تفسير سورة محمد

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة محمد من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ ﴾ خبره، ومناسبة هذه الآية لآخر الأحقاف ظاهرة، وذلك كأن قائلاً قال: كيف يهلك القوم الفاسقون، ولهم أعمال صالحة، كإطعام الطعام ونحوه، والله لا يضيع أجر المحسنين؟ فأجاب: بأن الفاسقين هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، أضل أعمالهم وأبطلها. قوله: (فلا يرون لها في الآخرة ثواباً) أي لقوله تعالى﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾[الفرقان: ٢٣].
قوله: (يجزون بها في الدنيا) أي بأن يوسع لهم في المال، ويزاد لهم في الولد والعافية، وغير ذلك، حيث لم يقصدوا بها فخراً ولا رياء.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي صدقوا بقلوبهم ونطقوا بألسنتهم. وقوله: ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ العطف يقتضي المغايرة، فاستفيد منه أن العمل الصالح، ليس داخلاً في حقيقة الإيمان، بل هو شرط كمال، كما هو مختار الأشاعرة. قوله: ﴿ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ ﴾ الخ، عطف خاص على عام، والنكتة تعظيمه والاعتناء بشأنه، إشارة إلى أن الإيمان لا يتم بدونه، ولذا أكده بقوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ ﴾ أي الثابت الذي ينسخ غيره، وهو لا ينسخ. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ جملة معترضة سيقت لبيان المنزل. قوله: (غفر لهم) ﴿ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي محاها من صحف الملائكة. قوله: ﴿ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ البال يطلق على الحال والشأن والأمر، وكلها بمعنى واحد، والمعنى: أصلح أحوالهم الدنيوية، بتوفيقهم للأعمال الصالحة والآخروية، بنجاتهم من النار؛ وإدخالهم الجنة. قوله: (فلا يعصونه) أي لا يصرون على معصيته، أعم من أن لا تقع منهم أصلاً أو تقع، ولكن لا يصرون عليها. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ ﴾ الخ، خبر. قوله: (الشيطان) وقيل ﴿ ٱلْبَاطِلَ ﴾ الكفر. قوله: ﴿ ٱلْحَقَّ ﴾ (القرآن) وقيل: ﴿ ٱلْحَقَّ ﴾ الإيمان. قوله: ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾ المثل في الأصل القول السائر المشبه مضر به بمورد، كقولهم: الصيف ضيعت اللبن، والكلام على البقر، وليس مراداً هنا، بل المراد الأمور العجيبة، تشبيهاً لها بالمثل في الغرابة المؤدية إلى التعجب، واسم الإشارة عائد على ما بين في أحوال المؤمنين والكافرين.
قوله: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ﴾ الخ، الفاء للفصيحة، لكونها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذ علمتم أحوال المؤمنين، وأنهم أحباب الله، وأحوال الكافرين، وأنهم أعداء الله، فالواجب على أحباب الله، أن يقاتلوا أعداء الله. قوله: (بدل من اللفظ بفعله) أي فهو نائب عن الفعل في المعنى، والعمل على الصحيح، وقيل في المعنى دون العمل والأصل: فاضربوا الرقاب ضرباً، حذف الفعل، وأتى بالمصدر محله، وأضيف إلى مفعول الفعل وهو الرقاب، وهو عامل في الظرف أيضاً. قوله: (أي اقتلوهم) أي فأراد بضرب الرقاب، مطلق القتل على أي حالة كانت، لا خصوص ضرب الرقاب. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ ﴾ ﴿ حَتَّىٰ ﴾ ابتدائية، والمعنى: فإذا عجزتموهم بأي وجه من الوجوه، إما بكثرة القتل وهو الغالب، أو بقطع الماء عنهم، أو بأخذ أسلحتهم، أو غير ذلك فأسروهم. قوله: (أي فامسكوا) أشار بذلك إلى أن في الكلام تقدير جملتين: الإمساك عن القتل والأسر. قوله: (بدل من اللفظ بفعله) أي وجيء به لتفصيل جملة، فوجب إضمار عامله، والتقدير: فإما أن تمنوا مناً، وإما أن تفدوا فداء. قوله: ﴿ بَعْدُ ﴾ أي بعد أسرهم وشد وثاقهم، والمعنى: أن المسلمين بعد القدرة على الكفار، يخيرون فيهم بين أمور أربعة: القتل والمن والفداء والاسترقاق، وهذا في الرجال المقاتلين، وأما النساء والصبيان، فليس فيهم إلا المن الفداء والاسترقاق، وأما المن والفداء فمنسوخان بعد بدر. قوله: (أو أسارى) بالضم والفتح، أو بفتح فسكون فراء مفتوحة. قوله: (أي أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (بأن يسلم الكفار) أي فالمراد بوضع آلة القتال، ترك القتال لانفضاض شوكة الكفر، ففي الكلام استعارة تبعية، حيث شبه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع تضع بمعنى تترك. قوله: (وهذه غاية للقتل) أي المذكور في قوله: (فضرب الرقاب) وقوله: (والأسر) أي المذكور في قوله: ﴿ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ ﴾.
