تفسير سورة يونس

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة يونس من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة يونس قيل مكية إلا ثلاث آيات من قوله ﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ﴾ وهي مائة وتسع آيات، وأحد عشر ركوعا.

﴿ الر ﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أي : أنا الله أرى١، ﴿ تلك ﴾ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي، ﴿ آيات الكتاب ﴾ القرآن، ﴿ الحكيم ﴾ المحكم الذي لم ينسخ، أو الحاكم بين الناس أو ذوي الحكم.
١ فال الحسن وعكرمة: "الر" قسم، وقال قتادة: "الر" اسم للسور وقيل غير ذلك، ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن وتفسير بالحدس ولا حجة في شيء من ذلك والحق أن أوائل مثل هذه السورة مما استأثر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم والله أعلم بمراده به وهو سره في كتابه العزيز..
﴿ أكان للناس ﴾ استفهام لإنكار تعجب الكفار ﴿ عجبا ﴾ خبر كان، ﴿ أن أوحينا ﴾ اسم كان، ﴿ إلى رجل منهم ﴾ نزلت حين قال قريش : الله أعظم أن يكون رسوله بشرا مثل محمد يعني ممن لم يكن له رياسة ومال وما يعدونه من أسباب الجلال، ﴿ أن أنذر الناس ﴾، أن مفسرة، ﴿ وبشر الذين آمنوا أن ﴾ أي : بأن، ﴿ لهم قدم صدق١ عند ربهم ﴾، أي : سابقة و أثرة حسنة أجرا حسنا بما قدموا أو سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وذكر الصدق إشارة إلى أن نيل تلك الرفعة بسبب الصدق، ﴿ قال الكافرون إن هذا ﴾ أي : الكتاب، ﴿ لساحر٢ مبين ﴾.
١ في البخاري في كتاب التفسير قال زيد بن أسلم: أن لهم قدم صدق محمد صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: خير.[صحيح البخاري (٨/١٩٦ - فتح)]..
٢ قرأ نافع وأهل البصرة والشام السحر بغير ألف يعنون القرآن وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة لساحر بالألف يعنون محمد صلى الله عليه وسلم/ معالم..
﴿ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ كهذه الأيام أو كل يوم كألف سنة، ﴿ ثم استوى١ على العرش ﴾، الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة، ﴿ يدبر الأمر ﴾ : يقدر أمر الكائنات على مقتضى حكمته، ﴿ ما من شفيع إلا من بعد إذنه٢رد على المشركين أن آلهتهم شفعاء لهم، ﴿ ذلكم الله ﴾ أي : الموصوف بتلك الصفات العظيمة، ﴿ ربكم ﴾ لا غير، ﴿ فاعبدوه ﴾ وحده، ﴿ أفلا تذكرون ﴾ في أمركم أيها المشركون.
١ قال البخاري في صحيحه في كتاب الرد على الجهمية قال أبو العالية: استوى على السماء ارتفع، وقال مجاهد: استوى على العرش علا على العرش وقعت هذه العبارة في النسخة المطبوعة الأحمدي، وقال محي السنة في معالم التنزيل: قال الكلبي ومقاتل: استقر، وقال أبو عبيدة: صعد، وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، فأما أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به وبكل العلم فيه إلى الله عز وجل، وقال أيضا في سورة البقرة تحت قوله تعالى: "ثم استوى السماء" (البقرة: ٢٩)، قال ابن عباس، وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء ونقل الحافظ الذهبي في كتاب العلو عن إسحاق بن راهويه أنه قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: "الرحمن على العرش استوى"، أي: ارتفع ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه قال: "ثم استوى على العرش الرحمن" (طه: ٥)، أي: علا وارتفع، قال الشيخ سلام الله بن الشيخ عبد الحق الدهلوي في حاشية على الجلالين المعروف بالكمالين عن أم سلمة والإمام جعفر الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وروى البيهقي عن أبي حنيفة أن الله في السماء دون الأرض وعنه قال: من أنكر الله في السماء فقد كفر، وقال الشافعي إن الله على عرشه في سماءه يقرب من خلقه كيف شاء، ونزل كيف شاء، وثل ذلك قال أحمد، وقال إسحاق: إنه أجمع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء وهو قول المزني والبخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجه وأبي يعلى والبيهقي وغيرهم من أئمة الحديث، وقال إبراهيم: من الحلية طريقنا طريق السلف المتبعين لكتاب الله والإجماع ومما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملا بجميع صفاته إلى أن قال: إن الأحاديث التي يثبت في العرش والاستواء عليه يقولون بها و يثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأنه بائن من خلقه انتهى ما في الكمالين بلفظه، وقال شيخ الإسلام صفوة العارفين أبو محمد عبد القادر الجيلاني في كتاب الغنيمة الموجود بأيدي الناس: أما معرفة الصانع أن تعرف وتوقن أن الله واحد أحد إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستوي على العرش محيط علمه بالأشياء "إليه يصعد الكلم الطيب" (فاطر: ١٠)، "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه" الآية (السجدة: ٥)، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: ﴿الرحمن على العرش استوي﴾ (طه: ٥)، وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنه استواء الذات على العرش و كونه سبحانه و تعالى على العرش – مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل- بلا كيف وذكر كلاما طولا اختصرته من شاء الاطلاع على تمامه فيرجع إلى كتابه المذكور المطبوع المتداول بين الناس والله يقول الحق وهو يهدي السبيل..
٢ تقرير لعظمته وعز جلاله ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن/ بيضاوي..
﴿ إليه ﴾ لا إلى غيره، ﴿ مرجعكم جميعا ﴾ بالموت، ﴿ وعد الله ﴾ مصدر مؤكد لنفسه، ﴿ حقا ﴾ مصدر مؤكد لغيره، ﴿ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ بعد إهلاكه، ﴿ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ﴾ بعدله لا ينقص من ثوابهم وفضل الله يؤتيه من يشاء وقيل : المراد عدلهم أي إيمانهم فإن الشرك لظلم عظيم، ﴿ والذين كفروا لهم شراب من حميم ﴾ ماء حار انتهى حره، ﴿ وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ﴾ بسبب كفرهم وحاصله ليجزي الذين كفروا بشراب لكن غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعذاب، وللإشارة إلى أن المقصود بالذات من الإعادة هو الإثابة، وأما عقاب الكفرة فشيء ساقه إليهم شؤم أعمالهم وهذا أيضا عدل خصص المؤمنين بذكره لمزيد عناية وبشارة.
﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء ﴾ ذات ضياء، ﴿ والقمر نورا ﴾ أي١ : ذا نور قيل : ما بالذات ضوء وما بالعرض نور، ﴿ وقدره ﴾، أي : مسير القمر٢، ﴿ منازل ﴾ أو قدر القمر ذا منازل٣، ﴿ لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ حساب الشهور والأيام، ﴿ ما خلق الله ذلك ﴾ أي : المذكور، ﴿ إلا ﴾ متلبسا، ﴿ بالحق ﴾ فيه الصنائع والحكم، ﴿ يفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ فإنهم المنتفعون بالتدبر.
١ الضياء أقوى من النور بحكم الوضع والاستعمال ولذا ينسب الضياء إلى الشمس والنور إلى القمر/منه..
٢ فإن المعتبر في الشرع السنة القمرية والشهر القمري/منه..
٣ يعني لابد من تقدير المضاف؛ لأن القمر ليس منازل ثم الظاهر أن المراد بها البروج لا المنازل إذ بها وبقطعها عدد السنين والحساب/منه..
﴿ إن في اختلاف ١ الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ﴾ العواقب فإنهم يحملهم على التدبر.
١ اعلم أن أنه تعالى استدل على التوحيد أولا: بتخليق السماوات والأرض وثانيا: بأحوال الشمس والقمر وثالثا: في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار ورابعا: بكل ما خلق الله في السماوات والأرض /كبير..
﴿ إن ١ الذين لا يرجون ﴾ لا يتوقعون، ﴿ لقاءنا ﴾ لأنهم ينكرون البعث، ﴿ ورضوا بالحياة الدنيا ﴾ من الآخرة، ﴿ واطمأنوا بها ﴾ قصروا هممهم على زخارفها، ﴿ والذين هم عن آياتنا ﴾ الكونية والشرعية، ﴿ غافلون ﴾ فلا يتفكرون فيها ولا يأتمرون بها.
١ ولما قام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر شرع في شرح أحوال من يكفر بها ومن يؤمن بها فقال: "إن الذين لا يرجون" الآية /كبير..
﴿ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ﴾، من المعاصي.
﴿ إن١ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم٢، بسبب إيمانهم إلى الصراط حتى يصلوا إلى الجنة بالسلامة، ﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾ استئناف أو خبر ثان، ﴿ في جنات النعيم ﴾ متعلق بتجري أو حال من الأنهار.
١ لما بين أحوال المنكرين شرع في أحوال المؤمنين فقال: "إن الذين آمنوا" الآية..
٢ قيل: علم من هذا أن المراد من الإيمان المقيد بالعمل الصالح لا مطلق الإيمان ليكون ذكر العمل الصالح مستدركا قلنا إن سلمنا لا يلزم أن من لا يكون مهتديا إلى الجنة لا يدخل الجنة قط ومنع ذلك غاية المكابرة /منه..
﴿ دعواهم ﴾ أي : دعاؤهم، ﴿ فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن ﴾ مخففة من المثقلة، ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ عن كثير١ من السلف أن أهل الجنة كلما اشتهوا شيئا قالوا : سبحانك اللهم فيأتيهم الملك بما يشتهون فيسلم عليهم فيردون عليه، وذلك تحيتهم فإن أكلوا حمدوا الله وذلك و ذلك قوله وآخر دعواهم.
١ ومثل هذا الخبر عن السلف لا يكون إلا مرفوعا/وجيز..
