تفسير سورة الحجر

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وصف القرآن وتهديد الكافرين والعصاة
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
الإعراب:
رُبَما قرئ بالتخفيف والتشديد، فالتشديد على الأصل، والتخفيف لكثرة الاستعمال.
ورُبَما فيها كافة عن العمل، وخرجت بها عن مذهب الحرف لأن «رب» حرف جر، وحرف الجر يلزم للأسماء، فلما دخلت رُبَما عليها، جاز أن يقع بعدها الفعل، وصارت بمنزلة «طالما وقلّما». ولا يدخل بعد رُبَما إلا الماضي، وإنما جاء هاهنا المضارع بعدها، على سبيل الحكاية، ولما كان إخبار الحق تعالى متحققا، لا شك في وجوده لتحققه، نزّل المستقبل منزلة الماضي الذي وقع ووجد.
ورُبَما معناها التقليل كرب، وقد يراد بها الكثرة، على خلاف الأصل.
لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مفعول في موضع نصب، لأنه مفعول يَوَدُّ.
يَأْكُلُوا جواب الأمر أو الطلب.
وَلَها كِتابٌ كِتابٌ مبتدا مرفوع وَلَها خبره، والجملة: في موضع جرّ لأنها صفة. قَرْيَةٍ ويجوز حذف واو وَلَها نحويا لمكان الضمير، والأصل ألا تدخلها الواو مثل إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء ٢٦/ ٢٠٨] ولكن لما شابهت صورتها صورة الحال، أدخلت عليها، تأكيدا للصوقها بالموصوف.
البلاغة:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ المراد أهلها، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ.
8
المفردات اللغوية:
الر إشارة لتحدي العرب بإعجاز القرآن البياني، أي هذا الكتاب كلام الله المنظوم من حروف لغتكم العربية الهجائية: ألف، ولام، وميم. تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات الْكِتابِ هو السورة، وكذا القرآن، أي هذه آيات الكتاب العظيم المتميز بالفصاحة الكاملة والبيان التام وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي وقرآن واضح تام البيان، لا خلل فيه، مظهر للحق من الباطل. والكتاب والقرآن المبين: الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وتنكير وَقُرْآنٍ للتفخيم، والمعنى: تلك آيات الكتاب الجامع لكونه كتابا وقرآنا، فهو كامل في كونه كتابا، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان.
رُبَما تدل على أن ما بعدها قليل الحصول، وقد تستعمل في الكثير، كما هنا، فإنه يكثر منهم تمني الإسلام، وقيل: للتقليل، فإن الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وما: كفّت دخول «رب» عن الجر، فجاز دخوله على الفعل، و «ما» : نكرة موصوفة، أي رب شيء يَوَدُّ يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ذَرْهُمْ دعهم واتركهم يا محمد وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم وَيُلْهِهِمُ يشغلهم الْأَمَلُ بطول العمر وغيره عن الإيمان فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم، وسوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه.
والغرض إقناط الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان، وأن نصحهم يعدّ اشتغالا بما لا طائل تحته. وفيه إلزام للحجة، وتحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل.
مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ زائدة للتمكين قَرْيَةٍ المراد أهلها كِتابٌ أجل مَعْلُومٌ محدود لإهلاكها، أي لها أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي ما يتقدم زمان أجلها، ومِنْ زائدة. وَما يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون عنه، وتذكير هذا الفعل العائد على أُمَّةٍ للحمل على المعنى.
التفسير والبيان:
الر هذه الحروف المقطعة قصد بها التنبيه وإشعار العرب بإعجاز القرآن البياني، وتحديهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، لأنه نزل بلغتهم، وتكوّن من حروفها التي تتركب منها الكلمات تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي تلك الآيات من هذه السورة هي آيات الكتاب الكامل في كل شيء، وآيات القرآن المبين التام الوضوح والبيان لهذه السورة وغيرها. وتنكير كلمة
9
قُرْآنٍ للتفخيم، وقد جمع بين الوصفين: الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ للدلالة على أنه الكتاب الجامع للكمال، والغرابة في البيان، كما ذكر الزمخشري.
رُبَما يَوَدُّ.. أي ولكن الكفار سيندمون يوم القيامة على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين. وكلمة رُبَما وإن كانت للتقليل، فهي أبلغ في التهديد. ذكر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن كفار قريش لما عرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين. قال الزجاج: الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب، ورأى حالا من أحوال المسلم، ودّ لو كان مسلما.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام ٦/ ٢٧].
روى الطبراني عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام، وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب، فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة، فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، فنخرج كما خرجوا» قال: ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
ثم هددهم الله وأوعدهم بتهديد شديد ووعيد أكيد، فقال:
ذَرْهُمْ.. أي دع يا محمد الكفار في ملاهيهم وتمتعهم بلذات دنياهم، يأكلون كما تأكل الأنعام، وتلهيهم الآمال عن التوبة والإنابة أو عن الآخرة والأجل، فسوف يعلمون عاقبة أعمالهم وأمرهم. كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا،
10
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
[إبراهيم ١٤/ ٣٠] وقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات ٧٧/ ٤٦] ويلاحظ أن الآيات الثلاث عللت سبب إهمالهم في الدنيا، إذ لا حظّ لهم في الآخرة.
ثم ذكر تعالى سبب تأخير عذاب الكفار إلى يوم القيامة فقال:
وَما أَهْلَكْنا أي إن سنة الله تعالى في الأمم واحدة، وهي أنه لا يهلك أهل قرية إلا بعد قيام الحجة عليهم، وإبلاغهم طريق الرشد والحق، وانتهاء أجلهم المقرر والمقدر لهم في اللوح المحفوظ، وأنه لا يؤخر عذاب أمة حان هلاكهم عن وقته المحدد، ولا يتقدمون عن مدتهم: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد ١٣/ ٣٨] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف ٧/ ٣٤].
والمقصود بالآيات: أنه لو شاء الله لعجل العذاب للكفار، ولكن اقتضت حكمته إمهالهم لعلهم يتوبوا، فإن لكل أمة أجلا معينا، لا تأخير فيه ولا تقديم، والله تعالى يمهل ولا يهمل.
وهذا تنبيه لأهل مكة وأمثالهم وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك، كما قال ابن كثير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- القرآن الكريم جامع بين صفة الكمال في كل شيء، والوضوح والبيان، فلا نقص فيه ولا خلل، ولا غموض ولا لبس، وإنما يظهر الحق من الباطل لكل إنسان.
٢- سيندم الكفار يوم القيامة على كفرهم، ويتمنون أن لو كانوا مسلمين في
11
أوقات كثيرة لأن رُبَما وإن كانت تستعمل في الأصل للقليل، إلا أنها قد تستعمل في الكثير، ومن عادة العرب أنهم إذا ذكروا التكثير، ذكروا لفظا وضع للتقليل، ثم إن هذا التقليل أبلغ في التهديد.
٣- يهتم الكفار عادة بالماديات، فتراهم منغمسين في الشهوات والأهواء واللذات، معتمدين على الآمال المعسولة، مغتّرين بالأماني الزائفة، منشغلين بالدنيا عن الطاعة والعمل للآخرة. وقد هددهم الله بتركهم في مآكلهم ومتعهم، وحذرهم من عاقبة صنيعهم.
والآية تدل على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من شأن أخلاق المؤمنين.
وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الأمل مطلقا، منها
ما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يهرم ابن آدم، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل»
وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا».
وروى أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل».
٤- لا ظلم في إهلاك الأمم الكافرة المكذّبة للرسل، وإنما هلاكها بسبب جحودها وكفرها وتكذيبها بآيات الله ورسله.
٥- إن هلاك الأمم ليس عشوائيا ولا كيفيا حسب رغبات الناس، وإنما هو مقدر بتاريخ معين، ومقرر في أجل محدد، لا تأخير فيه ولا تقديم.
12
بعض مقالات المشركين في النبي صلّى الله عليه وسلّم والرد القاطع عليها
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ١٥]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
الإعراب:
لَوْ ما بمعنى هلا، وهي مركبة من «لو» التي معناها امتناع الشيء لامتناع غيره، و «ما» التي تسمى المغيّرة لأنها غيرت معنى «لو» من معنى امتناع الشيء لامتناع غيره، إلى معنى «هلا». مثل تركيب «لولا» صارت بمعنى «هلا» في أحد وجهيها، وبمعنى امتناع الشيء لوجود غيره.
إِذاً أصلها: إذ أن ومعناه: حينئذ، فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة، فحذفوها.
إِنَّا نَحْنُ.. نَحْنُ في موضع نصب لأنه تأكيد للضمير الذي هو اسم «إن» في إِنَّا. ويجوز أن يكون في موضع رفع مبتدأ، ونَزَّلْنَا خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر «إن».
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ محله النصب على الحال.
ولا يجوز أن يكون نَحْنُ هنا ضمير فصل لا موضع له من الإعراب لأنه ليس بعده
13
معرفة، ولا ما يقارب المعرفة لأن ما بعده جملة، وهي نكرة، فتكون صفة للنكرة، وشرط الفصل أن يكون بين معرفتين أو بين معرفة وما يقارب المعرفة. وَما يَأْتِيهِمْ وَما للحال، وهذا على حكاية الحال الماضية.
البلاغة:
الْمُجْرِمِينَ الْأَوَّلِينَ مُنْظَرِينَ بينها سجع، وكذلك بين يَعْرُجُونَ ومَسْحُورُونَ.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ.. نادوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم على التهكم الذِّكْرُ القرآن إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي إنك لتقول قول المجانين، حتى تدّعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر أي القرآن لَوْ ما أي هلا، للتحضيض على فعل ما يقع بعدها مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك أو قولك:
إنك نبي، وإن هذا القرآن من عند الله إِلَّا بِالْحَقِّ إلا تنزيلا ملتبسا بالحق وملازما له، أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته، ولا حكمة في أن تأتيكم بصورة تشاهدونها، فإنه لا يزيدكم إلا لبسا وخلطا، ولا في معاجلتكم بالعقوبة، فإن بعضكم وبعض ذريتكم سيؤمن، وقيل: بِالْحَقِّ أي الوحي أو العذاب إِذاً أي حين نزول الملائكة بالعذاب مُنْظَرِينَ مؤخرين.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ القرآن، وهو رد لإنكارهم واستهزائهم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من التبديل والتحريف، والزيادة والنقص، بأن جعلناه معجزا مباينا لكلام البشر، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل العربية، أو المراد نفي تطرق الخلل إليه أثناء بقائه بضمان الحفظ له. مِنْ قَبْلِكَ أي أرسلنا رسلا فِي شِيَعِ فرق، وهي جمع شيعة: وهي الفرقة أو الجماعة المتفقة على رأي واحد، في العقيدة أو في المذهب، أو في الرأي. إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كاستهزاء قومك بك، وهذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم. نَسْلُكُهُ ندخله، أي مثل إدخالنا التكذيب في قلوب أولئك ندخله فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي كفار مكة لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي مضت سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم، وهؤلاء مثلهم.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ على هؤلاء المقترحين فَظَلُّوا فِيهِ في الباب يَعْرُجُونَ يصعدون سُكِّرَتْ أَبْصارُنا سدّت ومنعت عن الإبصار مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد بذلك، يخيل إلينا أننا مسحورون، والإضراب ببل دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.
14
سبب النزول:
قال قتادة: القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة من صناديد قريش.
المناسبة:
بعد أن بالغ تعالى في تهديد الكفار، ذكر شبهتهم في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإساءتهم الأدب بوصفه بالسفاهة والجنون، ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء على هذا النحو، فلك يا محمد أسوة بالأنبياء في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن بعض مقالات المشركين وشبهاتهم الصادرة عن كفرهم وعنادهم، فقالوا استهزاء وتهكما: يا أيها الذي تدعي نزول القرآن عليك، إنك متصف بالجنون، حينما تدعونا إلى اتباعك، وترك ما وجدنا عليه آباءنا، فلا نقبل دعوتك.
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ.. لو كنت ما تدعيه حقا وصدقا، فهلا تأتينا بالملائكة يشهدون لك بصدقك وصحة ما جئت به، ويؤيدونك في إنذارك، كما قال تعالى: أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ٧] وقال:
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان ٢٥/ ٢١] وحكى تعالى قول فرعون في شأن موسى: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف ٤٣/ ٥٣].
فأجابهم تعالى عن المقالة الثانية بقوله: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي
15
لا ننزل الملائكة إلا بحق وحكمة ومصلحة نعلمها، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، وهم من غير جنسكم ولا على صورتكم فيلتبس الأمر عليكم إذ لكل جنس هاد من جنسه، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً، لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام ٦/ ٩].
وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي ولو نزلنا الملائكة لكان ذلك إنزالا للهلاك والعذاب، وما أخر عنهم العذاب ساعة لأن سنتنا أننا إذا أنزلنا آية كما يقترح الناس ولم يؤمنوا بها، أتبعنا ذلك بعذاب الاستئصال، فكان في إنزال الملائكة ضررا محققا لهم، لا نفعا.
