تفسير سورة الواقعة

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٥٦- سورة الواقعة
نزولها: مكّية عدد آياتها: ست وتسعون آية
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «الرحمن» السابقة على هذه السورة معرضا جامعا لآلاء الله سبحانه وتعالى على عباده، من جنّ وإنس، ابتداء من خلقهم، وعلى امتداد مسيرتهم فى الحياة الدنيا، وتقبلهم فى شئونها، إلى موتهم، وبعثهم، وحسابهم، وإنزالهم منازلهم- حسب أعمالهم- فى الجنّة أو النار..
وقد تضمنت السورة- سورة «الرحمن» - عرضا مبسوطا، مفصّلا لنعيم الجنّة، ومنازل أهلها من هذا النعيم، حسب أعمالهم كذلك- فجاءت سورة الواقعة، مبتدئة بالكشف عن وجه يوم الجزاء، وأنه واقع لا شك فيه..
ثم جاءت بعد هذا لتؤكّد ما تقرر فى سورة «الرحمن» من اختلاف أحوال الناس، فى هذا اليوم، وتباين درجاتهم.. فى الجنة، ودركاتهم فى النار.

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات (١- ٢٦) [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ٢٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
703
التفسير قوله تعالى:
«إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» جملة شرطية وجوابها..
ووقوع الواقعة، مجيئها، وحدوثها، والواقعة، القيامة، وسميت وسميت واقعة لأنها تقع فجأة على غير انتظار.. وكلّ شىء يحمل نذر الشّرّ يعبّر عن مجيئه بالوقوع، كأنه يسقط على الناس من فوق، فلا يملكون له دفعا، كقوله تعالى: «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» (٨٥: النمل) وقوله سبحانه: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» (١٣٤: الأعراف) وقوله جل شأنه: «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ» (٨٢: النمل)..
ووقوع يوم القيامة إيذان بدخول الناس فى تجربة قاسية. وفى امتحان
704
عسر.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (٢: الحج).
وقوله تعالى: «لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» - هو جواب الشرط: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» أي أنه إذا وقعت الواقعة، فليس هناك من يكذّب بها من هؤلاء الذين كانوا ينكرون البعث والقيامة ويكذبون من يحدثهم عنه، لأنهم يكونون حينئذ أمام واقع مشهود، لا سبيل إلى إنكاره والمكابرة فيه..
قوله تعالى:
«خافِضَةٌ رافِعَةٌ».. أي هى خافضة ورافعة لأقدار الناس ومنازلهم، حيث ينزل كل إنسان منزله فى هذا اليوم.. فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.
قوله تعالى:
«إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً».
هذه الآيات، هى بيان لما يقع فى هذا اليوم من أحداث، وكأنها جواب عن سؤال هو: متى تقع الواقعة؟ فجاء الجواب لا لبيان وقتها، وإنما لبيان الأهوال التي تطلع على الناس منها، فذلك هو المهمّ فى هذا الأمر، وهو الذي ينبغى الالتفات إليه، والإعداد له، والعمل على النجاة منه.. أما الوقت الذي تقع فيه الواقعة، فليس بالأمر المهمّ، بعد أن تأكد أن وقوعها آت لا شكّ فيه. وإنما المهم هو الاستعداد للقاء هذا اليوم، الذي لا مفر منه.
ففى هذا اليوم ترجّ الأرض رجّا، أي تضطرب اضطرابا شديدا لما يجرى عليها من أحداث، حيث تندكّ الجبال، وتخر متداعية، متناثرة، فلا يبقى
705
منها حجر على حجر، بل إن هذه الأحجار تتحول إلى ذرات تذروها الرياح كأنها العهن المنفوش.
فقوله تعالى: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» أي طحنت طحنا.
وقوله تعالى «فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» أي صارت ذرات منتثرة فى الفضاء، كالغبار المتطاير مع الرياح..
هذا، وقد قلنا فى أكثر من موضع إن هذا التبدل الذي يبدو من عوالم الوجود وكائناته، إنما هو لتبدّل موقف الإنسان من هذه العوالم، ولما تحدث من اختلاف بعيد بين معطيات جوارحه فى الدنيا، ومعطياتها فى الآخرة، حيث تنكشف له حقائق الموجودات.. إنّ الإنسان فى هذه الدنيا يرى من الأمور ظواهرها، وظلالها، ولكنه فى الآخرة يرى صميمها وحقيقتها..
فرجّ الأرض رجّا، هو ما تراه العين يوم القيامة، من وضع الأرض، حيث تبدو على حقيقتها، كرة معلقة فى الفضاء، تجرى فى سرعة عظيمة، أشبه «بالبالونة» بين يدى الريح.
وبثّ الجبال بثّا، حتى تكون كالهباء المنبث، المنتشر، هو ما تراه العين من الجبال. على مدى بعيد منها، حيث تبدو الجبال، وكأنها فى صغرها الهباء المبثوث.
وقوله تعالى: «وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» إشارة إلى ما يكون عليه الناس يومئذ، وهو أنهم يتناثرون، ويتفرقون فرقا ثلاثا، كل فرقة تجتمع إلى بعضها أزواجا، جن وإنس، أو ذكر وأنثى.
قوله تعالى:
«فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ».
706
هو بيان للأزواج الثلاثة التي يضمها المحشر يومئذ من عالمى الجن والإنس، أو من ذكور الناس وإناثهم.
فأصحاب اليمين فى جانب، وأصحاب الشمال فى جانب، والسابقون فى مكان فوق هؤلاء وأولئك جميعا.
وفى قوله تعالى: «ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ».. استفهام يراد به إلفات الأبصار إلى أصحاب الميمنة، والإشارة إلى مكانهم الذي ينعمون هم فيه، وما يظلهم هناك من أمن وسكينة.
وفى قوله تعالى: «ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» - استفهام يراد به كذلك إلفات الأبصار إلى أصحاب المشئمة، والإشارة إلى مكان هؤلاء المناكيد، وما يغشاهم فيه من همّ وبلاء.
والميمنة، من اليمن، والبركة..
والمشئمة، من الشؤم، وسوء الحال.
والسابقون، هم أهل السابقة إلى الإيمان فى كل أمة، ممن سبقوا إلى الإيمان بالله، والاستجابة لرسل الله.. فهؤلاء فى مكان مكين عند الله، لا يكاد يلحقهم فيه أحد ممن يجىء بعدهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» ! (١٠: الحديد) وفى تكرار السابقين فى قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ». إشارة إلى هذا المقام المكين الذي لهم عند ربهم، وأنهم فى هذا المقام، لا يتحولون عنه، وهو مقام السبق أبدا.
فالسابقون الأولى مبتدأ، والسابقون الثانية خبر، أي السابقون هم السابقون دائما أبدا.
707
وفى تعريف طرفى الجملة- المبتدأ والخبر- ما يفيد القصر.. أي قصر السبق عليهم وحدهم، وأنهم كما سبقوا إلى الإيمان بالله فى الدنيا، سبقوا إلى الله سبحانه فى الآخرة، وكانوا أول من ينزل ساحة فضله ورضوانه.
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» إشارة إلى هؤلاء السابقين، وإلى هذا المقام الكريم الذي أحلهم الله سبحانه وتعالى فيه يوم القيامة، وأنهم هم أهل القرب من الله سبحانه.
وقوله تعالى:
«فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» هو بيان للحال التي يكون عليها هؤلاء السابقون المقربون.. فهم فى جنات النعيم، على سرر «موضونة» أي مطرزة، ومكللة.
وهم على هذه السرر فى حال من الطمأنينة، والأمن، والرضوان، حيث يتكئون على هذه والسّرر اتكاء استرواح واسترخاء، يقابل بعضهم بعضا، وينظر بعضهم إلى بعض، فيرى كل منهم فى وجه أصحابه نضرة النعيم، فيزداد نعيما ورضوانا، بهذا النعيم، وذلك الرضوان، الذي يراه وقد فاض على كل من حوله.
وقوله تعالى: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» - إشارة إلى أن أهل السبق هؤلاء، الذين ينعمون بهذا النعيم، هم «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ»..