﴿ ولو١ يعجل الله للناس الشر استعجالهم ﴾ تعجيل الله تعالى لهم٢، ﴿ بالخير ﴾ حاصله لو يستجيب دعاءهم بالشر عند الغضب لأهلهم وأولادهم وأموالهم كما يستجيب دعائهم بالخير، ﴿ لقضي إليهم أجلهم ﴾، لأميتوا وأهلكوا لكن بفضله يستجيب دعائهم في الخير سريعا لا في الشر قال بعضهم : نزلت حين قالوا :" اللهم إن كان هذا هو الحق " الآية ( الأنفال : ٣٢ )، ﴿ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ لا يخافون البعث، ﴿ في طغيانهم يعمهون ﴾ تقديره لا نعجلهم و لا نقضي فنذرهم إمهالا واستدراجا.
١ ولما ذكر أنه تعالى بنى الأمور على التدبير لا على التعجيل فإن الثاني من الله والعجلة من الشيطان وهو على كل حال متفضل على المؤمنين في دنياهم ودينهم بين أن عدم استجابة دعاؤهم في بعض الأحيان من جملة التفضيل والتدبير فقل: "لو يعجل الله" الآية/وجيز..
٢ إشارة إلى أن الاستعجال بمعنى التعجيل صفة مصدر محذوف، أي تعجيلا مثل تعجيلهم بالخير كضربت ضرب الأمير/منه..
﴿ وإذا مس١ الإنسان الضر ﴾ المرض والشدة، ﴿ دعانا ﴾ لإزالته ملقيا، ﴿ لجنبه ﴾ أي : مضطجعا، ﴿ أو قاعدا أو قائما ﴾، أي : في جميع حالاته فإن الإنسان لا يهلوا عن إحدى هذه الثلاثة، ﴿ فلما كشفنا عنه ضره مر ﴾ مضى واستمر على طريقته قبل الضر ونسي، ﴿ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾ أي : كأنه لم يطلب منا كشف ضره فحذف ضمير الشأن وخفف، ﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك التزيين، ﴿ زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾ من الانهماك في الملذات والإعراض عن الطاعات.
١ ولما أخبر أن الله لا يعجلهم بالضر وإن استعجلوا فاللائق بحالهم الصبر في البلاء والشكر في النعماء فذكر أنهم على خلاف ذلك فقال: "وإذا مس الإنسان" الآية/وجيز..
﴿ ولقد١ أهلكنا القرون من قبلكم ﴾ يا أهل مكة، ﴿ لما ظلموا ﴾ بتكذيب رسلهم، ﴿ وجاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ الحجج الدالة على صدقهم عطف على ظلموا أو حال بإضمار قد، ﴿ وما كانوا ليؤمنوا ﴾ لأن الله طبع على قلوبهم جزاء على كفرهم، ﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك الجزاء وهو الإهلاك بأفضح وجه، ﴿ نجزي القوم المجرمين ﴾، أي : كل مجرم فاحذروا يا أهل مكة.
١ ولما كان الإمهال لا يستلزم الإهمال أيقظ المعاصرين المسرفين عن رقدة الغفلة بالتأمل في حال نظائرهم فقال: "ولقد أهلكنه" الآية/وجيز..
﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض ﴾ استخلفناكم فيها، ﴿ من بعدهم لننظر كيف تعملون ﴾ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم وكيف حال عن ضمير تعملون.
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ أي : المشركون، ﴿ ائت بقرآن غير هذا ﴾ أي : جيء من عند ربك بكتاب آخر ليس فيه عيب آلهتنا، ﴿ أو بدله ﴾ أنت من عند نفسك بأن تأتي بآية أخرى مكان آية فيها ما نكرهه، ﴿ قل ما يكون ﴾ ما يصح، ﴿ لي أن أبدله من تلقاء نفسي ﴾ من قبل نفسي، ﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ يعني التبديل من قبل نفسي لا يمكنني ومن جهة الوحي موقوف على الوحي لا دخل لي فيه إنما علي إتباعه، ﴿ إني أخاف إن عصيت ربي ﴾ بالتبديل، ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ لما علم من جواب التبديل جواب الإتيان بقرآن آخر اكتفى به عنه.
﴿ قل لو شاء الله ﴾ أن لا أتلوا، ﴿ ما تلوته عليكم ﴾ أي : تلاوته من مشيئة الله تعالى وإرادته فإني رجل أمي تعرفوني، ﴿ ولا أدراكم به ﴾ ولا أعلمكم الله به على لساني ومن قرأ لأدراكم بلام جواب " لو " فإنه عطف على جواب " لو " لا لام الابتداء١ فمعناه لو شاء الله ما تلوه عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري لكنه خصني بهذه المزية ورني أهلا لها دون غيري، ﴿ فقد لبثت فيكم عمرا ﴾ مقدارا أربعين سنة، ﴿ من قبله ﴾ أي : من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعمله، ﴿ أفلا تعقلون٢ إنه لا يكون من قبلي فإني نشأت بين ظهرانيكم وما مارست علما وما شاهدت علما.
١ رد على الزمخشرى فإن لام الابتداء لا يدخل على الماضي/منه..
٢ يعني إن مثل هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتتلمذ ولم يطالع كتابا ولم يمارس مجادلة يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والترتيل وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل فلذلك قال: ﴿أفلا تعقلون﴾ /١٢ كبير..
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ بأن يقول : إنه من عند الله وما هو من عنده، ﴿ أو كذب بآياته ﴾ برسوله و قرآنه ومن تأمل في أمري يظهر له صدقي فلا أحد أظلم منكم، ﴿ إنه لا يفلح المجرمون ﴾.
﴿ ويعبدون١ من دون ما لا يضرهم٢ ولا ينفعهم ﴾ لأنه لا يقدر على ضر ولا نفع فإنه جماد، ﴿ ويقولون هؤلاء ﴾ الأوثان ﴿ شفعاؤنا٣ عند الله ﴾ في أمور دنيانا أو في الآخرة إن يكن بعث، ﴿ قل أتنبئون الله ﴾، تخبرونه، ﴿ بما لا يعلم ﴾، وهو أن له شريكا وأن هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العلم بكل شيء لم يكن له ثبوت بوجه، ﴿ في السماوات ولا في الأرض ﴾، حال من ضمير مقدر في يعلم يرجع إلى ما تأكد لنفيه إذ العرف جار٤ بأن يقال عند تأكيد النفي ليس هذا في السماء ولا في الأرض، ﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾، ما مصدرية أو موصولة.
١ و لما تكلموا بما يجل على جنونهم قال: "أفلا تعقلون"، ثم أثبت لهم ما هو صريح في جنوبهم وما هو إلا من نحو أفعال المجانين فقال: "ويعبدون من دون الله" الآية /وجيز..
٢ واعلم أن العبادة أعظم أنواع الشكر فهي لا تليق إلا بنت صدر عنه أعظم الإنعام وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد، فإذا كان المنافع والمضار كلها من الله سبحانه وتعالى وجب أن لا تليق العبادة إلا بالله سبحانه/كبير.
.

٣ قال الإمام الرازي: اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام أنها شفعاؤنا عند الله وذكر فيه أقوالا إلى أن قال: ورابعها أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا أعظموا قبورهم فإنهم يلونون شفعاء لهم عند الله انتهى ما في التفسير الكبير بلفظه، وقال الشوكاني في نيل الأوطار شرح منتقي الأخبار: اعتقاد الجهلة لها أي: للقبور كاعتقاد الكفار للأصنام، وأعظم من ذلك وظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصد الطلب قضاء الحوائج وملجأ لإنجاح المطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون..
٤ لاعتقاد العامة أن كل ما يوجد فهو إما في السماء وإما في الأرض/منه..
﴿ و ما كان الناس١ إلا أمة واحدة ﴾، بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ﴿ فاختلفوا ﴾، فبعضهم عبدوا الأصنام، ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾، بأنه لا يهلك أحدا بعد قيام الحجة وأن لكل أمة جعل أجلا معينا، ﴿ لقضي بينهم ﴾، عاجلا، ﴿ فيما فيه يختلفون ﴾، فيهلك المبطل ويبقي المحق، قال بعضهم : أي لولا أنه في حكمه أنه لا يقضي بينهم إلا في القيامة لقضي في الدنيا فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار قبل القيامة.
١ ولما بين أن هؤلاء مستحقون للبلاء أول مرة وقد أمهلهم تعرض سبب الإمهال فقال: "وما كان الناس" الآية/وجيز..
﴿ ويقولون ﴾، أهل مكة، ﴿ لولا ﴾، أي هلا، ﴿ أنزل عليه ﴾، على محمد، ﴿ آية من ربه ﴾، مثل الناقة والعصا أو مما اقترحوه من جعل الصقا ذهبا، ﴿ فقل إنما الغيب لله ﴾، أي ما تطلبونه غيب وهو القدر عليه، ﴿ فانتظروا ﴾، لنزول ما تطلبونه، ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ لما يفعل الله بكم.
﴿ وإذا١ أذقنا الناس رحمة٢ كالرخاء والصحة، ﴿ من بعد ضراء مستهم ﴾، كالجدب والمرض، ﴿ إذا لهم مكر في آياتنا ﴾ يختالون في طعنها وتكذيبها وإذا للمفاجأة جواب لإذا الشرطية٣، ﴿ قل الله أسرع مكرا ﴾ منكم بأن يدبر العقاب قيل إن تدبروا المكر والمكر من الله استدراج أو جزا ء على المكر، ﴿ إن رسلنا ﴾ أي : الحفظة من الملائكة، ﴿ يكتبون ما تمكرون ﴾ للمجازاة.
١ ولما كان إجابة مقترحهم من مظنة إيمانهم وهي هين عند الله فكان منتظرا ينتظر ما هو سبب إيمانهم من مقترحهم بين أنهم لانهماكهم في الغي كأسلافهم عير متوقع منهم الإيمان فقال: "وإذا أذقنا الناس" الآية/١٢ وجيز..
٢ وقال بعض المفسرين المراد من رحمة مطر من بعد قحط و جدب..
٣ جواب لإذا الشرطية إذا جعل عامل إذا الجواب كان معنى المفاجأة هو العامل فيه عمل الفعل في الظرف فيصير المعنى فجاءوا في وقت الإذاقة وقت المكر/منه..
