تفسير سورة سورة ص من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن
المعروف بـفتح البيان
.
لمؤلفه
صديق حسن خان
.
المتوفي سنة 1307 هـ
سورة ص وهي مكيّة. قال القرطبي : في قول الجميع. قال ابن عباس : نزلت بمكة وعنه قال : لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقال :( إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول. فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت. وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل. فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس. فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال أبو طالب ( أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ) قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا عم إني أريدكم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية " ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم " كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا " قالوا " فما هي ؟ قال :" لا إله إلا الله " فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون :﴿ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ فنزل فيهم ص والقرآن ذي الذكر إلى قوله بل لما يذوقوا عذاب " أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن جرير وابن المنذر.
ﰡ
(ص) قرأ الجمهور صاد بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور فإنها ساكنة الأواخر على الوقف، وقرىء بكسرها من غير تنوين لالتقاء الساكنين، وهذا أقرب وقيل وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض، والمعنى صاد القرآن بعملك أي عارضه وقابله، فاعمل به وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري، وقال إنه فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى اتله وتعرض لقراءته، وقرىء صاد بفتح الدال والفتح لالتقاء الساكنين وقيل نصب على الإغراء وقيل معناه صاد محمد ﷺ قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو وروي عن أبي إسحق أيضاًً أنه قرىء، صاد بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات وقرىء صاد بالضم من غير تنوين على البناء نحو منذ وحيث، كما قرىء به في ق ون.
وقد بسط السمين الكلام على توجيهه الكل وقال الحفناوي يجوز السكون على الحكاية والفتح لمنع الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار أن هذا الاسم علم على السورة، والجر مع التنوين نظراً إلى كون السورة قرآنا ويقال لها سورة داود وقد اختلف في معنى ص فقال الضحاك معناه صدق الله وقال عطاء صدق محمد ﷺ وقال سعيد بن جبير هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين وقال محمد بن كعب هو مفتاح اسم الله وقال قتادة هو اسم من أسماء الله وعنه هو اسم من أسماء الرحمن وقال محمد هو فاتحة السورة
9
وقال ابن عباس ص محمد ﷺ وقيل هو مما استأثر الله بعلمه وهو أعلم بمراده به وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة قيل وهو اسم للحروف مسروداً على نمط التعديد أو اسم للسورة أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب بإضمار أذكر أو إقرأ.
(والقرآن) هي واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره وعلو محله، ومعنى (ذي الذكر) أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شي، وقال مقاتل؛ معنى ذي الذكر ذي البيان، وقال الضحاك وابن عباس ذي الشرف والعظمة، كما في قوله (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي شرفكم أو الشهرة، وقيل ذي الموعظة، وقيل فيه ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين، وقيل فيه ذكر أسماء الله تعالى وتمجيده، وقيل فيه ذكر العقائد والشرائع والمواعيد، وجواب القسم قوله (إن ذلك لحق) قاله الزجاج والكسائي والكوفيون. وقال الفراء لا نجده مستقيماً لتأخره جداً عن قوله والقرآن. ورجح هو وثعلب أن الجواب قوله (كم أهلكنا) وقال الأخفش الجواب هو (إن كل إلا كذَّب الرسل) وقيل هو صاد لأن معناه حق فهو جواب لقوله والقرآن كما تقول حقاً والله وجب والله ذكره ابن الأنباري وروي أيضاًً عن ثعلب والفراء، وهو مبني على أن جواب القسم يجوز تقدمه وهو ضعيف، وقيل الجواب محذوف والتقدير لتبعثن ونحو ذلك، وقال الحوفي تقديره لقد جاءكم الحق ونحوه، وقال الزمخشري إنه لمعجز والمحلي (إنك لمن المرسلين) (١).
وقال ابن عطية تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار من تعدد الآلهة، والقول بالحذف أولى، وقيل إن قوله ص مقسم به وعلى هذا القول تكون الواو في والقرآن للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه،
_________
(١) وقد رجح الطبري في تفسيره: قول قتادة وجماعة من المفسرين: إن الجواب محذوف تقديره أو القرآن ذي الذكر لا كما يقول الكفار - والله أعلم.
10
وأنه حق وأنه ليس بمحل للريب قال سبحانه
11
(بل الذين كفروا في عزة وشقاق) فأضرب عن ذلك وكأنه قال لا ريب فيه قطعاً، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه، بل هم في عزة عن قبول الحق أي تكبر وتجبر وشقاق، أي امتناع عن قبول الحق، يعني ليس الحامل لهم عليه الدليل، بل مجرد الحمية والخصام، والتقليد، والعزة عند العرب الغلبة والقهر، يقال: من عَزَّ بَزَّ أي من غلب أخذ السلب، ومنه (وعزني في الخطاب)، أي غلبني، والشقاق مأخوذ من الشق وهو الخلاف والعداوة، وقد تقدم بيانه، والتنكير فيهما للدلالة على شدتهما وتفاقمهما، وقرىء في غرة أي في غفله عما يجب عليهم من النظر، واتباع الحق، والأول أولى، ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله من قبلهم من الكفار فقال:
(كم أهلكنا من قبلهم من قرن) يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل، أي كم أهلكنا الذين كانوا أمنع من هؤلاء، وأشد قوة، وأكثر أموالاً و (كم) هي الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، ومن قرن تمييز، و (من) في (من قبلهم) هي لابتداء الغاية.
(فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) النداء هنا هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص، قال الحسن نادوا بالتوبة، وليس حين التوبة، ولا حين ينفع العمل، والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت والتأخر، ولات بمعنى ليس، بلغة أهل اليمن، وقال النحاة هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم رب وربت وثم وثمت قال الفراء النوص التأخر، وأنشد قول امرىء القيس:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص | فتقصر عنها خطوة وتبوص (١) |
_________
(١) غريب القرآن ٣٧٦ والطبري ٢٣/ ١٢٠ ومختار الشعر الجاهلي ١/ ١٢٧ وديوان امرؤ القيس ١٧٧.
11
قال يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً أي فر وراغ قال الفراء ويقال ناص ينوص إذا تقدم، وقيل المعنى أنه قال بعضهم لبعض مناص أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله ولات حين مناص قال سيبويه والخليل لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر، أي ليس حيننا حين مناص، وقال الزجاج التقدير وليس أواننا، قال ابن كيسان والقول قول سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد والأخفش. وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان وقال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش التاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف، وقال أبو عبيدة: تكتب متصلة بحين فقال: ولا تحين، وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه، قال أبو عبيدة: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان، الآن.
قلت قد يزيدونها في غير ذلك أيضاًً، وقال ابن عباس ليس بحين نزو ولا فرار، وأخرج ابن أبيّ من طريق عكرمة عنه قال: نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد:
تذكرت ليلى حين لات تذكر | وقد بنت منها والمناص بعيد |
وعنه قال: ليس هذا حين زوال، وعنه قال: لا حين فرار وقرأ الجمهور لات بفتح التاء وقرىء بكسرها كجير وجملة لات حين مناص في محل نصب على الحال من ضمير نادوا.
12
(وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) أي عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزة وشقاق أن جاءهم رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمروا على الكفر وأن وما في حيزها محل نصب بنزع الخافض، أي من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم.
12
(وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، أي هذا المدعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات، كذاب فيما يدعيه من أن الله أرسله، قيل ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالوه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر، المنهمكون في الغي، إذ لا كفر أغلظ من أن يسموا من صدقه الله: كاذباً ساحراً، ويتعجبوا من التوحيد، وهو الحق الأبلج، ولا يتعجبوا من الشرك، وهو باطل لجلج، ثم أنكروا ما جاء به ﷺ من التوحيد وما نفاه من الشركاء لله فقالوا:
13
(أجعل الآلهة) أي صيرها (إلهاً واحداً) وقصرها على الله سبحانه (إن هذا لشيء عجاب) أي الأمر بالغ في العجب إلى الغاية تعجبوا من هذا القصر والحصر وقالوا: كيف يسع الخلق كلهم إله واحد، ومنشؤه أن القوم ما كانوا أصحاب نظر واستدلال بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته وعلمه بحفظ الخلائق قاسوا الغائب على الشاهد، وأن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا مطبقين على الشرك توهموا أن كونهم على هذه الحال محال أن يكونوا مبطلين فيه، ويكون الإنسان الواحد محقاً، فلعمري لو كان التقليد حقاً كانت هذه الشبهة لازمة، قاله الكرخي.
قال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، قرأ الجمهور عجاب بالتخفيف وقرىء بتشديد الجيم، قال مقاتل: بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل: والعجاب بالتخفيف والتشديد يدل على أنه قد يجاوز الحد في العجب كما يقال: الطويل للذي فيه طول والطوال للذي قد تجاوز حد الطول وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات.
13
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠)
14
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) المراد بالملأ الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز، عن ابن عباس قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي ﷺ قائلين، بعضهم للبعض: (أن امشوا) أي امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه.
(واصبروا على آلهتكم) أي اثبتوا على عبادتها وقيل: المعنى وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام: امشوا واصبروا على آلهتكم، وأن هي المفسرة للأقول المقدر، أو لقوله: (وانطلق) لآنه مضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر، أو للمذكور، أي بأن امشوا وقيل: المراد بالانطلاق الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها أي اجتمعوا وأكثروا وهو بعيد جداً، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول.
وجملة (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر، أي يريده محمد بنا وآلهتنا ويود تمامه من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه ليعلو علينا، ونكون له أتباعاً فيتحكم فينا بما يريد فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه والتنفير عنه.
وقيل: إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده ويحكم بإمضائه فهو كائن لا محالة، ولا ينفع فيه إلا الصبر فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى إن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم، وتغلبوا عليه أو أن هذا
14
الأمر شيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه، أو أمر يراد بأهل الأرض والأول أولى.
15
(ما سمعنا بهذا) الذي يقوله محمد من التوحيد (في الملة الآخرة) وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي، وبه قال ابن عباس، وقال مجاهد: يعنون به ملة قريش، أي التي أدركنا عليها آباءنا وعن قتادة مثله وقال الحسن المعنى ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان، وقيل إن المعنى ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمداً رسول الله.
(إن هذا إلا اختلاق) أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه من تلقاء نفسه وافتعله، ثم استنكروا أن يخص الله رسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا:
(أأنزل عليه الذكر من بيننا) والاستفهام للإنكار، أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف، قال الزجاج: قالوا: كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا؟ ونحن أكبر سناً وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله ﷺ دونهم، بين السبب الذي لأجله تركوا التصديق برسول الله ﷺ فيما جاء به فقال:
(بل هم في شك من ذكري) أي من القرآن أو الوحي، لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه، وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله (بل لما يذوقوا عذاب) أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة. ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن، ولم يشكوا فيه، وذوقهم له متوقع فإذا ذاقوه زال عنهم الشك، وصدقوا، وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين فقوله: بل لما يذوقوا إضراب عن الإضراب الأول خلاف ما يفهم من
15
الكشاف من تعلقه بالكلامين قبله.
16
(أم) أي بل أ (عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب)؟ أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم، حتى يعطوها من شاءوا فما لهم ولإنكار ما تفضل الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته والمعنى أن النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع له فإنه العزيز الغالب القاهر الذي لا يغلب الوهاب المعطي بغير حساب، الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء ثم رشح ذلك فقال:
(أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما) أي: بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاءوا المعنى أنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه، فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها.