والثلة: الجماعة الكثيرة من الناس، وهم أولئك الذين سبقوا إلى الإيمان من كل أمة، فكانوا بهذا أشبه بالأعلام المنصوبة، يقتدى الناس بهم، ويأخذون
708
طريقهم.. فهم الذين ارتادوا لأقوامهم الطريق إلى الإيمان، واحتملوا مع الرسل سفه السفهاء، وجهل الجاهلين من أقوامهم.. فكان لهم بهذا فضل لا يشاركهم فيه. إلا أفراد قليلون ممن جاءوا بعدهم.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» - مبينا أن من يلحق بهم من بعدهم هم قلة بالنسبة إليهم.. إذ كان ذلك المقام لا ينال إلا فى صحبة الرسل. أو من تبلغ به تقواه، ومجاهدته أن يكون مجدّدا لدعوة الرسول، متابعا لشريعته، خطوة خطوة..
قوله تعالى:
«يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» أي يمر عليهم، وهم فى متكئهم هذا- «وِلْدانٌ»، أي غلمان «مخلدون» أي خالدون فى هذا الشباب الدائم، الذي لا يتحول أبدا.. فهم مخلدون فى حالهم تلك، كما يخلد أهل الجنة فى الجنة، وأهل النار فى النار.. أو أنهم مخلدون، أي تزين آذانهم بقروط من كريم المعادن، ونفيس الجواهر.
والأكواب: جمع كوب، وهو ما كان من الآنية بغير عروة.
والأباريق: جمع إبريق، وهو ما كان ذا عروة يمسك به منها.
والكأس: الإناء الذي يشرب فيه الخمر، ولا يسمى كأسا إلا إذا كان فيه الشراب..
والمعنى أن هؤلاء الولدان المخالدين الذين يلبسون ثوب الصبا أبدا، والذين تزين آذانهم بالقروط، دلالا وتنعما- يطوفون على هؤلاء المقربين بأكواب، وأباريق، وكئوس من معين، أي من عيون جارية من الخمر..
وفى جمع الأكواب، والأباريق، وإفراد الكئوس- إشارة إلى أن الأكواب والأباريق، هى التي تحمل الشراب لأهل المجلس، فإذا انتهى الولدان
709
إليهم ملئوا لكل كأسه الذي يشرب منه، ولم يجيئوا إليهم بها مملوءة جميعها مرة واحدة.. ومثل هذا قوله تعالى: «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» (١٧: الإنسان) وقوله سبحانه: «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» (٢٣: الطور).
قوله تعالى:
«لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» أي لا يصيبهم من شرب هذه الخمر ما يصيب شاربى خمر الدنيا من صداع، إذا جاوز الشارب قدرا معينا منها.. فهذه الخمر التي تقدّم لهؤلاء السابقين المقربين، لا يصيبهم منها هذا الصداع مهما شربوا منها، ومهما علّوا ونهلوا.
وقد ضمّن «يصدّعون» معنى الفعل «يصرفون» من غير أن يزايله المعنى الأصلى الذي له، وهو الصداع.. والمعنى أنهم لا يصرفون عن هذه الخمر بسبب صداع يصيبهم منها.. وهذا إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.
وقوله تعالى: «وَلا يُنْزِفُونَ» أي لا يستهلكون لذتهم فيها يشرب ما يشربون منها، كما يحدث ذلك لشارب خمر الدنيا.. حيث تذهب لذة مدمنها بعد قدر محدود منها، بل إن لذتهم باقية أبدا، وإن ظلوا فى شرب دائم لا ينقطع.
وهذا هو بعض الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. فإن نعيم الدنيا- أو ما يسمى نعيما- إذا ناله المريء وأخذ منه حاجته، زهد فيه، وأصبح أىّ قدر يناله منه بعد هذا، مبعثا للألم، بل وضربا من العذاب.. أما نعيم الجنة، فإن لذته لا تنفد أبدا، ولا تنقطع شهوة المتصل به على امتداد الأزمان والآباد.. بل إنه كلما ازداد تناولا للشىء تجددت له لذات جديدة معه..
قوله تعالى:
«وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ»..
710
أي ويطوف عليهم الولدان المخلدون كذلك بفاكهة كثيرة مختلفة، يتخيرون منها ما يشاءون..
قوله تعالى:
«وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ»..
أي ويطوف عليهم الولدان بأنواع من لحوم الطير، مما تشتهيه أنفسهم وتطلبه..
قوله تعالى:
«وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ»..
أي وتقبل عليهم، وتدعوهم إليهن «حور عين»..
والحور جمع حوراء، وهى التي فى عينيها حور، وهو سواد فى جفن العين يزيدها جمالا وفتنة..
والعين: جمع عيناء، وهى واسعة العينين، فى جمال باهر، وسحر آسر..
وقوله تعالى: «كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ».. أي متشابهات فى حسنهن، وكمالهن، حتى لكأنهن حبات اللؤلؤ المصون، الذي لم يتغير لونه بالتعرض للشمس أو الهواء..
قوله تعالى:
«جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»..
أي أن كل هذا النعيم الذي يساق إلى هؤلاء المقربين، إنما هو جزاء لما كانوا يعملون فى دنياهم من أعمال قائمة على ميزان الحق، والعدل، والإحسان..
711
قوله تعالى:
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً»..
أي وفى هذا المجلس الكريم، الذي يضم أهل السبق والإحسان، والذي لا ينظرون فيه إلا وجوها مشرقة بنضرة النعيم، ولا يرد عليهم فيها إلا ولدان مخلدون يقومون على خدمتهم، وإلا حور عين مهيئين لهم- فى هذا المجلس الكريم، لا يسمع أهله لاغية، ولا سخفا من لغو القول وهزله، وإنما يسمعون قولا كريما، هو «سلام»، سلام، من ربهم، أو من الملائكة الذين «يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» أو مما يلقى به بعضهم بعضا من تحية كلها سلام فى سلام..
فالاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» - هو استثناء منقطع..
أو هو استثناء متصل يحمل معنى بلاغيا، هو تأكيد المدح بما يشبه الذم..
أي أنه إذا كان هناك من لغو أو تأثيم يسمعه أهل هذا المجلس الكريم، فهو هذا القول الذي يقال لهم فى هذا المقام، وهو: سلام، سلام.. فإذا كان هذا هو اللغو والتأثيم، فكيف بما لا لغو فيه ولا تأثيم؟ وهذا غاية فى تنزيه مجلسهم، وحفظ أسماعهم من أن يطوف بها شىء من اللغو أبدا..
الآيات: (٢٧- ٤٠) [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ الى ٤٠]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦)
عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
712
التفسير:
فى هذه الآيات عرض لحال الفريق الثاني، من أهل المحشر، وهم أصحاب اليمين، الذين ينزلون الدرجة الثانية من الجنة، بعد أن ظفر السابقون بالمنزلة الأولى منها..
وسمّوا أصحاب اليمين، لأنهم أوتوا كتبهم بأيمانهم، وكان هذا من أول البشريات لهم فى الآخرة، كما يقول سبحانه: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» (٧- ٩: الانشقاق)..
فهؤلاء، يحاسبون حسابا يسيرا.. أما السابقون المقربون، فيدخلون الجنة بغير حساب.. ومن هنا كان هذا التفاوت بين الفريقين فى منازلهم من الجنة..
وهؤلاء- أي أصحاب اليمين- «فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ».. والسدر، هو شجر النبق، والمخضود الذي لا شوك فيه.. «وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ».. والطلح، هو الموز، والمنضود: المنتظم فى حبات، أشبه بالعقود.. «وَماءٍ مَسْكُوبٍ» أي ماء يجرى بلا حواجز ولا أودية، بل يسيح متحررا من كل قيد.. ومن هذا المعنى سميت بعض الخيل باسم: «سكاب».. «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» أي أنهم يجدون بين أيديهم فاكهة كثيرة، لا تنقطع فى أي زمن، ولا تمنع عنهم عند أي طلب واستدعاء.. «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» أي عالية..
قوله تعالى:
«إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ»..
713
أي ومما يجدء أهل اليمين بين أيديهم- هؤلاء الحوريات، اللائي أنشأهن الله إنشاء، من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، لا يلدن، ولا يحضن، حتى لكأنهن فتيات لم يبلغن مبلغ النساء، وإن كن ناضجات، مكتملات الخلق..
