تفسير سورة الحشر

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الحشر
وتسمى سورة النضير، مدنية، أربع وعشرون آية، سبعمائة وخمس وأربعون كلمة، ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) نزلت هذه الآية إلى قوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في بني النضير، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدرا وظهر على المشركين قالوا: هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر، فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونكثوا العهد فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة وحالفوا أبا سفيان وأصحابه أربعين رجلا عند الكعبة على قتاله صلّى الله عليه وسلّم، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة الأنصاري بقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة، ثم صبحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكتائب، وهو على حمار مخطوم بليف
فقال لهم: «اخرجوا من المدينة». فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب
، فبعث إليهم خفية عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وقالوا: لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم، ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، فحصنوا الأزقة، فحاصرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، وللنبي ما بقي، فجعلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم بنو النضير من اليهود مِنْ دِيارِهِمْ أي مساكنهم بالمدينة لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي عند أول إخراج الجمع من مكان إلى مكان وهم أول من أخرجوا من جزيرة العرب إلى الشام لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا من ديارهم بهذا الذل لعزتهم وقوتهم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله، أي كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها
507
تمنعهم من رسول الله و «حصونهم» إما مبتدأ و «مانعتهم» خبر مقدم، والجملة خبر «أن» وإما فاعل لمانعتهم وهي خبر «أن». فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي فأتى أمر الله اليهود باذلا لهم من حيث لم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة. وقرئ «فآتاهم الله» بمد الهمزة، أي فأعطاهم الله الهلاك. وقيل: الضمير للمؤمنين، أي فآتاهم نصر الله من حيث لم يرجوا وهو إخراج بني النضير من قرية يقال لها: زهرة إلى الشام وكان بين زهرة والمدينة ميلان وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي أثبت في قلوبهم الخوف من محمد وأصحابه، وكانوا قبل ذلك لا يخافون يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي يهدمون بعض بيوتهم بأيديهم من داخل الحصون ليسدوا بالخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، ولينقلوا معهم بعض آلاتها مما يقبل النقل ويهدم المؤمنون بعض بيوت بني النضير من خارج توسيعا لمجال القتال، ونكاية لهم، ومنعا لتحصنهم بها. وقرأ أبو عمرو وحده «يخرجون» بفتح الخاء وتشديد الراء، وقال: الأخراب ترك الموضع خرابا، والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) أي فاتعظوا بحالهم ولا تعتمدوا على شيء غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على حصونهم، وعلى قوتهم وعلى المنافقين فليس للزاهد أن يعتمد على زهده فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد علمه. انظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار فلا ينبغي لأحد أن يعتمد إلا على فضل الله ورحمته، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي ولولا أن قضى الله على بني النضير الخروج عن أوطانهم على الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي كما فعل بإخوانهم بني قريظة من اليهود، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) وهذا استئناف غير متعلق بجواب لولا أي ولهم على كل حال سواء أجلوا أم لا عذاب النار في الآخرة، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي ذلك المذكور من العذابين بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله في الدين، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) أي ومن يخالف الله يعاقبه الله في الدنيا والآخرة، فإن الله شديد العقاب.
وقرئ «ومن يشاقق الله» كما في الأنفال. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل ببني النضير وقد تحصنوا بحصونهم أمر أصحابه بقطع نخيلهم وإحراقها. قال بنو النضير: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها، فكان في أنفس المؤمنين شيء من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا.
وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، فأنزل الله تعالى قوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي أيّ شيء قطعتم أيها المسلمون من نخلة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها كما كانت فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذاك القطع والترك بإباحة الله تعالى ليعز المؤمنين، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) أي إنما جوز الله ذلك القطع ليسر المؤمنين ويزداد غيظ الكفار اليهود ويتضاعف تلهفهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم
508
في أعز أموالهم. وقرئ «قوما» على أصلها. وقرئ أيضا «قائما» على أصوله ذهابا إلى لفظ ما، وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي ما رده الله لرسوله من يهود بني النضير، فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة دونكم فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، أي لأنكم ما أجريتهم إلى تحصيل ذلك خيلا ولا ركابا وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من أعدائهم، وقد سلط الله النبي صلّى الله عليه وسلّم على هؤلاء اليهود من غير أن تقاسوا أيها المسلمون شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) فيفعل ما يشاء، نزلت هذه الآية في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، وإنما كانوا في زهرة على ميلين من المدينة، فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله، وكان راكب جمل فلما كانت المقاتلة قليلة أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلا، فخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتلك الأموال، ثم روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قسّمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة، وأعطى سعيد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق.