وقوله (فليرتقوا في الأسباب) جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب أي المعارج والمناهج، والطرق التي توصلهم إلى السماء أو إلى العرش حتى يستووا عليه ويحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون أو فليصعدوا وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
والأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد وقتادة، قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى، وقال السدي في الأسباب في الفضل والدين، وقيل: فليعملوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة، وهو قول أبي عبيدة وقيل: الأسباب الحبال أي إن وجدوا حبالا يصعدون فيها إلى السماء فعلوا والأسباب عند أهل اللغة كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان وفي هذا الكلام تهكم بهم وتعجيز لهم، قال ابن عباس الأسباب السماء أي لأنها أسباب الحوادث السفلية.
16
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (١٤) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦)
17
(جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) هذا وعد من الله سبحانه لنبيه ﷺ بالنصر عليهم، والظفر، و (جند) مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم جند حقير، يعني الكفار مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بهم، ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك من الكيد، و (ما) في قوله: ما هنالك هي صفة لجند، لإفادة التعظيم أو التحقير، أي جند أي جند، وقيل هي زائدة، يقال: هزمت الجيش كسرته، وتهزمت القرية إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدم، وهو قوله: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) وهم جند من الأحزاب مهزومون فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإني أسلب عزهم وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله، وهو إخبار بالغيب، وقيل: مشار به إلى نصرة الإسلام، وقيل: إلى حفر الخندق، يعني إلى مكان ذلك، قال الرازي: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة، لأن المعنى إنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات، وذلك الموضع هو مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح.
(كذبت قبلهم) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة الذين هؤلاء جند من جنسهم بما فعلوا من الكفر والتكذيب، وفعل بهم من العقاب والعذاب (قوم نوح) أي كذبوا رسولهم نوحاً، وكذا يقدر
17
فيما بعده، وتأنيث قوم باعتبار المعنى. وهو أنهم أمة وطائفة وجماعة.
(وعاد وفرعون ذو الأوتاد) قال المفسرون كانت له أوتاد يعذب بها الناس وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض، وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه، وما أبرد هذا القول، وقيل ذو القوة والبطش، وقيل: المراد بالأوتاد الجموع والجنود الكثيرة، يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه، كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا قال ابن قتيبة، العرب تقول: هم في عز أو في ملك ثابت الأوتاد ويريدون ملكاً دائماً شديداً، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد، وقيل: المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم، أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة، قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتاداً والأوتاد جمع وتد، وفيه لغات أفصحها فتح الواو وكسر التاء ويقال: وتد بفتحهما. وود بإدغام التاء في الدال بوزن وج، وودت وهي لغة أهل نجد قال الأصمعي: ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل.
18
(وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة) أي الغيضة، وهي الأشجار الملتفة المجتمعة، وقد تقدم تفسيرها في سورة الشعراء ومعنى: (أولئك الأحزاب) أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم فلان هو الرجل، وقريش - وإن كانوا حزباً كما قال الله تعالى فيما تقدم: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ) ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً، وأقوى أبداناً، وأوسع أموالاً وأعماراً. وقيل، إن المعنى أن مشركي قريش من أولئك الأحزاب، وهم هم، ومنهم وجد التكذيب، وهذه الجملة مستأنفة أو خبر، والمبتدأ قوله. وعاد كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف، بل الظاهر أن (عاد) وما بعده معطوفات على قوم نوح، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف أو بدلاً من الأمم المذكورة.
(إن كل) أي ما كل حزب من هذه الأحزاب (إلا كذب الرسل)
18
لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل لأن دعوتهم واحدة، وهي التوحيد، أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد تكذيب كل حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي ما كان أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية، أولا، وبالاستثنائية ثانياً، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد، أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه؛ ثم قال:
(فحق عقاب) أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم. ومعنى حق ثبت ووجب وإن تأخر فكأنه واقع بهم. وكل ما هو آت قريب. وقرىء عقاب بإثبات الياء وحذفها مطابقة لرؤوس الآي. وفي الآية زجر وتخويف للسامعين.
19
(وما ينظر) أي ما ينتظر (هؤلاء) أي كفار مكة (إلا صيحة واحدة) وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة (١). وقيل: هي النفخة الثانية. وعلى الأول المراد من عاصر نبينا ﷺ من الكفار.
وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة أي ليس بينهم وبين ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. وقيل: المراد بالصيحة عذاب يفجأهم في الدنيا وجملة:
(ما لها من فواق) في محل نصب صفة لصيحة، قال الزجاج. فواق بفتح الفاء وضمها لغتان بمعنى واحد (٢)، وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب، ورضعتي الراضع، وهو مشتق من الرجوع أيضاًً، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، ويقال. أفاق من مرضه أي رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد ومقاتل. إن الفواق الرجوع، وقال قتادة: ما لها من مثنوية
_________
(١) قال ابن كثير: وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها فلا يبقى أحد.
(٢) عن أنس بن مالك قال رسول الله عليه وسلم: العيادة فواق الناقة " رواه السيوطي في الجامع الصغير ".
19
وقال السدي: ما لها من إفاقة، وقيل: ما لها من مرد قال الجوهري: ما لها من نظرة وراحة وإفاقة.
وقال ابن عباس: ما لها من رجعة. والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين وجمعها فيق وفواق وأما أفاويق فجمع الجمع قال الفراء والسدوسي وأبو عبيدة وابن زيد والسدي الفواق بفتح الفاء الراحة والإفاقة أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشى عليه. وبالضم الانتظار، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم. فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم، ولا تصرف منهم، ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، وهذا في المعنى كقوله تعالى (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
20
(و) لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب (قالوا) استهزاء وسخرية (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) والقط في اللغة النصيب من القط، وهو القطع؛ وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير، قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك قط. قال أبو عبيدة والكسائي. القط الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، وأصله من قط الشيء أي قطعه، ومنه قط القلم ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله (ويستعجلونك بالعذاب) وقال السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به.
وقال إسمعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير والسدي. وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل لما نزل قوله: (وأما من أوتي كتابه بشماله) قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتي كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا يوم الحساب، قال ابن عباس: سألوا الله أن يجعل لهم، وقال: قطنا نصيبنا من الجنة، ثم أمر الله سبحانه نبيه ﷺ أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال:
20
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠)
21
(اصبر على ما يقولون) من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها، وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم، وتحمل أذاهم، قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل محكمة وهو الصحيح. ولما فرغ من ذكر قرون الضلالة وأمم الكفر والتكذيب وأمر نبيه ﷺ بالصبر على ما يسمعه، زاد في تسليته وتأسيته بذكر قصة داود وما بعدها فقال:
(واذكر عبدنا داود الأيد) أي أذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوة، قاله ابن عباس، ومنه رجل أيد أي قوي، وتأيد الشيء تقوى، والأيد مفرد بوزن البيع، وهو مصدر، وليس جمع يد، يقال: آد الرجل يئيد أيداً وإياداً بالكسر إذا قوي واشتد، فهو أيد مثل سيد وهين، ومنه قولهم: أيدك الله تأييداً والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العبادة، قال الزجاج وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة.
ومن قوته ما أخبرنا به نبينا ﷺ " أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو " (١).
_________
(١) روى بمعناه البخاري ٣/ ١٤ ومسلم ٢/ ٨١٦ باختلاف يسير في ألفاظه وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
21
وجملة (إنه أواب) تعليل لكونه ذا الأيد، والأواب الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يؤوب إذا رجع. وقال ابن عباس الآواب المسبح بلغة الحبشة.
وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب فقال: سألت رسول الله ﷺ عنه فقال " هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله " وعن ابن عباس قال الأواب الموقن.
22
(إنا سخرنا الجبال معه) استئناف مسوق لتعليل قوته في الدين، وكونه رجاعاً إلى مرضاته تعالى، وإيثار مع على اللام لما أشير إليه في سورة الأنبياء من أن تسخير الجبال لم يكن بطريق التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان بل بطريق التبعية له والاقتداء به، قيل كان تسخيرها أنها تسير معه إذا أراد سيرها إلى حيث يريد.
(يسبحن) ولم يقل مسبحات ليدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئاًً فشيئاًً، وحالاً بعد حال، أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه، عما لا يليق به. ويسبحن في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان والمعجزة، وهو تسبيح الجبال معه، قال مقاتل كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال، وقال محمد بن إسحق أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، فهذا معنى تسبيح الجبال، والأول أولى، ومعنى يسبحن يصلين، ومعه متعلق بسخرنا.
(بِالْعَشِيِّ) أي وقت صلاة العشاء (وَالْإِشْرَاقِ) أي وقت صلاة الضحى وهو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها، والمعنى كان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وغروبها، وقال الكلبي أي غدوة وعشية، يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت، وذلك وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها،
22
قال الزجاج شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية وعنه قال لقد أتى عليّ زمان وما أدري وجه هذه الآية حتى رأيت الناس يصلون الضحى، أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال كنت أمر بهذه الآية فما أدري ما هي، حتى حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب " أن النبي ﷺ دخل عليها يوم الفتح فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، ثم قال يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق " (١). والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جداً، قد ذكرها الشوكاني في شرحه للمنتقى.
_________
(١) راجع ما ذكرناه في سورة النور آية ٣٦.
23
(والطير محشورة) أي وسخرنا له الطير حال كونها محشورة أي مجموعة إليه من كل ناحية، تسبح الله معه، قيل كانت تجمعها إليه الملائكة، وقيل كانت تجمعها الريح (كل له أواب) أي كل واحد من داود والجبال والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره والضمير في له راجع إلى الله عز وجل، وقيل إلى داود أي لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أواب موضع مسبح، والأول أولى، وقد قدمنا أن الأواب الكثير الرجوع إلى الله سبحانه.
(وشددنا ملكه) أي قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه، وإلقاء الرعب منه في قلوبهم؛ وقيل بكثرة الجنود، كان يبيت حول محرابه كل ليلة ستة أو ثلاثة وثلاثون ألف رجل يحرسونه، وكان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس " قال استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك، فجحده، فسأل الآخر البينة فلم تكن له بينة فقال لهما
23
داود قوماً حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده؛ فأتى داود في منامه فقيل له اقتل الرجل الذي استعدى، فقال إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت: فأتى الليلة الثانية في منامه فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة؛ فقيل له اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله فأرسل داود إلى الرجل فقال إن الله أمرني أن أقتلك قال تقتلني بغير بينة ولا تثبت قال نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فقال الرجل لا تعجل عليّ حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت؛ فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه فهو قول الله وشددنا ملكه ".
(وآتيناه الحكمة) المراد بها النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به، وقال مقاتل: الفهم والعلم، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل الإصابة في الأمور وقيل كل كلام وافق الحق فهو الحكمة، وقال مجاهد: العدل وقال أبو العالية العلم بكتاب الله، وقال شريح: السنة، ولا مانع من حمل الآية على الكل.
(وفصل الخطاب) المراد به الفصل في القضاء، وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والأيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذه وبه قال أُبي ابن كعب، وقال علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقيل: الفصل بين الحق والباطل، وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضاًً، وقيل: هو الإيجاز يجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل، وقيل: بيان الكلام، وقيل علم الحكم والتبصر بالقضاء والمعاني متقاربة.