وقوله تعالى: «عربا» أي راغبات فى أزواجهن، محببات إليهن..
وفى هذا احتراز من أن يقع فى التصور أنهن صغيرات، غير ناضجات لا يستجبن للرجال، مما يمكن أن يوحى به قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً».. والعرب: جمع عروب..
وقوله تعالى: «أترابا» - جمع ترب- وهن المتماثلات حسنا، وجمالا، وشبابا..
وقوله تعالى: «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» متعلق بقوله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاء..
الآيات» أي أنشأناهن على تلك الصفة لأصحاب اليمين، ينعمون بهن، ويأنسون إليهن..
والضمير فى قوله تعالى: أنشأناهن» يعود إلى ملحظ مفهوم من قوله تعالى:
«وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» - حيث أنه مما يكمل به نعيم هذه الفرش المرفوعة أن يكون فيها ما يرضى حاجة الرجال من النساء.. فهذه الفرش المرفوعة، ليست فرشا خالية موحشة، وإنما هى مأنوسة بالنساء.. أما هؤلاء النساء فقد أنشأهن الله إنشاء من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، عربا أترابا..
وقوله تعالى: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ»..
أي أن أصحاب اليمين هؤلاء، هم جماعة من الأولين، وجماعة من الآخرين.. وهذا يعنى أنه ليس كل الأولين الذي آمنوا بالرسل، وشهدوا
714
الحياة معهم، على سواء فى منزلتهم.. بل منهم السابقون، ومنهم أصحاب اليمين.
هذا، ويلاحظ أن هذه الجنة، ليست على تلك الصفة التي عليها جنة السابقين، فهناك، سرر موضونة، مطرزة، وهنا فرش مرفوعة..
وهناك اتكاء واسترخاء على هذه السرر من غير تكلف وطلب، وهنا لا اتكاء ولا استرخاء على تلك الفرش وإن كان اتكاء واسترخاء فهو يطلب واستدعاء..
وهناك، ولدان مخلدون يطوفون على أهل المجلس بأكواب وأباريق وكأس من معين..
وهنا ماء مسكوب! وهناك خمر تدار فى كئوس، لا يصدع شاربوها، ولا تنفد لذتهم منها..
وهنا.. لا أكواب ولا أباريق، ولا كئوس، ولا خمر! وإن كان ذلك كله يجىء عند طلبه، واستدعائه..
وهناك فاكهة عتيدة حاضرة يتخيرون منها ما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون..
وهنا سدر مخضود، وطلح منضود، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفتيات أبكار، عرب أتراب!.
ويسأل سائل: أهذه جنة ينعم فيها أهلها؟ وكيف يحجز عن أصحاب الجنة شىء من النعيم. ثم تكون مع هذا دار نعيم، ولم تسد فيها مطالب النفس؟.
715
والجواب على هذا ما أشرنا إليه من قبل فى سورة «الرحمن» ونقول هنا، إن كلا من أهل النعيم وأهل الجحيم، ينزل منزله من النعيم أو الجحيم..
وأنه كما انقسم أهل النعيم إلى فريقين.. هما السابقون، وأصحاب اليمين، كذلك ينقسم أصحاب الجحيم إلى منازل، وكل منزلة إلى فرق..
ولا شك أن فى كل منزل من منازل النعيم ألوانا، وصورا من النعيم ليست فى غيره، وأن أهل كل منزلة لهم نعيمهم، كما أن لكل واحد فى كل منزل له نعيمه، دون أن يشعر أىّ من أصحاب النعيم فى أية منزلة ينزلها أنه فى حاجة إلى نعيم فوق النعيم الذي هو فيه، إذ كانت طاقته لتقبّل النعيم، مقدورة بقدر منزلته عند الله..
فالسابقون مثلا، قد جعل الله لهم من الطاقات على تقبّل ألوان وصور من النعيم ليست لغيرهم من أهل الجنة.. كما أن هؤلاء السابقين ليسوا على درجة واحدة فى تقبّلهم لصور هذا النعيم وألوانه..
ولنضرب لهذا مثلا من الحياة الدنيا..
هناك مائدة حافلة بألوان الطعام، قد حشد فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وقد دعى إليها عشرات من الناس، يتناولون منها ما يشاءون..
هنا تختلف أحوالهم على هذه المائدة، فمن بين هؤلاء من فتحت شهيته لكل ما على المائدة، من ألوان الطعام، يظل يغدو ويروح، بين قديد وشواء، وحامض وحلو، لا يرفع يده عن طعام إلا ليمدها إلى طعام.. وهكذا يظل فى خضم وقضم ساعات وساعات.. هذا على حين أن هناك كثيرين
716
منهم من يجتزىء من هذه المائدة بلقمة هنا، ولقمة هناك، ثم إذا به وقد رفع يده عن كل ما على المائدة، وقطع شهوته عن كل ما يشتهى منها..
وكلا الرجلين، قد أخذ حاجته، واستوفى حظه، ولم يبق له شىء يطلبه من هذه المائدة.. ومع هذا، فإن استمتاع الأول بهذا الطعام هو أضعاف لذة صاحبه، حجما، وعمقا.. دون أن يشعر أىّ منهما أنه فى حاجة إلى مزيد!.
هذا، فى لذات الدنيا، ونعيمها، وهى- كما قلنا- لذات تنقطع عند أخذ المرء حاجته منها، ثم تتحول إلى آلام إذا هو جاوز بها هذا الحد.. أما لذات النعيم فى الآخرة، فهى لذات لا تنقطع أبدا، ولا يملّها المتصل بها مادام آخذا منها.. ولكن كلّ يأخذ بقدر ما تتسع له طاقته التي تتناسب مع منزلته..
وعلى هذا، فإن أهل الجنة جميعا فى نعيم مقيم، وفى لذة دائمة مع هذا النعيم.. ولكن كلّ له من النعيم ما يشتهيه، وله من الاشتهاء ما يناسبه..!
فهم فى جنة واحدة، ولكل منهم فى هذه الجنة جنته، وما يشتهيه.. أشبه شىء بما فى الغابة من مختلف الأحياء التي تعيش فيها.. بعضها يأكل من ورقها، وبعضها يأكل من ثمرها، وبعضها يقتات من أعشابها.. وبعضها يتنقل بين أفنانها، وبعضها يأوى إلى أجحارها.. وكلها هانىء بحياته، سعيد بعيشه مع الطبيعة التي لبسته..
وكذلك الشأن فى أصحاب النار.. تتسع آلامهم وتضيق، كل حسب طبيعته التي يكون عليها، والتي هى صورة من عمله!.
717
الآيات: (٤١- ٥٦) [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٥٦]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
التفسير:
قوله تعالى «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ» فى هذه الآيات بيان لحال أصحاب المشئمة، وهم الزوج الثالث من أزواج الناس يوم القيامة..
وأصحاب الشمال- هؤلاء- هم الذين أوتوا كتبهم بشمائلهم، إذ كانت هذه الكتب تحمل إليهم الشؤم، وسوء المصير، فلا يجدون لأيمانهم التي اعتادوا أن يأخذوا ويعطوا بها، محلّا للعمل هنا، وتناول هذا المكروه بها..!
718
أما منزلهم الذي ينزلونه- عافانا الله منه- فهو هذا المنزل الجهنمىّ، الذي يساق إليهم فيه العذاب ألوانا وطعوما، كما يساق النعيم إلى أصحاب الجنة ألوانا وطعوما..
إنهم «فى سموم» أي فى هبوب متلهب، ترمى به النار إليهم، وتلفح به وجوههم وأبدانهم، وفى «حميم» - وهو ما يسيل من عرقهم وصديدهم، فيجرى من تحتهم، كما تجرى الأنهار تحت أصحاب الجنة..
وهم فى «ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» أي هم يدخلون تحت ظلّ من سحاب هذا السموم، الذي ينعقد فوق رءوسهم.. وأنه إذا كان ظلّ أهل الجنة باردا كريما، لطيفا.. فإن هذا الظلّ ليس باردا، ولا كريما، وإنما هو لهيب يشوى الوجوه، ويهرأ الأجسام.