قوله: (ما ذكر) أي من القتل والأسر وما بعدهما. قوله: (بغير قتال) أي كالخسف. قوله: ﴿ لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ أي ليظهر لعباده حال الصادق في الإيمان من غيره، قال تعالى:﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ ﴾[محمد: ٣١].
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ خبره. قوله: (وفي قراءة قاتلوا) أي وهي سبعية أيضاً مفسرة للقراءات الأولى، وحينئذ فليس المراد قتلوا بالفعل، بل المراد قاتلوا قتلوا أو لا. قوله: (وقد فشا) الخ، الجملة حالية، وقوله: (القتل) ورد أنهم سبعون، وقوله: (والجراحات) أي الكثير، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا الوعد الحسن، لكل من قاتل في سبيل الله، لنصر دينه إلى يوم القيامة، قتل أو جرح أو سلم. قوله: ﴿ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي سواء نشأت منهم أو تسببوا فيها. قوله: (إلى ما ينفعهم) أي فالذي ينفعهم في الدنيا، العمل الصالح والإخلاص فيه، والذي ينفعهم في الآخرة، الجنة وما فيها، وحينئذ فلا يقع منهم ما يخالف أمر الله، لحفظ الله إياهم من المخالفات، ومنه حديث:" اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم "وليس فيه توهم إباحة المعاصي لأهل بدر، بل المعنى: كما أفنيتم نفوسكم في محبتي، وخرجتم عن شهواتكم في رضاي، جازيتكم بالحفظ مما يوجب سخطى، فاشتريت نفوسكم، فصارت لي راضية مرضية، قال تعالى:﴿ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾[التوبة: ١١١] الآيات، ولهذا أشار العارف ابن وفار بقوله: وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا   فعلمك لا جهل وفعلك لا وزرقوله: (وما في الدنيا) أي من الهداية وإصلاح الحال، وقوله: (إن لم يقتل) جواب عما يقال: كيف قال سيهديهم ويصلح بالهم، يعني في الدنيا، مع أن الفرض أنهم قتلوا بالفعل؟ وأجيب: بأن ذلك يحصل في الدنيا إن لم يقتل، وعبر بالذين قتلا تغليباً لهم، أو لأنهم قتلوا حكماً بالنية. وأجيب أيضاً: بأن المراد بالذين قتلوا، الذين وقع منهم القتال، أعم من أن يقتلوا بالفعل أو لا، بدليل القراءة الأخرى. قوله: (فيهتدون إلى مساكنهم) الخ أي إذا دخلوها يتفرقون إلى منازلهم، فهم أعرف لها من أهل الجمعة، إذا انصرفوا إلى منازلهم ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام:" يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة، من منزله الذي كان في الدنيا "وما ورد: إن العبد المؤمن، لا يخرج من الدنيا، حتى يشاهد مسكنه في الجنة، وما أعده الله له من النعيم، ويفتح له طاقة في قبره، يشاهد ذلك ما دام في البرزخ، وأن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر في الجنة، وأرواح الأنبياء في قناديل من ذهب معلقة في العرش، تسرح وتأوي إليها. وقيل: معنى عرفها لهم، طيبها من العرف، وهو طيب الرائحة. قوله: (يثبتكم) أشار بذلك إلى أن المراد بالأقدام الذوات بتمامها، وعبر عنها بالأقدام، لأن الثبات والتزلزل يظهران فيها. قوله: (خبرت تعسوا) الخ، أشار بذلك إلى أن الفاء في قوله: ﴿ فَتَعْساً ﴾ داخلة على محذوف هو الخبر، و ﴿ تَعْساً ﴾ مفعول مطلق لذلك المحذوف، وحينئذ فالمناسب للمفسر أن يقدر الخبر بعد الفاء. قوله: (أي هلاكاً وخيبة لهم) هذان قولان من عشرة أقوال في معنى التعس، وقيل خزياً لهم، وقيل شقاء لهم، وقيل شتماً لهم من الله، وقيل قبحاً لهم، وقيل رغماً لهم، وقيل شراً لهم، وقيل شقوة لهم، وقيل التعس الانحطاط والعثار، وكلها معان متقاربة، وهو في الأصل أن يخر لوجهه، والنكس أن لا يستقل بعد سقطته، حتى يسقط هو ثانية، وهو أشد من الأولى، وضده الانتعاش، وهو قيام من سقط. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ مبتدأ خبره الجار والمجرور بعده، ويصح أن يكون اسم الإشارة خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر ذلك. قوله: (المشتمل على التكاليف) أي فهذا وجه كراهتهم له، وذلك لأن في التكاليف ترك الملاذ والشهوات، والنفوس الخبيثة تكره ذلك، وتحب إرخاء العنان لها في الشهوات، فمن تبع نفسه من كل وجه كفر، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه، حتى تصير معتادة ما يرضاه الله تعالى، ففي الحديث:" لا يكمل إيمان أحدكم، حتى يكون هواه تابعاً لما جئت به "فالأصل في النفوس الخسة، لا تجر لصاحبها خيراً، ولا تسعى إلا فيما يغضب الله، فإذا شمر الإنسان عن ساعد الجد والاجتهاد، وخالف هوى نفسه، سكن وهجها واضمحلت شهوتها، فإذا دام ذلك، حسن حالها، وصارت جميلة الأخلاق مطمئنة بخالقها، نسأل الله أن يملكنا نفوسنا، ولا يسلطها علينا.
قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، والتقدير: أجبنوا وتركوا السير فلم يسيروا. قوله: ﴿ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ المفعول محذوف قدره المفسر بقوله: (أنفسهم) الخ. قوله: ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ ﴾ أي السائرين على قدم من قبلهم من الكفار، وقوله: ﴿ أَمْثَالُهَا ﴾ مقابلة الجمع تقتضي القسمة على الآحاد، أي إن لكل واحد من هؤلاء الكفار، عاقبة كعاقبة من تقدمه من الكفار أو أشد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من جمع الأنبياء، وشرعه جامع لجميع الشرائع، فالكفر به وبشرعه، كفر بجميع الشرائع، فيسبب ذلك عظم عذاب الكافر به. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ ﴾ أي ناصر لهم ولا معين ولا مغيث، وأما قوله تعالى:﴿ ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ ﴾[الأنعام: ٦٢] فالمراد بالمولى المالك، فلم يحصل تناف. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، بيان لثمرة ولايته تعالى للمؤمنين في الآخرة. قوله: ﴿ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ ﴾ الكاف في محل نصب، إما نعت لمصدر محذوف، أي أكلاً مثل أكل الأنعام، أو حال، أي أكلاً حال كونه مثل أكل الأنعام. قوله: ﴿ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ مبتدأ أو خبر.
قوله: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ الخ.
﴿ كَأَيِّن ﴾ مركبة من الكاف، وأين بمعنى كم الخبرية، وهي في محل رفع مبتدأ، و ﴿ مِّن قَرْيَةٍ ﴾ تمييز لها، وقوله: ﴿ هِيَ أَشَدُّ ﴾ صفة لقرية، وقوله: ﴿ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ ﴾ صفة لـ ﴿ قَرْيَتِكَ ﴾ وقوله: ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ خبر المبتدأ، وسبب نزول هذه الآية، أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغارـ التفت إلى مكة وقال:" أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني، لم أخرج منك "فنزلت هذه الآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تحزن على خروجك من بلدك، فإن الله يعزك ويذلهم، فليس خروجك من مكة، إلا كخروج آدم من الجنة، من حيث أنه حصل له العز العظيم، وحصل لإبليس الذي تسبب في إخراجه الخزي العظيم. قوله: (أريد أهلها) أي فهو مجاز في الظرف، حيث أطلق المحل، وأريد الحال فيه، لا مجاز بالحذف. قوله: ﴿ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ ﴾ هذا الوصف للاحتراز عن قريته التي تكون وطنه فيما يستقبل وهي المدينة. قوله: ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ أي فكذلك نفعل بأهل قريتك، فاصبر كما صبر رسل أهل تلك القرى. قوله: ﴿ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ تفريع على قوله: ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ﴾ الخ، شروع في بيان أحوال المؤمنين والكافرين، والهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، والتقدير: أليس الأمر كما ذكر فمن كان على بينة، الخ، والتعبير بعلى إشارى إلى تمكنهم من الحجج والبراهين، تمكن المستعلي من المستعلى عليه. قوله: ﴿ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ فيه مراعاة معنى من، كما روعي لفظها فيما سبق.
قوله: ﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ تفصيل لبيان محاسن الجنة، كيفية أنهارها المتقدمة في قوله:﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾[محمد: ١٢].