ومعنى الآية: أن الصحابة طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم فذكر الله الفرق بينهما، وهو أن الغنيمة ما اتبعتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم الخيل والركاب والفيء ما ليس في تحصيله تعب، فكان الأمر فيه مفوضا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضعه حيث يشاء، ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى
كقريظة والنضير، وفدك وخيبر، وعرينة، وينبع والصفراء، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
قيل: يصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة والمساجد، ويصرف سهم رسول الله وفاته وهو أربعة أسهم إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار، وبناء القناطر يقدم الأهم فالأهم أو إلى المجاهدين المرصدين للقتال في الثغور، لأنهم قائمون مقام رسول الله في رباط الثغور، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي جعل الله الفيء لمن ذكر لأجل أن لا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء.
وقرأ هشام «تكون» بالتأنيث على خلاف عنه «دولة» بالرفع، أي كيلا يقع دور في يد الأغنياء. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بفتح الدال فقيل: الضم والفتح بمعنى. وقيل:
«الدولة» بالفتح من الملك بضم الميم، و «الدولة» بضم من الملك بكسر الميم، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فإنه واجب الطاعة، لأنه لا ينطق عن الهوى، وهذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر من الله تعالى، وإن كانت الآية خاصة في الفيء، فجميع أوامره صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه داخلة فيها وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) فيعاقب من يخالف أمره ونهيه لِلْفُقَراءِ بدل من لذي القربى، و «ما» عطف عليه كأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء، الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ حيث إن كفار مكة أحوجوهم إلى
509
الخروج منها وكانوا مائة رجل، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي فخرجوا منها طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بأنفسهم وأموالهم، فإن خروجهم من بين الكفار مهاجرين إلى المدينة نصرة، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) في دينهم، لأنهم هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين.
وعن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وأقسم لكم من الغنائم وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم وأقسم الغنيمة بين الفقراء المهاجرين خاصة دونكم» «١». فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ولا نشاركهم في الغنيمة فأثنى الله عليهم فقال:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي والذين هيئوا لدار الهجرة والإيمان وتمكنوا فيهما أشد تمكن من قبل مجيء المهاجرين إليهم، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لمحبتهم الإيمان، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي في قلوبهم حاجَةً أي حزازة وحسدا مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرين من الفيء وغيره دونهم، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، أي ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش، ولو كان فيهم فقر وحاجة إلى ما يقدمون به غيرهم، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم.
روي عن أبي هريرة أن رجلا بات به ضيف ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته نوّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي ومن يوق بتوفيق الله تعالى حرص نفسه على المال حتى يخالفها في حب المال وبغض الإنفاق، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) أي الظافرون بما أرادوا.
قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا أمر الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وقرئ «يوق» بالتشديد، وشح بكسر الشين وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هجرة المهاجرين ومن بعد قوة إيمان الأنصار، يَقُولُونَ أي يدعون لهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذنوبنا وَلِإِخْوانِنَا في الدين الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وهو جميع من تقدمهم من المسلمين لا خصوص المهاجرين والأنصار، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا.
وقرئ «غمرا». لِلَّذِينَ آمَنُوا أيا كانوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) فينبغي للمؤمن أن يذكر السابقين بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية،
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا وهم عبد الله بن أبيّ، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد فإنهم كانوا من الأنصار، ولكنهم نافقوا في دينهم يَقُولُونَ
(١) رواه القرطبي في التفسير وفيه: «إن شئتم قسمت للمهاجرين».