أما الذي أنزلهم هذا المنزل المشئوم، وألقى بهم فى هذا البلاء العظيم، فهو ضلالهم عن الحق، وبعدهم عن الله، وكفرهم بلقائه، وتكذيبهم رسله..
«إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ» أي منعّمين فى دنياهم، مما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من نعم، وكان من حق هذه النعم أن تفتح لهم طريقا إلى الله، فيحمدوا له ويشكروه، ولكنهم بطروا، وأشروا واستكبروا فى الأرض، وعتوا عن أمر ربهم، وصدّوا عن سبيله.
«وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» الحنث العظيم: الذنب الكبير، أو اليمين الفاجرة.
أي أنهم كانوا مصرين ومقيمين على ما يأتون من كبائر الإثم والفواحش، فلا يراجعون أنفسهم، ولا ينظرون إلى ما يفيض بين أيديهم من منكرات وآثام.
719
أو أنهم كانوا مقيمين على معتقدهم الفاسد فى إنكار البعث، وتوكيد هذا الإنكار بالحلف عليه، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (٣٨: النحل) «وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ».
أي كانوا ينكرون البعث بهذا الأسلوب الإنكارى الساخر.. فيلقى بعضهم بهذا الاستفهام المنكر المستهزئ.. «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» أيصدق هذا؟ ذلك محال! «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟» وإذا صح جدلا- أن نبعث نحن بعد الموت، لقرب عهدنا، ولأن الأرض تحتفظ ببقية منا- فهل يبعث آباؤنا الأولون الذين لا أثر لهم، حتى إن عظامهم قد أبلاها البلى وأكلها التراب؟ ذلك بعيد بعيد! «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» هذا هو الجواب الذي يلقى تساؤلاتهم المنكرة تلك: «إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ»..
وقد جاء الخبر مؤكدا، بمؤكدين.. «إنّ» و «لام» الابتداء فى قوله تعالى «لَمَجْمُوعُونَ».
فآباؤهم الأولون، وآباؤهم الآخرون، هم معهم، سيجمعون جميعا فى مكان معلوم، وفى يوم معلوم..
وقد ضمّن اسم المفعول «مجموعون» معنى السوق، الذي يدل على الدفع، والقهر، وذلك دون أن يتخلى عن معناه الأصلى، وهو «الجمع».. فهم
720
مسوقون جميعا، ومجتمعون جميعا.. فى مكان واحد، دون أن يشذّ، أو يحرن أحد منهم..
- «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ».
هو التفات إلى هؤلاء المكذبين الضالين، وهم فى موقف التكذيب والضلال- التفات إليهم، ومواجهة لهم بكل ما يسوؤهم، ويلبسهم الشفاء الأبدى..
«إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ»..
وهو شجر ينبت فى أصل الجحيم، طلعه كأنه رءوس الشياطين، كما يقول الله تعالى فى وصف هذه الشجرة: «إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ»
. (٦٥: الصافات) والشياطين خلق نارىّ، جهنمى، وأبشع ما فى الشياطين رءوسها تلك النارية الجهنمية، التي يرى الرائي منها كل ما فى الشيطان من هذه الصورة المنكرة التي هى له.
وإن هذه الرءوس، النارية الجهنمية، أو ما يشبهها، هى قطوف هذا الشجر الذي يطعم هؤلاء المكذبون الضالون، من ثمره! إن لهم ما يتفكهون به فى دارهم تلك، كما أن لأصحاب الجنة- ما يتفكهون به من ثمار الجنة! وإنهم ليأكلون من هذا الثمر الزقّومى حتى تمتلىء بطونهم- كرها ورغما- إذ لا بد للبطون أن تمتلىء وتشبع! وفى عود الضمير مؤنثا على الشجر، مع أنه مذكر لفظا، إشارة إلى أنه أشبه بشجرة واحدة فى طبيعتها، وفى شؤم الثمر الذي يخرج منها.. فكأنهم يأكلون جميعا من شجرة واحدة..
721
«فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ»..
ومع كل طعام شراب!! وشراب هذا الطعام الجهنمى، جهنمى مثله، هو هذا الحميم، وهو القيح والصديد الذي يسيل من أجسامهم التي تشوى فى نار جهنم، فيسيل منها هذا السائل فائرا يغلى.
فالضمير فى «عليه» يعود إلى هذا الطعام، أو هذا الأكل، الذي دلّ عليه قوله تعالى: «لَآكِلُونَ».
«فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ».
أي إن هذا الشراب الجهنمى، يقبل عليه الذين أكلوا من هذا الطعام الزقومى، يقبلون عليه فى سعار مجنون، أشبه بالإبل اللهيم، أي أي العطاش، التي حبست عن الماء أياما، فإذا وردت عليه عبّت منه فى نهم شديد، لتنقع غلّتها، وتروى ظمأها..
وفى إقبال أهل هذا الطعام على هذا الشراب- إشارة إلى أن ما فى بطونهم من لهيب، أشد من هذا الحميم، فهم يستشفون من داء بداء، ويستجيرون من بلاء ببلاء، ويطفئون النار بالنار!.
«هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ»..
أي هذا هو المنزل الذي ينزله يوم القيامة هؤلاء المكذبون الضالون، أصحاب الشّمال، وهذا ما يطعمون وما يشربون من، طعام وشراب، فى هذا المنزل..
وفى العدول عن خطابهم إلى ضمير الغائب- إشارة إلى أنهم فى حال من الهول، والبلاء، لا يعقلون معها حديثا، ولا يسمعون قولا.. فكان
722
أن اتجه الحديث إلى من يشهدون هذا المشهد، ليكون لهم فيه عبرة ومزدجر..
الآيات: (٥٧- ٧٤) [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٧٤]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
التفسير:
قوله تعالى: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ.....»
فى هذه الآيات عرض كاشف لقدرة الله سبحانه وتعالى، قيّومة
723
سلطانه على كل شىء فى هذا الوجود.. وغاية هذا العرض، هو إقامة الأدلة، ونصب البراهين بين يدى هؤلاء المنكرين للبعث، على أن هذا البعث الذي ينكره المنكرون، ويستبعدون وقوعه، هو أمر داخل فى دائرة الأحداث التي تقع فى محيطهم.. فليست الحياة بعد الموت إلّا إعادة لبناء هذا الكيان الذي تهدم، وإقامته من جديد على الصورة التي كان عليها، وإنه إذا كان مما يمكن أن ينكر أو يستبعد هو الإيجاد ابتداء، فإن إنكار إعادة الموجود لا يكون إلا من مكابرة وعناد، أو جهل وضلال..
وقوله تعالى: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» - هو إعلان بهذا الخبر، وتقرير له، وإرساله هكذا قضية مسلمة، من غير مقدمات: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ»..
فهذه قضية لا تحتاج إلى برهان، وحكم لا يقبل جدلا.. فليس هناك من مخلوق ينكر هذه الحقيقة أو يجادل فيها.. إنه لم يحلق نفسه.. وإذن فلا بد له من خالق خلقه.. وهذا الخالق يناديه، ويلقى إلى سمعه: أنه هو الذي خلقه.. فإن أنكر هذا الخالق، فليبحث عن الخالق الذي خلقه، إذ كان لا بد من خالق.. وهذا الخالق لا بد أن يكون واحدا يبسط سلطانه على هذا الوجود كله، وعلى الموجودات جميعها.. وذلك هو الله رب العالمين..
وقوله تعالى: «فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ».. هو تعقيب على هذا الخبر، أو الحكم.. «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ».. أفلا تصدقون هذا الخبر؟ أو لا تقبلون هذا الحكم؟ إنه خير لكم أن تصدقوا هذا الخبر، وتقيموا وجودكم على الإيمان به!..
724
فإذا صدّقتم هذا، أفلا تصدقون أننا قادرون على إعادتكم بعد موتكم؟
«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» (٨١: يس)..
ولو، هنا، بمعنى «هلّا» للحثّ، والحضّ على التصديق.