قوله: ﴿ ٱلْجَنَّةِ ﴾ (أي صفة) أشار بذلك إلى أن المراد بالمثل الصفة، فكأنه قال: وصف الجنة كذا وكذا، فليس في الكلام مشبه ومشبه به. قوله: ﴿ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ المراد من لم يحكم الشرع بكفره، فيشمل عصاة المؤمنين، وأهل الفترة، وأولاد الكفار، الذين ماتوا قبل البلوغ. قوله: (المشتركة بين داخليها) أي فهو بيان لمطلق نعيم الجنة، المشترك بين أعلى أهل الجنة وأدناهم، وأما تفصيل ما لكل فريق، فسيأتي في سورة الواقعة. قوله: (خبره) ﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ ﴾ الخ، فيه أن الخبر جملة حالية من رابط يعود على المبتدأ. وأجيب: بأن الخبر عين المبتدأ في المعنى، وحينئذ فلا يحتاج لرابط، وهذا أسهل الأعاريب، وقيل: إن ﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ مبتدأ، خبره ﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ ﴾ وفي الكلام حذف مضاف وهمزة الإنكار، والتقدير: أمثل أهل الجنة، كمن هو خالد في النار، وقوله: ﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ ﴾ إما حال من ﴿ ٱلْجَنَّةِ ﴾، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي هي ﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ ﴾ وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ غَيْرِ ءَاسِنٍ ﴾ (بالمد والقصر) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (كضارب) أي ففعله أسن يأسن، كضرب يضرب، وقوله: (وحذر) أي ففعله أسن يأسن، كحذر يحذر. قوله: ﴿ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾ أي فلا يعود حامضاً، ولا مكروه الطعم. قوله: ﴿ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ أي ليس فيه حموضة ولا مرارة، ولم تدنسها الأرجل بالدوس، ولا الأيدي بالعصر، وليس في شربها ذاهب عقل، بل هي لمجرد الالتذاذ. إن قلت: لم لم يقل في جانب اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، وفي العسل مصفى للناظرين؟ أجيب: بأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص، فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر، فلذا قال ﴿ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ بأسرهم، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا فقال ﴿ لَّذَّةٍ ﴾ أي ليس في خمر الآخرة كراهة طعم، وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس، فلم يكن للتصريح بالتعميم مزيد فائدة. قوله: (لذيذة) أشار بذلك لدفع ما قيل إن ﴿ لَّذَّةٍ ﴾ مصدر بمعنى الالتذاذ، فلا يصح وصف الخمر به، لكونها اسم عين. فأجاب المفسر بأنها تؤول بالمشتق على حد: زيد عدل. قوله: ﴿ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ﴾ يجوز في العسل التذكير والتأنيث، والقرآن جاء على التذكير قوله: (يخالطه الشمع وغيره) أي كفضلات النحل. قوله: ﴿ وَلَهُمْ ﴾ خبر مقدم، وقوله: ﴿ فِيهَا ﴾ متعلق بما تعلق به الخبر، والمبتدأ محذوف قدره بقوله: (أصناف) وقوله: ﴿ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ نعت للمبتدأ المحذوف، والمعنى: لهم في الجنة أنواع متعددة من كل الثمرات، فالتفاح أنواع، والرمان أنواع، وهكذا. قوله: (فهو راض عنهم) الخ، دفع بذلك ما يقال: إن المغفرة تكون قبل دخول الجنة، والآية تقتضي أنها فيها. فأجاب المفسر: بأن المراد بالمغفرة الرضا، وهو يكون في الجنة، وإيضاحه أنه يرفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه، بخلاف الدنيا، فإن مأكولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب؛ ونعيم الجنة لا حساب عليه، ولا عقاب فيه. قوله: (خبر مبتدأ مقدر) أي أن قوله: ﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ ﴾ خبر لمحذوف، والاستفهام للإنكار، أي لا يستوي من هو في هذا النعيم المقيم، بمن هو خالد في النار. قوله: ﴿ وَسُقُواْ ﴾ معطوف على ﴿ خَالِدٌ ﴾ عطف صلة فعلية على صلة اسمية. قوله: (في خطبة الجمعة) أي فهذه الآيات مدنيات، وحينئذ فتكون مستثنيات من القول بأن السورة مكية. قوله: (وهم المنافقون) تفسير لمن. قوله: (استهزاء) علة لقالوا، فالاستفهام انكاري، والمعنى: لم يقل شيئاً يعتد به، فلا عبرة بقوله. قوله: ﴿ آنِفاً ﴾ حال، والمعنى: ماذا قال مؤتنفاً؟ أي مبتدئاً ومخترعاً. قوله: (بالمد والقصر) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي الساعة) أي فآنفاً ظرف حالي بمعنى الآن، وهو أحد استعمالين فيه، والثاني اسم فاعل بمعنى مؤتنفاً كما تقدم. قوله: (أي لا يرجع إليه) أي إلى قوله الذي قال آنفاً، أي لا نعمل به. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ ﴾ الخ، خبره. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ ﴾ الخ، لما بين الله حال المنافقين، وأنهم لا ينتفعون بما يسمعون بين حال المؤمنين، وأنهم ينتفعون بما يسمعون. قوله: (ألهمهم ما يتقون به النار) أي خلق فيهم التقوى والخاصة، وهي ترك متابعة الهوى، والتنزه عما سوى الله تعالى؛ وصرف القلب إلى ما يرضي الله.