﴿ هو١ الذي يسيركم ﴾ يمكنكم من السير ويحفظكم، ﴿ في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك ﴾ في السفن، ﴿ وجرين ﴾ الضمير للفك لأنه جع فلك، ﴿ بهم ﴾ عدل إلى الغيبة٢ للمبالغة كأنه يذكرهم لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ﴿ بريح طيبة وفرحوا بها ﴾ لاستوائها ولينها، ﴿ جاءتها ﴾، أي تلك السفن جواب لإذا، ﴿ ريح عاصف ﴾ أي : ذات عصف يعني شديدة قيل العاصف كالحائض مخصوص بالريح فلذا لم يقل عاصفة أو الريح يذكر ويؤنث، ﴿ وجاءهم الموج من كل مكان ﴾ من جميع الأطراف، ﴿ وظنوا أنهم أحيط٣ بهم ﴾ فلا يمكن لهم الخلاص، ﴿ دعوا الله ﴾ بدل اشتمال من ظنوا أو استئناف جواب ماذا صنعوا بعد هذه الحالة وما قيل هو جواب للشرط وجاءتها حال فليس بشيء، ﴿ مخلصين له٤ الدين ﴾، مفعول مخلصين أي : تركوا الشرك فلم يدعوا إلا الله، ﴿ لئن أنجيتنا ﴾، أي : قائلين أو مفعول دعوا لأنه من جملة القول، ﴿ من هذه ﴾، الريح والشدة، ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾.
١ و لما بين أن الناس إذا أصابهم الضر لجئوا إلى الله و إذا أذاقهم الرحمة عادوا إلى عادتهم وكان المذكور إبرازه في صورة أمر كلي أوضح ذلك بمثال جلي ككاشف عن حقيقة ذاك الكلي فقال: "هو الذي" الآية/ وجيز١٢..
٢ من الخطاب: "بقوله إذا كنتم"/منه..
٣ أي: دنوا من الهلاك وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فحاصره فقد دنا أهله من الهلكة..
٤ قال الرازي: يعني أن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعا إلى الله تعالى، ثم إذا أنجاه الله نسي تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة. وفي الفتح: وفي هذا دليل على أن الخلق جلبوا على الرجوع إلى الله في الشدائد وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرا أو في هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها فيا عجبا لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء به كما فعله المشركون كما تواترت إلينا تواترا يحصل به القطع فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأن وصل بها أهلها و إلى أين رمى بهم الشيطان وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمح في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون/فتح..
﴿ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض ﴾، فأجاءوا الفساد فيها، ﴿ بغير الحق ﴾ لا كتخريب المسلمين ديار الكفر فإنه إفساد بحق، ﴿ يا أيها الناس١ إنما بغيكم٢ على أنفسكم متاع ﴾ منفعة، ﴿ الحياة الدنيا ﴾ لا تبقى ويبقى عقابها وهو خبر بغيكم وعلى أنفسكم متعلق بالبغي أو على أنفسكم خبره أي ما و بال بغيكم إلا على أنفسكم لا يضرون به أحدا غيركم ومتاع خبر محذوف، أي : ذلك متاع و من قرأ بالنصب تقديره يتمتعون متاع، ﴿ ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون٣ بالجزاء عليه.
١ الظاهر أنه خطاب عام يندرج الذين أنجاهم الله فيهم..
٢ وعند ابن مردويه حديث مرفوع "لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي منهما" كذا في الفتح [رواه البخاري في الأدب الفرد وأبو نعيم عن بن عبا س موقوفا، ورواه ابن مردويه عن الأعمش مرفوعا. قال ابن أبي حاتم: والموقوف أصح، كما في كشف الخفاء للعجلوني (١//١٨١) بتحقيقي]. و كان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يا صاحب البغي إن البغي فارجع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل ** لاندك منه أعاليه و أسفله
نقله الرازي في الكبير..

٣ أما العدول من الخطاب في قوله: "إذا كنتم" إلى الغيبة في قوله: "وجرين بهم" فقيل: للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم من تلك الحال، وقيل: حكمه الالتفات أن خطاب هو الذي يسيركم امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين الشاملين لمؤمن وكافر وحسن خطابهم ليستديم الصالح الشكر ولعل الطالح يذكر فيرجع فلما آل الحال إلى أن المتلبس بالنعمة باغ في الأرض عدل من الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون مخاطبين بصدور التي آخرها البغي ولما قال: "البغي متاع الحياة الدنيا" قال: "إنما مثل الحياة الدنيا"/وجيز.
.

﴿ إنما مثل الحياة الدنيا ﴾ في سرعة تقضيها واغترار الناس بها، ﴿ كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ﴾ أي : بسببه اشتبك نبات الأرض حتى خالط بعضه بعضا، ﴿ مما يأكل الناس ﴾ من الزرع والبقل، ﴿ والأنعام ﴾ من الحشيش ﴿ حتى أخذت الأرض زخرفها وازينت ﴾ كعروس أخذت ألوان ثيابها وحيلها فتزينت بها وأصل ازينت تزينت فأدغم، ﴿ وظن أهلها ﴾ أهل الأرض، ﴿ أنهم قادرون عليها ﴾ متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، ﴿ آتاها أمرها ﴾ وهو ضرب زرعها ببعض العاهات، ﴿ ليلا أو نهارا فجعلناها ﴾ أي زرعنا، ﴿ حصيدا ﴾ شبيها بما حصد، ﴿ كأن لم تعن ﴾ أي : كأن لم يلبث ولم يكن زرعها على حذق المضاف، ﴿ بالأمس ﴾ والأمس مثل في الوقت القريب يعني المتسبب بالدنيا المغرور بها يأتيه عذابه أغفل ما يكون ومضمون الحكاية١ وهو الممثل٢ لا الماء وحده، ﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك التبيين، ﴿ نفصل الآيات لقوم يتفكرون ﴾ فإنهم المنتفعون بها.
١ وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما بعدما التف وزين الأرض حتى طمع فيها أهلها وظنوا أنهم حصلوها سالمة عن الحوائج..
٢ أي: ليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله: "كماء"؛ بل ما يفهم من الكلام..
﴿ والله ١ يدعوا إلى دار السلام ﴾ هي الجنة والسلام من أسماء الله تعالى أو دار السلامة من الآفات أو دار تحيتها سلام يسلم الملائكة على من فيها، ﴿ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ بأن يوفقه على التقوى الذي هو طريق الجنة فالدعوة عام والهداية خاص.
١ ولما ذكر مثل الحياة الدنيا وما يئول إليه من الفناء وما تضمنته من الآفات بين أنه سبحانه داع إلى دار سلامة وآمن فقال: "والله يدعوا"/ وجير..
﴿ للذين١ أحسنوا ﴾ العمل في الدنيا، ﴿ الحسنى ﴾ الجنة، ﴿ وزيادة ﴾ النظر٢ إلى وجه الله الكريم وهو قول أبي بكر الصديق وكثير السلف رضي الله عنهم وعليه أحاديث كثيرة أحدها في صحيح مسلم وابن ماجه لكن من يضلل الله من العباد فماله من هاد أو الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر أو الزيادة الرضوان، ﴿ ولا يرهق ﴾ لا يغشى، ﴿ وجوههم قتر ﴾ غبار أي سواد، ﴿ ولا ذلة ﴾ هوان وكآبة ؛ بل لقاهم نضرة وسرورا، ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون٣.
١ لما كان الدعاء عاما لم يتقيد بالمشيئة والهداية خاصة تقيدت بها علم أنهم فريقان أهل التقوى والهداية وأهل الضلال والغواية فبين مآلهما وقال: (اللذين أحسنوا)/ وجيز..
٢ فسره بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم وابن ماجه والترمذي و مسند أحمد وهو قول أكابر الصحابة/ وجيز..
٣ وفيها ظرف خالدون والتقديم رعاية للفاصلة أو فيها خبر وخالدون خبر بعده/ وجيز..
﴿ والذين كسبوا السيئات ﴾ مبتدأ بتقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات، ﴿ جزاء سيئة بمثلها ﴾ لا يزاد عليها شيء أو عطف على الذين أحسنوا، أي : للذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها كقولك : في الدار زيد والحجرة عمرو عند من يجوزه، ﴿ وترهقهم ﴾ تغشاهم، ﴿ ذلة ما لهم من الله من عاصم ﴾ يعصمهم ويحميهم، ﴿ كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ﴾ لكمال سوادها ومظلما حال من الليل وهو صفة لقطعا ومن قرأ بسكون الطاء فلأولى مظلما صفة، ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ والآية في الكفار قسيم المؤمنين المر من قوله للذين أحسنوا.
﴿ ويوم ﴾ بتقدير اذكر، ﴿ نحشرهم جميعا ﴾ المؤمن والكافر، ﴿ ثم نقول للذين أشركوا ﴾ ألزموا، ﴿ مكانكم أنتم ﴾ تأكيد للضمير المنتقل إلى مكانكم من عامله، ﴿ وشركاؤكم ﴾ أي الأوثان، ﴿ فزيلنا ﴾ فرقنا، ﴿ بينهم ﴾ وقطعنا ما كان بينهم من التواصل، ﴿ وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ﴾ ينطق الله الأصنام فينكرون عبادتهم ويتبرأون منهم مكان شفاعتهم.
﴿ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن ﴾ أي أنه١، ﴿ كنا عن عبادتكم لغافلين ﴾ لأنا كنا جمادا لا نعلم ولا نشعر فما أمرناكم بها ولو رضينا منكم بها.
١ قال المفسرون: إن تكون بمعنى لقد..
﴿ هنالك ﴾ في ذلك المقام، ﴿ تبلو ﴾ تخبر وتعلم، ﴿ كل نفس ما أسلفت ﴾ من عمل فتعاين نفعه وضره ومن قرأ تتلو فهو من التلاوة أي تقرأ أو من التلو أي : تتبع عمله قال بعضهم : تتبع كل أمة ما كانت تعبد، ﴿ وردوا ﴾ أي : أمرهم، ﴿ إلى الله مولاهم الحق ﴾ متولي أمورهم بالحقيقة لا ما اتخذوه مولى بالباطل، ﴿ وضل عنهم ﴾ ضاع وبطل، ﴿ ما كانوا يفترون ﴾ فيعبدونه من دون الله.