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ» ؟
هو حيثيّات تقام لهذا الحكم، وبراهين تقدم لهذا الخبر.. وقدّم الحكم فى هذه القضية- قضية إضافة الخلق إلى الله سبحانه وتعالى- قدم على حيثياته، وأدلته، لأنه- كما قلنا- أمر ظاهر، مستغن عن كل برهان يقوم بين يديه، ولأن كثيرا من العقول تتقبله هكذا من غير برهان، لأنه أمر بدهىّ، ومن الإزراء بالعقل تقديم البديهيات له، فى صورة المعضلات التي تحتاج إلى أدلة وبراهين..
أما هذه البراهين التي تقدم بعد النطق بهذا الحكم، فهى منصوبة لمن أعماهم الضلال، فلم يروا ما بين أيديهم فى وجه الصبح المشرق، فكانت هذه البراهين أشبه بأيد تمتد إلى هؤلاء العمى لتقودهم إلى مرفأ الأمن والسلامة.. ومع هذا فإن كثيرا من هؤلاء العمى، يمنعهم العناد والكبر عن أن يمدوا أيديهم إلى تلك الأيدى الممدودة لهم، ويؤثرون أن يتخبطوا فى مسيرتهم، وأن يتردّوا فى مهاوى الهلاك، على أن يستجيبوا لهاد يهديهم، أو منقذ ينقذهم..
والمنىّ، هو النطفة التي يتخلق منها الكائن الحي، وإن هذه النطفة لا تكون بذرة صالحة ليتخلق منها الجنين، حتى تنضج فى صلب الرجل، ثم تتحرك فيه إلى حيث يلقى بها فى رحم المرأة.. أما قبل هذا النضج، فلا
725
تكون صالحة لأن يتخلق منها الكائن الحي.. بمعنى أنه لو انتزعت هذه النطفة انتزاعا من صلب الرجل، ثم نقلت إلى رحم المرأة، كانت أشبه بحبة غير ناضجة ألقى بها فى الأرض، فلا يكون منها أن تنبت نباتا أو تطلع زهرا أو ثمرا..
وهذا هو السرّ فى التعبير القرآنى بلفظ «تُمْنُونَ» الذي يدل على تلك العملية الطبيعية التي يقذف بها المنىّ فى رحم المرأة، عند التقاء الرجل والمرأة.. ومثل هذا ما جاء فى قوله تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» (٣٧: القيامة) فهو ليس مجرد منىّ، ولكنه منىّ يمنى، أي يقذف به فى حال نضجه، من صلب الرجل، إلى رحم المرأة..
فهذا المنىّ، الذي لا يعدو أن يكون نطفة من ماء- من يخلق منه هذا الكائن الحىّ، أو من يقيم منه هذا الإنسان السميع البصير؟
قوله تعالى:
«نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي وكما خلقناكم ابتداء، من هذه النطف، وشكلنا صوركم، من هذا المنىّ- نحن الذين قدرنا بينكم الموت، وحددنا لكل منكم الأجل الذي له فى هذه الدنيا.. فإلينا وحدنا تقدير أعماركم، وموتكم.. لم يسبقنا إلى ذلك سابق، ولم يشاركنا فى هذا شريك..
قوله تعالى:
«عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ»
هو متعلق بمحذوف، يفهم من قوله تعالى: «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي أننا إذا كنا لم نسبق فى هذا الخلق الذي خلقناكم عليه، ولم نسبق فى تقدير الموت الذي قدرنا عليكم، وجعلناه حكما واقعا على كل حىّ- إذا كان
726
هذا شأننا فيكم، أفلسنا بقادرين «على أن نبدّل أمثالكم» ونغير صوركم، ونخلقكم على صور غير تلك الصور التي أنتم عليها؟ أو لسنا بقادرين على أن نجعلكم فى صورة مخلوقات أخرى من تلك المخلوقات الكثيرة التي ترونها فى عالم الجماد، أو النبات أو الحيوان، أو فى صور أخرى مما لا تعلمونه من صور مخلوقاتنا فى الأرض أو فى السماء؟ فإن هذه النطف التي تتخلق منها الكائنات، الحية فى عالم الحيوان، هى ماء يشبه بعضه بعضا، ولكن الخالق المبدع يصوّر هذه النطف كيف يشاء.. «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ..»
(٦: آل عمران) قوله تعالى:
«وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ؟» أي وإذا كنتم لا تعلمون النشأة التي كان من الممكن أن ننشئكم عليها، فقد علمتم نشأتكم هذه التي أوجدناكم فيها.. أفلا يكون لكم من هذا العلم ما يحدث لكم ذكرا، ويبعث فيكم طمأنينة إلى التسليم بالبعث بعد الموت؟
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟» وهذه صورة أخرى، من صور الخلق، وأنه إذا كانت عملية خلق الإنسان مما تحتجب رؤيتها عن كثير من العقول المريضة، فهذه عملية إنبات النبات، وإخراج الحبّ من الأرض، على هذه الصور المختلفة من النبات والشجر.. إنها عملية مشهورة، ظاهرة، وتجربة تجرى من أولها إلى آخرها بين أيدى الناس، حيث يلقون الحب فى الأرض، ثم يجدونه بعد ذلك نباتا زاهيا، وشجرا باسقا..
727
فمن يخلق هذا الزرع؟ ومن يخرج من هذا الحب هذا الجنات، وتلك الحدائق ذات البهجة؟ أأنتم أيها الناس؟ إنكم لستم إلا أدوات تلقى الحب فى الأرض، كما تقذفون المنىّ فى الأرحام، فيصور الخالق جل وعلا من هذا وذاك ما يصوّر من كائنات! قوله تعالى:
«لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ».
أي لو نشاء، لما أطلعنا هذا الزرع، ولو نشاء لأطلعناه، ثم لجعلناه عقيما لا يطلع زهرا، ولا يثمر ثمرا، فظلتم تفكهون، أي ترقبون الفاكهة، وتبحثون عنها، ثم لا تجدون شيئا منها، بل تعودون وملء أيديكم خيبة وحسرة، تتنادون بأنكم مغرمون بما أضعتم من جهد فى الحرث والزرع، ثم لم يكن لكم من هذا العناء إلا الحرمان من الثمر الذي كنتم ترجونه.
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ» وهذا الماء الذي تشربون.. ألا تفكرون من أين جاء؟ ألا تنظرون فيه وفى هذا الماء الملح الذي يملأ وجه الأرض؟ من فصل بينهما؟ ومن أخرج لكم من هذا الماء الملح، هذا الماء العذب الفرات؟ أأنتم الذين صنع هذا الصنيع، وأنشأ من هذا الماء الملح سحابا يحمل الماء العذب، وينشىء منه الأنهار، ويفجر العيون؟
أأنتم أنزلتموه من المزن، أي السحب، أم نحن المنزلون؟! أجيبوا!!
728
ولا جواب إلا التسليم والإقرار، بأن الله سبحانه هو الذي صنع لكم هذا الذي صنع! ولو شاء الله سبحانه وتعالى، لجعل هذا الماء العذب على حاله التي كان عليها من قبل أن يخرج من رحم البحار، كما خرجتم أنتم من أرحام أمهاتكم، وكما خرج النبات من رحم الأرض..
«فلولا تشكرون» أي فهلا شكرتم الله على هذه النعم الجليلة التي هى ملاك حياتكم وحياة زروعكم، وحيوانكم؟
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ؟»..
وهذه النار التي توقدونها، وتستدفئون بها، وتنضجون عليها طعامكم..
من أنشأ لكم الشجر الذي توقدونه؟ ألا ترون هذا الحطب الذي يعلق به الشرر، فيحول إلى لهب وجمر؟ ألا ترون هذه القدرة التي تخرج النار من الشجر الأخضر الذي يجرى الماء فى عروقه؟ «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» (٨٠: يس) قوله تعالى:
«نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ»..
أي هذه النار التي توقدون من الشجر الأخضر، هى تذكرة وموعظة، لمن كان له عقل يتذكر، ويتعظ، فيرى قدرة الله.. وهى متاع وزاد «للمقوين» أي لكم أيها الناس، الذين لا يملكون شيئا.. فكل ما فى أيديكم، هو فضل من فضل الله عليكم، ورحمة من رحمته بكم»..
729
والمقوي، هو الخاوي، الفارغ، الذي لا شىء معه.. ومنه أقوت الدار أي خلت من أهلها، وأقوت الأرض، أي أجدبت..