قوله: ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ ﴾ أي ينتظرون جزاء أعمالهم، فالمراد انتظار الجزاء لا انتظار الموت، فإنه يأتيهم قبل مجيئها. قوله: (أن تأتيهم) ﴿ بَغْتَةً ﴾ أي فقد قرب قيامها. قوله: ﴿ فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ كالعلة لقوله: ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ ﴾ الخ، لأن ظهور أشراط الشيء موجب لانتظاره، ورد عن حذيفة والبراء بن عازب:" كنا نتذاكر الساعة، إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا نتذاكر الساعة، قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، وناراً تخرج من عدن "انتهى. قوله: (منها بعثة النبي) الخ، أي من علاماتها الصغرى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقد حصل بالفعل، وأما العلامات الكبرى فستأتي، وإنما عبر عن الجميع بالماضي لتحقق الوقوع، على حد: أتى أمر الله. قوله: ﴿ فَأَنَّىٰ لَهُمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ ذِكْرَٰهُمْ ﴾ مبتدأ مؤخر، و ﴿ إِذَا ﴾ وما بعدها معترض، وجوابها محذوف دل عليه ما قبله، والمعنى: كيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة فكيف يتذكرون؟
قوله: ﴿ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ مرتب على ما قبله، كأنه قال: إذا علمت أنه لا ينفع التذكر إذا حضرت الساعة، فدم على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، فإنه النافع يوم القيامة، وعبر بالعلم إشارة إلى أن غيره لا يكفي في التوحيد، كالظن والشك والوهم؛ واعلم أن العلم مراتب: الأولى: العلم بالدليل ولو جملياً، ويسمى علم يقين، وهذا هو المطلوب في التوحيد الذي يخرج به المكلف من ورطة التقليد، وهو الجزم من غير دليل وفيه خلاف. الثانية: العلم مع مراقبة الله، ويسمى عين يقين. الثالثة: العلم مع المشاهدة، ويسمى حق يقين؛ وفي هذه المراتب فليتنافس المتنافسون. قوله: (أي دم يا محمد) الخ، أي فالخطاب له صلى الله عليه وسلم، بل ولكل مؤمن، وقوله: (على علمك بذلك) أي بأن لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله. قوله: (النافع في القيامة) أي لما ورد: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " قوله: (لتستن به أمته) أي تقتدي به، وهذا أحد أوجه في تأويل الآية وهو أحسنها، وقيل معناه: اسأل الله العصمة من الذنوب، ومن المعلوم أن دعاءه مستجاب، ففي استغفاره تحدث بنعمة الله عليه، وهي عصمته من الذنوب، وتعليم الأمة أن يقتدوا به، وقيل: المراد بذنبه خلاف الأولى، مثل ما وقع منه في أسارى بدر، وفي إذنه للمنافقين بالتخلف عن الجهاد، فهو ذنب بحسب مقامه ورتبته، وقيل المراد بذنبه ذنب أهل بيته ففي هذه الآية بشرى للأمة حيث أمر صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم. قوله: (وقد فعله) أي الاستغفار لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات، ورد في الحديث:" إنه ليغان على قلبي، حتى استغفر الله في اليوم مائة مرة "." إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة "وفي رواية أكثر من ذلك، قوله في الحديث:" إنه ليغان على قلبي "الغين التغطية والستر، ويسمى به الغيم الرقيق الذي يغشى السماء، والمراد به أنوار تغشى قلبه صلى الله عليه وسلم، وسبب استغفاره منها، أنه صلى الله عليه وسلم دائما يترقى في الكمالات، فكلما ارتقى إلى مقام، رأى أن الذي فيه بالنسبة للذي ارتقى إليه ذنباً، فيستغفر الله منه. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ أشار المفسر إلى أن معنى ﴿ مُتَقَلَّبَكُمْ ﴾ متصرفكم لاشتغالكم بالنهار، ومعنى ﴿ مَثْوَاكُمْ ﴾ مأواكم إلى مضاجعكم بالليل، وهو أحد تفاسير في هذه الآية، وقيل: ﴿ مُتَقَلَّبَكُمْ ﴾ من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وبكونهنن و ﴿ مَثْوَاكُمْ ﴾ في الدنيا وفي القبور، وقيل: ﴿ مُتَقَلَّبَكُمْ ﴾ في الدنيا.