ثم أجابهم الله تعالى عن المقالة الأولى بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ.. أي أنه تعالى هو الذي أنزل عليه الذّكر وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل، فقولوا: إنه مجنون، ونقول: نحن منزلوا القرآن وحافظوه. وتلك خصوصية للقرآن، فإنه تعالى تكفل وحده بحفظه وصونه، على مدى الدهر، بخلاف الكتب السابقة التي أمر بحفظها الأحبار والرهبان، فعبثوا بها وغيروها وبدلوها، بل إن أصلها قد فقد وضاع، فلم يعرف لها أثر قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [المائدة ٥/ ٤٤].
ثم قال الله تعالى مسليا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب بعض كفار قريش:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ.. أي إنا أرسلنا قبلك رسلا للأمم الماضية وشيعها وطوائفها وفرقها، ولكن ما أتاهم من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به وكفروا برسالته، فقوله: وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية لأن
16
ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال.
ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا، واستكبروا عن اتباع الهدى، فإن مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين، ندخله في قلوب المجرمين الجدد، فضمير نَسْلُكُهُ عائد إلى الشرك.
ويصح عوده إلى الذكر (القرآن) أي مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن ونلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزءا به غير مقبول، حالة كونهم غير مؤمنين به أبدا.
وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي مضت السنة المتبعة في الماضين، وهو أنه تعالى يهلك ويدمر كل من كذّب رسله، ويعلم بهم، وينجي الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة، فلك يا محمد أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة.
وبعبارة أخرى: سنفعل بالمجرمين اللاحقين كما فعلنا بالسابقين، وسننصر الرسل والمؤمنين.
ثم يخبر الله تعالى عن شدة عنادهم وتمكن كفرهم في نفوسهم ومكابرتهم للحق، فقال: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً.. أي لو فتحنا على هؤلاء المعاندين بابا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه أو تصعد فيه الملائكة، لما صدقوا بذلك، بل قالوا: إنما منعت وسدت أبصارنا من الإبصار، وقد شبّه علينا، واختلطت الأمور في أذهاننا، وأصبحنا لا نرى إلا أخيلة، كالقوم المسحورين سحرنا محمد بآياته، نحو قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧].
والمعنى: بلغ من عناد المشركين أنهم لو صعدوا في السماء حقيقة، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هذه أوهام وأخيلة، وقد سحرنا محمد، كما يفعل عالم السيمياء، أو المنوم المغناطيسي. وفي الآية دليل على وجود الظلام في الفضاء الخارجي.
17
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الشريفة على ما يلي:
١- لقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، إلى يوم القيامة، وهو رد على اتهام المشركين زورا وبهتانا بأن محمدا الذي أنزل عليه هذا القرآن مجنون.
٢- لا فائدة من إنزال الملائكة تشهد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقه في دعواه النبوة، لما فيه من اللبس عليهم، بل إلحاق الضرر بهم، وهو الهلاك أو العذاب إذا كفروا بعدئذ، ولم يمهلوا بنزوله.
٣- إن تكذيب الأنبياء والاستهزاء بهم عادة قديمة وظاهرة شائعة في الأمم، فكما يفعل المشركون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكذلك فعل من قبلهم بالرسل.
٤- كما أدخل أو سلك الله الضلال والكفر والاستهزاء والشرك في قلوب المجرمين من طوائف الأقدمين، كذلك يسلكه في قلوب مشركي العرب، حتى لا يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم.
وقيل: نسلك القرآن في قلوبهم، فيكذبون به، ذكر جماعة أنه قول أكثر المفسرين.
٥- مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء المشركين من الهلاك.
٦- المشركون معاندون، فلو كشف لهم أن يعاينوا أبوابا من السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل، لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له.
18
بعض مظاهر قدرة الله تعالى من خلق السموات والأرض وإرسال الرياح لواقح والإحياء والإماتة والعلم الشامل والحشر
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
الإعراب:
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ مَنِ مستثنى منصوب، ولا يجوز أن يكون بدلا من كُلِّ شَيْطانٍ لأنه استثناء من موجب.
وَمَنْ لَسْتُمْ.. مَنْ إما منصوب عطفا على قوله مَعايِشَ أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد، أو بتقدير فعل، أي وأعشنا من لستم له برازقين، أو عطفا على موضع لَكُمْ المنصوب بجعلنا، وإما موضعه الرفع مبتدأ، وخبره محذوف. ولا يجوز في رأي البصريين خلافا
19
للكوفيين عطفه على الكاف واللام في لَكُمْ لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إن بمعنى «ما» ومِنْ زائدة، وشَيْءٍ في موضع رفع مبتدأ، وعِنْدَنا خبر المبتدأ، وخَزائِنُهُ مرفوع بالظرف وهو عِنْدَنا لوقوعه خبرا للمبتدأ، وتقديره: وما شيء إلا عندنا خزائنه. ودخول إِلَّا أبطل عمل إِنْ على لغة من يعملها.
لَواقِحَ إما جمع لاقحة، أي حوامل بالسحاب لأنها تسوقه، وإما أصله ملاقح، لكن أتى به على حذف الزوائد.
البلاغة:
عِنْدَنا خَزائِنُهُ استعارة تخييلية وتمثيل لكمال قدرته، شبه قدرته تعالى على كل شيء بالخزائن المودع فيها الأشياء، ويخرج منها كل شيء على وفق حكمته.
نُحْيِي وَنُمِيتُ الْمُسْتَقْدِمِينَ والْمُسْتَأْخِرِينَ بين كل طباق.
خَزائِنُهُ وبِخازِنِينَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
بُرُوجاً البروج: القصور والمنازل، وأصل البروج: الظهور، يقال: تبرجت المرأة: إذا أظهرت زينتها، والمراد هنا النجوم العظام ونجوم البروج الاثني عشر المعروفة أي منازل الشمس والقمر والكواكب السيّارة الأخرى، وهي اثنا عشر برجا مختلفة الهيئات والخواص، على ما دل عليه الرصد والتجربة، مع بساطة السماء، وأسماء هذه البروج: الحمل، الثور، الجوزاء، والسّرطان، والأسد، والسّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدّلو، والحوت. والعرب تعدّ معرفة مواقع النجوم وأبوابها من أجلّ العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب.
وبرج المريخ: الحمل والعقرب، والزّهرة: لها الثور والميزان، وعطارد: له الجوزاء والسّنبلة، والقمر: له السرطان، والشمس لها: الأسد، والمشتري له: القوس والحوت، وزحل له: الجدي والدلو.
وَزَيَّنَّاها أي السماء بالكواكب لِلنَّاظِرِينَ المفكرين المعتبرين، المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها وَحَفِظْناها منعناها بالشهب رَجِيمٍ مرجوم بالحجارة إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ لكن من أخذ الشيء خفية أو خطفة، شبه خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى بالسرقة.
واسترق السمع: تسمّعه بخفة وحذر فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ كوكب يضيء ويحرقه، أو شعلة ساطعة
20
من النار. وأتبعه: لحقه. مَدَدْناها بسطناها بحسب مستوى الناظر وبالنسبة للناس القاطنين فيها رَواسِيَ جبالا ثوابت لئلا تتحرك بأهلها مَوْزُونٍ أي مقدّر بمقدار معين على وفق الحكمة والمصلحة.
مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم والملابس، جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش أو على محل لَكُمْ والمراد به العيال والخدم والمماليك. والقصد من الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين، مختلفة الأجزاء في الوضع، مشتملة على أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، على كمال قدرته، وتناهي حكمته، وتفرده بالألوهية، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحتاج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. والخزائن جمع خزانة، وهي ما تحفظ فيه الأشياء النفيسة أو المهمة.
وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وما نسمح بإنزاله إلا بقدر معلوم حدّه، لحكمة وعلى حسب المصالح لَواقِحَ حوامل للسحاب، أو التراب، أو للقاح الشجر، كما في قوله: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا [الأعراف ٧/ ٥٧] وفي قولهم: ناقة لاقح أي حامل، شبه الريح التي جاءت بخير تحمل السحاب الماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. مِنَ السَّماءِ السحاب السَّماءِ مطرا فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم، يقال للماء المعد لشرب الأرض أو الماشية وسقايتها به: أسقيته، وإذا سقاه ماء أو لبنا: سقيته وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي ليست خزائنه بأيديكم الْوارِثُونَ الباقون، نرث جميع الخلق الْمُسْتَقْدِمِينَ من ماتوا من ذرية آدم الْمُسْتَأْخِرِينَ الأحياء الذين تأخروا إلى يوم القيامة، أي بقوا أحياء يَحْشُرُهُمْ يجمعهم لا محالة للجزاء وتوسيط الضمير هُوَ للدلالة على أنه القادر المتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على صحة الحكم حَكِيمٌ باهر الحكمة في صنعه متقن الأفعال عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى كفر الكافرين وعجز أصنامهم، ذكر كمال قدرته، وأدلة وحدانيته السماوية والأرضية، ففي السماء: البروج، والكواكب الساطعة، وفي الأرض الممدودة: الجبال الراسيات، والنباتات المقدرة بمقادير معلومة موزونة بميزان الحكمة والعلم، المشتملة على معايش الإنسان والحيوان، كما
21
قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات ٥١/ ٢٠- ٢٣].
والدلائل الأرضية سبعة: بسط الأرض، الجبال الثوابت، إنبات النباتات، الإمداد بالأرزاق من الخزائن، إرسال الرياح لواقح، الإحياء والإماتة للحيوانات، خلق الإنسان.
التفسير والبيان:
ووالله لقد أوجدنا في السماء نجوما عظاما من الكواكب الثوابت والسيارات، وزيناها لمن تأمل النظر فيها وكرره، فيما يرى من العجائب الظاهرة، والآيات الباهرة، التي يحار الناظر فيها، كقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات ٣٧/ ٦] وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان ٢٥/ ٦١].
وقال جماعة: البروج: هي منازل الشمس والقمر.
وَحَفِظْناها.. أي ومنعنا الاقتراب من السماء كل شيطان رجيم، كما قال في آية أخرى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات ٣٧/ ٧] والرجيم:
المرجوم، أي المقذوف بالشهب، أو المرمي بالقول القبيح، أو الملعون المطرود.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ.. استثناء منقطع، أي لكن من استرق السمع، أو أراد استراق شيء من علم الغيب الذي يتحدث به الملائكة، لحقه وأتبعه بشهاب مبين، أي بجزء منفصل من الكوكب، وهو نار مشتعلة، فأحرقه. والشهاب:
شعلة نار ساطع، ويسمى الكوكب شهابا، كما قال في آية أخرى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ
22
مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً
[الجن ٧٢/ ٩] وقال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك ٦٧/ ٥].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها، ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة، فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام، منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع، رمي بشهاب «١».
والصحيح أن الشهاب يقتل الشياطين قبل إلقائهم الخبر، فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا بواسطة الأنبياء وملائكة الوحي. ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أردف الله تعالى بيان الدلائل الأرضية بعد الدلائل السماوية على وحدانيته فقال: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها... أي وجعلنا الأرض ممدودة الطول والعرض، ممهدة للانتفاع بها، في مرأى العين، وبالنسبة للإنسان الذي يعيش على سطحها، كما قال تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذاريات ٥١/ ٤٨] فلا يعني ذلك نفي كروية الأرض لأن أجزاء الكرة العظيمة تظهر كالسطح المستوي لمن يقف على جزء منها. وهذا دليل واضح على كمال قدرة الله تعالى وعظمته لأن الإنسان المنتفع بها يراها منبسطة رغم تكويرها، ثابتة رغم تحركها.
وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت كيلا تضطرب بالإنسان، كما قال تعالى في آية أخرى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل ١٦/ ١٥]
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ١٦٩، الكشاف: ٢/ ١٨٨
23
فدلت الآيات على خلق الله الأرض وبسطها وتوسيعها وجعل الجبال الراسيات والأودية والرمال فيها.
وَأَنْبَتْنا فِيها.. أي وأنبتنا في الأرض من الزرع والثمار المتناسبة، المقدرة بميزان معلوم، وحكمة ومصلحة، ومقدار معين، فكل نبات وزنت عناصره، وقدرت بما يحتاجه. فقوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بقدر معلوم، موزون بميزان الحكمة أي على وفق الحكمة والمصلحة، كما قال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد ١٣/ ٨].
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ.. أي وأعددنا لكم في الأرض أسباب المعيشة والحياة الملائمة من غذاء ودواء، ولباس وماء، ونحوها. وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي وجعلنا لكم فيها أيضا الخدم والمماليك والدواب والأنعام التي لستم أنتم لها رازقون، وهذا يعني أن الله يرزقكم وإياهم.
والمقصود من الآيات أنه تعالى يمتن على الناس بما يسّر لهم في الأرض من أسباب المكاسب والمعيشة، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها، والأنعام التي يأكلونها، والخدم الذين يستخدمونهم، وقد تكفل الله الخالق برزقهم، فرزقهم على خالقهم، لا عليهم، فلهم المنفعة، وعلى الله التسخير والرزق.
ثم أخبر الله تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل يسير عليه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الأصناف، من نبات ومعادن ومخلوقات لا حصر لها، فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.. أي وما من شيء في هذا الكون ينتفع به الناس إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم، نعلم أنه مصلحة له، فذكر الخزائن أراد به التمثيل لا الحقيقة وهو اقتداره على كل مقدور.