قوله تعالى:
«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ».. هو تعقيب على هذه النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده، والتي من شكرها، التسبيح بحمد الله، وتنزيهه، وتمجيده، وذكره ذكرا دائما بالحمد والثناء..
هذا، ويلاحظ أن الآيات التي عرضت هذه النعم، عرضتها كل نعمة فى آية مستقلة، ثم عقّبت على كل آية بالسؤال المطلوب من كلّ من وقف بين يدى نعمة منها، أن يسأله نفسه، وأن يتولى الإجابة عليه..
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟»..
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟»..
«أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟»..
«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟»..
إنها نعم ظاهرة، من شأنها إذا ذكرت أن تدير الأنظار إليها، وأن توجه العقول نحوها، من غير داع يدعو الأنظار إلى النظر، أو يلفت العقول إلى التفكير والتدبير..
هذا إذا صادفت تلك النعم أبصارا تبصر، وعقولا تعقل.. ولكن ما أكثر الأبصار التي لا تبصر، والعقول التي لا تعقل.. فكان من رحمة الله، أن أقام بين يدى كل نعمة داعيا يدعو إليها، ويهتف بالأبصار الزائغة أن تنظر فيها، وبالعقول الغافلة أن تنتبه لها، فكانت هذه الأسئلة الواردة عليها.. فمن كانت له أذنان
730
فليسمع، ومن كانت له عينان فليبصر.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (٣٧: ق)
الآيات: (٧٥- ٩٦) [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٩٦]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ»..
731
[الأقسام المنفية فى القرآن.. ودلالاتها] أكثر المفسرين على أن «لا» فى قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ» زائدة، وأن التقدير: أقسم بمواقع النجوم.. ولم يذكروا لهذه الزيادة وجها مقبولا، حتى لكأنها زيادة مقحمة لضرورة كضرورة الشعر..
ويرى الزمخشري- مثلا- أن زيادة «لا» تقتضى أن يكون النظم هكذا:
«فلأنا أقسم بمواقع النجوم».. وعلى هذا يكون أصل النظم جملة من مبتدأ وخبر، وأن لام الابتداء دخلت على المبتد، وهو وإن كان نادرا، إلا أن ذلك ورد، فى لسان العرب، كقول الشاعر:
خالى لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا وهذا تكلف بعيد، وركوب ضرورات كثيرة لا يلجأ إليها إلا عند العجز وضيق مجال الكلام.. وهذا ما ينتزه عنه كلام الله.
ثم إن الموجود هنا «لا» لا، لام الابتداء، التي تحولت بهذه الصناعة المتكلفة إلى «لأنا» ثم حذفت أنا، وبقيت منها الهمزة التي لصقت بلام الابتداء، فأعطتها هذه الصورة الزائفة!! وكلام الله تعالى منزه عن النقص، متعال عن الوقوع تحت حكم الضرورة، وإن كل حرف منه ليرجح الوجود كله كمالا، وجلالا..
فما هى «لا» هذه؟ وما مفهومها؟.
هى- والله أعلم- «لا» النافية.. وهى تجىء غالبا فى معرض
732
القسم تنزيها للمقسم به، وإجلالا لقدره، أن يقسم به على أمور واضحة بينة، لا تحتاج إلى سند يسندها من قسم أو نحوه..
فالقسم- عادة- إنما يرد لإثبات أمر من الأمور التي يستبعد المخاطب وقوعها أو لتقرير حقيقة من الحقائق، وتوكيدها، وإزالة الشبهة عنها عند المقسم له، حتى يقبلها ويطمئن إليها..
وإنه- والأمر كذلك- من الاستخفاف بقدر المقسم به، بل والامتهان له، أن يستدعى عند كل أمر وإن صغر، وأن يبرر به كل شأن وإن حقر أو ظهر، فذلك من شأنه أن يرخص هذا المقسم به، وأن يذهب بجلاله، وينزل من قدره، فلا يكون له وقعه على النفوس، إذا هو استدعى للقسم به فى حال تحتاج الى تبرير وتوكيد! وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ». (٢٢٤: البقرة) فتعريض اسم الله سبحانه وتعالى للقسم به، حتى فى مقام البرّ بهذا القسم، ورعاية حقه، وحتى فى مقام الصلح بين الناس- هو مما ينبغى للمؤمن أن يتحاشاه، وألا يجىء إليه إلا فى قصد، عند ما تدعو الضرورة إليه! فقوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» - هو تعريض وتلويح بالقسم بمواقع النجوم، دون القسم بها، لأنها ذات شأن عظيم، فلا يقسم بها إلا لتقرير الحقائق المشكوك فيها، والمرتاب فى أمرها.. أما جليّات الأمور وبدهياتها فلا يقسم لها، لأن القسم لها، هو تشكيك فيها، ووضعها موضع ما يكون من شأنه أن يثير المماراة، والخلاف..
وقد كثر فى القرآن الكريم هذا الضرب من التلويح بالقسم عن طريق
733
النّفى، وذلك حين يكون المقسم هو الله سبحانه وتعالى، والمقسم به، ذات من ذوات المخلوقات العظيمة المكرمة عند الله، وحين يكون المقسم عليه أمرا جليّا، بينا لا يحتاج إلى بيان..
ومن ذلك قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» (١٦- ١٩ الانشقاق) وقوله سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» (١- ٤: القيامة) وقوله جلّ شأنه: «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (١٥- ٢٠ التكوير) فهذه الأقسام واقعة على أمور عظيمة، محققة الوقوع على الصورة المعروضة فيها، وعلى الصفة الموصوفة بها، بحيث لا يصح أن تقع موقع الإنكار، من ذى مسكة من عقل أو فهم.. فإذا كان هناك من يشك أو يرتاب، فإنه لا معتبر لشكّه أو ارتيابه، ولا جدوى من وراء القسم له بأى مقسم به، إذ كان لا يجدى معه- فى هذا الصبح المشرق بين يديه- أن تضاء له المصابيح، وتقام له الحجج والبراهين. «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (٤٠: النور).
فالأقسام هنا- كما ترى- واقعة على أحوال الإنسان، وتنقله من حال إلى حال، ومن وجود إلى وجود، أو على قدرة الله سبحانه وتعالى، على بعث الموتى من القبور، وعلى إعادة هذه العظام البالية، وإلباسها لباس الحياة من جديد، أو على قول الله سبحانه، وما تحمل كلماته من أخبار صادقة، محققة الوقوع..
وهذه كلها أمور لا تحتاج إلى قسم، وفى القسم لها- كما قلنا- تشكيك فيها، وفتح لباب الجدل والمماراة فى شأنها..
أما هذا التلويح بتلك الأقسام، فيما يبدو من نفى القسم- فهو وضع
734
الأمر المقسم عليه فى ضمانة حقيقة من الحقائق الكبرى، حيث يعتدل ميزانه مع ميزانها فى مقام الإعظام والإجلال، بمعنى أنه لو احتاج هذا الأمر إلى قسم لما أقسم له إلا بهذه الحقائق العظيمة الجليلة، المناسبة لعظمته وجلاله.. فإن العظائم كفؤها العظماء، كما يقولون.
ومواقع النجوم، التي يلوّح بالقسم بها، قد تكون أفلاكها التي تدور فيها، وقد تكون منازلها التي تأخذها من النظام العام للفلك.. وعلى أي فإن النجوم حيث تكون هى كائنات عظيمة، وأن أي نجم منها- على ما يبدو من صغره- هو أكبر من شمسنا التي هى أقرب النجوم إلينا، والتي يبلغ حجمها مليونا وربع مليون من حجم الأرض! ولم يقع التلويح بالقسم على النجوم، بل على مواقعها، لأن مواقعها تشير إلى أكثر من أمر.. تشير إلى هذا البعد الشاسع الذي بيننا وبينها، والذي تبلغ المسافة فيه بيننا وبين بعضها ملايين السنين الضوئية!! وتشير هذه المواقع إلى المسافات التي بين هذه النجوم التي يبدو لنا بعضها مجاورا البعض.. فهذه المسافات التي تبدو متقاربة، هى فى الواقع ملايين من السنين الضوئية كذلك..
كما تشير هذه المواقع إلى أن النجوم ليست على علو واحد كما يبدو، وإنما هى فى أفلاك بعضها فوق بعض..