510
في السر لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ- وهم اليهود من بني قريظة والنضير، فهم مشتركون في الكفر وفي عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم- لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم أَبَداً، أي وإن طال الزمان. وقيل: لا نعين عليكم أحدا من أهل المدينة، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ من أي مقاتل كان لَنَنْصُرَنَّكُمْ على عدوكم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) في تلك المقالات الثلاثة المؤكدة بالأيمان الفاجرة، لَئِنْ أُخْرِجُوا أي اليهود من المدينة لا يَخْرُجُونَ أي المنافقون مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وكان الأمر كذلك، وفي هذا دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن حيث أخبر عما سيقع فوقع الأمر كما أخبر، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢)، أي ولئن خرج المنافقون لقصد نصر اليهود لينهز من المنافقون، ثم يهلكهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي أن خوف المنافقين واليهود في السر من المؤمنين أشد من خوفهم من الله الذي يظهرونه للمؤمنين، وكانوا يظهرون لهم خوفا شديدا من الله، والمعنى: أنهم لا يقدرون على مقابلتكم، لأنكم أشد مرهوبية في صدورهم، وهم يظهرون خوفهم من الله، ذلِكَ أي كون خوفهم من المخلوق أشد من خوفهم من الخالق، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) أي بسبب أنهم قوم لا يعلمون عظمة الله فيخشوه حق خشيته، لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، أي لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلتكم مجتمعين في موطن إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب، أو إلا إذا كان بينكم وبينهم حائط، وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب وأن نصرة الله معكم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» بكسر الجيم وفتح الدال بالإمالة في جدار كما هو قراءة أبي عمرو وبالصلة في بينهم بحيث يتولد منها واو كما هو قراءة ابن كثير والباقون «جدر» بضم الجيم والدال، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي قتالهم فيما بينهم شديد إذا قاتلوا قومهم تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تحسبهم في صورتهم مجتمعين على المحبة، متفقين على أمر واحد.
والحال أن قلوبهم مختلفة، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر وبينهم عداوة وشديدة، ذلِكَ أي تشتت قلوبهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) أن تشتيت قلوبهم مما يوهن قواهم إذ لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا في العقائد والمقاصد، كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي صفة بني قريظة في نقض العهد كصفة الذين من قبلهم بسنتين، وهم بنو النضير ذاقوا عقوبة أمرهم من نقض العهد، وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ، أي ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال وخذلانهم كمثل الأبيض مع برصيصا العابد، فالأبيض هو صاحب الأنبياء والأولياء، وهو الذي تصدّى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه
511
على وجه الوحي، فدفعه جبريل إلى أقصى أرض الهند، إِذْ قالَ أي الشيطان الذي يقال له:
الأبيض لِلْإِنْسانِ- أي العابد الذي يقال له برصيصا- اكْفُرْ بالله فَلَمَّا كَفَرَ بالله خذله وقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، أي ليس بيني وبينك محبة أصلا. وقرئ «أنا بريء منك».
روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال: كان راهب يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل،
فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال الأبيض لإبليس أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرة، ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة، فأقبل الأبيض يصلي في أصل صومعة برصيصا فلم يلتفت إليه برصيصا، أربعين يوما، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض في العبادة قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك، فأذن له، فارتفع إليه في صومعته، فأقام حولا يتعبد، فلا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك، فلما حال الحول، قال الأبيض لبرصيصا: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه، يشفي الله تعالى بها المريض، ويعافي بها المبتلى والمجنون. قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة وإني أخاف أن يشغلني الناس عن عبادة ربي، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه الدعوات، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: والله قد أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فجننه، ثم جاءه في صورة رجل مطبب فقال لأهله: إن لصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال: إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا به إليه، فسألوه الدعاء، فدعا له، فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو لهم، فيعافون، ثم تعرض الأبيض لبنت ملك من ملوك بني إسرائيل وكان لها ثلاثة أخوة، وكان ملك بني إسرائيل عمهم حينئذ، ثم جاء الأبيض إليهم في صورة رجل مطبب فقال: أفأعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تتركونها عنده إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتأخذونها منه صحيحة قالوا: ومن هو؟ قال: هو برصيصا فانطلقوا إليه، فسألوه ذلك، فأبى، فبنوا صومعة ألصقوها بصومعة برصيصا ووضعوا تلك البنت في صومعتها وقالوا: يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك، ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين تلك البنت وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه، فجاءها الشيطان، فخنقها، فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا، فجاءه الشيطان وقال: ويحك، واقعها، فلم تجد مثلها، وستتوب بعد ذلك، فلم يزل الشيطان به حتى واقعها، فلم يزل على ذلك حتى حملت البنت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا فهل لك أن تقتلها وتتوب، فقتلها، فدفنها ليلا جانب
512