﴿ قل من١ يرزقكم من السماء ﴾ بالمطر، ﴿ والأرض ﴾ بنبات قيل : تقديره من أهل السماء والأرض، ﴿ أمن يملك السمع والأبصار ﴾ أي : من يملك خلقهما أو حفظهما من الآفات، ، ﴿ ومن يخرج الحي ﴾ الحيوان، ﴿ من الميت ﴾ النطفة، ﴿ ويخرج الميت ﴾ النطفة، ﴿ من الحي ﴾ الحيوان وقيل : من يحي ويميت، ﴿ ومن يدبر الأمر ﴾ يلي تدبير أمر العالم، ﴿ فسيقولون الله ﴾ إذ الأمر أوضح من أن ينكر، ﴿ فقل أفلا تتقون ﴾ الشرك مع هذا الإقرار.
١ ولما بين فضائح عبدة الأوثان اتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد معتقدهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به فقال: "قل من يرزقكم" الخ/وجيز..
﴿ فذلكم ﴾ إشارة إلى من هذه قدرته، ﴿ الله ربكم الحق ﴾ لا ما جعلتم معه شريكا أخبار مترادفة١، ﴿ فماذا بعد٢ الحق إلا الضلال ﴾ أي : ليس بعد الحف إلا الضلال، ﴿ فأنى تصرفون ﴾ عن الحق إلى الضلال وعن عبادته إلى عبادة غيره.
١ لأن الله علم لا يمكن أن يجعل صفة ذلكم/ وجيز..
٢ ماذا استفهام معناه النفي وهو مبتدأ أو الخبر بعد الحق/وجيز..
﴿ كذلك ﴾، أي : كما حق أن بعد الحق الضلال أو أنهم مصروفون عن الحق، ﴿ حقت كلمت ربك ﴾ أي : حكمه السابق، ﴿ على الذين فسقوا ﴾ تمردوا في كفرهم، ﴿ أنهم لا يؤمنون ﴾ بدل من كلمة، وقيل تقديره : لأنهم لا يؤمنون فالمراد منها كلمة العذاب.
﴿ قل هل١ من شركائكم ﴾ أي : آلهتكم، ﴿ من يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ أدخل الإعادة في الإلزام وإن لم يكونوا قائلين بها لظهور برهانها، ﴿ قل الله يبدّأ الخلق ثم يعيده ﴾ وأنتم تعلمون أن شركاءكم لا يقدرون على مثل هذا، ﴿ فأنى تؤفكون ﴾ تصرفون عن سواء السبيل.
١ هل تكون لاستفهام ويدخلها من معنى التقرير والتوبيخ ما يدخل الألف التي يستفهم بها..
﴿ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق ﴾ والهداية كما يعدى بإلى يعدي باللام، ﴿ أمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ﴾ أمره وحكمه، ﴿ أمن لا يهدي ﴾ أصله يهتدي فأدغم وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، ﴿ إلا أن١ يهدى ﴾، الهداية قد تجيء بمعنى النقل٢ أي الأوثان لا ينتقل من مكان إلا أن ينقل أو يكون هذا حال أشرف شركائهم كالملك والمسيح أو لا يصح منه الاهتداء إلا أن يهديه الله بأن يجعل الجماد حيوانا علما، ﴿ فما لكم كيف تحكمون٣ بما يبطله العقل بتا.
١ معناه أن للمشركين شركاء بعضهم جماد كالحجر والنجوم وبعضهم عقلاء كالملك وعيسى وعزير وحال أشرف شركائهم أنهم لا يهتدوا إلا بان يهدى فكيف حال غير الأشرف.
.

٢ نحو هديت العروس إلى بيت زوجه نقله محي السنة عن بعض كبار السلف، قيل: وما أحسن قوله إن قوله أحق من باب التهكم فإن أصنامهم ليست مستحقة بوجه للعبادة/وجيز..
٣ ولما أثبت لهم الحجج البينة على بطلان ما هم عليه ولم ينفع وهم على الضلال القديم بين سبب ذلك فقال: "وما يتبع أكثرهم إلا ظنا"/وجيز..
﴿ وما١ يتبع أكثرهم إلا ظنا ﴾ مستندا إلى خيال باطل ووهم زائل والمراد من الأكثر الجميع أو المراد رؤساؤهم فإن السفلة مقلدون ليس لهم ظن أيضا، ﴿ إن الظن لا يعني من الحق شيئا ﴾ أي : لا يقوم مقام العلم فالمراد من الحق العلم، وشيئا مفعول مطلق به، ومن الحق حال قيل معناه : الظن لا يدفع من عذاب الحق شيئا، ﴿ إن الله عليم بما يفعلون ﴾ تهديد ووعيد.
١ أي ما يتبع هؤلاء المشركين في إشراكهم بالله وجعلهم له أندادا إلا مجرد الظن والتخمين والتحدس، ولم يكن ذلك عن بصيرة والتفات إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على مقتضاها وبطلان ما يخالفها؛ بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله وأنها تشفع لهم ولم يكن لظنهم هذا مستند قط بل مجرد خيال مختل وحدس باطل فقلدوا فيه آباءهم وما أحسن ما فال الرازي في هذه السورة تحت قوله تعالى: "ويقولون هؤلاء شفعاءنا عند الله" (يونس: ١٨ )، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله.
.

﴿ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ﴾ أي : ما صح أن يكون القرآن مفترى من الخلق وهذا محال، ﴿ ولكن ﴾ : كان، ﴿ تصديق الذي بين يديه ﴾ من الكتب المتقدمة، ﴿ وتفصيل الكتاب ﴾ تبيين ما كتب وفرض من الشرائع، ﴿ لا ريب فيه ﴾ خبر ثالث أو حال أو استئناف، ﴿ من رب١ العالمين ﴾ خبر آخر أو حال.
١ منزل من رب العالمين لتربيتهم/ وجيز..
﴿ أم يقولون ﴾ بل أيقولون، ﴿ افتراه ﴾ محمد والهمزة للإنكار، ﴿ قل فأتوا بسورة مثله ﴾ في البلاغة على وجه الافتراء، ﴿ وادعوا ﴾ إلى معونتكم على المعارضة، ﴿ من استطعتم ﴾ من الجن والإنس، ﴿ من دون الله ﴾ سوى الله تعالى فإنه القادر على ذلك متعلق بادعوا لا باستطعتم، ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أنه من عند نفسه فإنه بشر مثلكم بل تمرنكم في النظم والنثر أكثر فإنه أمي.
﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ﴾ يعني لما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها١ سارعوا بجهلهم إلى التكذيب٢، ﴿ ولما يأتهم ﴾ بعد، ﴿ تأويله ﴾ فإنهم إن صبروا يظهر لهم بالآخرة تأويله، لكن فأجاءوا الإنكار قبل أن يقضوا على تأويله، ﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم ﴾ رسلهم، ﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ فيه وعيد لهم بمثل عقاب الأمم السالفة.
١ وهكذا صنع من تصلب في التقليد ولم يبال بما جاء به من دعي إلى الحق وتمسك بذيول الأنصاف بل يرده بمجرد كونه لم يوافق هواه، ولا جاء طبق دعواه قبل أن يعرف معناه، ويعلم مبناه كما تراه عيانا وتعلمه وجدانا والحاصل أن من كذب بالجنة النيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلا، إنما كذب به غير عالم به فكان بهذا التكذيب مناديا على نفسه بالجهل بأعلى صوت ومسجلا بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء:
﴿ ومنهم ﴾ من المكذبين، ﴿ من يؤمن به ﴾ بعد ذلك، ﴿ ومنهم من لا يؤمن به ﴾ بل يموت على الكفر، ﴿ وربك أعلم بالمفسدين ﴾ المصرين وقيل : معناه بعضهم من يصدقه باطنا لكن يعاند، وبعضهم لا يعلم صدقه لغباوة وأنا أعلم بالمعاند.
﴿ وإن كذبوك ﴾ أصروا على تكذيبك١، ﴿ فقل لي عملي ولكم عملكم ﴾ أي : لي الإيمان ولكم الشرك أو لكل جزاء عمله، يعني تبرأ منهم فقد أعذرت، ﴿ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ﴾ من الطاعة، ﴿ وأنا بريء مما تعملون ﴾ من المعاصي أو لا تؤخذون بعملي ولا أو خذ بعملكم، قال بعضهم الآية منسوخة بآية السيف٢.
١ فسرنا بقولنا أصروا لأن أصل التكذيب حاصل مع أن الجزاء أعني التبري منهم إنما يلاءم الإصرار واليأس من الإجابة /منه..
٢ فيه بحث لأنه لا تدل إلا على أنه – صلى الله عليه وسلم - يتبرى منهم ولا يتعب نفسه في هذا كما يدل على ذلك الآية التي بعدها ولا يدل على عدم التعرض بهم فتأمل/منه..
﴿ ومنهم من يستمعون إليك ﴾ إذا قرأت القرآن لكن لا يقبلون، ﴿ أفأنت تسمع الصم ﴾ يعني : أتطمع أن تسمع الأطروش فإنهم بمنزلته في عدم وحيه، ﴿ ولو كانوا لا يعلقون ﴾ أي : ولو انضم إلى صممهم عدم العقل فإن الأصم العاقل ربما يتفرس.
﴿ ومنهم من ينظر إليك ﴾ ويعاينون أدلة صدقك لكن لا يصدقون، ﴿ أفأنت تهدي العمى ﴾ أتطمع أنك تقدر على هداية فاقد البصر، ﴿ ولو كانوا لا يبصرون ﴾ وإن انضم إليه عدم البصيرة فإن العمى مع الحمق جهد البلاء، والآية كالتعليل للأمر بالتبري.
﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ﴾، من الظلم١ بأن يشقيهم وهم مصلحون، ﴿ ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾ بارتكاب أسباب الشقوة وتفويت منافع العقول أو معناه ما يحيق بهم في الآخرة عدل الله تعالى لأنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه فعلى هذا وعيدا لهم.