ثم أوضح تعالى أسباب حصول النعم، فقال: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ..
24
أي وأرسلنا الرياح الخيرة تحمل السحب المشبعة بالرطوبة لإنزال الأمطار، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف ٧/ ٥٧].
وكذلك جعلنا الرياح واسطة لتلقيح الأشجار، بنقل طلع الذكور ولقاحها إلى الإناث، ليتكون الثمر.
كما أننا جعلنا الرياح وسائل إزالة الغبار عن الأشجار، لينفذ الغذاء إلى مسامّها. قال ابن عباس: الرياح لواقح للشجر وللسحاب.
فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً.. أي فأنزلنا من السحاب مطرا، فأسقيناكموه أي يمكنكم أن تشربوا منه، وأسقينا به زرعكم ومواشيكم، كما قال تعالى:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء ٢١/ ٣٠] وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة ٥٦/ ٦٨- ٧٠] وقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل ١٦/ ١٠].
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي لستم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله ينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أبقاه لكم في طول السنة، لشرب الناس والزروع والثمار والحيوان، فالتخزين يكون في السحاب وفي جوف الأرض.
ثم أخبر الله تعالى عن قدرته على بدء الخلق وإعادته فقال: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ.. أي ونحن نحيي الخلق من العدم، ثم نميتهم، ثم نبعثهم كلهم ليوم الجمع، ونحن نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص ٢٨/ ٨٨].
25
ثم أنبأنا الله تعالى عن تمام علمه بالمخلوقات أولهم وآخرهم، فقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ.. أي والله لقد علمنا كل من تقدم وهلك من لدن آدم عليه السلام، ومن هو حي، ومن سيأتي إلى يوم القيامة.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ.. أي وإن ربك هو الذي يجمعهم جميعا، الأولين والآخرين، من أطاع ومن عصى، ويجازي كل نفس بما كسبت، إنه تعالى حكيم باهر الحكمة في صنعه، متقن الأفعال، واسع العلم، وسع علمه كل شيء، فهو يفعل بمقتضى الحكمة والعلم الشامل.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكرت الآيات دلائل التوحيد السماوية منها والأرضية، وبدأ بذكر الأدلة السماوية، وأردفها بالأدلة الأرضية، وهي ما يأتي:
١- خلق النجوم العظام والكواكب الثابتة والسيارة، وخلق بروج ومنازل لها، وهي اثنا عشر برجا، معروفة في علم الفلك، قدمت ذكرها في بيان المفردات.
٢- حفظ السماء من مقاربة الشيطان الرجيم أي المرجوم، والرجم: الرمي بالحجارة أو باللسان سبا وشتما، وهو أيضا: اللعن والطرد. قال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم.
ومن حاول اختطاف شيء من علم الغيب، قذف بجزء منفصل من الكوكب، مشتعل النار، فأحرقه وقتله، قبل إلقاء ما استرقه من السمع إلى غيره.
٣- الأرض مخلوقة ممهدة منبسطة تتناسب مع إمكان الحياة البشرية عليها، وهي مثبّتة بالجبال الرواسي لئلا تتحرك بأهلها، وفيها من النباتات المختلفة ذات المقادير المعلومة، على وفق الحكمة والمصلحة، وفيها أيضا أصناف المعايش من
26
مطاعم ومشارب يعيش الناس وغيرهم بها، وفيها كذلك الدواب والأنعام ذات المنافع المتعددة، والله هو الذي يرزقها.
٤- الله مالك كل شيء، يوجده ويكوّنه وينعم به على حسب مشيئته بمقدار معلوم بحسب حاجة الخلق إليه، فما من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا وعند الله خزائنه، كالمطر المنزل من السماء، والذي به نبات كل شيء، ولكن لا ينزله إلا بمقتضى مشيئته وعلى قدر الحاجة، كما قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ [الشورى ٤٢/ ٢٧].
٥- هيأ الله في الكون أسبابا للرزق والإيجاد، منها أنه جعل الرياح لواقح للسحاب والأشجار، فأنزل بها الأمطار لشرب الناس وسقاية الزروع والثمار والأشجار والدواب، وهو تعالى يخزنها في السحاب وجوف الأرض، وهو سبحانه المحيي والمميت ووارث الكون، فلا يبقى فيه أحد.
٦- الله تعالى عالم بجميع المخلوقات المتقدمة والمتأخرة إلى يوم القيامة، وإنه تعالى سيحشر الناس جميعا للحساب والجزاء.
واستنبط الفقهاء من آية وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ حكمين فقهيين:
الأول- فضل أول الوقت في الصلاة، وفضل الصف الأول في صلاة الجماعة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا».
وفي الصف الأول مجاورة الإمام، لكن مجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي لكبار العقول، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن الأربع عن أبي مسعود: «ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى»
وهذا حق ثابت لهم بأمر صاحب الشرع.
الثاني- فضل الصف الأول في القتال، لأن المتقدم باع نفسه لله تعالى، ولم
27
يكن أحد يتقدم الحرب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم.
بدء خلق الإنسان وأمر الملائكة بالسجود له وإباء إبليس وعداؤه البشر
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
28
الإعراب:
وَالْجَانَّ منصوب بفعل مقدر، تقديره: وخلقنا الجانّ خلقناه، وقدّر الفعل الناصب ليعطف جملة فعلية على جملة فعلية، هي قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ.
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد للمعرفة بعد توكيد، وذهب بعض النحويين إلى أن أَجْمَعِينَ أفاد معنى الاجتماع، أي سجدوا كلهم مجتمعين، لا متفرقين، إلا أنه يلزمه على هذا أن ينصبه على الحال.
ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ ما مبتدأ، ولَكَ خبره، وتقديره: أي شيء كائن لك ألا تكون، أي في ألا تكون، فحذفت (في) وهي متعلقة بالخبر، فانتصب موضع (أن).
لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْهُمْ متعلق بالظرف الذي هو لِكُلِّ، مثل قولهم: كلّ يوم لك درهم، فإن كل يوم منصوب ب (لك). وجُزْءٌ مَقْسُومٌ مرفوع بالظرف الذي هو لِكُلِّ بابٍ لأن قوله لِكُلِّ بابٍ وصف لقوله: أَبْوابٍ أي لها سبعة أبواب، كائن لكل باب منها جزء مقسوم منهم، أي من الداخلين، فحذف منها العائد إلى أَبْوابٍ التي هي الموصوف، وحذف العائد من الصفة إلى الموصوف جائز في كلامهم، كما في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ.. [البقرة ٢/ ٤٨، ١٢٣] أي ما تجزي فيه.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدم أو الجنس مِنْ صَلْصالٍ طين يابس، يسمع له صلصلة، أي صوت، إذا نقر. فإذا طبخ فهو فخّار حَمَإٍ طين أسود، أي تغيّر واسود من مجاورة الماء له مَسْنُونٍ متغير الرائحة، والتقدير: أي كائن من حمأ مسنون وَالْجَانَّ أبا الجن وهو إبليس، أو هذا الجنس مِنْ قَبْلُ من قبل خلق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ هي نار شديدة الحرارة، لا دخان لها، تنفذ من المسام وتقتل.
وَإِذْ قالَ.. واذكر حين قال بَشَراً إنسانا، وسمي بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده سَوَّيْتُهُ أتممت خلقه وهيأته لنفخ الروح فيه وَنَفَخْتُ أجريت من الفم أو غيره، والمراد: إضافة عنصر الحياة في المادة القابلة لها. مِنْ رُوحِي أي فصار حيا، وإضافة الروح إلى
29
الله تشريف لآدم فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فاسقطوا له ساجدين سجود تحية بالانحناء. كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فيه تأكيدان للمبالغة في التعميم إِلَّا إِبْلِيسَ هو أبو الجن، الذي كان بين الملائكة أَبى امتنع من أن يسجد له، والاستثناء إما منقطع متصل بقوله: أَبى أي لكن إبليس أبى، وإما متصل على أنه استئناف، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد.
قالَ تعالى يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ.. أي ما منعك، أو أي غرض لك في ألا تكون مع الساجدين قالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لا ينبغي لي أن أسجد، واللام لتأكيد النفي، أي لا يصح مني، وينافي حالي لِبَشَرٍ جسماني كثيف، وأنا ملك روحاني خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي وهو أخسّ العناصر، وأنا خلقتني من نار، وهي أشرف العناصر.
فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السموات أو من زمرة الملائكة رَجِيمٌ مطرود من الخير والكرامة، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته اللَّعْنَةَ الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء فَأَنْظِرْنِي أمهلني وأخرني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم بعث الناس إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المسمى فيه أجلك عند الله، أو وقت انقراض الناس كلهم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق، كما روي عن ابن عباس. ويجوز أن يراد بالأيام الثلاثة: يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات كما قال البيضاوي، فهو يوم الجزاء، ويوم البعث، واليوم المعلوم وقوعه عند الله، والمؤكد حدوثه في علم الناس.
بِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإضلال، والباء للقسم، وما: مصدرية، وجواب القسم: لَأُزَيِّنَنَّ والمعنى: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين استخلصهم الله لطاعته وطهرهم من الشوائب، وقرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لك العبادة من الرياء أو الفساد.
هذا صِراطٌ عَلَيَّ.. أي هذا حق علي أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ أي لا انحراف فيه، ولا عدول عنه إلى غيره. والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء: وهو تخلص المخلصين من إغوائه، أو الإخلاص.
إِنَّ عِبادِي المؤمنين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. تصديق لإبليس فيما استثناه، والمراد بيان نجاتهم من تأثير الشيطان عليهم. والسلطان: التسلط بالإغواء الْغاوِينَ الكافرين لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي لموعد الغاوين أو المتبعين، وأَجْمَعِينَ تأكيد للضمير، أو حال، والعامل فيها: الموعد إن جعل مصدرا على تقدير مضاف، أما إن جعل اسم مكان فإنه لا يعمل سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم، أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، وهي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. ولعل تخصيص العدد
30
ليشمل جميع المهلكات، أو لأن أهلها سبع فرق لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع جُزْءٌ مَقْسُومٌ نصيب أو فريق معين مفرز له.
المناسبة:
هذا هو النوع السابع من دلائل وجود الله وقدرته وتوحيده، فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة، أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب نفسه.
والدليل هو أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، فيجب انتهاء الحوادث إلى حادث أول، فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس، وذلك الإنسان الأول غير مخلوق من الأبوين، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى.
وبعد أن ذكر الله تعالى خلق الإنسان الأول، ذكر مقاله للملائكة والجن بشأنه.
التفسير والبيان:
ولقد خلق الله الإنسان الأول آدم أبا البشر من طين أو تراب يابس، فالحمأ: هو الطين، والمسنون: الأملس، والصلصال: التراب اليابس، وقيل:
إنه المنتن المتغير الرائحة في الأصل. وقد بدأ الخلق أولا من تراب، ثم من طين، ثم من صلصال، ليكون أدل على القدرة الإلهية.
وخلقنا جنس الجن من نار السموم، أي نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته. قال ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجانّ، ثم قرأ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ
وورد عن عائشة في صحيح مسلم، وأحمد: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
31
ونظير الآية قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن ٥٥/ ١٤- ١٥].
وفي هذا إشارة إلى برودة طبع الإنسان، وحرارة طبيعة الجن. وفي الآية تنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة محتده، وذلك كله دليل على قدرة الله تعالى.
ثم أبان الله تعالى تشريفه لآدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حسدا وكفرا، وعنادا واستكبارا، وافتخارا بالباطل، فقال: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ...
أي واذكر أيها الرسول لقومك حين أمرت الملائكة قبل خلق أبيكم آدم بالسجود له بعد اكتمال خلقه، وإباء إبليس عدوه من بين سائر الملائكة السجود له، قائلا: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر ١٥/ ٣٣] متذرعا بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص ٣٨/ ٧٦] وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء ١٧/ ٦٢].
وقد تضمن دفاع إبليس وسبب امتناعه عن السجود لآدم: بأنه خير منه، فإنه خلق من النار، وآدم من الطين، وفي النار عنصر الارتفاع والسمو، وفي التراب عنصر الخمود والركود، فهي أشرف من الطين، والأعلى لا يعظم الأدنى.
وذلك قياس فاسد لأن خيرية المادة لا تعني خيرية العنصر، بدليل أن الملائكة من نور، والنور خير من النار. ثم إنه عصيان أمر الخالق، وجهل بأن آدم امتاز باستعداد علمي وعملي لتلقي التكاليف وتقدم الكون.
لذا عاقبة الله بقوله: قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ... أي فاخرج
32
من المنزلة التي كنت فيها من الملأ الأعلى، فإنك مرجوم، أي لعين مطرود، لعنة دائمة ملازمة له إلى يوم القيامة.
وإمعانا في الكيد لآدم وحسدا له ولذريته طلب الإمهال إلى يوم البعث من القبور، وحشر الخلق لموقف الحساب، فأرجأه الله إلى يوم الوقت المعلوم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق.