﴿ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ مصيركم في الآخرة إلى الجنة والنار. قوله: (والخطاب للمؤمنين وغيرهم) أي ولكن خطاب المؤمنين، ارشاد لهم إلى مقام المراقبة لله تعالى، وهي أن يشاهد الإنسان، أن الله مطلع عليه في كل لمحة وطرفة وحركة وسكون، وهذا سر، وهو معكم أينما كنتم، وهو مطلب العارفين، وكنز الراسخين، قال العارف ابن الفارض: أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي   إليها قلوب الأولياء تسارعوقال العارف الدسوقي: قد كان في القلب أهواء مفرقة   فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائيتركت للناس دنياهم ودينهم   شغلاً بحبك يا ديني ودنيائيوفيه فليتنافس المتنافسون، وخطاب غيرهم تخويف وتحذير. قوله: ﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، أي حين اشتد كرب المسلمين من أذى المشركين، تمنوا الأمر بالجهاد، ووافقهم في الظاهر على هذا التمني المنافقون، فهذه الآيات من هنا إلى آخر السورة مدنيات قطعاً، ولو على القول بأن السورة مكية، لأن القتال لم يشرع إلا بها، وكذا النفاق لم يظهر إلا بها. قوله: (أي طلبه) أي ذكر فيها الأمر به والحث عليه. قوله: (أي شك) وقيل ضعف في الدين. قوله: ﴿ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ ﴾ أي نظراً مثل نظر المغشي عليه، والمعنى: تشخص أبصارهم كالشخص الذي حضره الموت. قوله: (خوفاً منه) أي الموت. قوله: ﴿ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴾ أي الحق والواجب لهم، أي عليهم الطاعة الخ، هذا ما مشى عليه المفسر، وهو أوضح ما قيل في هذا المقام. قوله: (أي حسن) تفسير لمعروف، وقوله: (لك) متعلق لكل من ﴿ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ والمعنى: الواجب عليهم أن يطيعوك ويخاطبوك بالقول الحسن. قوله: (وجملة لو) أي مع جوابها. قوله: (بكسر السين وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (وفيه التفات) أي لتأكيد التوبيخ. قوله: (أي لعلكم) الخ، تفسير لعسى، ولم يذكر تفسير الاستفهام وهو التقرير، والمعنى: قروا بأنه يتوقع منكم إن توليتم الخ، والتوقع في الآية جار على لسان من يشاهد حصرهم على الدنيا وتفريطهم في الدين، لا الله لأنه هو الخالق لهم، العالم بأحوالهم. قوله: (أعضرتم عن الإيمان) تفسير للتولي، وقيل: معناه تأمرتم وتوليتم أمر الأمة.
قوله: ﴿ أَن تُفْسِدُواْ ﴾ خبر عسى، والشرك معترض بينهما، وجوابه محذوف للدلالة ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ ﴾ عليه. قوله: ﴿ أَوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ خبره. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ ﴾.
قوله: ﴿ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ﴾ أي فلا يهتدون إلى سبيل الرشاد. قوله: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ أي يتفكرون في معانيه فيهتدون؛ وهذه الآية لتقرير ما قبلها كأنه قال: أولئك الذين لعنهم الله، أي أبعدهم عنه، فجعلهم لا يسمعون النصيحة، ولا يبصرون طريقة الإسلام، فتسبب عن ذلك كونهم لا يتدبرون القرآن. قوله: ﴿ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ ﴾ الخ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة بمعنى بل، وهو انتقال من توبيخهم على عدم التدبر إلى توبيخهم، بكون قلوبهم مقفلة، لا تقبل التدبر والتفكر. قوله: (لهم) صفة لقلوب. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ ﴾ أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، وهم المنافقون الموصوفون بما تقدم، دل عليه قوله: (بالنفاق) وقيل هم اليهود، وقيل أهل الكتابين، داموا على الكفر به عليه السلام، بعد ما واجدوا نعته في كتابهم. قوله: ﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ﴾ أي الطريق القويم بالأدلة والحجج الظاهرة. قوله: (بضم أوله) أي وكسر ثالثه وفتح الياء، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقوله: (وبفتحه واللام) أي مبنياً للفاعل، والفاعل ضمير يعود على ﴿ #١٦٤٩; لشَّيْطَانُ ﴾ وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (والمملي الشيطان) الخ، جواب عن سؤال مقدر تقديره الإملاء، معناه الإهمال. وهو لا يكون إلا من الله، لأنه الفاعل المختار، فكيف ينسب للشيطان؟ فأجاب: بأن المملي حقيقة الله، وأسند للشيطان باعتبار أنه جار على يديه، لأنه يوسوس لهم سعة الأجل. قوله: (أي للمشركين) أي والقائل هم اليهود أو المنافقون، كما حكى الله عنهم ذلك في سورة الحشر بقوله:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾[الحشر: ١١] الآيات.