وعن أبي موسى الأشعري قال: " أول من قال: أما بعد، داود عليه السلام، وهو فصل الخطاب "، أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي، وعن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب الذي أوتيه داود: أما بعد أخرجه سعيد بن منصور، ولما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له، لما فيها من الأخبار العجيبة وقال:
24
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (٢٤)
25
(وهل أتاك نبأ الخصم) ومعنى الاستفهام هنا التعجب، والتشويق إلى استماع ما بعده لكونه أمراً غريباً، كما تقول لمخاطبك هل تعلم ما وقع اليوم؟ ثم تذكر له ما وقع قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة فأتياه وهو في محرابه قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد والإثنين والجماعة، ومعنى قوله:
(إذ تسوروا المحراب) أتوه من أعلى سوره، ونزلوا إليه، والسور الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهما اثنين نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع، والمحراب الغرفة لأنهم تسوروا عليه وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام.
وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد، وقيل: إنهما كان إنسيين ولم يكونا ملكين، والعامل في إذ النبأ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم؟ وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء، وقيل:
25
العامل فيه. أتاك، وقيل: معمول للخصم، وقيل: معمول لمحذوف، أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم.
عن ابن عباس أن داود حدث نفسه إذا ابتلى أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فقيل له. هذا اليوم الذي تبتلى فيه فأخذ الزبور ودخل المحراب، وأغلق باب المحراب، وأخذ الزبور في حجره وأقعد منصفاً يعني خادماً على الباب، وقال: لا تأذن لأحد عليَّ اليوم فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير فيه من كل لون فجعل يدور بين يديه فدنا منه فأمكن أن يأخذه فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز من خلفه فأطبق الزبور، وقام إليه ليأخذه فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها فغطت جسدها أجمع بشعرها وكان زوجها غازياً في سبيل الله فكتب داود إلى رأس الغزاة انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت، وكان حملة التابوت، إما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل، وكتبت عليه بذلك كتاباً فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان، وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما ما قص الله في كتابه، وخر داود ساجداً فغفر الله له، وتاب عليه. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم (١).
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال، ما أصاب داود ما
_________
(١) رواه الطبري من رواية الصوفي عن ابن عباس ٢٣/ ١٤٦ والصوفي ضعيف ورواه عن السدي ٢٣/ ١٤٧ وقال ابن كثير: ولم يثبت عن المعصوم فيها حديث يجب اتباعه وأكثرها مأخوذ من الإسرائيليات. وقال عياض في الشفا: فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون عن أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيروا. والله أعلم.
26
أصابه بعد القدر إلا من عجب بنفسه وذلك أنه قال، يا رب ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر، وذكر أشياء فكره الله ذلك فقال، يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي فلولا عوني ما قويت عليه، وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً، قال يا رب فأخبرني به فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم.
وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنسر مرفوعاً بإسناد ضعيف.
وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين.
قال صاحب الكشاف بعد ذكر هذه القصة هذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء اهـ...
وقال القاضي عياض، لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا نقله بعض المفسرين، ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه الله في قصة داود (وظن داود أنما فتناه) وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود.
قال الرازي: حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه السلام هذا، وقال غيره: إن الله أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقلوه من القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس لاستهجنه العقلاء، ولقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كتابه القديم.
27
وروى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن عليّ بن أبي طالب أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء وروى أنه حُدِّث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به، وقال إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك وإن كان على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه فقال عمر سماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس.
قال النسفي: والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه وأشد تمكناً من قلبه، وأعظم أثراً فيه، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة انتهى قال أبو السعود: وأما ما يذكر من أنه عليه السلام تزوج امرأة أوريا فهو إفك مبتدع مكروه، ومكر مخترع تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويل لمن ابتدعه وأشاعه، وتباً لمن اخترعه وأذاعه، وسيأتي الكلام على ذنب داود عليه السلام في آخر هذه القصة.
28
(إذ) بدل من الأولى، وقيل هو معمول لتسوروا، وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما (دخلوا على داود ففزع منهم) لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم، ودخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس، قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالإرتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة.
(قالوا لا تخف) جملة مستأنفة كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم (خصمان) أي نحن خصمان وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا
28
بلفظ التثنية لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع، فالكل جائز قال الخليل: هو كما تقول: نحن فعلنا كذا إذا كنتما اثنين: وقال الكسائي جمع لما كان خبراً فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة أخبر الإثنان عن أنفسهما فقالا: خصمان وقوله.
(بغى بعضنا على بعض) هو على سبيل الفرض والتقدير أو على سبيل التعريض، لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان؛ ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ونهياه عن الجور فقالا: (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط) أي لا تجر في حكمك يقال: شط الرجل وأشط شططاً وإشطاطاً إذا جار في حكمه وتجاوز الحد قال أبو عبيدة شططت عليه وأشططت فيه أي جرت فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل وقال الأخفش معناه لا تسرف وقيل لا تفرط وقيل لا تمل والمعنى متقارب والأصل فيه البعد من شطت الدار إذا بعدت قال أبو عمر: والشطط مجاوزة القدر في كل شيء.
(وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) أي وسطه ومحجته أي العدل والصواب، والمعنى أرشدنا إلى الحق واحملنا عليه ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالاً شرعا في تفصيلها وشرحها فقال:
29
(إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) المراد بالأخوة هنا أخوة الدين، قاله ابن مسعود، أو الصحبة أو الألفة أو أخوة الشركة والخلطة، والنعجة هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة ويعبر بها عن المرأة لما هي عليه من السكون والعجز وضعف الجانب وقد يكنّى عنها بالبقرة والحجر والناقة لأن الكل مركوب قال الواحدي النعجة البقرة الوحشية والعرب تكني عن المرأة بها وتشبه النساء بالنعاج من البقر، قرأ الجمهور تسع وتسعون بكسر التاء، وقرىء بفتحها، قال النحاس وهي لغة شاذة، وإنما عنى بهذا داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة وعنى بقوله:
(ولي نعجة واحدة) أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود (١) كما تقدم بيان ذلك (فقال أكفلنيها) أي ضمها إليّ وانزل لي عنها حتى أكفلها
_________
(١) راجع تعليقات المطيعي رقم ١ في الاستدراك آخر الكتاب.
29
وأصير بعلاً لها قال ابن كيسان اجعلها كفلي ونصيبي قال ابن مسعود ما زاد داود على أن قال اكفلنيها وعن ابن عباس قال ما زاد داود على أن قال تحول لي عنها وهذا يخالف ما سبق عنه (١).
(وعزني في الخطاب) أي غلبني يقال عزه يعزه عزاً إذا غلبه، وفي المثل من عزّ بزّ أي من غلب أخذ السلب، والإسم العزة، وهي القوة قال عطاء المعنى إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني لقوة ملكه فالغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده، وإن كان الحق معي، وهذا كله تمثيل، وقرىء وعازني أي غالبني من المعازة وهي المغالبة.
_________
(١) قال المفسر (ص ١٦٠) " ولي نعجة واحدة " أوريا.. الخ. وجاء التعليق هكذا: كان على المصنف أن لا يقحم قصة أوريا الإسرائيلية في مفهوم الآيات، لا سيما وقد سبق له أنه نقل إن الصحابة رفضوا هذه القصة.
30
(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول واللام هي الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب القسم المقدر، وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الإعتراف من الآخر قال النحاس ويقال إن خطيئة داود هي قوله لقد ظلمك لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت.
(وإن كثيراً من الخلطاء) وهم الشركاء واحدهم خليط، وهو المخالط في المال (ليبغي) اللام لام التوكيد وقعت في خبر إن أي يتعدى (بعضهم على بعض) ويظلمه غير مراع لحقه (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطاً ولا غيره والإستثناء متصل (وقليل ما هم) أي وقليل هم، وما زائدة لتوكيد القلة والتعجيب وقيل هي موصولة وهم مبتدأ وقليل خبره، عن ابن عباس قال يقول قليل الذي هم فيه.
30
(وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، ومعنى فتناه إبتليناه، وقال ابن عباس. اختبرناه، والمعنى أنه عند أن تخاصما إليه، وقال ما قال، علم عند ذلك أنه المراد وأن مقصودهما التعريص به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته، قال الواحدي قال المفسرون، فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فعند ذلك علم داود بما أراداه قرأ الجمهور فتناه بالتخفيف للتاء وتشديد النون وقرىء بالتشديد للتاء والنون وهي مبالغة في الفتنة، وقرأ الضحاك أفتناه، وقرىء فتناه بتخفيفهما وإسناد الفعل إلى الملكين.
(فاستغفر ربه) لذنبه (وخر راكعاً) أي ساجداً، وعبر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء، وقيل: خر ساجداً بعد ما كان راكعاً، قال ابن العربي لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود فإن السجود هو الميل والركوع هو الإنحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئته ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر وقيل المعنى للسجود راكعاً أي مصلياً وقيل: بل كان ركوعهم سجوداً، وقيل: بل كان سجودهم ركوعاً.
(وأناب) أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، قال المفسرون: سجد داود أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجداً إلى تمام أربعين لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال.
الأول: أنه نظر إلى امرأة الرجل الذي أراد أن تكون زوجة له كذا قال سعيد بن جبير وغيره قال الزجاج ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود
31
النظر إليها وصارت الأولى له والثانية عليه.
الثاني: أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة.
الثالث: أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها.
الرابع: أن أوريا بن حنان كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها.
الخامس: أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة.
السادس: أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا، وأقول الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء فقد نبهه الله على ذلك وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه، فاستغفر وتاب عنه.
وقد قال تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) وهو أبو البشر، وأول الأنبياء ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه، وفي الآية ما يدل على صدور الذنب منه، وهو قوله (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) وقوله (فاستغفر ربه) وقوله (وأناب) وقوله:
32
(فغفرنا له ذلك) والجواب عن هذا بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ليس كما ينبغي، والأولى ما ذكرناه، ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته فقال:
32
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
(فغفرنا له ذلك) الذنب الذي استغفر منه قال عطاء الخراساني وغيره إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه، وغمر رأسه قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: ذلك تام. ثم يبتدأ الكلام بقوله.
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) والزلفى القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه، قال مجاهد الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة والمراد بحسن المآب حسن المرجع وهو الجنة.
وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن رسول الله ﷺ " أنه ذكر يوم القيامة فعظم شأنه وشدته قال: ويقول الرحمن عز وجل لداود عليه السلام: مر بين يدي، فيقول داود: يا رب أخاف أن تدحضني خطيئتي، خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر قال فتلك الزلفى التي قال الله (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).
وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال في السجود في (ص) ليست من عزائم السجود وقد " رأيت رسول الله ﷺ يسجد فيها " وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاًً " أن النبي صلى الله عليه
33
وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً " (١).
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ سجد في (ص) وعن أنس مثله مرفوعاً، أخرجه ابن مردويه وأخرج الدارمي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال " قرأ رسول الله ﷺ وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه؛ فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود فقال إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود فنزل فسجد ".
_________
(١) النسائي ٢/ ٣١٩ السنن الكبرى.
34
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا أي وقلنا له: يا داود إنا استخلفناك على الأرض، أو جعلناك خليفة لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتدبر أمر الناس، وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير قط.