فلما تحقق إبليس الانتظار لذلك اليوم قالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي قال إبليس عاتيا متمردا: رب بسبب إغوائك وإضلالك إياي، لأزينن في الأرض أي الدنيا لذرية آدم عليه السلام الأهواء، وأحبّب إليهم المعاصي، وأرغّبهم فيها، إلا المخلصين الذين أخلصوا لك في الطاعة والعبادة. واستثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه.
فهدده تعالى وتوعده بقوله: قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية أو الإخلاص طريق مستقيم، مرجعه إلي، فأجازي كل واحد بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر ٨٩/ ١٤]. فقوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الإخلاص طريق علي وإلي، يؤدي إلى كرامتي وثوابي، أو هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم، أو هذا طريق عليّ تقريره وتأكيده، وهو مستقيم: حق وصدق. ومؤدى الكلام: ألا مهرب لأحد مني، كما يقال لمن يتوعده ويتهدده: طريقك علي. وقوله: مستقيم أي لا عوج فيه ولا انحراف.
وهو رد لما جاء في كلام إبليس: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف ٧/ ١٦- ١٧].
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. أي إن عبادي المؤمنين
33
المخلصين أو غير المخلصين، أو الذين قدرت لهم الهداية، لا سلطان لك على أحد منهم، ولا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ..
استثناء منقطع، أي لكن الذين اتبعوك من الضالين المشركين باختيارهم، فلك عليهم سلطان، بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي، والدليل قوله تعالى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل ١٦/ ١٠٠].
ونظير الآية: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل ١٦/ ٩٩- ١٠٠].
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي إن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود ١١/ ١٧].
ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ.. أي لجهنم سبعة أبواب، قد خصص لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم من أتباع إبليس، يدخلونه، لا محيد لهم عنه، وكلّ يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله.
وفي تفسير الأبواب السبعة قولان:
قول: إنها سبع طبقات: بعضها فوق بعض، وتسمى تلك الطبقات بالدركات، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء ٤/ ١٤٥] والسبب: أن مراتب الكفر مختلفة بالشدة والخفة، فاختلفت مراتب العذاب.
وقول آخر: إنها سبعة أقسام، ولكل قسم باب، أولها كما ذكر ابن جريج:
جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. الأولى
34
كما ذكر الضحاك: للعصاة الموحدين، والثانية: لليهود، والثالثة: للنصارى، والرابعة: للصابئين، والخامسة: للمجوس، والسادسة: للمشركين، والسابعة:
للمنافقين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآيات ما يأتي:
١- خلق الله آدم عليه السلام الإنسان الأول من طين يابس، مما يدل على القدرة الإلهية.
وخلق الجانّ من قبل خلق آدم من نار جهنم أو من الريح الحارة التي تقتل، أو من نار لا دخان لها.
ورد في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما صوّر الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، وينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك» «١».
٢- كرم الله الأصل الإنساني، فأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، ولله أن يفضل من يريد، ففضل الأنبياء على الملائكة، وامتحنهم الله بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل.
٣- سجد الملائكة له كلهم أجمعون إلا إبليس رفض وأبى، وإبليس ليس من جملة الملائكة: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف ١٨/ ٥٠].
وهذا الاستثناء دليل للشافعي في جواز استثناء غير الجنس من الجنس، مثل: لفلان علي دينار إلا ثوبا أو عشرة أثواب إلا رطل حنطة، سواء المكيلات والموزونات والقيميات. وأجاز مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما استثناء المكيل
(١) أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، أو لا يملك دفع الوسواس عنه.
35
من الموزون، والموزون من المكيل، كاستثناء الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم، ولم يجيزا استثناء القيميات من المكيلات أو الموزونات، كالمثالين المذكورين في بيان مذهب الشافعي، ويلزم المقرّ جميع المبلغ.
٤- سئل إبليس عن سبب امتناعه من السجود، فأجاب بأنه مخلوق من عنصر وهو النار أشرف من التراب.
٥- كان عقاب إبليس الطرد من السموات أو من جنة عدن أو من جملة الملائكة، وملازمة اللعنة له إلى يوم القيامة.
٦- سأل إبليس تأخير عذابه، زيادة في بلائه، كالآيس من السلامة، وأراد الإنظار إلى يوم يبعثون: ألا يموت لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده، فأجله الله تعالى إلى الوقت المعلوم: وهو النفخة الأولى، حين تموت الخلائق.
٧- صمم إبليس على مدى الحياة إغواء بني آدم وإضلالهم عن طريق الهدى، إلا المؤمنين سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، فلا سلطان له عليهم في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفو الله، وهم الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.
٨- قول الله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ على سبيل الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده: طريقك علي، ومصيرك إلي، ومعنى الكلام: هذا أي طريق العبودية طريق مرجعه إلي، فأجازي كلا بعمله.
٩- استثناء إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وإِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ دليل على جواز استثناء القليل من الكثير، والكثير من القليل، مثل: علي عشرة إلا درهما، أو عشرة إلا تسعة. وقال ابن حنبل: لا يجوز أن يستثني إلا قدر النصف فما دونه، وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح.
36
١٠- إن جهنم موعد إبليس ومن اتبعه. ولجهنم سبعة أطباق، طبق فوق طبق، لكل طبقة حظ معلوم. وجهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
جزاء المتقين يوم القيامة
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
الإعراب:
إِخْواناً حال من الْمُتَّقِينَ أو من واو ادْخُلُوها أو من الضمير في آمِنِينَ.
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ حال أيضا.
البلاغة:
ادْخُلُوها بِسَلامٍ فيه إيجاز بالحذف، أي يقال لهم: ادخلوها.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ هم الذين اتقوا الكفر والفواحش جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ أنهار جارية بِسَلامٍ أي سالمين من المخاوف والآفات آمِنِينَ من كل فزع غِلٍّ حقد وحسد دفين في القلب سُرُرٍ جمع سرير، وهو المجلس العالي عن الأرض مُتَقابِلِينَ لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم نَصَبٌ تعب وإعياء وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أبدا.
37
سبب النزول:
نزول الآية (٤٥) :
إِنَّ الْمُتَّقِينَ: أخرج الثعلبي عن سلمان الفارسي أنه لما سمع قوله تعالى:
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فرّ ثلاثة أيام هاربا من الخوف، لا يعقل، فجيء به للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فو الذي بعثك بالحق، لقد قطّعت قلبي، فأنزل الله:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
نزول الآية (٤٧) :
وَنَزَعْنا..: أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قيل: وأي غل؟
قال: غل الجاهلية، إن بني تميم، وبني عدي، وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابّوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده، فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى حال الأشقياء من أهل الجحيم، أتبعه ببيان حال السعداء من أهل النعيم المقيم الذين لا سلطان لإبليس عليهم، وهم المتقون.
التفسير والبيان:
إن المتقين الذين اتقوا عذاب الله ومعاصيه، وأطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، فلم يتأثروا بسلطان إبليس ووساوسه، هم في جنات أي بساتين ذات ثمار دائمة وظلال وارفة، وتتفجر من حولهم عيون هي أنهار أربعة: من ماء، ولبن، وخمر غير مسكرة، وعسل مصفى، خاصة بهم أو عامة، دون تنافس أو نزاع
38
عليها، كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ.. [محمد ٤٧/ ١٥].
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ يقال لهم: ادخلوها سالمين من الآفات، مسلّما عليكم، آمنين من كل خوف وفزع. ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.. ونزع الله كل ما في صدورهم في الدنيا من حقد وعداوة، وضغينة وحسد، حالة كونهم إخوانا متحابين متصافين، جالسين على سرر متقابلين، لا ينظر الواحد منهم إلا لوجه أخيه، ولا ينظر إلى ظهره، فهم في رفعة وكرامة.
والمراد: أن الله طهر قلوبهم من معكّرات الدنيا، فلا تحاسد، ولا تباغض، ولا تدابر، ولا غيبة ولا نميمة، ولا تنازع، وألقي فيها التوادّ والتحابّ والتصافي لأن خصائص المادة زالت بالموت في الدنيا.
جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذّبوا ونقّوا، أذن لهم في دخول الجنة».
وروى ابن جرير وابن المنذر عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال: دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه، بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، فرحّب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فقال رجلان إلى ناحية البساط:
الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا؟! فقال علي رضي الله عنه: قوما أبعد أرض وأسحقها، فمن هم إذن، إن لم أكن أنا وطلحة؟.
39
لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ... أي لا يصيبهم في تلك الجنات تعب ولا مشقة ولا أذى، إذ لا حاجة لهم إلى السعي والكدح، لتيسير كل ما يشتهون أمامهم دون جهد.
جاء في الصحيحين: «إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب».
وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أي وهم ماكثون فيها، خالدون فيها أبدا، لا يخرجون منها ولا يحوّلون عنها.
جاء في الحديث الثابت: «يقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحّوا فلا تمرضوا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تطغوا أبدا».
وقال الله تعالى: خالِدِينَ فِيها، لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف ١٨/ ١٠٨].
والخلاصة: إن مقومات النعيم والثواب والمنافع ثلاثة: الاقتران بالاطمئنان والاحترام، وهو قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ والصفاء من شوائب الضرر والمعكرات الروحية كالحقد والحسد، والجسمية كالإعياء والمشقة، وهو قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ والدوام والخلود بلا زوال، وهو قوله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن جزاء المتقين الذين اتقوا الفواحش والشرك جنات أي بساتين وعيون هي الأنهار الأربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. ويقال لهم: ادخلوها بسلامة من كل داء وآفة، آمنين من الموت والعذاب، والعزل والزوال، فهم في احترام
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ١٩٣
40
وتعظيم. والقول الحق الصحيح وهو قول جمهور الصحابة والتابعين أن المراد بالمتقين: الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به. وقال المعتزلة: هم الذين اتقوا جميع المعاصي.
٢- لا يتعرض أهل الجنة لشيء من الأضرار والمؤذيات، فهم في خلوص من شوائبها الروحانية كالحقد وغيره، والجسمانية كالتعب والمرض، وهم في نعمة وكرامة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، تواصلا وتحاببا.
٣- إن نعيم الجنة دائم لا يزول، وإن أهلها باقون: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرعد ١٣/ ٣٥] إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ [ص ٣٨/ ٥٤].
٤- الجنات أربع والعيون أربع، أما عدد الجنات فلقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن ٥٥/ ٤٦] ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن ٥٥/ ٦٢]. وأما العيون فهي أربعة أيضا وهي المذكورة في الآية المتقدمة:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ...
المغفرة والعذاب
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
البلاغة:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ يوجد مقابلة بين العذاب والمغفرة، وبين الرحمة والعذاب.
41
المفردات اللغوية:
نَبِّئْ أخبر يا محمد. الْغَفُورُ للمؤمنين. الرَّحِيمُ بهم. وَأَنَّ عَذابِي للعصاة. الْأَلِيمُ المؤلم.
قال البيضاوي: وفي ذكره المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالمغفرة والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفر من أصحابه يضحكون، فقال: «أتضحكون، وذكر الجنة والنار بين أيديكم، فنزلت هذه الآية: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: اطلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال:
«لا أراكم تضحكون، ثم أدبر ثم رجع القهقرى، فقال: إني خرجت حتى إذا كنت عند الحجر، جاء جبريل، فقال: يا محمد، إن الله يقول: لم تقنط عبادي:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ»
.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله: نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه».
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية، فقال: نَبِّئْ عِبادِي وهو إخبار عن سنة الله في عباده
42
أنه غفار لذنوب التائبين المنيبين إلى ربهم، ومعذّب بعذاب مؤلم من أصروا على المعاصي ولم يتوبوا منها.
التفسير والبيان:
أخبر يا محمد عبادي أني ذو مغفرة ورحمة، وذو عذاب أليم. وهذا دال على مقامي الرجاء والخوف. فالله تعالى يستر ذنوب من تاب وأناب، فلا يفضحهم ولا يعاقبهم، ويرحمهم فلا يعذبهم بعد توبتهم. وهذا يشمل المؤمن الطائع والعاصي.
وأخبرهم أيضا بأن عذابي لمن أصرّ على الكفر والمعاصي ولم يتب منها هو العذاب المؤلم الشديد الوجع. وهذا تهديد وتحذير من اقتراف المعاصي.
ففي الآية كغيرها من الآيات الكثيرة جمع بين التبشير والتحذير، والترغيب والترهيب، ليكون الناس بين حالي الرجاء والخوف.
أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله تعالى:
نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله، لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله، لبخع نفسه».
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار».
ورواية مسلم هي: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد».
43
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية دليل على آخر على وسطية الإسلام، فينبغي للإنسان أن يذكّر نفسه وغيره، فيخوّف ويرجّي، ويكون الخوف في حال الصحة أغلب عليه منه في حال المرض، فهو في حال دائمة بين الخوف والرجاء لأن القنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوسطها.
فالله تعالى وسعت رحمته كل شيء، وهو كثير المغفرة لمن تاب وأناب، ولكنه أيضا لتحقيق التوازن وقمع الفاحشة والمنكر والشرك شديد العذاب لمن أصرّ على معصيته، ومات قبل التوبة والإنابة، وذلك هو العدل المطلق.