قوله: ﴿ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ ﴾ أي في بعض ما تأمروننا به، كالقعود عن الجهاد، وتثبيط المسلمين عنه، ونحو ذلك، لا في كله، لأنهم لا يوافقونهم في إظهار الكفر. قوله: (وبكسرها) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ خبر لمحذوف قدره بقوله: (حالهم). قوله: ﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ أي فملائكة العذاب تأتيهم عند قبض أرواحهم بمقامع من حديد، يضربون بها وجوههم وأدبارهم. قوله: (على الحال المذكورة) أي وهي التوفي مع ضرب الوجوه والأدبار. قوله: ﴿ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ ﴾ الخ، راجع لضرب الوجوه، وقوله: ﴿ ﴾ راجع لضرب الأدبار. قوله: ﴿ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ ﴾ أي من الكفر وغيره. قوله: (بما يرضيه) أي من الإيمان وغيره من الطاعات. قوله: ﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ﴾ الخ، أي وهم المنافقون المتقدم ذكرهم. قوله: (أحقادهم) جمع حقد وهو الانطواء على العداوة والبغضاء. قوله: (عرفناكهم) أي فالإرادة علمية لا بصرية. قوله: (وكررت اللام) أي في قوله: ﴿ فَلَعَرَفْتَهُم ﴾ للتأكيد، والمعنى: لو أردنا لدللناك على المنافقين فعرفتهم بسيماهم، ورد عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ان منكم منافقين، فمن سميته فليقم، ثم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ان منكم منافقين، فمن سميته فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان: حتى ستة وثلاثين. قوله: ﴿ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ﴾ اللحن يقال على معنيين: أحدهما صرف الكلام عم الإعراب إلى الخطأ، والثاني الكناية بالكلام، بحيث يكون للكلام ظاهر وباطن، فيكون ظاهره تعظيماً، وباطنه تحقيراً، وهو المراد هنا، ومعنى الآية: وإنك يا محمد، لتعرفن المنافقين فيما يعرضونه بك من القول، الذي ظاهره إيمان وإسلام، وباطنه كفر وسب. قوله: (بما فيه تهجين أمر المسلمين) التهجين التقبيح والتعييب، فكانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول، ظاهرها حسن، ويعنون بها القبيح، كقولهم: راهنا، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ أي فيجازيهم بحسب قصدكم، ففيه وعد ووعيد. قوله: (بالجهاد وغيره) أي من سائر المشاق كما قال تعالى:﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ ﴾[البقرة: ١٥٥] الآية. قوله: (علم ظهور) أي علماً يشاهده خلقنا، مطابقاً لما هو في علمنا الأزلي، أي فتظهر سرائرهم بين عبادنا. قوله: (في ثلاثتها) وفي نسخة (في الأفعال الثلاثة) وهي لنبلوكم ونعلم ونبلو، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (طريق الحق) أي وهو دين الإسلام. قوله: (خالفوه) أي خرجوا عن طاعته.
قوله: ﴿ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً ﴾ هذه الجملة خبر ﴿ إِنَّ ﴾ والكلام إما على ظاهره والمعنى: إن كفرهم لا يضر إلا أنفسهم، وتعالى الله عن أن يصل له من خلقه ضر أو نفع، لما في الحديث القدسي:" يا عبادي إنكم لن تقدروا على ضري فتضروني "إلى آخره، أو على حذف مضاف، أي لن يضروا رسول الله لعصمتهم منهم. قوله: (المطعمين من أصحاب بدر) أي في المطعمين الطعام للكفار يوم بدر، وذلك أن أغنياء الكفار يعينون فقراءهم على حرب رسول الله وأصحابه، كأبي جهل وأضرابه، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ﴾[الأنفال: ٣٦] الآية، وسبب ذلك: أن قريشاً خرجت لغزوة بدر بأجمعها، وكان العام عام قحط وجدب، وكان أغنياؤهم يطعمون الجيش، فأول من نحر لهم حين خروجهم من مكة أبو جهل، نحر لهم عشر جزر، ثم صفوان تسعاً بعسفان، ثم سهل عشراً بقديد، ومالوا منه إلى نحو البحر فضلوا، فأقاموا يوماً، فنحر لهم شيبة تسعاً، ثم أصبحوا بالأبواء، فنحر مقيس الجمحي تسعاً، ونحر العباس عشراً، ونحر الحرث تسعاً، ونحر أبو البحتري على ماء بدر عشراً، ونحو مقيس عليه تسعاً، ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم. قوله: (أو في قريظة والنضير) أي فكانوا ينفقون على قريش، ليستعينوا بهم على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فآل أمرهم إلى أن أخرج بني النضير من ديارهم، وغزا قريظة، فقتل كبارهم وأسر نساءهم وذراريهم، ولم تنفعهم قريش بشيء. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ الخ؛ لما ذكر أحوال الكفار ومخالفتهم لرسول الله، أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله؛ وبالجملة فهذه السورة اشتملت على ذكر أوصاف المؤمنين والكافرين على أحسن ترتيب. قوله: (بالمعاصي مثلاً) أي كالردة فإنها تبطل جميع الأعمال الصالحة من أصلها، والعجب والرياء، فإنهما يبطلان ثواب الأعمال، والمن والأذى فإنهما يبطلان ثواب الصدقات، والمن مذموم إلا من الله على عباده، والرسول على أمته، والشيخ على تلميذه، والوالد على ولده، فليس بمذموم إلا من الله على عباده، والرسول على أمته، والشيخ على تلميذه، والوالد على ولده، فليس بمذموم، وأما باقي المعاصي فلا تبطل ثواب الأعمال الصالحة، خلافاً للمعتزلة القائلين بأن الكبائر تحبط الأعمال كالردة، ورد كلامهم بقوله تعالى:﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾[النساء: ٤٨] وأخذ بعض الأئمة من هذه الآية، أنه يحرم على الشخص قطع الأعمال الصالحة ولو نفلاً، كالصلاة والصوم. والحاصل: أن الأصل في النوافل، أنها لا تلزم بالشروع عند جميع الأئمة، واستثنى مالك وأبو حنيفة سبعاً منها تلزم بالشروع نظمها ابن عرفة من المالكية بقوله: صلاة وصوم ثم حج وعمرة   طواف عكوف والتمام تحتماوفي غيرها كالوقف والطهر خيرن   فمن شاء فليقطع ومن شاء تمماولابن كمال باشا من الحنفية: من النوافل سبع تلزم الشارع   أخذا لذلك مما قاله الشارعصوم صلاة عكوف حجة الرابع   طوافه عمرة إحرامه السابع
قوله: ﴿ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴾ خبر ﴿ إِنَّ ﴾.