وعلى هذا، فإن النظر إلى مواقع النجوم يكشف عن النجوم نفسها، كما يكشف عن هذه العوالم الرحيبة التي تسبح فيها، تلك العوالم التي إن أمكن ضبطها بالأرقام العددية، وبالصور الحسابية، فإن الخيال لا يتسع لتصور أفق واحد من آفاق تلك العوالم التي تسبح فيها النجوم.
قوله تعالى:
«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ».
735
هذا هو الأمر الذي لا يحتاج إلى قسم، وتلك هى الحقيقة التي لا تحتاج إلى تبرير وتوكيد..
فهذا الذي يتلوه النبي على الناس، هو قرآن كريم، فى كتاب مكنون أي محفوظ، عند الله سبحانه، وإنه- لمقامه العظيم- لا يدنو منه، ولا يطوف بحماه، إلا المطهرون من عباد الله، من ملائكة، أو بشر. وفى وصف القرآن بالكرم، إشارة إلى ما ينال الذين يمدون أيديهم إليه من عطايا ومنن به.
ومعنى المس للقرآن الكريم هنا- والله أعلم- هو التلبّس به، والمباشرة له، والإفادة منه.. فمن مسّ هذا القرآن الكريم وطاف بحماه ملتمسا الهدى منه- وجب أن يكون على صفة تناسب هذا القرآن، من الطهارة، والكرم، والنقاء. فمن كان طاهرا، لم يجد معاناة فى الامتزاج والتجاوب معه، سواء كان طاهرا بالقوة والفعل كالملائكة، أم كان طاهرا بالقوة، كمن كان فى الناس سليم الفطرة، معافى من الآفات التي تعرض لهذه الفطرة، فتفسدها، وتحول بينها وبين تقبّل الخير، والتجاوب معه، فمن كان من الناس ذا فطرة سليمة، قرب من هذا القرآن، واتصل به، وأصاب من خيره، فطهر من دنس الشرك، والكفر.. وكان من المؤمنين الطاهرين..
فالمسّ هنا، ليس لمس المصحف باليد، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين، الذين اشتد خلافهم حول الحال التي يكون عليها من يمس المصحف، وهل ينبغى أن يكون على طهارة مطلقة من الحدثين الأصغر والأكبر، وهل ذلك على سبيل الاستحباب والندب، أم أنه على سبيلى الوجوب والحتم.!!
وإنما المسّ الذي تشير إليه الآية الكريمة- والله أعلم- مسّ كلمات الله ومخالطتها للقلوب والعقول، ذلك المس الذي يتأثر به الماسّ، فيجد من أثر هذا المسّ فى كيانه، ما يجد- على بعد ما بين المشبه والمشبه به- من مسّ طيبا أو نحوه،
736
مما تطيب به النفوس، وتستروح الأرواح.. وكما أن كثيرا من النفوس تختنق بالريح الطيب، أو تنفر منه، فكذلك كثير من النفوس ما تتأذى بكلمات الله، وتنفر من سماعها، فلا تسمح لها بأن تنفذ إلى مشاعرها ووجداناتها، بلى تجعل أصابعها فى آذانها، كما يجعل من يتأذى بالطيب أصبعيه على أنفه!!.
ويرى «ابن قيّم الجوزيّة» أن المراد بالكتاب المكنون، هو الصحف التي بأيدى الملائكة.. ويعلل لذلك بوجوه:
منها: أنه وصفه- أي الله- بأنه مكنون، والمكنون: المستور عن العيون، وهذا إنما فى الصحف التي بأيدى الملائكة..
ومنها: أنه قال: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» وهم الملائكة، ولو أراد المؤمنين المتوضئين لقالى:
لا يمسه إلا المتطهرون فالملائكة مطهّرون، والمؤمنون المتوضئون متطهرون.
ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه، بالجزم...
ومنها: أن هذا رد على من قال إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه فى كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال فى «آية الشعراء» :«وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (٢١٠- ٢١٢) وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة..
ومنها: أن هذا نظير قوله تعالى: َمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ»
(١٢- ١٦:
عبس)..
737
ومنها: أن الآية مكية، فى سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد، والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والردّ على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود، من فرع عملىّ، وهو حكم مس المحدث المصحف «١» ».
هذا، ويتسع معنى «المطهّرين» التطهر عند لمس المصحف، وعند التلاوة منه، فهذا- وإن لم يمكن على سبيل الإلزام- أدب مع كتاب الله، وتوفير لكل ما يتصل به.
قوله تعالى:
«أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ».
الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وما تحدث به آياته عن قدرة الله سبحانه، وعن سلطانه القائم على هذا الوجود، وعن البعث والحساب والجزاء..
والاستفهام تقريرى، يراد به إقرار الكافرين بما عندهم من هذا الحديث الذي سمعوه، مما يتلى عليهم من آيات الله، وهل هم مصغون إليه، واقفون منه موقف الجد، وطلب العلم والفهم، أم أنهم مستمعون استماع المجامل الذي لا يعنيه شىء من مضامين هذا الحديث ومفاهيمه؟.
والمدهن، هو المداهن، الذي يصانع فى الأمور، ويلقاها بغير رأيه فيها، طلبا للسلامة، وتجنبا لما قد تجره إليه المكاشفة من متاعب ومكاره..
وهذا ضرب من النفاق، ووجه من وجوهه..
وقوله تعالى: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» - هو بيان لما ينتهى إليه هذا الموقف المداهن، وهو التكذيب بما يلقى إليه من هذا الحديث، الذي لا يعطيه أذنا، ولا يفتح له قلبا ولا عقلا..
(١) التفسير القيم لابن القيم ص ٤١٢ بتحقيق المرحوم الشيخ محمد حامد الفقى:
738
والتكذيب هو حظّ هؤلاء المداهنين المراوغين، وهو رزقهم الذي يرزقونه من هذا الخير المبسوط لهم.. فإذا عاد الناس بمغانم كثيرة وبرزق موفور من هذا الحديث حين يستمعون إليه، فإن هؤلاء المداهنين المراوغين، يعودون برزق أيضا، ولكنه رزق مشئوم، ملطّخ بالتكذيب بآيات الله، وبالكفر بها، وبما تحمل من حق وخير..
وفى تسمية هذا التكذيب الذي حمله المداهنون من آيات الله- فى تسميته رزقا، إشارة إلى هذا الخسران الذي عادوا به من هذا الموقف مع آيات الله، وأنهم بدلا من أن يحملوا رزقا، حملوا وزرا.. لقد أرادوا أن يخدعوا فخدعوا.. «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (٩: البقرة)..
فهذا هو رزقهم الذي رزقوه من استماعهم لآيات الله، وهو- كما قلنا- وزر، لارزق.
قوله تعالى:
«فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ».
الحلقوم، مجرى الطعام من الفم إلى المعدة..
والضمير فى بلغت، يعود إلى الروح، وهى وإن لم يجر لها ذكر، فإنها مذكورة فى هذا المفهوم العام الذي تشير إليه الآيات، وهو البعث، الذي يدور حوله هذا الحديث، وما يقع للناس فيه من حساب وجزاء، ونعيم وعذاب..
739
فلولا، حرف تحضيض، بمعنى هلّا..
والآية وما بعدها، استدعاء لهؤلاء المنكرين للبعث، المداهنين فى هذا الحديث الذي استمعوا إليه ما استمعوا من أمره- استدعاء لهم أن يمتحنوا قواهم كلها، وأن يجيئوا بكل ما يملكون من حول وحيلة، وهم بين عزيز كريم لديهم ممن قد حضره الموت، وحشرجت روحه حتى بلغت الحلقوم، وهم ينظرون إليه فى حزن قاتل، وحسرة محرقة- فهل يستطيعون رد هذه الروح إلى مكانها من الجسد؟ فليجربوا هذا وليحاولوه، إن كان الأمر يتسع لتجربة، أو يقبل حيلة! إن الله سبحانه هو أقرب إلى هذا المحتضر منهم، ولكنهم لجهلهم وكفرهم، لا يدركون هذه الحقيقة، ولا يتصورونها..