الجبل، فجاء الشيطان وقتئذ، فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها الذين يتعهدونها، فلما لم يجدوها قالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا، فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك، إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وأنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال في نفسه: هذا حلم من عمل الشيطان، فتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث، ففعل الشيطان بأوسطهم مثل ذلك فقال مثل قول أكبرهم، ولم يخبر بذلك الحلم أحدا، ففعل بأصغرهم مثل ذلك فقال: لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط:
أنا والله رأيت مثل ذلك! وقال الأكبر: أنا والله رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له: ما فعلت بأختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا: والله لا نتهمك، واستحيوا منه، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم، إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب، فانطلقوا، فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فذهبوا إلى برصيصا ومعهم غلمانهم بالفوس والمساحي، فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها، وكتفوه، ثم أتوا به إلى الملك فأقر على نفسه، فأمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، فاستجيب لك، فلم يزل الأبيض يعيره قال برصيصا له: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه من العذاب، وأخرجك من مكانك. قال: وما هي؟ قال تسجد لي. قال: أفعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك، قد صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك. إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦). وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «إني» بفتح الياء. فَكانَ عاقِبَتَهُما أي الشيطان والراهب أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها و «عاقبتهما» بالنصب خبر «كان» مقدم. وقرئ شاذا بالرفع. وقرأ ابن مسعود «خالدان فيها» على أنه خبر «أن» و «في النار» لغو. وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) أي المشركين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ برة أو فاجرة ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ، أي ما تريد أن تحصله ليوم القيامة فتفعله، وَاتَّقُوا اللَّهَ بأداء الواجبات وترك المعاصي، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) من الخير والشر، فلا تعملون عملا إلا كان بمرأى منه تعالى، ومسمع، فاستحيوا منه تعالى، وَلا تَكُونُوا يا معشر المؤمنين كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حق الله كالمنافقين واليهود، فإن المنافقين تركوا طاعة الله في السر، واليهود تركوا طاعة الله في السر والعلانية، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي فجعلهم الله ناسين حق أنفسهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ما ينفعهم عنده تعالى، أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) أي الكاملون في الفسوق، أي الخروج عن دائرة الطاعة، لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا الله تعالى وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ
513
الذين اتقوا الله تعالى، لا في الدنيا ولا في الآخرة بوجه من الوجوه- واحتج بهذه الآية أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي- أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) بكل مطلوب، الناجون عن كل مكروه.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي لو جعلنا في الجبل على قساوته عقلا كما جعلنا العقل فيكم، ثم أنزلنا عليه هذا القرآن المنطوي على فنون القوارع لخشع وتشقق خشية من الله وخوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن وأنتم أيها المعترفون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي نبينها لهم في القرآن لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)، أي لكي يتأملوا مواعظ القرآن فإنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ولرأيتها ذليلة متشققة من خشية الله. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي عالم ما غاب عن العباد، وما شاهدوه.
وقال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: عالم ما غاب عن الوجود وهو المعدوم وعالم الموجود، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) أي هو العاطف على العباد، البر والفاجر بالرزق لهم، المنعم- على المؤمنين خاصة- بالمغفرة ودخول الجنة. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود بحق إلا هو وحده، الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر في جميع خلقه، الْقُدُّوسُ أي البليغ في النزاهة في الذات، والصفات، والأفعال، والأحكام، والأسماء.
قال الحسن: أي الذي كثرت بركاته. السَّلامُ أي الذي لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل، الْمُؤْمِنُ أي واهب الأمن، الْمُهَيْمِنُ أي الحافظ لكل شيء، الْعَزِيزُ أي الذي لا يوجد له نظير، أو الغالب الْجَبَّارُ أي الملك العظيم- كما قاله ابن عباس- أو مصلح أحوال العباد، أو الذي يقهرهم على ما أراد، الْمُتَكَبِّرُ بربوبيته- كما قاله ابن عباس- أو المتعظم عن كل سوء- كما قاله قتادة- أو الذي تعظم عن ظلم العباد سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣)، أي تنزيها له تعالى عما يشركون به. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدر لما يوجده، فيرجع إلى تعلق الإرادة التنجيزي القديم، الْبارِئُ أي المبرز للأعيان من العدم إلى الوجود، فيرجع لتأثير القدرة الحادث في خصوص الأعيان، الْمُصَوِّرُ أي مصور الأشياء على هيئات مختلفة مما يريد تعالى، فالتصوير آخر، والتقدير أولا، والبرء بينهما.
وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بفتح الواو وبالنصب مفعول ل «البارئ». لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي له تعالى الأسماء الدالة على معاني الصفات الحسنة، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ينطق ما فيهما بتنزهه تعالى عن جميع النقائص تنزها ظاهرا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤) الجامع للكمالات كافة، فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.
Icon