قوله: (في أصحاب القليب) هو بئر في بدر، ألقيت فيه القتلى من الكفار، لكن حكمها عام في كل كافر مات على كفره. قوله: ﴿ فَلاَ تَهِنُواْ ﴾ الفاء فصيحة وقعت في جواب شرط مقدر، أي إذا تبين لكم بالأدلة القطعية عن الإسلام، وذل الكفر في الدنيا والآخرة ﴿ فَلاَ تَهِنُواْ ﴾.
قوله: (بفتح السين وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وهذه الآية قيل ناسخة لآية﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا ﴾[الأنفال: ٦١] لأن الله منع من الميل إلى الصلح، إذ لم يكن بالمسلمين حاجة إيه، وقيل إنهما في وقتين مختلفين فيجوز الصلح عند الضرورة والاحتياج إليه، ولا يجوز عند القدرة والاستعداد، فهذه الآية مخصصة للآية المتقدمة. قوله: ﴿ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ ﴾ الجملة حالية، وكذا قوله: ﴿ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ ﴾.
قوله: (لام الفعل) أي وأصله الأعلوون بواوين، الأولى لام الفعل، والثانية واو الجمع، تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبلها، قلبت ألفاً فالتقى ساكنان فحذفت الألف. قوله: (بالعون والنصر) أي فالمراد معية معنوية. قوله: (ينقصكم) أي أو يفردكم عنها، لأن الترة تطلق بالمعنيين، يقال: وتره حقه بتره وتراً نقصه، وأوتر أرضه بمعنى أفرده. قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ اللعب ما يشغل الإنسان، وليس فيه منفعة الحال ولا في المآل، واللهو ما يشغل الإنسان عن مهمات نفسه. قوله: ﴿ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ ﴾ أي لا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة، بل يأمركم بإخراج بعضها. قوله: ﴿ فَيُحْفِكُمْ ﴾ عطف على الشرط و ﴿ تَبْخَلُواْ ﴾ جوابه. قوله: (يبالغ في طلبها) أي حتى يستأصلها. قوله: ﴿ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴾ (لدين الإسلام) أي أحقادكم وبغضكم لدين الإسلام، وذلك لأن الإنسان جبل على محبة الأموال، ومن نوزع في حبيبه ظهرت سرائره، فمن رحمته على عباده، عدم التشديد عليهم في التكاليف.
قوله: ﴿ هَا أَنتُمْ ﴾ ﴿ هَا ﴾ للتنبيه، و ﴿ أَنتُمْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ هَـٰؤُلاَءِ ﴾ منادى، وحرف النداء محذوف قدره المفسر، و ﴿ تُدْعَوْنَ ﴾ خبره، وجملة النداء معترضة بين المبتدأ والخبر. قوله: ﴿ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ﴾ أي ومنكم من يجود، وحذف هذا المقابل لأن المراد الاستدلال على البخل. قوله: (يقال بخل عليه وعنه) أي فيتعدى بعلى إذا ضمن معنى شح، وبعم إذا ضمن معنى أمسك. قوله: ﴿ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ﴾ (إليه) أي وفي جميع الأحوال. قوله: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ ﴾ إما خطاب للصحابة، والمقصود منه التخويف، لأنه لم يصل أحد من بعدهم لرتبتهم، والشرطية لا تقتضي الوقوع، أو خطاب للمنافقين، والتبديل حاصل بالفعل، واختلف في القوم المستبدلين، فروي عن أبي هريرة قال: وتلا رسول الله هذه الآية ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم ﴾ قالوا: ومن يستبدل بنا؟ وكان سلمان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان فقال: هذا وأصحابه، والذي نفس محمد بيده، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا، لتناوله رجال من فارس " وقيل هم العجم، وقيل هم فارس والروم، وقيل الأنصار، وقيل الملائكة، وقيل الملائكة، وقيل التابعون، وقيل من شاء من سائر الناس، ورد أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" هي أحب إلي من الدنيا ".
Icon