(فاحكم بين الناس بالحق) أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات، وإذا كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى إلى تخريب العالم ووقوع الهرج فيه؛ والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم.
(ولا تتبع الهوى). أي هوى النفس في الحكم بين العباد وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل، وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس.
(فيضلك عن سبيل الله) بالنصب على أنه جواب النهي، والفاعل
34
هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما وعلى الثاني يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة، وسبيل الله هو طريق الجنة أو دلائله التي نصبها على الحق تشريعاً وتكويناً.
(إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال (بما نسوا يوم الحساب) الباء للسببية، ومعنى النسيان الترك، قال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينظرون ويذكرون ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا.
وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير، ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا أي تركوا القضاء بالعدل والأول أولى.
35
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من أمر البعث والحساب أي ما خلقنا هذه الأشياء خلقاً باطلاً خارجاً عن الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا. فانتصاب باطلاً على المصدرية أو على الحالية أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله (ذلك) إلى النفي قبله وهو مبتدأ وخبره: (ظن الذين كفروا) أي مظنونهم فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ويقولون: إنه لا قيامة ولا بعث ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلاً.
(فويل للذين كفروا من النار) الفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بعلية للصلة، لاستحقاقهم الويل، ثم وبخهم وبكتهم فقال:
35
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (٣١) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (٣٢) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣)
36
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة كما تعطون فنزلت وأم هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة للإضراب الانتقالي عن تقرير أمر البعث والحساب والجزاء، بما مر من نفي خلق العالم خالياً عن الحكم والمصالح إلى تقريره وتحقيقه بما في الهمزة من إنكار التسوية بين الفريقين، ونفيها على أبلغ وجه وآكده؛ أي بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا بفرائضه كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض بالمعاصي.
قال ابن عباس في الآية الذين آمنوا عليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث والمفسدون في الأرض عتبة وشيبة والوليد ثم أضرب سبحانه إضراباً آخر وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه فقال:
(أم نجعل المتقين كالفجار) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين؟ وحمل الفجار على المنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، مما لا يساعده المقام، وقيل المراد بالمتقين الصحابة ولا وجه للتخصيص بغير مخصص والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين على الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين.
(كتاب) أي القرآن كتاب (أنزلناه إليك) يا محمد (مبارك). أي
36
كثير الخير والبركة (ليدبروا آياته) أي التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع، وهو متعلق بأنزلناه؛ وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه لا لمجرد التلاوة بدون تدبر، قال الحسن قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، قرأ الجمهور ليدبروا بالإدغام، وقرىء لتدبروا بالتاء الفوقية على الخطاب وهي قراءة عليّ رضي الله تعالى عنه والأصل لتتدبروا.
(وليتذكر أولو الألباب) أي ليتعظ أهل العقول والبصائر والألباب جمع لب وهو العقل.
37
(ووهبنا لداود سليمان) أخبر سبحانه بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولداً ثم مدح سليمان فقال (نعم العبد) أي سليمان فالمخصوص بالمدح محذوف، وقيل: إن المدح هنا بقوله نعم العبد هو لداود، والأول أولى وجملة (إنه أواب) تعليل لما قبلها من المدح والأواب الرجاع إلى الله بالتوبة، كما تقدم بيانه.
(إذ عرض عليه بالعشي) أي اذكر ما صدر عنه وقت أن عرض عليه (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) وقيل: هو متعلق بنعم، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، قيل: متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أواباً بذلك الوقت، والعشي من الظهر أو العصر إلى آخر النهار. والصافنات جمع صافن.
وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي والفراء الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها وبه قال قتادة ومنه الحديث " من أحب أن يتمثل له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار (١) "، أي يديمون القيام له وقال
_________
(١) لم نره بهذا اللفظ ورواه الترمذي ٢/ ١٠٠ من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: " من سره أن يتمثل به الرجال قياماً فليتبؤوا مقعده من النار " ورواه أبو داود ٥٢٢٩. وأحمد ٤/ ٩١ باختلاف في الرواية.
37
الزجاج هو الذي يقف على إحدى اليدين ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها، حتى كأنه يقوم على ثلاث وهي الرجلان وإحدى اليدين وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه، وهي علامة الفراهة.
وقال أبو عبيدة الصافن الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المتخيم، والجياد جمع جواد يقال للفرس ذكراً كان أو أنثى إذا كان شديد العدو، وقيل: إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد وهو العنق وقيل الذي يجود في الركض، قيل كانت مائة فرس. وقيل كانت عشرين ألفاً قيل كانت عشرين فرساً، وعن إبراهيم التيمي قال كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة فعقرها، وقيل إنها خرجت له من البحر وكانت لها أجنحة (١).
وعن أبي هريرة قال الصافنات الجياد خيل خلقت على ما شاء وعن مجاهد قال صفون الفرس رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر والجياد السراع لأنه يجود بالركض وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجان، وإنما هو في العراب، وقيل: وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها، قيل إن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس، وقيل ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة.
_________
(١) قد يكون في هذا القول غرابة لأننا لم نسمع بخيل لها أجنحة إلا أنه ليس بمستبعد لأن الله وهب لسليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعد.
38
(فقال) اعترافاً بما صدر منه وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها والتعقيب باعتبار آخر العرض الممتد دون ابتدائه (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) انتصاب حب على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى آثرت، قال الفراء يقول آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئاًً فقد آثره وقيل انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد، والناصب له أحببت، وقيل هو مصدر تشبيهي أي حباً مثل حب الخير، والأول أولى، والمراد بالخير هنا
38
الخيل، قاله الزجاج، وقال الفراء الخير والخيل في كلام العرب واحد، وأنها تعاقب بين الراء واللام فتقول انهملت العين وانهمرت وختلت وخترت، قال النحاس وفي الحديث، الخيل معقود بنواصيها الخير فكأنها سميت خيراً لهذا وقيل لما فيها من المنافع وعن بمعنى على، أي آثرت حب الخيل على ذكر ربي يعني صلاة العصر، وبه قال علي، وقال ابن عباس الخير المال، وقيل أحببت بمعنى لزمت، وقيل بمعنى قعدت من أحب البعير إذا سقط وبرك من الإعياء، وفيل بمعنى أردت.
(حتى توارت بالحجاب) يعني الشمس ولم يتقدم لها ذكر ولكن المقام يدل على ذلك، قال الزجاج إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل. وهو قوله بالعشي، والتواري الاستتار عن الأبصار والحجاب ما يحجبها عن الأبصار، قال قتادة وكعب الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق وهو جبل قاف، وسمي الليل حجاباً لأنه يستر ما فيه ويقال إن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه وفيه بعد وبرودة (١)، وعن ابن مسعود قال توارت من وراء ياقوتة خضراء فخضرة السماء منها، وعن ابن عباس قال كان سليمان لا يكلم إعظاماً له فلقد فاتته صلاة العصر وما استطاع أحد أن يكلمه، وقيل الضمير للخيل أي حتى توارت في المسابقة عن الأعين، والأول أولى.
وقوله:
_________
(١) قال المفسر (ص ١٦٨) " حتى توارت بالحجاب " قال قتادة وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف الخ. وكان تعليق الأستاذ طويلاً وخلاصته أنه لا يوجد في الدنيا جبل اسمه جبل قاف، وقد حصرت جبال الدنيا الآن وعرف الإنسان جميع الجبال وأسماءها وأماكنها.
39
(ردوها عليّ) من تمام كلام سليمان أي أعيدوا عرضها عليّ مرة أخرى، قال الحسن إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر
39
غضب لله، وقال ردوها عليّ، أي أعيدوها، وقال ابن عباس ردوها أي الخيل وقيل الضمير يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر، والأول أولى.
(فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) الفاء هي الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام والتقدير هنا فردوها عليه قال أبو عبيدة طفق يفعل مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظل وبات وانتصاب مسحاً على المصدرية بفعل مقدر، أي يمسح مسحاً لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال والأول أولى والسوق جمع ساق والأعناق جمع عنق والمراد أنه طفق يضرب أعناقها وسوقها بالسيف، يقال مسح علاوته أي ضرب عنقه قال الفراء المسح هنا القطع قال: والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة قال الزجاج ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له، وجاز أن يباح ذلك لسليمان. ويحظر في هذا الوقت.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية فقال قوم المراد بالمسح ما تقدم وقال آخرون منهم الزهري وقتادة أن المراد به المسح على سوقها وأعناقها لكشف الغبار عنها حيالها، والقول الأول أولى بسياق الكلام فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردها عليه ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك. وما صده عن عبادة ربه، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردها عليه هو كشف الغبار عن سوقها وأعناقها بالمسح عليها بيده، أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال إن إفساد المال لا يصدر عن نبي فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح.
40
على أن إفساد المال المنهي عنه في شرعنا إنما هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح وأما لغرض صحيح فقد جاز مثله في شرعنا، كما وقع منه ﷺ من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر، قال ابن عباس مسحاً عقراً بالسيف، أي قطع سوقها وأعناقها بالسيف.
قال الرازي: التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن تقول: إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا. ثم إن سليمان احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله تعالى، وتقوية دينه، وهو المراد بقوله عن ذكر ربي، ثم إنه أمر بإعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب ثم أمر برد الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول: تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه.
الثالث: أنه أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسح حتى يعلم ما فيها مما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات انتهى وما أبرد هذا التفسير من الرازي، وأبعده عن النظم القرآني والحق ما ذكرناه فإن اللغة تشهد بضرب السوق والأعناق، ولا وجه للعدول عنه إلى تأويل ركيك، وتوجيه بعيد، بناء على عصمة الأنبياء عليهم السلام.
41
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨)
42
(ولقد فتنا سليمان) أي ابتليناه واختبرناه بسلب ملكه قال الواحدي قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان امرأة من بنات الملوك فعبدت الصنم في داره، ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذلك وقيل: إن سبب الفتنة أنه تزوج سليمان امرأة يقال لها جرادة وكان يحبها حباً شديداً فاختصم إليه فريقان أحدهما من أهل جرادة فأحب أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق.
وقيل السبب أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد، وقيل إنه تزوج جرادة هذه وهي مشركة لأنه عرض عليها الإسلام فقالت: اقتلني ولا أسلم.
وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه، وقال الحسن إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره.
وقيل إنه أمر أن لا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غيرهم.
وقيل إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح " أنه قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله " وقيل غير ذلك والمصير إلى الحديث متعين.
42
قال النسفي وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان فمن أباطيل اليهود انتهى، أقول حديث الخاتم أخرجه النسائي وغيره وقواه السيوطي كما سيأتي فكونه من أباطيل اليهود ليس على ما ينبغي (١) ثم بين سبحانه ما عاقبه به فقال:
ْ (وألقينا على كرسيه جسداً) قال أكثر المفسرين هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شيطان اسمه صخر، وكان متمرداً عليه غير داخل في طاعته. ألقى الله شبه سليمان عليه، وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان وذلك عند دخول سليمان الكنيف لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان فقعد على سرير سليمان، وأقام أربعين يوماً على ملكه، وسليمان هارب كان ملكه مرتباً على لبسه، فإذا لبسه سخرت له الجن والإنس والرياح وغيرها وإذا نزعه زال عنه الملك.
