوية : مرَّ ( سعد بن أبي وقاص ) برجل من الخوارج، فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر، فقال سعد : كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر، والآية عامة وإن كان سبب نزولها في مشركي قريش والله أعلم.
وهذا أيضاً تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] وقال تعالى :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ قيل : المراد بذلك يوم بدر حين خرجوا لنصر غيرهم، وقيل : المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله ﷺ، حتى سار إليهم رسول الله ﷺ عام الفتح وكان ما كان، وقوله :﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾، يقول تعالى : لا تخشوهم واخشون فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي، ثم قال تعالى بياناً لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد، مع قدرته على إهلاك العدو ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ وهذا عام في المؤمنين كلهم، وقال مجاهد وعكرمة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ يعني خزاعة، ﴿ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ ﴾ أي من عباده ﴿ والله عَلِيمٌ ﴾ أي بما يصلح عباده، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبداً.
يقول تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ أي ظننتم أن نترككم مهملين، لا نختبركم بأمور يظهر فيها الصادق من الكاذب، ولهذا قال :﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً ﴾ أي بطانة ودخيلة، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر، كما قال الشاعر :
وقال تعالى :﴿ أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾ ؟ [ العنكبوت : ٢ ] وقال تعالى :﴿ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ] الآية، والحاصل : أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بيَّن أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وما أدري إذا يممت أرضاً | أريد الخير أيهما يليني |
يقول تعالى : ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم وقالهم : كما قال السدي : لو سألت النصراني ما دينك؟ لقال : نصراني، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال : يهودي، ﴿ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ أي بشركهم ﴿ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ ﴾. ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر ﴾ فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد. كما قال رسول الله ﷺ :« إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر ﴾ » وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال، قال رسول الله ﷺ :« إنما عمار المساجد هم أهل الله »، وعن أنس مرفوعاً يقول الله : وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي، وإلى المتحابين فيّ، وإلى المستغفرين بالإسحار، صرفت ذلك عنهم. وقال عبد الرزاق عن عمرو بن ميمون الأولادي قال : أدركت أصحاب محمد ﷺ وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها، وقال المسعودي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي، فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله، قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر ﴾، وقوله :﴿ وَأَقَامَ الصلاة ﴾ أي التي هي أكبر عبادات البدن ﴿ وآتى الزكاة ﴾ أي التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، وقوله :﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله ﴾ أي ولم يخف إلا من الله تعالى ولم يخش سواه ﴿ فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾، قال ابن عباس : من وحّد الله وآمن باليوم الآخر ﴿ وَأَقَامَ الصلاة ﴾ يعني الصلوات الخمس ﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله ﴾ يقول لم يعبد إلا الله ﴿ فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾، يقول تعالى إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه ﷺ :﴿ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ [ الإسراء : ٧٩ ]، وهي الشفاعة، وكل « عسى » في القرآن فهي واجبة، وقال محمد بن إسحاق : وعسى من الله حق.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني، قال الله عزَّ وجلَّ :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد ﴾ إلى قوله :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾، يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك، وقال الضحاك : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونفك العاني، ونحجب البيت، ونسقي الحاج، فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج ﴾ الآية. وعن النعمان بن بشير الأنصاري قال :« كنت عند منبر رسول الله ﷺ في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله ﷺ فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، قال : ففعل، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد ﴾ إلى قوله :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ ».
أمر تعالى بمباينة الكفار، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إن استحبوا أي اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك، كقوله تعالى :﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ]، ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله فقال :﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها ﴾ أي اكتسبتموها وحصلتموها ﴿ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ ﴾ أي تحبونها وحسنها أي إن كانت هذه الأشياء ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ولهذا قال :﴿ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾. وروى الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال :« كنا مع رسول الله ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله ﷺ :» لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه «، فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إليّ من نفسي، فقال رسول الله ﷺ :» الآن يا عمر « وقد ثبت في » الصحيح « عنه ﷺ أنه قال :» والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين « وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم «.
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله. وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم. ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً، فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله ﷺ. ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قل الجمع، ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ]، وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وذلك « لما فرغ ﷺ من فتح مكة وتمهدت أمورها. وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله ﷺ فبلغه أن ( هوازن ) جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم ( مالك بن عوف النضري ) ومعه ثقيف بكمالها وناس من بني عمرو بن عامر وعون بن عامر، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم، وجاءوا بقضهم وقضيضهم؛ فخرج إليهم رسول الله ﷺ في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء في ألفين، فسار بهم إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح. انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم وملكهم، فعند ذلك ولّى المسلمون مدبرين كا قال الله عزَّ وجلَّ، وثبت رسول الله ﷺ وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء، يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن، ويقول في تلك الحال :» أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب «، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ثم أمر ﷺ عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة، يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على أن لا يفروا عنه، فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة، ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة، فجعلوا يقولون : لبيك لبيك، وانعطف الناس، فتراجعوا إلى رسول الله ﷺ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه، ثم انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله ﷺ، فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله ﷺ أمرهم عليه السلام، أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب بعدما دعا ربه واستنصره، وقال :» اللهم لي ما وعدتني، ثم رمى القوم بها، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا، فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى محندلة بين يدي رسول الله ﷺ «.