وكل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كون الله غفورا رحيما، ومن أنكر ذلك، كان مستوجبا للعقاب الأليم لأنه كما يقول الأصوليون: ترتيب الحكم على الوصف يشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم أو «تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق». فقد وصفهم بكونهم عبادا له، ثم ذكر عقيب هذا الوصف: الحكم بكونه غفورا رحيما.
قال الرازي: وفي الآية لطائف:
إحداها- أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: عِبادِي وهذا تشريف عظيم.
وثانيها- لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة هي:
أَنِّي وأَنَا وإدخال الألف واللام على قوله: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ولما ذكر العذاب لم يقل: إني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وثالثها- أنه أمر رسوله بأن يبلغهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.
44
ورابعها- أنه لما قال: نَبِّئْ عِبادِي كان معناه: نبئ كل من كان معترفا بعبوديتي، وهذا يدخل فيه المؤمن المطيع والمؤمن العاصي. وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى «١».
قصة ضيف إبراهيم وإخبارهم بإهلاك قوم لوط
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٧٧]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
(١) تفسير الفخر الرازي: ١٩/ ١٩٤- ١٩٥
45
الإعراب:
فَبِمَ هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب، أي فبأي أعجوبة تبشروني؟
تُبَشِّرُونَ فتحت النون لأنها نون الجمع، قياسا على فتحها في جمع الاسم، نحو الزيدون، كما كسرت النون بعد ضمير الفاعل إذا كان مثنى في نحو تفعلان قياسا على كسرها في تثنية الاسم، نحو «الزيدان» حملا للفرع على الأصل. وتُبَشِّرُونَ هنا فعل متعد، والمفعول محذوف.
وقرئ: تُبَشِّرُونَ بنون خفيفة مكسورة، وأصله: تبشرونني، فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، وهما نون الوقاية ونون الإعراب، فحذف إحداهما تخفيفا، وحذفت ياء الإضافة وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها.
وقرئ تُبَشِّرُونَ بنون مشددة مكسورة، ولما استثقل اجتماع النونين المتحركتين، سكّن النون الأولى، وأدغمها في الثانية، قياسا على كل حرفين متحركين من جنس واحد في كلمة واحدة.
ثم حذفت الياء وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها.
إِلَّا آلَ لُوطٍ منصوب لأنه استثناء منقطع لأن (أتباع لوط) ليسوا من القوم المجرمين. وامْرَأَتَهُ منصوب على الاستثناء من آل لوط. وهذا الاستثناء يدل على أن الاستثناء من الإيجاب نفي ومن النفي إيجاب لأنه استثنى آل لوط من المجرمين، فلم يدخلوا في الإهلاك، ثم استثنى من آل لوط امْرَأَتَهُ فدخلت في الهلاك.
إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ لما دخلت اللام علقت الفعل عن العمل، مثل: قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون ٦٣/ ١].
46
أَنَّ دابِرَ.. منصوب على البدل من موضع ذلِكَ إن جعل الأمر عطف بيان، أو بدل من الْأَمْرَ إن كان الْأَمْرَ بدلا من ذلِكَ. ومُصْبِحِينَ حال من هؤُلاءِ. وعامل الحال معنى الإضافة: دابِرَ هؤُلاءِ من المضامّة والممازجة.
عَنِ الْعالَمِينَ أي عن ضيافة العالمين، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ مبتدأ، والخبر محذوف، أي لعمرك قسمي.
البلاغة:
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أسند فعل التقدير إلى الملائكة مجازا وهو لله وحده، لما لهم من القرب.
أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ كناية عن عذاب الاستئصال.
عالِيَها سافِلَها بينهما طباق.
الْقانِطِينَ الْغابِرِينَ أَجْمَعِينَ مُصْبِحِينَ مُشْرِقِينَ لِلْمُتَوَسِّمِينَ فيها سجع، وكذا في الضَّالُّونَ الْمُرْسَلُونَ لَصادِقُونَ.
المفردات اللغوية:
وَنَبِّئْهُمْ أخبرهم وهو معطوف على ما سبق وهو: نَبِّئْ عِبادِي وفي العطف تحقيق لهما ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة، منهم جبريل، بشروه بالولد، وبهلاك قوم لوط. وكلمة ضيف تستعمل بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمؤنث والمذكر.
فَقالُوا: سَلاماً أي نسلم عليك سلاما، أو سلمنا سلاما. وَجِلُونَ خائفون فزعون.
لا تَوْجَلْ لا تخف. إِنَّا رسل ربك. نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل. بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي ذي علم كثير إذا بلغ، هو إسحاق، لقوله تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود ١١/ ٧١].
أَبَشَّرْتُمُونِي بالولد. عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ حال، أي مع مسّه إياي. فَبِمَ فبأي شيء. تُبَشِّرُونَ استفهام تعجب. بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق الذي لا شك فيه، أي بالصدق أو باليقين. الْقانِطِينَ الآيسين من الولد للكبر. وَمَنْ يَقْنَطُ أي لا يقنط. الضَّالُّونَ الكافرون الذي لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته، أو البعيدون عن الحق. فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم وحالكم؟ والخطب: الأمر الخطير. مُجْرِمِينَ كافرين، هم قوم لوط، وأرسلنا لإهلاكهم. لَمُنَجُّوهُمْ لمخلّصوهم مما هم فيه لإيمانهم. قَدَّرْنا قضينا وكتبنا، والتقدير:
47
جعل الشيء على مقدار معين، وأسند الملائكة التقدير لأنفسهم مع أنه هو فعل الله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص به.
الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أي بقيت امرأته في العذاب لكفرها. فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ أي لوطا. قالَ لوط لهم. مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم. بِما كانُوا فِيهِ أي قومك. يَمْتَرُونَ يشكّون، وهو العذاب. لَصادِقُونَ في قولنا.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ اذهب بهم ليلا. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بجزء أو طائفة من الليل.
وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ امش خلفهم أو على إثرهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم، أو يطلع على أحوالهم، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو فيصيبه ما أصابهم. حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إلى حيث أمركم الله، وهو الشام أو مصر، ففيه تعدية الفعل: وَامْضُوا إلى حيث، وتعدية: تُؤْمَرُونَ إلى ضميره المحذوف. وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إلى لوط. أَنَّ دابِرَ آخر. مَقْطُوعٌ مهلك مستأصل. مُصْبِحِينَ حال، أي يتم استئصالهم في الصباح، أي عند طلوع الصبح.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مدينة سدوم، وهي مدينة قوم لوط، أي جاء قوم لوط لما أخبروا أن في بيت لوط مردا حسانا وهم الملائكة. يَسْتَبْشِرُونَ حال، طمعا في فعل الفاحشة بهم، والاستبشار: إظهار السرور. فَلا تَفْضَحُونِ في ضيفي، والفضيحة: إظهار ما يوجب العار، فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في اقتراف الفاحشة. وَلا تُخْزُونِ ولا تذلون بسببهم، والخزي: الذل والهوان أي لا تلحقوا بي ذلا بقصدكم إياهم، بفعل الفاحشة بهم، أو لا تخجلوني فيهم، من الخزاية وهو الحياء.
أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن إضافتهم أو إجارة أحد منهم، أو لم تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل غريب، وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه. هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم، فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، أو هؤلاء بناتي فتزوجوهن. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قضاء الوطر. لَعَمْرُكَ يكون بفتح العين حال القسم، وهو قسم من الله تعالى بحياة المخاطب وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي وحياتك، والعمر: بفتح العين وضمها: الحياة. سَكْرَتِهِمْ غوايتهم.
يَعْمَهُونَ يترددون. الصَّيْحَةُ صيحة جبريل، وهي الصاعقة، قال ابن جرير: وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة. مُشْرِقِينَ وقت شروق الشمس، أي داخلين في وقت الشروق.
عالِيَها أي قراهم. سافِلَها بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض، فصارت منقلبة بهم. سِجِّيلٍ طين متحجر، طبخ بالنار، وهو لفظ معرّب. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ دلالات على وحدانية الله. لِلْمُتَوَسِّمِينَ للناظرين المتفكرين
48
المعتبرين. وَإِنَّها قرى قوم لوط. لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ على طريق قومك قريش إلى الشام، بنحو واضح لم تندرس آثارها، يمر بها الناس ويرون آثارها، أفلا يعتبرون بها. لَآيَةً لعبرة.
لِلْمُؤْمِنِينَ بالله ورسله.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وأحوال القيامة، وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذرا عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء. وكان ذكر هذه القصص تفصيلا للوعد والوعيد، فبدأ أولا بقصة إبراهيم عليه السلام للبشارة بغلام عليم، ثم ذكر إهلاك قوم لوط، لاقترافهم جريمة فاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين.
التفسير والبيان:
وأخبرهم يا محمد عن ضيوف إبراهيم المكرّمين، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، فقالوا حين دخلوا عليه: سلاما، أي سلاما من الآفات والآلام والمخاوف. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى: أبا الضيفان.
فقال إبراهيم للضيوف: إنا خائفون منكم لدخولهم عليه بلا إذن، أو لما رأى أيديهم لا تمتد إلى ما قربه إليهم من الضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ (المشوي بالحجارة المحماة). وهذا يعني أنهم يبيتون شرا، كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ، نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود ١١/ ٧٠].
فأجابوه بقولهم: لا تَوْجَلْ لا تخف، وفي سورة هود: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [٧٠] فهذا تعليل النهي عن الوجل في تلك السورة، وأما هنا فعللوا ذلك بقولهم: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي أتينا لبشارتك بميلاد غلام ذي علم وفطنة وفهم لدين الله لأنه سيكون نبيا، وهو إسحاق عليه
49
السلام، كما تقدم في سورة هود [٧١] وفي سورة الصافات: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [١١٢].
قالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي.. أجاب إبراهيم متعجبا من مجيء ولد حال كبره وكبر زوجته، ومتحققا من الوعد، أبشرتموني بذلك بعد أن أصابني الكبر، فبأي أعجوبة تبشروني، أو إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء لأن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء.
فأجابوه مؤكدين لما بشروه به: قالُوا: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ.. أي قال ضيوف إبراهيم له: بشرناك بما هو حق ثابت إذ هو صنع الله ووعده الذي لا يتخلف، فلا تكن من القانطين اليائسين، فالذي أوجد الإنسان من التراب من غير أب وأم قادر على إيجاده من أي شيء، كأبوين عجوزين، أي أن إبراهيم استعظم نعمة الله عليه في وقت غير مألوف عادة، لا أنه استبعد ما هو داخل في نطاق القدرة الإلهية.
فأجابهم قالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ.. أي أجاب إبراهيم الضيوف بأنه ليس يقنط، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك، ولا ييأس من رحمة الله إلا الضالون: أي المخطئون طريق الصواب، كما قال يعقوب: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف ١٢/ ٨٧].
ثم بعد تأكد إبراهيم الخليل عليه السلام من هذه البشرى وعلمه أنهم ملائكة، وذهاب الروع عنه، سألهم عن أمرهم بسبب مجيئهم مختفين: قالَ: فَما خَطْبُكُمْ.. أي قال لهم: فما شأنكم وما الأمر الذي أرسلتم به غير البشرى أيها الملائكة المرسلون؟ كأنه فهم من قرائن الأحوال أن لهم مهمة أصلية غير البشرى لأن البشرى كما حدث لزكريا ومريم يكفيها واحد.
50
فأجابوه: قالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا.. أي قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين مشركين هم قوم لوط، الذين يتعاطون المنكر، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء، لنهلكهم.
ثم أخبروه أنهم سينجّون آل لوط جميعهم من بينهم إلا امرأته التي كانت متواطئة مع قومها، فإنها من الغابرين، أي الباقين مع الكفرة الهالكين، فإنا مخلصوهم أجمعين من ذلك العذاب: عذاب الاستئصال، إلا امرأة لوط، قضى الله عليها أن تكون مع المهلكين، لإعانتهم على مقاصدهم الخبيثة.
وقد أضاف الملائكة التقدير في قولهم: قَدَّرْنا إلى أنفسهم، مع أنه لله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى، كما يقول خاصة الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا، والآمر هو الملك، وليس هم.
ثم بدأت قصة الدمار والعذاب ومجيئهم إلى لوط عليه السلام فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ.. أي لما انتهت مهمة الملائكة مع إبراهيم فبشروه بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين، ذهبوا بعدئذ إلى لوط وآله في صورة شباب حسان الوجوه، في بلدهم (سدوم) ولم يعرف لوط وقومه أنهم ملائكة الله، كما لم يعرفهم إبراهيم بادئ ذي بدء، فقال لهم لوط: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي إنكم قوم غير معروفين لدي، تنكركم نفسي، وأخاف أن تباغتوني بشر، فمن أي الأقوام أنتم؟! كما جاء في آية أخرى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً، سِيءَ بِهِمْ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود ١١/ ٧٧]. وقيل: أنكر حالتهم، وخاف عليهم من إساءة قومه، لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه.
فأجابوه بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي قالت الملائكة له: جئناك بما يسرّك، وهو عذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم، ويكذبونك فيه قبل مجيئه.
51
ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق واليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه، وهو عذاب قوم لوط، وهذا مثل قوله تعالى:
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر ١٥/ ٨].