قيل وكان خاتمه من الجنة نزل به آدم كما نزل بعصا موسى والحجر الأسود وبعود البخور وبأوراق التين وقد نظم الخمسة بعضهم في قوله:
وآدم معه أنزل العود والعصا | لموسى من الآس النبات المكرم |
وأوراق تين واليمين بمكة | وختم سليمان النبي المعظم |
ولكن يفتقر ذلك إلى دليل يدل له من الأخبار المرفوعة الصحيحة.
وقال مجاهد إن شيطاناً قال له سليمان كيف تفتنون الناس؟ قال أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد الشيطان على
_________
(١) حاول المفسر (١٧٠) أن يصحح حديث خاتم سليمان، وقد قال عنه النسفي إنه من أباطيل اليهود، والمفسر في محاولته احتج بتقوية السيوطي له، فجاء التعليق هكذا: لا يبعد أن يدس اليهود بعض الأباطيل على المسلمين ليفسدوا هذا الدين الذي قوض ملكهم، وأما تقوية السيوطي فلا وزن لها لما عرف عنه من تصحيح الضعيف. وأما ما نقله عن كعب الأخبار قبل ذلك بسطرين من ظلم سليمان فأرجو أن لا يقيم له القارىء وزناً.
43
كرسيه ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهن، وكان سليمان يستطعم فيقول أتعرفونني؟ أطعموني، فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوما حوتاً فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وهو معنى قوله (١):
(ثم أناب) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين، وقيل معنى أناب رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب، قيل فتن سليمان بعدما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة أخرج الحاكم وصححه والفريابي والحكيم الترمذي عن ابن عباس، قال الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوماً، وكان لسليمان امرأة يقال لها جرادة وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء فكان لا يدري أيأتيه من السماء؟ أم من الأرض؟.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي قوي عن ابن عباس " قال أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى جرادة خاتمه وكانت جرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال هاتي خاتمي قالت قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحداً يقول أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله وقام الشيطان يحكم بين الناس؛ فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن تنكرن
_________
(١) ذكر المؤلف (ص ١٧١) عن مجاهد بضعة أسطر فجاء تعليق الأستاذ هكذا: هذا الكلام بأقاصيص ألف ليلة وليلة أشبه، وأبعد ما يكون عن سير المرسلين.
44
من أمر سليمان شيئاًً؟ قلن نعم إنه يأتينا ونحن نحيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها وقرأوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم. فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ قال نعم بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك فحمل سليمان السمك ثم أنطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انباط معه الرصاص فأخذوه فأوثقوه وجاؤا به إلى سليمان فأمر به فنقر له تخت من رخام، ثم أدخله في جوفه ثم شد بالنحاس، ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) يعني الشيطان الذي كان سلط عليه (١).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته.
_________
(١) ذكر المؤلف (ص ١٧١) عن النسائي وابن جرير قصة طويلة عن خاتم سليمان، وهي قصة موضوعة؛ ومما يدل على وضعها أن الشيطان جاء في صورة سليمان، والشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ووغيرهم.
45
(قال) سليمان (رب اغفر لي) ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصلحاء، هضماً للنفس وإظهاراً للذل والخشوع، وطلباً للترقي في المقامات ثم لما قدم التوبة والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته فقال:
(وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) قال أبو عبيدة معناه لا يكون لأحد من بعدي، وقيل لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته، وليس هذا من سؤال نبي الله سليمان عليه السلام للدنيا وملكها، والشرف بين أهلها بل المراد بسؤاله الملك أن يتمكن به من إنقاذ حكم الله سبحانه والأخذ على يد المتمردين من عباده من الجن والإنس ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله لكفى.
وجملة (إنك أنت الوهاب) تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، لا بالأخيرة فقط، فإن المغفرة أيضاًً من أحكام وصف الوهابية قطعاً قاله أبو السعود.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " إن عفريتاً من الجن جعل يتفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي، وإن الله أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فرده الله خاسئاً " (١) ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته وإعطاءه لمسألته فقال:
_________
(١) رواه البخاري ٦/ ٣٢٩ و٨/ ٤٢٠ ومسلم ١/ ٣٨٤ والسيوطي في الدر ٥/ ٣١٣.
(فسخرنا له الريح) أي ذللناها له، وجعلناها منقادة لأمره ثم بين
46
كيفية التسخير لها بقوله: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً) أي لينة الهبوب ليست بالعاصف مأخوذ من الرخاوة والمعنى أنها ريح لينة لا تزعزع ولا تعصف مع قوة هبوبها وسرعة جريها ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره، لأن المراد أنها في قوة العاصفة ولا تعصف وقيل إنها كانت تارة رخاء وتارة عاصفة، على ما يريده سليمان ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين.
(حيث أصاب) قال الزجاج إجماع أهل اللغة والمفسرين على أن معنى حيث أصاب حيث أراد، وحقيقته حيث قصد، وقال الأصمعي وابن الأعرابي العرب تقول أصاب الصواب، وأخطأ الجواب. وقيل معنى أصاب بلغة حمير أراد، وليس من لغة العرب، وقيل هو بلسان هجر والأول أولى وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض.
47
(و) سخرنا له (الشياطين) وقوله: (كل بناء وغواص) بدل من الشياطين أي كل بناء منهم، وغواص منهم، يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر فيستخرجون له الدّر منه. وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
(وآخرين مقرنين في الأصفاد) معطوف على كل داخل في حكم البدل، وهم مردة الجن والشياطين، سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد يقال: قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد الأغلال واحدها صفد، قال الزجاج: هي السلاسل فكل ما شددته شداً وثيقاً بالحديد وغيره فقد صفدته قال أبو عبيدة: صفدت الرجل فهو مصفود، وصفدته فهو مصفد، قال يحيى ابن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم.
47
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢)
48
(هذا) أي ما تقدم من تسخير الريح والشياطين له أو من الملك والمال والبسطة، وهو بتقدير القول، أي وقلنا له: هذا (عطاؤنا) الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته.
(فامنن أو أمسك) أي فأعط من شئت وامنع من شئت، قاله الحسن والضحاك وغيرهما، وقال ابن عباس: أعتق من الجن من شئت، وأمسك منهم من شئت (بغير حساب) لا حساب عليك في ذلك الإعطاء والإمساك، أو عطاؤنا لك بغير حساب، لكثرته وعظمته، وقال قتادة: إن قوله هذا عطاؤنا إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع، وهذا لا وجه لقصر الآية عليه، لو قدرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات فكيف يدعي اختصاص الآية مع عدم ذكره؟
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) أي قربة في الآخرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي حسن مرجع وهو الجنة.
(واذكر عبدنا أيوب) أيوب عطف بيان، وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام حتى كأن قصتيهما قصة واحدة (وأيوب) هو ابن عيصو بن إسحق.
(إذ نادى ربه) بدل اشتمال من عبدنا (أني مسني الشيطان) قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى به ربه، ولو لم يحكه لقال: إنه مسه، وقرىء بكسرها على إضمار القول وفي ذكر قصة أيوب إرشاد لرسول الله ﷺ إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره.
48
(بنصب) قرأ الجمهور بضم النون وسكون الصاد فقيل: هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد، وقيل هو لغة في النصب نحو رشد ورشد وقرىء بضمتين، وبفتحتين وبفتح وسكون وهذه القراءات باختلاف اللغات. وقال أبو عبيدة: إن النصب بفتحتين التعب والإعياء، وعلى بقية القراءات الشر والبلاء.
(وعذاب) أي ألم، قال قتادة ومقاتل: النصب في الجسد والعذاب في المال، قال النحاس: وفيه بعد، كذا قال، والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب، وهو الألم وكلاهما راجع إلى البدن.
وقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس خبراً طويلاً في قصة أيوب " أوله أن الشيطان عرج إلى السماء فقال: يا رب سلطني على أيوب، قال الله تعالى: لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده الحديث بطوله " (١)، وفيه نكارة شديدة فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلطه عليه، هذا التسليط العظيم، وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله سبحانه هو الذي مسه بذلك إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب، فقد قيل إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل استغاثه مظلوم فلم يغثه، وقيل إنه قال ذلك على طريقة الأدب وقيل إنه قال ذلك لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه فرفضوه وأخرجوه من ديارهم وقيل المراد به ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه من
_________
(١) ذكر المؤلف (ص ١٧٥) بضعة تفاسير لقول أيوب (أني مسني الشيطان) فجاء التعليق هكذا: لماذا لا يكون مس الشيطان متصلاً بعمل أيوب كنبي ورسول إلى قومه حيث كان يوسوس لقومه فيكابرون وينقضون ما عقدوه مع أيوب من المواثيق، فكان عمل الشيطان له صلة مباشرة بإرهاق أيوب ومسه بالتعب.
49
تحسين الجزع، وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك.
50
(اركض برجلك) أي قلنا له اركض كذا قال الكسائي والركض الدفع بالرجل، يقال: ركض الدابة إذا ضربها بها وقال المبرد الركض التحريك، قال الأصمعي يقال ركضت الدابة، ولا يقال ركضت هي لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه، ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر.
(هذا مغتسل بارد وشراب) هذا أيضاًً من مقول القول المقدر، وفي الكلام حذف والتقدير فركض برجله فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل الخ وظاهر النظم الكريم أن الاغتسال والشرب كانا من عين واحدة والمغتسل هو الماء الذي يغتسل به والشراب الذي يشرب منه، وقيل إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه، قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية فاغتسل من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه، وكذا قال الحسن، وقال مقاتل نبعت عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحاً، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذباً بارداً.
(ووهبنا له أهله) معطوف على مقدر كأنه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا عنه بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله قيل أحياهم الله بعد أن أماتهم وقيل جمعهم بعد تفرقهم، وقيل غيرهم مثلهم، ثم زاده مثلهم معهم، وهو معنى قوله:
(ومثلهم معهم) فكانوا مثلى ما كانوا من قبل ابتلائه (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليتذكر بحاله أولو الألباب، فيصبروا على الشدائد كما صبر، ويلجأوا إلى الله كما لجأ ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة: وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده.
50
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥)
51
(وخذ) معطوف على اركض، أو على وهبنا، أو التقدير وقلنا له خذ (بيدك ضغثاً) هو عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها، وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان، وأصل المادة تدل على جمع المختلطات، قال الواحدي الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ، وعن ابن عباس قال: الضغث هو الأسل، وقال أيضاًً الضغث القبضة من المرعى الرطب، وقال أيضاًً الحزمة.
(فاضرب به) أي بذلك الضغث (ولا تحنث) في يمينك والحنث الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، لأنهما سببان فيه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة، واختلف في سبب ذلك فقال سعيد بن المسيب إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربها.
وقال يحيى بن سلام وغيره، إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلةً تقرباً إليه فإنه إذا فعل ذلك بريء. فحلف ليضربنها إذا عوفي مائة جلدة، وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاًً وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها وأخرج أحمد في الزهد عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتاً يداوي الناس فقالت امرأة أيوب: يا عبد الله إن ههنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه،
51
قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله عليَّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً فيضربها به، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ فضربها به ضربة واحدة (١).
وأخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال " حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها: ممن حملك؟ قالت من فلان المقعد، فسئل المقعد فقال: صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال: خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة. وله طرق أخرى.
وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك؟ قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلاناً مائة جلدة أو ضرباً ولم يقل ضرباً شديداً ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية حكاه ابن المنذر عنه، وعن أبي ثور وأصحاب الرأي، وقال عطاء هو خاص بأيوب، ورواه ابن القاسم عن مالك، ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال:
(إنا وجدناه) أي علمناه (صابراً) على البلاء الذي ابتليناه به فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وولده وأهله فصبر وليس في شكواه إلى الله إخلال بذلك فإنه ليس جزعاً تمني العافية وطلب الشفاء، والشكاية المذمومة إنما هي إذا كانت للمخلوقين، قال ابن مسعود أيوب رأس الصابرين يوم القيامة.
(نعم العبد) أي أيوب (إنه أواب) أي رجاع إلى الله تعالى بالاستغفار والتوبة.
_________
(١) انظر ما كتبه ابن الجوزي في كتابه زاد السير ٧/ ١٤٣.
52
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) أي أذكر صبرهم على ما أصابهم تتأس بهم، قرأ الجمهور عبادنا بالجمع، وقرىء بالإفراد؛ فعلى قراءة الجمهور يكون إسحق وإبراهيم ويعقوب عطف بيان، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم، وقد يقال لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه، وقيل إن إبراهيم وما بعده بدل، أو النصب بإضمار أعني، وعطف البيان أظهر وقراءة الجمهور أبين، وقد اختارها أبو حاتم وأبو عبيدة.
(أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) الأيدي جمع اليد أي الجارحة فكني بذلك عن الأعمال لأن أكثر الأعمال إنما يزاول باليد، وقيل جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة، قال قتادة أعطوا قوة في العباد ونصراً في الدين قال الواحدي وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون قال النحاس أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم وأما الأيدي فمختلف في تأويلها فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين، وقوم يقولون الأيدي جمع يد، وهي النعمة أي هم أصحاب النعم الذين أنعم الله عز وجل عليهم وقيل هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيراً واختار هذا ابن جرير، قرأ الجمهور الأيدي بإثبات الياء وقرىء بغير ياء فقيل معناها معنى الأولى وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها وقيل الأيد القوة إلا أن الزمخشري قال وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن انتهى وكأنه إنما قلق عنده لعطف الابصار عليه. فهو غير مناسب للأيد من التأييد وقد يقال إنه لا يراد حقيقة الجوارح إذ كل أحد كذلك إنما المراد الكناية عن العمل الصالح والتفكر ببصيرته فلم يقلق حينئذ إذ لم يرد حقيقة الابصار وكأنه قيل أولي القوة والتفكر بالبصيرة، وقد نحا الزمخشري إلى شيء من هذا قبل ذلك، قاله السمين، قال ابن عباس القوة في العبادة والأبصار، الفقه في الدين؛ وعنه قال الأيدي النعمة وقيل أولى الأعمال الجليلة، والعلوم الشريفة فعبر بالأيدي عن الأعمال وبالابصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها.
53
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (٥٤)
54
(إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية، وعلو الرتبة في العلم والعمل، قرأ الجمهور بخالصة بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى منصوباً به أو بمعنى الخلوص، فيكون ذكرى مرفوعاً به أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، وذكرى بدل منها، أو بيان لها أو منصوبة بإضمار أعني أو مرفوعة على إضمار مبتدأ، والدار مفعول به بذكرى أو ظرف إما على الاتساع أو على إسقاط الخافض، وعلى كل تقدير فخالصة صفة لموصوف محذوف، والباء للسببية، أي بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها، وقرىء بإضافة خالصة إلى ذكرى، على أن الإضافة للبيان، لأن الخالصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى، كما في قوله (شهاب قبس) لأن الشهاب يكون قبساً وغيره، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل محذوف، أي بأن أخلصوا ذكر الدار وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا، أو مصدر بمعنى الخلوص مضاف إلى فاعله، قال مجاهد معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها، وقال قتادة كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله، وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة.
قال الواحدي: فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى جعلناهم لنا
54
خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص، والذكرى بمعنى التذكر، أي خلص لهم تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب لها ويزهدون في الدنيا، وذلك من شأن الأنبياء وأما من أضاف فالمعنى أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل والذكرى على هذا المعنى الذكر.
قال ابن عباس أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعلموا لها وقيل: ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا. وهذا شيء قد أخلصهم به، فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به يقويه قوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) قاله النسفي، وفيه بعد. وقال ابن جزي: معناه إنا جعلناهم خالصين لنا أو خصصناهم دون غيرهم، وأما الباء على الأول فهي للتعليل.
وعلى الثاني هي لتعدية الفعل انتهى.
55
(وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) فهو الاصطفاء الاختيار، والأخيار، جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشدداً ومخففاً، والمعنى إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار.
(وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ) قيل وجه ذكره مفرداً بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا.
(وَالْيَسَعَ) هو ابن أخطوب بن العجوز استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبىء.
(وَذَا الْكِفْلِ) اختلف في نبوته ولقبه، وهو ابن عم اليسع أو هو بشر بن أيوب بعثه الله بعد أبيه، وسماه ذا الكفل وكان مقيماً بالشام حتى مات، وعمره خمس وسبعون سنة، وقد تقدم ذكر اليسع. والكلام فيه في الأنعام، وتقدم ذكر ذي الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء، والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحمل الشدائد في دين الله، أمر الله
55
رسوله ﷺ بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر.
(وكل) أي كل المتقدمين من داود إلى هنا (من الأخيار) الذين اختارهم الله سبحانه لنبوته واصطفاهم من خلقه
56
(هذا ذكر) إشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم الناطقة بمحاسنهم، أي هذا ذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به أبداً، جملة جيء بها إيذاناً بأن القصة قد تمت، وأخذ في أخرى.
(وإن للمتقين) مع هذا الذكر الجميل (لحسن مآب) في الآخرة والمآب المرجع، وهذا شروع في بيان أجرهم الجزيل الآجل، بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل وهو باب آخر من أبواب التنزيل، والمعنى إنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه، ونعيم جنته. ثم بين حسن المرجع فقال:
(جنات عدن) قرىء بالنصب بدلاً أو عطف بيان لحسن مآب وعدن وهو في الأصل الإقامة، يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه، وقيل هو اسم لقصر في الجنة، وقرىء برفع جنات على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي هي جنات عدن.
(مفتحة لهم الأبواب) حال من جنات، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، والأبواب مرتفعة باسم المفعول، كقوله: وفتحت أبوابها، والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر، أي منها أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها، وقيل ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات، وبه قال أبو علي الفارسي، أي مفتحة هي الأبواب، قال الفراء: المعنى مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة، وقال الزجاج المعنى مفتحة لهم الأبواب منها، قال الحسن إن الأبواب يقال لها: انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق، وقيل: تفتح لهم الملائكة الأبواب حال كونهم
(متكئين فيها) أي في الجنات.
56
(يدعون فيها بفاكهة كثيرة) أي بألوان متنوعة متكثرة من الفواكه (وشراب) كثير فحذف كثير لدلالة الأول عليه، والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي، قيل: الجملة مستأنفة لبيان حالهم فيها أو حال مما ذكر.
57
(وعندهم قاصرات الطرف) أي قاصرات طرفهن على أزواجهن، وحابسات العين لا ينظرن إلى غيرهم، وقد مضى بيانه في سورة الصافات.
(أتراب) أي متحدات في السن والشباب، أو متساويات في الحسن والجمال وقال مجاهد المعنى أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ولا يتحاسدن، بنات ثلاث وثلاثين سنة، وقيل لدات آي متقاربات في الولادة، لأن التحاب بين الأقران أثبت أو بعضهن لبعض أو نصف لا عجوز فيهن ولا صبية، قال الشهاب: لدات جمع لدة كعدة أصلها ولد، وهو كالترب من يولد معك في وقت واحد، كأنهما وقعا على التراب في زمن واحد، والأتراب جمع ترب، واشتقاقه من التراب، لأنه يمسهن في وقت واحد، لاتحاد مولدهن والمعاني متقاربة.
(هذا ما توعدون ليوم الحساب) أي هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء، والمعنى في يوم الحساب، قرأ الجمهور توعدون على الخطاب التفاتاً، وقرىء بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله: وإن للمتقين، فإنه خبر.
(إن هذا) المذكور من النعم والكرامات والجنات وأوصافها (لرزقنا) الذي أنعمنا به عليكم وأعطيناكموه (ما له من نفاد) أي لا ينقطع ولا يفنى أبداً، ومثله قوله (عطاءً غير مجذوذ) فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها.
57
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (٥٩) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١)
58
(هذا) أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو هذا ذكر فيوقف على هذا، قال ابن الأنباري: وهذا وقف حسن، قال ابن الأثير هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو خير من الوصل وهي علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام إلى كلام آخر، أي خذ هذا كيت وكيت، وفيه بحث إذ يلزم حينئذ عطف الإخبار على الإنشاء، ولذا لم يذكر الزمخشري هذا التقدير ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشر بعد أن ذكر ما لأهل الخير فقال:
(وإن للطاغين) الذين طغوا على الله وكذبوا رسله (لشر مآب) أي لشر منقلب ينقلبون إليه ثم بين ذلك فقال:
(جهنم) بدل أو عطف بيان.
(يصلونها) أي يصلون جهنم، ويدخلونها (فبئس المهاد) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وهو الفراش، مأخوذ من مهد الصبي، أو المراد بالمهد الموضع: والمخصوص بالذم محذوف، أي بئس الهاد هي كما في قوله: (لهم من جهنم مهاد) شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالهاد.
(وهذا فليذوقوه حميم وغساق) أي هذا حميم وغساق ليذوقوه، قاله الفراء والزجاج، أي يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة، والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره، والغساق ما سال من جلود أهل النار من القيح، ومن الصديد، من قولهم: غسقت عينه إذا انصبت، والغسقان الانصباب، قال
58
النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدأ محذوف، أي هو حميم وغساق، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ويجوز أن يكون حميم مرتفعاً على الابتداء، وخبره مقدر قبله أي منه حميم ومنه غساق، وقيل: الغساق ما قتل برده، ومنه قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار؛ وقيل: هو الزمهرير وقيل الغساق المنتن، وقيل هو عين في جهنم يسيل إليها كل ذوب حية وعقرب وقال قتادة هو ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم.
وقال محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار، وقال السدي: الغساق الذي يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم، وكذا قال ابن زيد، وقال مجاهد ومقاتل. هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده، وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب وأنسب أيضاًً بمقابلة الحميم، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين من غساق، وقرىء بالتشديد وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال الأخفش، وقيل معناهما مختلف فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضراب وقتال.
وقال ابن عباس غساق الزمهرير وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن دلوا من غساق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا " قال الترمذي بعد إخراجه لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد، قلت ورشدين فيه مقال معروف.
59
(وآخر من شكله) قرأ الجمهور وآخر مفرداً مذكراً، وقرىء آخر بضم الهمزة على أنه جمع وأنكر الأولى لقوله (أزواج) وأنكر عاصم
59
والجحدري الثانية، وقال لو كانت أخر لقال من شكلها، وارتفاع آخر على أنه مبتدأ، وخبره أزواج، ويجوز أن يكون من شكله خبراً مقدماً، وأزواج مبتدأ مؤخراً، والجملة خبر آخر، ويجوز أن يكون خبر آخر مقدراً أي ولهم آخر ومن شكله أزواج جملة مستقلة، ومعنى الآية على الأولى وعذاب آخر، أو مذوق آخر أو نوع آخر من شكل ذلك العذاب، أو المذوق أو النوع الأول، والشكل المثل وعلى الثانية ومذوقات أخر وأنواع أخر من شكل ذلك الذوق أو النوع المتقدم، وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور أي من شكل المذكور، ومعنى أزواج أجناس وأنواع وأشباه وحاصل معنى الآية أن لأهل النار حميماً وغساقاً وأنواعاً من العذاب من مثل الحميم والغساق، قال الواحدي: قال المفسرون: هو الزمهرير، ولا يتم هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن الزمهرير أنواع مختلفة، وأجناس متفاوتة ليطابق معنى أزواج أو على تقدير أن لكل فرد من أهل النار زمهريراً.