١ أشار بقوله من الظلم أن شيئا مفعول مطلق..
﴿ ويوم١ يحشرهم كأن لم ﴾ أي : كأنه لم، ﴿ يلبثوا إلا ساعة من النهار ﴾، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبر لهول المحشر وكأن لم يلبثوا حال أي : مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، ﴿ يتعارفون بينهم ﴾ يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا وهو متعلق الظرف أعني يوم نحشرهم أو تقديره اذكر يوم نحشرهم وعلى هذا يتعارفون بيان لقوله لم يلبثوا، ﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ﴾ هي شهادة من الله على خسرانهم٢، ﴿ و ما كانوا مهتدين ﴾ لرعاية مصالح هذه التجارة.
١ ولما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم دالا على أنهم لا يرون حشرا نعيما وراء نعيم هذه الدار فارغين عن نوازل الحدثان مستطيلين للزمان آمنين من الفناء حسن تعقيبه بما يستقصرون مع مدة لبثهم في الدنيا فقال: "ويوم نحشرهم" الآية/وجيز..
٢ و لما أوعد بخسرانهم وعدم اهتدائهم وهم في عافية في دنياهم صارت النفوس كأنها منتظرة في إنما يترتب على الوعيد هو في الدنيا نراه عن قريب فقال: "ومانرينك" الآية/وجيز..
﴿ وإما نرينك١ بعض الذي نعدهم ﴾ أي : ننتقم في حياتك لتقر عينك وجوابه محذوف، أي : فذاك، ﴿ أو نتوفينك ﴾ قبل أن نريكه، ﴿ فإلينا مرجعهم ﴾ فنريكه في الآخرة وهو جواب نتوفينك، ﴿ ثم الله شهيد على ما يفعلون ﴾ فيعاقبهم ويجازيهم إن لم ننتقم في الدنيا ننتقم منهم في الآخرة.
١ أي: وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر..
﴿ ولكل١ أمة رسول ﴾ يدعوهم إلى الحق، ﴿ فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط ﴾ بالعدل وهو هلاك من كذبه ونجاة من تبعه أو لكل أمة٢ يوم القيامة رسول فإذا جاء رسولهم الموقف قضي بينهم بالعدل، ﴿ و هم لا يظلمون ﴾، فلا ينقص ثوابهم ولا نأخذهم بغير ذنب.
١ ولما ذكر حاله – صلى الله عليه وسلم- مع قومه أخذ يبين أن حال جميع الأمم مع الرسل كذلك فقال: "ولكل أمة رسول" الآية /وجيز..
٢ هو قول مجاهد رضي الله عنه..
﴿ ويقولون١، أي المشركون استهزاء واستبعادا، ﴿ متى هذا الوعد ﴾ الذي تعدوننا من العذاب، ﴿ إن كنتم ﴾ أيها الرسول وأتباعه، ﴿ صادقين ﴾.
١ ولما سمعوا أمر وعيدهم بأنه متعين الوقوع استهزءوا فقال تعالى: "ويقولون" الآية / وجيز..
﴿ قل لا أملك لنفسي ضرا و لا نفعا ﴾ فكيف أملك لكم فأستعجل في عذابكم، ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ أن أملكه أو منقطع، أي : لكن ما شاء الله من ذلك كائن، ﴿ لكل أمة أجل ﴾ مضروب لهلاكهم، ﴿ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ لا يتأخرون ولا يتقدمون.
﴿ قل أرأيتم ﴾ أي : أعلمتم أو أخبروني، ﴿ إن أتاكم عذابه بياتا ﴾ وقت بيات، ﴿ أو نهارا ﴾ وقت اشتغالكم بطلب المعاش، ﴿ ما ذا يستعجل منه المجرمون ﴾ متعلق بأرأيتم ومعناه التعجب والتهويل يعني أعلمتم إن أتاكم عذابه في حين غفلة أي شيء هول شديد يستعجلون من الله تعالى وإذا كان ضمير منه للعذاب فمن للبيان وهذا كقولك : أعلمت ماذا جنيت ؟ و جواب الشرط محذوف١ يدل عليه أعلمتم أي شيء يستعجلون، وعدل عن الخطاب في يستعجلون إلى ذكر فاعله لإفادة أن تعلق الحكم باعتبار وصف الإجرام أو ماذا يستعجل جواب كقولك : إن لقيت أسدا ماذا تصنع ؟ ومجموع الشرط والجزاء متعلق بأرأيتم أو الاستفهام ليس للتعجب فحاصله أن العذاب كله مكروه فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال.
١ وهو ندموا على الاستعجال أو عرفوا خطأه وأمثال ذلك /منه..
﴿ أثم إذا ما وقع آمنتم به ﴾ الهمزة للتوبيخ والتقريع يعني إذا نزل العذاب آمنتم به، ﴿ الآن ﴾ بتقدير القول أي : قيل لهم بعدما نزل العذاب وآمنوا الآن آمنتم فهو استئناف أو بدل من آمنتم أو من إذا ما وقع إلى آخره، ﴿ وقد كنتم به تستعجلون ﴾.
﴿ ثم قيل ﴾، عطف على قيل المقدر، ﴿ للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ﴾ في الدنيا فلا ظلم.
﴿ ويستنبئونك ﴾، يستخبرونك، ﴿ أحق هو ﴾، ما تقول من البعث والقيامة أو العذاب وفي إعرابه وجهان كأقائم زيد قيل الهمزة للإنكار والسخرية، ﴿ قل إي ﴾، بمعنى نعم ويلزمها القسم، ﴿ وربي إنه لحق ﴾، كائن ثابت، ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾، أي : ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله تعالى عن إعادتكم أو بفائتين العذاب.
﴿ ولو أن ﴾ تحقق وثبت، ﴿ لكل نفس ظلمت ﴾، بالشرك، ﴿ ما في الأرض ﴾، من الخزائن، ﴿ لافتدت به ﴾، لجعلته فدية لها من العذاب، ﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ﴾، أي : أظهروا١ الندامة أو اخفي رؤساءهم الندامة من سفلتهم حذرا من تعييرهم أو أخفوا لأنهم لم يقدروا أن ينطقوا لشدة الأمر، ﴿ وقضي بينهم ﴾ بين المؤمنين والكافرين، أو بين الرؤساء والأتباع، ﴿ بالقسط وهم لا يظلمون ﴾.
١ من قولهم: أسر الشيء أظهره /منه..
﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ فيقدر على العقاب والإثابة، ﴿ ألا إن وعد الله حق ﴾ لا خلاف فيه، ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ لغفلتهم وقصور عقلهم.
﴿ هو يحيي ويميت ﴾ في الدنيا، ﴿ وإليه ترجعون ﴾ بالنشور.
﴿ يا أيها الناس١ قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴾ زجر عن الفواحش، ﴿ وشفاء لما في الصدور ﴾ من سوء الاعتقاد والشكوك، ﴿ وهدى ﴾ إلى الحق، ﴿ ورحمة للمؤمنين ﴾ فيه حصل لهم النجاة من الظلمات إلى النور.
١ ولما ذكر وفصل وأشبع الأدلة الوحدانية بين دليل صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو القرآن فقال: "يا أيها الناس" الآية/ وجيز..
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾١ أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فيفرحوا فحذف أحد الفعلين لدلالة الباقي عليه والفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوا الفضل والرحمة بالفرح فإنه لا مفروحا به أحق منهما، أو تقديره قد جاءتكم موعظة بفضل الله تعالى وبرحمته فبمجيئها فليفرحوا، أو الفضل الإيمان أو القرآن الإسلام ورحمته القرآن أو أنه صيرنا من أهل القرآن أو السنن أو الجنة، ﴿ هو خير مما يجمعون ﴾، من حطام الدنيا.
١ وفائدة التكرير والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا/منه..
﴿ قل أراءيتم١ ما أنزل الله ﴾، ما مفعول أرأيتم، أي : أخبرونيه، ﴿ لكم من رزق ﴾، الرزق مقدر من٢ السماء محصل بأسباب منها، ﴿ فجعلتم منه حراما وحلالا ﴾، المراد ما حرم المشركين من البحائر والسوائب والوسائل، وأحلوا من الميتة وغيرها، ﴿ قل الله أذن لكم ﴾، بالتحليل والتحريم، ﴿ أم على الله تفترون٣، في نسبة ذلك إليه قيل الهمزة٤ للإنكار، وأم منقطعة.
١ ولما من علينا بإنزال القرآن المشتمل على التحليل والتحريم بين فساد شرائعهم وأحكامهم فقال: "قل أريتم" الآية/وجيز..
٢ فلذلك قال أنزل..
٣ وفي هذه الآية الشريفة ما يصل مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته بالتحليل والتحريم مع كونهم مقلدين لا يعقلون حجج الله ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من الأمة قد قلدوه في دينهم وجعلوه شارعا مستقلا ما عمل به من الكتاب والسنة فهو معمول به عندهم وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد مع كون من قلدوا متعبدا بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه دليلا معمولا به وقد أخطئوا في هذا خطأ بينا غلطوا غلطا فاحشا فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليدا له واقتداء به، و ما جاء به المقلد في تقويم هذا الباطل فهو من الجهل العاطل، قال النسفي: الآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل عن الأحكام وباعثه على وجوب الاحتياط فيه وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان وإلا فهو مفتر على الديان ثم قال: "وما ظن الذين" الآية/ فتح البيان في مقاصد القرآن..
٤ وعلى المعنى الذي فسرنا أم متصلة..
﴿ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ﴾ أي : شيء ظنهم١ في ذلك اليوم أيحسبون أن لا يجازوا عليه وفي إبهام الوعيد تهديد شديد، ﴿ إن الله لذو فضل على الناس ﴾ حيث لا يستعجل عقوبتهم أو فيما أباح لهم المنافع ولم يحرم عليهم المضار، ﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ هذه٢ النعمة فيحرمون فيحللون بمقتضى هواهم.
١ في ذلك إشارة إلى أن يوم القيامة ظرف لظن لا ليفترون..