قوله تعالى:
«فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
«فلولا» هنا توكيد لما قبلها فى قوله تعالى: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ..»
وقوله تعالى: «تَرْجِعُونَها» هو جواب «فلولا» الأولى.. أي فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم ترجعونها؟
و «ترجعونها» أي تردونها إلى مكانها الذي خرجت منه..
يقال رجع الشيء، يرجعه، وأرجع الشيء يرجعه، أي أعاده..
فالفعل يتعدّى بنفسه، ويتعدى بالهمزة..
ومن تعدى الفعل بنفسه قوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ
740
مِنْهُمْ»
(٨٣: التوبة).. ويأتى لازما مثل قوله تعالى: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ» (٨: المنافقون).
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ» جملة اعتراضية، تكشف عن حال هؤلاء الذين شهدوا محضر هذا المحتضر، وهو يجود بنفسه، والمدين، هو العاجز المقهور، ومنه المدين: المثقل بالدين..
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - هو تكذيب لتكذيبهم بآيات الله، وبالحديث الذي حدثتهم به.. فقد كان رزقهم من هذا الحديث هو التكذيب به.. فهل هم بعد هذا الامتحان متمسكون بهذا التكذيب، مصدقون به؟
قوله تعالى:
«فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ».
وهذا المحتضر، قد نفذ فيه قضاء الله، وأصبح فى عالم الموتى..
ولكنه لا يترك كهذا ليد الفناء- كما يظنون-، بل إنه سينقل إلى العالم الآخر، وتلبسه الحياة هناك مرة أخرى، ويأخذ منزله فى هذا العالم، حسب عمله فى الدنيا..
فإن كان من المقربين إلى الله، ومن أولياء الله فى الدنيا، فالله سبحانه هو وليّه فى الآخرة، يلقاه لقاء الأولياء الأحباب بالروح والريحان وجنة النعيم..
والروح: ما تستروحه النفوس، وتطيب به، وتسعد فيه.. وقرىء:
«فروح» أي حياة جديدة تلبسه..
741
قوله تعالى:
«وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» وأصحاب اليمين، هم ممن أرادهم الله «سبحانه» ليكونوا من أصحاب الجنة، فيسّر لهم العمل بعمل أهل الجنة..
وقوله تعالى: «فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ»، أي أنهم فى سلام وأنهم يتهادون التحية والسلام فيما بينهم، ويبعثون بتحاياهم إلى إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ممن لا يزالون فى هذه الدنيا..
فالضمير فى «لك» يراد به كل مؤمن بالله، طامع فى أن يكون من أصحاب اليمين!.. وهى تحية من أهل اليمين فى العالم الآخر، ينقلها الله سبحانه وتعالى، إلى المؤمنين فى الدنيا، حتى يلقوا إخوانهم فى العالم الآخر، ويردوا هذه التحية الطيبة بأحسن منها أو مثلها.
قوله تعالى:
«وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» أي وأما إن كان هذا الميت من هؤلاء المدهنين المكذبين، فمنزله الحميم، الذي تختنق النفوس بسمومه، وداره الجحيم التي يشوى على جمرها..
وهكذا الناس بعد الموت، حيث ينقلون إلى الدار الآخرة، فيكونون أزواجا ثلاثة..
السابقون، وهم المقربون..
وأصحاب اليمين..
وأصحاب الشمال..
ولكلّ منزله الذي ينزله فى هذه الدار، وجزاؤه الذي يجزاه فيها..
قوله تعالى:
742
«إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ».
بهذا الحكم تختم السورة الكريمة، وبهذا التنزيه لله سبحانه، والحمد لله، يعقّب على هذا الحكم، ويلفت إلى ما ينبغى أن يستقبل به من النبي، ومن المؤمنين..
وحق اليقين، أي الحق المطلق، الذي لا يعلق به شىء من دخان الباطل وسحبه..
فهو الحق الذي ينبغى أن ينزل من القلوب والعقول منزلة اليقين، فتطمئن به القلوب، وتسكن إليه العقول..
واليقين المشار إليه، هو اليقين الوارد من تلك الآيات، التي تحدث عن قدرة الله، وعن البعث، والحساب، والجزاء.. فهذا الحديث هو حديث حق مستيقن، لا شك فيه..
وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أن هذا الحق، هو الحق الذي يقيم اليقين فى النفوس، لأنه حق خالص من كل شائبة.. أما غيره فقد يكون حقّا، ولكنه قد يتلبس به ما يحجبه عن الأبصار، فيثير حوله سحبا من ضباب الشك والارتياب.. أما هذا الحق، فهو حق صراح، ونور مبين..
لا يحجبه شىء.
وقوله تعالى «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» - هو كما قلنا- تعقيب على هذه الحكم، واستقبال لهذا الحق المشرق، الذي يملأ القلوب طمأنينة وأمنا- استقبال له، بتنزيه الله سبحانه والتسبيح بحمده، شكرا له على هذا الهدى الذي يهدى به من يشاء من عباده..
والمراد بالتسبيح باسم الله، تسبيح لذات الله، وحمد لذات الله، ولهذا إذا
743
سبّح المؤمن ربه قال: سبحان ربى العظيم، سبحان ربى الأعلى.. ولم يقل سبحان اسم ربى العظيم، أو سبحان اسم ربى الأعلى..
يقول ابن تيمية فى معنى: «فسبح باسم ربك العظيم» أي سبح ناطقا باسم ربك، متكلما به.
ويعلق ابن القيم على هذا الذي يقول به شيخه ابن تيمية: هذه فائدة تساوى «رحلة» !!.
وهذا هو قدر العلم، وتقدير العلماء له.. فرضى الله عن الأستاذ وعن التلميذ.
إنه من أجل هذه الكلمة التي تفيد علما، وتشع هدى، ليس بالقليل عليها أن تشد لها الرحال، وتقطع فى سبيل الوصول إليها الفيافي والقفار! ولكم احتمل سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، من أعباء الجهاد فى طلب العلم، فكان الواحد منهم يقطع ما بين الشرق والغرب- على قلة الزاد، وخشونة المركب، حيوانا، أو قدما- فى سبيل أن يلقى رجلا من أهل العلم بلغه عنه أنه يحفظ حديثا لرسول الله، أو قراءة لآية من آيات الله..
إنهم قدروا العلم قدره، وبذلوا له المهر الذي يستحقه..
وإنه على قدر المشقة كان الثواب والجزاء من الله سبحانه، فوقع هذا العلم من قلوبهم موقع الغيث من الأرض الطيبة، فأزهر، وأثمر، وأخرج من كل زوج بهيج..
744
٥٧- سورة الحديد
نزولها: مدنية..
عدد آياتها: تسع وعشرون آية..
عدد كلماتها: خمسمائة وأربع وأربعون.. كلمة..
عدد حروفها: ألفان وأربعمائة وستة وسبعون، حرفا..
مناسبتها لما قبلها
سورة «الواقعة» مكية وسورة «الحديد» هذه مدنية، ومع هذا فقد انتظمت السورتان فى سلك واحد، فكان ختام سورة «الواقعة» مصافحا لبدء سورة «الحديد» وكان بدء «الحديد» جوابا وتلبية لهذا الأمر الذي كان ختام سورة «الرحمن».
وتقرأ خاتمة «الواقعة» :«فسبح باسم ربك العظيم» ومفتتح «الحديد» «سبّح لله ما فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم» فترى الوجود كله فى سمواته وفى أرضه، فى محراب التسبيح لله، وفى موقف الولاء له، والقنوت لعزته وجلاله وحكمته..
وهذا التجاوب بين السورتين، شاهد من الشواهد الكثيرة، التي تشهد بأن ترتيب السور كما هى عليه فى المصحف، هو ترتيب توفيقى، كترتيب الآيات فى سورها، وأن ترتيب الآيات فى سورها كترتيب الكلمات فى آياتها، وأن ترتيب الكلمات فى آياتها كترتيب الحروف فى كلماتها.. ولا يكون القرآن قرآنا إلا بهذا الترتيب الآيات الذي هو عليه فى اللوح المحفوظ: «إنه لقرآن كريم..
فى كتاب مكنون.. لا يمسه إلا المطهرون.. تنزيل من رب العالمين..»
745
Icon