وجملة
60
(هذا فوج) حكاية لقول الملائكة، هم خزنة النار، وذلك أن القادة والرؤساء إذا دخلوا النار ودخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة: هذا فوج يعنون الأتباع (مقتحم معكم) أي داخل معكم إلى النار بشدة، والاقتحام الإلقاء في الشيء بشدة فإنهم يضربون بمقامع من حديد حتى يقتحموها بأنفسهم خوفاً من تلك المقامع، وقيل: الاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها، وفي المختار قحم في الأمر رمى بنفسه فيه من غير روية، وبابه خضع، وأقحم فرسه النهر فانقحم، أي أدخله فدخل واقتحم الفرس النهر دخله.
وقوله (لا مرحباً بهم) من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا لا مرحباً بهم أي لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب السعة، والمعنى لا كرامة لهم، وهذا إخبار من الله سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار، وأن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة. وجملة لا مرحباً بهم دعائية لا محل لها من الإعراب، وقال السمين في مرحباً وجهان أظهرهما أنه مفعول بفعل مقدر
60
أي لا أتيتم مرحباً أو لا سمعتم مرحباً، والثاني أنه منصوب على المصدر، قال أبو البقاء أي لا رحبتكم داركم مرحباً. بل ضيقاً، والجملة المنفية إما مستأنفة سيقت للدعاء عليهم بضيق المكان، وقوله: بهم بيان للمدعو عليهم، وإما حالية، وقد يعترض عليه بأنه دعاء، والدعاء لا يقع حالاً، والجواب أنه على إضمار القول أي مقولاً في حقهم لا مرحباً بهم، وقيل إنها من تمام قوله الخزنة، والأول أولى، كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي:
(إنهم صالوا النار) تعليل من جهة القائلين لا مرحباً بهم، أي إنهم صالوا النار كما صليناها ومستحقون لها كما استحققناها.
61
(قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم) مستأنفة جواب سؤال مقدر أي قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم: بل أنتم أحق بما قلتم لنا ثم عللوا ذلك بقولهم: (أنتم قدمتموه لنا) أي العذاب أو الصلي لنا وأوقعتمونا فيه، ودعوتمونا إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحق ما أنتم عليه، وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به.
(فبئس القرار) أي بئس المقر جهنم لنا ولكم، ثم حكى عن الأتباع أيضاًً أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر وهو:
(قالوا ربنا من قدم لنا هذا) أي من دعانا إليه وسوغه لنا، قال الفراء المعنى من سوغ لنا هذا وسنه، وقيل معناه من قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى الكفر.
(فزده عذاباً ضعفاً في النار) أي عذاباً بدعائه إيانا فصار ذلك ضعفاً، ومثله قوله سبحانه (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) وقوله: (ربنا آتهم ضعفين من العذاب)، والضعف أن يزيد عليه مثله، وقيل المراد بالضعف هنا الحيات والعقارب، قال ابن مسعود: أي أفاعي وحيات.
61
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (٦٢) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
62
(وَقَالُوا) أي كفار مكة كأبي جهل وأمية بن خلف وأصحاب القليب وهم في النار. (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ) أي الأراذل الذين لا خير لهم ولا جدوى، وقيل: إنما سموهم أشراراً لأنهم كانوا على خلاف دينهم، قيل: هو من قول الرؤساء، وقيل من قول الطاغين المذكورين سابقاً قال الكلبي: ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين معهم فيها، فعند ذلك قالوا هذا القول، وقيل يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب وصهيب وبلال وسالم وسلمان، وقيل أرادوا أصحاب محمد ﷺ على العموم.
(أتخذناهم سخرياً) في الدنيا فأخطأنا (أم زاغت عنهم الأبصار) فلم نعلم مكانهم، قاله مجاهد والإنكار المفهوم من الاستفهام متوجه إلى كل واحد من الأمرين، قال الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم، قال الفراء والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب، قرىء بحذف همزة اتخذناهم في الوصل، وعلى هذا يحتمل أن يكون الكلام خبراً محضاً، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية لرجالاً، وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة أم عليها، فتكون أم على الوجه الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أزاغت عنهم الأبصار؟ على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير،
62
وعلى الثاني أم هي المتصلة، وقرىء بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل ولا محل للجملة حينئذ، وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعاً لأن أم على هذه القراءة هي للتسوية، وقرىء سخرياً بضم السين وبكسرها، قال أبو عبيدة من كسر جعله من الهزء، ومن ضم جعله من التسخر.
63
(إن ذلك) أي ما تقدم من حكاية حالهم (لحق) أي لواقع ثابت في الدار الآخرة لا يتخلف البتة (تخاصم أهل النار) خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وهذا على قراءة الجمهور برفع تخاصم والمعنى أن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بد أن يتكلموا به. وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للأتباع. وما قالته الأتباع لهم والجملة بيان لاسم الإشارة وفي الإبهام أولاً والتبيين ثانياً مزيد تقرير له قرأ ابن أبيّ بنصب تخاصم على أنه بدل من ذلك أو بإضمار أعني وقرىء تخاصم بصيغة الماضي فتكون جملة مستأنفة وإنما سماه تخاصماً لأن قول القادة للأتباع: لا مرحباً بكم وقول الأتباع للقادة بل أنتم لا مرحباً بكم من باب الخصومة ثم أمر الله سبحانه رسوله الله ﷺ أن يقول قولاً جامعاً بين التخويف والإرشاد إلى التوحيد فقال:
(قل إنما أنا منذر) أي مخوف لكم من عذاب الله وعقابه لا ساحر ولا شاعر كما ادعيتم وإنما اقتصر على الإنذار لأنه إنما يناسبهم الإنذار (وما من إله) يستحق العبادة (إلا الله الواحد) الذي لا شريك له (القهار) لكل شيء سواه
(رب السموات والأرض وما بينهما) من المخلوقات (العزيز) الذي لا يغالبه مغالب (الغفار) لمن أطاعه، وقيل معنى العزيز المنيع الذي لا مثل له، ومعنى الغفار الستار لذنوب خلقه، ثم أمره الله سبحانه أن يبالغ في إنذارهم، ويبين لهم عظم الأمر وجلالته فقال:
(قل هو نبأ عظيم) أي ما أنذرتكم به من العقاب، وما بينته لكم من التوحيد هو خبر عظيم ونبأ جليل، من شأنه العناية به والتعظيم له
63
والاعتناء به أمراً وائتماراً، وعدم الاستخفاف به ومثل هذه الآية قوله (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)؟ وقال مجاهد وقتادة ومقاتل هو القرآن. فإنه نبأ عظيم لأنه كلام الله، قال الزجاج قل النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم، يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه ونبوته، لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله.
64
(أنتم عنه معرضون) صفة ثانية للنبأ أو جملة مستأنفة، وهذا توبيخ لهم وتقريع لكونهم أعرضوا عنه، ولم يتفكروا فيه، فيعلموا صدقه، ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث.
(ما كان لي من علم بالملأ الأعلى) استئناف مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم، وارد من جهته تعالى، يذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به، ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة، فإن ذلك حجة بينة دالة على أن ذلك بطريق الوحي من عند الله تعالى، وإن سائر أنبائه أيضاًً كذلك، وأن الأنبياء لا يعلمون الغيب أصلاً، إلا ما يوحى إليهم من جهته سبحانه وتعالى، والملأ الأعلى هم الملائكة وزاد أبو السعود وآدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة.
(إذ يختصمون) أي ما كان لي فيما سبق علم بوجه من الوجوه بحال الملأ الأعلى، وقت اختصامهم والضمير راجع إلى الملإ الأعلى والخصومة الكائنة بينهم هي في أمر آدم، قال ابن عباس: قال الملائكة حين شوروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة، وعنه قال هي الخصومة في شأن آدم حيث قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها)؟
وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن نصر في كتاب الصلاة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني الليلة ربي في أحسن صورة أحسبه قال: في المنام.
قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا، فوضع يده
64
بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، أو في نحري، فعلمت ما في السموات والأرض، ثم قال لي: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره " (١) الحديث.
وأخرج الترمذي وصححه ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه وقال " وإسباغ الوضوء في السبرات " (٢) وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه، وأخرجا أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه، وفي الباب أحاديث، وقيل: الضمير لقريش أي يختصمون فيهم بعضهم يقول: بنات الله، وبعضهم يقول غير ذلك والأول أولى.
_________
(١) وتمام الحديث: راجع زاد المسير ١/ ١٥٥.
(٢) السًبَرَات جمع سَبْرة، وهي الغداة الباردة.
65
(إن يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين) جملة معترضة بين اختصامهم المجمل، وبين تفصيله بقوله
(إذ قال ربك للملائكة)، والمعنى ما يوحى إليّ إلا أنني نذير أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن وما تدعون من الحرام والمعصية، قاله الفراء وقال: كأنك قلت ما أوحى إليّ إلا الإنذار قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع، لقيامها مقام الفاعل أي ما يوحى إليّ إلا الإنذار، أو إلا كوني نذيراً مبيناً، أو في محل نصب أوحى بعد إسقاط لام العلة، والقائم مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور، وقرأ أبو جعفر بكسر الهمزة لأن في الوحي معنى القول وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه قيل ما يوحي إليّ هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين والقصر هنا إضافي أي لا ساحر ولا كذاب كما زعمتم، وخصه بالذكر لأن الكلام مع المشركين وحاله معهم مقصور على الإنذار ولما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالاً فيما تقدم ذكر ههنا تفصيلاًْ فقال:
65
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧)
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ) إذ هذه بدل من (إذ يختصمون) لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة، وقيل هي منصوبة بإضمار اذكر، والأول أولى إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض.
وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم ذكره فالثاني أولى (إني خالق) أي فيما سيأتي من الزمن (بشراً) أي جسماً من جنس البشر وهو آدم عليه السلام مأخوذ من مباشرته للأرض أو من كونه بادي البشرة أي ظاهر الجلد ليس على جلده صوف ولا شعر ولا وبر ولا ريش ولا قشر.
وقوله (من طين) متعلق بمحذوف هو صفة لـ (بشراً) أو بـ (خالق) ومعنى
66
(فإذا سويته) صورته على صورة البشر وصارت أجزاؤه مستوية وأتممته.
(ونفخت) أي أجريت (فيه من روحي) أي من الروح الذي أملكه، ولا يملكه غيري وقيل هو تمثيل ولا نفخ ولا منفوخ فيه، والمراد جعله حياً بعد أن كان جماداً لا حياة فيه، ويأباه ظاهر النظم الكريم فالأول أولى، وقد مر الكلام عليه في سورة النساء والنفخ إجراء الروح إلى تجويف تجسم صالح لإمساكها وإضافة الروح إليه تشريف لآدم عليه السلام والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه وبه قال جمهور المتكلمين قاله الكرخي؛ وقال النووي في شرح مسلم إنه الأصح عند أصحابنا، وهو مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، وقال كثير منهم إنها عرض وهي الحياة التي صار البدن بوجودها حياً، وقال الفلاسفة وكثير من الصوفية إنها ليست بجسم ولا
66
عرض، بل جوهر مجرد قائم بنفسه غير متحيز، متعلق للبدن للتدبير والتحريك غير داخل فيه ولا خارج عنه ووافقهم على ذلك الغزالي والراغب.