٢ ولما أظهر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم ورد عليهم ومجادلة الرسول لهم وفضله على الخلق وعدم شكر أكثرهم ذكر اطلاعه على أحوالهم للتنبيه والتأديب وأبصر في مقاسات الأعداء كما قال: "واصبر لحكم ربك فإنك بأعيينا" (الطور: ٤٨) فقال: "وما تكون في شأن" الآية/ وجيز..
﴿ ما تكون في شأن ﴾ ما نافية والشأن الأمر والخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿ و ما تتلوا مِنْهُ ﴾ الضمير لله وقيل للشأن، ﴿ من قرآن ﴾ من مزيدة للنفي وقيل : للتبعيض، ﴿ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ﴾ خطاب له ولأمته، ﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ﴾ رقباء مطلعين عليها، ﴿ إِذْ تُفِيضُونَ ﴾ تخوضون، ﴿ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ ﴾ لا يبعد ويغيب، ﴿ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾ موازن نملة صغيرة أ وهباء١، ﴿ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴾ أي : في الوجود فإن العوام لا يعرفون إلا ما فيهما، ﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ ِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ جملة برأسها مقررة لما سبق و( أصغر ) اسم ( لا ) و( في كتاب ) خبره.
١ يعني الذرة الصغيرة أم الهباء..
﴿ أَلا إِنَّ١ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ حين يخاف الناس عقاب الله، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على فوات مأمول.
١ ولما بين أن المخاطبين فريقان وأعلم أن الفريق الذين هم الأكثرون غير شاكرين توجه الخاطر إلى العلم بحال القليل الذين هم شاكرون فقال: ﴿ألا إن أولياء الله﴾ إلخ/ وجيز.
.

﴿ الَّذِينَ آمنوا وَكَانُواْ يتقون١ بيان لأولياء الله.
١ وقد أكثر أهل العلم من المتكلمين والصوفية وغيرهم في تعريف الولي ووصفه وأطالوا المقالات في ذلك بما لا حاجة إليه، وهذه الآية تغني عنها وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، والحاصل أن ولي الله من كان آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل وبالأعمال الصالحة على وفق السنة المطهرة، وعن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله وأن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكرى وأذكر بذكرهم" أخرجه أحمد وغيره [أخرجه أحمد (٣/٤٣٠)، وقال الهيثمي في "المجمع"، (١/٨٩): رواه أحمد وفيه راشدين بن سعد وهو "منقطع ضعيف"]، وفي رواية لأحمد (خيار عباد الله الذين إذا رءوا ذكر الله) الحديث [أخرجه أحمد (٤/٢٢٧) بسند ضعيف أيضا]، وفي رواية الحكيم الترمذي (خياركم من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه و رغبكم في الآخرة عمله)/فتح. [ضعيف، وانظر الدر المنثور(٣/٣١٠)].
.

﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا ﴾ الرؤيا١ الحسنة٢ هي البشرى يراها المسلم ويرى له، وقال بعضهم : هي بشرى الملائكة عند احتضاره بالجنة وعن الحسن هي ما يبشر الله تعالى المؤمنين في كتابه من جنته ونعيمه، ﴿ و في الآخرة ﴾ الجنة ورضوان الله تعالى قال بعضهم : المراد بشارة الملائكة في القبر، ﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ﴾ لا إخلاف في مواعيده، ﴿ ذلك ﴾ أي : كونهم مبشرين في الدارين، ﴿ هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
١ وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات وأنها جزء من أجزاء النبوة ولكنها لم تقيد بتفسير هذه الآية إلا ما رواه رجل مجهول عن أبي الدرداء مرفوعا/فتح..
٢ هكذا فسره رسول الله – صلى الله عليه وسلم - رواه الإمام أحمد وابن جرير وغيرهما وكذا فسره ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة و مجاهد وعروة وغير واحد/١٢..
﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ إشراكهم وتكذيبهم، ﴿ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ١ جَمِيعًا ﴾ استئناف بمعنى التعليل كأنه قال : لا تحزن ؛ لأن العزة كلها ملك له و لا يملكها إلا لمن ارتضى، ﴿ هو السميع ﴾ لأقوالهم، ﴿ العليم ﴾ لنياتهم فيجازيهم ويكافئهم.
١ فهو يعزك بغلبتك عليهم ويذلهم..
﴿ ألا إن١ لله ﴾ ملكا وخلقا، ﴿ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ ﴾ من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف المخلوقات، فكيف بالجمادات وهو كمقدمة ودليل على قوله :﴿ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء ﴾ ما نافية، أي : ما يتبعون شركاء على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء، ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنّ ﴾ أو ما استفهامية وعلى هذا شركاء مفعول يدعون، أي : شيء يتبعون، وقيل : ما موصولة عطف على من في السماوات٢، ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ يكذبون أو يحرزون٣ حرزا باطلا.
١ وفي الآية نفي عباد البشر والملائكة والجمادات؛ لأنهم عبدوا الملوك وتركوا المالك ولهذا عقبه بقوله: "وما يتبع الذين" إلخ/فتح..
٢ كأنه قيل والله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي: وله شركاؤهم/منه..
٣ أي: يقدرون أن له شركاء تقديرا باطلا/منه..
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ لتستريحوا من نصب النهار، ﴿ والنهار مبصرا ﴾ مضيئا تبصرون فيه مكاسبكم فكيف جاز عبادة غيره، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍي َيسْمَعُونَ١ لا للصم الذين لا يسمعون سماع انتفاع.
١ ولما ذكر أنهم يتبعون الظن بين أن من ظنهم الباطل: "قالوا اتخذ الله ولدا"/وجيز..
﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا ﴾ كما قالوا الملائكة بنات الله، ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ تنزيه على التبني وتعجب عن حماقتهم، ﴿ هُوَ الْغَنِيُّ ﴾ واتخاذ الولد مسبب عن الحاجة، ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ مقرر لغناه، ﴿ إ نْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا ﴾ أي : ليس١ عندكم دليل بهذا، بل أنتم تابعون للجهالة، ﴿ أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فيه تهديد شديد ووعيد أكيد.
١ هو علة لتتريهه عن الولد/منه..
﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ في الدنيا والآخرة.
﴿ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ﴾ لهم متاع قليل في الدنيا أو الافتراء١ متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم، ﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ بالموت، ﴿ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ بسبب كفرهم.
١ يعني متاع إما مبتدأ محذوف الخبر وإما خبر حذف مبتدؤه/منه..
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ١ نَبَأَ نُوحٍ ﴾ حاله مع قومه، ﴿ إذ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم ﴾ عظم وشق عليكم، ﴿ مَّقَامِي ﴾ بين أظهركم، ﴿ وَتَذْكِيرِي ﴾ إياكم، ﴿ بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ٢ تَوَكَّلْتُ ﴾ قال بعضهم : جواب الشرط هو قوله فأجمعوا إلخ، وقوله ( فعلى الله توكلت ) معترضة بين الشرط والجزاء، ﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ ﴾ من أجمع الأمر إذا قصده وعزم عليه، ﴿ وَشُرَكَاءكُمْ ﴾ الواو بمعنى٣ مع أي : اعزموا أنتم وشركاؤكم الذين تزعمون أن لهم اختيارا وأثبتم الربوبية لهم على كيدي وإهلاكي فإني متوكل لا أبالي ولا أخاف، ﴿ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ﴾ مبهما مستورا ليكن مكشوفا تجاهروني به وحاصله لتجاهدوا في كيدي وإهلاكي كل غاية في المكاشفة والهجرة، ﴿ ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ﴾ أدو إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي ووجهوا كل الشرور إلي، ﴿ وَلاَ تُنظِرُونِ ﴾ ولا تمهلوني.
١ ولما فصل الدلائل على وحدانيته وذكر ما جرى بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين الكفار ذكر قصص الأنبياء وما جرى لهم بين قومهم تسلية لقلب نبيه وعبرة بمن جحده فقال: {واتل عليهم) إلخ/ وجيز..
٢ فيه إشارة إلى أن الظاهر أن قوله فعلى الله جواب الشرط وقوله فأجمعوا مرتب عليه مسبب عنه فتأمل / منه..
٣ يعني يصب شركاءكم على مفعول معه ويؤيده قراءة الرفع قيل: تقديره دعوا شركاءكم / منه..
﴿ فإن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أعرضتم عن تذكيري، ﴿ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر ﴾ حتى يكون إعراضهم ضرا١ ونقصا علي، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ﴾ فليس إعراضكم إلا نقصا وضرا عليكم، أو معناه إن أعرضتم فما هو إلا لتمردكم وعنادكم لا لتقصير وتفريط مني، فإني ما سألت منكم أجرا ينفركم عني وتتهموني لأجله، ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ المسلمين لأمر الله.
١ حتى يفوت ذلك الأجر حين ما توليتم، بل ما كان النصح والتذكير إلا لأجلكم فما تركتم هو نفعكم وفي بيان هذه الحكاية تشجيع لقلب أشرف رسله – صلى الله عليه وسلم - وتوعد لمن كفر به وضرب مثال لهم..
﴿ فَكَذَّبُوه ﴾ أصروا على تكذيبه، ﴿ فَنَجَّيْنَاهُ ﴾ من الغرق، ﴿ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ ﴾ من الهالكين وأعطيناهم ملكهم، ﴿ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ بالطوفان، ﴿ فانظُرْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المنذرين ﴾ المكذبين فهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذير لمن كذبه.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِه ﴾ من بعد نوح، ﴿ رُسُلا ً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ المعجزات الظاهرات، ﴿ فَمَا كَانُواْ ﴾ ما استقام لهم، ﴿ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ لشدة عنادهم وكفرهم، ﴿ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي : بما كذب به قوم نوح وقد علموا حالهم فهم وآباؤهم على منهاج واحد والباء للسببية، أي : لم يؤمنوا بسبب تعودهم تكذيب الحق قبل بعثة الرسل، ﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ نختم عليها فلا يدخلها رشاد ولا سداد.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم ﴾ بعد هؤلاء الرسل١، ﴿ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ أشرف قومه، ﴿ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴾ معتادين الإجرام.
١ مثل هود وصالح ولوط وإبراهيم..
﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ ﴾ المعجزات المزيحة للشك، ِ﴿ منْ عِندِنَا قالواْ ﴾ من فرط التمرد :﴿ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ واضح ظاهر.
﴿ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ ﴾ إنه سحر فحذف محكي القول١ لدلالة الكلام عليه قيل : أتعيبونه٢ وعلى هذا لا يستدعي مقولا ثم قال :﴿ أَسِحْرٌ هَذَا ﴾ استفهام إنكار، ﴿ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ من تمام كلام موسى، أي : لو كان سحرا لاضمحل وذل وغلب فاعله، فكيف أرتكبه وأنا أعلم أنهم لا يفلحون ؟ !
١ ولا يجوز أن يكون قوله أسحر هذا محكي القول؛ لأنهم بتوا القول بأنه سحر من غير شك..
٢ فالقول كتابة عن القالة والطعن يقال فلان يخاف القالة، أي: الطعن نحو "سمعنا فتى يذكرهم" (الأنبياء: ٦٠) /منه..
﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ﴾ : لتصرفنا، ﴿ عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ١ لكما العزة والملك يعني لستما بمخلصين ؛ بل هذا غرضكما، ﴿ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ مصدقين.
١ والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين التمسك بالتقليد للآباء والحرث *على الرياسة الدنيوية وكم بقي على الباطل وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولاحقة فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحث، قال أبو المسعود: استئناف بياني مسوق لبيان أنه عليه لسلام ألقمهم الحجر فانقطعوا واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل عاند لدود انتهى /فتح..
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ حاذق فيه.
﴿ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أنتم مُّلْقُون١.
١ وهذا القول منه عليه السلام للاعتماد على وعد الله وعدم المبالاة بهم ولأنه علم أن مراد السحرة التقدم في الإلقاء كما علم من المواضع الأخر من القرآن وفي إبهام ما أنتم ملقون إعلام بأنه لا شيء يلتفت إليه /١٢..
﴿ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِه ﴾ ِ أي : الذي جئتم به١ هو، ﴿ السِّحْرُ ﴾ لا ما جئت به ومن قرأ بالاستفهام فما استفهامية، أي : أي شيء جئتم به أهو السحر ؟ أو السحر بدل من المبتدأ الذي هو ما، ﴿ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ ﴾ سيمحقه، ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ لا يقويه ولا يثبته.
١ إشارة إلى أن السحر خبر مبتدأ محذوف وهو هو /١٢..
﴿ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ ﴾ يثبته، ﴿ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ بوعده، أو بقضائه السابق، ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ ذلك.
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ﴾ الضمير١ لفرعون فإن بني إسرائيل آمنوا بموسى إلا قليلا منهم كقارون وما آمن من القبط إلا قليل، وقال بعضهم : الضمير لموسى، أي : ما آمن له في مبدأ الأمر إلا شبانهم، ﴿ عَلَىَْ خوفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ﴾ أي : مع خوف منه، ﴿ وَمَلَئِهِمْ ﴾ الضمير للذرية أي : أشرف آل فرعون، أو لفرعون فالمراد من فرعون هو وآله، ﴿ أَن يَفْتِنَهُمْ ﴾ يعذبهم وهو بدل من فرعون أو مفعول خوف، ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ ﴾ لغالب، ﴿ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ في الكبر حتى ادعى الربوبية.
١ الضمير لموسى فإنه عليه السلام هو المحدث عنه وهو أقرب مذكور وإلا فالمناسب أن يقول إلا ذرية من قوم فرعون على خوف منه، وكان هذا في أول مبعثه فإنه لما دعا الآباء ولم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من أبنائهم أول الأمر مع الخوف من فرعون/١٢ وجيز..
﴿ و َقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ مستسلمين لأمره والمعلق بالإيمان وجوب التوكل والمشروط بالإسلام وجود التوكل وحصوله لا وجوبه كما يقال : إن شتمك أحد فاصبر إن قدرت.
﴿ فقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي : موضع فتنة لهم يعذبوننا، أو لا تعذبنا بعذاب، فيقولون : لو كانوا على حق ما عذبوا ولا تسلطهم علينا فيحسبوا أنهم على الحق فيفتنوا بذلك.
﴿ وَنَجِّنَا ﴾ خلصنا، ﴿ بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا ﴾ أي : اتخذا مباءة يعني موضع إقامة، ﴿ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا ﴾ أنتما وقومكما ﴿ في بيوتكم ﴾ التي اتخذتموها، ﴿ قِبْلَةً ﴾ أي : مساجد فإنهم كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وكانوا يخافون من فرعون فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد يصلون١ فيها سرا أو اجعلوا بيوتكم قبلة مصلى، أو متقابلة والمقصود على هذا حصول الجمعية، ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ أي : فيها قال بعضهم : أمروا بكثرة٢ الصلاة كما قال تعالى :" واستعينوا بالصبر والصلاة " ( البقرة : ٤٥ )، ﴿ وَبَشِّرِ ﴾ يا موسى، ﴿ اْلمُؤْمِنِينَ ﴾ بالنصر في الدارين.
١ قاله مجاهد ونقل عن ابن عباس: والفرق بين هذا والأول أن الوجه الأول معناه أنهم مأمورون بأن يبنوا في بيوتهم مساجد يصلون فيها ومعنى هذا الوجه بأنهم رخصوا بأن يصلوا في بيوتهم / ١٢ منه..
٢ يعني: اجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة كناية عن كثرة الصلاة لا أنهم مأمورون ببناء المسجد / ١٢ منه..
﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً ﴾ من اللباس والمراكب، ﴿ وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا ﴾ تكرير وأكيد للأول، ﴿ لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ﴾ واللام لام العلة فليس بمحال أن الله يريد إضلال بعض، وهذا الكلام من موسى ؛ لأنه علم بمشاهدة أحوالهم أن أموالهم سبب ضلالهم أو إضلالهم و لا حاجة إلى أن يقال اللام لام العاقبة أو لام الدعاء كقولك : ليغفر الله فهو دعاء بصيغة الأمر، ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾ : أهلكه ﴿ واشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ أقسما وأطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ جواب الدعاء وقيل : عطف على ليضلوا وقيل : دعا بلفظ النهي، ﴿ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ وهذه الدعوة من موسى – عليه السلام - غضبا لله ولدينه١ لقوم تبين له أنه لا خير ٢ فيهم كما تقول : لعن الله إبليس كما دعا نوح عليه السلام، " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " ( نوح : ٢٦ ).
١ والرضاء بالكفر من حيث إنه كفر كفر وأما الرضى بكفر شخص معين لعقوبته فجائز، قال بعض العلماء: الرضى بكفر نفسه كفر لا بكفر غيره / ١٢ وجيز..
٢ ولما بالغ موسى في إظهار المعجزات وإقامة الحجج و البينات ولم يكن لذلك تأثير فيمن أرسل إليهم دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد قال موسى مبينا سبب أولا: "ربنا" الآية / فتح..
﴿ قَالَ ﴾ : الله، ﴿ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ﴾ فإنه دعا موسى وأمن هارون، ﴿ فَاسْتَقِيمَا ﴾ على أمري وامضيا له قال بعضهم : مكثوا بعد إجابة عدائهم أربعين سنة١ وقال بعضهم : أربعين٢ يوما ومن إجابة دعائهما أنه صار دنانيرهم ودراهمهم حجارة منقوشة٣ كهيئة ما كانت، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ طريقة الجهلة في عدم الوثوق بوعدي.
١ وهكذا قال غير واحد من السلف / منه..
٢ قاله الضحاك وأبو العالية وربيع بن أنس وقتادة وغيرهم / ١٢ منه..
٣ قاله ابن عباس / ١٢ وجيز..
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْر ﴾ أي : جاوزناهم في البحر بلا سفينة وتعب، ﴿ فَأَتْبَعَهُمْ ﴾ أدركهم١، ﴿ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ ﴾ قيل : كانوا في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان، ﴿ بَغْيًا وَعَدْوًا ﴾ للبغي أي : لطلب الاستعلاء والظلم أو باغين٢، ﴿ حَتَّى إِذَ ا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّه ﴾ أي : بأنه، ﴿ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ٣.
١ يقال تبعته فأتبعته، أي: لحقته ولم يقل فأتبعهم فرعون وجنوده لأنه غير مشعر بالوصول واللحوق / ١٢ منه..
٢ يعني بغيا وعدوا إما مفعول له أو حال /١٢ منه..
٣ أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغرق الله فرعون فقال: آمنت الآية، قال جبريل: يا محمد! لو رأيتني وأنا آخذ من حال الأرض فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة) [صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي (٢٤٨٣)]، والمعنى دس جبريل في فيه بأمر الله فلا اعتراض عليه، وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه وقال: صحيح حسن غريب وصححه أيضا الحاكم عن ابن عباس من طريق أخرى وإسناده على شرط البخاري وليس في رواتهما متهم وإن كان فيه من هو سيء الحفظ فقد تابعه عليه غيره وأخرج الطبراني معناه عن أبي هريرة لكن في إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول وباقي رجاله ثقات، والعجب كل العجب ممن لا علم له بفن الرواية من المفسرين ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب منه كيف يتجرأ على الكلام في أحاديث الرسول والحكم ببطلان ما صح منها، ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت والقصور الفاضح الذي يضحك منه كل من كان من له أدنى ممارسة لفن الحديث فيا مسكين مالك ولهذا الشأن الذي لست فيه في شيء ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك، وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه وحاصلك الذي ليس لك غيره وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية، ولقد صار صاحب الكشاف – عفا الله عنه - بسبب ما يتعرض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ولا صدر سخرة للساخرين وعبرة للمعتبرين فتارة يروي في كتابه الموضوعات وهو لا يدري أنه منها، وتارة يتعرض لرد ما صح و يجزم بأنه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبهت وهو في الصحيحين وغيرهما مما يلتحق بهما من رواته جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات حجج أثبات وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ولا يدري به أقل دراية وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس ويصطلحون على أمره فيما بينهم فما بالك بعلم السنة الذي هو قسيم كتاب الله وقائله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواية عنه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عام لجميع أهل الإسلام / فتح البيان..
﴿ آلآنَ ﴾ أي : أتؤمن الآن حين يأسك عن نفسك ؟ وهذا قول جبريل عليه السلام أو قول الله تعالى، ﴿ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾ مدة عمرك، ﴿ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ من المضلين.
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ﴾ نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر أو نلقيك بنجوة١ من الأرض، أي : بأرض مرتفعة، ﴿ بِبَدَنِكَ٢ أي : حال كونك متلبسا بالبدن عاريا عن الروح، أو الباء بمعنى مع البدن الدرع وكانت له درع من ذهب يعرف بها، ﴿ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ﴾، لمن يأتي بعدك من بني إسرائيل وغيرهم، ﴿ آيَة ﴾ : عبرة ونكالا عن الطغيان، ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ فلا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها.
١ قاله ابن عباس من السلف /منه..
٢ قيل: ببدنك منعاه كاملا سويا ببدنك لم ينقص منه شيء، وقيل: عريانا ن غير لباس /١٢ منه..
﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا ﴾ أنزلنا، ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ منزلا صالحا بلاد مصر والشام مما يلي بيت القدس ونواحيه، ﴿ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ من اللذائذ، ﴿ فَمَا اخْتَلَفُواْ ﴾ في أمر دينهم، ﴿ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ ﴾ الأمن بعد نزول التوراة المزيح للشك والاختلاف، أو ما اختلفوا في تصديق النبي – صلى الله عليه وسلم - حتى جاءهم القرآن، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ فيثيب المحق ويعاقب المبطل.
﴿ فإن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم مكتوب في الكتب السماوية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، أو لزيادة تثبيته وفرض الشك فلذلك قال صلى الله عليه وسلم :" لا أشك١ و لا أسأل "، ﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ بالتزلزل عما أنت فيه من اليقين قيل خطاب لكل من يسمع أي : إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك فسألهم و لا تكن من الشاكين.
١ قال قتادة بن دعامة: بلغنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: (لا أشك ولا أسأل) [أخرجه عبد الرزاق في المصنف (١٠٢١١) مرسلا]، وعن ابن عباس: لا و الله ما شك طرفة عين ولا سأل أحدا منهم / منه..
﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ وهو كالأول المراد به غير المخاطب، أو باب التهييج وقطع الأطماع عنه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ﴾ ثبتت، ﴿ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ بالعذاب والسخط، قيل : هي قوله هؤلاء للنار ولا أبالي، ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾ فإن إرادة الله تعالى لا يتعلق بإيمانهم فكيف يؤمنون، ﴿ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٦:﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ﴾ ثبتت، ﴿ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ بالعذاب والسخط، قيل : هي قوله هؤلاء للنار ولا أبالي، ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾ فإن إرادة الله تعالى لا يتعلق بإيمانهم فكيف يؤمنون، ﴿ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم.
﴿ فَلَوْلاَ ﴾ أي : فهلا، ﴿ كَانَتْ قَرْيَةٌ ﴾ من القرى التي أهلكناها، ﴿ آمَنَتْ ﴾ قبل معاينة العذاب، ﴿ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ﴾ لوقوعه في وقت الاختيار، ﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾ لكن١ قومه، ﴿ لَمَّا آمنوا ﴾ قبل معاينة العذاب في وقت الاختيار، ﴿ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ٢ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ أي : إلى آجالهم وقيل الجملة في معنى٣ النفي أي : ما كانت قرية آمنت أهلها بتمامها فنفعها إلا قوم يونس آمنوا بتمامهم ونفعهم الإيمان وحاصله أنه ليست قرية آمنت أهلها بتمامها إلا وقت نزول العذاب فلا ينفعهم إيمانهم ؛ لأنه اضطراري وأما قوم يونس وهم أهل نينوى من أرض الموصل بعدما عاينوا أسباب العذاب جأروا إلى الله تعالى ولبسوا المسوح٤ وفرقوا بين كل حيوان وولده وعجوا٥ إلى الله تعالى فكشف الله تعالى عنهم الدخان والعذاب وقبل منهم الإيمان وهم مائة وألف أو يزيدون.
١ إشارة إلى أن الاستثناء منقطع وهو ظاهر لا تكلف فيه..
٢ أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا قال: إن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنكم يأتيكم يوم كذا وكذا ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياء إذا وعدت قوها العذاب خرجت، فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها والسخلة وولدها وخرجوا يعجون إلى الله وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم كالعذاب وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر فمر به رجل فقال: ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا يعني مراغما / فتح، [وانظر الدر المنثور للسيوطي (٣/٥٧٣)]..
٣ على الاستثناء متصل ولا بد من تأويله بالنفي حينئذ وإلا لفسد المعنى لما يلزم أن لا يكون الإيمان من المستثنى مطلوبا / منه..
٤ واحده المسح بالكسر وهو لباس الرهبان..
٥ العج رفع الصوت أي: صاحوا / ١٢..
﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ ﴾ : يا محمد، ﴿ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ﴾ مجتمعين١ على الإيمان، ﴿ أفأنت تُكْرِهُ النَّاسَ ﴾ بما لم يشاء الله منهم، ﴿ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وهذا عند حرصه – صلى الله عليه وسلم - بإيمان الخلائق كما قال تعالى :" فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " ( فاطر : ٨ ).
١ إشارة إلى أن جميعا حال / ١٢..
﴿ وَمَا كانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ بإرادته فبيس عليك هداهم، ﴿ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ﴾ العذاب والضلال، ﴿ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ حجج الله تعالى و أدلته فهو العادل الحكيم في هداية من هدى وإضلال من أضل.
﴿ قُل١ انظُرُواْ ﴾ : تفكروا، ﴿ مَاذَا ﴾ إن كانت استفهامية فانظروا معلق عن العمل، ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾، من الصنائع الدالة على وحدته، ﴿ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ ﴾ أي : الرسل أو الإنذارات، ﴿ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ في حكم الله تعالى، أي : لا تفيد لهم وبعضهم على أن ما استفهامية إنكارية٢ أي : أي شيء تعني الآيات عنهم ؟
١ ولما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى ر يتوهم الجبر فقال: "قل انظروا" الآية / كبير..
٢ فيكون ما مفعول تغني بمعنى تدفع نحو "ما أغنى عنه ما له" (المسد: ٢) / ١٢ منه..
﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ ﴾ أهل مكة، ﴿ إ ِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ ﴾ مضوا، ﴿ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي : مثل وقائع الأمم السالفة والعرب تسمي العذاب أياما، وهم وإن كانوا لا ينتظرون عذاب الله لكن لما استحقوه ناسب أن يشك في أنهم منظرون، قيل : معناه هل لك يا محمد إلا مثل تلك الوقائع لمن سلف ؟ ﴿ قُلْ فانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴾.
﴿ ثُمَّ نُنَجِّي ﴾ عطف على محذوف كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي، ﴿ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمنوا ﴾ معهم، ﴿ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي : مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين حين نهلك المشركين وحقا علينا معترضة، أي : حق ذلك علينا بحسب وعدنا.
﴿ قلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ﴾ : وصحته فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } يقبض أرواحكم، أي : هذا خلاصة ديني فاسمعوا وصفه واعرضوا على عقولكم لتعلموا حفية ديني وبطلان دينكم وخصه بوصف التوفي تهديدا لهم، ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ ﴾ أي : بأكون، ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
﴿ وَأَنْ أَقِمْ ﴾ عطف على أن أكون وصلة أن محكية بصيغة وعبارة أمره الله بها١ والغرض وصل إن بما يتضمن معنى المصدر والإنشاء والخبر في ذلك سواء، ﴿ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ﴾ أي : أمرت بالاستقامة في الدين وإخلاص الأعمال لله، ﴿ حَنِيفًا٢ منحرفا عن الشك حال، ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.
١ وجوز سيبويه أن يكون صلتها إنشائية، وقال لا فرق في الغرض لأن المقصود صلتها بما يتضمن معنى الصدر فالمعنى أمرت الاستقامة / ١٢ وجيز..
٢ أي: مائلا إليه ميلا كليا معرضا عما سواه إعراضا كليا وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام وترك الالتفات إلى غيره /١٢ كبير..
﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ﴾ لا يقدر عليهما، قيل : لا يضرك إن تركت عبادته ولا ينفعك إن عبدته، ﴿ فإن فَعَلْتَ ﴾ : عبدت غيره، ﴿ فإنكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ١ الواضعين العبادة في غير موضعنا " إن الشرك لظلم عظيم " ( لقمان : ١٣ ).
١ يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين؛ لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه فإذا كان ما سوى الحق معزولا عن التصرف كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعا للشيء في غير موضعه فيكون ظلما/ ١٢ كبير..
﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ ﴾ يصبك ببلاء، ﴿ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ ﴾ يدفعه، ﴿ إ لاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾ بنعمة، ﴿ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ الذي أراد بك وإنما لفضله مكان له إشارة إلى أنه متفضل بالخير، ﴿ يُصَيبُ بِهِ ﴾ بالخير، ﴿ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ لمن تاب أي كان فتعرضوا لرحمته بالتوبة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ ﴾ القرآن، ﴿ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى ﴾ فإنمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } بالإيمان به، ﴿ وَمَن ضَلّ ﴾ بالكفر به، َ ﴿ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ وبال الضلال عليها، ﴿ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾ بموكول إلى أمركم، أو بكفيل أحفظ أعمالكم إنما أنا نذير.
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ بالامتثال، ﴿ وَاصْبِرْ ﴾ على مخالفة من خالفك، ﴿ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ ﴾ بنصرك وقهر عدوك، أو بالأمر بالقتال وعن ابن عباس – رضي الله عنه – نسختها آية القتال، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ١ لأن جميع أحكامه على نهج الحكم والصواب لا يمكن طرآن الخطأ فيه والله أعلم.
١ روي أنه لما نزلت به جمع- صلى الله عليه وسلم- الأنصار فقال (إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني) /١٢ وجيز. [أخرجاه في الصحيحين منت حديث أنس] فحكم بقتال المشركين وبالجزية على أهل الكتاب يعطونها عن يد وهم صاغرون /١٢..
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه.
٢ فإن المرء عدو لما جهل..