وَإِنَّا لَصادِقُونَ وهذا تأكيد آخر، أي وإنا لصادقون فيما أخبرناك به، من هلاكهم ونجاتك مع أتباعك المؤمنين.
وإنما وصفوا مهمتهم بهذا الوصف، ولم يصرحوا بعذابهم، لإفادة تحقق عذابهم، وإثبات صدقه عليه السلام فيما دعاهم إليه.
ثم جاءت مرحلة التنفيذ وبيان خطة النجاة للوط وأتباعه، فقالوا له:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فسر بأهلك بعد مضي جزء من الليل، وأهله: ابنتاه فقط وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي وامش وراء أهلك ليكون أحفظ لهم.
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم، فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما أصابهم من العذاب والنكال، حتى لا يرق قلبه لهم.
وأكدوا النهي بقوله: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي سيروا بأمر ربكم غير ملتفتين إلى ما وراءكم، إلى الشام، كما قال ابن عباس، أو حيث يوجهكم جبريل الذي أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة، لم يعمل أهلها مثل عمل قوم لوط.
وأوحى الله إليه أن التنفيذ سريع الحصول فقال: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي وأوحينا إليه أو تقدمنا إليه أن أمر هلاكهم مقضي قضاء مبرما، وأن آخر هؤلاء وأولهم مستأصل وقت الصباح، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود ١١/ ٨١]. فقوله: دابِرَ هؤُلاءِ يعني آخرهم، أي يستأصلون عن آخرهم، حتى لا يبقى منهم أحد.
ثم ذكر الله تعالى في ثنايا القصة ما عزم عليه قوم لوط من الإساءة لهؤلاء
52
الضيوف، فقال: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ أي جاء قوم لوط أهل سدوم، حين علموا بأضيافه وصباحة وجوههم، مستبشرين بهم فرحين، أملا في ارتكاب الفاحشة معهم. وهذا جرم فظيع، وأمر مستهجن، ينافي الأعراف والأذواق السليمة من إكرام الغريب والإحسان إليه.
قيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن، اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: إن امرأة لوط أخبرتهم بذلك. وعلى أي حال قال القوم: نزل بلوط ثلاثة من المرد، ما رأينا قط أصبح وجها، ولا أحسن شكلا منهم، فذهبوا إلى دار لوط.
فقال لهم لوط جملتين مؤثّرتين، الأولى: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي هؤلاء ضيوف، فلا تفضحوني فيهم، أي بارتكاب ما يؤدي إلى العار معهم، والضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموهم بالسوء، كان ذلك إهانة لي.
والثانية مؤكدة للأولى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ أي وخافوا عذاب الله، ولا تخزون أي ولا تذلوني بإذلال ضيفي، ولا توقعوني في الخزي (أي الهوان) والعار، بالإساءة لهم.
فأجابوه: وقالُوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، ونهيناك أن تضيف أحدا.
فأجابهم قالَ: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال لوط لقومه مرشدا لهم: تزوجوا النساء اللاتي أباحهن الله لكم، وتجنبوا إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمري. والمراد ببناته: نساء قومه لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم، كما قال تعالى في حق نبينا النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب ٣٣/ ٦] وفي قراءة أبيّ: وهو أب لهم.
وقيل: المراد بناته من صلبه، أي التزوج بهن.
53
وهذا كله، وهم غافلون عما يراد بهم، ويحيط بهم من البلاء، وماذا يصبحهم من العذاب المستقر، لهذا قال تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو قالت الملائكة للوط:
لَعَمْرُكَ، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي أقسم بحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا أيها الرسول- وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع- إنهم في غوايتهم يتحيرون، فلا يلتفتون إلى نصيحتك، ولا يميزون بين الخطأ والصواب.
وسَكْرَتِهِمْ ضلالتهم، ويَعْمَهُونَ يترددون أو يلعبون.
قال ابن عباس: ما خلق الله وما ذرأ، وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره.
ثم أخبر الله تعالى عن نوع عذابهم فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي فنزل فيهم صيحة جبريل عليه السلام: وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها، فقوله مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. وكان ابتداؤها من الصبح وانتهاؤها حين الشروق، لذا قال أولا مُصْبِحِينَ ثم قال هنا مُشْرِقِينَ.
وأخذ الصيحة: قهرها لهم وتمكنها منهم، وقد أدت بهم إلى رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم.
والصيحة: صوت شديد مهلك من السماء.
وهذا ما تضمنه قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي جعلنا عالي المدينة وهو ما على وجه الأرض سافلها أي في أعماقها، فانقلبت عليهم، وأنزل تعالى عليهم حجارة من طين متحجر طبخ بالنار.
يظهر مما سبق أن الآية ذكرت أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب هي:
54
١- الصيحة الهائلة المنكرة.
٢- أنه جعل عاليها سافلها.
٣- أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل.
ثم ذكر تعالى العبرة من تلك القصة، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي إن في ذلك العذاب الواقع بقوم لوط لدلالات للمتأملين المتفرّسين، الذين يتعظون بالأحداث، ويتفهمون ما يكون لأهل الكفر والفواحش من عقاب أليم.
وبالمناسبة:
روى البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
ثم وجّه تعالى أنظار أهل مكة وأمثالهم إلى الاعتبار بما حدث فقال:
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي وإن مدينة سدوم التي أصابها هذا العذاب لبطريق واضح، لا تخفى على المسافرين المارّين بها، فآثارها ما تزال باقية إلى اليوم، في الطريق من الحجاز إلى الشام، كما قال تعالى في آية أخرى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات ٣٧/ ١٣٧- ١٣٨]. فقوله:
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي بطريق واضح.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجاءنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله، أي إن المنتفعين حقا من مغزى القصة هم المؤمنون الذين يدركون أن العذاب انتقام من الله لأنبيائه. أما غير المؤمنين بالله، فينسبون الدمار للطبيعة والشؤون الأرضية.
55
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت القصة إلى ما يأتي:
١- تعليم أدب الضيف بالتحية والسلام حين القدوم على الآخرين.
٢- وصف أحاسيس المضيف ومخاوفه حين تقديم الطعام لضيفه وامتناعهم عن الأكل.
٣- كانت بشارة الملائكة لإبراهيم بولادة إسحاق سببا في طرد مخاوفه وإشعاره بالأمن والسلامة.
٤- كان استفهام إبراهيم الخليل استفهام تعجب من مخالفة العادة، وحصول الولد حال الشيخوخة التامة من الأبوين معا، ولم يكن استفهامه استبعاد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر لأن إنكار قدرة الله تعالى حينئذ كفر.
٥- أكد الملائكة البشارة، وأنها حق ثابت لا خلف فيه، وأن الولد لا بد منه، ثم نهوه عن القنوط واليأس. ويلاحظ أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهي عنه، كما في قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب ٣٣/ ٤٨].
وقد نفى إبراهيم القنوط عن نفسه قائلا وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. وهذا يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه، لا أنه قنط من رحمة الله تعالى.
٦- لا خلاف في اللغة العربية في أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فقوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ استثنى آل لوط من القوم المجرمين، فهم ناجون، ثم استثنى امرأته من آل لوط، فهي هالكة.
56
٧- لم يعرف لوط وآله أن الضيوف ملائكة، كما لم يكن إبراهيم قد عرفهم.
وقيل: كانوا شبابا، ورأى جمالا، فخاف عليهم من فتنة قومه، فهذا هو الإنكار في قوله قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.
٨- ليس محمودا إطالة المكث أو النظر إلى آثار القوم الذين دمرهم الله، ويسن الإسراع حين المرور في تلك الديار لأنها أماكن غضب ولعنة.
٩- نهى الله تعالى لوطا وأتباعه عن الالتفات أثناء نزول العذاب بقوم لوط، حتى لا تأخذهم الشفقة عليهم، وليجدّوا في السير، ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح.
١٠- كان تصميم قوم لوط على ارتكاب الفاحشة مع هؤلاء الضيوف دليلا ماديا آخر على فحشهم وكفرهم وضلالهم.
١١- قول لوط عليه السلام: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ سواء كنّ بناته الصلبيات أو نساء قومه: إرشاد إلى الشيء المباح غير الحرام، أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. ويكفر من فهم غير ذلك لأن الزنى حرام في كل الملل والأديان، ولا يقره نبي قط ولو للضرورة.
١٢- قوله تعالى: لَعَمْرُكَ: قال القاضي عياض وابن العربي فيه:
أجمع أهل التفسير في هذا: أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم، تشريفا له، وأن قومه من قريش في سكرتهم أي في ضلالتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.
ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوط، أنهم كانوا في سكرتهم يعمهون، وأن الملائكة قالت له لَعَمْرُكَ...
ويكره لدى كثير من العلماء أن يقول الإنسان: لعمري لأن معناه:
57
وحياتي، فهو حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. وقال الإمام أحمد: من أقسم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لزمته الكفارة.
١٣- كان عقاب قوم لوط بالصيحة وقلب بلدهم عاليها سافلها، وإمطار حجارة من سجيل أي طين متحجر مطبوخ بالنار عليهم.
١٤- إن في هذه القصة لعبرة وعظة للمؤمنين الصادقين. والآثار المادية لديار قوم لوط في طريق الشام خير شاهد وأصدق دليل للمتعظين. هذا.. ولم يجز المالكية القضاء بالتوسم والتفرس، فذلك دليل غير متيقن، فلا يترتب عليه حكم.
قصة أصحاب الأيكة (قوم شعيب) وأصحاب الحجر (ثمود)
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٨٦]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
الإعراب:
وَإِنْ كانَ إِنْ هنا: مخففة من الثقيلة، ومعنى إن ولام لَظالِمِينَ للتوكيد.
58
البلاغة:
الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هم قوم شعيب عليه السلام، والأيكة: الغيضة: وهي الشجر الكثير الملتف بعضه على بعض، وهي بقرب مدين. لَظالِمِينَ بتكذيبهم شعيبا. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بأن أهلكناهم بشدة الحر. وَإِنَّهُما قرى قوم لوط والأيكة. لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح. والإمام: ما يؤتم به، سمي به الطريق لأنه يؤتم ويتّبع.
أَصْحابُ الْحِجْرِ هم ثمود، والحجر: واد بين المدينة والشام، كانوا يسكنونه، ويسمى كل مكان أحيط بالحجارة حجرا، ومنه حجر الكعبة. الْمُرْسَلِينَ أي كذب أصحاب الحجر صالحا، وعبر بالجمع عن المفرد لأنه تكذيب لباقي الرسل، لاشتراكهم في المجيء بالتوحيد.
آياتِنا هي الناقة التي فيها آيات كثيرة، كعظم خلقها، وكثرة لبنها، وكثرة شربها، أو المراد آيات الكتاب المنزل على نبيهم. مُعْرِضِينَ لا يتفكرون فيها. مُصْبِحِينَ وقت الصباح. أَغْنى دفع. عَنْهُمْ العذاب. ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة والحصون وجمع الأموال. إِلَّا بِالْحَقِّ أي خلقا ملتبسا بالحق، ملازما له، لا يلائم استمرار الفساد، ودوام الشرور لَآتِيَةٌ لا محالة، فيجازي كل أحد بعمله. فَاصْفَحِ يا محمد عن قومك. الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه، أو لا تعجل بالانتقام منهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. الْخَلَّاقُ لكل شيء، خلقك وخلقهم، وبيده أمرك وأمرهم. الْعَلِيمُ بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل إليه الأمر.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة والرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، فأولها: قصة آدم وإبليس، وثانيها: قصة إبراهيم ولوط، وثالثها: هذه القصة- قصة أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، كانوا أصحاب غياض (أشجار متشابكة كثيرة) فكذبوا شعيبا، فأهلكهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة، أي الصيحة وقت الصباح، لشركهم بالله، ونقصهم المكاييل والموازين.
59
ورابعها: قصة صالح مع قومه، كان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظم خلقها، وظهور نتاجها عند خروجها، وكثرة لبنها.
والهدف من إيراد هذه القصص كما بينا الترغيب في الطاعة الموجبة للفوز بالجنان، والتحذير من المعصية المؤدية لعذاب النيران، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بها عن تكذيب قومه له.
وأما مناسبة قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ.. فهو أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار، فكأنه قيل: الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم؟ فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة، فاذا تركوها وأعرضوا عنها، وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم. أو أن المراد من هذه الآية تصبير الله تعالى محمدا عليه السلام على سفاهة قومه، فإنه إذا عرف أن الأنبياء السابقين عاملتهم أممهم بمثل هذه المعاملات الفاسدة، سهل عليه تحمل السفاهات من قومه.
التفسير والبيان:
أي إن أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب ظالمون، بسبب شركهم بالله، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة، وقد كانوا قريبي الزمان من قوم لوط بعدهم، ومجاورين لهم في المكان، لذا لما أنذر شعيب قومه قال: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود ١١/ ٨٩].
والأيكة: الشجر الملتف.
روى ابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مدين وأصحاب الأيكة أمّتان بعث الله إليهما شعيبا».
60
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ.. أي فعاقبناهم جزاء كفرهم ومعاصيهم، عاقبنا أهل الأيكة بيوم الظلة: وهو إصابتهم بحر شديد سبعة أيام، لا ظل فيه، ثم أرسلت عليهم سحابة، فجلسوا تحتها، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم. وعاقبنا أهل مدين بالصيحة.
وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي وإن كلا من قرى قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة لبطريق واضح يسلكه الناس في سفرهم من الحجاز إلى الشام. والإمام:
ما يؤتم به، وجعل الطريق إماما لأنه يؤمّ ويتّبع حتى يصل إلى الموضع الذي يريده.
ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحجر وهم ثمود، فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ.. أي ولقد كذبت ثمود صالحا نبيهم عليه السلام، ومن كذب رسولا فقد كذب بجميع المرسلين، لاتفاق أصول دعوتهم في التوحيد وعبادة الله وأمهات الفضائل، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا.. أي وآتيناهم وأعطيناهم من الآيات والدلائل ما يدلهم على صدق نبوة صالح عليه السلام، كالناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء بدعاء صالح، فأعرضوا عنها وعقروها ولم يعتبروا بها، فكانت تسرح في بلادهم، لها شرب يوم من نهر صغير ولهم شرب يوم آخر، ولبنها كثير كان يكفي القبيلة.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ.. أي وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبال وأصبحوا بها آمنين من الأعداء، من غير خوف، لقوة إحكامها، وهي ما تزال مشاهدة بوادي الحجر الذي مرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو ذاهب إلى تبوك، فقنّع رأسه، وأسرع دابته،
وقال لأصحابه- فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر-: «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا، خشية أن يصيبكم ما أصابهم».
61
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي لما عتوا وبغوا وعقروا الناقة، أخذتهم صيحة الهلاك في وقت الصباح من اليوم الرابع من موعد العذاب، كما قال تعالى:
فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥].
فَما أَغْنى عَنْهُمْ.. أي فما نفعتهم تلك الأموال لما جاء أمر ربك، وما دفعت عنهم ذلك العذاب، ولم يستفيدوا من مكاسبهم وهي ما كانوا ينحتونه من البيوت في الجبال، وما كانوا يستغلونه من الزروع والثمار، التي ضنوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها، لئلا تضيق عليهم في المياه، بل أصبحوا هلكى جاثمين.
ولما أخبر الله تعالى عن إهلاك الكفار، فكأن شخصا تساءل، كيف يليق التعذيب والإهلاك بالرحيم الكريم؟ فأجاب تعالى عنه بقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أي وما خلقنا هذه المخلوقات في السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق، أي بالعدل والحكمة، لا ظلما، ولا باطلا ولا عبثا، ليكون الخلق مشتغلين بالعبادة والطاعة، فإذا تركوها وأعرضوا عنها، وجب في مقتضى العدل والحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم. وفي هذا إشارة إلى أن تعذيب المكذبين للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة هو حق وعدل وحكمة ومصلحة للبشر أنفسهم.
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي وإن يوم القيامة آت لا ريب فيه، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وفي هذا تهديد للعصاة، وترغيب للطائعين.
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض يا محمد عن المشركين، واحتمل ما تلقى منهم من أذى إعراضا جميلا بحلم وإغضاء، وهذا مخالقة للناس بخلق حسن، فهو غير منسوخ. والشائع أن هذا الصفح قبل الأمر بالقتال، فهو منسوخ.
قال الرازي: كون الصفح منسوخا بآية السيف بعيد لأن المقصود من ذلك
62
أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح، فكيف يصير منسوخا «١» ؟! إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي إن ربك كثير الخلق، خلق كل شيء، واسع العلم، عليم بكل شيء، وهذا تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تبدد من الأجساد، وتفرق في سائر أنحاء الأرض، فالجميع صائرون إليه، محاسبون بين يديه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هاتان قصتان من قصص الأمم البائدة الظالمة المكذّبة لرسلها، تهزّ أعماق البشر، وتحرّك مشاعرهم، وتوقظ ضرورة الصحوة والمبادرة إلى ساحة الإيمان وصلاح الأعمال.
فلقد كذب أصحاب الأيكة (قوم شعيب) رسولهم شعيبا، مع أنهم كانوا يرفلون بالنعم والخيرات الكثيرة المغدقة، فكانوا أصحاب غياض «٢» ورياض وشجر مثمر.
وظلت بحكمة الله تعالى آثار مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة ماثلة مشاهدة قائمة، ليعتبر بهما من يمرّ عليهما.
وكذلك كذّب أصحاب الحجر (ديار ثمود بين المدينة وتبوك) نبيهم صالحا، فلم يؤمنوا برسالته، ومن كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم لأنهم على دين واحد في الأصول، فلا يجوز التفريق بينهم.
وكان عقاب هؤلاء المكذبين وهو التدمير والإبادة والهلاك التام عبرة للمعتبرين، ومثار تفكير وعظة للمتفكرين، فما أغنت عنهم الأموال والحصون في
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ٢٠٦
(٢) الأيكة: الغيضة، وهي جماعة الشجر، والجمع: الأيك.
63
الجبال وقوة الأجسام. والله الخالق للسموات والأرض قادر على البعث والمعاد والقيامة لإقامة العدل بين الخلائق وحساب الناس أجمعين.
وقد استنبط العلماء من الآيات في ضوء السنة ما يأتي:
١- كراهة دخول مواطن العذاب، ومثلها دخول مقابر الكفار، فإن دخل الإنسان إلى تلك المواضع والمقابر، فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم مما ذكر سابقا من الاعتبار والخوف والإسراع،
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تدخلوا أرض بابل، فإنها ملعونة.
وهناك روايات أخرى
لحديث ابن عمر عند البخاري وهي: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنّا واستقينا، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهريقوا الماء، وأن يطرحوا ذلك العجين.
وفي لفظ آخر:
أن الناس نزلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحجر- أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة.
٢- عدم جواز الانتفاع بماء السخط، فرارا من سخط الله
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإهراق ماء بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به، وتقديمه علفا للإبل.
وهذا ينطبق على الماء النجس وما يعجن به.
٣- قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم إذ لا تكليف عليها. وكذلك قال في العسل النجس: إنه يعلفه النحل.
٤-
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل
، ولم يأمر بطرحه،
64
كما أمر في لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر، فدل على أن لحم الحمير أشد في التحريم وأغلظ في التنجيس.
٥- يجوز للرجل حمل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها لأمره صلّى الله عليه وسلّم بعلف الإبل العجين.
٦- جواز التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم لأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يستقوا من بئر الناقة.
٧- منع بعض العلماء الصلاة في موضع العذاب، وقال: لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط، وبقعة غضب. فلا يجوز التيمم بترابها، ولا الوضوء من مائها، ولا الصلاة فيها.
وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق بيت الله».
وزاد المالكية: الدار المغصوبة، والكنيسة والبيعة، والبيت الذي فيه تماثيل، والأرض المغصوبة، أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه إنسان، أو جدارا عليه نجاسة.
لكن أجمع العلماء على جواز التيمم في الموضع الطاهر من مقبرة المشركين، وجواز الصلاة في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر. وقال مالك: لا يصلى على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة.
والممنوع مما ذكر مستثنى من
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
٨- لا يصلى في البستان (الحائط) الذي يلقى فيه النتن والعذرة لإصلاحه، حتى يسقى ثلاث مرات،
لما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن النبي
65
صلّى الله عليه وسلّم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن، قال: «إذا سقي ثلاث مرات فصلّ فيه».
أفضال الله تعالى على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٩٩]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
الإعراب:
كَما أَنْزَلْنا.. الكاف متعلقة بقوله: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، أو متعلقة بقوله: أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، أي أنذركم من العذاب كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وهم الذين اقتسموا طرق مكة وعقابها، يمنعون الناس عن استماع كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم.
عِضِينَ أي جعلوه أعضاء، حين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وعِضِينَ جمع عضة.
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي، وتُؤْمَرُ صلته، وعائده محذوف
66
تقديره: فاصدع بالذي تؤمر به، كما حذف من قوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١] أي بعثه الله، ومثل: أمرتك الخير أي أمرتك بالخير، وإما أن تكون «ما» مصدرية، أي فاصدع بالأمر. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ: صفة، وقيل: مبتدأ، ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو فَسَوْفَ.
البلاغة:
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عطف عام وهو القرآن على خاص وهو الفاتحة.
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه استعارة تبعية، شبّه خفض الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كل، وأستعير اسم المشبّه به للمشبّه.
المفردات اللغوية:
الْمَثانِي جمع مثنى، من التثنية وهو التكرير والإعادة، والسبع المثاني: هي الفاتحة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه الشيخان لأنها تثنى في كل ركعة، وآياتها سبع لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمح ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا. أَزْواجاً أصنافا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا وَاخْفِضْ جَناحَكَ ألن جانبك، والمراد به: التواضع واللين، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه: إذا غطاه وضمه إليه. النَّذِيرُ من عذاب الله أن ينزل عليكم والنَّذِيرُ المخوّف بعقاب الله من لم يؤمن به. الْمُبِينُ البيّن الإنذار، أي أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا.
كَما أَنْزَلْنا العذاب. عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ هم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر. وقيل: هم أهل الكتاب (اليهود والنصارى).
الْقُرْآنَ حيث قال المشركون عنادا: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين. وإذا كان المراد أهل الكتاب فالقرآن: كتبهم المنزلة عليهم، آمنوا ببعض كتبهم، وكفروا ببعض، فيكون ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
عِضِينَ أجزاء، جمع عضة بمعنى الكذب، أي جعلوه مفترى، أو آمنوا ببعض وكفروا ببعض. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ سؤال توبيخ عن التقسيم أو النسبة إلى السحر، فيجازيهم عليه، أو هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي. فليس المقصود بالسؤال سؤال استخبار واستعلام لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لم عصيتم
67
القرآن، وما حجتكم فيه؟ هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة: إن القيامة مواطن، فمرة يكون هناك سؤال وكلام كما في هذه الآية، ومرة لا يكون هناك سؤال وكلام، كما في قوله تعالى:
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن ٥٥/ ٣٩].
فَاصْدَعْ يا محمد. بِما تُؤْمَرُ به أي اجهر وأمضه، من صدع بالحجة: إذا تكلم بها جهارا. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك، بإهلاكنا كلا منهم بآفة، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين. وَلَقَدْ للتحقيق. يَضِيقُ صَدْرُكَ أي ينقبض حسرة وحزنا. بِما يَقُولُونَ من الاستهزاء والتكذيب. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قل: سبحانه وبحمده، أي التسبيح مقترنا بالحمد. السَّاجِدِينَ المصلين. الْيَقِينُ الموت. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
سبب النزول: نزول الآية (٩٥) :
إِنَّا كَفَيْناكَ: أخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال: مر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي، ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحا حتى نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم، فأنزل الله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
المناسبة:
لما صبّر الله تعالى محمدا على أذى قومه، وأمره بأن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بها لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه، سهل عليه الصفح والتجاوز.
التفسير والبيان:
وتالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السبع المثاني والقرآن العظيم،
68
والسبع المثاني: هي سورة الفاتحة، ذات الآيات السبع، التي تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة، والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. روى البخاري حديثين في تفسير السبع المثاني، الأول عن أبي سعيد بن المعلى، والثاني عن أبي هريرة.
أما حديث أبي سعيد فقال: «مرّ بي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أصلّي، فدعاني، فلم آته حتى صليت، فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الأنفال ٨/ ٢٤] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟
فذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخرج، فذكّرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»
.
وأما حديث أبي هريرة فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أم القرآن: هي السبع المثاني، والقرآن العظيم».
وقيل: السبع المثاني: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة لتكرار القصص والأحكام والحدود وتثنيتها فيها.
وقيل: المراد بالسبع المثاني: جميع القرآن، ويكون العطف من باب الترادف، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر ٣٩/ ٢٣] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه.
والراجح أن تفسير البخاري نص في أن الفاتحة: السبع المثاني. ولا مانع- كما قال ابن كثير- من وصف غيرها بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا، والآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإن
69
ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة «١».
ثم رتب تعالى على هذا العطاء العظيم قوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.. أي لا تطمح أيها الرسول- والخطاب لأمته- إلى ما متعنا به الأغنياء من زينة الحياة الدنيا، فمن وراء ذلك عقاب شديد، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية. والمقصود: فاخر بما أوحي إليك، وقدّر عظمة نعمته عليك، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية، لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تتحسر عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك، وإذا كنت في نعمة عظمي، هانت أمامها بقية النعم وكانت حقيرة. وهذا دليل على أن القرآن ثروة كبري وخير وفلاح. ونظير الآية: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه ٢٠/ ١٣١].
قال أبو بكر رضي الله عنه: من أوتي القرآن، فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغّر عظيما، وعظّم صغيرا.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي ولا تتأسف على المشركين إذا لم يؤمنوا، ليتقوى بهم الإسلام، ويعتز بهم المسلمون. وقيل: المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا، فلك في الآخرة أفضل منه.
وبعد النهي عن الالتفات لأغنياء الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال:
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك وتواضع للمؤمنين، ولا تجافهم ولا تقس عليهم، كما قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٥٧ [.....]
70
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.. [آل عمران ٣/ ١٥٩].
ثم وجهه تعالى لوظيفته، وهي الإنذار فقال: وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ.. أي وقل يا محمد للناس: إني منذر ومخوف من عذاب أليم، بسبب التكذيب والتمادي في الغي، كما حل بالأمم المتقدمة المكذبة لرسلها، وما أحاط بهم من انتقام وعذاب.
جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنّجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذّبه طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحق».
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ هناك رأيان في تعلق قوله: كَما أَنْزَلْنا «١».
أحدهما- أن يتعلق بقوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا التوراة والإنجيل على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من قبلك، وهم المقتسمون الذين اقتسموا القرآن إلى أجزاء، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل، وكفروا ببعضه المخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل. وهذا مروي عند البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس.
والثاني- أن يتعلق بقوله: وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي وأنذر
(١) الكشاف: ٢/ ١٩٥
71
قريشا بالعذاب مثل ما أنزلنا من العذاب على المتسمين- يعني اليهود- وهو ما جرى على قريظة والنضير، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان.
فكل من هذين الرأيين جعل المقتسمين من أهل الكتاب، والمقتسم هو القرآن. ويجوز أن يراد بالقرآن كتبهم التي يقرءونها، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ويكون هذا من باب التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال قومه عن القرآن إنه سحر، أو شعر، أو كهانة.
وهناك وجه ثالث مروي أيضا عن ابن عباس، جعله الرازي هو القول الأول، حيث قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة، يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان:
كانوا ستة عشر رجلا، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها: لا تغتروا بالخارج منا، والمدعي للنبوة، فإنه مجنون، وكانوا ينفرون الناس عنه، بأنه ساحر، أو كاهن. أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيا، فماتوا شر ميتة، والمعنى: أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين «١».
فالمقتسمون: هم القرشيون.
وبعد هذا الإنذار أقسم الله تعالى بذاته العلية على وقوع الحساب على الأعمال، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.. أي فو الله لنسألن جميع الكفار سؤال توبيخ وتأنيب لهم عن أقوالهم وأعمالهم، وسنجازيهم عليها الجزاء الأوفى.
فسر أبو العالية الآية فقال: يسأل العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما ذا أجابوا المرسلين.
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ٢١١ وما بعدها.
72
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ، إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، فلا ألفينّك يوم القيامة، وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك».
وإذا كانت هذه مهمتك أيها النبي وهو الإنذار وأن الحساب محقق، فما عليك إلا الجهر بدعوتك، فقد انتهت مرحلة الإسرار في الدعوة، فقال: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ.. أي فاجهر بتبليغ دعوتك للجميع، وواجه بها المشركين، ولا تأبه بهم، فإن الله عاصمك وحافظك منهم، وأعرض عن المشركين، أي بلغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ هذا تأمين رباني وعصمة وصون، أي إنا كفيناك شر المستهزئين بك، المجاهدين في عداوتك، الساخرين منك ومن القرآن، وهم جماعة ذو وقوة وشوكة من المشركين، وهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث.
قال جبريل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى عقب الوليد، فتعلق بثوبه سهم، فأبى تعظما نزعه، فأصاب عرقا في عقبه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل، فمات بشوكة دخلت فيه، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات، وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فأصيب بداء، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات «١».
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ٢١٥، تفسير القرطبي: ١٠/ ٦٢، تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٥٩
73
وكان هؤلاء المستهزئون مشركين، لذا وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي الذين يتخذون إلها آخر مع الله، فيشركون به من لا يضر ولا ينفع.
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم ومآل شركهم ونتيجة كفرهم. وهذا تهديد ووعيد لهم بسوء المصير، لعلهم يرتدعون ويؤمنون.
ثم سلّى الله نبيه عما يصيبه من أذى المشركين فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ.. أي وإنا لنعلم يا محمد أنك تتأذى من سخرية المشركين وشركهم، ويحصل لك ضيق صدر وانقباض، فلا يثنينك ذلك عن إبلاغ رسالة الله، وتوكل عليه، فإنه كافيك وناصرك عليهم، والجأ إليه لإزالة الانقباض والجزع. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
أي فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة، وداوم على ذلك حتى يأتيك اليقين، أي الموت، وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن، والدليل لهذا التأويل: قوله تعالى حكاية عن أهل النار: قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ [المدثر ٧٤/ ٤٣- ٤٧] أي الموت.
وهذا دليل على أن علاج ضيق الصدر هو التسبيح والتقديس والتحميد والإكثار من الصلاة، وأن العبادة كالصلاة واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما
ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب».
وهو دليل أيضا على تخطئة بعض الملاحدة القائلين بأن المراد باليقين:
المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة، سقط عنه التكليف عندهم، وهذا- كما
74
قال ابن كثير- كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس، وأكثرهم عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر، واشتد عليه خطب، فزع إلى الصلاة.
روى أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- القرآن العظيم هو النعمة العظمى على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المسلمين لا يقاس بها أي شيء آخر من مال أو ثروة أو غير ذلك.
٢- الفاتحة سورة من القرآن خصصت بالذكر لفضلها ومزيتها، لاشتمالها على أصول الإسلام، بل هي أفضل سور القرآن لسببين:
الأول- إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من القرآن، مما يدل على مزيد الشرف والفضيلة.
الثاني- أنه تعالى لما أنزلها مرتين، دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها.
وإنها نزلت مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة.
٣- لا يطمح بصر المؤمن إلى زخارف الدنيا، وعنده معارف المولى عز وجل،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن»
أي من لم يستغن به.
٤- قال بعضهم: هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوّف إلى متاع الدنيا على
75
الدوام، وإقبال العبد على مولاه. والحق أنه ليس في دين محمد الرهبانية، والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية، كما كان في دين عيسى، وإنما الإسلام دين الحنيفية السمحة ودين الفطرة ودين الوسطية الذي يجمع بين الروح والمادة، والاشتغال للحياتين معا الدنيا والآخرة، واستيفاء حظوظ الجسد المباحة مع الرجوع إلى الله بقلب سليم.
٥- على المؤمن أن يكون بعيدا من المشركين، ولا يحزن إن لم يؤمنوا، قريبا من المؤمنين، متواضعا لهم، محبا لهم، ولو كانوا فقراء.
٦- مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مؤمن عالم بعده التبليغ لرسالة الله لجميع الخلق، والإنذار بالعذاب من الكفر والعصيان. وقد كانت دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بادئ الأمر سرّية، ثم صارت جهرية بهذه الآية: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
٧- العذاب مقرر على المقتسمين لكتاب الله، بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بالبعض الآخر، سواء أكانوا من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أم من مشركي قريش.
٨- الآية: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ بعمومها تدل على سؤال الجميع من الناس، كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب. والظاهر أن الكافر يسأل، لقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصّافّات ٣٧/ ٢٤] وقوله:
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية ٨٨/ ٢٥- ٢٦].
وأما قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص ٢٨/ ٧٨] وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن ٥٥/ ٣٩] وقوله:
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ١٧٤] وقوله: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين ٨٣/ ١٥] فذلك في أحوال خاصة بيوم القيامة لأن للقيامة مواطن،
76
فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة:
القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها.
وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام، هل عملتم كذا وكذا لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟ «١».
٩- تكفلت عناية الله ورعايته بصون النبي صلّى الله عليه وسلّم وحمايته من أذى المشركين بقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون.
قال بعضهم: هذا منسوخ بآية القتال، قال الرازي: وهو ضعيف لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم، فلا يكون منسوخا «٢».
ثم قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.. أي اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله فان الله كافيك من آذاك، كما كفاك المستهزئين. وصفة المستهزئين:
الشرك، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
١٠- التسبيح والتحميد والصلاة علاج الهموم والأحزان، وطريق الخروج من الأزمات والمآزق والكروب. وغاية القرب من الله تعالى حال السجود، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأخلصوا الدعاء»
لذا خص السجود هنا بالذكر بقوله: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
١١- المسلم مطالب على سبيل الفرضية بالعبادة التي هي الصلاة على الدوام حتى يأتيه الموت، ما لم يغلب الغشيان أو فقد الذاكرة على عقله، والإسلام سمح
(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ٦١
(٢) تفسير الرازي: ١٩/ ٢١٥
77
سهل، فعليه أداء الصلاة بأي كيفية يستطيعها، ولا تسقط عنه أصلا إلا في حال لغيبوبة، ويحاسب على كل فريضة تركها أو أهملها عمدا، كما قال العبد الصالح عيسى عليه السلام: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم ١٩/ ٣١].
78

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النحل
مكية، وهي مائة وثمان وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة النحل، لاشتمالها في الآيتين [٦٨- ٦٩] : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ على قصة النحل التي ألهمها الله امتصاص الأزهار والثمار، وتكوين العسل الذي فيه شفاء للناس، وتلك قصة عجيبة مثيرة للتفكير والتأمل في عجيب صنع الله تعالى، والاستدلال بهذا الصنع على وجود الله سبحانه.
وسميت أيضا سورة «النّعم» لتعداد نعم الله الكثيرة فيها على العباد «١».
ارتباطها بالسورة التي قبلها:
إن آخر سورة الحجر شديد الارتباط بأول هذه السورة، فإن قوله تعالى في آخر السورة السابقة: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يدل على إثبات الحشر يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا، وكذلك قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يدل على ذكر الموت، وكل من هاتين الآيتين ظاهر المناسبة لقوله هنا في أول السورة: أَتى أَمْرُ اللَّهِ إلا أنه في الحجر أتى بقوله:
يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع، وهنا أَتى بلفظ الماضي لأن المراد بالماضي هنا: أنه بمنزلة الآتي الواقع، وإن كان منتظرا، لقرب وقوعه وتحقق مجيئه.
(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ٦٥
79
وكذلك ترتبط هذه السورة بسورة إبراهيم لأنه تعالى ذكر هناك فتنة الميت، وما يحصل عندها من الثبات أو الإضلال، وذكر هنا الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [٢٨، ٣٢] وما يحصل عقب ذلك من النعيم أو العذاب. وذكر أيضا النعيم في سورة إبراهيم، وقال بعده: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [٣٤] وكررت الآية نفسها هنا [١٨] وذكر هنا أنواع النّعم المختلفة.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة الكلام على أصول العقيدة وهي الألوهية والوحدانية، والبعث والحشر والنشور، فبدأت بإثبات الحشر والبعث واقتراب الساعة ودنوها، معبرا تعالى بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع قطعا، مثل قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء ٢١/ ١] وقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر ٥٤/ ١] وكل ذلك يدل على أن إخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء لأنه آت لا محالة.
ثم أثبتت الوحي الذي كان ينكره المشركون كما أنكروا البعث، وأنهم كانوا يستعجلون الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم العذاب الذي هددهم به.
ثم تحدثت السورة عن أدلة القدرة الإلهية في هذا الكون الدالة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض، وما فيهما من كواكب ونجوم، وجبال وبحار، وسهول ووديان، ومياه وأنهار، ونباتات وحيوانات، وأسماك ولآلئ بحرية وبواخر تجري في البحر، ورياح لواقح ومسيرة للفلك، ودعت إلى التأمل في منافع المطر والأنعام وثمرات النخيل والأعناب، ومهمة النحل، وخلق الإنسان ثم إماتته، والمفاضلة بين الناس في الرزق، وطيران الطيور، وتهيئة المساكن، وغير ذلك.
وأوضحت السورة نعم الله تعالى الكثيرة المتتابعة، وذكّرت الناس بنتيجة
80
الكفر بها، وعدم القيام بشكرها، وإعداد أبواب جهنم للكفار خالدين فيها، وإعداد جنات عدن للمتقين الذين أحسنوا العمل في الدنيا. وأبانت فضل الله سبحانه بإرسال الرسل في كل الأمم، وحصرت مهمتهم الموحدة بالأمر بعبادة الله واجتناب الطاغوت.
وأبانت السورة مهمة خطيرة للأنبياء في عالم القيامة وهي الشهادة على الأمم بإبلاغهم الدعوة الحقة إلى دين الله، وعدم الإذن للكافرين في الكلام، ورفض قبول أعذارهم.
ثم ذكر تعالى أجمع آية في القرآن وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.. [٩٠] وأعقبها بالأمر بالوفاء بالعهود والوعود، وتحريم نقضها، وتعظيم شروطها وبنودها، وعدم اتخاذ الأيمان الداخلة في العهود والمواثيق وسيلة للخداع والمكر.
ثم أمر الله تعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن، والتصريح بانعدام سلطانه وتأثيره على المؤمنين المتقين المتوكلين على ربهم، وبيان أن سلطانه على المشركين.
وأوضح سبحانه أن هذا القرآن نزل به روح القدس على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو كلام الله، لا كلام بشر عربي أو أعجمي.
وفي السورة ضرب الأمثال لإثبات التوحيد ودحض الشرك والأنداد من دون الله والكفر بأنعم الله، ورفع الحرج عمن نطق بالكفر كرها، وقلبه مطمئن بالإيمان، وإعطاء كل نفس حق الدفاع عن نفسها يوم القيامة، وجزاء كل إنسان بما عمل.
وفي أواخر السورة عقب الحديث عن الأنعام بيان ما حرمه الله منها، وزجر
81
Icon