واحتج للأول بوصفها في الأخبار بالهبوط والعروج والتردد في البرزخ أهـ.
وقيل جوهر شريف قدسي يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء أو كسريان النار في الفحم، ذكره الخازن، وأقول علم الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه، ولا يعلمه أحد من خلاقه كائناً من كان، والخوض في معرفته من فضول الأعمال ولغو الكلام، وقد قال الله عز وجل (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
(فقعوا له ساجدين) هو أمر من وقع يقع، والسجود هنا هو سجود التحية لا سجود العبادة، وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل، أي اسقطوا له ساجدين، وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة.
67
(فسجد الملائكة) في الكلام حذف تدل عليه الفاء والتقدير: فخلقه فسواه ونفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة (كلهم) يفيد أنهم سجدوا جميعاً ولم يبق منهم أحد وقوله (أجمعون) يفيد أنهم أجتمعوا على السجود في وقت واحد فالأول لقصد الإحاطة والثاني لقصد الاجتماع، قال في الكشاف فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد، غير متفرقين في أوقات وقيل إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم، وكان هذا السجود قبل دخول آدم الجنة أو بعده قولان.
(إلا إبليس) الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفاً بصفات الملائكة داخلاً في عدادهم فغلبوا عليه، أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم، أي لكن إبليس (استكبر) أي أنف من المسجود جهلاً منه بأنه طاعة لله (و) كان استكباره استكبار كفر فلذلك (كان من الكافرين) أي
67
صار منهم لمخالفته لأمر الله، واستكباره عن طاعته، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة والأعراف وبني إسرائيل والكهف وطه.
ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فـ
68
(قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) وقرىء بالإفراد أي ما صرفك وصدك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة أب وأم وأضاف خلقه إلى نفسه تكريماً له وتشريفاً، مع أنه سبحانه خالق كل شيء، كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد.
قال مجاهد: اليد هنا لمعنى التأكيد والصلة مجازاً، كقوله: (ويبقى وجه ربك) وقيل أراد باليد القدرة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد، وما لي به يدان، أي قدرة، وقيل: التثنية في اليد للدلالة على أنها ليست بمعنى القوة والقدرة، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه، وهو الأولى، وقيل: التثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام المستدعي لإجلاله وتعظيمه قصداً إلى تأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ، ما في قوله (لما خلقت) هي المصدرية أو الموصولة، وقرىء لما بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى حين، كما قال أبو علي الفارسي.
وعن عبد الله بن عمر قال: " خلق الله أربعاً بيده العرش وجنة عدن والقلم وآدم " أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي، وعن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله ﷺ " خلق الله ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده "، أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة، وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات.
(أستكبرت) قرىء بهمزة الاستفهام وهو استفهام توبيخ وتقريع فتكون أم في قوله: (أم كنت) متصلة أي أتركت السجود لاستكبارك الحادث أم لاستكبارك القديم المستمر؟ وقرىء بألف الوصل فتكون أم منقطعة
68
والمعنى أستكبرت عن السجود الذي أمرت به؟ بل أكنت (من العالين) أي المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك، وجملة:
69
(قال أنا خير منه) مستأنفة جواب سؤال مقدر، ادعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم، أي ولو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له، فكيف وأنا خير منه، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن، ثم علل ما ادعاه من كونه خيراً منه بقوله:
(خلقتني من نار وخلقته من طين) وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين وأفضل منه، لأن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية، والنار أقرب العناصر من الفلك، والأرض أبعدها منه، وأيضاً النار لطيفة نورانية والأرض كثيفة ظلمانية، وهما خير منهما، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم، وإن استغنى عنها طردت، وأيضاًً فالطين يستولي على النار فيطفيها وأيضاً فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض وأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به، والطين أصل كل ما هو نام نابت كالإنسان والشجرة.
ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل، وعلى كل حال فقد شرف آدم بشرف وكرم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر، وذلك أن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه، وأمر بالسجود له والجواهر في أنفسها متجانسة، وإنما تشرف بعارض من عوارضها.
(قال فاخرج منها) مستأنفة كالتي قبلها أي فاخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة، وقيل من الخلقة التي كنت عليها لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته واسود بعد ما كان أبيض، وقبح بعد ما كان حسناً، وأظلم بعد ما كان نورانياً، وهذا يدل على أنه لم يكن كافراً حين كان بين الملائكة، ولأن الله تعالى لم يحك عنه إلا الاستكبار عن السجود، فهذا دليل على أنه صار كافراً حين لم يسجد، ذكره الطيبي، ثم علل أمره بالخروج بقوله:
(فإنك رجيم) أي مرجوم بالكواكب، مطرود من كل خير، ملعون بترك أمره.
69
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
70
(وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) أي طردي لك عن الرحمة وإبعادي لك منها إلى يوم الجزاء فأخبر الله سبحانه وتعالى أن تلك اللعنة مستمرة له دائمة عليه ما دامت الدنيا، ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق، وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة، بل هو ملعون أبداً ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسى عنده اللعنة ويذهل عند الوقوع فيه منها صارت كأنها لم تكن بجنب ما يكون فيه.
(قال رب فأنظرني) مستأنفة كما تقدم فيما قبلها أي أمهلني وأخرني ولا تعاجلني (إلى يوم يبعثون) يعني آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم، وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم، ويأخذ منهم ثأره
(قال فإنك من المنظرين) أي الممهلين.
(إلى يوم الوقت المعلوم) الذي قدره الله لفناء الخلائق وهو عند النفخة الآخرة، وقيل: هو النفخة الأولى قيل إنما طلب إبليس الإنظار إلى يوم البعث ليتخلص من الموت لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت، فأجيب بما يبطل مراده وينقض عليه مقصده وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو الذي يعلمه الله ولا يعلمه غيره، فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت.
(قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) فأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات والمعاصي لهم، وإدخال الشُّبهَ عليهم حتى يصيروا غاوين جميعاً، ولا ينافيه قوله تعالى: (فيما أغويتني) فإن إغواءه تعالى إياه أثر من آثار قدرته تعالى وعزته، وحكم من أحكام قهره وسلطنته، فمآل الإقسام بهما واحد، ولعل اللعين أقسم بهما جميعاً فحكى تارة قسمه بإحداهما وأخرى بأخرى.
ثم لما علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه وأحزابه من أهل الكفر والمعاصي استثنى من لا يقدر على إضلاله ولا يجد السبيل إلى إغوائه فقال
(إلا عبادك منهم المخلصين) أي الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم مني، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر وغيرها.
(قال فالحق والحق أقول) مستأنفة كالجمل التي قبلها قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين، على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم، فانتصب، أو هما منصوبان على الإغراء أي الزموا الحق أو مصدران مؤكدان لمضمون قوله:
(لأملأن جهنم) وقرىء برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول على أنه مبتدأ وخبره مقدر، أي فالحق مني أو فالحق أنا أو خبره لأملأن أو هو خبر مبتدأ محذوف، وأما نصب الثاني فبالفعل المذكور بعده، أي وأنا أقول الحق، وأجاز الفراء وأبو عبيدة أن يكون منصوباً بمعنى حقاً لأملأن جهنم واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها، وروي عن الفراء وسيبويه أيضاًً أن المعنى فالحق أن أملأ جهنم وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قرأ برفعهما فرفع الأول على ما تقدم؛ ورفع الثاني بالابتداء؛ وخبره الجملة المذكورة بعده والعائد محذوف.
وقرىء بخفضهما على تقدير حرف القسم، قال الفراء: كما يقول الله عز وجل لأفعلن كذا، وغلطه أبو العباس ثعلب، وقال: لا يجوز الخفض
71
بحذف مضمر، وقيل: جملة لأملأن جواب القسم على قراءة الجمهور، وجملة والحق أقول معترضة بين القسم وجوابه.
(منك) أي من جنسك من الشياطين (وممن تبعك منهم) أي من ذرية آدم، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلالة والغواية، و (أجمعين) تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه، وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في منهم خاصة، أي لأملأن جهنم من الشياطين ومن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره، لا عرض الدنيا الزائل فقال:
72
(قل ما أسألكم عليه من أجر) الضمير في عليه راجع إلى تبليغ الوحي ولم يتقدم له ذكر ولكنه مفهوم من السياق، وقيل هو عائد إلى ما تقدم من قوله (أأنزل عليه الذكر من بيننا) وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، وقيل إلى الدعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن وغيره من الوحي، ومن قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه قال ابن عباس قل يا محمد: ما أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر عرض دنيا.
(وما أنا من المتكلفين) أي المتصنعين بما ليسوا من أهله حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن من تلقاء نفسي وأقول ما لا أعلم أو أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه، والتكلف التصنع.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في المسجد فقال فيما يقول (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، قال قمنا حتى دخلنا على عبد الله وهو في بيته وكان متكئاً فاستوى قاعداً فقال يا أيها الناس من علم منكم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم: الله أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله
72
عليه وسلم: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين).
وأخرج البخاري عن عمر قال: " نهينا عن التكلف "، وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي عن سلمان قال: " نهانا رسول الله ﷺ أن نتكلف للضَيف " (١).
_________
(١) أخرجاه في الصحيحين الأعمش وانظر صحيح الجامع الصغير ٦٧٤٨ برواية " نهى عن التكلف
للضَّيْف ".
73
(إن هو إلا ذكر للعالمين) أي ما هذا القرآن أو الوحي أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عز وجل للجن والإنس العقلاء دون الملائكة، لأن المراد بالذكر الموعظة والتخويف، وتذكير العواقب، وهذا إنما يناسب المكلفين، وهم الثقلان فقط، تأمل.
(ولتعلمن) أيها الكفار (نبأه) أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو ما أخبر به من الدعاء إلى الله وتوحيده، والترغيب إلى الجنة، والتحذير من النار.
(بعد حين) قال قتادة والزجاج والفراء بعد الموت، وقال عكرمة وابن زيد: يوم القيامة، وقال الكلبي من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد الموت، وقال السدي وذلك يوم بدر وقيل عند ظهور الإسلام وفشوه، وكان الحسن يقول يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وفيه من التهديد ما لا يخفى.
73
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الزمر
ويقال لها سورة الغرف
(وهي اثنتان وسبعون آية، وقيل خمس وسبعون آية وهي مكية)
في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد، وأخرج النحاس في ناسخة عن ابن عباس قال: نزلت بمكة، سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي، قاتل حمزة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الثلاث الآيات، وقال آخرون إلا سبع آيات: من قوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ) إلى آخر السبع، وأخرج النسائي عن عائشة قالت: " كان يصوم رسول الله - ﷺ - حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر " (١)، وأخرجه الترمذي عنها بلفظ " كان رسول الله - ﷺ - لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل ".
_________
(١) السنن الكبرى للنسائي ٤/ ٢٩٢ و٤/ ٢٩٩.
75
بسم الله الرحمن الرحيم
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
(بسم الله الرحمن الرحيم
77