1021
وقال الإمام أحمد عن ( يزيد بن أسيد ) قال :« كنت مع رسول الله ﷺ في غزوة حنين، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي، وركبت فرسي، فانطلقت إلى رسول الله ﷺ وهو في فسطاطه، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حان الرواح، فقال :» أجل « فقال :» يا بلال «، فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر، فقال : لبيك وسعديك وأنا فداؤك، فقال :» أسرج لي فرسي «، فأخرج سرجاً دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر، قال فأسرج فركب وركبنا، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا، فتشامت الخيلان، فولى المسلمون مدبرين، كما قال الله تعالى :﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾، فقال رسول الله ﷺ :» يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله «، ثم قال :» يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله « قال : ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفاً من تراب، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم، وقال » شاهت الوجوه « فهزمهم الله تعالى، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض، كإمرار الحديد على الطست الجديد. وفي » الصحيحين « عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله ﷺ يوم حنين؟ فقال : لكن رسول الله ﷺ لم يفر، إن هوازن كانوا قوماً رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول الله ﷺ وأبو سفيان بن الحارث أخذ بلجام بغلته البيضاء، وهو يقول :» أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب « قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ ﴾ أي طمأنينته وثباته على رسوله ﴿ وَعَلَى المؤمنين ﴾ أي الذين معه ﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ وهم الملائكة، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن عبد الرحمن مولى ابن برثن، حدثني رجل كان معه المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله ﷺ يوم حنين، لم يقوموا لنا حلب شاة، قال :
1022
« لما كشفناهم جلعنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله ﷺ، قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا، قال : فانهزمنا وركبوا اكتافنا، فكانت إياها ».
وقال ابن مسعود رضي الله عنه :« كنت مع رسول الله ﷺ يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، قال : ورسول الله ﷺ على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فحادث بغلته، فمال عن السرج، فقلت ارتفع رفعك الله، قال :» ناولني كفاً من التراب « فناولته قال : فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم تراباً قال :» أين المهاجرين والأنصار «؟ قلتك هم هناك، قال :» اهتف بهم « فهتفت بهم؛ فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم. وعن شيبة بن عثمان قال : رأيت رسول الله ﷺ يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت : عمه ولن يخذله، قال : فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان، فقلت : ابن عمه ولن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا ان أسورة سورة بالسيف، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول الله ﷺ وقال :» يا شيبة يا شيبة ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان « قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليَّ من سمعي وبصري، فقال :» يا شيبة قاتل الكفار «. قال محمد بن إسحاق عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : إنا لمع رسول الله ﷺ يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهودي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة، وفي » صحيح مسلم « قال رسول الله ﷺ :» نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم «، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين ﴾، وقوله :﴿ ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحفوه. وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً، فعند ذلك خيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فردَّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناساً من الطلقاء، لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطى مائة ( مالك بن عوف النضري ) واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها :
وقال ابن مسعود رضي الله عنه :« كنت مع رسول الله ﷺ يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، قال : ورسول الله ﷺ على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فحادث بغلته، فمال عن السرج، فقلت ارتفع رفعك الله، قال :» ناولني كفاً من التراب « فناولته قال : فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم تراباً قال :» أين المهاجرين والأنصار «؟ قلتك هم هناك، قال :» اهتف بهم « فهتفت بهم؛ فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم. وعن شيبة بن عثمان قال : رأيت رسول الله ﷺ يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت : عمه ولن يخذله، قال : فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان، فقلت : ابن عمه ولن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا ان أسورة سورة بالسيف، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول الله ﷺ وقال :» يا شيبة يا شيبة ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان « قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليَّ من سمعي وبصري، فقال :» يا شيبة قاتل الكفار «. قال محمد بن إسحاق عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : إنا لمع رسول الله ﷺ يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهودي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة، وفي » صحيح مسلم « قال رسول الله ﷺ :» نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم «، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين ﴾، وقوله :﴿ ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحفوه. وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً، فعند ذلك خيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فردَّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناساً من الطلقاء، لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطى مائة ( مالك بن عوف النضري ) واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها :