تفسير سورة الرحمن

فتح البيان
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الرحمن
هي ست أو ثمان وسبعون آية وهي مكية
قال القرطبي : كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر، قال ابن عباس : إلا آية منها، وهي قوله :﴿ يسأله من في السماوت والأرض ﴾ الآية وصوابه إلا آيتين كما صرح به الكازروني والآيتان هما :﴿ يسأله ﴾ إلى قوله :﴿ كل يوم هو في شأن ﴾، هذه واحدة، ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ هذه أخرى. وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنية كلها، والأول أصح، قال ابن الزبير : أنزلت بمكة، وعن عائشة نزلت بمكة وعن ابن عباس مثله، " وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو يصلي نحو الركن، قيل أن يصدع بما يؤمر، والمشركون يسمعون :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ ١، أخرجه أحمد وابن مردويه، قال السيوطي : بسند حسن، وعن ابن عباس : نزلت سورة الرحمن بالمدينة، ويمكن الجمع بين القولين بأنه نزل بعضها بمكة، وبعضها بالمدينة.
" وعن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال : مالي أراكم سكوتا ؟ لقد قرأتها على الجن ليلة الجن..
فكانوا أحسن مردودا منكم، كلما أتيت على قوله :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ ؟ قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد "، رواه الترمذي وابن المنذر والحاكم، وصححه والبيهقي، قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد وحكي عن الإمام أحمد أنه كان يستنكر روايته عن زهير، وقال البزار : لا نعرفه يروي إلا من هذا الوجه، أخرجه البزار وابن جرير والدارقطني في الإفراد وغيرهم من حديث ابن عمر، وصحح السيوطي إسناده، وقال البزار : لا نعلمه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
" وعن علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل شيء عروس وعروس القرآن الرحمن ".
١ رواه أحمد..

(الرَّحْمَنُ) مبتدأ وما بعده من الأفعال خبر له، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الله الرحمن، أو مبتدأ: خبره محذوف، أي: الرحمن ربنا: وهذان الوجهان عند من يرى أن الرحمن آية مع هذا المضمر وعلى الوجه الأول ليس بآية:
(علم القرآن) أي: يسره للذكر، ليحفظ ويتلى، قاله الزجاج قال الكلبي: علم القرآن محمد صلى الله عليه وسلم، وعلمه محمد ﷺ أمته، وقيل: علم جبريل القرآن، وقيل: علم الإنسان، وهذا أولى لعمومه، ولأن قوله: خلق الإنسان دال عليه، وقيل: جعله علامة لما يعبد الناس به، وآية يعتبر بها، قيل: نزلت هذه الآية جواباً لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر. وقيل: جواباً لقولهم، وما الرحمن؟ ولما كانت هذه السورة لتعديد نعمه التي أنعم بها على عباده، قدم النعمة التي هي أجلها قدراً، وأكثرها نفعاً، وأعلاها رتبة، وأتمها فائدة وأعظمها عائدة، وهي نعمة تعليم القرآن العزيز، فإنها مدار سعادة الدارين، وقطب رحى الخيرين، وعماد الأمرين، وسنام الكتب السماوية. المنزل على أفضل البرية.
313
ثم امتن بعد هذه النعمة، بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور، ومرجع جميع الأشياء فقال:
314
(خلق الإنسان) أي آدم قاله قتادة والحسن، وقال ابن كيسان: المراد هنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى حمل الإنسان على الجنس، وقدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه، وهو متأخر عنه في الوجود، لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه. أفاده السمين، ثم امتن ثالثاً بتعليمه البيان الذي يكون به التفاهم، ويدور عليه التخاطب، وتتوقف عليه مصالح المعاش والمعاد، لأنه لا يمكن إبراز ما في الضمائر، ولا إظهار ما يدور في الخلد إلا به، فقال:
(علمه البيان) قال قتادة والحسن: المراد بالبيان أسماء كل شيء، وقيل المراد به اللغات كلها، فكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية، وقيل: الإنسان اسم جنس، وأراد به جميع الناس، أي: علمه النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوان، وقيل: أراد بالإنسان محمداً صلى الله عليه وسلم، علمه بيان ما يكون وما كان لأنه ﷺ ينبىء عن خير الأولين والآخرين، وعن يوم الدين، وقال ابن كيسان: المراد به بيان الحلال من الحرام والهدى من الضلال وهو بعيد، وقال الضحاك: البيان الخير والشر والحدود والأحكام، وقال الربيع ابن أنس: هو ما ينفعه مما يضره، وقيل: البيان الكتابة بالقلم، والأولى حمل البيان على تعليم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به:
(الشمس والقمر بحسبان) أي يجزيان بحساب معلوم، مقدر في بروج ومنازل، لا يعدوانها ولا يحيدان عنها، ويدلان بذلك على عدد الشهور والسنين ويتسق بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، وقال ابن زيد وابن كيسان: يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب لأن الدهر يكون كله ليلاً أو نهاراً، قال الضحاك: معنى بحسبان بقدر، وقال مجاهد:
314
بحسبان كحسبان الرحى يعني قطبهما الذي يدوران عليه قال الأخفش: ألحسبان جماعة الحساب، مثل شهب وشهبان، أو مصدر مفرد بمعنى الحساب كالغفران والكفران، وأما الحسبان بالضم في سورة الكهف فهو العذاب كما مضى، وقال ابن عباس: بحساب ومنازل يرسلان:
315
(والنجم والشجر يسجدان) النجم ما لا ساق له من النبات، والشجر ما له ساق، والمراد بسجودهما انقيادهما لأمر الله تعالى إنقياد الساجدين من المكلفين طوعاً، وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما كما في قوله: يتفيأ ظلاله، وقال الحسن ومجاهد: المراد بالنجم نجم السماء، وسجوده طلوعه، ورجح هذا ابن جرير وقيل: سجوده أفوله وسجود الشجر تمكينه من الاجتناء لثماره، قال النحاس: أصل السجود الاستسلام والانقياد لله، وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران للرحمن وترك الرابط فيهما لظهوره، كأنه قيل: والشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له.
(والسماء رفعها) أي جعلها مرفوعة مسموكة فوق الأرض (ووضع الميزان) المراد به العدل. أي وضع وأثبت في الأرض العدل الذي شرعه وأمر به، كذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، قال الزجاج: المعنى أنه أمرنا بالعدل، ويدل عليه قوله:
(ألا تطغوا في الميزان) أي لا تجاوزوا العدل وقال الحسن والضحاك: المراد به آلة الوزن ليتوصل بها إلى الإنصاف والإنتصاف: أي لا تجوروا فيما يوزن به، وقيل: الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه، وبه قال الحسين ابن الفضل والأول أولى، ومعنى (أن لا تطغوا) لئلا تطغوا فلا نافية، وتطغوا منصوب بأن وقبلها لام العلة مقدرة، وهذا أولى.
وقيل: أن هي مفسرة، لأن في الوضع معنى القول، ولا للنهي والطغيان مجاوزة الحد، فمن قال: الميزان العدل قال: طغيانه الجور، ومن قال الميزان الآلة التي يوزن بها قال: طغيانه البخس، وقيل: الميزان كل ما
315
توزن به الأشياء، وتعرف مقاديرها؛ من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس، أي خلقه موضوعاً على الأرض، حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل، في أخذهم وإعطائهم، وقيل: المعنى أنه وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال.
ثم أمر سبحانه بإقامة العدل بعد إخباره للعباد بأنه وضعه لهم فقال:
316
(وأقيموا الوزن بالقسط) أي قوموا وزنكم بالعدل، وقيل: المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل، وقيل: الإقامة باليد: والقسط بالقلب، وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية، قلت: ومنه القسطاس بمعنى الميزان. وقيل: معناه لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل.
(ولا تخسروا الميزان) أي لا تنقصوه. ولا تبخسوا الكيل والوزن وهذا كقوله: ولا تنقصوا المكيال والميزان، وقيل: معناه لا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة، فيكون ذلك حسرة عليكم، والأول أولى، وقال قتادة في هذه الآية: أعدل ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس، أمر سبحانه أولاً بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو المجاوزة للحد بالزيادة، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس، وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله، والحث عليه، قرأ الجمهور: تخسروا من أخسر وقرىء بفتح التاء والسين من خسر، وهما لغتان، ويقال: أخسرت الميزان وخسرته. ثم لما ذكر سبحانه أنه رفع السماء ذكر أنه وضع الأرض فقال:
(والأرض وضعها للأنام) أي: خفضها مدحوة، وبسطها على الماء لجميع الخلق، مما له روح وحياة، ولا وجه لتخصيص الأنام بالإنس والجن، قال ابن عباس: للأنام للناس، أي لأجل انتفاعهم بها، وعنه قال: كل شيء فيه روح.
(فيها فاكهة) أي: كل ما يتفكه به الإنسان من أنواع الثمار والجملة
316
حال مقدرة، والأحسن أن يكون الجار والمجرور هو الحال، وفاكهة رفعت بالفاعلية، ونكرت، لأن الإنتفاع بها دون الإنتفاع بما ذكر بعدها، فهو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ثم أفرد النخل بالذكر لشرفه، ومزيد فائدته على سائر الفواكه، فقال:
(والنخل) المعهود (ذات الأكمام) جمع كم بالكسر، وهو وعاء الثمر قال الجوهري: والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع، وغطاء النور والجمع كمام، وأكمة وأكمام وأكاميم، والكم ما ستر شيئاًً، ومنه كم القميص بالضم والجمع كمام وكمة والكمة القلنسوة المدورة لأنها تغطي الرأس، قال الحسن: ذات الأكمام أي: ذات الليف، فإن النخلة تكم بالليف، وكمامها ليفها الذي في أعناقها وسعفها وكفرها، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من تمره وجماره وجذوعه، وقال ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق، وقال عكرمة: ذات الأحمال، وقال ابن عباس: أوعية الطلع.
317
(والحب ذو العصف والريحان) الحب هو جميع ما يقتات من الحبوب، كالحنطة والشعير والذرة والأرز والعصف. قال السدي والفراء: هو بقل الزرع، وهو أول ما ينبت منه. قال ابن كيسان: يبدو أولاً ورقاً، وهو العصف، ثم يبدو له ساق، ثم يحدث الله فيه أكماماً، ثم يحدث في الأكمام الحب، قال الفراء: والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع، إذا قطعوا منه قبل أن يدرك، وكذا قال في الصحاح، وقال الحسن: العصف التبن، وقال مجاهد: هو ورق الشجر والزرع. وقيل هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رأسه ويبس، ومنه قوله: كعصف مأكول، وقيل: هو الزرع الكثير، يقال: قد أعصف الزرع، ومكان معصف، أي كثير الزرع. قال ابن عباس: العصف التبن، والريحان خضرة الزرع، وقال: العصف ورق الزرع إذا يبس والريحان ما أنبتت الأرض من الريحان الذي يشم، وعنه قال: ألعصف الزرع أول ما يخرج بقلاً، والريحان حين يستوي على سوقه ولم يسنبل والريحان الرزق في قول الأكثر وفي لغة حمير.
317
وقال الحسن وقتادة والضحاك وابن زيد: إنه الريحان الذي يشم وقال سعيد بن جبير، هو ما قام على ساق، وقال الكلبي: إن العصف هو الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب المأكول. وقال الفراء أيضاًً: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل، وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح، قال ابن الأعرابي: يقال شيء ريحاني وروحاني أي له روح وقال في الصحاح الريحان نبت معروف، والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، وقيل: العصف رزق البهائم، والريحان رزق الناس. قال ابن عباس: كل ريحان في القرآن فهو رزق، قرأ الجمهور: والحب ذو العصف والريحان برفع الثلاثة عطفاً على فاكهة، وقرىء بالنصب عطفاً على الأرض، أو على إضمار فعل، أي وخلق الحب ذا العصف وقرىء الريحان بالجر عطفاً على العصف.
318
(فَبِأَيِّ آلَاءِ) أي فباي فرد من أفراد نعم (رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ أبتلك النعم المذكورة هنا؟ أم بغيرها؟ والمراد بالتكذيب الإنكار والخطاب للجن والإنس، لأن لفظ الأنام يعمهما وغيرهما، ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل، وبهذا قال الجمهور من المفسرين، ويدل عليه قوله فيما سيأتي: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ)، ويدل على هذا ما قدمناه أن النبي ﷺ قرأها على الجن والإنس، وقيل: الخطاب للإنس، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية، كما قدمنا في قوله: ألقيا في جهنم، والآلاء النعم. قال القرطبي: وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا وإلى " وألى " أربع لغات حكاها النحاس، وزاد في القاموس ألو، وقال ابن زيد: إنها القدرة، أي: فبأي قدرة، وبه قال الكلبي، وقال ابن عباس: فبأي نعمة الله وقال: يعني الجن والإنس.
وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة وتأكيداً للتذكير بها، على عادة العرب في الإتساع ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق
318
ومعادهم ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقبها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء، وتأخير العقاب، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما بعدد أبواب الجنة وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأولين، أخذاً من قوله: ومن دونهما جنتان، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها إستحق هاتين الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة، أفاده شيخ الإسلام في متشابه القرآن.
قال القتيبي: إن الله عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، لينبههم على النعم، ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع له إحسانك وهو يكفره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا ومنه قول الشاعر:
لا تقتلي رجلاً إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك
ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب، وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر، والسماء والأرض، إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه، وخاطب الجن والإنس بالأشياء المذكورة، لأنها كلها منعم بها عليهم، قال الحسين بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة، وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أن التكرير لإختلاف النعم، فلذلك كرر التوقيف مع كل واحدة.
وقال الرازي: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الإلتفات والمراد به التقرير والزجر، وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة. وكررت هذه اللفظة في هذه السورة إما للتأكيد، ولا يعقل لخصوص العدد معنى، قال الجلال المحلي: والإستفهام فيها للتقرير، لما روي الحاكم. عن جابر قال: قرأ علينا
319
رسول الله ﷺ سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد " (١)، قلت: ويؤخذ من هذا أنه يسن لسامع القارىء لهذه السورة أن يجيبه بالجواب المذكور؛ كلما قرأ الآية المذكورة، كما فعلت الجن وأقرهم رسول الله ﷺ على ذلك، ولام على الصحابة في سكوتهم، وصرح بالسنية الكازروني في تفسيره، وصنيع أبي السعود يقتضي أن الإستفهام للتوبيخ والإنكار، ولفظه الفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فضل من فنون النعم، وصنوف الآلاء الموجبة للشكر والإيمان حتماً والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية، والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ، وقرىء آلاء على أصله بالمد والتوسط والقصر في جميع هذه السورة.
ولما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير، وهو السماء والأرض وما فيهما، ذكر خلق العالم الصغير وقال:
_________
(١) رواه الحاكم.
320
(خلق الإنسان) وهذا تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بواجب شكر النعم، المتعلقة بذات كل واحد من الثقلين، والمراد بالإنسان هنا آدم. قال القرطبي بالاتفاق من أهل التأويل، ولا يبعد أن يراد به الجنس لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم (من صلصال) أي: من طين يابس يسمع له صلصلة أي: صوت إذا نقر أي ليختبر هل فيه عيب أو لا؟ وقيل هو طين خلط برمل وقيل: هو الطين المنتن يقال: صل اللحم وأصل، إذا أنتن، وقد تقدم بيانه في سورة الحجر.
(كالفخار) أي الخزف الذي طبخ بالنار، والمعنى: أنه خلق الإنسان من طين يشبه من يبسه الخزف، فإن قلت: قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم، فقال تعالى في آل عمران: (من تراب) وقال في الحجر: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)، وقال في الصافات: (من طين لازب)،
320
وزاد الخازن: (من ماء مهين)، وقال: هنا (من صلصال كالفخار)، قلت: ليس فيها اختلاف بل المعنى متفق، وذلك أن الله تعالى خلقه أولاً من تراب ثم جعله طيناً لازباً لما اختلط بالماء، ثم حمأً مسنوناً، وهو الطين الأسود المنتن، فلما يبس صار صلصالاً كالفخار، قال الخطيب: المذكور هنا آخر تخليقه وهو أنسب بالرحمانية وفي غيرها تارة مبدأه، وتارة إثناؤه، فالأرض أمه والماء أبوه ممزوجان بالهواء الحامل للحر، الذي هو من فيح جهنم فمن التراب جسده ونفسه ومن الماء روحه وعقله، ومن النار مطلب غوايته وحدته ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه.
والغالب في جبلته التراب فلذا نسب إليه وإن كان خلقه من العناصر الأربع كما أن الجان في العناصر الأربع، لكن الغالب في جبلته النار فنسب إليها كما قال تعالى:
321
(وخلق الجان من مارج) يعني خلق أبا الجن وقيل: هو إبليس أو جنس الجن، ومن لإبتداء الغاية والمارج اللهب الصافي من النار وقيل: الخالص منها وقيل لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت، وقال الليث: المارج الشعلة الصادعة ذات اللهب الشديد قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع، وقال أبو عبادة: المارج خلط النار من مرج إذا اختلط واضطرب، قال الجوهري: مارج من نار، نار لا دخان لها، خلق منها الجان، وقال ابن عباس: من لهب النار وخالصها، وقيل: هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت.
(من نار) هو بيان للمارج، أو من للتبعيض، أو أراد من نار مخصوصة كقوله: (فأنذرتكم ناراً تلظى)، أو من صاف من نار، أو مختلط من النار كما تقدم
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول؟ فصدقتم بالآخرة، لعلكم تنجون من عذاب الله تعالى.
(رب المشرقين ورب المغربين) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ
321
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣)
محذوف، أي: هو ربهما، وقيل: مبتدأ، وخبره مرج البحرين، بينهما اعتراض، والأول أولى، والمراد بالمشرقين مشرق الشتاء والصيف، وبالمغربين مغرباهما، قال ابن عباس: للشمس مطلع في الشتاء ومغرب في الشتاء، ومطلع في الصيف ومغرب في الصيف، غير مطلعها في الشتاء وغير مغربها في الشتاء، وعنه قال مشرق الفجر ومشرق الشفق، ومغرب الشمس ومغرب الشفق
322
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن في ذلك من النعم ما لا يحصى، كاعتدال الهواء واختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه، أو بغير ذلك، ولا يتيسر لمن أنصف من نفسه تكذيب فرد من أفراده.
(مرج البحرين يلتقيان) المرج التخلية والإرسال، يقال: مرجت الدابة إذا أرسلتها، وأصله الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى، قال الحسن وقتادة: هما بحرا فارس والروم، وقال ابن جريج: هما البحر المالح والأنهار العذبة، وقيل: بحر المشرق والمغرب، وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان، وقيل بحر السماء وبحر الأرض، وقيل: بحر الروم وبحر الهند، وأنتم الحاجر بينهما والمعنى خلى وأهمل وأنه أرسل كل واحد منهما يتجاوران ويتماسان على وجه
322
الأرض، لا فصل بينهما في مرأى العين، قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام وقيل يلتقي طرفاهما ومع ذلك فلم يختلطا فلهذا قال:
323
(بينهما برزخ) أي حاجز يحجز بينهما وقيل البرزخ الجزائر.
(لا يبغيان) أي لا يبغي أحدهما على الآخر، بأن يدخل فيه ويختلط به، وقيل: لا يتغيران، وقيل: لا يطغيان على الناس بالغرق قال ابن عباس: أرسل البحرين بينهما حاجز لا يختلطان بينهما من البعد ما لا يبغي كل واحد منهما على صاحبه، وفي الخطيب لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده له خالقه، لا في الظاهر ولا في الباطن حتى إن العذب الداخل في الملح باق على حاله، لم يمتزج بالملح فمتى حفرت في جنب الملح في بعض الأماكن وجدت الماء العذب، قال البقاعي: بل كلما قربت الحفرة من الملح كان الماء الخارج منها أحلى، فخلطهما الله تعالى في رأي العين وحجز بينهما في غيب القدرة، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها العقلاء؟
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن هذه الآية وأمثالها لا يتيسر تكذيبها بحال.
(يخرج) قرأ الجمهور على البناء للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول، وهما سبعيتان (منهما اللؤلؤ) أي: الدر (والمرجان) الخرز الأحمر المعروف، وقال الفراء: اللؤلؤ العظام والمرجان ما صغر، قال الواحدي: وهو قول جميع أهل اللغة، وقال مقاتل والسدي ومجاهد: اللؤلؤ صغار الدر والمرجان كباره، وقال ابن عباس: إذا مطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها من قطر السماء فهو اللؤلؤ، وعن علي قال: المرجان عظام اللؤلؤ، وقال ابن عباس: اللؤلؤ ما عظم منه، والمرجان: اللؤلؤ الصغار قال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر.
وقال: منهما وإنما يخرج ذلك من المالح لا من العذب، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما، كذا قال الزجاج وغيره وقال أبو علي الفارسي: هو من باب حذف المضاف أي من أحدهما كقوله: على رجل من القريتين
323
عظيم، وتقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محله، وقال الأخفش: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ، من العذب وقيل: هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان، وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب، وقيل: هما بحر السماء وبحر الأرض، فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤ فصار خارجاً عنهما، وقال بعضهم: كلام الله أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس، فمن الجائز أن يسوقهما من البحر العذب إلى الملح، واتفق أنهم لم يخرجوهما إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التجار المترددين القاطعين المفاوز فكيف بما في قعر البحر؟.
وأجاب عنه ابن عادل بأن الله لا يخاطب الناس ولا يمتن عليهم إلا بما يألفون ويشاهدون، ولا يخلو هذا الجواب عن التعسف
324
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن في ذلك الخروج من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه ولا يقدر على إنكاره.
(وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) المراد بالجوار السفن الجارية في البحر، وسميت السفينة جارية لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفة في الساحل كما سماها في موضع آخر بالجارية، كما قال تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)، وسماها بالفلك قبل أن لم تكن كذلك، فقال تعالى لنوح، (واصنع الفلك بأعيننا)، ثم بعد ما عملها سماها سفينة فقال تعالى: (فأنجيناه وأصحاب السفينة)، قال الرازي: الفلك أولاً، ثم السفينة، ثم الجارية، والمرأة المملوكة تسمى أيضاًً جارية، لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها، بخلاف الزوجة، فهي من الصفات الغالبة.
والعامة على كسر الراء من الجوار، لأنه منقوص على فواعل، والياء محذوفة لفظاً، وقرىء برفع الراء تناسباً للمحذوف، وقرىء بإثبات الياء في الوقف، ولا تثبت في الرسم، لأنها من ياآت الزوائد، والمنشئآت المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بعض، وركب حتى ارتفعت وطالت حتى صارت في البحر كالأعلام، وهي الجبال، والعلم الجبل الطويل، شبه السفن في
324
البحر بالجبل في البر، وقال قتادة: المنشئآت المخلوقات للجري، وقال الأخفش: المنشئآت المجريات، وقيل: المحدثات المسخرات، وقيل: الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، وقد مضى الكلام على هذا في سورة الشورى، وإفراد البحر وجمع الأعلام إشارة إلى عظمة البحر، قرأ الجمهور المنشئآت بفتح الشين، وقرىء بكسرها.
325
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن ذلك من الوضوح والظهور بحيث لا يمكن تكذيبه ولا إنكاره.
(كل من عليها فان) أي كل من على الأرض من الحيوانات هالك، وعلى هذا لا يحتاج لتخصيص الآية بغير الجنة والنار، والحور والولدان، والحجب والعرش والأرواح، وغلب العقلاء على غيرهم فعبر عن الجميع بلفظ (من) وقيل: أراد من عليها من الجن والإنس، ولا يقال: إن هذه الآية إلى قوله: (يطوفون بينها وبين حميم آن)، ليست نعماً فكيف قال عقب كل منهما (فَبِأَيِّ آلَاءِ)، الآية؟ والجواب أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي. وترغيب في الطاعات، وهذا من أعظم المنن، وقيل: وجه النعمة في فناء الخلق أن الموت سبب النقلة إلى دار الجزاء والثواب، قال يحيى بن معاذ: حبذا الموت، فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب، وقيل: جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب، وقال مقاتل: وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام.
(ويبقى وجه ربك) الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده، وقد تقدم في سورة البقرة بيان معنى هذا، وقيل: المعنى وتبقى حجته التي يتقرب بها إليه والأول أولى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، وخاطب الاثنين في قوله:
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا)، وخاطب هنا الواحد لأن الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد، فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع، ليعلم كل أحد أن غيره فان، فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل
325
أحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب عن الفناء، ولم يقل ويبقى وجه الرب من غير خطاب مع أنه أدل على فناء الكل، لأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر، والموضوع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب.
(ذو الجلال) أي ذو العظمة والكبرياء، واستحقاق صفات المدح، يقال: جل الشيء أي عظم، وأجللته أي أعظمته وهو اسم من جل، قرأ الجمهور ذو على أنه صفة لوجه وقرىء ذي على أنه صفة لرب.
(والإكرام) معناه أنه يكرم عن كل شيء لا يليق به وقيل: إنه ذو الإكرام لأوليائه، ففي وصفه بذلك بعد ذكر فناء الخلق، وبقائه تعالى إيذان بأنه تعالى يفيض عليهم بعد فنائهم آثار لطفه وكرمه حسبما ينبىء عنه قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ)، فإن إحياءهم بالحياة الأبدية وإثابتهم بالنعيم المقيم من أجل النعم وأعظم الآلاء.
وعن " أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألظوا بياذا الجلال والإكرام " أخرجه الترمذي، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ومعنى ألظوا ألزموا هذه الدعوة وأكثروا منها.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) أبتلك النعم؟ من بقاء الرب. وفناء الكل والحياة الدائمة؛ والنعيم المقيم أم بغيرها؟ ومما قلت في معنى الآية:
326
(يسأله من في السموات والأرض) مستأنف، أو حال من وجه، والعامل فيه يبقى أي يبقى مسؤولاً ممن فيهما أي يسألونه جميعاً لأنهم محتاجون إليه. قال أبو صالح: يسأله أهل السموات المغفرة. ولا يسألونه الرزق وأهل
326
الأرض يسألونه الأمرين جميعاً وقال مقاتل: يسأله أهل الأرض المغفرة والرزق وتسأل لهم الملائكة أيضاًً الرزق والمغفرة فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وكذا قال ابن جريج وقيل: يسألونه الرحمة قال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض أي في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم ويعن لهم والحاصل أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال، أو لسان الحال، ما يطلبونه من خيري الدارين، أو من خير أحدهما، وقال ابن عباس: مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة.
(كل يوم هو في شأن) أي: استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات واليوم عبارة عن الوقت والشأن هو الأمر، ومن جملة شؤونه سبحانه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبونه منه، على اختلاف حاجاتهم، وتباين أغراضهم، قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق ويفقر ويعز ويذل، ويمرض ويشفي، ويعطي ويمنع، ويغفر ويعاقب، ويرحم ويغضب إلى غير ذلك مما لا يحصى، وقيل: كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً، وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً وشيئاًً وقيل: المراد سوق المقادير إلى المواقيت، وقال الحسين ابن الفضل: أنها شؤون له يبديها لا شؤون يبتديها، وقال أبو سليمان الداراني: في كل يوم إلى العبيد بر جديد وقيل: يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا وعسكراً من الدنيا إلى القبور؛ ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى.
ولا وجه لتخصيص شأن دون شأن، بل الآية تدل على أنه سبحانه كل يوم في شأن من الشؤون له، أي شأن كان من غير تعيين وشؤونه سبحانه لا تحصى، ولا يعلمها إلا هو، فالعموم أولى وأنسب بمقام القدرة وكمالها، وقيل: المراد باليوم المذكور هو يوم الدنيا ويوم الآخرة. وشأنه في الدنيا الإختبار بالأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، وغير ذلك، وشأنه في الآخرة
327
الجزاء والحساب والثواب والعقاب وغير ذلك، قال ابن بحر وسفيان ابن عيينة: الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة وقيل: المراد كل يوم من أيام الدنيا.
" عن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله ﷺ هذه الآية فقلنا: يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين "، أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده والبزار وابن جرير والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وابن عساكر.
" وعن أبي الدرداء عن النبي ﷺ في الآية مثله " أخرجه البخاري في تاريخه وابن ماجة وابن أبي عاصم وغيرهم، وزاد البزار: ويجيب داعياً، وقد رواه البخاري تعليقاً وجعله من كلام أبي الدرداء.
" وعن ابن عمر عن النبي ﷺ قال يغفر ذنباً ويفرج كرباً " أخرجه البزار
328
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن اختلاف شؤونه سبحانه في تدبير أمر عباده نعمة لا يمكن جحدها، ولا يتيسر لمكذب تكذيبها.
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) هذا وعيد شديد من الله سبحانه، للجن والإنس، قال القرطبي: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً وتفرغت لكذا، واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته، قال الزجاج والكسائي وابن الأعرابي وأبو علي الفارسي: إن الفراغ ههنا ليس هو الفراغ من شغل، لأن الله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، ولا يشغله شأن عن شأن، ولكن تأويله القصد، أي سنقصد لحسابكم أو مجازاتكم أو محاسبتكم.
قال الواحدي حاكياً عن المفسرين ومنهم ابن عباس: إن هذا تهديد من الله سبحانه لعباده ومن هذا قول القائل لمن يريد تهديده: إذن أتفرغ لك،
328
أي أقصد قصدك، وفرغ يجيىء بمعنى قصد، قال الزجاج: إن الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من الشغل والآخر القصد للشيء والإقبال عليه كما هنا، ويكون الكلام على طريق التمثيل والاستعارة وقد ألم به صاحب المفتاح ونحا إليه الزمخشري وقيل: إن الله سبحانه وعد على التقوى، وأوعد على المعصية، ثم قال: سنفرغ لكم مما وعدناكم، ونوصل كُلاً إلى ما وعدناه، وبه قال الحسن ومقاتل وابن زيد.
قرأ الجمهور: سنفرغ بالنون وضم الراء وقرىء بالنون مع فتح الراء، قال الكسائي: هي لغة تميم، وقرىء بكسر النون وفتح الراء، وقرىء بالياء التحتية مفتوحة مع ضم الراء، أي سيفرغ الله، وقرىء بضم الياء؛ وفتح الراء، وترسم أيُّه بغير ألف، وأما في النطق فقرأ أبو عمرو والكسائي أيها بالألف في الوقف، ووقف الباقون على الرسم أيه بتسكين الهاء، وفي الوصل قرأ ابن عامر أيه بضم الهاء، والباقون بفتحها، وسمي الجن والإنس الثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غيرهما من حيوانات الأرض، وقيل: سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتاً كما في قوله: (وأخرجت الأرض أثقالها) وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب، وقيل: لأنهما أثقلا وأتعبا بالتكاليف، وجمع في قوله: (لَكُمْ)، ثم قال: (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) لأنهما فريقان، وكل فريق جمع.
329
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ومن جملتها ما في هذا التهديد من النعم، فمن ذلك أنه ينزجر به المسىء عن إساءته، ويزداد به المحسن إحساناً فيكون ذلك سبباً للفوز بنعيم الدار الآخرة، الذي هو النعيم في الحقيقة.
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هو كالترجمة لقوله: (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ)، قدم الجن هنا لكون خلق أبيهم متقدماً على خلق آدم، ولوجود جنسهم قبل جنس الإنس، وهذا الخطاب يقال لهما في الآخرة، وقيل: في الدنيا، ويرجح كونه
329
في الآخرة قوله:
330
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ ومن جملتهما هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد فإنها تزيد المحسن إحسانا وتكف المسيء عن إساءته مع أن من حذركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة
(يرسل عليكما) الخ فإن هذا الإرسال إنما هو في القيامة، كما سيأتي، وكذا قوله: فإذا انشقت السماء.
(إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانبهما ونواحيهما وأطرافهما هرباً من قضاء الله وقدره (فانفذوا) منها وخلصوا أنفسكم واهربوا واخرجوا، فحيثما كنتم يدرككم الموت، يقال: نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه كما يخلص السهم، والأمر بالنفوذ أمر تعجيز.
(لا تنفذون إلا بسلطان) أي لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر، ولا قهر ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، والسلطان القوة التي يتسلط بها صاحبها على الأمر، قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم إذا انفتحت السماء ونزلت الملائكة، فهرب الجن والأنس، فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله (لا تنفذون إلا بسلطان) ذكره النحاس وعلى هذا يكون في الدنيا قال ابن المبارك: إن ذلك يكون في الآخرة وقال الضحاك أيضاًً: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا، وقيل: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله وقال قتادة: معناها لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك وقيل: الباء بمعنى إلى أي، لا تنفذون إلا إلى سلطان، وقال ابن عباس: لا تخرجون من سلطاني.
330
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١)
331
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ومن جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد فإنها تزيد المحسن إحساناً وتكف المسيىء عن إساءته مع أن من حذركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة (يرسل عليكما شواظ من نار) وقرأ الجمهور يرسل بضم التحتية مبنياً للمفعول، وقرىء بالنون، ونصب شواظ، وقرأ الجمهور شواظ بضم الشين وقرىء بكسرها وهما لغتان بمعنى واحد والشواظ اللهب الذي لا دخان معه قال مجاهد: الشواظ اللهب الأخضر المنقطع من النار، وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب، ليس بدخان الحطب، وقال الأخفش وأبو عمرو: هو النار، والدخان جميعاً وقال ابن عباس: هو لهب النار وقيل هو اللهب الخالص.
(ونحاس) قرأ الجمهور بضم النون، وقرىء بكسرها، وقرىء نحس والنحاس الصفر المذاب، يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما وقال سعيد بن جبير: وهو الدخان الذي لا لهب له، وبه قال الخليل.
وقال الضحاك: هو دردي الزيت المغلي، وقال الكسائي: هو النار التي
331
لها ريج شديدة، وقال ابن عباس: هو دخان النار، وعنه قال: الصفر يعذبون به، قيل: يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة، ويجوز أن يرسلا معاً من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر، قرىء نحاس بالرفع عطفاً على شواظ وبالجر عطفاً على نار سبعيتان، لكن قراءة الجر لا بد فيها من كسر شين شواظ. أو إمالة نار، فمن قرأ بالجر بدون أحد الأمرين فقد وقع في التلفيق، لأن هذا الوجه لم يقرأ به أحد، قال المهدوي: من قال إن الشواظ النار والدخان جميعاً فالجر في نحاس على هذا بين، فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف فكأنه قال: يرسل عليكما شواظ من نار وشيء من نحاس.
(فلا تنتصران) أي لا تقدران على الإمتناع من عذاب الله بل يسوقكم إلى المحشر (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذا الوعيد الذي يكون به الانزجار عن الشر، والرغب في الخير.
332
(فإذا انشقت السماء) أي انصدعت بنزول الملائكة يوم القيامة، أو انفك بعضها من بعض لقيام الساعة، وقيل: انفجرت فصارت أبواباً لنزول الملائكة لتحيط بالعالم من سائر جهات الأرض لئلا يهرب بعضهم من المحشر وقيل: المراد منه خراب السماء وفيه تهويل وتعظيم للأمر.
(فكانت وردة) أي كوردة حمراء أو محمرة مثلها، قال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء وقيل: فكانت كلون الفرس الورد، قاله ابن عباس وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة (كالدهان) قال الفراء وأبو عبيدة: تصير السماء كالأديم لشدة حر النار، وقال ابن عباس: كالأديم الأحمر، أي على خلاف العهد بها وهو الزرقة، وقال الفراء أيضاًً: شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل وشبه الورد في ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه والدهان جمع دهن، نحو قرط وقراط، ورمح ورماح، وقيل: إنه إسم مفرد
332
أي اسم لما يدهن به، كالحزام والادام، قاله الزمخشري، وقيل المعنى تصير السماء مثل الدهن لذوبانها. وقال الحسن: (كالدهان) أي كصبيب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً، وقال زيد بن أسلم: إنها تصير كعصير الزيت، قال الزجاج وقتادة: إنها اليوم خضراء، وسيكون لها لون أحمر، حكاه الثعلبي قال الماوردي: زعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة وأنها لكثرة الحوائل والحواجز وبعد المسافة واعتراض الهواء بيننا وبينها ترى بهذا اللون الأزرق، كما يرى الدم في العروق أزرق، ولا هواء هناك يمنع من اللون الأصلي ذكره الكرخي والعمادي والكازروني
333
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها ما في هذا التهديد والتخويف من حسن العاقبة بالإقبال على الخير والإعراض عن الشر.
(فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) أي يوم تنشق السماء لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم، فالتنوين عوض عن الجملة، والفاء جواب الشرط، وقيل هو محذوف، أي فإذا انشقت السماء رأيت أمراً مهولاً، والهاء في ذنبه تعود على أحد المذكورين، وضمير الآخر مقدر، أي ولا يسأل عن ذنبه جان أيضاًً، وناصب الظرف لا يسأل، و (لا) غير مانعة، والجمع بين مثل هذه الآية وبين مثل قوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين) أن ما هنا يكون في موقف والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة، وقيل: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم. وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل: إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال وحفظها على العباد ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع، ومثل هذه الآية قوله: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون).
قال أبو العالية: المعنى لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم، وقيل إن
333
عدم السؤال هو عند البعث، والسؤال هو في موقف الحساب، وقال ابن عباس: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم؛ ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا؟ والجان والإنس كل منهما إسم جنس، يفرق بينه وبين واحدة بالياء كزنج وزنجي
334
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد، لكثرة ما يترتب عليه من الفوائد.
(يعرف المجرمون بسيماهم) هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال والسيما العلامة، قال الحسن: سيماهم سواد الوجوه، وزرقة الأعين، كما في قوله: (ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً)، وقال: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) وقيل سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة.
(فيؤخذ بالنواصي والأقدام) قال أبو حيان: يؤخذ متعد ومع ذلك تعدى بالباء لأنه ضمن معنى يسحب، قلت: يسحب إنما يتعدى بعلى قال تعالى: (يوم يسحبون في النار على وجوههم) فكان ينبغي أن يقال ضمن معنى يدفع أي يدفعون، وقال مكي: إنما يقال؛ أخذت الناصية وأخذت بها ولو قلت أخذت الدابة بالناصية لم يجز، وحكي عن العرب أخذت الخطام، وأخذت بالخطام بمعنى قاله الكرخي، والنواصي شعور مقدم الرأس والمعنى أنها تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي وتلقيهم الملائكة في النار، وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره، وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار تارة تأخذ بنواصيهم، وتجرهم على وجوههم، وتارة تأخذ بأقدامهم وتجرهم على رؤوسهم.
قال ابن عباس: تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه، ويجمع فيكسر كما يكسر الحطب في التنور
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد، والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب، وتضطرب لهوله الأحشاء.
(هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام؟ فقيل: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً هذه جهنم التي تشاهدونها، وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون.
(يطوفون) أي يترددون ويسمعون (بينها) أي بين جهنم فتحرقهم (وبين حميم آن) فيصيب وجوههم فيحرقون بها، فيستغيثون منها فيسعى بهم إلى الحميم والحميم الماء الحار، والآن الذي قد انتهى حره، وبلغ غايته، كذا قال الفراء وقال الزجاج: أنى يأنى أنى فهو آن إذا انتهى في النضج والحرارة وقال ابن عباس: هو الذي انتهى حره وقيل: هو واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فيغمسون فيه بأغلالهم حتى تنخلع أوصالهم قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم ومرة بين الجحيم.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف وما يحصل به من الترغيب في الخير، والترهيب عن الشر، ولما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين، ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم فقال:
(ولمن خاف) أي لكل فرد من أفراد الخائفين أو لمجموعهم والأول هو المعتمد (مقام ربه) مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب كما في قوله: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) وقيل: المعنى خاف قيام ربه عليه وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على أفعاله وأقواله، كما في قوله: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أو قيام الخائف عند ربه للحساب، ومحصله احتمالات ثلاثة في تفسير المقام، أولها أنه أسم مكان، والثاني أنه مصدر تحته احتمالان، إما بمعنى قيام الله على الخلائق، أو بمعنى قيام الخلائق بين يديه، قال مجاهد والنخعي: هو الرجل الذي يهم بالمعصية فيذكر الله
335
فيدعها من خوفه وفيه إشارة إلى سبب استحقاق الجنتين في نفس الأمر وهو أنه ليس مجرد الخوف بل الخوف الناشىء عنه ترك المعاصي.
(جنتان) إختلف فيهما فقال مقاتل: يعني جنة عدن وجنة النعيم، وقيل: إحداهما التي خلقت له، والأخرى ورثها، وقيل: إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه، وقيل: إحداهما أسافل القصور. والأخرى أعاليها، وقيل: جنة لفعل الطاعة، وأخرى لترك المعصية، وقيل: جنة للعقيدة التي يعتقدها وجنة للعمل الذي يعمله، وقيل: جنة بالعمل وجنة بالتفضل، وقيل: جنة روحانية، وجنة جسمانية. وقيل: جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي، قال النحاس: وهذا من أعظم الغلط على كتاب الله، فإن الله يقول جنتان ويصفهما بقوله فيهما فيهما إلخ وقيل إنما كانتا اثنتين ليتضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة.
قال ابن عباس: وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنتين، وعنه أيضاًً يقول: خاف ثم اتقى، والخائف من ركب طاعة الله وترك معصيته، وعن عطاء أنها نزلت في أبي بكر، وعن ابن شوذب مثله وقال ابن مسعود في الآية: لمن خافه في الدنيا.
" وعن أبي الدرداء أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية: ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: رسول الله ﷺ الثانية: ولمن خاف مقام ربه جنتان، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال الثالثة: ولمن خاف مقام ربه جنتان، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإن، رغم أنف أبي الدرداء (١) " أخرجه أحمد والترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلي والطبراني وغيرهما.
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولمن
_________
(١) رواه أحمد.
336
خاف مقام ربه جنتان فقال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي الدرداء " أخرجه ابن مردويه وعن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء في الآية قال: قيل لأبي الدرداء: وإن زنى وإن سرق، قال: من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق.
" وعن ابن شهاب قال: كنت عند هشام بن عبد الملك فقال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولمن خاف مقام ربه جنتان، قال أبو هريرة: وإن زنى وإن سرق؟ فقلت: إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فلما نزلت الفرائض ذهب هذا "، أخرجه ابن مردويه.
" وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: جنان الفردوس أربع جنات، جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن (١) " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وعنه في الآية قال: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين، قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله، وحياء منه وهو قول سفيان الثوري وبه أفتى، ومذهب الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلماً ومات على الإسلام
_________
(١) رواه البخاري ومسلم.
337
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذه النعمة العظيمة وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين متصفتين بالصفات الجميلة العظيمة.
(ذواتا أفنان) أي: صاحبتا أفنان هذه صفة للجنتين وما بينهما اعتراض أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هما ذواتا قال الخطيب: وفي تثنية ذات لغتان الأولى الرد إلى الأصل فإن أصلها ذوية فالعين واو واللام ياء، لأنها مؤنثة ذوي، والثانية التثنيه على اللفظ، فيقال: ذاتان انتهى، ومثله قال السمين وعبارة
337
الجلال المحلي: تثنية ذوات على الأصل ولامها ياء انتهى. والأفنان الأغصان وهي الدقيقة التي تتفرع من فروع الشجر، واحدها فنن كطلل، وهو الغصن المستقيم طولاً، وبهذا قال مجاهد وعكرمة وعطية وغيرهم.
وخص الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتنى الأثمار، وقال الزجاج: الأفنان الألوان واحدها فن، كدن، وهو الضرب، والنوع من كل شيء، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير وجمع عطاء بين القولين فقال: في كل غصن فنون من الفاكهة وقيل: معناها ذواتا فضل وسعة على ما سواهما قاله قتادة وقيل: ذواتا أنواع وأشكال من الثمار وقيل: الأفنان ظل الأغصان على الحيطان.
روي عن مجاهد وعكرمة قال ابن عباس: ذواتا ألوان وقال: فن غصونها يمس بعضها بعضاً وقال: الفن الغصن والمعنى: أن له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال قائلهم:
تفنى السقاة وتفنى الكأس والنادي ومن تلاقيه من خل ومن عادي
لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها يفنى الجميع ويبقى ربنا الهادي
338
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ولا بموضع للإنكار
(فيهما) أي في كل واحدة منهما (عينان تجريان) حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل، وهذا أيضاًً صفة أخرى للجنتين قال الحسن: إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم، وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، قيل: كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة، حصاهما الياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور وحمأتهما المسك الأذفر وحافتاهما الزعفران.
وقال أبو بكر الوراق: تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل، فتجريان في كل مكان شاء صاحبهما، وإن علا مكانه، كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها، وإن زاد علوها
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة.
338
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣)
339
(فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) هذا صفة ثالثة لـ (جنتان) والزوجان الصنفان والنوعان، والمعنى أن في الجنتين من كل نوع يتفكه به في الدنيا ضربين، يستلذ بكل نوع من أنواعه، قيل: أحد الصنفين رطب، والآخر يابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب، وقيل: صنفان صنف معروف، وصنف غريب، قيل: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن في مجرد تعداد هذه النعم ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير، والترهيب عن فعل الشر ما لا يخفى على من يفهم، وذلك نعمة عظمى، ومنه كبرى، فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه؟
(متكئين) قال في القاموس. توكأ عليه تحامل واعتمد، واتكأ جعل له متكأً.
" وقوله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فلا آكل متكأ "، أي جالساً جلوس المتمكن المتربع ونحوه من الهيئات المستدعية لكثرة الأكل، بل كان جلوسه للأكل مستوفزاً مقعياً غير متربع، ولا متمكن، وليس المراد الميل على شق كما
339
يظنه عوام الطلبة، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب، المتنعم البدن، بخلاف المريض والمهموم، وانتصابه على الحال من فاعل قوله: (ولمن خاف)، وإنما جمع حملاً على معنى من، وقيل: منصوب على المدح، وقيل: عاملها محذوف والتقدير يتنعمون متكئين أي مضطجعين أو متربعين.
(عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) والفرش جمع فراش، والبطائن هي التي تحت الظهائر، وهي جمع بطانة، قال الزجاج: هي ما يلي الأرض، والإستبرق ما غلظ من الديباج، وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر؟ قيل لسعيد بن جبير البطائن من استبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله فيه فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وبه قال ابن عباس قيل: إنما اقتصر على ذكر البطائن لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر، وقال الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد وقال الحسن أيضاًً البطائن هي الظهائر، وبه قال الفراء؛ وقال: قد تكون البطانة الظهارة، والظهارة البطانة، لأن كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه، وأنكر ابن قتيبة هذا وقال: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في الآية: أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر؟ وقيل: ظهائرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهابة شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق، ولا بد أن تكون الظهائر خيراً من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر.
(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) مبتدأ وخبر و (دَانٍ) أصله دانوا، مثل غاز فأعل إعلاله وجنى فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض، والجني ما يجتنى من الثمار، قيل: إن الشجرة تدنو حتى يجتنيها من يريد جناها، قال ابن عباس: جناها ثمرها، والداني القريب منك أي يناله القائم والقاعد والمتكىء والنائم
340
وهذا بخلاف ثمر الدنيا، فإنها لا تنال إلا بكد وتعب، وقيل: لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، قال الرازي: جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الثمرة على رؤوس الشجر في الدنيا بعيدة عن الإنسان المتكىء: وفي الجنة يتكىء والثمرة تتدلى إليه.
وثانيهما: أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها، وفي الآخرة تدنو منه؛ وتدور عليه.
وثالثها: أن الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها، وثمار الجنة كلها تدنو إليه في وقت واحد، ومكان واحد.
341
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنها كلها بموضع لا يتيسر لمكذب؛ أن يكذب بشيء منها، لما يشتمل عليه من الفوائد العاجلة والآجلة.
(فيهن) أي في الجنتين المذكورتين، لأن أقل الجمع اثنان أو لاشتمالهما على أماكن وعلالي وقصور ومجالس، قال الزجاج: وإنما قال (فيهن) لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما فيهما من النعيم، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني وقيل: (فيهن) أي في الفراش التي بطائنها من إستبرق قال أبو حيان: وفيه بعد، لأن الاستعمال أن يقال على الفراش كذا ولا يقال في الفراش كذا إلا بتكلف. ولذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول ذلك، وقال الفراء: كل موضع في الجنة جنة فلذلك صح أن يقال فيهن.
(قاصرات الطرف) من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفاً إذ يقال قصر طرفه على كذا، وحذف متعلق القصر للعلم به، أي: إنهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن المتكئين من الإنس والجن لا ينظرن إلى غيرهم ولا يرين سواهم
341
والآية دلت على الحياء لأن الطرف حركة الجفن، والحبيبة لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها وقد تقدم هذا في سورة الصافات قال ابن عباس: قاصرات الطرف عن غير أزواجهن قال الرازي: وانظر إلى حسن هذا الترتيب فإنه بين أولاً المسكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزه به وهو البستان والعيون الجارية، ثم ذكر المأكول، ثم ذكر موضع الراحة بعد الأكل، وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه، ولما كان الإختصاص بالشيء من أعظم الملذذات قال:
(لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) الضمير راجع إلى الأزواج المدلول عليهم بقاصرات الطرف، وقيل: يعود إلى المتكئين، والجملة نعت لقاصرات لأن إضافتها لفظية، كقوله: (هذا عارض ممطرنا) أو حال لتخصص النكرة بالإضافة قال الفراء: الطمث الإفتضاض، وهو النكاح بالتدمية، يقال: طمث الجارية إذا افترعها، وقيل: الطمث المس، أي: لم يمسسهن، قاله أبو عمرو وقال المبرد: أي لم يذللهن، والطمث التدليل، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
دفعن إليّ ولم يطمثن قبلي وهن أصح من بيض النعام
وفي السمين: أصل الطمث الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث وإن لم يكن معه دم، وقيل: الطمث دم الحيض، أو دم الجماع، قال الواحدي: قال المفسرون: لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن قبلهم أحد، ولم يتسلط عليهن، قال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة، وقيل: إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقاً آخر، أبكاراً، وقيل: هن الآدميات اللاتي متن أبكاراً، والأول أولى. قرأ الجمهور: يطمثهن بكسر الميم، وقرىء بضمها وبفتحها، وفي هذه الآية، بل في كثير من آيات هذه السورة، دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه، وعملوا بفرائضه، وانتهوا عن مناهيه.
342
قال ابن عباس في الآية: لم يطمثهن لم يدن منهن، أو لم يدمهن، وفي الآية دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس، فإن مقام الامتنان يقتضي ذلك إذ لو يطمثوا لم يحصل لهم الامتنان
343
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة، ومنة عظيمة، لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة، والفرار من الأعمال الطالحة، فكيف بالوصول إلى هذه النعم والتنعم بها؟ في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال.
(كأنهن الياقوت والمرجان) هذا صفة لقاصرات، أو حال منهن، ولم يذكر مكي غيره، والياقوت جوهر نفيس، يقال إن النار لا تؤثر فيه، ومن المعلوم أن الياقوت أحمر اللون، فهذا التشبيه يقتضي أن لون أهل الجنة البياض المشرب بحمرة، فينافي المقرر المعلوم من أنه البياض المشرب بصفرة، فالجواب أن التشبيه بالياقوت من حيث الصفاء لا من حيث الحمرة، وهذا لا ينافي أن البياض مشرب بصفرة كما قال الحسن: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان، وإنما خص المرجان على القول بأنه صغار الدر لأن صفاءها أشد من صفاء كبار الدر.
" عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ في الآية قال: ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وإنه يكون عليها سبعون ثوباً وينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك (١) "، أخرجه أحمد وابن حبان. والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث " وعن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: إن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة، حتى يرى مخها، وذلك أن الله يقول: (كأنهن الياقوت والمرجان)، فأما الياقوت فحجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصغيته لرأيته من ورائه "، أخرجه ابن أبي شيبة، وهناد بن السرى، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن
_________
(١) رواه أحمد.
343
حبان، وأبو الشيخ وغيرهم، وقد رواه الترمذي موقوفاً وقال: هو أصح
344
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شيء منها كائنة ما كانت، فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن الجزيلة؟
(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)؟ هل ترد في الكلام على أربعة أوجه تكون بمعنى قد كقوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر)؟ وبمعنى الاستفهام كقوله: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)؟ وبمعنى الأمر كقوله: (فهل أنتم منتهون)؟ وبمعنى الجحد كقوله: (فهل على الرسل إلا البلاغ)؛ وكما في هذه الآية، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، كذا قال ابن زيد وغيره، وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد، قال الرازي: في هذه الآية وجوه كثيرة، حتى قيل إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول، إحداها قوله تعالى فاذكروني أذكركم، وثانيها وإن عدتم عدنا، وثاللها هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
قال محمد بن الحنفية هي للبر والفاجر، البر في الآخرة، والفاجر في الدنيا.
" عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ في الآية: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وضعفه وأخرج البغوي في تفسيره وغيره في غيره عن أنس مرفوعاً مثله، وعن جابر مرفوعاً في الآية قال: هل جزاء من أنعمنا عليه بالإسلام، إلا أن أدخله الجنة وأخرج ابن النجار عن علي مرفوعاً مثل حديث ابن عمر.
وقال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة " وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل الله على هذه الآية في سورة الرحمن للكافر والمسلم، (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)
344
أخرجه ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي والبيهقي، وأخرجه ابن مردويه موقوفاً على ابن عباس، وقال إبراهيم الخواص في الآية: هل جزاء الإسلام إلا دار الإسلام؟ وفي الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن الله وعد المؤمن بالإحسان وهو الجنة، فلو بقي التكليف في الآخرة وتركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل، والعقاب ترك الإحسان إليه، فلا تكليف.
345
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن من جملتها الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة، بالخلق والرزق والإرشاد إلى العمل الصالح، والزجر عن العمل الذي لا يرضاه.
(ومن دونهما جنتان) أي من دون تينك الجنتين الموصوفتين بالصفات المتقدمة، جنتان أخريان لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة، ومعنى من دونهما أي أمامهما، ومن قبلهما أي هما أقرب منهما وأدنى إلى العرش فهما أفضل من الأوليين، وإلى هذا ذهب الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وقيل: دونهما في الدرج، وقيل: بالفضل وقيل الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى، قال ابن جريج: هي أربع جنات جنتان منها للسابقين المقربين فيهما من كل فاكهة زوجان وعينان تجريان؛ وجنتان لأصحاب اليمين فيهما فاكهة ونخل ورمان وفيهما عينان نضاختان.
قال ابن زيد: إن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين.
وأخرج ابن جرير وابن حاتم وابن مردويه. " عن أبي موسى عن النبي ﷺ في الآية قال: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين "
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن كلها حق ونعم لا يمكن جحدها، ثم وصف سبحانه هاتين الجنتين الأخريين فقال:
345
مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨)
346
(مُدْهَامَّتَانِ) وما بينهما اعتراض قال أبو عبيد والزجاج: من خضرتهما قد اسودتا من الري: وكل ما علاه السواد رياً فهو مدهم عند العرب، قال مجاهد: مسودتان، والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم إذا اشتدت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه، وناقة دهماء وادهام أدهيماماً أي اسواد وسميت قرى العراق سواداً لكثرة خضرتها، والشاة الدهماء: الحمراء الخالصة الحمرة، ويقال للقيد: أدهم، وفي المختار: دهمهم الأمر غشيهم، وبابه فهم، وكذا دهمتهم الخيل ودهمهم بفتح الهاء لغة وقال ابن عباس: هما خضراوان قد اسودتا من الخضرة من الري من الماء وعن ابن الزبير نحوه.
" وعن أبي أيوب الأنصاري قال: سألت النبي ﷺ عن قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) قال خضروان " أخرجه الطبراني. وابن مردويه
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن جميعها نعم ظاهرة واضحة لا تجحد ولا تنكر.
(فيهما عينان نضاختان) ألنضخ فوران الماء من العين، والمعنى أن في الجنتين المذكورتين عينين فوارتين، قال أهل اللغة: والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة، لأن بالحاء الرش، وبالخاء المعجمة فوران الماء، قاله السمين، قال الحسن ومجاهد: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة، كما ينضخ رش المطر، وقال سعيد بن جبير:
346
تنضخ بأنواع الفواكه والماء، قال ابن عباس: فائضتان تنضخان بالماء، وقيل: بالخير والبركة على أهل الجنة
347
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنها ليست بموضع للتكذيب ولا بمكان للجحد.
(فيهما فاكهة ونخل ورمان) هذا من صفات الجنتين المذكورتين قريباً والنخل والرمان -وإن كانا من الفاكهة- لكنهما خصصا بالذكر لمزيد حسنهما، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه كما حكاه الزجاج والأزهري وغيرهما، وقيل: إنما خصهما لكثرتهما في أرض العرب، قال الخطيب، كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالشراب، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم الثمار التي يعجبون بها وقيل: خصهما لأن النخل فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، وقد ذهب إلى أنهما من جملة الفاكهة جمهور أهل العلم، وبه قال الشافعي فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة، وحينئذ فعطفهما عليها من عطف الخاص على العام تفصيلاً ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة رحمه الله وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد، وهو قول خلاف قول أهل اللغة ولا حجة له في الآية.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملها هذه النعم التي في جنات النعيم ومجرد الحكاية لها تؤثر في نفوس السامعين وتجذبهم إلى طاعة رب العالمين.
(فيهن خيرات حسان) قرأ الجمهور خيرات بالتخفيف وقرىء بالتشديد، فعلى الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين يقال: امرأة خيرة وأخرى شرة، أو جمع خيرة مخفف خيرة، وعلى الثانية جمع بالتشديد. قال الواحدي قال المفسرون: الخيرات النساء خيرات الأخلاق، حسان الوجوه قيل: وهذه الصفة عائدة إلى الجهات الأربع، ولا وجه لهذا، فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهن قاصرات الطرف، كأنهن الياقوت والمرجان وبين الصفتين بون بعيد.
347
" عن ابن مسعود في الآية قال: لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها من الله كل يوم تحفة وكرامة وهدية، لم يكن قبل ذلك لا مراحات ولا طماحات، ولا بخرات ولا دفرات، حور عين كأنهن بيض مكنون، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً.
واختلف أيهما أكثر حسناً؟ وأبهى جمالاً؟ هل الحور أو الآدميات؟ فقيل: الحور، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة.
" كقوله عليه السلام في دعائه على الميت في الجنازة: وأبدله زوجاً خيراً من زوجه " وقيل الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف وروي مرفوعاً وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج الأنبياء والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن، وفيه بعد بعيد، والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هن مخلوقات في الجنة، لأن الله قال: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان)، وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات " ولأن النبي ﷺ قال: إن أقل ساكني الجنة النساء فلا يصيب كل واحد منهم امرأة "، ووعد الحور العين لجماعتهم، فثبت أنهن من غير نساء الدنيا ذكره القرطبي.
348
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن شيئاًً منها كائناً ما كان لا يقبل التكذيب.
(حور مقصورات في الخيام) أي محبوسات فيها، ومنه القصر، لأنه يحبس من فيه، وقيل: مخدرات مستورات لا يخرجن، لكرامتهن وشرفهن، يقال: امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة، أي: مخدرة، والحور جمع حوراء وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها، وقد تقدم بيان معنى الحوراء والخلاف فيه وقيل: معنى مقصورات أنهن قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، وحكاه الواحدي عن المفسرين، والأول أولى، وبه قال أبو عبيدة ومقاتل وغيرهما قال في الصحاح: قصرت الشيء أقصره قصراً حبسته، والمعنى أنهن خدرن في الخيام
348
والخيام جمع خيمة، وقيل: جمع خيم والخيم جمع خيمة، وهي أعواد تنصب وتظلل بالثياب فتكون أبرد من الأخبية، قيل الخيمة من خيام الجنة درة مجوفة، فرسخ في فرسخ.
قال ابن عباس: مقصورات محبوسات في الخيام، قال: في بيوت اللؤلؤ، وقال: الحور سود الحدق.
" وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الخيام در مجوف "، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما. " عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسدم قال: الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن ".
349
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا) الذي صوركم فأحسن صوركم، وجعل لكم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (تُكَذِّبَانِ)؟ أبهذه النعم؟ أم بغيرها.
(لم يطمثهن إنس قبلهم) أي: قبل أصحاب الجنتين، ودل عليهم ذكر الجنتين (ولا جان) وقد تقدم تفسيره في صفة الجنتين الأوليين
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنها كلها نعم لا تكفر ومنن لا تجحد.
(متكئين على رفرف خضر) قرأ الجمهور رفرف على الإفراد، وقرىء رفارف على الجمع، وقرىء خضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمة وبضمها وهي لغة قليلة، قال أبو عبيدة: الرفارف البسط، وبه قال الحسن ومقاتل والضحاك وغيرهم. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرافق، وروي عن أبي عبيدة أنه قال: هي حاشية الثوب، وقال الليث: ضرب من الثياب الخضر، وقيل: الفرش المرتفعة، وقيل: كل ثوب عريض قال في الصحاح: والرفرف ثياب خضر يتخذ منهما المحابس الواحدة رفرفة
349
اسم جمع، أو اسم جنس جمعي، نقلهما مكي. وقال الزجاج: قالوا: الرفرف هنا رياض الجنة، وقالوا الرفرف: الوسائد، وقيل: المحابس انتهى. وقيل: الطنافس، ومن القائلين بأنها رياض الجنة خضر مخصبة سعيد بن جبير، واشتقاق الرفرف من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر، وهي تحريك جناحيه في الهواء، وقال ابن عباس: رفرف فضول المحابس والفرش والبسط، وعن علي قال: هي فضول المحابس.
(وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) أي الزرابي والطنافس الموشية، قال ابن عباس العبقري الزرابي، والرفرف الرياض، قال أبو عبيدة: كل وشي من البسط عبقري، وهو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي، قال الفراء: العبقري الطنافس الثخان وقيل: الرقيق، وقيل: البسط، وقيل: الديباج، قال ابن الأنباري: الأصل فيه أن عبقر قرية تسكن فيها الجن ينسب إليها كل فائق، قال الخليل: العبقري عند العرب كل جليل فاضل، فاخر من الرجال والنساء. قال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته، فقالوا عبقري وهو واحد وجمع، قرأ الجمهور عبقري وقرىء عباقري وعباقر، وهما نسبة إلى عباقر اسم بلد، وقال قطرب: ليس بمنسوب، وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي.
350
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن كل واحد منها أجل من أن يتطرق إليه التكذيب، وأعظم من أن يجحده جاحد، أو ينكره منكر، وقد قدمنا في أوائل هذه السورة وجه تكرير هذه الآية فلا نعيده.
(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة للرب سبحانه، وقرىء بالرفع على أنه صفة للاسم، وتبارك تفاعل من البركة، قال الرازي: وأصل التبارك من التبرك، وهو الدوام والثبات ومنه برك البعير وبركة الماء، فإن الماء يكون دائماً، والمعنى دام اسمه، وثبت أو دام
350
الخير عنده، لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير، أو يكون معناه علا، وارتفع شأنه، وقيل: معناه تنزيه الله سبحانه وتقديسه.
وإذا كان هذا التبارك منسوباً إلى اسمه عز وجل فما ظنك بذاته سبحانه.
وقيل: الاسم بمعنى الصفة، وقيل: هو مقحم.
" عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإِكرام " (١)، أخرجه أبو داود والنسائي غير قولها: إلا مقدار ما يقول.
" وعن ثوبان قال: كان رسول الله ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " أخرجه مسلم وقد تقدم تفسير ذي الجلال والإِكرام في هذه السورة، وذكر سليمان الجمل هنا كلاماً طويلاً يتعلق بشرح هذه الآيات من تذكرة القرطبي وغالبه في تفسيره لا نطول بذكره لقلة الفائدة.
_________
(١) رواه النسائي.
351
سورة الواقعة
(هي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية)
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) وقال الكلبي: إنها مكيّة إلا أربع آيات منها، وهي: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ)؟ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، نزلتا في سفره إلى مكة، وقوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) نزلتا في سفره إلى المدينة قال ابن عباس: نزلت الواقعة بمكة، عن ابن الزبير مثله.
وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله - ﷺ -، يقول: " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه الفاقة أبداً " (١)، أخرجه البيهقي في الشعب، والحرث بن أبي أسلمة، وأبو يعلى، وابن مردويه وعن ابن عباس عن النبي - ﷺ - قال: " سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموا أولادكم " أخرجه ابن عساكر.
وعن أنس عن النبي - ﷺ - قال " علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى " أخرجه الديلمي.
وقد تقدم قوله - ﷺ -: شيبتني هود والواقعة قال مسروق من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
_________
(١) هذا الحديث والذي بعده غير صحيح. المطيعي.
353

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١)
(بسم الله الرحمن الرحيم
355
Icon